November 2014

الفصل الرابع

في الطريق الذي عمله يسوع المسيح لخلاص كل الناس

وادي الفراعنة، مصر
وادي الفراعنة، مصر

والآن بالاتكال على هداية وبركة القدير نتقدم لشرح كيفية الخلاص الذي صنعه الرب يسوع لبني البشر وذلك بناءً على ما ورد في أسفار العهد القديم والعهد الجديد، مع العلم بأن كثيراً من طرق الله العجيبة تخفى عن عقولنا المحدودة، حيث أننا لا نقدر أن نعلم شيئاً من المقاصد الإلهية إلا ما شاء أن يعلنه لنا، وبما أنه منحنا عقولاً للفحص والتحري فيجب أن نستعملها في ما يعود بالمجد لذاته العلية، وإذ أنعم علينا بإعلان طريق الخلاص فيسره أن نتأمل في إعلانه باحترام حتى نفهم ما استطعنا فهمه بحسب عقولنا القاصرة (تسالونيكي الأولى ٥:‏٢١) ولا يتوقف خلاصنا على مقدار ذكائنا بل على حقيقة إيماننا بمخلص العالم.

إن الله من فيض محبته وكثرة رحمته تعطف علينا فأعد خلاصاً للخطاة بواسطة ربنا يسوع المسيح، كما هو واضح في أسفار العهد الجديد. ومن أمثلة ذلك ما ورد في (لوقا ١٩:‏١٠ ويوحنا ٣:‏١٦ وكورنثوس الثانية ٥:‏١٩ و٢١  وتيموثاوس الأولى ١:‏١٥ وبطرس الأولى ٢:‏٢١-٢٤ ويوحنا الأولى ٢:‏١٢ و٤:‏٩ و١٠). أما كون الخلاص قد تهيأ بهذه الكيفية فهو حقيقة راهنة. ويلزمنا الآن أن نجتهد لنفهم طريقة الوصول إلى الخلاص بالمسيح، وكيف صحَّ أن تُسند إليه تلك الألقاب العالية في هذه الآيات وغيرها، مما يؤكد لنا سمو طبيعته، وتوافر الشروط المذكورة في خاتمة الفصل الثالث.

وتخبرنا الكتب المقدسة أن الله في محبته الغير المحدودة ورحمته الغير المتناهية قصد منذ الأزل أن يصنع هذا الخلاص (أفسس ٣:‏٢ وبطرس الأولى ١:‏١٨-٢١ ورؤيا يوحنا ١٣:‏٨) فأنبأ على ألسنة أنبيائه في العهد القديم مبيّناً السبط والبيت الذي يخرج منه المخلّص، وزمان ظهوره، والكيفية التي يباشر بها خدمته بين الناس، كما أنه أنبأ برتبته وطبيعته وجميع متعلقات عمله الفدائي العظيم، حتى أنه منذ العصور الأولى (أي من قبل ظهوره بمئات السنين) عرف بعضهم هذه المواعيد المباركة وآمنوا بها وانتظروا بفرح وأشتياق ذلك المخلّص العظيم، ومنهم آدم أبو الجنس البشري فإنه علم من الله بقدوم المخلص وأنه سيكون قديراً بحيث يستطيع أن يسحق رأس الحية، بمعنى أنه يستطيع أن يظفر بإبليس ويعتق  الإنسان  من  نير  عبوديته  ومن  الخطية (تكوين ٣:‏١٤ و١٥). وقد رأينا في الفصول الماضية أن الله وعد إبراهيم أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض (تكوين ٢٢:‏١٨) وتشهد أسفار العهد الجديد أن ذلك النسل إنما هو المسيح (غلاطية ٣:‏١٦). ثم أنبأ على لسان موسى أن ذلك المخلّص يكون نبياً عظيماً يقوم من وسط إسرائيل (تكوين ١٧:‏١٩ و٢١ و٢٨:‏١٤) وأنه يعلّم الشعب طريق الله وإرادته (تثنية ١٨:‏١٥ و١٨ و١٩). وأما كون هذا النبي العظيم هو المسيح فقد صار أمراً معلوماً بشهادة ذلك الصوت الصادر من السماء يأمر الناس بالاستماع إليه (متى ١٧:‏٥ ومرقس ٩:‏٧) وهذا على وفق قول الله لموسى إن الإنسان الذي لا يسمع لما يتكلم به ذلك النبي فهو تحت طائلة قصاص صارم.

ثم جاء داود وتنبأ عن هذا المخلّص، وأنه سيأتي من ذريته ويدوم مُلكه إلى ما لا نهاية (صموئيل الثانية ٧:‏١٦ ومزمور ٨٩:‏٣ و٤ و٢٧ و٢٨ و٢٩ و٣٥ و٣٦ و٣٧ وأشعياء ٩:‏٦ و٧ و١١:‏١ وإرميا ٢٣:‏٥ و٦ و٣٣:‏١٥ و١٦ و١٧ و٢٠ و٢١ و٢٥ و٢٦ قارن بما ورد في يوحنا ١٢:‏ ٣٤).

وجاء في تكوين ٤٩:‏١٠ أن المملكة لا تزول من سبط يهوذا حتى يأتي شيلون وهذا الاسم من ألقاب المسيح.

وُلد يسوع من نسل داود (متى ١:‏١ وأعمال الرسل ٢:‏٣٠ و١٣:‏٢٢ و٢٣ ورومية ١:‏٣) قبل التاريخ المسيحي المعروف بنحو أربع سنوات. ويجب الأشارة هنا إلى أن المؤرخين أخطأوا في تعيين الوقت الذي وُلد فيه المسيح بالضبط، إذ أخذوا ذلك عن راهب يُدعى ديونسيوس الصغير كان معاصراً للملك جوستينيان، وهذ الراهب أخَّر سهواً تاريخ ميلاد المسيح بضع سنوات غير أنه لا بأس من أن نعتمد على هذا التاريخ المتداول، فنقول إن هيرودس الملك العظيم مات قبل تاريخ المسيح بأربع سنوات، وكان يسوع حينئذ لا يتجاوز عمره السنتين كما يظهر من مراجعة بشارة متى ٢:‏١٣. وعند ذلك انقسمت مملكة اليهود أربعة أقسام، ملك على أحدها المعروف باليهودية أرخيلاوس بن هيرودس، وفي السنة السادسة للميلاد خلعته الحكومة الرومانية ونفته من البلاد، وأصبحت اليهودية ولاية رومانية بعد أن كانت مملكة مستقلة وإن كانت خاضعة للرومان، ومنذ ذلك الوقت إلى العصر الحاضر لم يكن لليهود ملك خاص، وكان ذلك إتماماً لنبوة يعقوب بزوال قضيب الملك من يهوذا وأن اليهود أنفسهم أول المعترفين بذلك، لأنهم كانوا يصرخون عند صليب المسيح قائلين: "لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلا قَيْصَرُ" (يوحنا ١٩:‏١٥) وهذا دليل صريح على إتيان المسيح في ذلك الزمن.

ثم أن المكان الذي كان ينبغي أن يولد فيه المسيح سبق الإنباء به على  لسان  النبي  ميخا (ميخا ٥:‏٢). وتشير هذه النبوة إلى سمو مقام المسيح عن بني البشر، إذ قيل عنه "ومَخَارِجُهُ مُنْذُ القَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ" وقد ولد المسيح حيث أنبأ هذا النبي (متى ٢:‏١ و٥ و٦). وأما أنه يولد من عذارء فقد دلّ عليه (تكوين ٣:‏١٥) زاده دلالة (أشعياء ٧:‏١٤) وتم بالفعل كما في متى ١:‏١٨-٢٥ ولو ١:‏٢٦-٣٨ وصادق عليه القرآن كما في سورة الأنبياء آية ٩١ وسورة التحريم ١٢. ومن جهة تعليمه واتضاعه وآلامه وموته وأيضاً الكفارة التي كان قاصداً أن يقدمها لفداء بني البشر كل ذلك سبق التخبير به قبل زمنه على ألسنة الأنبياء. ونخص بالذكر منهم أشعياء النبي كما نرى في أش ٤٢:‏١-٩ و٦١:‏١-٣ (قارن ذلك مع لوقا ٤:‏١٧-٢١ وأشعياء ٥٢:‏١٣-١٥ و٣٥ ومزمور ٢٢). وكذلك الوقت الذي كان مزمعاً أن يموت فيه تنبأ عند دانيال النبي وبيَّنه بوضوح في دانيال ٩:‏٢٤-٢٦. فإنه بحسب من وقت خروج أمر أرتحشستا ملك الفرس بتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً، وصدر ذلك الأمر في السنة السابعة من حكم أرتحشستا (عزرا ٧:‏١-٧) أي سنة ٤٥٨ ق، م، فإن حسبنا تلك الأسابيع والأيام والسنين، وأضفنا إليها الأسبوع الأخير الذي قيل إن المسيح يُقطع فيه، وجدنا إتماماً لنبوة دانيال تلك المدة ٤٩٠ سنة وهي توافق سنة ٣٢ م.

وقد مات المسيح في حوالي ذلك الوقت، وعلى الأرجح سنة ٢٩ أو ٣٠ م والخراب المنذر به أن يلحق مدينة أورشليم وهيكلها (دانيال ٩:‏٢٥ و٢٦ و٢٧) وقع عليها بعد موت المسيح بنحو أربعين سنة أي سنة ٧٠ م حيث هدمها تيطس القائد الروماني كما هو مدَّون في تاريخ يوسيفوس وغيره  من  المؤرخين  الذين  أصبحت  أخبارهم  مصدِّقة  لما  أُنبأ  به  المسيح (متى ٢٤:‏٢١-٢٨ ومرقس ١٣:‏١-٢٣ ولوقا ٢١:‏٥-٢٤) والضيقة التي كابدها اليهود في تلك الأيام (مرقس ١٣:‏٢٤) لا زالوا يكابدونها اليوم، فإنهم متفرقون على وجه الأرض يذوقون أصناف العذاب والمسلمون أنفسهم يشهدون ما يحلّ بهم من النكبات ليس في بلادهم فقط بل وفي غيرها ولم تتم  بعد أزمنة الأمم منذ استيلائهم على أورشليم إلى الآن (لوقا ٢١:‏٢٤) إذ هم يمتلكون إلى الآن أورشليم.

وفي أسفار الأنبياء شيء كثير من النبوات عن هذه الأمور مثل قيامة المسيح، وصعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين الله، ومن أمثلة ذلك ما ورد في (مزمور ١٦:‏١٠) بالمقارنة مع ما ورد  في  أعمال الرسل ٢:‏٢٢-٣٦  ومزمور ١١٠:‏١  ودانيال ٧:‏١٣ و١٤، وتنبأ دانيال أيضاً بأن مملكة المسيح ستتأسس في أيام سيادة المملكة الرابعة أي المملكة الرومانية (دانيال ٧:‏٢٣) كما زالت المملكة الرومانية وتمت فيها نبوة دانيال (انظر دانيال ٢:‏٣٤ و٣٥ و٤٤ و٤٥ و٧:‏٧ و٩ و١٣ و١٤ و٢٣ و٢٧). أما الممالك الأربع المشار إليها فهي مملكة بابل والفرس واليونان والرومان (دانيال ٢:‏٣٧-٤٥ و٨:‏٢٠ و٢١).

ولما بلغ المسيح ثلاثين سنة من عمره (لوقا ٣:‏٢٣) أخذ يكرز بالبشارة كما هو مذكور في الإنجيل، وجال يصنع خيراً، فعمل معجزات باهرة: شفى مرضى وأخرج شياطين ووهب البصر للعميان والسمع للصم، طهر البرص وجعل العرج يمشون. وجاء ذلك موافقاً لما تنبأت به عنه أنبياء العهد القديم (أشعياء ٣٢:‏١-٥ و٣٥:‏٣-٦ و٤٢:‏١-٧ و٦١:‏١ و٢ بالمقارنة مع بشارة متى ١١:‏٤ و٥ و١٢:‏١٧-٢١ و٢١:‏١٤)، (انظر سورة آل عمران ٣:‏٤٣). ومع أنه كان له هذا السلطان العظيم الذي به فعل المعجزات الباهرة لم يعمل معجزة واحدة لفائدته الشخصية، ولا انتقم من أعدائه بل عأش فقيراً متواضعاً (بشارة متى ٨:‏٢٠) ولم يسع في طلب المجد والشرف الزائل. ولما أراد الشعب أن يُتوِّجوه ملكاً عليهم (يوحنا ٦:‏١٥) لم يقبل منهم ذلك. وبالجملة كانت أعماله بلا لوم وبدت حياته المقدسة تظهر لكل ذي عينين، إلى أن قال مرة لمقاوميه: "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟" (يوحنا ٨:‏٤٦) وكل ما قاله عنه الأنبياء القدماء من حيث مجيئه الأول وحياته قد تمَّ.

واختار المسيح من بين اليهود اثني عشر رسولاً هم الذين دربهم وعلّمهم الحق وأوصاهم أن يعلّموا الآخرين. والأساس الذي بني عليه تعليمه هو أنه ابن الله، وقال ما معناه إن تلك البنوة هي بمثابة الصخرة التي سيبني عليها كنيسته (متى ١٦:‏١٣-١٨). ولما عرف الرسل أنه ابن الله وأنه المسيح المنتظر أخذ يعلّمهم درساً آخر عظيم الأهمية، أنه ينبغي له أن يُصلب ويقوم من بين الأموات لخلاص البشر (متى ١٦:‏٢١ ومرقس ٨:‏٣١ ولوقا ٩:‏٢٢). وكلّما دنت ساعة آلامه زادهم إيضاحاً بإنبائهم عن موته والكيفية التي يموت بها (لوقا ١٨:‏٣١-٣٤). وقال لهم مرة إنه سيحتمل تلك الآلام ليس مرغماً بل بإرادته حباً في بني البشر حتى يمنحهم حياة أبدية (يوحنا ٦:‏٥١ و١٠:‏١١-١٨) إن قبلوا هبة الله (رومية ٦:‏٢٣). أي أن المسيح من أجل محبته الفائقة لبني آدم ورغبته في خلاصهم من خطاياهم سمح لليهود أن يقبضوا عليه ويسخروا به ويلكموه ويسلّموه ليد الحاكم الروماني بيلاطس والي اليهودية للجَلْد والصَّلْب (بشارة متى ٢٦:‏٤٧-٢٧:‏٥٦ ومرقس ١٤:‏٤٣-١٥:‏١-٤١ ولوقا ٢٢:‏٤٧، ٢٣:‏٤٩ ويوحنا ١٨:‏ ١-١٩:‏٣٧). ويوافق ذلك ما تنبأ به داود في مزمور ٢٢ وأشعياء ٥٢:‏١٣-٥٣:‏١٢ منذ مئات السنين.

وحكم بيلاطس على المسيح بالموت كمجرم مع أنه شهد له أنه بار (متى ٢٧:‏٢٤) وجرت العادة عند اليهود في ذلك الزمان أن يطرحوا جثث القتلى المجرمين في موضع يُدعى وادي ابن هنوم خارج أسوار أورشليم للحريق أو طعاماً للوحوش، إلا أنهم لما صلبوا المسيح أخذ جسده تلميذ مُتخفٍّ يُدعى يوسف من الرامة، رجل غني بموجب إذن من الوالي، ودفنه في قبره الجديد الذي كان أعدَّه لنفسه (متى ٢٧:‏٥٧-٦١ ومرقس ١٥:‏٤٢-٤٧ ولوقا ٢٣:‏ ٥٠ - ٥٦ ويوحنا ١٩:‏٣٧-٤٢) وكان ذلك على وفق نبوة أشعياء (أشعياء ٥٣:‏٩) حيث يصرح بأنه وإن يكن اليهود قصدوا أن يدفنوه مع الأشرار لأنهم أحصوه من جملتهم، غير أنه عند موته دفنه ذلك الرجل الغني في قبر على حدته، وعلى ذلك قوله "وَجُعِلَ مَعَ الأشرَارِ قَبْرُهُ،  وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" (أشعياء ٥٣:‏٩).

وتنبأ المسيح عن نفسه أنه يقوم من الموت في اليوم الثالث (متى ١٦:‏٢١ و١٧:‏٢٣ و٢٠:‏١٩ ولوقا ٩:‏٢٢ و١٨:‏٣٣ و٢٤:‏ ٧ و ٤٦ ) وقد  كان  كما  قال (متى ٢٨:‏١-١٠ ومرقس ١٦:‏١-٨ ولوقا ٢٤:‏١-٤٣ ويوحنا ٢٠ وكورنثوس الأولى ١٥:‏٤) وهذا يوافق نبوة داود في مزمور ١٦:‏٩ و١٠، وظهر بعد قيامته مراراً كثيرة لتلاميذه مدة أربعين يوماً (أعمال الرسل ١:‏٣) وعلّمهم أن جميع ما حدث له لم يحدث صدفة بل حسب مقاصد الله الأزلية التي أعلنها لأنبيائه القديسين منذ الدهر، وعلَّمهم ما الغرض من آلامه وموته وقيامته (لوقا ٢٤:‏٢٧ و٤٤-٤٩) ثم فوض إليهم أن يتلمذوا له جميع الأمم (متى ٢٨:‏١٨-٢٠ وأعمال الرسل ١:‏٨).

وبعد هذا صعد إلى السماء بمرأى منهم لوقا ٢٤:‏٥٠ و٥١ وأعمال الرسل ١:‏٩ متقلداً الملك إلى ما لا نهاية كما أنبأ دانيال (٧:‏١٣ و١٤ و٢٧) وليملأ الأرض من  معرفة  الرب  كما  كتب  أشعياء (١١:‏١-٩) وقد ترك لهم وعداً برجوعه منتصراً (انظر متى ٢٤:‏٣٠ و٣١ و٢٥:‏١٣- ٤٦ ومرقس ١٣:‏٢٦ ولوقا ٢١:‏٢٧ ويوحنا ١٤:‏١-٣ وأعمال الرسل ١:‏٢ و١١ ورؤيا يوحنا ١:‏٧ و٢٠:‏١١-٢١:‏٨).

وحيث أنه قد تم في شخص المسيح جميع ما أنبأت به الأنبياء من قديم الزمان من جهة مجيئه الأول وعمله وموته كفارة عن خطايا العالم إلى غير ذلك، فيكون بالحقيقة مخلص العالم الذي علَّق عليه إبراهيم رجاءه (يوحنا ٨:‏٥٦) وشهد له جميع الأنبياء، وإتمام هذه النبوات برهان قاطع على أن أسفار العهد القديم موحى بها من الله. لأنه من ذا الذي يعلم بالحوادث قبل وقوعها بمئات السنين إلا علام الغيوب؟ ولا تدع الشك يخالج صدرك وتقول ربما وفَّقت النصارى بين نبوات التوراة وأخبار إتمامها في الإنجيل، فهذا مستحيل لأن أسفار التوراة محفوظة بأيدي اليهود وبلغتهم إلى اليوم كما هي عند النصارى، واعلم أن اليهود، ولو أنهم رفضوا المسيح، لم يتجاسروا أن يمسّوا جملة أو كلمة واحدة من تلك النبوات العديدة المشيرة إليه التي تدينهم في اليوم الأخير على قساوتهم وعدم إيمانهم.

ومما تقدم علمنا أن طبيعة المسيح وعظمته ظاهرة بوضوح حتى في أسفار العهد القديم (انظر مزمور ٢:‏٧ ومزمور ٤٥:‏٦ ومزمور ٧٢ ومزمور ١١٠:‏١ وأشعياء ٦:‏١-١٠ مع يوحنا ١٢:‏٤٠ و٤١ وأشعياء ٩:‏٦ و٧ والإصحاح ٢٥:‏٧-٩ والإصحاح ٤٠:‏١٠ و١١ وإرميا ٣٣:‏١٦ وميخا ٥:‏٢ وملاخي ٣:‏١ والإصحاح ٤:‏٢ .. الخ). وبناء على ما جاء في سفر ميخا وهو قوله "مَخَارِجُهُ مُنْذُ القَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ" (ميخا ٥:‏٢) يكون حقاً ما قاله المسيح عن نفسه  "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ" (يوحنا    ٨:‏٥٨) ولاحظ هنا أنه أسند إلى نفسه هذه الصفة كائن وهي  من  أخص  وأشهر  أسماء  الله  (خروج ٣:‏١٤) ومن هنا نعلم أنه هو بنفسه الذي دعا إبراهيم من بابل وأنزل التوراة على موسى وبعث الأنبياء والرسل. وعليه فلا تحسب أن الإنجيل يرفع مقام المسيح أكثر مما ترفعه التوراة، بل كلا العهدين يتفقان على عظمة ذاته وسمو صفاته. راجع هذه  الشواهد  (متى ٣:‏١٦ و١٧ و١٦:‏١٥-١٧ و١٧:‏١-٨ و٢٦:‏٦٣ و٦٤ و٢٨:‏١٨ ولوقا ١:‏٣٢ و٣٥ ويوحنا ١:‏١-٣ و٩-١٨ و٥:‏١٧-٢٩ و٨:‏٢٣-٢٩ و٤٢ و٥٦-٥٨ و٩:‏٣٥-٣٧ و١٠:‏٢٧-٣٨ و١٤:‏٩-١١ و١٦:‏١٢-١٥ و٢٨ و١٧:‏٥ و٢١ وكولوسي ١:‏١٢-٢٣ وفيلبي ٢:‏٥-١١ وعبرانيين ١ ورؤيا يوحنا ١:‏٥-١٨ و٢١:‏٦-٨ و٢٢:‏١٣ و١٦).

فإذا رفض إخواننا المسلمون دعوتنا إياهم أن يقبلوا المسيح مخلّصاً لهم (يوحنا ٥:‏٤٠) يكون من الأسباب الداعية لهم إلى الرفض عدم تصديقهم ذات كلامه الذي قاله عن نفسه، والذي قاله عنه الأنبياء السالفون.

ثم يجب أن لا ننسى أنه من المحال أن يخلّص المسيح العالم من الخطية ومن بغضهم لله لو كان مجرد خليقة من مخلوقات الله، ولو كان رئيس الملائكة، لأن الخلاص يتوقف على الثقة الكاملة فيه، وقد استحق هو هذه الثقة بما أعلنه عن حقيقة شخصه وبشهادة أسفار العهد القديم والجديد له.

فليس الاعتقاد بلاهوت المسيح إذاً فساداً لحق النصرانية، بل هو جوهر الدين الحق، لأنه لو فرضنا أن المسيح بسموه كان مخلوقاً لا يمكن أن يتخذ صلاحه وآلامه من أجلنا دليلاً على محبة الله لنا، بل بعكس ذلك تخالجنا الشكوك في محبة الله العظيم ونعمته لأنه أسلم أفضل مخلوقاته وأكرمها ليقاسي آلاماً وأحزاناً مثل هذه. ولكن إن قبلنا تعليم الكتاب المقدس واعترفنا "أن اللّه كَانَ فِي المَسِيحِ مُصَالِحاً العَالَمَ لِنَفْسِهِ" (كورنثوس الثانية ٥:‏١٩) واقتنعنا أنه هو والله واحد (يوحنا ١٠:‏٣٠)، حينئذ يتيسر لنا أن نفهم إلى حد ما حقيقة تعليم الثالوث ومحبة الله العظيم لنا واعتنائه بنا ١. فحينئذ نرى أن البشارة وجوهر الكتاب المقدس كله متضمن في هذه الآية "لأنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ"(يوحنا ٣:‏ ١٦ ) التي تحتج إلى قلوبنا وضمائرنا احتجاجاً لا يُقاوم، فتجذبنا إلى محبته وتخصيص ذواتنا لخدمته لأنه أحبنا أولاً (يوحنا الأولى ٤:‏٩).

غير أن تسمية المسيح في هاتين الآيتين بابن الله كان حجر عثرة في طريق كثير من المسلمين، فانصرفت قلوبهم عن النظر إلى محبة الله المعلنة فيهما، لأنهم ظنوا أن هذه التسمية مخالفة على خط مستقيم لما ورد عندهم في القرآن في سورة الإخلاص. والحقيقة هي أنهم أساءوا فهم ما عناه الإنجيل بهذه التسمية، فإننا نحن المسيحيين ننكر بملء أفواهنا أن الله اتخذ ولداً بالمعنى الذي أنكره القرآن، فهو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ومَن من النصارى يتجاسر أن يجدف على الله بهذا المقدار حتى ينسب إليه تعالى التناسل الحيواني كما زعم الوثنيون والجُهال من العرب الذي جعلوا لله بنات، تعالى الله عن زعمهم! ومع ذلك قد تسمى المسيح في الإنجيل ابن الله لا ولده، والفرق بين الابن والولد ظاهر، لأن كلمة ابن كثيراً ما تُستعار لمعنى مجازي، وأما كلمة ولد فلم تُستعمل إلا بحسب وضعها.

وقد أنكر الكتبة المسيحيون الذين كانوا قبل الهجرة بمئات السنين كل الإنكار قول الوثنيين المذكور، وبيَّنوا المعنى الحقيقي المتضمن في كون المسيح ابن الله. فإن كاتباً من أوائل القرن الرابع (أي قبل الهجرة بأكثر من ثلاثمائة سنة) اسمه لاكتنتوس قال: إن سمع أحد تعبير "ابن الله" فلا يخطر على باله هذا التصوّر المتناهي في الفظاعة، أي أن الله أنتج ولداً بزواجه واتحاده بأنثى، فإن فعلاً كهذا لا ينطبق إلا على ذوي الأجساد الحيوانية، ولكن الله روح غير محدود، وهو واحد، فبمن يتحد؟ فهذه البنوة خاصة لا عامة أزلية، لا حادثة تدل على وحدة الجوهر بين الآب والابن.

على أن المسيح لم يتسمَّ بابن الله فقط، بل تسمى بكلمة الله أيضاً كما في يوحنا ١:‏١ و١٤ ورؤيا يوحنا ١٩:‏١٣ (قارن لقب كلمة الحياة، يوحنا الأولى ١:‏١)، والاسمان كلاهما يؤديان ذات المعنى، إلا أن الاسم الأول استعمل أكثر لسببين (١) لإفادة البسطاء، وهم الأكثر الذين لا يقدرون أن يفهموا الاسم الثاني كلمة الحياة. (٢) لتنبيه إفهامنا إلى شخصية أو أقنوم ذلك الكائن المسمى بابن الله، وإلى المحبة العظيمة بين أقانيم اللاهوت (قارن يوحنا ١٥:‏٩ و١٠ مع ١٧:‏٢٣ و٢٦).

ومع ذلك كله فإنه لا الاسم الأول ولا الثاني كافٍ لإيقافنا على كنه مُسمَّاها باللغة كلها عاجزة عن التعبير عن ذات ذلك الكائن العجيب. إلا أننا لسنا مخطئين إذا استعملنا للدلالة عليه هذين الاسمين اللذين دوَّنهما الكتبة الأطهار بإلهام روح الله القدوس، لأن العلاقة بين أقنوم وآخر من اللاهوت فوق عقولنا، كما أن البحر العظيم لا يمكن أن ينحصر في إناء، ولكن قليل من مائه يطلعنا على طبيعته. ومثل ذلك تسمية المسيح "بابن الله" و "كلمة الله" نستدل منها على طبيعته الإلهية ووحدانيته مع الآب (يوحنا ١٠:‏٣٠).

وعليه فبالإيمان فقط بما قاله المسيح في هذا الصدد نقدر أن نفهم تعليم الكفارة وطريق الخلاص بالمسيح الذي قال "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلا بِي" (يوحنا ١٤:‏٦ بالمقارنة مع أعمال الرسل ٤:‏١٢).

ثم أن العهدين القديم والجديد لا يتفقان كلاهما على وصف المسيح بالأوصاف الإلهية فقط،، بل يتجاوزان ذلك الحد حتى أنهما يدلان على لاهوته بالقول الجلي الصريح فيسميانه الله ومن أمثلة ذلك ما ورد في (مزمور ٤٥:‏٦ و٧ وأشعياء ٩:‏٦ ويوحنا ٢٠:‏٢٨ و٢٩ ورومية ٩:‏٥ وعبرانيين ١:‏٨ ويوحنا الأولى ٥:‏٢٠).

من يقارن في هذه الآيات وأمثالها باهتمام مشفوع بالصلاة يدرك أن تلك الألقاب الرفيعة العظيمة نسبت إلى المسيح لا عن سبيل المبالغة ولا المجاملة، بل لإظهار حقيقة جوهرية ينبغي لبني البشر معرفتها، ولا يُخفى على المسلم المطلع أن القرآن أيضاً قد يتفق مع التوراة والإنجيل في تسمية المسيح "كلمة الله." سنستفيض في شرح الثالوث الأقدس في الفصل التالي.

وهنا نرجو القارئ الكريم أن يطرح التعصب الذي يُعمي عن معرفة الحق فلماذا لا يصدق المسلم شهادة التوراة والإنجيل والقرآن وكلها تتفق على نقط هامة، ومن بينها موضوعنا أن المسيح "كلمة الله" وأن الله واحد؟

إن "كلمة الله" اسم لمسمى أو علم لأقنوم إلهي كان من البدء أي من الأزل عند الله، وبه خُلق كل شيء (يوحنا ١:‏١-٣) وقد صار إنساناً وظهر بين الناس كواحد منهم (يوحنا ١:‏١٤ وفيلبي ٢:‏٥-١١)  وكان يأكل ويشرب وينام ويستيقظ، وشاطر الناس في أحزانهم وأفراحهم واختبر تجاربهم، لكنه لم يخطئ بل لم يعرف خطية (عبرانيين ٤:‏١٥ قارن مع ٧:‏٢٦ وبطرس الأولى ٢:‏٢١-٢٥). فهو إنسان تام ذو جسد ونفس وروح، وذلك بإجماع البشائر الأربع، وبشهادته هو عن نفسه مراراً كثيرة أنه "ابن الإنسان"، وهذا اللقب عدا دلالته على ناسوته يذكّرنا بالنبوات عنه في (تكوين ٣:‏١٥ ودانيال ٧:‏١٣) وفوق ذلك يذكّرنا أنه مخلّص البشر، والوسيط الوحيد بين الله والناس، والإنسان الكامل المعصوم من الخطية.

كإنسان صلى إلى الله أبيه وصام إلى غير ذلك، مما لا يدع مجالاً للريب في ناسوته، لكنه كما هو إنسان تام هو إله تام أيضاً، وأكد لاهوته إذ دعا الله أباه مخبراً بانقياده له كابن ينقاد لأبيه وأنه مرسل منه كابن مرسل من أبيه قال "لأنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الذِي أَرْسَلَنِي" (يوحنا ٦:‏٣٨) وقال "الآبَ الذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ" (يوحنا ١٢:‏٤٩) وقال "أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي" (يوحنا ١٤:‏٢٨) ومع ذلك دفع ما عساه يخطر على بال أحد من أن لله شركاء بأقوال قاطعة جازمة تفيد وحدانية الله (مرقس ١٢:‏٢٩ ويوحنا ١٧:‏٣) ووحدانيته هو مع الله (يوحنا ١٠:‏٣٠ و١٧:‏٢١).

هذا المدعو "كلمة الله" و "ابن الله" و "ابن الإنسان" و "الرب يسوع المسيح" قيل عنه في التوراة "لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اللّهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أشعياء ٥٣:‏٤ و٥) وإن كان بالطبيعة "كلمة الله" غير أنه لم يبال بسمو طبيعته الإلهية، فتخلّى عن مجده الأسنى الذي كان له عند أبيه قبل كون العالم (يوحنا ١٧:‏٥) "آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللّهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللّهِ الآبِ" (فيلبي ٢:‏٧-١١).

وإن سأل سائل: كيف يمكن أن تتحد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية؟ نقول: "كيف يمكن أن تتحد في الإنسان الروح بالجسد والباقي بالفاني. فمهما يريده الله كلي القدرة الخالق العظيم الضابط الكل يكون." ويعلمنا الإنجيل أن العلاقة بين ناسوت المسيح ولاهوته علاقة الاتحاد فقط بحيث لم تتحول الطبيعة الواحدة إلى الأخرى ولا امتزجت أو اختلطت بها. حقاً أن علاقة كهذه تفوق عقولنا المحدودة، ولا نعرفها إلا من وحي الله في كلامه المقدس. وكان هذا الاتحاد في ناسوت ولاهوت المسيح لإتمام مقاصد الله الأزلية بأن يغمر الإنسان بفيض نعمته منقذاً إياه من الهلاك والخطية وعبودية إبليس، ويصالحه مع الله، ويؤهله للتمتع بالسعادة الدائمة في حضرته. وإذ فدانا يسوع بدمه من كل أمة وقبيلة وشعب ولسان (رؤيا يوحنا ٥:‏٩) صارت لنا حياته المُضحية التي عاشها على الأرض مثال الكمال والطهارة والقداسة كي نقتدي به ونتبع آثار خطواته (يوحنا ١٣:‏١٥ وبطرس الأولى ٢:‏٢١).

وقد يعترض بعضهم بقوله: ألم يكن مستطاعاً لله أن يخلّص الإنسان من عذاب جهنم بإجراء سلطانه المطلق وإعلان رحمته لمن يرحمهم بدون طريق الخلاص المعلنة في الإنجيل؟ أليس هو الذي يقول لما يشاء كن فيكون؟ للإجابة عن ذلك نقول: إن هذا السؤال ناتج عن سوء فهم حالة الطبيعة البشرية وأعوازها الروحية، ومن عدم معرفة قداسة الله.

إن الخطية فضلاً عن كونها مضادة ومكروهة لطبيعة الله، تتلف طبيعة الإنسان الأصلية الروحية التي كانت على صورة الله (تكوين ١:‏٢٦ و٢٧) والخطية تمنع بتاتاً إمكانية تمتع الإنسان بالسعادة الأبدية إلا إذا نجا منها. من السهل أن يذهب أهل النار إلى الجنة بأمر الله، ولكن كيف يطهر القلب والعقل والضمير من ذلك البرص الخبيث الذي يزداد سريانه يوما بعد يوم؟ حقاً أن الخطية أشر من البرص، لأنها برص الروح، الموت ينقذ الإنسان من برص الجسد، لكنه لا ينقذه من برص الروح، فمن أين تكون سعادة في الدار الأخرى لمن روحه برصاء؟ إن تشوُّه صورته وفساد هيئته يثير فيه عوامل الحزن والحسد حتى يبغض نفسه ويبغضه الآخرون، وبالأحرى جداً يبغضه الله كلي القداسة الذي يكره ويمقت الخطية.

كانت شريعة موسى تمنع الأبرص بجسده أن يدخل محلة إسرائيل (لاويين ١٣:‏٤٥ و٤٦) أو يعاشر رفقاءه، فكم بالأَولى ممنوع من هو أبرص الروح والقلب أن يدخل فردوس النعيم ويتمتع بلقاء الله القدوس رب الأرباب؟ قال الكتاب "وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلا مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً، إِلا المَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الحَمَلِ" (رؤيا يوحنا ٢١:‏٢٧) وحتى برص الجسد يعجز المريض به أن يشفي نفسه منه، ويعجز الأطباء أيضاً عن ذلك، أما المسيح فشفى كثيرين من المرضى به، وهو قادر أن يطهر برص الروح أيضاً، إلا أنه ما طهر قط أبرص بالرغم عن إرادته، وكذلك لا يطهر أبرص الخطية بالقوة أو رغماً عن إرادته. إن الرجل الذي لم يشبع من الانغماس في حمأة الفجور في هذه الحياة قد فسدت روحه وأظلم ذهنه، حتى لقد يصبح منتهى السعادة في اعتباره أن تكون الأبدية أوقيانوس فجور يسبح فيه إلى ما لا نهاية. مثل هذا الإنسان مضروب بالبرص الروحي، ويسوع المسيح وحده هو القادر أن يطهر هذا البرص، لكنه لا يفعله بغير إرادة المريض، ولا يُشفى منه إلا إذا تاب توبة صادقة وآمن بالمسيح إيماناً صحيحاً، وصرخ مع داود "قَلْباً نَقِيّاً ا خْلُقْ فِيَّ يَا اَللّهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي" (مزمور ٥١:‏١٠).

إن تطهير البرص الروحي عبارة عن تجديد القلب والروح من محبة الخطية وإعادتها إلى جمال القداسة التي أتلفتها الخطية، وكيف يكون ذلك؟ يتمم الله دائماً عمله بوسائط، وقد أخبرنا الكتاب المقدس عن الواسطة التي اختارها الله لإتمام غرضه بأن شاء أن يعلن ذاته في شخص يسوع المسيح كلمة الله ويظهر محبته للناس بأن يحمل آلامهم ويشاركهم في أحزانهم بواسطة طبيعة المسيح البشرية التي مات بها على الصليب للتكفير عن خطاياهم، حتى يجتذب قلوبهم إليه ويسبيهم بمحبته الفائقة كي يكرهوا الخطية ويثيروا عليها حرباً عوانا حتى يتم لهم النصر الباهر. هذا ما يدعوه الكتاب بالطبيعة الجديدة التي تتولد في كل مؤمن حقيقي بيسوع، هذا هو القلب النقي والروح المستقيم الذي لجَّ داود في طلبه كما ذكرنا، وعلى هذا المنهج يخلق الله الخاطئ من جديد، وعلى ذلك قوله "إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي المَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ" (كورنثوس الثانية ٥:‏١٧).

لا نقدر نقول أن لا طريقة عند الله غير هذه لخلاص البشر من الخطية، إلا أ نه من المؤكد الذي لا شك فيه أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي شاء الله أن يستعملها، وشاء أن يعلنها في كتابه المقدس (متى ١:‏٢١ ويوحنا ١٤:‏٦) ولا يمكن وجود طريقة تجمع بين عدله ورحمته إلا هذه.

وبما أن البعض لم يفهموا تعليم الكفارة (رومية ٥:‏١١) فيحسن أن نشرحه بإيضاح. الكفارة هي المصالحة بين الله والإنسان، من المعلوم أنه قد سقط الإنسان من الحالة التي خلقه الله عليها، وإنه بإجرامه في خطية آدم أولاً، وبخطيته الفعلية ثانياً فقد الحياة الأبدية ونُفي من جنة عدن (تكوين ٣:‏٣) والحياة الأبدية متضمنة في معرفة الله بواسطة المسيح (يوحنا ١٧:‏٢) فلأجل إعادة تلك الحياة للذين فقدوها عليهم أن يقبلوها من الله واهب الحياة بيسوع. فإنّ "فِيه كَانَتِ الحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ"  (يوحنا ١:‏٤ و٥:‏٢٦ وكولوسي ٣:‏٤ ويوحنا الأولى ٥:‏١٢)  وتعطى الحياة  بالمسيح  وحده  لا  سواه  (أعمال ٤:‏١٢) وكيفية ذلك كما نعلم من الإنجيل أنه يتحد بالمؤمنين وهم يتحدون به بالإيمان كما تتحد أغصان الشجرة بأصلها والأصل بالأغصان (يوحنا ١٥:‏١-٦). وعلى هذا المنوال تجري فيهم طبيعته القدوسة وسجاياه الكاملة، وشُبَّه ذلك الاتحاد بالاشتراك في جسده ودمه (يوحنا ٦:‏٤٠ و٤٧ و٤٨ و٥١-٥٨ و٦٣)، وكأنه إذ تسربل طبيعة البشر كإنسان صار رأساً جديداً للجنس البشري. أو بعبارة الكتاب آدم الثاني وروحاً محيياً ونائباً عن البشر (يوحنا ١:‏١٤ وكورنثوس الأولى ١٥:‏٢٢ و٤٥)، فالذين يتحدون به بالإيمان (غلاطية ٢:‏٢٠) يأخذون سلطاناً أن يصيروا أولاد لله (يوحنا ١:‏١٢ ويوحنا الأولى ١-٣ و٤:‏٩) بفاعلية الميلاد الثاني الصادر من السماء بروح الله القدوس (يوحنا ٣:‏٣ و٥)  فنموت مع المسيح عن الخطية ونحيا  به  من  جديد  للبر (رومية ٦:‏١-١١).

ولكي يخلص الإنسان من الموت الأبدي الذي تسبَّب عن الخطية كنتيجة طبيعية وعقوبة شرعية (تكوين ٣:‏٣ وحزقيال ١٨:‏٢٠ ورومية ٦:‏٢٣) يجب أنه كما عصى وصية الله عن اختيار (تكوين ٣) يطيعها تماماً باختياره أيضاً، وإذ صار ذلك المسمى كلمة الله إنساناً كاملاً فقد تمم الوصية، لأنه أطاع حتى الموت موت الصليب (فيلبي ٢:‏٧ و٨ قارن رومية ٥:‏١٩) وبموته الثمين عنا وهو لم يعمل خطية قط قدم حياته فدية عن كثيرين (أشعياء ٥٣:‏٥ و٦ متى ٢٠:‏٢٨ ورومية ٣:‏١٥ و٤:‏١٥ و٥:‏٨-١١ وبطرس الأولى ٢:‏٢٤) فيصحُّ أن يُقال إن المسيح حمل قصاص خطايانا (أشعياء ٥٣:‏٨) ولكنه لم يكن مذنباً، لأننا نعلم أنه ليس فيه خطية البتة (يوحنا الأولى ٣:‏٥) بل يصح أن يُقال أيضاً أن كل ما احتمله من الآلام كان بسبب خطايانا. وبواسطة آلامه كل الذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً يخلصون من الخطية ومن نتيجتها النهائية المزعجة التي هي البعد عن حضرة الله أو الموت الأبدي. فإذا كان المسيح مجرد إنسان كانت طاعته حتى الموت غير كافية لتخليص أحد غير نفسه، وما استطاع أن يمنح حياة روحية للغير.

وأما إذا كان إلهاً كما هو إنسان فيقدر أن يخلّص ويمنح حياة أبدية لجميع الذين يؤمنون به (يوحنا ٥:‏٢٦). إن الله لا يموت ويستحيل أن يموت، ولكن "كلمة الله" إذ صار إنساناً جاز بحسب طبيعته البشرية أن يذوق الموت من  أجل  كل  واحد (عبرانيين ٢: ٩) وقد مات من أجلنا (رومية ٤:‏٢٥ و٦:‏١٠) وقام ثانياً منتصراً على  الموت  وكاسراً  شوكته (تيموثاوس الثانية ١:‏١٠) بل واهباً الحياة لكل من يتحد به بالإيمان (يوحنا ٣:‏١٦ و١١:‏٢٥ و٢٦).

وقد قلنا إن الله يكره الخطية حتماً لأنه قدوس بالطبيعة، لا سبيل لنا أن نغلب الخطية المكروهة منه إلا بإعلان محبته في المسيح الذي نحبه لأنه أحبنا أولاً (يوحنا ٣:‏١٦ ويوحنا الأولى ٤:‏ ١٩ ) وبهذه المحبة الحاضرة نستطيع أن نحبه ونعيش طبقاً لإرادته بمساعدة نعمة روحه القدوس، وهكذا نكون صالحين إلى حدٍّ ما في هذه الحياة، وصالحين تماماً بعد الموت (كورنثوس الثانية ٥:‏ ١٤ ).

فبموت المسيح على الصليب نحصل على فائدتين: الأولى، الخلاص من الموت الأبدي، والثانية، النعمة التي بها نكره الخطية وننتصر عليها (رومية ٦:‏٥ - ١١ وغلاطية ٢:‏٢٠ و٦:‏١٤ وكولوسي ٣:‏١-١٧ ويوحنا الأولى ١:‏٧)  لأنه قد افتدانا  من  عبودية الخطية (متى ٢٠:‏٢٨ وكورنثوس الأولى ١:‏٣٠ وأفسس ١:‏٧ وبطرس الأولى ١:‏١٨-٢١) وقدم الكفارة الوافية  الحقيقية عن الخطية (عبرانيين ٢:‏١٧ ويوحنا الأولى ٢:‏٢ و٤:‏١٠) وتلك الكفارة هي التي كانت ترمز إليها ذبائح وقرابين العهد القديم.

وإن ضميرنا الذي يبكتنا على خطايانا ويهددنا من حين إلى آخر بغضب الله هو دليل قاطع على عظم حاجتنا إلى المصالحة مع الله، وإذ كنا في حد ذواتنا عاجزين عن تقديم الكفارة المرضية الكاملة قد كفانا الله مؤونة ذلك وقدَّمها على حسابنا في شخص يسوع المسيح الذي هو إنسان كامل كما هو إله كامل. ونعلم من موت المسيح مقدار فظاعة الخطية وسوء عاقبتها، لأنها أدت إلى أعظم جرم تقشعر له الأبدان، إلى قتل ابن الله الوحيد، وأن محبة الذات والإرادة كانت المحرك لآدم إلى المعصية التي أنتجت هذا الجرم العظيم، فيلزم تضحية الذات التي هي أصل الخطية، وهذا ما فعله يسوع بموته على الصليب لأنه ضحى بذاته وضحى بمشيئته لحياة العالم، ولا يتمّ استحقاق موته الموجب للتكفير عن خطايانا بآلامه بالجسد، وإن كان بالغاً الحد، بل على ذبيحة محبته غير المحدودة، تلك المحبة التي جعلت القدوس يموت بمحض اختياره عن الأثيم الفاجر (يوحنا ١٠:‏١٧ و١٨) فهو نائبنا الذي وفى عنا مطالب العدل الإلهي القاضي علينا بحكم الموت (حزقيال ١٨:‏٢٠).

فماهية ذبيحة المسيح هي في تسليمه نفسه بإرادته الحرة وتقديمه نفسه في طاعة كاملة حتى الموت أكثر منها في حقيقة الموت ذاته.

وبالجملة تألم المسيح إلى الحد الذي في وسعه أن يحتمله في ناسوته المتحد باللاهوت، فلم يتألم في جسده فقط بل في ذهنه وروحه، لأن حزنه على خطايا الناس كسر قلبه المحب (يوحنا ١٩:‏٣٤). وإذ كان واحداً مع أبيه، فقداسته ومحبته للناس قادتاه أن يشعر بفظاعة خطايانا، إذ شاركنا في البشرية وأحسَّ بهول اللعنة التي ينبغي أن تصدر من الله القدوس ضد الخطية، ولهذا ذاق الموت من أجل كل واحد (عبرانيين ٢:‏٩) بطريقة خاصة لا يمكن أن يعلمها إلا من كان قدوساً (مزمور ٢٢:‏١ ومتى ٢٧:‏٤٦  ومرقس ١٥:‏٣٤) وبهذه الكيفية أظهر الله محبته وعدله ورحمته مرة واحدة.

الذي مات على الصليب بناسوته كان إلهاً تاماً كما كان إنساناً تاماً، وبما أنه حمل خطايانا ومات عنا نحن الأثمة فالذين يتحدون معه بالإيمان كاتحاد الأغصان بالكرمة (يوحنا ١٥:‏٤ و٥) ينالون غفران  خطاياهم  ويُعتَقون  من  خوف  الموت (عبرانيين ٢:‏١٤ و١٥) لأن شوكة الموت هي الخطية (كورنثوس الأولى ١٥:‏٥٦) التي تلقي في قلوب غير المغفور لهم الرعب العظيم من غضب الله المخيف، وأما كون ذبيحة المسيح حازت القبول عند الله فيدل عليه قيامته من الأموات وصعوده للسموات (رومية ١:‏٤ ولوقا ٢٢:‏٥١) ليظهر أمامه لأجلنا نيابة عنا (عبرانيين ٩:‏٢٤) وعودته إلى المجد الذي كان له عند أبيه قبل كون العالم (يوحنا ١٧:‏٥).

ولنشرح الآن بعض البركات الناتجة عن الكفارة التي قدمها يسوع أولاً: إن الله إكراماً له يغفر خطايا وتعديات المؤمنين به الحقيقيين (رومية ٥:‏٥-٢١ وأفسس ١:‏٣-٧ وعبرانيين ١٠:‏١-١٥ ويوحنا الأولى ١:‏٧)، ولأجل المسيح يمنحهم الله نعمته الخصوصية ونور هدايته السماوي حتى يدركوا حالتهم الداخلية ويعرفوا الإله الحق معرفة عميقة، ويملأ قلوبهم بمحبة من أحبهم أولاً، بحيث يقدرون أن يحفظوا وصاياه ويثبتوا في حالة نقاوة القلب ويعرفون الحق (يوحنا ٨:‏٣١ ورومية ٥:‏٥ و٨:‏٥ وكورنثوس الأولى ١:‏٤ و٥ وكورنثوس الثانية ٤:‏٦  وأفسس ١:‏١٥-٢٣  وفيلبي ٤:‏ ١٣  وكولوسي ٢:‏٣  وتيطس ٢:‏١١-١٤ وعبرانيين  ٩:‏١١-١٤). ومن فوائد الفداء أيضاً العتق من  عبودية  الشيطان  ومن  محبة  الخطية، والفوز  بميراث السعادة  الدائمة (رومية  ٨:‏١٢-١٧ وتيموثاوس الثانية ١:‏٩ و١٠ وعبرانيين ٢:‏١٤ و١٥ وبطرس الأولى ٢:‏٣-٩).

وحيث أن الخلاص مقدم في المسيح للخطاة فهو أمر ثمين وعظيم يطهر به الناس من نجاسات الخطية، حينئذ يفتح الله لهم خزائن بركاته وإحساناته فينير أذهانهم ويقدس قلوبهم، وفي الختام يأخذهم إلى فردوس نعيمه ليتمتعوا بالحياة الأبدية. لقد ظهر الآن كالشمس في رابعة النهار إن تعليم الإنجيل يشبع أشواق القلب ويغني طلبات النفس كما بينا في المقدمة، وعليه يكون الكتاب المقدس كلام الله الموحى به لسعادة البشر.

فإن سمع أحد بشارة الخلاص ورفضها يكون سبب رفضه عدم رغبته في التوبة عن الخطية، وعدم معرفته حالة قلبه الأثيمة في نظر الله. وإن كان أحد لا يكترث بالخطر الذي يسرع به للهلاك الأبدي فهيهات يسعى في معالجة برصه الروحي بالدواء الذي وضعه طبيبنا العظيم.

أما الإنسان الحريص المحاذر من حالة قلبه الأثيمة، فيعلم بُغض الله القدوس للخطية، ويشعر بهول الخطر الذي ينذره بالهلاك الأبدي بسبب خطاياه. وبما أنه غير قادر أن يكفر عنها بنفسه، يبادر أن يسمع بشارة الخلاص الذي اقتناه المسيح بدمه الكريم من أجله ومن أجل كل الذين يؤمنون به. إن خبراً كهذا يلذ سمعه في أذنيه أكثر من أية بشارة أخرى على وجه الأرض، لأنها بشارة الخلاص المجاني والدواء الذي يشفي القلوب المكسورة من ثقل حمل الخطايا، والمرهم الذي يعصب جرح النفس المزمنة. أما إذا أحب المرء الخطية وكان متفانياً في حب الشهوات الجسدية سيبغض النور المعلن في الإنجيل، كما يبغض الخفاش نور الشمس، ويهرب من أشعتها الجميلة اللامعة إلى مغائر الظلمة. مثل هذا جدير به أن يطرح في الظلمة الخارجية التي أحبها أكثر من النور (يوحنا ٣:‏١٩ - ٢١ ).

ويستحيل عليه أن يفهم كثيراً أو قليلاً من الأمور الروحية، حتى أنه يرى الإنجيل كأنه جهالة وحماقة كما رآه هكذا قدماء اليونان (كورنثوس الأولى ١:‏١٨-٢٥ و٢:‏١٤)، في حين أن الراغب في معرفة الحق وعمل إرادة الله، تقع في نفسه بشارة الخلاص وإعلان محبة الله موقع القبول والاستحسان، وتفيض كينبوع حي يروي قلبه الظمآن في سفره عبر صحراء الحياة الدنيا.

في الخلاص، أعلن الله محبة ورحمة مقترنة بعدل وقداسة بكل وضوح، أما محبته الفائقة فقد ظهرت ببذله ابنه الوحيد، بهاء مجده، ورسم جوهره لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (عبرانيين ١:‏٣ ويوحنا ٣:‏١٦) فهذا التعليم الذي لا يُقدَّر بثمن يكشف لنا الحجاب عن صفات الله الجليلة التي أعظمها المحبة، حتى إذا حملنا بتيار محبته نتجنب الخطية المكروهة لديه، لأنه قدوس، ونحفظ وصاياه سالكين في طريق الإيمان بالمسيح المؤدي للحياة الأبدية.

ومن يتأمل في أحوال الخليقة يظهر له ما يشبه طريق الخلاص، فإن الله خلق كثيراً من خلقه على تضحية الذات على مذبح المحبة الطبيعية، مما يصح أن يُتَّخذ مثالاً لآلام المسيح لأجلنا. فنرى الآب يخاطر بحياته ويعاني الشدائد ويذوق المرارة لأجل قوت أبنائه وكسوتهم، وترى الطبيب الأمين يعرض نفسه للخطر والموت لخلاص حياة العليل. حتى في الطيور نرى الدجاجة تحضن فراخها، وإن سطا عليها عدو تحاربه وتحمل الأذى عنها، والعصفور يقع في مواضع الخطر ليلتقط الحب لفراخه الصغار، ويقاسي العناء لدفع الشر عنها، فلماذا لا يكون معقولاً أن خالق المحبة الطبيعية هو محب أعظم من كل ذلك حيث  أعلن محبته على منهج الضحايا فبذل ابنه الوحيد الذي هو واحد معه ليموت على الصليب في سبيل خلاص الإنسان المسكين ولكن "مَنْ لا يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللّهَ، لأنَّ اللّهَ مَحَبَّةٌ" (يوحنا الأولى ٤:‏٨).

وعليه فالإيمان بالمسيح الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا هو الدواء الوحيد الذي وصفه الله العليم الحكيم لبرص الخطية، فكل من يثق في حكمة الله وعلمه فليستعمل هذا الدواء، وحينئذ يعلم بالاختبار إن كان المسيح مخلّصاً أم لا، لأن الشفاء من المرض دليل قاطع على حُسن الدواء وجودة تأثيره، ومتى برئ الخاطئ من مرضه وعلم بالتحقيق أن المسيح مخلّص، يشكر فضله ويعلم أن الكتاب المقدس حق.


١. انظر الفصل الآتي.

الفصل الخامس

في التعليم بإله واحد في ثلاثة أقانيم

وقت الحصاد، صعيد مصر
وقت الحصاد، صعيد مصر

ما قيل في الفصل المتقدم عن طريق الخلاص بالمسيح لا يُقبل عند الطالب كل القبول حتى يطلع على عقيدة التثليث التي طالما كانت حجر عثرة في طريق إخواننا المسلمين الراغبين في البحث، لأنهم لا يفهمون معنى التثليث، فحسبوه مناقضاً للتوحيد. والحقيقة خلاف ذلك لأن التعليم بوحدانية الله من الأساسات الجوهرية التي ترجع إليها عقيدة التثليث، فإن جميع المسيحيين لا يؤمنون بثلاثة آلهة بل بإله واحد.

من يطلع على تفسير الجلالين لسورة المائدة ٥:‏٧٦ وتفسير البيضاوي لسورة النساء ٤:‏١٥٦ يرى أن أولئك المفسرين تصوروا أن النصارى يعتقدون أن الثالوث هو ثلاثة آلهة: الآب والأم والابن، وحسبوا مريم العذراء إلهاً، وأنها أحد الآلهة الثلاثة المذكورين. لا ننكر أن بعضاً من جهلة النصارى في عصر محمد أكرموا مريم إلى حد العبادة، بل أكرموا كثيراً من القديسين وقدموا لهم العبادة التي لا تجوز إلا لله وحده، كما أن كثيرين من جهلة المسلمين يفعلون مثل هذا الفعل مع أوليائهم ومشايخهم. وكما أن المطلعين من المسلمين لا يجدون ما يؤيد عبادة الأولياء في القرآن كذلك لا يصح أن نؤاخذ النصارى بما كان يعمله الجهلة في العصور المظلمة مما لا ينطبق على الكتاب المقدس بل يخالفه. فلا تحسبن القرآن يحرم عبادة العذراء والكتاب المقدس يجيزها، حاشا وكلا! بل هذا الذي ظنه المسلمون تثليثاً في ذات الله ليس هو من التثليث في شيء، فإن المسيحيين على اختلاف مذاهبهم لم يِقل فريق منهم بثلاثة آلهة. ١

وعلى ما تقدم يظهر أن هؤلاء المفسرين أضلهم التعصب الذميم حتى دونوا في كتبهم عن النصارى ما هم أبرياء منه وكان خليقاً بهم - كما بكل عالم فاضل - أنهم إذا أرادوا أن يكتبوا شيئاً في موضوع هام كهذا أن يبحثوا أو ينقبوا حتى يقفوا على الحقيقة بعينها، لئلا يكونوا عثرة في طريق الباحث الأمين. إننا كما ذكرنا لا نعتقد بثلاثة آلهة، ولا أن مريم واحدة منهم، وإننا نشدد إنكار تعدد الآلهة كالمسلمين أنفسهم، وستعلم ذلك عندما نتقدم في شرح الموضوع.

ذكرنا في ما تقدم أننا نؤمن بإله واحد كما في التوراة، حيث يقول "إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" (تثنية ٦:‏٤) وفي العهد الجديد اقتبس المسيح هذه الآية أساساً لتعليمه (مرقس ١٢:‏٢٩) وأما عقيدة التثليث فهي شرح للوحدانية ذُكرت لمناسبة التعليم في مواضيع أخرى. مثال ذلك وصية المسيح لتلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل للناس قال "عَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ القُدُس"ِ (بشارة متى ٢٨:‏١٩) فيدل هذا القول على حقيقة التوحيد، كما يدل على تثليث الأقانيم، لأنه قال "باسم" بصيغة المفرد لا "بأسماء" بصيغة الجمع، مع أنه ذكر الأقانيم الثلاثة كلاً على حدة. ومن هذه العبارة نفهم أنه لا يمكن أن يكون الابن والروح القدس مخلوقَين بدليل أنهما مقرونان باسم الآب كشيء واحد،  بخلاف عدم ملاءمة الاسم نفسه لما يكون مخلوقاً. فإن كلمة "ابن الله" و "الروح القدس" لا يصح أن يسمى بهما الشيء المخلوق، وهذه حقيقة ظاهرة لمن يتأمل.

وعقيدة التثليث يمكن تلخيصها على هذا المنوال:

(١) الآب والابن والروح القدس جوهر واحد وإله واحد فقط.

(٢) كل من هؤلاء الأقانيم الثلاثة له خاصيّة لا يشترك فيها معه أقنوم آخر.

(٣) إن انفصل أقنوم عن الأقنومين الآخرين - وذلك مستحيل - لا يمكن أن يكون هو الله.

(٤) كل أقنوم متحد مع الأقنومين الآخَرين من الأزل، وهذه الوحدة غير القابلة للانفصال هو الله.

(٥) كل أقنوم مساوٍ للأقنومين الآخرين في الذات والمجد.

(٦) العمل الخلاصي لكل أقنوم وُصف أحسن وصف في الكتاب المقدس بهذه الألقاب: الأول "الآب والخالق" والثاني "ابن الله والفادي" والثالث "المقدس والمعزي."

(٧) كما أن الأقانيم المقدسة واحد في الذات هكذا هم واحد في المشيئة والقصد والسلطان والقِدم وسائر الصفات الإلهية.

أما قول المسيح "أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي" في يوحنا ١٤:‏٢٨ فهذا بالنسبة إلى ناسوته، لأنه يعبّر عن وحدته مع الآب في الذات بقوله "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ"(يوحنا ١٠:‏٣٠). وقد يعترض بعضهم بأن هذه العقيدة المسيحية متناقضة، وبما أن اعتراضهم خطأ ظاهر نجيب أن التثليث ليس خطأً بل هو سر عجيب، ويجب أن ننتظر أسراراً كثيرة في الكتب المقدسة وخصوصاً ما يتعلق بجوهر الله. إذ لو خلت حقيقة الله من الأسرار لأدركتها العقول البشرية كما تدرك سائر الأشياء المحدودة، وهذا محال، لأن السر هو أن لا تعرف كيف ينمو الزرع مع أنك تعرف أنه ينمو، والعالم مملوء بالأسرار، والإنسان سر في نفسه فإنه لا يقدر أن يعرف كيف تسكن روحه في جسده وكيف تدبّره فهل تؤخذ هذه البراهين على بطلان الحقائق؟ لو كان الأمر هكذا لكان كل شيء باطلاً. والكتاب المقدس أحق وأولى بأن يتضمن أسراراً غامضة تحار في معرفة كنهها فطاحل العلماء. فهل من الصواب والحكمة أن نرفض كتاب الله لاشتماله على مسائل تفوق عقولنا ونستبد بآرائنا الخصوصية؟ فاحكموا أنتم!

كل مطلع خبير بالكتاب المقدس يعلم أن عقيدة الثالوث مأخوذة منه بدلالة آيات كثيرة في غاية الصراحة، وهي التي منها صاغ المسيحيون نصَّها مع اختلاف قليل في اللفظ فقالوا: "لا يوجد إلا إله واحد حي حقيقي أزلي، ليس له جسد، ولا يتألم، غير متناهٍ في القدرة والحكمة والصلاح، صانع وضابط كل الأشياء ما يُرى وما لا يُرى، ولذاته القدوس ثلاثة أقانيم في جوهر واحد، الآب والابن والروح القدس."

وعدا موافقة هذه الصيغة للأسفار المقدسة فإنها موافقة لمؤلفات المسيحيين الأولين الذين بقيت كتاباتهم إلى عصرنا الحاضر مما يدل على أنهم فهموا الكتاب من جهة هذه الحيثية كما فهمناه.

ويعلّمنا العقل أن لا نتجاوز في البحث والاستقصاء ما أعلنه الله عن ذاته وقال الحكماء: البحث عن ذات الله كُفر.

يؤكد بعض إخواننا المسلمين أن التوحيد مخالف للتثليث، لكن الحقيقة هي حيث أن العقيدتين معلنتان في كلام الله، فلا يمكن أن يكون يبنهما تناقض لأن التوحيد لا ينفي كل نوع من أنواع التعدد. مثال ذلك من المعلوم أن الله متعدد الصفات، يقال رحيم حكيم قدير عادل .. الخ، حتى وصفه علماء المسلمين بأنه مجمع الصفات الحسنة جامع صفات الكمال، لكن تعدد الصفات لا يبطل وحدة الذات. ومثل ذلك تعدد الأقانيم لا يبطل وحدة الجوهر الإلهي وعلى فرض أنه لا يوجد في الخليقة ما يصلح أن يؤخذ مثالاً موافقاً لشرح  هذه  الحقيقة إلا أنه يوجد بعض الأمثلة  التقريبية  -  ورد في التوراة أن الله خلق الإنسان على صورته (تكوين ١:‏٢٦).

ويوافق ذلك ما قاله علي بن أبي طالب "من عرف نفسه فقد عرف ربه." فلنتخذ هذا مثالاً تقريبياً لموضوعنا، فنقول إن كل رجل هو واحد غير أنه يصح أن يتكلم عن روحه ونفسه وجسده قائلاً عن كل منها (أنا) هنا ثلاثة أشياء يكاد يتميز أحدها عن الآخر، لأن الروح ليست النفس، ولا هذه ولا تلك هي الجسد. وعليه فليس من الخطأ أن ندعو كلاً من هذه الثلاثة رجلاً، إلا أنه لا يوجد في الثلاثة إلا رجل واحد. ومما لا شك فيه لا يكون أحد الثلاثة خلواً من الاثنين الآخَرين، كما لا يمكن التفريق بين الواحد والآخر على الأقل في هذه الحياة.

إن هذا سر من الأسرار الكثيرة المودعة في طبيعتنا ولسنا نفهمها، فإن كل امرئ على وجه الأرض يشعر بهذا التمييز في طبيعته بين روحه وعقله ونفسه، في حين أنه لا يرتاب في وحدة ذاته، على أننا لسنا نقيم هذا المثال ولا غيره دليلاً على صحة التثليث، بل الدليل على صحته كما قلنا مراراً الكتاب المقدس وكفى به دليلاً لأنه صادر من الله وهو يعرف نفسه أكثر مما نعرفه. وغاية ما نقصده من سرد الأمثلة أن ندفع الشبهات التي يعترض بها على هذا الموضوع ونبرهن أنها صادرة عن سوء فهم لإزالة ما عساه يكون عثرة أمام طالب الحقيقة المخلص.

ومما لا يصح إغفاله أن القرآن يتفق مع الكتاب المقدس في إسناد الفعل وضمير المتكلم في صيغة الجمع إلى الله في أن أمثلة ذلك أقل بكثير في التوراة عما هي في القرآن ومما ورد في التوراة هذه المواضع (تكوين ١:‏٢٦ و٣:‏٢٢ و١١:‏٧) وفي القرآن ما ورد في سورة "العلق" وهي عند المسلمين أول ما نزل من الوحي على محمد، فقد ورد في عدد ٨ لفظ "الرب" اسماً للجلالة وعدد ١٣ لفظ "الله" وكل من اللفظين في صيغة المفرد، ولكن في عدد ١٨ ورد ضمير الجلالة بصيغة الجمع حيث يقول "سَنَدْعُ الزَبَانِيَةَ" (سورة العلق ٩٦:‏١٨).

وحيث أن الكتاب المقدس والقرآن يتفقان على هذا الأسلوب من التعبير عن ذات الجلالة بضمير الجمع، فلا يخلو ذلك من قصد. أما اليهود فيعللون عنه بكون الله كان يتكلم مع الملائكة، إلا أن هذا التعليل لا يلائم نصوص التوراة ولا القرآن. ويقول المسلمون إن صيغة الجمع هي للتعظيم وهو تعليل سخيف لا يشفي غليل الباحث النبيه، وليس لنا أن نخوض في شرح القرآن إنما أوردنا ذلك إشعاراً بأننا لا نخطئ إذا اعتبرنا عقيدة التثليث موافقة لإسناد ضمير الجمع إلى الله في القرآن.

وقلنا إنه لا توجد مشابهة وافية بين الله والمخلوقات، إلا أنه توجد بعض الأشياء عدا ما ذكرنا آنفاً تثبت التعدد في الوحدة، مثال ذلك خيط واحد من أشعة الشمس يتضمن ثلاثة أنواع من الأشعة: ( ١ ) النور ( ٢ ) الحرارة ( ٣ ) العمل الكيماوي. وهذه الثلاثة شعاع واحد بحيث لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى لتتكون ثلاثة أشعة بل بالعكس الشعاع الواحد لا يتكون إلا من الثلاثة معاً. وكذلك النار والنور والحرارة ثلاثة أشياء، ولكنها واحد فلا نار من غير نور وحرارة مع أن النور والحرارة من طبيعة النار وأصلها، نقول إن النار تعطي نوراً وحرارة، إذ أن النور والحرارة تنبعثان من النار. ولكن ذلك لا يجعلهما تنفصلان عن النار أبداً، فلا تسبقهما في الوجود، ولا تتأخر عنهما في العدم. وكذلك العقل والفكر والكلام واحد، مع اختلاف كل منها عن الآخر، لا نقدر أن نتصور العقل عارياً عن الفكر ولا الفكر عارياً عن الكلام منطوقاً به أو غير منطوق. ففي هذه الأمثلة جميعها لا يشوش التعدد على الوحدة بل يتفقان تمام الاتفاق، ولنا أن نستنتج من ذلك أن وجود ثلاثة أقانيم في اللاهوت ليس مضاداً للعقل السليم، بل له شبه ونظائر في الطبيعة وسند قوي في الكتاب.

وهنا فكر آخر له علاقة بالتثليث إن من أسماء الله الحسنى عند المسلمين كونه "ودوداً" أي محباً (وهذا يوافق ما جاء في الكتاب في إرميا ٣١:‏٣ ويوحنا ٣:‏١٦ ويوحنا الأولى ٤:‏ ٧ - ١١ ). وبما أنه غير متغيّر فهو ودود من الأزل ويلزم عن ذلك أن يكون له مودود أي محبوب من الأزل قبل خلق العالم، فمن عساه يكون ذلك المحبوب الموجود من الأزل عند الله؟ ففي عقيدة التثليث نجد الجواب الصريح والوحيد لهذا السؤال، فنقول إن أقنوم الآب هو الودود، وأقنوم الابن المودود، وما أحسن ما قال يسوع في هذا المعنى مخاطباً أبيه "أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ" (يوحنا ١٧:‏٢٤) وعليه لا يمكن الاعتقاد بوجود صفة المحبة في الله من الأزل ما لم نعتقد بتعدد الأقانيم مع وحدة الجوهر، وإلا كان الله متغيراً ابتدأ أن يحب من الوقت الذي خلق له محبوباً من الملائكة أو البشر، وهذا باطل لأنه قال "أَنَا الرَّبُّ لا أَتَغَيَّرُ"(ملاخي ٣:‏٦).

وربما يسأل سائل: ما فائدة الإيمان بالثالوث المقدس؟ ألا يكفي أننا نؤمن بأن الله واحد بصرف النظر عما إذا كان ذا ثلاثة أقانيم أو ذا أقنوم واحد؟ فأجيب: فائدة الإيمان بالتثليث ليست أقل من الإيمان بالتوحيد لجملة أسباب جديرة بالنظر، منها حل المعضلات الكثيرة التي يُعترَض بها على الوحدانية المحضة، مثل كيف يكون الله هو الكافي والصمد والمتكلم والغني والودود من قبل أن يكون كائن سواه،  لأن كل هذه الصفات وما شاكلها لا يمكن التعليل عنها إلا بتعدد الأقانيم الإلهية مع توحيد الذات كما مر بيانه في كلامنا عن وصف الله بالودود. وهذا التعليم أيضاً يمكّننا من فهم بعض تعاليم الكتاب المقدس، كما أنه يبين لنا شرح بعض الآيات القرآنية. وأهم ما ذكر أن الإيمان بالتثليث مفيد لأنه يمهد السبيل لتصديق دعوى المسيح أنه "كلمة الله" المثبوتة في كل من الإنجيل والقرآن وتسمية المسيح "كلمته" في سورة النساء ٤:‏١٦٩ "وقول الحق" في سورة مريم ١٩:‏٣٥  أسلوب حسن للتعبير عن طبيعة المسيح ووظيفته بأنه الوسيلة الوحيدة لإعلان الله للناس. لأن المراد من "كلمة" أو "قول" هو ما يعبر به المتكلم عن فكره، والمتكلم هنا الله. وحيث أنه دعى المسيح كلمته فيكون هو المعبر الوحيد الكامل عن فكر الله ومظهره القدوس الذي يظهر به لخليقته المحدودة وبه تكلم الأنبياء مسوقين من الروح القدس ( لوقا ١٠:‏ ٢٢  و  يوحنا ١:١-٢ و ١٨ و ١٤:‏ ٦ - ٩        وبطرس  الأولى  ١:‏ ١٠ – ١٢ ) وحيث أن المسيح هو الواسطة الوحيدة لإعلان الله يجب أن يعرفه هو أولاً ويعرف إرادته، وقد عرفه كل المعرفة بدليل قوله "أما أنا فأعرفه" "الآب يعرفني وأنا أعرف الآب" (يوحنا ٨:‏٥٥ و١٠:‏١٥). ومن هذه الحيثية تمتاز معرفة المسيح لله عن معرفة الإنسان. رُوي عن محمد أنه قال في حديث له مخاطباً لله "ما عرفناك حق معرفتك"، ويعترف علماء الإسلام أن الله عظيم وسام بحيث لا يدرك كنهه عالِم ولا نبي ولا رسول، فلا يعرف الله حق معرفته إلا "كلمته" أي المسيح. فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يكون المسيح مجرد مخلوق ولو كان أسمى المخلوقات وإلا لقصرت معرفته دون إدراك الله إدراكاً كاملاً، لأنه لا يعرف الله إلا الله. وعليه يكون المسيح أقنوماً إلهياً، فعقيدة التثليث إذاً تزيل كل صعوبة تخالج العقل في قبول دعوى المسيح بأنه كلمة الله، وبالتالي قبول خلاصه.

وعدا ما ذُكر فإنه في الإيمان بالتثليث حسنة كبيرة تغمر الشرقيين والهنود، الذي ساد عليهم الاعتقاد بالقضاء والقدر حتى أنهم استسلموا للجمود والتهاون فتأخروا عن غيرهم من الأمم في جهاد الحياة، مع أنهم من حيث الذكاء والإقدام يتساوون مع الجميع إن لم يزيدوا عنهم كما هو مثبوت في التاريخ. فما الذي حدا بهم إلى التقهقر في سلّم المدنية غير استحكام عقيدة القضاء والقدر في أذهانهم؟ فلو آمنوا أن الله لم يقدِّر عليهم سوءاً ولا قضاء بخرابهم بل يحبهم حباً فائقاً بحيث أنه أعلن لهم نفسه في شخص كلمته الأزلي وحمل آلامهم وأحزانهم ومات بالجسد لخلاصهم وقام ثانياً لأجلهم، لما بقي عندهم محل للشك في حُسن مراد الله من جهتهم، ولاستنارت أذهانهم وفهموا نصوص الإنجيل الذهبية كقوله "هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ا بْنَهُ الوَحِيدَ. لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّة"ُ (يوحنا ٣:‏١٦ ويوحنا الأولى ٤:‏٧-‏١٦).

إن رفض إخوتنا المسلمين لعقيدة الثالوث هو بالتالي رفض للاهوت المسيح، فكلما اجتهد المسلمون في البحث عن الله زادوا بعداً عن معرفته، وعليه نجد في مصر اليوم حديثاً حل محل مثل شائع هو "كل ما خطر ببالك فهو هالك. والله بخلاف ذلك." وهكذا نرى الإسلام يؤول إلى عدم معرفة الله، وإن إيماننا نحن المسيحيين بمظهر الله الكامل يمكّننا من معرفة الله ومن محبته، إذ أحبنا أولاً (يوحنا الأولى ٤:‏١٩) وإن روح الله القدوس يحل في قلوب المسيحيين الحقيقيين وينيرها بإرشاداته إلى معرفة الله ويقرّبهم  إليه  (يوحنا ١٤:‏١٦ و١٧ و٢٦ و١٥:‏٢٦ و١٦:‏٧ و١٥ وأعمال الرسل ١:‏٥ و٢:‏١-‏٤ وكورنثوس الأولى ٣:‏١٦ و١٧  و٦:‏١٩). وبذلك يتصالح المسيحيون مع الله ويكونون في شركة معه كأبناء مع أبيهم المحب السماوي عوضاً عن أن يكونوا عبيد خائفين في حضرة سيدهم القهار (كما هي حال غيرهم).

إذاً نتعلم من الكتاب المقدس أن الله العلي العظيم أعلن لنا نفسه: (١) أنه الآب القدوس المحب الذي وإن كان شديد البغض والمقت للخطية، غير أنه قَصَد منذ الأزل في محبته وكثرة رحمته أن يدبر طريقة خاصة تيسّر الخلاص لجميع البشر الذين يقبلون نعمة الله، فيتصالحون معه بالقلب والعقل والإراداة والسلوك، (٢) وأعطى الله هذا الإعلان للناس على يد "كلمته" ابن الله الوحيد الذي بواسطته فقط يصل المخلوق أياً كان لمعرفة الآب السماوي، وإذ أخذ ابن الله جسداً ولبس طبيعة البشر حمل أحزاننا وهمومنا، ومات على الصليب من أجل خطاياناً، قام من أجل تبريرنا (رومية ٤:‏٢٥). (٣) ولكي يقبل الناس هذا الخلاص المبارك أرسل روحه القدوس، الأقنوم الثالث من اللاهوت، ليبكتهم على خطاياهم ويحقق لهم عظيم احتياجهم إلى مخلّص يخلّصهم وينير أذهانهم بمعرفة غِنى الإنجيل،  حتى يطلبوا وينالوا ويتمتعوا بالحياة الأبدية.

ولا يبرح من ذهنك أن البرهان الذي يُقام على صحة عقيدة الثالوث الأقدس بعينه يُقام على صحة عقيدة الحياة بعد الموت ويوم القيامة، وغير ذلك من العقائد التي يمتاز بها المؤمن عن الكافر وعابد الله عن عابد الصنم، بمعنى أن هذه العقائد جميعها مؤيدة بكلام الله، فإن قبلنا عقيدة منها لأنها مؤيَّدة بكلام الله، فلماذا لا نقبل العقائد الأخرى في حين أنها مؤيدة بكلام الله أيضاً؟

ولنتقدم الآن لإيضاح حقيقة أخرى لعلها تساعد القارئ للتثبُّت من الموضوع الذي نحن بصدده. نعلم بدليل قلوبنا عن الخلاص الذي يقدمه لنا الرب يسوع وكيف نحصل على الحياة الأبدية إن آمنا به (يوحنا ١٧:‏١-‏٣) كما نحصل على سائر البركات العظمى التي يريد الله أن يمنحها لمخلوقاته.

وبناء على إرشاد وتعليم الإنجيل  - أي أسفار العهد الجديد -  نعلم أنه بواسطة الإيمان الحي بالمسيح والاتكال عليه (أعمال الرسل ٤:‏١٢ و١٦:‏٣١ ويوحنا الأولى ٣:‏٢٣) نصير ورثة الأفراح الفائقة والبركات العظمى التي لا يعبر عنها "مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللّهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ" (كورنثوس الأولى ٢:‏٩). وليس الإيمان بالمسيح مجرد الاعتراف بأن تعليمه حق بل الثقة الكاملة بمخلّص حي حبيب جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة (تيموثاوس الأولى ١:‏١٥) من خطاياهم (متى ١:‏٢١) وقادر أن يخلّص إلى التمام كل الذين يتقدمون به إلى الله (عبرانيين ٧:‏٢٥). إيمان حي كهذا يربطنا روحياً بالمسيح ويجعلنا وإياه واحداً (يوحنا ١٥:‏٤-‏١٠) كما يجعلنا أولاد الله فيه (يوحنا ١:‏١٢ و١٣ ويوحنا الأولى ٣:‏١-‏١٢) بل يقوينا حتى نعتق من نير الخطية وإبليس (يوحنا ٨:‏٣٤-‏٣٦) فنخلع أعمال  الظلمة (رومية ١٣:‏١٢  وأفسس ٥:‏١١  وكولوسي ١:‏١٣ وتسالونيكي الأولى ٥:‏٤ و٥ وبطرس الأولى ٢:‏١٩ ويوحنا الأولى ١:‏٦) ونسلك كما يحق للدعوة التي دعينا بها. أو بعبارة أخرى نسلك كأولاد نور (يوحنا ٨:‏ ١٢ و ١٢:‏ ٣٥  و ٣٦ ).

ولما كان الإنسان من تلقاء نفسه لا يقدر أن يؤمن بالمسيح إيماناً حياً عاملاً، رأى الله من فرط محبته لنا أن يرسل روحه القدوس ليعمل في أرواحنا ويبثّ فينا حياة روحية نستعين بها على الإيمان بالمسيح الإيمان المطلوب، ما لم نغش قلوبنا ونرفض نهائياً احتجاج ذلك الروح الصالح المنعِم.

وقد رأينا في ما تقدم أن المسيح "كلمة الله" هو مظهر الله الحقيقي، وعليه يتضح جلياً أنه بواسطته فقط يستطيع الإنسان أن يأتي إلى الله (يوحنا ١٤:‏٦) وبدون إيمان بالمسيح لا يقبل الله الناس ولا يغفر لهم خطاياهم. لهذا جاء الروح القدس ليحث الناس على التوبة ويستميلهم إلى الإيمان بحيث يعتنقون ذلك الخلاص المقدَّم لهم مجاناً في المسيح. كما أن الروح القدس يكشف لنا الستار عن حالة قلوبنا الرديئة ويبكتنا على خطايانا وينذرنا بالدينونة الآتية (يوحنا ١٦:‏٨) يحرّضنا على السعي والجد في طلب المصالحة مع الله بقبول الكفارة الوحيدة التي قدمها المسيح عن خطايا العالم  (عبرانيين ١٠:‏١٠-‏١٤) والذين ينقادون بإرشاد الروح القدس يتبررون بإيمانهم بالمسيح، ويكون لهم سلام مع الله بربنا يسوع المسيح (رومية ٥:‏١) يعطيهم السلام الذي لا يقدر أن يعطيه العالم (يوحنا ١٤:‏٢٧) فالخاطئ النادم متى أتى إلى المسيح يُعتق من الخوف والرعب الشديد الناتج عن خطاياه، ويزول عن عنقه ذلك الحمل الثقيل ويُطرح في بحر نسيان رحمة الله (متى ٢١:‏٢١ ومرقس ١١:‏٢٣) وتتبدد غياهب ظلمة قلبه ويحل محلها نور السماء وتملك عليه محبة الله ويعلم أن الله أبوه السماوي بيسوع المسيح فيهجر خطاياه ويجدّ في حفظ وصايا الله، ويواظب على معاشرته، فتجري في نفسه أنهار السعادة الحقيقية التي تفوق الوصف حتى تصير الأرض في عينيه سماء بالرغم من تجارب الحياة الكثيرة واضطهاد المضطهدين. ويتحقق صدق الكتاب لا بالبرهان الخارجي فقط بل بالوجدان والاختبار أيضاً.

وهذا التغيير الذي ينتجه عمل الروح القدس في نفس الخاطئ الآتي إلى المسيح لا ينحصر في تحويل القلب عن الخطية إلى البر ومن الظلمة إلى النور ومن عبودية إبليس إلى حرية الله، بل أعظم من ذلك هو ميلاد جديد حقيقي روحي (يوحنا ٣:‏٣ و٥) الذي به يصير المؤمن خليقة جديدة روحياً (كورنثوس الثانية ٥:‏١٧ وغلاطية ٦:‏١٥) وأن الله يريد أن يتوب كل إنسان عن خطاياه وينال الخلاص بالإيمان بالمسيح (حزقيال ٣٣:‏١١ وتيموثاوس الأولى ٢:‏٣-‏٦ وبطرس الثانية ٣:‏٩) من أجل ذلك ليس أحد على وجه الأرض مقضياً عليه بالحرمان من رجاء الخلاص، بل كل من يريد بسلامة قلب أن يُفدى بدم المسيح فإنه يُفدى بكل تأكيد (يوحنا ٦:‏٣٧). وأما الذين يعتمدون على ما يتخيلونه من أعمالهم الصالحة ويتوهمون أن لهم خزانة بر ذاتي في السماء ويرفضون المسيح، فهم مقاومون لإرشاد روح الله القدوس ويحكمون على أنفسهم بأنفسهم (يوحنا ٣:‏١٦-‏٢١ و٥:‏٤٠) ومع أنه استطاع في هذه الحياة أن يقاوم محبة المسيح ويعاند رحمة الله، إلا أنه يضطر في النهاية أن يسجد أمام المسيح كما  ينبئنا  الكتاب (إشعياء ٤٥:‏٢٣ ورومية ١٤:‏١١ وفيلبي ٢:‏٩-‏١١).

ومما قيل يتبرهن أن التغيير الذي يحدثه الإيمان بالمسيح في القلب لا يدعنا نهمل واجباتنا المسيحية أو نتمادى في ارتكاب الخطية لأنه إيمان حي مُحْيي يدفع صاحبه إلى فعل الخير ويمنعه عن فعل الشر، لذلك إن كان أحد مؤمناً بالمسيح إيماناً حقيقياً ينتصر بمعونة روح الله القدوس على الخطية الداخلية، كما ينتصر على العالم والجسد والشيطان، ويدوس على هوى نفسه، ويكرس ذاته حتى يعيش بحسب إرادة الله من حيث قداسة العمل والطبع لأنه ذاق بحاسته الروحية محبة الله الفائقة ورحمته العظيمة المعلنة في المسيح واختبر الفرح الحقيقي والسعادة الكاملة التي فاض بها الإيمان في نفسه. لهذا أصبح يبتعد عن كل خطية أو فكر شرير ويجاهد ليله ونهاره على الاحتراس والاحتفاظ بوصايا الله سالكاً في النور كما ينبغي لدعوة الإنجيل.


١. وعلى ذلك نطلب من القارئ مراجعة دستور الإيمان الرسولي والقانون النيقوي والقانون الاثناسيوسي وقانون الكنيسة المصلحة

الفصل السادس

حياة المسيحي وسلوكه

White Rose

قيل في الإنجيل إن ناموسياً استعلم من الرب يسوع عن الوصية العظمى في  الناموس،فأجابه  "تُحِبُّ  الرَّبَّ  إِلهكَ" (تثنية  ٦:‏ ٥ ) "مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ،وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا تُحِبُّ قَرِيبَكَ" ( لاويين ١٩:‏١٨ ) "كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأنْبِيَاء" (متى ٢٢:‏٣٥-٤٠ ومرقس ١٢:‏٢٨-٣١). وقيل في أكثر من موضع ما يوافق ذلك: "لا تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأحَدٍ بِشَيْءٍ إِلا بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، لأنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ. لأنَّ لا تَزْنِ،لا تَقْتُلْ،لا تَسْرِقْ،لا تَشْهَدْ بِالزُّورِ،لا تَشْتَهِ وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَى،هِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي هذِهِ الكَلِمَةِ: أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. اَلْمَحَبَّةُ لا تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ،فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ" (رومية ١٣:‏٨-١٠).أن محبة الله تؤدي إلى محبة خلائقه خصوصاً الإنسان،ثم أن المسيحي الحقيقي يحب الله لأنه يعلم أن الله أحبه أولاً (يوحنا الأولى ٤:‏٩-١١ و١٩ ورومية  ٥:‏٥-٨) ومحبته لله تفطمه عن الاهتمام بلذات هذا العالم السريع الزوال (يوحنا الأولى ٢:‏١٥-١٧) وكلما ازدادت المحبة لله عظم الإقبال على خدمته وازدادت الرغبة في صنع الخير للقريب،  ويعلم المسيحي حينئذ أن الله أبوه السماوي وأنه أحد أولاده في المسيح (يوحنا ١:‏١٢ ويوحنا الأولى ٣:‏١و٢) وتعظم ثقته في الله ويسارع مجاهداً في تمجيده  وإكرامه  فكراً  وقولاً  وعملاً  (مزمور  ٦٣:‏١-٨ ). وإذا جاءه يوماً إبليس ليجربه فيقول له كما قال يوسف في العصور الأولى: "كَيْفَ أَصْنَعُ هذا الشَّرَّ العَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللّهِ؟" (تكوين ٣٩:‏ ٩ ) وكل ما يعمله فلمجد الله ومرضاته لا لمرضاة الناس (كولوسي ٣:‏٢٣). وعلى قدر ما ينمو في محبة الله ومعرفته يزداد في تسبيحه وحمده لأجل خيراته الزمنية وبركاته الروحية التي يغمره بها،وإظهار مشاعر الشكر لا بالكلام فقط بل بالسيرة والعمل (مزمور ٣٤:‏١ وكولوسي ٣:‏١٧ وتسالونيكي الأولى ٥:‏١٥-٢٢).

ومن صفات المسيحي الحقيقي أنه إذا وقع في ضيقة لا يتكل على ذراع البشر بل على الله،كما أنه لا يبالي بإنماء ثروته ولا بإعلاء رتبته،ولا يهتم بزيادة دَخْله بل يصلي لأبيه الذي في السموات أن يبارك أشغاله ويمنحه من الرزق الحلال ما فيه الكفاية لسد أعوازهويشعر باقتناع في قلبه أن أباه السماوي يهتم به (بطرس الأولى ٥:‏٧). ولهذا يلقي عليه همومه بنفس مطمئنة، لأنه يعلم عن ثقة أن الله فتح له كنوزه الروحية في السموات المذخرة في المسيح يسوعويتأكد أن إله كل رحمة لا يمنع عنه خيراً من ضروريات الحياة (مزمور ٢٨:‏٧ ومتى ٦:‏٩-٣٤ وتيموثاوس الأولى ٦:‏٦-١١).

المسيحي الحقيقي حامدٌ شاكر لله على ما منحه من اليُسر والنعم عالماً أن كل عطية صالحة وموهبة تامة نازلة من عنده (يعقوب ١:‏١٧) وهو صبور عندما تمسه الشدائد وتتوالى عليه البلايا والاضطهادات مؤكداً أَنَّ "كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللّهَ" (رومية ٨:‏٢٨) كأنها تلقي على سمعه مناجاة أحد قدماء المسيحيين لنفسه: "يا نفسي،حياة المسيح كانت بجملتها على الصليب وعلى المذبح،وأنت تسعين وراء الراحة والانشراح؟ حاشا وكلا." ويعلم أن أباه السماوي إذا سمح له بتجربة فلكي يُقرِّبه إليه أكثر من ذي قبل،بحيث يقدر أن يفرح ويتبسم وهو رازح تحت عبء الضيقة (رومية ٥:‏٣ و٤ و٥ و١٢:‏١٢) ويقول مع صموئيل النبي "هُوَ الرَّبُّ. مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ يَعْمَلُ" (صموئيل الأول ٣:‏١٨) ذاكراً أنه وإن كان يعيش في العالم فليس من العالم كإبراهيم الذي "كَانَ يَنْتَظِرُ المَدِينَةَ التِي لَهَا الأَسَاسَاتُ،الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللّه" (عبرانيين ١١:‏١٠ وانظر مزمور ٣٧:‏٥ وكورنثوس الثانية ٤:‏ ١٧، ١٨  وعبرانيين ٢:‏٥ و ٦).

المسيحي الحقيقي يعبد الله بإخلاص وحق (يوحنا ٤:‏٢٤) ويشتهي أن يبقى على الدوام شاعراً أنه في حضرة الله،ويأتي إليه كل حين كطفل يأتي إلى أبيه الحبيب عالماً مدى عنايته به. فإن طلب طفل من أبيه شيء يطلبه بأسلوب طبيعي عفوي وليس بكلمات رسمية من الأقوال المرتبة،ومثل ذلك المسيحي إذا طلب من أبيه السماوي شيئاً فليس عليه أن يتلو عبارات معينة،ولا أقوالاً بلغة قديمة مقدسة،لأنه يفهم أن الله مستعد أن يسمع الصلاة أكثر من استعداد المصلي للصلاة،وأن هباته أكثر مما نطلب أو نفتكر الله،وأنه يعلم احتياجنا قبل أن نسأله. وما أقل درايتنا بأحسن الأشياء لنا لذا ينبغي للمصلي إذا طلب شيئاً من متاع الدنيا أن يطلبه تحت هذا الشرط "إن شاءت إرادتك يا رب"، وأما إن طلب طلبة روحية فيطلبها بلا شرط ولا قيد،عالماً أن الأشياء الروحية جميعها صالحة لنفسه وأن الله أعدها له،إن كان إنسان قد وُلد الميلاد الجديد الروحي (يوحنا ٣:‏٣ و٥) واستنار ذهنه بإرشاد روح الله القدوس،لا يصلي فقط بل يرتل لله في قلبه كل حين ويسبحه على جوده وإحسانه،ويثابر على معاشرته،وكل ما يعمله فلمجد اسمه،عالماً أنه فاحص القلوب لا تُخفى عليه خافية،ويجاهد في تذليل كل فكر تحت سلطان محبته، مستودعاً نفسه وأعزاءه بين يدي محبته متلذذاً بالسلام والطمأنينة المظللة على قلبه وروحه (متى ٦:‏٥-١٥ ولوقا ١٨:‏١-٨ ويوحنا ١٦:‏٢٣ وفيلبي ٤:‏٦ و٧ وتسالونيكي الأولى ٥:‏١٧ و١٨ ويوحنا الأولى ٥:‏١٤ و١٥ ويعقوب ١:‏ ٥ - ٨ ).

وفضلاً عن الصلاة الانفرادية فإن أغلب المسيحيين يصلون صلوات أخرى مثل الصلاة المعروفة بالصلاة العائلية،حيث يجمع الرجل زوجته وأولاده حوله ويقرأ لهم شيئاً من الكتاب المقدس ويصلي معهم طالباً المغفرة والبركة من الله على نفسه وعلى أهل بيته، ومثل الصلاة الجمهورية حيث يذهب المسيحي إلى الاجتماع سواء كان في دار اعتيادية أو كنيسة، وخصوصاً في أيام الآحاد،اليوم الذي قام فيه المسيح من الموت،ويتحد مع جمهور العابدين لسماع الإنجيل والوعظ وللصلاة والتسبيح تحت ملاحظة خدام الدين،وهم رجال يدعوهم الله،وهم مدرُّبون على خدمة الإنجيل بنوع خاص. وقد استحسنت بعض الطوائف أن تصلي في أثناء العبادة الجمهورية بصلوات معينة على أمل مساعدة العامة على العبادة،واستحسن البعض الآخر الصلاة الارتجالية، وحيث أن الله يعرف كل اللغات فهي عنده على حد سواء، ولا أفضلية للعبرانية ولا اليونانية على سائر اللغات الأخرى،إنما الواجب أن تكون العبادة بالإخلاص والروح والحق. وكذلك لا فرق بين موضع وآخر لتأدية العبادة، لأن المواضع كلها متساوية عند الله،فلا رسم ولا طقس ولا وضع خصوصي للعبادة إلا أن تكون بالروح والحق كما يعلمنا الإنجيل (يوحنا ٤:‏٢٤).

المسيحي الحقيقي يعتبر كل الناس إخوانه،ويرغب في مصلحة الغير كما يرغب في مصلحة نفسه،ويصنع الخير حسب طاقته مع الجميع في الروحيات والجسديات (متى ٧:‏١٢ و٢٢:‏٣٩ وكورنثوس الأولى ١٠:‏٢٤) لأن المسيح علمه ذلك القانون الذهبي (متى ٧:‏١٢) الذي لو سار بموجبه جميع الناس لأصبحت الأرض سماء،فهو يعامل الآخرين لا كما يعاملونه بل كما يحب أن يعاملوه،فإن كانوا مرضى يزورهم وإن جاعوا يطعمهم،وإن ضلوا عن الله يعلمهم ما علمه المسيح (متى ٢٨:‏١٩ و٢٠) وبالجملة يحب الجميع ولا سيما أهل الإيمان (غلاطية ٦:‏١٠ قارن متى ٢٣:‏٨  ويوحنا ١٣:‏٣٤ و٣٥) بل يحب أعداءه ومضطهديه (متى ٥:‏٤٤ وتسالونيكي الأولى ٣:‏١٢ وبطرس الثانية ١:‏٥-٧) عالماً أن المسيح مات من أجل هؤلاء الأعداء،وقد حدث أن أحد أعداء المسيح أصبح أحب أحبائه لأنه كان ضالاً ووجده الراعي الصالح وخلصه من بين أنياب الذئب (يوحنا ١٠:‏١١-١٦).

تلميذ المسيح الحقيقي صادق ومستقيم ونقي القلب ولطيف (متى ٥:‏٣٧ وأفسس ٤:‏٢٥ ويعقوب ٤:‏١١ و١٢) يسعى جهد طاقته في بث روح الوحدة والوفاق بين الناس (رومية ١٢:‏ ١٨) يرثي للمتضايقين (رومية ١٢:‏١٥ وعبرانيين ١٣:‏١٦) يقابل ما يصيبه من الأذى بالصبر الجميل مفوضاً أمره إلى الله (بشارة متى ١١:‏٢٩ وأفسس ٤:‏٢٥-٣٢). أما إذا رأى الأذى يقع على غيره بغياً وعدواناً فإن الغضب الصالح يشتعل في قلبه ويندفع لإنقاذ المظلوم مهما كلفه ذلك من التضحية، وقد روي عن قوم مسيحيين قبلوا أن يُباعوا كالرقيق حتى يتمكنوا من مؤاساة وتعزية الأنفس الواقعة تحت عبودية قاسية.

المسيحي الحقيقي يعلم أنه خُلق لخدمة الله،وأنه اشتُري بثمن  عظيم  بدم  كريم  دم  المسيح  (كورنثوس الأولى ٦:‏٢٠ و ٧:‏٢٣) وأن جسده هيكل لروح الله القدوس بسبب إيمانه بالمسيح (كورنثوس الأولى ٣:‏١٦ و١٧ و٦:‏١٩) فيأخذ كل حذره حتى لا يدنس ذاته نفساً وروحاً وجسداً بالاستسلام للشهوات الجسدية،ويجاهد بنعمة الله أن يحفظ نفسه طاهراً بلا عيب ولا دنس حتى يحيا بالقداسة (كورنثوس الثانية ٧:‏١ وأفسس ٥:‏٤ ويعقوب ١:‏٢١) ولا يرفض أطعمة قد خلقها الله لتُتناول بالشكر من المؤمنين وعارفي الحق،لأنه منذ تأسيس العهد الجديد أباح الله كل أنواع الأطعمة. وإذ قد استنار ذهنه يحقق وصية سيده:‏ كل ما يدخل الفم لا ينجس الإنسان،بل ينجسه الذي يخرج منه لأنه يصدر عن القلب مثل الأفكار الشريرة والزنى والفسق والقتل (مرقس  ٧:‏١٤-٢٣) وإن كان الطعام مباحاً بأصنافه إلا أن الشَّره والتبذير للمسيحي غير مباحان (كورنثوس الأولى ١٠:‏٣١ قابل رومية  ١٤:‏٢٠ و٢١  وتيموثاوس الأولى ٤:‏٤ و٥)  مثل  المسكرات  والخمور  ( لوقا ٢١:‏٣٤  ورومية ١٣:‏١٣   وكورنثوس الأولى ٥:‏١  و ٦:‏١٠ وغلاطية ٥:‏١ وأفسس ٥ :‏١٨) وكذا التنعمات الرديئة.

المسيحي الحقيقي يُعرض عن كل كلمة وعمل غير لائق ويسعى جهده في مرضاة الله (متى ١٦:‏٢٤ ورومية ٦:‏١١-٢٣ وكورنثوس الأولى ٦:‏١٢-٢٠ وتسالونيكي الأولى ٤:‏٣-٨  وبطرس الأولى ١:‏ ٢٢ )  متقدماً في النعمة وفي معرفة الله بيسوع المسيح ربنا (بطرس الثانية ٣:‏١٨) عالماً أن هذا فقط هو الذخر الباقي والكنز الدائم بخلاف ثروة هذا الدهر ومجده وعظمته التي يطلبها ويجدّ في أثرها أهل الغرور، لأن مصيرها للزوال والتلف (متى ١٦:‏٢٦ وأفسس ١:‏١٥ و ٢  :١٠ وفيلبي ٣:‏٧-١٦).

ومهما تكن أشغاله أو مصلحته يدأب على عمله بأمانة وإتقان حتى يسرّ قلب خالقه وفاديه ويمجد اسمه القدوس،محاذراً من الإهمال والكسل آكلاً خبزه بعرق جبينه، وحسب طاقته يجتنب الديون،معتبراً أن كل ما ملكت يده فللرب إلهه،يتصرف فيه على وفق مشيئته في وجوه الخير والإحسان (متى ٢٥:‏١٤-٣٠ ولوقا ١٩:‏١٢-٢٧ وكولوسي ٣:‏٢٣ و٢٤ وتسالونيكي الأولى ٤:‏١١ و١٢ وتسالونيكي الثانية ٣:‏١٠) وكل ما ازداد في خدمة المسيح بإخلاص واتسعت مداركه في معرفة شخصه العجيب وعظمت محبته له،بحيث لا يفصله عنه أية شدة واضطهاد (رومية ٨:‏٣٥-٣٩) وعلى مدى الأيام يكثر تشبهه واقتداؤه بالمسيح غير مكتف بما هو دون صلاحه وقداسته الكاملة (كورنثوس الثانية ٣:‏١٨ وبطرس الأولى ٢:‏٩). وإذا تصالح مع الله صارت إرادته على وفق إرادة أبيه السماوي،ويفيض قلبه بفرح مقدس لا يُنطق به ومجيد بالرغم من تجارب الحياة وآلامها التي تكتنفه، وفرحه هنا عربون لفرحه الدائم في السماء. وما ذكرناه قليل من كثير من نتائج الإيمان بالمسيح في قلب المؤمن،به يتقدم بشجاعة لإتمام واجباته في ملء الرجاء قائلاً ما قال بولس الرسول "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي المَسِيحِ الذِي يُقَوِّينِي" (فيلبي ٤:‏١٣).

ومما يجب التنبيه إليه أن المسيحي في هذه الحياة الدنيا،وإن صلحت أخلاقه إلى الحد الذي ذكرناه،إلا أنه يزال غير كامل وعرضة لتجارب العالم والجسد وإبليس، وعليه أن يحارب هؤلاء الأعداء ويغلبهم حتى الموت. وأن إبليس مع شدة قوته لا يستطيع أن ينتصر على المؤمن الواثق بالمسيح إلا أن للمؤمن جسداً تحت الآلام كسائر الناس،لكنه يتذكر مرافقة المسيح له ذاك الذي حمل أحزاننا وتحمل أوجاعنا (إشعياء ٥٣:‏٣-٥) وأنه يمكث معه كل الأيام (متى ٢٨:‏٢٠) فتنمو فيه روح الشجاعة والقوة، ويقابل بالصبر الجميل كل ما يسمح به الله أن يجري عليه من صنوف التجارب والبلايا،منتظراً وطناً أفضل بعد القبر (كورنثوس الثانية ٥:‏١-٩ وفيلبي ١:‏٢٣) راجياً قيامة ابتهاج ومجد عندما يأتي المسيح ثانياً بالقوة والسلطان وقد خضع أعداؤه تحت قدميه (يوحنا ٥:‏٢١-٢٩ و٦:‏٤٠ وكورنثوس الأولى ١٥ وفيلبي ٣:‏٢١).

وفي العالم الآتي يعرف المسيحيون الحقيقيون الله كما هو،ويرون مجده وجهاً لوجه،ويسكنون مع المسيح إلى الأبد (متى ٥:‏٨ وكورنثوس الأولى ٢:‏٩ و١٣:‏١٢ ورؤية ٢٢:‏٣ و٤) حينئذ يكملون في القداسة وينالون العصمة من الخطية ويرثون من الفرح والسعادة ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان،يسكنون في نور إحسان الله وبركاته. وكلما جال في قلوبهم هذا الخاطر وهم في الحياة الدنيا وتذكروا نعمة الله المخلِّصة لجميع الناس المؤدية إلى طهارة السيرة والحياة الأبدية،سبَّحوا الله مع رسول الأمم قائلين: "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللّهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ! لأنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟ لأنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ المَجْدُ إِلَى  الأَبَدِ. آمِينَ" (رومية  ١١:‏٣٣-٣٦).

إلى هنا شرحنا ووصفنا كيف يجب على المسيحي أن يكون إذا أطاع وصايا الإنجيل،غير أن إخواننا المسلمين كثيراً ما يغمضون عيونهم عن أخلاق المسيحيين الحقيقيين،ويحتجّون علينا بأخلاق من يلاقونهم من كَفرة الإفرنج محاولين أن يقيموا الحجة والبرهان على أن أثمار الديانة المسيحية لا تختلف عن الأديان الأخرى لأن أصحابها أشرار محبون لذواتهم عالميون فجار. ولو أنهم تأملوا بإمعان لتحققوا أنهم مخطئون في تقريرهم،لأن كثيراً من الإفرنج لم يدّعوا قط أنهم مسيحيون،والقول إن كلمة نصراني وغربي مترادفتان هو خطأ محض. عدا ذلك فإن كثيرين يدَّعون أنهم مسيحيون وهم ليسوا من المسيحية في شيء سوى الاسم والصورة الظاهرة،ولكن ليس الظاهر كالباطن،وإلا لم يكن على الأرض مراءون ومنافقون!

يُعرف المسيحي الحقيقي بسلوكه وطاعته لناموس المسيح،فإن رأينا أحداً يدَّعي أنه مسيحي وهو يخالف وصايا المسيح فهو مرائي ومنافق ويحمل وزر نفسه. فإذا دُعي المسلم إلى الجهاد واندفع إلى ميدان القتال يسفك دماء الأعداء إلى أن مات محاطاً بالقتلى فقد برهن للملأ صحة إسلامه (كما جاء في سورة التوبة ٩:‏١١١). كما أنه إذا دُعي الطبيب المسيحي المرسل إلى مقاومة الطاعون والكوليرا يكافح ذلك العدو الفتاك معرضاً نفسه لخطر الموت لافتداء بني جنسه من كل دين،فهو يبرهن نسبته إلى الديانة المسيحية.  ولكن إذا اقتدى المسلم بالمسيحي بمعالجة المرضى لم يعتبره إخوانه تابعاً لرسول السيف. وإذا اقتدى المسيحي بالمسلم في سفك الدماء لم يعتبره إخوانه تابعا لرسول السلام. فكما أن الشجرة تُعرف من أثمارها يُعرف المسيحي الحقيقي من أعماله،  ونقول كما قلنا إن ادّعى أحدٌ أنه مسيحي وتصرف بالخيانة ضد هذا الدين الصالح،لا يحكم عليه أهل دينه فقط بل نفس الذين يدينون بالإسلام،قائلين: ليس هذا بمسيحي حقيقي،وعليه فقد يشهدون ضمناً بطهارة وقداسة الإيمان المسيحي. قال الرسول يوحنا "مَنْ يَفْعَلُ البِرَّ فَهُوَ بَارٌّ،كَمَا أَنَّ ذَاكَ (المسيح) بَارٌّ. مَنْ يَفْعَلُ الخَطِيَّةَ فَهُوَ مِنْ إِبْلِيسَ،لأنَّ إِبْلِيسَ مِنَ البَدْءِ يُخْطِئُ. لأجْلِ هذا أُظْهِرَ ا بْنُ اللّهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ" (يوحنا الأولى ٣:‏٧ و٨) وعليه فكل احتجاج على المسيحية،بسبب أن بعضاً من المدَّعين بها يسلكون بغير استقامة احتجاج باطل لا يروج لدى أهل العقول الراجحة.

ثم نقول أخيراً أن ألد أعداء الديانة المسيحية يسلّمون أنه يوجد مسيحيون حقيقيون متفرقون في أماكن مختلفة لا ينكر أحد تقواهم وتفانيهم في فعل الخير من رجال ونساء،بعضهم مرسلون وبعضهم صناع وتجار وأصحاب أشغال متنوعة من المهن والحرف الشريفة. وشهدت الأعداء أن لا ديانة أخرى على وجه الأرض تُعد مثل هؤلاء الصالحين. نعم أية ديانة ترسل مرسلين إلى كل أجزاء العالم حتى مجاهل أفريقيا والجزائر البعيدة،منهم المرسلون الأطباء والممرضون لكل أنواع الأمراض؟ أية ديانة تغادر سيداتها الأهل والوطن ويقطعن البحر والبر حتى يخدمن في مستشفيات البرص في بلاد الهند؟ وأية ديانة ضحَّت بالمال والرجال في تحرير العبيد وأعتقتهم من رق العبودية؟

واعلم إن تأثير المسيحية لا يقتصر في تحويل الجفاء والخشونة إلى لطف ومحبة على أمة دون أمة مثل التأثير على الأمم المتمدنة أكثر من الهمجية، كلا! بل تؤثر في الكل على السواء،ففي الهند والصين واليابان ومصر والعجم،وفي أية أمة وبلاد يُكرز بإنجيل المسيح،توجد أمثلة كثيرة لأتقياء المسيحيين رجالاً ونساء،حوَّلهم الإنجيل من قساوة القلب وحياة الإثم والرذيلة إلى مثال التقوى والفضيلة والمحبة، وذلك منذ اعتنقوا المسيحية. وكم منهم احتمل الاضطهاد والتعذيب لأجل خاطر المسيح حتى الموت فأمثال هؤلاء رسائل المسيح الحية المعروفة والمقروءة من جميع الناس (كورنثوس الثانية ٣:‏٢ و٣).

وهنا نعترف أنه لسوء الحظ يوجد بين طوائف النصارى من يقدمون العبادة لبعض القديسين وللعذراء مريم،ويسجدون للصور والتماثيل،إلا أن هذه العبادة محرَّمة بموجب نصوص كثيرة من أسفار العهدين أي التوراة والإنجيل (خروج ٢٠:‏٣-٥ ويوحنا ١٤:‏٦ وتيموثاوس الأولى ٢:‏٥). وكم حذرنا الإنجيل من عبادة الأصنام بما لا يدخل تحت حصر (كورنثوس الأولى ٥:‏١٠ و١١ و٦:‏٩ و١٠:‏٧ و١٤  وغلاطية ٥:‏٢٠  وأفسس ٥:‏٥  وكولوسي ٣:‏٥  وبطرس الأولى ٤:‏٣ ورؤيا يوحنا ٩:‏٢٠ و٢١:‏٨   و٢٢:‏١٥) وقد امتلأت صحائف التوراة من العقوبات التي حاقت بالأمة الإسرائيلية بسبب عبادة الأصنام، وحيث أن الكتاب المقدس ينهى عن هذه العبادة فليس من الصواب أن نتخذها دليلاً للاحتجاج به ضدّ الديانة المسيحية،كما ليس من الصواب أن نتخذ عبادة الأولياء وغيرهم عند بعض المسلمين حجة على الإسلام.

المسيحي الحقيقي هو الذي يقتدي بالمسيح في حياته ويشهد له شهادة ملموسة بارزة من خلال أعماله اليومية،إلا أن الكنيسة المنظورة تشتمل كما قال المسيح على الحنطة والزوان (متى ١٣:‏٢٤-٣٠ و٣٦-٤٣) والعاقل يميز بين الحنطة والزوان، وبين الطيب والخبيث، والعملة المزيفة لا تكون حجة على العملة الحقيقية،والتاجر المدرب يميز هذه من تلك.

الفصل السابع

في خلاصة الأدلة على أن أسفار العهد القديم والعهد الجديد تتضمن الوحي الحقيقي

Yellow Flower

بيّنا في مقدمة الكتاب المقاييس الصحيحة التي نقيس عليها كل كتاب يزعم أصحابه أنه وحي، ونرجو أن يكون قد تحقَّق القارئ النبيل من الفصول المتقدمة أن الكتاب المقدس مستكمل الشروط، ولكن لزيادة الفائدة نتوسع أكثر في هذا البحث ونأتي بالأدلة القاطعة التي لا تدع مجالاً للشك.

(أولاً) يُظهر الإنجيل لنا أن المسيح عاش أقدس حياة وكان أكمل مثال ظهر على الأرض وعاش بين البشر. صحيح أن كل أمة أسهبت في مدح بطلها الديني ورفعت درجته إلى ذروة المجد وأقامت له التماثيل، إلا أن أكثر الحكايات في هذا الموضوع ترجع إلى خرافات عجائزية كما يؤخذ في أساطير الهنود عن أبطالهم مثل "رامة" و "كريشنه"، إلا أن بعض القصص ترجع إلى أصل صحيح، ولكنهم غالوا فيها وبالغوا كما حكوا عن بوذا إله الهنود. ومع ذلك إذا قارنا هؤلاء الأقطاب والأبطال في كل أمة تحت السماء (حتى الذين صوَّرهم الوهم) بالمسيح، لظهر فرق عظيم بينهم وبينه في جميع صفات الخير والكمال. فشتان بينهم وبين المسيح في التواضع والصلاح والنقاوة والعدالة واللطف والمحبة والرحمة والقداسة وسائر الفضائل المعترف بها من جميع الناس، بل قد علا صلاحه وفاق مبالغة الشعراء في مدح أبطالهم. على أن حياة المسيح حقيقية لا ريب فيها كما يقر ويعترف الجميع، فالكتاب الذي سجل هذه الحياة التي لا مثيل لها هو كتاب الله، بمعنى أن الذين عرفوا المسيح وعاشروه واتبعوه وكتبوا سيرته وتعليمه كتبوا ما كتبوا بإلهام الروح القدس كما وعدهم يسوع نفسه (يوحنا ١٦:‏١٢ و١٣) وعصمهم الروح من الخطأ وأمدَّهم بالنور والمعرفة، فجاءت شهادتهم للمسيح طبق الواقع (أعمال الرسل ١:‏٨) سواء كانت شهادتهم قولاً أو كتابة، فالمسيح دليل نفسه.

(ثانياً) إن إعلان الله أو مظهره لا يمكن أن يكون كتاباً، بل يجب أن يكون شخصاً. وحتى تطَّلع الناس على حياته وأعماله وتعليمه يجب أن تُكتب في كتاب تحت إرشاد وهيمنة من هو معصوم من الخطأ ومنزَّه عن الكذب. ومن يطلع على الكتاب المقدس بروح الإخلاص والصلاة تنجلي له الحقيقة، ويجد المسيح الموعود به في التوراة والمسطورة حياته في الإنجيل بأنه "المخلّص" و "كلمة الله" وهو الشخص الوحيد الكفؤ لإعلان الله للناس، وقد أعلنه في صفاته وحياته وسيرته وموته وقيامته وتعليمه ووعوده. وبمقتضى هذا الإعلان الوحيد يحل الإنجيل معضلة الدهور التي لم يستطع كتاب آخر أن يحلها، ألا وهي: كيف يعلن الإله الغير محدود نفسه لمخلوقاته المحدودة؟ هذه معضلة أجهدت الفلاسفة في حلها وأسفر اجتهادهم عن خيبة، حتى أن علماء اليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح عجزوا أيضاً عن الإجابة على هذا السؤال، وكذا عجز علماء الإسلام. ومن أقوالهم في هذا الصدد ما ورد في كتاب ميزان الموازين حيث قال المؤلف: كل مُدرَك لا بد له من وسيلة يُدرَك بها، فيجب أن يكون بين المدرَك والمدرِك صلة توصّله إلى الإدراك. ولما كان الله غيرمحدود وخلائقه محدودة، عُدمت كل علاقة وانقطعت كل صلة بين الطرفين، وعليه لم تكن هناك وسيلة للإنسان أن يدرك الله. ولا يقدر أي مخلوق كائناً ما كان أن يدرك الخالق إلا أن مؤلف ميزان الموازين زعم أنه يوجد مخلوق يُدعى المخلوق الأول هو الحق الأعظم، خليقة الله الوحيدة، وجمال الأزل المطلق والنور الكلي ومظهر الله الكامل. فلما قصد الله أن يخلق الخلق ويعلن لهم ذاته خلق هذا المخلوق الأول، فصار موضوع محبته ومظهر صفاته. وبما أن الله أحبه فقد أحب الله كذلك وهذا المخلوق (على زعم المؤلف) هو الوسيط الأعظم والنبي المطلق، وكل ما حدث من بدء الخليقة وما يحدث إلى المنتهى حدث بواسطته!

هذا الرأي كيفما كان ليس له أصل في الإسلام، وإنما تطرق إليه أصحاب البدع وفلاسفة الوثنيين، ومنهم آريوس الهرطوقي الذي زعم أنه يوجد مخلوق أول خلق الله به العالم، وهكذا زعم ماني الفارسي. إلا أن ماني قال أن الشيطان بعد ذلك خلق الإنسان على صورة المخلوق الأصلي وصورته هو، أي جمع فيه النور الأعظم والظلمة كما في العالم الصغير. وتوجد طائفة يقال لها النحشية أو عبدة الأفاعي أو العرفاء، هؤلاء اعتادوا أن يحترموا الخنثى ويدعونه غير المغلوب، ويزعمون أن معرفته بداية معرفة الله. ومن أقوالهم إن بداية الكمال هي معرفة الإنسان، ونهايته هي معرفة الله، وعندهم أن آدم خُلق على صورة ذلك الإنسان الذي يدعونه الإنسان الأعظم والأكمل. ويزعم قوم من فرق اليهود يدعون "بالقبالاه" أخذوا عن الوثنين أيضاً، كما أخذ عنهم المسلمون، فقالوا إن الله الغير المحدود أراد من الأزل أن يُعرَف، وللوصول لهذا الغرض انبثق منه كائن، ومن ذلك الكائن انبثق كائن آخر وهلم جراً إلى العشرة. ومن هؤلاء العشرة يتألف الإنسان الأصلي ويسمونه بلسانهم (اذام قذمون) أو الإنسان السماوي، ورأسه مؤلفة من الانبثاقات الثلاثة الأولى، وأن آدم (أو الإنسان الترابي) خُلق على صورته بدون وضوح.

غير أن هذه التخمينات مع كونها من مواليد الأوهام لم تمهد السبيل قط إلى حل المعضلة المتقدمة، لأن المخلوق الأول مهما بلغت عظمته وسمت صفاته لا يزال مخلوقاً وبينه وبين الله ما لا يُقاس، وعليه لا يقدر أ ن يدرك الله لأنه لا توجد صلة بين المحدود والغير المحدود (كما قرر مؤلف ميزان الموازين) فضلاً عن أن بدعة المخلوق الأول تؤدي إلى عبادته دون الله، وهذا هو الشرك الذي يقول القرآن إنه خطية لا تُغتفر.

أما الإنجيل فيجيبنا على السؤال الغامض أفضل إجابة بينما الفلاسفة والعلماء عجزوا عن تصور وجود "كلمة الله" الذي هو واحد مع أبيه بالذات (يوحنا ١٠:‏٣٠) وصار واحداً مع الإنسان بتجسده. فالكتاب الذي أظهر لنا هذه الحقيقة يجب أن يكون صادراً عن الله.  فالفرق إذاً بين تعليم المسيحيين وفلاسفة الإسلام في ما تقدم ذكره هو أن أولئك الفلاسفة استنبطوا من عالم الخيال كائناً لا هو إله ولا إنسان وقالوا إنه هو الوسيط بين الله والناس وشفعوا استنباطهم لهذا الكائن بآراء يهودية ووثنية مبنية على الحدس والتخمين. وأما نحن النصارى فنقول إن الوسيط الوحيد بين الله والناس، هو يسوع المسيح الذي هو إنسان تام وإله تام واستندنا في قولنا لا على رأي الفلاسفة ولا المبتدعين، بل على كتاب الله الأمين. ومن المعلوم أن المسيح كائن حقيقي ليس وهميا افترض وجوده للضرورة بل له وجود حقيقي، كما هو مثبوت في الإنجيل والقرآن. هذا الذي أعلن الله لنا بمثال حياته الكاملة في القداسة كما بأقواله وهو الذي قدم لله كفارة عن خطايانا بذبيحة نفسه على الصليب. فإن قارنت بين آرائهم وآرائنا ظهر لك الحق من الباطل وعرفت أي الفريقين المبتدع وأيهم المتبع لتعليم الله على لسان أنبيائه ورسله الذين أوحى إليهم الكتاب بالروح القدس.

(ثالثاً) ومن الأدلة على أن الإنجيل من الله أنه يملأ فراغ النفس من حيث شوقها لمعرفة الله وتبريرها أمامه من تبعة الإثم ومغفرة خطاياها وتطهير القلب والحياة. (١) يخبرنا الإنجيل بقصد الله الأزلي من جهة الإنسان، ويشرح على التوالي السبب الذي من أجله خُلق وكيفية سقوطه في حمأة الخطية وحاجته العظمى إلى القداسة. (٢) يخبرنا كيف نحصل على مغفرة خطايانا بالإيمان بالمسيح وبذلك نتبرر أمام الله. (٣) يخبرنا كيف تطهر قلوبنا بالإيمان بالمسيح وتصبح هيكلاً لسكناه وتتنقى أفكارنا ورغباتنا من الخبائث، وكيف تتشدد عزائمنا في الجهاد ضد الخطية وإبليس كلما عظمت محبتنا له. (٤) ويرينا كيف أننا بالإيمان بالمسيح نصير أولاد الله المختارين وتفيض قلوبنا سلاماً وفرحاً روحياً متوقعين بالتحقيق واليقين وبفارغ الصبر ذلك اليوم السعيد الذي يقوم فيه الأموات وحينئذ نتمتع بالسعادة الدائمة والقداسة الكاملة في حضرة الله. وبالإجمال ما من رغبة روحية تصبو إليها النفس إلا وتتوافر في الإنجيل، لذا هو رسالة الله إلى ابن آدم المسكين.

ومن المحقق الذي دل عليه الاختبار أن كتب أهل الأديان الأخرى لا تؤدي بأصحابها إلى شيء مما ذكرنا، فأي كتاب منها يسكِّن روع الخاطئ من هول الحساب، وأي منها يستميل القلب لمحبة الله وأي منها يكلّف الإنسان بطهارة القلب والحياة ويعدّه لسماء طاهرة لا تدخلها الشهوات ولا تحوم حولها الأدناس يسكن فيها جماعة المخلَّصين الذين نالوا الحرية الكاملة من كل عيب ودنس ونقص إلى غير ذلك مما هو مغاير لطبيعة الله الكلي القداسة.  فهذه الكتب لا تدل على طريق الخلاص من الخطية، ولا إحراز القبول لدى الله، بل تغادر الإنسان بدون أن تروي له غليلاً. نعم قد تأمره بالحج والصوم ونحر الضحايا مما ليس له أقل مساس بنقاوة القلب ولا بإعلان صفات الله، فيصبح المتعبد بها هائماً لا يستقر على حال من القلق منفياً من بيت الآب السماوي.

 (رابعاً) ومن الأدلة على أن الإنجيل من الله هو تجديد القلب والحياة الذي يحصل عليه الذين يقبلون تعليمه ويبتدئ هذا التجديد من الداخل ويمتد إلى الخارج وهو من الأهمية بمكان حتى أنه وُصف بالميلاد الثاني الروحي (يوحنا ٣:‏٣ و٥) ويتم بواسطة عمل روح الله القدوس.

(خامساً) في الكتاب المقدس صفات الله العظمى التي يتشوق الإنسان إلى معرفتها وهو مؤهل لإدراكها إلى حد معلوم وصفات الله الكمالية هي القداسة والمحبة والرحمة والعدل وصفاته الجلالية كالقِدَم والقدرة والحكمة والخلق وحفظ الكون. هذه الصفات وتلك مبينة بمزيد الوضوح. وجاء في الكتاب أن الله أعلن نفسه في المسيح الذي جال يصنع خيراً ولم يصرف أحداً من أمام وجهه خائباً من الذين أتوه طالبين منه المغفرة والمعونة. ومع أنه كان منزهاً عن الخطية إلا أنه أظهر التعاطف نحو الخطاة المعترفين بخطاياهم الخائفين من دينونة اليوم الرهيب ورحمهم. وقد كلفه ذلك تضحية حياته حتى يتهيأ له إنقاذ الذين يؤمنون به من سلطان الخطية ونتائجها المريعة، فلم يخبرنا الكتاب بصفات الله بالكلام والأمثال من أساليب التعبير فقط، بل أظهره لنا بالعيان وجهاً لوجه حتى يراه كل من أراد في حياة يسوع المسيح. وعلى ذلك قوله "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ" (يوحنا ١٤:‏٩) وبهذا الإعلان الوحيد أدركنا أكثر بكثير من غيرنا كم هي مكروهة الخطية في نظر الله القدوس، وأنه بدون قداسة لا  يتمتع  أحد  برؤية  الله (عبرانيين  ١٢:‏١٤) وهاكم فلسفة القدماء والمتأخرين بين أيدي طلبة العلم، فهل رأيتم كتاباً من كتبهم يصف الله بما يصفه به الكتاب المقدس من صفات الكمال؟ أظن لا.  بل أقول حتى الكتب المقتبسة من الكتاب المقدس ضلت ضلالاً بعيداً لأنها فيما هي تعلّم عن وحدة الله فاتها أن تقرر الطريقة الوحيدة التي بها أعلن الله نفسه للناس وتركت بين الخالق والمخلوق هوَّة لا تُعبر مع أن الوصول لله هو بيت القصيد في الدين كله.

(سادساً) إن روحانية الإنجيل أشرف وأنقى وأرفع من أي كتاب آخر وكل المساعي التي بُذلت لإنكار هذه الحقيقة أسفرت عن خيبة. فاستعار بعضهم أقوالاً ماثورة عن فلاسفة الصين والهند واليونان وأرادوا أن يضاهوها بما يقابلها في الإنجيل. ومن أمثلة ذلك علّم المسيح تلاميذه قانوناً ذهبياً "كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ ا فْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ" (متى ٧:‏١٢) وعلّم بعض الفلاسفة في الهند واليونان الصيغة السلبية من هذا القانون الذهبي فقالوا: لا تفعلوا بالآخرين ما لا تريدون أن يفعلوه بكم، ومن يتأمل في القولين يجد الفرق كبيراً. وكذلك كونفوشيوس فيلسوف الصين المشهور ذكر ذلك القانون بالصيغة السلبية مراراً ولم يذكره ولا مرة واحدة بالصيغة الإيجابية، إلا أن حفيده كنغ تشي اقترب إلى الصيغة الإيجابية أكثر منه حيث يقول إن أربعة أشياء ترفع قدر الإنسان لم أظفر بواحد منها بعد إلى أن قال عن الشيء الرابع وددتُ أن أعامل صديقي كما أريد أن يعاملني لكني لم أدرك هذه الغاية. ومع ذلك لا يزال بين قوله وقول المسيح فرق عظيم. لأن المسيح أوجب المعاملة بمقتضى ذلك القانون لكل الناس وأما هذا الفيلسوف فقد حصرها بين الصديق وصديقه فضلاً عن كونه أقرَّ بفشله.

وكثيراً ما اجتهد العلماء أن ينقبوا ويبحثوا في جميع ما وصلت إليه أيديهم من كتب الأديان والحكم والأمثال وجمعوا من الوصايا والشرائع ما قدروا أن يجمعوه، فكانت النتيجة أن وصايا الإنجيل أفضل وأسمى مما استطاعوا أن يجمعوه من كتب العالم كافة. على أن الوصايا التي جمعوها كانت أشبه بكومة زهور ذابلة، أما وصايا الإنجيل فكزهور نضيرة وكجنة فيحاء. أليس هذا وحده دليلاً راهناً أنه موحى به من الله؟ وإلا فكيف استطاع كتبة الإنجيل أن يضمنوه ما أودعته الحكماء والفلاسفة في بطون كتبهم من خالص الوصايا وصميم الشرائع في الهند والصين واليونان ومصر والفرس والرومان في كل زمان ومكان، إلا أن يقال إن الله المحيط بكل شيء أوحى إلى رسله الأطهار بما ليس في استطاعة العلماء أجمع أن ياتوا به؟

وأهم من ذلك لنا في حياة المسيح على الأرض كما دوّنها رسله الأطهار أعظم ناموس وأصلح مثال، فإنه عاش حسبما علّم من الوصايا الذهبية عديمة النظير. وعدا هذا كله فإن الكتب الأخرى وإن تضمنت شيئاً من الوصايا الجيدة لم تخْلُ من التعاليم الخبيثة التي طالما أدت إلى البوار وليس الخالص من الشوائب كالممزوج بها امتزاج السم بالدسم كفخذ الضان الذي قُدِّم لمحمد وأصحابه بعد واقعة خيبر فهو طعام شهي لكنه موت زؤام. وأما الإنجيل فلا يحمل بين دفتيه إلا الصلاح المحض.

بقي علينا أن نقول إن الإنجيل لا يأمر بالصلاح ويدع الإنسان وشأنه بل يمنحه القوة التي تدفعه إلى العمل. ما هي تلك القوة العجيبة؟ إنها المحبة للمسيح وهي قوة لا توجد إلا في الإنجيل. سأل تلميذ مسيحي أحد علماء الهند البوذيين فقال: إنك قرأت الكتاب المقدس وقرأت كتبكم فماذا وجدت؟ قال: وجدت مشاعر شريفة في كل من كتبكم وكتبنا إلا أن الفرق عظيم وهو أنكم معاشر النصارى تعرفون الواجب ولكم من القوة ما يؤّهلكم للعمل. أما نحن فنعرف الواجب ولكننا غير قادرين على القيام به. فمثل الأديان الأخرى مثل قوم مدوا سكة حديد ولكن ليس لهم القوة المحركة وأما الديانة المسيحية ففضلاً عن كونها مدّت سكة أقوم سبيلاً ففيها القوة المحركة التي تحرك الطالب إلى السير وتلك القوة هي المسيح. والفرق جوهري وعظيم. ولا يبرح من ذهن القارئ الكريم أن فيلسوف الصين لم يذكر اسم الله في جميع مؤلفاته إلا مرة واحدة وتلك المرة ليست من كلامه بل مقتبسة، فهو ليس من رجال الدين بالمرة.

(سابعاً) ومن الأدلة على أن الكتاب المقدس موحى به إتمام النبوات المتضمنة فيه مما ليس له نظير في كتب الأديان الأخرى، فإنه عدا النبوات الكثيرة الواردة في أسفار العهد القديم بشأن المسيح وتمت فيه كما هو مقرر في أسفار العهد الجديد، قد وردت نبوات أخرى ليست أقل من الأولى. سأل ملك من ملوك بروسيا مسيحياً:‏ هل تقدر أن تبرهن على وحي الكتاب بكلمتين؟ أجاب: "اليهود يا مولاي." إن النبوات التي وردت في الكتاب عما يصيبهم تحققت كما تشاهد أحوالهم اليوم، ومن أمثلة ذلك ما ورد في (تثنية ٢٨:‏١٥-٢٨ ومتى ٢٤:‏٣-٢٨ ومرقس ١٣:‏١-٢٣ ولوقا ٢١:‏٥-٢٤) وكما تمت النبوات الأخرى المنذرة بخراب نينوى وبابل وكثير من المدن العظيمة، وعدا ذلك تنبأ دانيال النبي قبل ملك الاسكندر بزمن طويل عن انتصاره على مادي وفارس وانقلابهما (دانيال ٨:‏٣-٢٧) وعن انقسام مملكة الإسكندر من بعد موته، وقد حقق التاريخ ذلك. ثم تنبأ الإنجيل عن امتداد الديانة المسيحية وما يلحقها من الاضطهادات، كما تنبأ عن قيام الأنبياء الكذبة والارتداد عن الإيمان وسريان الإلحاد والكفر في الأيام الأخيرة.  وكل ذلك تحقق كما هو مشاهد بالعيان، فليس سوى الله علام الغيوب الذي سبق وأنبأ بهذه الأمور على ألسنة كتبة الأسفار المقدسة.

(ثامناً) ومن الأدلة على وحي الكتاب المعجزات التي أتى بها المسيح ورسله، ومن أهمها قيامة المسيح من الموت بعد ثلاثة أيام في القبر مما يؤيد دعواه أنه مخلّص وكلمة الله.

(تاسعاً)  يظهر حق الإنجيل من انتشار المسيحية في العصور الأولى وغلبتها على وسائل التدمير التي أثارها عليها إبليس والأشرار (متى ١٦:‏١٨) ولا تزال رافعة أعلام النصر إلى عصرنا الحاضر. والعجب العجاب أنها انتشرت وغلبت بدون وسائط بشرية لأن الرجال الذين وكلت إليهم الكرازة بالإنجيل كانوا فقراء مالاً وعلماً وكرزوا بما يخالف رغبات الناس وميولهم وعاداتهم وبما هو بعيد عن عقولهم وتصوراتهم واشترطوا على الذين يقبلون كرازتهم أن يقبلوا الاضطهاد من الأعداء مهما اشتدت وطأته حتى الموت الأليم بدون أن ينتقموا لأنفسهم أو يطلبوا النقمة من الله على مضطهديهم، بل الأحرى يباركوهم ويدعوا لهم بالدعوات الصالحات (أعمال الرسل ٧:‏٦٠) فمن كان يظن أن ديانة كهذه يروج سوقها في هذا العالم الأثيم ولكن بما أنها من عند الله راجت بالرغم عن سهام الأعداء الملتهبة حتى أنه لم يمض عليها بضعة قرون حتى امتدت إلى كل جهات العالم وقلبت كيان الوثنية رأساً على عقب في سوريا ومصر وآسيا الصغرى واليونان والرومان إلى غير ذلك من البلدان المشهورة، بدون سيف ولا إكراه، بل بالإيمان واللطف والمحبة والشجاعة الأدبية والأمانة حتى موت الاستشهاد مع الكرازة ببساطة الإنجيل. ألا يدل ذلك على أن روح الله القدوس أيد المسيحيين الحقيقيين ووهبهم صبراً وشجاعة حتى شهدوا لسيدهم واستمالوا قلوب الأعداء وربحوهم للإيمان بالمسيح إلى أن صاروا له جنوداً وأعواناً. نعم إننا لا ننكر أن بعض الأديان الأخرى انتشرت ولكن بالترغيب والتهديد العاجلين والآجلين مثل أن يأتي الداعون البلاد يحملون في اليد الواحدة الكتاب الذي يدعون إليه وفي اليد الأخرى السيف. ولست أخالك تجهل أن السيف عند الكثيرين برهان قاطع حتى قالوا إنه أصدق أنباءً من الكتب. وأما الترغيب مثل أن يرغبوا الناس بتعدد الزوجات وتبديلهن من حين إلى حين بما لذ وطاب في هذه الحياة الدنيا وتعليق رجائهم في الحياة الأخرى بزوجات أكثر وجمال رائع فتان. فإن انتشرت ديانة بمثل هذه الوسائل لا يكون انتشارها دليلاً على أنها من عند الله لأن الله قدوس يبغض الشر ويمقت الفجور والبغي والبهتان فشتان بين المسيحية وبين الأديان الأخرى.

فإن قِسْت الكتاب المقدس على الشروط التي نتوقعها بالبداهة في الوحي الحقيقي حسبما ذكرنا في المقدمة نجدها متوفرة فيه بحيث لا نتردد في الجزم بأنه موحى به من الله وخصوصاً لأنه يشهد من أوله إلى آخره للمسيح كلمة الله، أي مظهره الكامل الحقيقي.

الفصل الثامن

في الكيفية التي انتصرت بها الديانة المسيحية في القرون الأولى

توابل من الوطن العربي
توابل من الوطن العربي

لما بدأ المسيح يكرز بالإنجيل اختار من بين أتباعه اثني عشر رجلاً علّمهم الحق ودرّبهم على التبشير، وكان هو الحق، فبمجرد وجودهم معه ومعاينتهم أعماله ومعجزاته وسماعهم أقواله وتعاليمه عرفوا الحق بمعنى أنهم عرفوا الله في شخص المسيح بأنه الآب السماوي القدوس الصالح (يوحنا ١٤:‏٦-١٠ و١٧:‏٣) ودعاهم رسلاً (لوقا ٦:‏١٣) لأنه قصد أن يرسلهم إلى العالم قارن سورة الصف ٦١:‏١٤.  ثم لما أكمل عمله وقام من بين الأموات وكان على وشك الصعود سلّم إليهم مأمورية الكرازة، ووكل إليهم أن يتلمذوا جميع الأمم (متى ٢٨:‏١٩) ويشهدوا له إلى أقصى الأرض (أعمال الرسل ١:‏٨). ولما كان الإنسان ضعيفاً ومعرضاً للزلل أمرهم أن يمكثوا في أورشليم حتى يرسل إليهم الروح القدس يقوّيهم ويذكّرهم بالحق ويعصمهم من الخطأ في تبليغ الرسالة، ويعدّ لهم القلوب، ووعدهم بأنه يرسله بعد أيام قليلة (أعمال الرسل ١:‏٥ ويوحنا ١٤:‏١٦ و١٧ و٢٦ و١٥:‏٢٦ و١٦:‏٧-١٥ وأعمال الرسل ١:‏٤ و٨). وامتثالاً لأمره (لوقا ٢٤:‏٤٩ وأعمال الرسل ١:‏٥) مكثوا في أورشليم منتظرين إتمام الوعد، ففي ختام خمسين يوماً من قيامته أو عشرة أيام من صعوده كانت الرسل مع جماعة من المؤمنين يبلغ عددهم جميعاً مائة وعشرين يصلّون ويسبحون الله، وإذا بصوت كما من هبوب ريح عاصفة ملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدءوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (انظر أعمال الرسل ٢:‏١-١٣) ومن ذلك الوقت ملأهم الروح القدس بالمحبة والإيمان والغيرة الصالحة والشجاعة ومعرفة الحق (يوحنا ١٤:‏٢٦ و١٦:‏١٣) الذي أراد الله أن يعلنه لهم وأن يبلغوه للعالم. ومما يدل على صدق إرسالهم إلى العالم أنه وهب لهم أن يتكلموا بألسنة أخرى (أعمال الرسل ٢:‏٤) ومن ذلك الوقت لم نسمع أبداً أنهم بشروا في بلاد أجنبية بعد درس لغاتها، لأن الله تعالى أعطاهم قوة التكلم بالألسنة كعلامة على أن روح الله يعينهم على الكرازة بأية لغة أينما ذهبوا، وأن بعضاً من الرسل إن لم نقُل كلهم أيدهم الله بالمعجزات الباهرة في شفاء المرضى وإقامة الموتى كمعجزات سيدهم (أعمال الرسل ٢:‏٤٣ و٣:‏١-١١ و٥:‏١٢-١٦ و٨:‏١٧ و٩:‏٣١-٤٣) إلا أنهم عملوا هذه المعجزات باسم المسيح وليس بقوتهم ولا تقواهم (أعمال الرسل ٣:‏٦ و١٦).

وبعد ذلك ببضعة سنوات اهتدى بولس إلى الإيمان بالمسيح بمعجزة عجيبة (أعمال الرسل الإصحاح ٨) وبعثه المسيح رسولاً وأيده بالمعجزات كباقي الرسل (أعمال الرسل ١٤:‏٨-١٠ و١٩:‏٦ و١١ و١٢ و٢٠:‏٩ و١٠ و٢٨:‏٨ و٩) ومما يجب ملاحظته أن المعجزات أُعطيت في بداءة الديانة المسيحية إلى زمن معين لأجل تأييدها إلى آخر زمان الرسل، ولو كانت استمرت المعجزات كل الزمان إلى العصر الحاضر لأصبحت اعتيادية وفقدت ما لها من السلطان في تأييد جماعة الرسل في ما كتبوه من الأسفار المقدسة وما كرزوا به. ولذا أيد الله بها المؤسسين الأولين لتثبيت الإيمان وتشجيعهم على احتمال عذاب الاضطهاد (عبرانيين ٢:‏٤) ولم نقرأ قط لا عن المسيح ولا عن رسله أنهم عملوا المعجزات لإقناع غير المؤمنين وحملهم إلى الإيمان.

وساعد الروح القدس الرسل في مناداتهم بالإنجيل وكتاباتهم، وعصمهم من الخطأ، وأرشدهم إلى الحق الذي أراد الله إعلانه للناس، فما كرزوا به وما كتبوه ليس كلامهم بل كلام المسيح ( مرقس ١٣:‏ ١١  ويوحنا ١٤:‏٢٦ ورومية ١٥:‏١٨ و١٩ وكورنثوس الأولى ٢:‏١٢ و١٣ وتسالونيكي الأولى ٢:‏١٣). فمن قَبِلهم قَبِل المسيح ومن رفضهم رفض المسيح، وعلى ذلك قوله: "اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي، وَالَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي، وَالَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ الذِي أَرْسَلَنِي" (لوقا ١٠:‏١٦) وعليه فجماعة الرسل صادقون في دعواهم بالرسالة من الله (كورنثوس الأولى ١:‏١ وغلاطية ١:‏١ وبطرس الأولى ١:‏١).

ثم أن قوة الله وفاعلية الحياة المقدسة التي عاشها المسيح على الأرض ظهرت تمام الظهور بكرازة الرسل، لأنه لم يمض وقت طويل حتى أن ألوفاً كثيرة من اليهود بل من نفس الكهنة اعتنقوا المسيحية (أعمال الرسل ٢:‏٤١ و٤:‏٤ و٦:‏٧ و٢١:‏٢٠) وكذلك آمن من الأمم جماهير كثيرة انتقلوا من الظلمة إلى النور ومن ملكوت الشيطان إلى حرية مجد أولاد الله، ومن عبادة الأوثان إلى عبادة الله الحي (تسالونيكي الأولى ١:‏٩).

ولم تُذكر معجزات العهد الجديد التي أتى بها الرسل في أسفارهم وفي مؤلفات المسيحيين الأولين فقط، بل شهد لها اليهود كما جاء في تلمودهم، إلا أن كتبتهم المتأخرين نسبوا معجزات المسيح إلى السِّحر، وكذلك شهد لسرعة انتشار الديانة المسيحية عدد ليس بقليل من كتبة الوثنيين، منهم بليني وتاسيتوس وسلسوس والأمبراطور يوليان المرتد، وقد اتخذ الأعداء كل وسيلة لمحو آثار المسيحية عن وجه الأرض ولكنها بالرغم عن ذلك ثبتت أمام الاضطهادات.

ينكر بعض إخواننا المسلمين على تلاميذ المسيح لقب الرسول، ولكن بإنكارهم ذلك يُظهرون عدم اطلاعهم على نفس كتابهم الذي يدعوهم في سورة آل عمران ٣:‏٥٢ والمائدة ٥:‏١١٤ والصف ١٦:‏١٤ الحواريين. وأجمع العلماء أن هذه الكلمة حبشية الأصل ومعناها رسول، وفي نسخة العهد الجديد الحبشية وردت كلمة الحواريين موضع كلمة رسل (انظر لوقا ٦:‏١٣) وهي مشتقة من كلمة تفيد باللغة العربية معنى ارسل ولذلك لا مسلم حريص على كرامة القرآن يتجاسر أن ينكر أن تلاميذ المسيح رسل أو أن المسيح لم يُصِبْ في تسميتهم بهذا الاسم، وأن بولس تعيّن رسولاً أيضاً بعد تعيين الرسل الأولين بمدة وجيزة حينما ظهر له المسيح من السماء وهو مسافر إلى  دمشق  ودعاه  أولاً  إلى  الإيمان  ثم  بعثه  رسولاً ( أعمال الرسل ٩:‏١-٣٠ و٢٢:‏٢١  ورومية ١١:‏١٣ وكورنثوس الثانية ١٢:‏١٢ وتيموثاوس الأولى ٢:‏٧) وعدا ذلك فإن نجاح الرسل في نشر بشرى الخلاص دليل على صحة رسالتهم، لأنه ظهر ختم الله على أعمالهم.

ومن المعلوم أن المسيح نهى عن الجهاد بالأسلحة الجسدية لنشر الدين، واعتبره جرماً عظيماً، وعلى ذلك قوله لبطرس حالما استل سيفه ليدافع عنه "رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأنَّ كُلَّ الذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ" (متى ٢٦:‏٥٢). أيضاً يكره المسيح الرّياء، وفي الجهاد بالسلاح يضطر البعض إلى اعتناق الدين خوفاً من الموت أو الاضطهاد، وهذا عين الرياء والنفاق. فإذاً لا يقدر السيف أن يصيّر الإنسان مسيحياً،كما أنه ليس بالسيف انتشرت الديانة المسيحية في القرون الأولى، وحتى في عصرنا الحاضر الذي رجحت فيه قوة النصارى على العالم أجمع لا تجبر المسيحية رعاياها المسلمين أو الوثنيين على اعتناق ديانتها بالسيف ولا بما هو دونه من وسائل الإجبار، بل تتركهم وشأنهم يبتغون الدين الذي يصادف استحسانهم، لأنهم يعلمون أن الإيمان الحقيقي لا يمكن أن يكون بالإلزام والضغط. وعليه فكل دين ينتشر بالإكراه ليس بحق، وبالتالي ليس من عند الله، وفضلاً عن أن السيف لم يستخدم قط لصالح المسيحيين فإنه استخدم لمقاومتهم واضطهادهم أكثر من أي دين آخر على وجه الأرض، فإن أكثر رسل المسيح استُشهدوا في ختام حياتهم بعدما عانوا أتعاباً وضيقات تفوق الوصف في خدمة الإنجيل، وأوصوا أتباعهم بالصبر في احتمال أنواع العذاب حباً بالمسيح وعمل السيف فيهم وعملت النار مما أدهش مضطهديهم واستمال قلوب أعدائهم فانجذبوا إلى المسيح حتى قال كبريانوس إن دماء الشهداء بذار الكنيسة، وبات قوله مثلاً مضروباً، وليس بالفصاحة والبلاغة جُذب الناس إلى الإيمان، بل بالعكس كانت كرازتهم بسيطة معنى ولفظاً (كورنثوس الأولى ٢:‏١-٥ و١٢ و١٣).

ولما كتبوا البشائر والرسائل - التي أطلق عليها الإنجيل - بإلهام الروح القدس، لم يستعملوا لغة عالية لا يفهمها إلا الراسخون في العلم، بل كتبوا ما كتبوه بأبسط العبارات مما يستطيع أن يفهمه الجمهور بغير عناء ليحصلوا من أقرب طريق على رحمة الله ونعمته ومحبته وصلاحه وحكمته، فتُستأثر قلوبُهم إلى الخلاص. والحق يُقال إن كلام الله ينبغي أن يكون من النوع البسيط قريب التناول حتى ينتفع به السواد الأعظم من الناس الذين لا يفهمون إلا قليلاً، وهم عند الله كالعلماء، لأنه ليس عند الله محاباة (مزمور ١٤٥:‏٩). وربما لأجل هذا السبب كتب الفيلسوف العظيم أفلاطون رسائل سقراط بلغة عصره المتداولة حتى يفهمها كل من يطلع عليها.

ثم أن الإنجيل لا يشجع أحداً على إشباع شهواته البهيمية، ولا يوهمه أنه بمجرد اعترافه بالمسيحية ينجو من عقاب الدنيا والآخرة مع إصراره على خطاياه (متى ١:‏٢١ ويوحنا ٨:‏٣٤ ورومية ٦:‏١ و٢ و١١ و١٥-٢٣). ووصف طريق الخلاص بأنها ليست واسعة يعبر فيها الإنسان وخطاياه معه، بل ضيّقة لا تسع إلا الإنسان وحده (متى ٧:‏١٣ و١٤) وعلَّم المسيح ورسله جماعة المؤمنين أن ارتكاب الخطية عبودية لإبليس، وأنه مستعد أن يمنح الحرية الحقيقية من نيرها الثقيل ومن نير الأهواء الجسدية والشهوات الرديئة، ومن ذلك قول الرسول بطرس "أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الجَسَدِيَّةِ التِي تُحَارِبُ النَّفْسَ" (بطرس الأولى ٢:‏ ١١، ١٢)، وأن يكونوا جنوداً أمناء للمسيح مستعدين أن يقدموا حياتهم، وذلك أولى من أن يرجعوا إلى عبودية إبليس وعبادة الأصنام.

ولم يشتغل الرسل بين المتمدنين فقط، بل اشتغلوا في كل البلاد المعروفة في عصرهم مثل مصر والشام ومكدونية وإيطاليا وغيرها، وظهرت نعمة الله للعيان في تحويل الأشرار إلى صالحين.

ومن العصر الرسولي ابتدأت المجامع المسيحية تنعقد في كثير من المدن الشهيرة، مثل سوريا ومصر وآسيا الصغرى واليونان ومكدونيا وإيطاليا. ولو أن المسيحية ابتدأت أولاً بين اليهود في أرضهم لكنها لم تلبث طويلاً حتى انتشرت بين أمم الأرض كافة، وكان اليهود يسافرون ويتاجرون في جهات الأرض المعروفة حينئذ، فكان المهتدون منهم يبثون في الحل والترحال بشرى الخلاص، وأما اليهود الذين لم يؤمنوا فكانوا أول المقاومين والمعذبين للذين آمنوا، ثم نسج على منوالهم بعد ذلك الوثنيون، وأخذوا يضطهدون المسيحيين بقساوة بربرية، ولكن بالرغم من هذا الاضطهاد تقدمت النصرانية إلى أقصى أطراف المسكونة بوسائل صالحة، كالكرازة والصبر والمحبة واللطف وفعل الخير، فخشي أباطرة الرومان من سطوة الإنجيل على الوثنية التي يدينون بها، فأثاروا على المسيحيين اضطهادات عنيفة وابتدأت هذه النكبات في زمن الملك نيرون، الذي يُقال إنه هو الذي أعدم الرسولين بطرس وبولس، وأحرق جماهير من النصارى أحياء وجعل من أبدانهم مصابيح ومشاعل لإنارة بساتين قصره ليلاً، وكان الرومان في ذلك الوقت بلا دين، غير أنهم كانوا يتعبدون لملوكهم وسعوا جهد استطاعتهم أن يستميلوا مواطنيهم المسيحيين إلى تلك العبادة المحرمة فلم يفلحوا، فهجموا عليهم وساقوهم إلى قبورهم بميتات شنيعة كسوقهم إلى الوحوش في ملاعب روما، واستولوا على أملاكهم، وتكررت هذه الكوارث من حين إلى آخر في كل أنحاء المملكة الرومانية مدة ثلاثة قرون.

وهذه المملكة كانت تمتد من اسكتلندا غرباً إلى خليج العجم شرقاً، رافعة أعلامها على شمال أفريقيا ومصر وفلسطين وسوريا وآسيا الصغرى وتركيا في أوروبا وفرنسا وألمانيا والنمسا وأسبانيا والبرتغال وبريطانيا. ومع أنها بلغت إلى هذا الحد من العظمة وضخامة الملك فما استطاعت بكل سلطانها أن تزعزع أساس الكنيسة المسيحية التي ثبتت أمام هجماتها الرهيبة كالجبل الراسي، لأن ذراع القدير كان يحميها، وحقَّت عليها نبوة المسيح: "عَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا" (متى ١٦:‏١٨) وفضلاً عن كونها لم تتزعزع فإنها امتدت وأزهرت في وسط هذه البلايا، إلى أن تحولت معابد الأوثان في كثير من الجهات إلى كنائس مسيحية. ومع أن النصارى غلبوا بصبرهم ولطفهم حتى عظمت طائفتهم، إلا أنهم لم يقاوموا مضطهديهم ولم يرفعوا في وجوههم سلاحاً لا هجوماً ولا دفاعاً، سوى سلاح الصبر والتسليم لله، حتى يأتيهم الفرج من عنده.

وفي سنة ٣١٤ للميلاد اعتنق الملك قسطنطين المسيحية، ولكنه لم يتعمد إلا بعد سنين كثيرة من ذلك التاريخ، وحينئذ نجا المسيحيون من الاضطهاد، بل علت منزلتهم لدى الهيئة الحاكمة. وقد زَّين هذا لكثير من الناس أن يتنصروا أفواجاً أفواجاً بدون توبة ولا تجديد ولا تعليم، فأدخلوا معهم إلى الكنيسة آراء كثيرة وثنية، ودبَّ في النصارى روح الإهمال في مطالعة الأسفار المقدسة، وانحرفوا إلى إكرام القديسين، وفترت محبتهم بعضهم لبعض، وأخذت العبادة المسيحية تتميز في الطقوس والرسوم الكنائسية، وفقدت الكثير من روحانيتها ونقاوتها الأولى، وراجت سوق الرياء وكثرت البدع، وعوض أن يحب أولئك النصارى بعضهم بعضاً كما أوصاهم الإنجيل أخذوا يتجادلون ويتباحثون في المواضيع التافهة، حتى سوَّلت لهم نفوسهم أن يضطهدوا بعضهم بعضاً. فانحدر جمهور منهم في وهدة الخطية وتعبَّد آخرون لمريم العذراء والقديسين والتماثيل، وهيجت هذه الأعمال عليهم غضب الله، حتى أنه كما سلط على اليهود لأجل تمردهم وعصيانهم ملوك بابل وأشور واليونان والرومان، هكذا سلط على النصارى لأجل تأديبهم العرب خصوصاً في بلاد الشرق (رؤيا يوحنا ٩:‏٢٠ و٢١) وأما الآن فكثير من الكنائس الشرقية استنارت ورفضت عبادة الصور والتماثيل، وأقبلت تطالع الأسفار المقدسة وتسير بموجبها حسب إرشاد الروح القدس، وقامت طائفة منهم تكرز بالإنجيل للمسلمين، وأخيراً نقول إن المسيحيين على اختلاف مذاهبهم يؤمنون بالكتاب المقدس، ويعتقدون بالمسيح كلمة الله، ويتكلون على كفارته التي قدمها على الصليب لأجل خطايا العالم. فليرتض الله إله كل رحمة أن ينير أذهان القراء الكرام حتى يشتركوا معنا في هذا الخلاص المجيد المقدم مجاناً للعالم أجمع بالمسيح يسوع الحي.

ميزانُ الحَق

كيفَ نعرفُ الدّيـــنَ الحَـــقَّ؟

How can we know the real Religion?

الجزء الثالث

الدكتــور فــاندر

Dr. Carl Pfander

(Arabic)

الباب الثالث

بحث بإخلاص في دعوى أن دين الإسلام دين الله الأبدي

الفصل الأول

في إيضاح سبب البحث

المتحف المصري
المتحف المصري

اسمح لي أيها القارئ الكريم أن أقص عليك حادثة: منذ سنين كثيرة سافر إلى شيراز (من أمهات مدن الفرس) تاجر مسيحي يحمل بين يديه تجارة لا يقدر ثمنها ألا وهي نسخ من كلام الله أي كتاب أهل الكتاب الذي يشهد له القرآن كما شرحنا في ما تقدم. ومن العجيب أنه حالما اطلع الأهالي على تجارته أثار عليه المشائخ زمرة من الرعاع فأوسعوه ضرباً ومزقوا كتبه وداسوها بالأقدام وأخرجوا الرجل خارج المدينة وتهددوه بالقتل إن عاد بمثل هذه الكتب، لقد عملوا به ما عمله الكرامون في العبيد الذين أوفدهم سيدهم ليأتوا بثمر الكرم (متى ٢١:‏٣٣-٤٤) فكيف والحالة هذه يقولون بملء أفواههم قُولُوا "آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (سورة البقرة ٢:‏١٣٦) ومن جملة الذين شاهدوا هذه الحادثة صبي من أهل تلك البلاد فأخذه العجب والحيرة من أولئك المشايخ الذين حرضوا على إتلاف كتب يقول القرآن أنها منزلة من عند الله وأنه مصدق لها ومهيمن عليها ولما فكر لحظة قال في نفسه لعلها تشتمل على أمور يخشى منها ساداتنا العلماء على ثبات القرآن وأقلق هذا الفكر باله إذ كان متمسكاً بأذيال دينه واجتهد أن يتخلص من هذا الفكر ويريح قلبه من العناء. وحدث أنه لما شب صمم أن يقف على البينات التي تؤيد الإسلام ليستريح من الشكوك التي أزعجته حيناً من الدهر. وكان على مقربة من شيراز يسكن عالم حاز شهرة كبيرة في حرصه على مناسك دينه مثل إقامة الصلاة وتلاوة القرآن وصيام رمضان الخ فأتى إليه صاحبنا ابتغاء الاستفادة منه والوقوف على جلية الأمر وأخفى ما في نفسه من الشكوك خوفاً منه. وبعد عبارات الإكرام قال له إنني يا مولاي قابلت بالأمس يهودياً واجتهدت أن أبرهن له صحة دين الإسلام لأجتذبه إليه فسمع لي كل ما قلته لإثبات رسالة نبينا ولم يقتنع فهل يتكرم مولاي بسرد البراهين التي يجب أن أقولها له:‏ فالتفت إليه العالم عابساً وقال الأرجح عندي أنك كافر فخاف الغلام وسافر إلى بومباي ، وحالما تيسر له الأمر استعار نسخة من الإنجيل وقرأها بتأمل رجاء أن يعثر على الشيء الذي أزعج المشائخ حتى حرضوا على إتلافه. يُقال أن أشد التعذيب وقعاً على النفس بعد تبكيت الضمير هو ارتياب المرء في الدين الذي نشأ فيه، فضلاً عن كون الشك يضعف عزيمة الإنسان عن تأدية الواجب ويخيب رجاءه في الحياة الأخرى ويعرضه لتجارب إبليس إلا أن الله سبحانه وتعالى سمح أن تختلف الأديان وتتضاد حتى يتزكى المفكرون طلاب الحقيقة ويظهر الحريص من المتهاون فالواحد لا يبالي والآخر يحصر فكره في الموضوع باحثاً عن الأدلة التي تؤيد دينه ولولا الاهتمام بالسؤال والبحث ما غير أحد دينه سواء أكان حقاً أو باطلاً. ومن هنا تظهر ضرورة فحص أركان الدين والوقوف على صحيحه من فاسده، والضمانة الوحيدة للسلامة من الضلالة في البحث هو أن يبحث طالب الحقيقة بروح التواضع والإخلاص جاداً في طلب مرضاة الله مبتهلاً إليه أن يمده بهدايته بنور من السماء ليعرف الحق من الباطل ويسلك في الحق كبني النور. فإذا كان من بعد البحث بهذه الكيفية يظهر لك أن دينك حق تنتفي من قلبك الشكوك إلى الأبد وتفيض نفسك حمداً لله لأجل توفيقه لك بالهدى ثم تقبل إلى بني جنسك ترشدهم بما فتح الله عليك شارحاً لهم طريق الخلاص. ولكن إذا اتضح لك بعد التأمل أن دينك باطل والشكوك التي خالجت قلبك مبنية على براهين مثبتة فما أجدى بك أن تطرح من وراء ظهرك هذا الدين الباطل وتجدّ في طلب الحق لتفوز برضوان الله والحياة الأبدية. وعلى كل حال فلا ضرر من البحث بإخلاص وتدقيق في أصول الإيمان وإنما الضرر هو أنه إذا فطن الباحث إلى موضع الخلل في دينه لا يقوى على عواطفه فيخدع نفسه ويتعامى عنه. نعم إن في هذا الطامة الكبرى إذ تتوالى عليه الشكوك ويقع أخيراً في شرك الكفر ويموت بلا إله وبلا رجاء فما أحسن البحث بإخلاص وجد كما في المثل المشهور من طلب شيئاً وجدّ وجد ومن قرع باباً ولجّ ولج.

فهلموا بنا معاشر الإسلام نبحث معاً نابذين التعصب جانباً في الأصول المبني عليها دينكم ونعرضه على القاعدة التي قدمناها في الجزئيين الأولين من كتابنا وعرضنا عليها الديانة المسيحية.

فنقول أن الركن الأول الذي بُني عليه الإسلام هو الشهادتان أما الشهادة الأولى فمقبولة عند اليهود والمسيحيين كما هي مقبولة عند المسلمين أنفسهم وهي لا إله إلا الله وقد شرحنا هذه الكلمة في كتابنا وأن الأدلة على وجود الله ووحدانيته كثيرة ووردت في كتب متعددة عدا عن إمكانية الاستدلال عليها من الخليقة، وعليه فلا حاجة بنا إلى مزاولة البحث في ما نحن متفقون عليه. الله سبحانه عز وجل قد أقام الدليل على وجوده ووحدته في كل ورقة نبات وزهرة بل في ضمائرنا ووجداننا وفي وحدة نظام الكون والحقيقة أنه توجد ألوف من الأدلة على صحة الشهادة الأولى.

أما الشهادة الثانية ألا وهي أن محمداً رسول الله فعليها مدار بحثنا فما هي الأدلة يا ترى على صحة رسالة محمد؟ أشار إخواننا المسلمون إلى جملة أدلة أهمها ما يأتي:

(١) قالوا أن أسفار العهد القديم والعهد الجديد تنبأت عنه،

(٢) قالوا أن لغة القرآن وتعاليمه ليس له نظير في كل الكتب وعليه فالقرآن بمفرده هو الدليل الأعظم على صدق دعوى محمد،

(٣) آيات محمد ومعجزاته كختم الله على رسالته،

(٤) حياته وأخلاقه برهان على أنه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين،

(٥) سرعة انتشار دينه برهان على أن الله أرسله بالكتاب النهائي.

نقول أن هذه البراهين لا شك أنها تستحق الاعتبار وتثبت رسالته فقط إذا كانت حقيقة ولهذا ينبغي للعاقل قبل أن يعتنق هذا الدين أن يفحص البراهين المذكورة فحصاً دقيقاً كما ينقد التاجر الدراهم التي يبيع بها بضائعه لئلا يقع في شرك محتال ذي دهاء. وصدق من قال أن سعادة المرء في دنياه وأخراه متوقفة على نفاذ عزيمته في ما يختاره لنفسه. والآن اختر شيئاً من شيئين أما أن تؤمن أن المسيح هو مخلص العالم أو المخلص هو محمد. قد أتينا بهذا التخيير لا من باب التحامل على الإسلام ولا التشيع للنصرانية بل من باب مقارنة الشيء بنظيره والبحث بعناية وحذر وصلاة في ما هو أقوم سبيلاً. لكل من المسلمين والنصارى مصلحة في هذا البحث الهام فإن أخلصوا جميعاً لوجه الله كانت النتيجة خيراً لأن الحق لا يظل محتجباً وقتاً طويلاً ولا بد أن يظهر يوماً ما كالشمس عند الظهيرة.

وهذا ما عزمنا على بيانه في الفصول الآتية صادقين في المحبة كما يجب على المسيحيين (أفسس ٤:‏١٥) باذلين الجهد أن نمحص كتاباتنا من كل ما يجرح مشاعر إخواننا الذين يبحثون على الحقيقة بإخلاص وجد بأن نجتنب كل عبارة بل كل كلمة لا تنطبق على ناموس اللطف والمحبة فإذا زل قلمنا وكبتنا شيئاً يشتم منه رائحة التعصب فنرجو المعذرة سلفاً لأن نيتنا حسنة إذ لسنا نريد سوى الفائدة لإخواننا كما نريد لأنفسنا والإنسان مهما احترس لا يسلم من الزلل ومن شيم الكرام الصفح.

الفصل الثاني

هل تنبأ الكتاب المقدس عن محمد؟

Camel

لا شك أن مجيء المسيح سبق الإنباء به في أسفار العهد القديم في مواضع كثيرة تفوق الحصر وذلك من المسلم به. فإن فرضنا أن الله قصد أن يبعث إلى العالم رسولاً آخر أعظم بكثير من المسيح لا بد أن يسبق الإنباء عنه لا في أسفار العهد القديم فقط بل وفي الجديد أيضاً، وعليه يلزم بطبيعة الحال أن يبحث إخواننا المسلمون في أسفار العهدين عن النبوات التي تؤيد دعوة مؤسس دينهم. ثم إن كان محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ومن أجله خلق الله العالمين فيكون من العجب العجاب أن لا تتقدمه النبوات لتوجيه الأنظار إليه والانقياد لأوامره ولما لم يقدر المسلمون أن ينكروا ضرورة ذلك اضطروا أن ينتحلوا من الكتاب نبوات عن رسولهم وادعوا أنه كان يوجد نبوات أخرى أكثر من هذه حذفها اليهود والنصارى.

وأما دعواهم بوقوع الحذف والتحريف في الكتاب المقدس فقد دحضناها بالدليل الساطع والبرهان القاطع في الباب الأول وأثبتنا أن الكتاب المقدس المتداول اليوم بين أيدينا هو عين الكتاب الذي كان موجوداً في عصر محمد وقبل عصره بقرون كثيرة ولم تمسه يد المفسدين لا قبل محمد ولا بعده إذاً لا حاجة بنا إلى بينان تزييف ما ادعوه بهذا الخصوص. وأما إذا كان يوجد في الكتاب حقيقة نبوات تشير إلى محمد فيجب على كل مسيحي أن يلتزم بها ويؤمن بخاتم الأنبياء وهو مطمئن وليس لأحد منا حجة إذا اعتذر عن تلك النبوات بأن المسلمين زادوها على الكتاب يوم كان لهم السلطة على النصارى في كثير من البلدان ولكن إن ثبت أنه لا يوجد في كتابنا أية نبوة عن محمد فلا يكون من الشجاعة وحيرة الفكر أن يعتصموا بالدعوى الأولى وقد تبين فسادها كقولهم أنه كان في كتابهم نبوات عن محمد ونحن أهل الكتاب حذفناها .. الخ.

على أن مجرد احتجاجهم بكتابنا على رسالة نبيهم دليل على أنهم معترفون أولاً بأنه موحى به من الله وثانياً أنه غير محرف بل باق على أصله وإلا فما الداعي الذي يحملهم على الاحتجاج بكتاب يعلمون أنه تأليف الناس؟ فإذا اعترف المسلمون حقيقية بالمقدمتين المذكورتين يكون البحث حينئذ في الآيات التي زعموا أنها تشير إلى نبيهم بحثاً مثمراً ولذيذاً وإلا كان البحث عقيماً. ولسنا ننكر أن كثيراً منهم ذوو علم واطلاع ولا يسعهم إنكار القضيتين السابقتين أي أن الكتاب المقدس موحى به وأنه باق على أصله غير إننا نرجو من حضرات القراء الكرام أن يعترفوا بصحة البراهين التي بسطناها في الباب الأول والثاني من هذا الكتاب وأنها تثبت سلامة الكتاب المقدس.

ومن المسلم أن لنا الحق أن نفسر آية في الكتاب بآية أخرى وكل مطلع خبير يعلم أن التفسير بهذه الكيفية قرين الصواب لإزالة ما عساه يرد في الكتاب من المعضلات وما يعترض به عليه من وجوه المناظرة كما هي الحالة في أي كتاب آخر لأن الآيات الغامضة يجب أن تشرح بالآيات الظاهرة حسب موقعها في سياق الكلام، مثال ذلك إن كانت آية متأخرة تشرح آية متقدمة عليها فلا يجوز لعالم فاضل خال من التعصب أن يرفض الشرح الكتابي ويلجأ إلى تفسير غريب لا يتفق مع سياق الكلام ولا من الآيات الصريحة الواردة في المواضع الأخرى. وبهذه الكيفية التي يزكيها كل عالم فاضل نتقدم إلى فحص الآيات التي أوردها إخواننا المسلمون من الكتاب المقدس لإثبات نبوة محمد ونبدأ بآيات العهد القديم.

(١) (تكوين ٤٩:‏١٠) "يهوذا إياك يحمد اخوتك. يدك على قفا أعدائك يسجد لك بنو أبيك. يهوذا جرو أسد. من فريسة صعدت يا ابني. جثا وربض كاسد وكلبوة. من ينهضه. لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى ياتي شيلون وله يكون خضوع شعوب". زعموا أن هذه الآية تشير إلى نبوة محمد وخصوصاً لأن كلمة "يهوذا" عدد ٨ مشتقة في الأصل العبراني من الفعل حمد كما اشتق اسم "محمد" وهذا الزعم باطل لأنه ظاهر من القرينة أن شيلون المقولة في شأنه النبوة يولد من ذرية يهوذا وظاهر أن محمداً لا هو من ذرية يهوذا ولا هو من ذرية إسرائيل بل من قبيلة قريش وشتان بين قريش وبين بني إسرائيل. وعدا ذلك فإن قضيب الملك زال من الأمة اليهودية قبل ولادة محمد بأكثر من خمسمائة وخمسين سنة والآية تقول أنه لا يزول حتى يأتي شيلون الخ وعليه فالآية المذكورة لا تشير إلى محمد وقد اتفق مفسرو اليهود أن كلمة شيلون من ألقاب المسيح وكذلك السامريون فهي تشير إلى المسيح لأنه هو الذي وُلد من سبط يهوذا وإياه أطاعت الشعوب.

(٢) تثنية ١٨:‏١٥ و١٨ قالوا أن النبي الموعود به هنا لا يكون من بني إسرائيل وعبارة "من وسطك" لم ترد في الترجمة السبعينية ولا في أسفار موسى عند السامريين ولا هي وردت في (أعمال الرسل ٢٢:٣) بل قيل "من أخوتك" أي الإسماعليين (قابل تكوين ٢٥:‏٩ مع ١٨) وقالوا لم يقم نبي كموسى في إسرائيل بدليل هذه الآية (تثنية ٣٤:‏١٠) وأن محمداً كموسى في جملة وجوه كلاهما نشئا في بيوت أعدائهما وكلاهما ظهرا بين عبدة الأصنام وكل منهما رفضه قومه أولاً ثم عادوا فقبلوه والاثنان هربا من وجه أعدائهما أما موسى فهرب إلى مديان وأما محمد فهاجر إلى المدينة وأسما الموضوعين بمعنى واحد وكل منهما نزل إلى ساحة القتال وحارب الأعداء وعمل المعجزات وساعد أتباعه من بعد موته على امتلاك فلسطين هذا ما قاله المسلمون. ورداً عليهم نقول أن الآية الواردة في تثنية ٣٤:‏١٠ تفيد أنه لم يقم نبي كموسى في إسرائيل إلى الوقت الذي كتب فيه هذا السفر وكلمة بعد تفيد أن بني إسرائيل توقعوا أن يكون النبي منهم لا من الخارج وأما عبارة "من وسطك" في العدد ١٥ فهي واردة في النسخ العبرية.

ومع ذلك فالمعنى بها وبدونها ظاهر، لا ننكر أن إسماعيل أخ لإسحاق من أبيه إلا أننا نقول إذا صح بناء على هذه القرابة اعتبار بني إسماعيل وبني إسرائيل أخوة فكم بالأولى كثيراً يكون أسباط إسرائيل الاثنا عشر أخوة بعضهم لبعض وقد ورد مثل ذلك في القرآن انظر سورة الأعراف آية ٨٤ حيث يعتبر شعيباً أخاً لمدين وعدا ذلك فقد كثر في سفر التثنية عينه اعتبار البعض من الإسرائيليين أخوة للبعض الآخر (انظر ٣:‏١٨) "وأمرتكم في ذلك الوقت قائلا الرب إلهكم قد أعطاكم هذه الأرض لتمتلكوها. متجردين تعبرون أمام اخوتكم بني إسرائيل كل ذوي بأس." و١٥:‏٧ "إن كان فيك فقير أحد من اخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب إلهك فلا تقسّ قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير" و١٧:‏١٥ "فانك تجعل عليك ملكا الذي يختاره الرب إلهك. من وسط اخوتك تجعل عليك ملكاً. لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيا ليس هو أخاك." و٢٤:‏ ١٤ "لا تظلم أجيراً مسكيناً وفقيراً من اخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك." وفي إصحاح ١٧:‏١٥ وردت عبارة نظير الآية المطروحة على بساط البحث بخصوص الرجل الذي يجب أن يتوجوه عليهم ملكاً حيث يقول خطاباً لإسرائيل "فإنك تجعل عليك ملكاً الذي يختاره الرب إلهك، من وسط أخوتك تجعل عليك ملكاً لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجبنياً ليس هو أخاك." إن أكثر ممالك أوروبا إن لم نقل كلها محكومة بعائلات أجنبية أو كانت أجنبية يوماً ما أما بنو إسرائيل فمن أول تاريخهم إلى نهايته لم يتوجوا رجلاً أجنبياً ملكاً عليهم. ولو كان استدلال المسلمين بآية البحث استدلالاً صحيحاً لوجب على بني إسرائيل كلما احتاجوا إلى ملك أن يذهبوا إلى الإسماعليين ويختاروا منهم إلا أنهم لم يفعلوا مثل هذا الفعل بل كانوا يعينون ملوكهم من بينهم وهم أعلم من غيرهم بلغتهم ويعرفوا التفسير الحقيقي لعبارة من أخوتك.

ومَن مِن المسلمين اليوم إذا قيل له أن يستدعي أحد أخوته ليتقلد منصباً عالياً يفهم من ذلك أن يستثني أعضاء عائلته ويبحث عن رجل غريب تجمعه معي رابطة الجدود الأقدمين؟ وبخلاف ذلك فقد ورد في التوراة نصوص صريحة تحذر بني إسرائيل أن لا يقبلوا أي نبي من ذرية إسماعيل لأن عهد الله كان مع إسحاق لا إسماعيل (تكوين ١٧:‏١٨-٢١ و٢١:‏١٠-١٢) ولا يأخذك العجب إذا قلت لك أن القرآن نفسه يؤيد رأي التوراة من هذه الحيثية لأنه يصرح في مواضع كثيرة أن النبوة موكولة إلى بني إسرائيل ومن ذلك قوله في (سورة العنكبوت ٢٩:‏٢٧)"وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُّوَةَ وَالْكِتَابَ الخ وقوله وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُّوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (سورة الجاثية ٤٥:‏١٦).

ويُقال خلاف ما تقدم أن النبي المنتظر في آية البحث موعود به أن يرسل لبني إسرائيل وأما محمد فأعلن رسالته بين العرب الذين منهم ولد وبينهم نشأ. وأما من جهة وجوه المشابهة المشار إليها في آية البحث بين موسى والنبي المنتظر أن يقوم من بني إسرائيل فمشروحة في تثنية ٣٤:‏١٠-١٢ وتنحصر في نقطتين الأولى معرفة الله وجهاً لوجه عند كل من النبيين والثانية المعجزات العظيمة لكل منهما. أما عن النقطة الأولى فنقول أنها ليست متوفرة في محمد لأنه قال في حديث مشهور ما عرفناك حق معرفتك وأما عن النقطة الثانية فليست متوفرة فيه أيضاً بدليل القرآن نفسه فإنه يشهد في مواضع كثيرة أنه لم يأت بمعجزة واحدة وعلى ذلك قوله "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَلُونَ .. الخ" (سورة الإسراء ١٧:‏٥٩) انظر تفسير البيضاوي وابن عباس وقوله "وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ" (سورة البقرة ٢:‏١١٨) وقوله"وَقَالُوا لَوْلا نُّزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ" (سورة الأنعام ٦:‏٣٧ و٥٧ و١٠٩ وسورة الأعراف ٧:‏٢٠٢ ويونس ١٠:‏٢٠ والرعد ١٣:‏٨ و٢٩ والعنكبوت ٢٩:‏٥٠) هاتان هما نقطتا الشبه المقصودتان في التوراة وأما وجوه الشبه الكثيرة التي عددها إخواننا المسلمون بين موسى وبين محمد فكثير منها متوفرة عند مسيلمة الكذاب وعند ماني الفارسي فهل يكونان نبيين؟

ونقول أخيراً أن الله نفسه فسر في الإنجيل ما أنبأ به في التوراة وأظهر أن النبي الموعود به هو المسيح لا محمد (قابل تثنية ١٨:‏١٥ و١٩ له تسمعون مع متى ١٧:‏٥ ومرقس ٧:٩  ولوقا ٣٥:٩) "يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من اخوتك مثلي. له تسمعون"، "وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيرة ظللتهم وصوت من السحابة قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا." ثم أن المسيح ذاته طبق هذه النبوة وغيرها من نبوات التوراة على نفسه (يوحنا ٥:‏٤٦ انظر تكوين ١٢:‏٣ و٢٢:‏١٨ و٢٦:‏٤ و٢٨:‏١٤) يوحنا ٥:‏٤٦ "لانكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني." أولاً لأنه من نسل يهوذا وبالتالي من بني إسرائيل (متى ١:‏١-١٦ ولوقا ٣:‏٢٣-٣٨ وعبرانيين ٧:‏١٤) وصرف معظم حياته بين اليهود وإليهم أرسل رسله أولاً ولم يرسلهم إلى الأمم إلا أخيراً (متى ١٠:‏٦ ولوقا ٢٤:‏٤٧ ومتى ٢٨:‏١٨-٢٠ وفي أعمال الرسل ٣:‏٢٥ و٢٦) وهذا تصريح بأن آية البحث تشير إلى المسيح.

(٣) تثنية ٣٢:‏٢١ "هُمْ أَغَارُونِي بِمَا لَيْسَ إِلهاً، أَغَاظُونِي بِأَبَاطِيلِهِمْ. فَأَنَا أُغِيرُهُمْ بِمَا لَيْسَ شَعْباً، بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُهُمْ" قالوا أن الأمة الغبية المشار إليها هنا أمة العرب التي أرسل منها محمد حيث لا يمكن أن تكون أمة اليونان التي أرسل إليها بولس وبقية رسل المسيح لأن أمة اليونان لم تكن غبية بل كانت أهل حكمة وعلم.

ورداً على ذلك نقول هذه النبوة لا تشير إلى نبي ولا إلى رسول بل إلى أن الله سيغير الأمة اليهودية بأن يدعو لعبادته الأمم الأجنبية يونان وعرب ومصريين وغيرهم وينتظمون في سلك الأخوية المسيحية وكانت تلك الأمم في نظر الله أمماً غبية وثنية، وعدا ذلك فإن الإنجيل نفسه يفسر هذه الآية حسبما فسرناه ومن ذلك قوله "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ إلى أن قال الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللّهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ" (بطرس الأولى ٩و١٠ وأفسس  ٢:‏١١-١٣). وأما القول بأن اليونان كانت أمة حكيمة وليست أمة غبية فنجيب عليه لم تكن حكمة اليونان الحكمة الحقيقية لأنهم لم يكونوا يعرفوا الإله الحقيقي وورد في الكتاب "رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ بَدْءُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ، وَمَعْرِفَةُ الْقُدُّوسِ فَهْمٌ" (مزمور ١١١:‏١٠ وأمثال ١:‏٧ و٩:‏١٠) وورد أيضاً أن حكمة العالم غير مرعية عند الله ومن ذلك قوله "لأنَّ حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ هِيَ جَهَالَةٌ عِنْدَ اللّهِ." وقوله "الرَّبُّ يَعْلَمُ أَفْكَارَ الْحُكَمَاءِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ" (كورنثوس الأولى ٣:‏١٩ و٢٠).

(٤) تثنية ٣٣:‏٢ "جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلالا مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رَبَوَاتِ الْقُدْسِ، وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ." قالوا قوله جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ يشير إلى تنزيل الشريعة على موسى وقوله وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ يشير إلى تنزيل الإنجيل على عيسى وأما قوله وَتَلالا مِنْ جَبَلِ فَارَانَ فيشير إلى تنزيل القرآن على محمد بدليل أنهم زعموا أنه يوجد بقرب مكة جبل يسمى فاران ورداً على ذلك نقول أن القرينة هنا تدل على أن موسى في كلامه على هذه المواضع لم يشر إلى إنجيل ولا إلى قرآن بل أراد أن يذكر بني إسرائيل كيف أشع مجد الله إلى مسافات بعيدة عندما كانوا ضاربين خيامهم عند جبل سيناء ونعلم من خريطة الجغرافية أن سيناء وسعير وفاران ثلاثة جبال متجاورة واقعة في شبه جزيرة طور سيناء وجنوب الأردن على بعد مئات من الأميال من مكة ويظهر صحة ذلك بأكثر وضوح عندما نراجع المواضع التي ذكر فيها فاران في التوراة (تكوين ١٤:‏ ٦ وعدد ١٠:‏١٢      و١٢:‏١٦ و١٣:‏٣ وتثنية ١:‏ ١ وملوك الأول ١١:‏١٨). فضلاً على أن الكلمة هي الرب وهو اسم الله ولا يطلق على بشر.

(٥) مزمور ٤٥ قالوا بما أن النبي المشار إليه في هذا المزمور متقلد سيفاً على فخذه عدد ٣-٥ فهو محمد غير أنه عندنا جوابان كل منهما يدحض هذه الدعوة. الأول نجده في عدد ٦ قوله "كُرْسِيُّكَ يَا اَللّهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ والخطاب هنا للذي قيل له تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخْذِكَ أَيُّهَا الْجَبَّارُ" ولم يدع المسلمون قط أن محمداً إله يصح أن يخاطب بهذا الخطاب فاستدلوا بصدر الآية وأهملوا عجزها والجواب الثاني ورد في الإنجيل (عبرانيين ١:‏٨ و٩) أن المزمور المشار إليه خطاب للمسيح وأما ما ورد في ذلك المزمور من حكاية العذارى والحظيات وابنة الملك التي في خدرها وعلاقتهن بالمخاطب فهو إشارة إلى عروس المسيح الروحية التي هي الكنيسة (انظر رؤيا يوحنا ٢١:‏ ٢) والأعداء في قوله نَبْلُكَ الْمَسْنُونَةُ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ إشارة إلى إبليس وجنوده والقوم الذين قاوموا المسيح وإنجيله (انظر رؤيا يوحنا ١٩:‏١١-٢١).

وجاءت في المزامير نبوات أخرى عن المسيح تشبه ما تقدم ذكره وهي مزمور ٢ و٧٢ و١١٠ ومن المحتمل أن المزمور الذي تكلمنا عنه أولاً يشير إلى زواج سليمان الملك من ابنة فرعون (ملوك الأول ٣:‏١) ثم جعل هذا الزواج رمزاً إلى الاتحاد الروحي بين المسيح وكنيسته.

(٦) مزمور ١٤٩ زعموا أن هذا المزمور نبوة عن محمد وقالوا أن الترنيمة الجديدة (عدد ١) هي القرآن والسيف ذو الحدين (عدد ٦) سيف محمد وسيف علي ابن أبي طالب الذي جرده لخدمة الإسلام وقالوا أن الملك (عدد ٢) هو محمد. ورداً عليهم نقول أن القرآن لا يمكن أن يكون الترنيمة الجديدة لأن الترنيم غير مستعمل في العبادة الإسلامية وكذلك السيف ذو الحدين ليس سيف محمد ولا علي بدليل أن الآية تصرح بأنه ليس في يدي الملك الذي يزعمون أنه محمد بل في يد الإسرائيليين ينتقمون به من أعدائهم و الملك في عدد ٢ قيل عنه في صدر الآية بأنه الخالق ودعي في عدد ٤ الرب وهكذا لا يمكن أن يقال عن محمد أنه ملك إسرائيل ولا فرح إسرائيل بمحمد لأن سوء معاملته لهم أشهر من نار على علم كما سترى معاملته لبني النضير وبني قريظة وغيرهما.

(٧) ادعى بعض المسلمين أن إصحاح ٥:‏ ١٦ من سفر نشيد الإنشاد يشير إلى محمد لأن كلمة محامديم في العبري المترجمة مشتهيات في العربي مشتقة من حمد وهي المادة المشتق منها محمد. ورداً على ذلك نقول أن الكلمة العبرانية محامديم اسم نكرة لا معرفة بدليل أنه جاء في صيغة الجمع ووردت هذه الكلمة في غير موضع من التوراة بصيغة النكرة (انظر هوشع ٩:‏٦ و١٦ وملوك الأول ٢٠:‏٦ ومراثي ارميا ١:‏١٠ و١١ و٢:‏٤ ويوئيل ٣:‏٥ وإشعياء ٦٤:‏١١ و٢ أيوب ٣٦:‏١٩ وحزقيال ٢٤:‏١٦ و٢١ و٢٥) وجاءت في النصف الأخير (حزقيال ٢٤:‏١٦) شهوة عينيك وكانت الإشارة إلى زوجة حزقيال قابل (حزقيال ٢٤:‏١٨) واستعملت أيضاً للإشارة إلى بني وبنات عبدة الأصنام من جماعة إسرائيل (حزقيال ٢٤:‏٢٥) فإن صح إسناد كلمة مشتهيات في سفر نشيد الإنشاد إلى محمد لأنها مشتقة من حمد فيصح أيضاً أن يسند إليه أيضاً كلمة شهوة هنا المشار بها إلى زوجة حزقيال وبني وبنات عبدة الأصنام لأنها مشتقة من حمد كذلك.

ثم نقول أن في اللغة العربية كلمات كثيرة مشتقة من حمد ولكن هذا الانشقاق لا يجعلها خصيصة محمد فإن قال أحد أن محمداً مشار إليه في سورة الفاتحة بكلمة الحمد في قوله الحمد لله رب العالمين لأن الحمد ومحمداً مشتقان من مادة حمد فهل يكون استدلاله صحيحاً؟ وكذلك إن استدل الهندي بأن أحد آلهته المدعو رام قد ذكر في القرآن في سورة الروم في قوله غلبت الروم بدليل أن الاسمين مشتقان من مادة رام كما في القواميس العربية ألا يكون استدلاله مدعاة للسخرية عند أهل العلم والتمييز؟

(٨) إشعياء ٢١:‏٧ "فَرَأَى رُكَّاباً أَزْوَاجَ فُرْسَانٍ. رُكَّابَ حَمِيرٍ. رُكَّابَ جِمَالٍ" قالوا أن عبارة ركاب حمير نبوة إلى المسيح الذي دخل أورشليم راكباً حماراً وعبارة ركاب جمال نبوة إلى محمد بدليل أنه كان دائماً يركب الجمال غير أن سياق الكلام يدل أن لا إشارة هنا إلى المسيح ولا إلى محمد إنما هذا الإصحاح نبوة إلى سقوط بابل كما يظهر من عدد ٩ والعباراتان المشار إليهما أي ركاب الحمير وركاب الجمال تدلان على الكيفية التي يتم بها تبليغ هذا الخبر ثم سقوط بابل على عهد داريوس سنة ٥١٩ و ٥١٣ ق.م.

(٩) إشعياء ٤٢:‏١-٤ ظنوا أنهم يجدون إشارة إلى محمد في النصوص المذكورة في هذا الموضع غير أننا إذا اعتبرنا صحة ما رواه عن محمد من أخبار ابن هشام والطبري وابن الأثير والخطيب والواقدي وغيرهم من كتبة المسلمين لا يسعنا أن نصدق أن الموصوف بالسلام والوداعة في الآيات المذكورة هو النبي المتقلد بالسيف ومع ذلك فقد جاء في متى ١٢:‏١٥-٢١ أن الموصوف بالسلام هو المسيح وقد تمت فيه كل النبوة المشار إليها ثم أن شريعته التي تنتظرها الجزائر هي المسيحية بدليل أن الجزائر المشار إليها في عصر النبوة جزائر البحر الأبيض المتوسط وسواحله وهي مسيحية وما كان غير مسيحي منها فواقع تحت نفوذ المسيحيين.

(١٠) في الإصحاح المتقدم عدد ١٠ و١١ و١٢ وردت كلمة قيدار اسم قبيلة من قبائل العرب ولما اطلع على ذلك المسلمون ظنوا أن هذه أيضاً نبوة عن محمد وأن الترانيم الجديدة المنوه عنها كناية عن اعتناق قبائل العرب دين الإسلام. ونحن نقول لا يمكن أن الترانيم تشير إلى شيء في الإسلام ولا هي معروفة عند المسلمين كما أن قيدار ليست من المحتم أن تشير إلى الإسلام وإن كانت من قبائل العرب لأن من المؤكد أن كثيراً من قبائل العرب كانت تدين بالدين المسيحي مثل قبيلة حمير وغسان وربيع ونجران والحيرة ولما قويت شوكة المسلمين أكرهوهم على اعتناق دينهم أو نفيهم من بلادهم ولا شك أنهم يعودون يوماً إلى دينهم الأول. وهذه الآيات تتمة عدد ١-٤ وتشير إلى انتشار الديانة المسيحية حتى في بلاد العرب نفسها كما تنتشر في جزائر البحر (عدد ١٠) أما قوله عبدي (عدد ١) فمشروح في إصحاح (٤٩:‏٣) من هذا السفر عينه حيث يظهر أن المراد به هو إسرائيل وهو لا شك إسرائيل الله أي الذين يؤمنون بالمسيح (انظر غلاطية ٦:‏١٦) والمسيح رأسهم لأنه قيل عنه أنه رأس الجسد الكنيسة (كولوسي  ١:‏١٨) لهذا فسر قدماء اليهود (إشعياء ٥٢:‏٣) قوله عبدي بالمسيا المنتظر وعلى كل حال فالمسيح من إسرائيل جاء وإياه يمثل أما محمد فلا هذا ولا ذاك.

(١١) إشعياء ٥٣ يقولون أن هذا الإصحاح نبوة إلى محمد بدليل ما يأتي أولاً، لأنه وُلد في بلاد العرب وكان كعرق من أرض يابسة. ثانياً، لأنه دُفن في المدينة فجعل مع الأشرار قبره. ثالثاً، لأنه رأى ثمرة أتعابه وعليه تمت النبوة القائلة من تعب نفسه يرى ويشبع. رابعاً، قيل في هذا الإصحاح مع العظماء يقسم غنيمة وقسم محمد الغنيمة مع أنصاره. خامساً، تمت في هذه الكلمات سكب للموت نفسه في حين أنهم ينكرون موت المسيح ويقولون أنه ارتفع إلى السماء حياً. ورداً على ذلك نقول أولاً، أن الأعداد ٥ و٦ و٧ و٨ من هذا الإصحاح بكل تأكيد لا تشير إلى محمد ولا إلى شخص آخر سوى المسيح وهاك نصها "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي" (إشعياء ٥٣:‏٥-٨). ثانياً، أن نصفي عدد ٩ و١٢ لا يناسبان محمداً كيفما كانت الحالة. ثالثاً، أما من حيث كونه يقسم غنيمة فالآية تصرح بأن ذلك يتم بعد موته وتم ذلك فعلاً للمسيح بمعنى روحي أكمل وأعظم، لأن بعد موته وصعوده حالاً ابتدأ الناس من كافة الأمم والشعوب أن يؤمنوا به ويحبوه كفاديهم وإلههم وليست غنيمة أعظم من هذه. رابعاً، أما كون محمد دُفن في المدينة وليس في مكة ومن أجل ذلك جعل مع الأشرار قبره فلا ندري لأي سبب اعتبروا المدينة شريرة مع أن أهلها الأنصار الذين دافعوا عنه جهد استطاعتهم في حين أن أهل مكة رفضوه وناصبوه العدوان. خامساً، كل جزئيات هذه النبوة تمت في المسيح ما هو حرفي فحرفي وما هو روحي فروحي عدا ما فيها من الإمارات الظاهرة التي لا يمكن إسنادها إلى مقاتل كمحمد وخلاف ذلك فقد أجمع اليهود الأولون أن هذا الإصحاح نبوة عن مسيا المنتظر وكذلك كتبة أسفار العهد الجديد الملهمين اقتبسوا كثيراً من أقوال هذا الإصحاح كنبوات عن المسيح التي عاينوا إتمامها فيه ومثل هذا الإصحاح مزمور ٢٢ الذي قد تم أيضاً في المسيح لا سواه.

(١٢) إشعياء ٥٤:‏١ ظن المسلمون هذه الآية نبوة تشير إلى محمد باعتبار كونه من ذرية إسماعيل وأن يزداد أتباعه عن أتباع أنبياء إسرائيل وإليك نص الآية "تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَتمْخَضْ، لأنَّ بَنِي الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي ذَاتِ الْبَعْلِ قَالَ الرَّبُّ." لهذه الآية معنيان معنى حرفي ومعنى روحي فالحرفي هو أن بني إسرائيل سيعتقون من أسر بابل ويردون إلى أورشليم وتمت هذه النبوة بالمعنى الحرفي المذكور في أيام كورش ملك فارس سنة ٥٣٦ ق م (انظر عزرا ١) والمعنى الروحي شرحه بولس الرسول (انظر غلاطية ٤:‏٢١-٣١) حيث تم عندما رجعت الأمم عن عبادة الأصنام التي عبدوها من قديم الزمان إلى عبادة الله وقبلوا إنجيل المسيح ومن غريب الاتفاق أن بولس قرر في هذا الإصحاح عدم أفضلية بني هاجر على بني سارة الروحيين عدا حرمانهم من الميراث.

(١٣) إشعياء ٦٣:‏١-٦ يقول المسلمون أن المحارب المشار إليه في هذه الآيات هو محمد بدليل أنه من حملة السيف ويظنون أن بصرة المذكورة هنا هي مدينة بصرة الشهيرة غير أننا نجد في العدد الأول أنها من بلاد أدوم وتُدعى اليوم البصيرة واقعة على مسافة قصيرة من جنوب البحر الميت ثم إذا قابلنا عدد ٥ من هذا الإصحاح مع إشعياء ٥٩:‏١٥ و١٦ نجد المحارب المشار إليه هو رب الجنود الذي انتقم من أدوم على خطاياها وورد مثل هذا الوصف في رؤيا يوحنا ١٩:‏١١-١٦ حيث يظهر أن ذلك المحارب إنما هو كلمة الله الذي سيعاقب الفجار ويهزمهم نهائياً ويضع كل أعدائه تحت قدميه (كورنثوس الأولى ٥:‏٢٥).

(١٤) إشعياء ٦٥:‏١-٦ قالوا أن هذه الآيات نبوة عن اهتداء العرب إلى الإسلام والآيات التي بعدها تنبئ عن خطايا اليهود والنصارى التي بسببها رفضهم الله والحقيقة هي أن عدد ١ نبوة عن اهتداء كثير من الأمم إلى المسيح ولو أن من عدد ٢-٦ تذكر خطايا اليهود، ولكن من عدد ٨:‏١٠ يصرح أن الله لا يرفض شعبه المحبوب رفضاً نهائياً بل يعود ويقبلهم (انظر رومية ١١) ولم يرد هنا شيء بخصوص المسيحيين ولا عن محمد.

(١٥) دانيال ٢:‏٤٥ زعم بعضهم أن هذه الآية تنبئ عن ظهور الإسلام وامتداده وقالوا أن المماليك الأربع المذكورة في هذا الفصل هي الكلدانيون والمديانيون والفرس واليونان وأن اسكندر الكبير هزم الفرس وفرق شملهم إلا أنها عادت على سابق مجدها فيما بعد وأخذت تضعف تارة وتقوى أخرى إلى زمن كسرى أنوشروان.

وبعد موت محمد قصدها جيوش المسلمين وفتحوها وفتحوا ما بين النهرين وفلسطين وعليه فمملكة الإسلام هي المقصودة بالمملكة التي خلفت الممالك الأربع وسادت على كل الأرض (عدد ٤٤:‏٤٥).

والحقيقة أن هذا الشرح لا ينطبق على حقائق التاريخ لسبب ظاهر وهو أن لم يكن للمديانيين مملكة بعد البابليين بل هما مملكة واحدة بدليل أن داريوس المادي (دانيال ٥:‏٣١ و٦ و٩:‏١) قد ملك على الكلدان وهي الإقليم الواقع حول بابل بضعة شهور ثم صار نائباً للملك كورش العظيم وبهذا ابتدأت المملكة الثانية أي مملكة الفرس (دانيال ٨:‏٣ و٤ و٢٠). ثانياً، اليونان خلفت الفرس فكانت المملكة الثالثة (دانيال ٨:‏٥ و٧ و٢١) وخلفت اليونان الرومان وهي المملكة الرابعة (دانيال ٢:‏٤٠) التي عظمت فوق الكل إلا أن مؤرخي المسلمين أهملوها بالكلية رابعاً. أما مملكة الفرس المتجددة فلا يمكن أن تكون هي المملكة الرابعة بل يجب إما أن تكون المملكة الخامسة أو الثالثة والنبوة تشير إلى ما يحدث في عهد المملكة الرابعة (دانيال ٢:‏٤٠ و٤٤ و٧:‏٧ و١٩ و٢٣). أما كون اليونان المملكة الثالثة لا الرابعة كما زعم المسلمون فظاهر مما قيل عنها أنها غلبت الفرس وخلفتهم (دانيال ٨:‏٥ و٧ و٢١). وانقسمت اليونان إلى أربعة أقسام من بعد موت اسكندر الكبير (دانيال ٨:‏٨ و٢٢). وأخذ يتقلص ظلها حتى اندمجت في المملكة الرومانية التي شمل نفوذها العالم المتمدن في ذلك العصر. وفي أثناء حكم الرومانيين وُلد يسوع في اليهودية وكانت خاضعة لهم والمملكة التي أسسها يسوع حينئذ لم تكن من هذا العالم (يوحنا ١٨:‏٣٦ ولوقا ١:‏٣١-٣٣ ودانيال ٧:‏١٣ و١٤ و٢٧) بدليل أنها لم تقم بالسيف كممالك العالم وعدا ذلك دعا المسيح نفسه ابن الإنسان. ومن هنا يظهر أنه هو الشخص الذي رآه دانيال في رؤياه جالساً على سحاب السماء سائداً على كل الأرض (دانيال ٧:‏١٣) ومملكته هي التي وصفها دانيال بالحجر الذي قطع بغير يدين وملأ كل الأرض (دانيال ٢:‏ ٤٥) ولما يأتي ثانياً إلى أرضنا تسجد له كل ركبة (فيلبي ٢:‏٩-١١).

(١٦) حبقوق ٣:‏٣ "اَللّهُ جَاءَ مِنْ تِيمَانَ، وَالْقُدُّوسُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ." ظن المسلمون قوله والقدوس من جبل فاران إشارة إلى محمد غير أن آخر الآية يقول:‏"جَلالُهُ غَطَّى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضُ امْتَلاتْ مِنْ تَسْبِيحِهِ" وهذا دليل صريح على أن محمد ليس المراد بالقدوس بل الله الذي يرجع إليه الكلام من أول الآية حيث يقول اَللّهُ جَاءَ مِنْ تِيمَانَ .. الخ. هذا وقد اثبتنا أن جبل فاران واقع في شبه جزيرة سينا لا في مكة كما زعموا وتيمان اسم لإقليم أدوم وفيه مدينة قريبة من بترا وعلى مسيرة أيام قليلة من أريحا نحو الجنوب فجبل فاران وإقليم تيمان متقاربان وهما إلى مدينة أورشليم أقرب بكثير منهما إلى مكة. جاء في سفر التكوين (٣٦:‏١١ و١٩) ما يثبت تناسل تيمان من عيسو أصل الأدوميين ويوافق على ذلك المؤرخون وعلماء الجغرافيا كما يوافق عليه الأنبياء الذين كتبوا عن هذه المدينة وهم أرميا (٤٩:‏٧ و٢٠) وحزقيال (٢٥:‏١٣) وعاموس (١:‏١١ و١٢) وعوبديا (٨ و٩ و١٠) فإن كان إخواننا المسلمون لم يقتنعوا بهذه الأدلة على أن تيمان لا علاقة لها بالمرة بمحمد ولا إسلامه وتمسكوا برأيهم فنقول حسناً إذا كانت تيمان لها علاقة بالإسلام فقد تنبأ عنها عوبديا بالويلات والدمار وبالتالي عن الإسلام إلا أننا نحن المسيحيين لا شك عندنا بأن تيمان ليست من الإسلام في شيء.

(١٧) حجي ٢:‏٧ "وَأُزَلْزِلُ كُلَّ الأمَمِ. وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الأمَمِ، فَأَمْلا هَذَا الْبَيْتَ مَجْداً قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ." قالوا أن المراد بمشتهى الأمم محمد وذلك لأن مشتهى في اللغة العبرانية متصرفة من حمداه المتصرف منها محمد فنقول قد أثبتنا حتى في اللغة العربية نفسها أن ليس كل ما يتصرف من مادة حمد يشير إلى محمد فمن باب أولى اللغة العبرانية ثم أن هذا الكلمة عينها حمداه وردت في نبوة دانيال (١١:‏٢٧) بمعنى شهوة النساء وعليه فلا دليل منطقي يترتب على كلمة يشتق منها ألفاظ ذات معاني مختلفة كما أننا لا نقدر أن نصدق أن محمداً كان مشتهى كل الأمم وذلك لأنه فتح البلاد بالسيف وكل فاتح بالسيف مكروه لا مشتهى خصوصاً عند الأمة المغلوبة والمحتمل أن مشتهى الأمم إما أن يكون (١) الذهب والفضة المذكورة في عدد ٨ أو (٢) اختيار كل الأمم الذي يدعوه الرسول بولس اختيار النعمة (رومية ١١:‏٥) الذي منهم تألفت الكنيسة المسيحية أو (٣) الرب يسوع المسيح نفسه الذي جاء إلى هيكله ومن مدينة المقدس أفاض على كل الأمم سلاماً بواسطة ذبيحة نفسه التي قدمها كفارة عن خطايا العالم (حجي ٢:‏٩ وملاخي ٣:‏٣ ومتى ١٢:‏٦ و٤١ و٤٢ ولوقا ٢٤:‏٣٦ ويوحنا ١٤:‏٢٧ و١٦:‏ ٣٣ و٢٠:‏١٩ و٢١ و٢٦).

ثم أن الشيعة يحتجون أيضاً ببعض آيات من التوراة ظناً منهم أنها نبوات عن محمد وإن كان أهل السنة لا يوافقونهم عليها إلا أنه من المحتمل أن تكون لهم وجهة معقولة في احتجاجهم ولهذا رأينا أن نسرد ما قالوه في هذا الصدد.

(١٨) "وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيراً جِدّاً. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً" (تكوين ١٧:‏٢٠) قالوا أن قوله اثني عشر رئيساً يلد نبوة عن الاثني عشر إماماً الذين يعتبرونهم خلفاء محمد الشرعيين في الإمامة ورداً على ذلك لا نقول شيئاً سوى أن نستلفت نظرهم إلى هذا السفر عينه الذي اقتبسوا منه هذه الآية (٢٥:‏١٣-١٦) حيث نجد الوعد المشار إليه قد تم وولد إسماعيل اثني عشر رئيساً وذكرت أسماؤهم وبعدها قيل هؤُلاءِ هُمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ، وَهذِهِ أَسْمَاؤُهُمْ بِدِيَارِهِمْ وَحُصُونِهِمْ. اثْنَا عَشَرَ رَئِيساً حَسَبَ قَبَائِلِهِمْ وعليه فقد تمت هذه النبوة بدون احتياج إلى محمد وخلفائه.

(١٩) إرميا ٤٦:‏١٠ "فَهذَا الْيَوْمُ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ يَوْمُ نَقْمَةٍ لِلاِنْتِقَامِ مِنْ مُبْغِضِيهِ، فَيَأْكُلُ السَّيْفُ وَيَشْبَعُ وَيَرْتَوِي مِنْ دَمِهِمْ. لأنَّ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ ذَبِيحَةً فِي أَرْضِ الشِّمَالِ عِنْدَ نَهْرِ الْفُرَاتِ" قالوا أن قوله لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ ذَبِيحَةً الخ نبوة عن قتل الحسين في واقعة كربلاء زاعمين أن الحسين مات كفارة عن الخطية ودحضاً لهذه الدعوى نقول إذا تأملنا في العدد الثاني من هذا الإصحاح عينه نجد الإشارة إلى جيش فرعون ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش الذي ضربه نبوخذ نصر ملك بابل في السنة الرابعة ليهوياقيم ملك يهوذا سنة ٦٠٦ ق م ولا أحد من المسلمين يقدر أن يدعي بأن مذبحة المصريين، الذين كانوا من عبدة الأصنام حينئذ، تكون كفارة عن الخطية فضلاً عن أن الكلمة المستعملة للدلالة على ذبيحة استعملت أيضاً للدلالة على مذبحة كما في هذه المواضع (إشعياء ٣٤:‏٦-٨ وحزقيال ٣٩:‏١٧-٢١ وصفنيا ١:‏٧ و٨). ونقول أخيراً لا يمكن أن يكون أرميا النبي عنى كربلا بقوله أرض الشمال.

ولنأتِ الآن إلى أسفار العهد الجديد ونفحص باعتناء ودقة الفصول التي يوردها المسلمون للاستدلال على نبوة محمد.

(١) متى ٣:‏٢ "تُوبُوا، لأنَّهُ قَدِ  اقْتَرَبَ  مَلَكُوتُ  السَّماوَاتِ"  هذه  كلمات  يوحنا  المعمدان  وكررها  الرب  يسوع (متى ٤:‏١٧) زعم المسلمون أن ملكوت السماوات إشارة إلى مملكة الإسلام (انظر متى ١٣:‏٣١ و٣٢) وأما القرآن فهو شريعة هذه المملكة .. الخ، ونحن نقول يجب لفهم معنى ملكوت السماوات أو ملكوت الله أن نراجع المواضع التي وردت فيها هذه العبارة ففي (متى ١٢:‏٢٨) قال المسيح "وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللّهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللّهِ." وفي مرقس ٩:‏١ قال يسوع لتلاميذه "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:‏إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْماً لا يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللّهِ قَدْ أَتَى بِقُّوَةٍ." وفي مواضع أخرى يصرح بأن هذا الملكوت يبدأ به إلى حد ما في حياته ثم يمتد بعد موته ويكمل بعد مجيئه ثانياً ليدين المسكونة بالعدل ويحكم بالحق والإنصاف (دانيال ٧:‏١٣ و١٤ ورؤيا يوحنا ١١:‏١٥). وأما في الوقت الحاضر فملكوت الله آخذ في الامتداد يومياً بواسطة الكرازة بالإنجيل ودعوة الناس للدخول فيه (متى ٢٨:‏٨-٢٠) واعلم أنه ليس ملكوت السموات نظير ممالك العالم (يوحنا       ١٨:‏٣٦) وأنه لا يأتي بأبهة وزخرفة عالمية (لوقا ١٧:‏٢٠) ويخص المساكين بالروح (متى ٥:‏٣) لا المتكبرين ولا عظماء هذا الدهر الذين يبطلون ولا يقدر أحد كائناً من كان أن يتتبع لهذا الملكوت ما لم يولد من جديد ولادة روحية (يوحنا ٣:‏٣ و٥) ومن المستحيل أن يدخل إليه الأشرار (كورنثوس الأولى ٦:‏٩ و١٠ وغلاطية ٥:‏٢٠ و٢١ وأفسس ٥:‏٥). ولهذه البراهين والأدلة لا مناسبة بين المملكة التي أسسها محمد وخلفاؤه وبين ملكوت السماوات.

(٢) مت ١٧:‏١١ "فَأَجَابَ يَسُوعُ:‏إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَّوَلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْ"، وظن بعضهم أن قوله إِيلِيَّا يَأْتِي أَّوَلاً نبوة عن مجيء محمد إلا أننا إذا قرأنا العدد التالي نجد أن إيليا قد أتى وعلى ذلك قوله "إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذلِكَ ابْنُ الإنْسَانِ أَيْضاً سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ . حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلامِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ." (متى ١٧:‏١٢ و١٣) نعم أن يوحنا غير إيليا في شخصه لأن التناسخ ليس من تعاليم الكتاب المقدس لهذا لما سئل يوحنا إن كان هو إيليا أم لا أجاب لست أنا وإنما كان سابقا للمسيح ليعد الطريق أمامه بروح إيليا وقوته (لوقا ١:‏١٧) كما أنبأ جبريل أباه زكريا (لوقا ١:‏١٩). وبهذا المعنى كما تنبأ ملاخي أيضاً (ملاخي ٤:‏٥) كان يوحنا المعمدان إيليا النبي لأن كليهما عاشا  بكيفية  واحدة  (قابل متى ٣:‏٤ مع ملوك الأول ١٧:‏١-٦).

(٣) متى ٢٠:‏١-١٦ فسر المسلمون هذا المثل بكيفية غريبة لإثبات نبوة محمد فقالوا الفعلة الذين اشتغلوا من الصباح هم اليهود والذين اشتغلوا من الظهر هم النصارى والذين اشتغلوا في المساء هم المسلمون. ١ ورداً على ذلك نقول أن المساء المشار إليه في عدد ٨ هو عبارة عن الوقت الذي ذكره في متى ١٩:‏٢٨ أي وقت التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده كأنه عنى بالمساء آخر الدهور الذي فيه يأتي الرب يسوع على سحاب السماء بقوة ومجد كثير لكي يدين الأرض (متى ٢٤:‏٣٠ و٣١ ومرقس ١٣:‏٢٦ و٢٧ ولوقا ٢١:‏٢٧ ورؤيا يوحنا ١:‏٧ و٢٠:‏١١-١٥) يظهر صحة تفسير المساء بما ذكرناه من مقدمة المثل وخاتمته لأنه يبتدئ بتعليل السبب الذي من أجله يكون الأولون آخرين والآخرون أولين وينتهي بهذه النتيجة والآن قد أقبل المساء وكادت تغرب شمس الدهر الحاضر وكل من النصارى والمسلمين ينتظرون رجوع المسيح، ثانياً، ويتوقعون حدوث ذلك قريباً جداً ومتى جاء يملك على كل الأرض إلى ما شاء الله ويدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته (تيموثاوس الثانية ٤:‏١). ومما تقدم يظهر أن لا فرصة في وقت المساء للعصر الإسلامي وبالتالي لا نبوة في المثل المذكور عن محمد.

(٤) متى ٢١:‏٣٣-٤٤ (انظر مرقس ١٢:‏١-١١ ولوقا ٢٠:‏٩-١٨) قالوا أن المسيح انبأ في هذا المثل عن مجيء محمد وقوته بطشه وسلموا أن رب البيت هو الله وأن ابنه هو المسيح وأنه تكلم عن نفسه كأن اليهود قتلوه وكان يجب عليهم ما دام المسيح قائل هذه الأقوال أن يسلموا بها ويقروا أن المسيح ابن الله وأنه مات عن خطايا العالم. ولو أقروا بذلك ما كان أغناهم عن البحث في شؤون محمد ولكن إذا كانوا لا يسلمون أن المسيح هو الضارب لهذا المثل، فمن العبث أن يحتجوا بكلام يعتقدون بطلانه. ومما يجب ملاحظته في هذا المثل أنه من بعد إرسال الابن لم يرسل رسول آخر وحيث أنهم سلموا أن المرسلين الأولين كانوا خداماً وعبيداً لرب البيت كان الرسول الأخير الابن فليس من المعقول أنه من بعد ما أرسل الابن يمشي القهقرى ويرسل العبيد ومن هنا يظهر بطلان دعواهم مرة أخرى. عدا ذلك فإن المسيح اقتبس هنا خبر الحجر الذي رفضه البناؤون (مزمور ١٨:‏٢٢) وأن بطرس الرسول صرح بأن صاحب سفر المزامير عنى بالحجر الذي رفضه البناءون المسيح نفسه حيث يقول "فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ بِا سْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ الَّذِي أَقَامَهُ اللّهُ مِنَ الأمْوَاتِ. بِذَاكَ وَقَفَ هذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحاً. هذَا هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي احْتَقَرْتُمُوهُ أَيُّهَا البناءون الَّذِي صَارَ رَأْسَ الّزَاوِيَةِ" (أعمال الرسل ٤:‏١٠ و١١ وبطرس الأول ٢:‏٤-٨). وعليه فالبناءون كانوا يهود عصره لا إبراهيم ولا إسماعيل اللذين بنيا الكعبة على زعمهم وقال المثل خطاباً لليهود "إِنَّ مَلَكُوتَ اللّهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ" (متى ٢١:‏٤٣) وقالوا معنى هذا الكلام هو أن يؤخذ ملكوت الله من اليهود ويعطى للإسماعيليين إلا أن العهد الجديد يبين أنه يعطى للذين يؤمنون بالمسيح إيماناً حقيقياً الذين هم "جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ وقال لهم لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ. الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللّهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ" (بطرس الأولى ٢:‏٩ و١٠) وهنا تلميح لطيف إلى الأثمار التي يطلبها رب البيت من الأمة التي تتولى الكرم وورد ذلك بأكثر تصريح في كلام الرسول عن المسيح حيث يقول "ا لَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأجْلِنَا لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْباً خَاصّاً غَيُوراً فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ" (تيطس ٢:‏١٤ وغلاطية ٥:‏٢٢-٢٤). وإلى هنا نكون قد انتهينا من إظهار الأمة التي أعطي لها الكرم ألا وهي الكنيسة المسيحية والكرم هو ملكوت الله (متى ٢١:‏٤٣ يشرح عدد ٤١). وعليه فلا إشارة في هذا المثل إلى محمد ولا أمته كما أنه قد ثبت أن الحجر الذي رفضه البناءون هو المسيح نفسه لا الحجر الأسود الذي بحائط الكعبة ولا محمد ولا هاجر.

وأما مقاومة المسيح وعدم الرضوخ له فأبان المثل أنه هو الأمر المثير لسخط الله وحلول نقمته على أعدائه وقد تم شيء من ذلك عند خراب أورشليم وتمثيل الرومان باليهود تمثيلاً فظيعاً في سنة ٧٠ للميلاد أو بعد صلب المسيح بنحو أربعين سنة وظن بعض المسلمين أن المراد برب البيت المشار إليه في المثل هو محمد ولكن ذلك ما لا يمكن إثباته لأن المسيح في عدد ٣٧ بحسب ما جاء في المثل كان ابن رب البيت ولا يتصور أحد أن المسيح ابن محمد وعليه فلا يمكن تطبيق هذا المثل على ما زعمه المسلمون وإثبات دعواهم إلا بثلاثة أشياء الأول تحريف المثل والثاني إغفال القرينة وسياق الكلام والثالث إغفال النصوص الكثيرة الواردة في أسفار العهد القديم والعهد الجديد.

(٥) "وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً:‏يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ" (مرقس ١:‏٧) قالوا أن الإنجيل كلام المسيح وهذه الآية من الإنجيل فهي من كلام المسيح وعليه يكون المسيح أنبأ بمجيء نبي أفضل منه بكثير هو محمد. من يتأمل هذه الأقوال الدالة على إثبات نبوة نبيهم بما في ذلك عدد ٦ أي ما قبل آية الاستدلال نجد أنها تُصرح باسم القائل لها ألا وهو يوحنا المعمدان لا يسوع وصرح يوحنا في (يوحنا ١:‏١٦-٣٤) أن الآتي بعده هو المسيح لا محمد ومن ذلك قوله "وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ:‏هُوَذَا حَمَلُ اللّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ. هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأنَّهُ كَانَ قَبْلِي" (يوحنا ١:‏٢٩ و٣٠ انظر متى ٣:‏١١-١٤ ولوقا ٣:‏١٦ و١٧). فإذا قيل أن يسوع كان معاصراً ليوحنا فلا يصح أن يقول عنه أنه يأتي بعده فنجيب وإن كان معاصراً له إلا أنه لم يبدأ بخدمته كرسول إلا من بعد طرح يوحنا في السجن (مرقس ١:‏١٤ ومتى ٤:‏١٢ و١٧) وانتهاء خدمته لأن هيرودس ملك اليهود أمر بقطع رأسه.

(٦) يوحنا ١:‏٢١ "فَسَأَلُوهُ:‏إِذاً مَاذَا إِيلِيَّا أَنْتَ؟ فَقَالَ:‏لَسْتُ أَنَا. أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟ فَأَجَابَ:‏لا." قال المسلمون أن نبيهم قد ذكر في هذه الآية وذلك لأن اليهود سألوا يوحنا المعمدان متحرين عن ثلاثة أنبياء بالتوالي المسيح وإيليا والنبي ولم يخالفهم في ما سألوا عنه فاستنتجوا من ذلك أن النبي المشار إليه هنا لا هو إيليا ولا هو المسيح بل محمد كذلك النبي الذي تنبأ عنه موسى (تثنية   ١٨:‏١٨) هو محمد لا المسيح ولا إيليا. ورداً عليهم نقول أنه من حيث النبي الذي كتب عنه موسى (تثنية ١٨:‏١٨) فقد أثبتنا في ما تقدم أنه لا يمكن أن يكون محمداً وإنما هو المسيح راجع ذلك في موضعه، وعليه فالنبي المشار إليه في سؤال اليهود ليوحنا المعمدان هو المسيح بذاته وسأل اليهود عن الثلاثة مبتدئين بالأخير إلى الأول باعتبار ترتيب زمان ظهورهم فقالوا ليوحنا أنت المسيح ظناً منهم ربما يكون إياه فلما أنكر يوحنا كونه المسيح عادوا فسألوه إن كان هو سابقه إيليا (ملاخي ٤:‏٥ ومتى ١٧:‏١٠ ومرقس ٩:‏١١) فأنكر أيضاً كونه إيليا بالذات لأنهم كانوا ينتظرون أن يرجع إيليا بنفسه إلى الأرض في آخر الزمان مع أن يوحنا، وإن لم يكن إيليا بالذات، لكنه جاء بروحه وقوته لإعداد طريق المسيح كما تقدم الكلام (راجع ملاخي ٤:‏٥ بالمقابلة مع متى ١١:‏١٤) ولما لم يفهم اليهود من هو يوحنا المعمدان إذا لم يكن المسيح ولا إيليا حاروا في أنفسهم والتجئوا إلى رأي آخر. وهو أن النبي الذي كتب عنه موسى هو سابق آخر للمسيح وليس من المعقول ولا المحتمل أن يكون سؤالهم ليوحنا عن نبي يأتي بعد المسيح بمئات من السنين في حين أن المسيح نفسه لم يكن قد ظهر بعد، ولهذا يلزم أن يكون سؤالهم إما عن المسيح أو أحد سابقيه لا عن نبي يأتي بعده.

(٧) يوحنا ٤:‏٢١ "قَالَ لَهَا يَسُوعُ:‏يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ لا فِي هذَا الْجَبَلِ وَلا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ للآبِ". بنى بعض المسلمين على هذه الآية أن أورشليم من ذلك الوقت فصاعداً لا تكون قبلة للمصلين ويحل محلها الكعبة إلا أن عدد ٢٣ و٢٤ التاليين لهذه الآية يظهران ما قصده المسيح بقوله لا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ لأنه علمنا أن العبادة التي تحوز القبول عند الله لا تتوقف على المكان التي نقدم فيه بل تتوقف على حالة قلب العابد وقضى قضاء مبرماً على كل ما يقال له قبلة للصلاة بعد ذلك التاريخ.

(٨) يوحنا ١٤:‏٣٠ "لا أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً لأنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ." قال المسلمون أن رئيس العالم الذي بشر بمجيئه المسيح إنما هو محمد. ورداً عليهم نقول أنه يظهر من سياق الكلام والقرينة أن المسيح لم يعن برئيس العالم هنا نبياً ولا رسولاً بل عنى إبليس بدليل قوله ليس له فيّ شيء فإن هذه العبارة لا تشير إلى حبيب موال كشأن النبي إلى زميله النبي بل تشير إلى عدو مقاوم. وورد في مواضع كثيرة من الكتاب المقدس ذكر إبليس موسوماً بألقاب فخمة من ذلك قوله "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجاً" (يوحنا ١٢:‏٣١) وقوله "الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلا تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ .. الخ" (كورنثوس الثانية ٤:‏٤) ودعي إبليس "رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ"(أفسس ٢:‏٢ و٦:‏١١ و١٢).

(٩) (يوحنا ١٤:‏١٦ و١٧ و٢٦ و١٥:‏٢٦ و١٦:‏١٣ .. الخ) يجزم المسلمون أن كلمة الباراكليت المترجمة المعزي يجب أن تترجم محمد وعليه يكون المسيح تنبأ عن محمد في هذه الآيات ويقولون أن القرآن الذي جاء به هو من عند جبريل وهو عندهم الروح الأمين أي الروح القدس وأنه شهد للمسيح (يوحنا ١٥:‏ ٢٦ ومجده يوحنا ١٦:‏١٤) كما مجده القرآن وذلك لأن القرآن رفع مقام المسيح كمولود من عذراء وكنبي ورسول مؤيد بالمعجزات والآيات وقال أنه صعد إلى السماء حياً وأن الله آتاه الإنجيل ونفى عنه البنوة لله التي زعمها النصارى .. الخ. وقالوا أيضاً أن النصارى الأولين فهموا من أقوال المسيح بخصوص إرسال الباراكليت أن نبياً آخر عظيماً سيأتي بعده بدليل أن رجلاً يسمى ماني الفارسي ادعى أنه الروح القدس بعد المسيح ببضعة قرون وراجت دعوته عند بعضهم استناداً على هذه النبوة إلى آخر ما قالوا. أما نحن فنقول ليس أحد خبيراً بالإنجيل يقدر أن يستنتج من كلام المسيح عن إرسال الروح ما استنتجه إخواننا مما ورد في (يوحنا ١٤ و١٥ و١٦) وذلك لما يأتي:‏ أولاً أن كلمة باراكليت لا تعني محمداً بل تعني المعزي أو المؤيد كما في قوله وأيدناه (المسيح) بروح القدس (قرآن) أو الوكيل وهذه لا تناسب محمداً مطلقاً لأن المعنى الأول أي المعزي لا يلائم حامل السيف بل هما ضدان والمعنيين الأخيرين المؤيد والوكيل لا يصح إسنادهما إلى مخلوق كائن ما كان لأنهما من ألقاب الله سبحانه وتعالى كما ورد في القرآن وما أرسلناك عليهم وكيلاً (سورة الأسرى عدد ٥٥ وسورة النساء عدد ٨٠). ثانياً، أن كلمة الباراكليت لم تستعمل في أسفار العهد الجديد إلا للدلالة على الروح القدس (يوحنا ١٤:‏١٦ و١٧ و٢٦ و١٥:‏٢٦ و١٦:‏١٣) وجاءت أيضاً للتلميح إلى المسيح (يوحنا ١٤:‏١٦ وانظر يوحنا الأولى ٢:‏١). ثالثاً، أن الباراكليت حسبما ورد في هذه الآيات لا يمكن أن يكون إنساناً ذا روح وجسد بل هو روح محض غير منظور وهو روح الحق الذي عندما تكلم المسيح عنه بأنه يأتي. إنه الروح الذي مكث مع التلاميذ (يوحنا ١٤:‏١٧ و١٦:‏١٤). رابعاً، أن الذي يرسله هو المسيح كما في (يوحنا ١٥:‏٢٦ و١٦:‏١٧) وإخواننا المسلمون لا يقبلون على محمد أن يكون رسول المسيح. خامساً، كان محمد رجل حرب وغزو يفتح البلاد بسيفه ويدوخ العباد بجيشه وأما الروح القدس فعمله أن يبكت العالم على الخطية وجوهر الخطية عدم الإيمان بالمسيح (يوحنا ١٦:‏٩) فما أعظم الفرق. سادساً، قيل عن الروح القدس أنه متى جاء يمجد المسيح لا يمجد نفسه لأنه يأخذ مما للمسيح ويخبرنا (يو ١٦:‏١٤ و١٥). سابعاً، أن محمداً والقرآن ينكران بنوة المسيح لله وقد صرح أنه ابن الله بقسم (في مرقس ١٤:‏٦١) وكذا ينكران لاهوته مع كونه مثبوتاً في كل أسفار العهد القديم (إشعياء ٩:‏٦ ومزمور ٤٥:‏٦) والعهد الجديد (يوحنا ١٠:‏٣٠ وعبرانيين ١) وبناء عليه لا يكون محمد وقرآنه ممجدين للمسيح بل مضادين له على خط مستقيم وبالتالي لا يكون محمد الروح القدس كما زعموا. ثامناً، أن محمداً وقرآنه ينكران صلب المسيح الذي به صار التكفير عن خطايا العالم وبهذا قد أنكرا حقيقة جوهرية من أعظم حقائق الكتاب المقدس (انظر مزمور ٢٢:‏ وإشعياء ٥٢:‏١٣-٥٣ كله ومتى ٢٠:‏١٩ .. الخ) والتي يترتب عليها خلاص الجنس البشري. تاسعاً، أن إنكار المسيح يترتب عليه إنكار قيامته التي هي رجاء جميع المسيحيين (كورنثوس الأولى    ١٥:‏١٧-١٩)، وحيث أن محمداً يخالف الإنجيل في هذه النقط الرئيسية وغيرها ويعارض التعاليم التي أمر رسله أن يكرزوا بها للعالم (متى ٢٨:‏٢٠) فلا يصح أن يقال عنه أنه متمم لنبوة إرسال الروح القدس الذي إنما جاء ليذكر التلاميذ بكل ما قاله لهم المسيح (يوحنا ١٤:‏٢٦). عاشراً، أن احتجاجهم بما ادعاه ماني من أنه الروح القدس وتطبيقهم دعوة محمد على قول ماني دعوة باطلة وشاهد زور وإذا كان أحد منا يضاهي بين محمد وماني وبين قرآن الأول وكتاب الآخر الذي ادعى كما ادعى محمد أنه جاء به من السماء وأنه ليس في طاقة البشر أن يأتوا بمثله ولم يأتوا بمثله لجرحنا مشاعر إخواننا المسلمين وأغضبناهم ولكن ليكن معلوماً أن كاتب هذه السطور يتحاشى على قدر إمكانه أن يبدي مضاهاة كهذه حفاظاً على السلام.

واعلم أن المطلعين من المسيحيين رفضوا دعوة ماني بأنه الروح القدس لجملة أدلة منها أن النبوات المتعلقة بالباراكليت لا تشير إلى إنسان بل إلى روح، ومنها أن هذه النبوات تمت بعد صعود المسيح ببضعة أيام وذلك بحلول الروح القدس على المائة والعشرين مسيحياً الذين كانوا يسبحون الله في العلية في مدينة أورشليم وأخذوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح القدس أن ينطقوا (راجع أعمال الرسل ٢:‏١-٣٦). ومن هنا يظهر أن تعليم العهد الجديد في عصر ماني هو كما في العصر الحاضر وأن المسيح وهو على الأرض أخبر بظهور أنبياء كذبة وذلك في مواضع كثيرة من الإنجيل وحذرنا من الانقياد لأي نبي يأتي بعده (متى ٢٤:‏١١ و٢٤ ومرقس ١٣:‏٢٢ قابل متى ٧:‏١٥). لهذا عندما ظهر ماني وادعى النبوة رفضه مسيحيو عصره بناء على ما سبق التحذير منه في الإنجيل واعتبروه نبياً كذاباً كما يعتبره إخواننا المسلمون. حادي عشر، أن الباراكليت قيل عنه أنه سيسكن في قلوب المسيحيين الحقيقيين (يوحنا ١٦:‏١٤ قابل كورنثوس الأولى ٦:‏١٩ ورومية ٨:‏٩) وهذا لا يمكن أن يصدق على محمد. ثاني عشر، قد وعد المسيح بأن الروح القدس (يوحنا ١٤:‏٢٦) يجب أن ينزل من السماء على التلاميذ بعد صعوده بأيام قليلة وأمرهم أن لا يباشروا خدماتهم كرسل (متى ٢٨:‏١٩-٢٠) حتى يحل عليهم الروح القدس (أعمال الرسل ١:‏٢٥) وبناء على أمره مكثوا في أورشليم إلى أن تم هذا الوعد (انظر لوقا ٢٤:‏٤٩ وأعمال الرسل ١:‏٤ و٨ و٢:‏١-٣٦). فهل تظنون أن مراد المسيح أن ينتظر تلاميذه بدون أن يمارسوا عملهم مدة ستمائة سنة إلى أن يأتي محمد؟ هذا محال وعليه فلا تشير النبوة هنا إلى محمد بوجه من الوجوه بل إلى الذي تم يوم الخمسين بعد صعود المسيح بأيام قليلة كما قدمنا ذكره (انظر أعمال الرسل الإصحاح ٢)، وبعد ذلك الوقت نالت جماعة الرسل قوة فائقة وحكمة واسعة وجالوا يكرزون بالإنجيل في الأرض كلها.

(١٠) يوحنا الأولى ٤:‏٢ و٣ "بِهذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللّهِ:‏كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللّه، وَكُلُّ رُوحٍ لا يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ." ظن بعض المسلمين أن قوله روح الله يشير إلى محمد بدليل أنه اعترف بأن المسيح قد جاء في الجسد كما تقول الآية ومعنى ذلك عندهم هو حيث أن محمداً أنكر لاهوت المسيح في الجسد وصرح أنه إنسان كسائر الناس يكون قد اعترف بأن المسيح قد جاء في الجسد مع أن قوله جاء في الجسد يراد به نفي ضلالة ظهرت في ذلك الوقت ألا وهي أن جسد المسيح لم يكن جسداً حقيقياً بل خيالياً لأنه إذ كانوا يعتقدون بأنه إله شق عليهم أن يؤمنوا أيضاً بأنه ذو جسد حقيقي وعللوا أعراضه الجسدية المذكورة في الإنجيل مثل كونه أكل وشرب وتعب ونام واستيقظ ومات وقام الخ من قبيل التصورات الخيالية التي لا وجود لها في الحقيقة. فإذا قيل لهم كان المسيح يأكل الطعام فكيف لا يكون جاء في الجسد أجابوك لم يأكل المسيح ولم يشرب حقيقة ولكن شبه لهم وإذا قيل لهم كان المسيح ينام وينتبه من النوم قالوا كلا بل شبه لهم. وإذا قيل مات المسيح وقام قالوا لم يمت حقيقة ولم يقم ولكن شبه لهم. ودفعاً لشر هذه الضلالة أنذرنا الوحي على لسان يوحنا الرسول بأن كل من يعترف بأن المسيح جاء في الجسد أي يعترف بأن أعراضه الجسدية التي ذكرت في الإنجيل كانت حقيقية فهو من الله وكل من ينكر كونه جاء في الجسد أي ينكر كون أعراضه الجسدية كانت حقيقية فليس من الله ومحمد أنكر موت المسيح وهو من أعظم أعراضه الجسدية وكانت طريقة إنكاره مثل طريقة أصحاب تلك الضلالة بمعنى أنه حول واقعة الحال إلى واقعة خيال فقال ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم فتأمل.

(١١) يهوذا ١٤ و١٥ "وَتَنَبَّأَ عَنْ هؤُلاءِ أَيْضاً أَخْنُوخُ السَّابِعُ مِنْ آدَمَ قَائِلاً:‏هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمُ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا .. الخ." تجرأ بعض المسلمين وقالوا أن الرب في هذه العبارة يراد به محمد وقوله يصنع دينونة يشير إلى كونه متقلداً بالسيف ومثيراً للحرب على أعدائه ولكن لا مسلم حقيقي يقدر أن يسند لقب الرب إلى مخلوق كائناً من مكان لأنه من ألقاب الله انظر سورة التوبة آية ٢٢. والحقيقة أن أخنوخ تنبأ عن المسيح باعتبار مجيئه الثاني عندما يملك على الأرض (ودانيال ٧:‏١٣ و١٤ ومتى ٢٤:‏٢٩-٥١ وتسالونيكي الثانية ١:‏٦-١٠ ورؤيا يوحنا ١:‏٧ و١٩:‏١١-٢١) واسم الرب من ألقاب المسيح التي كثر إسنادها إليه في أسفار العهد الجديد وأسندت إليه بحق كما نعلم من فيلبي ٢:‏٩-١١.

(١٢) رؤيا يوحنا ٢:‏٢٦-٢٩ "وَمَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَاناً عَلَى الأمَمِ فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضاً مِنْ عِنْدِ أَبِي وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ .. الخ." قالوا أن هذا نبوة عن محمد بدليل أنه حارب الأمم بسيفه وأخضع كثيراً منهم تحت سلطانه فإن صحت دعواهم ينتج أن محمداً استمد هذه القوة والسلطان من المسيح جزاء له على تمسكه بوصاياه وحفظه أعماله إلى النهاية وبالتالي كان مقامه دون مقام المسيح إلا أن إخواننا المسلمين لا يرضيهم ذلك ولا يرضيهم أن يكون مقامه كمقام المسيح بل أعظم منه. وكيف لا وهو عندهم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين والحقيقة هي أن من يراجع الإصحاح الثاني والثالث من هذا السفر يجد أن المتكلم هو المسيح يحث أعضاء الكنائس السبع على الغلبة واعداً من يغلب بأحسن الجزاء وكرر ذلك سبع مرات فلا يشير إلى محمد ولكنه يتكلم كلاماً عمومياً لترغيب شعبه في الغلبة لا غلبة السيف والسهم بل غلبة الخطية والجسد والعالم والشيطان.

إلى هنا انتهينا من النبوات الواردة في أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي خالها المسلمون تشير إلى محمد ورأينا أن لا نبوة منها تشير إليه. هذا وقد علمنا من الإنجيل تمام العلم أنه لا يوجد كتاب يلي الإنجيل ولا نبي يأتي بعد المسيح والعصر الوحيد الآتي هو رجوع المسيح من السماء ليملك على الأرض الملك الدائم. وعلى ما تقدم سقطت دعوى محمد بالرسالة من الله سقوطاً ليس من ورائه مجالاً للشك.

حقاً أن بعضاً من المسلمين اندهشوا عندما قرءوا عن الجراد في (رؤيا يوحنا ٩:‏٣ و٤) حيث يقول "وَقِيلَ لَهُ أَنْ لا يَضُرَّ عُشْبَ الأرْضِ وَلا شَيْئاً أَخْضَرَ وَلا شَجَرَةً مَا إِلا النَّاسَ فَقَطِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ خَتْمُ اللّهِ عَلَى جِبَاهِهِمْ،" لأنهم يقصون علينا أنه حدث في زمن خلافة أبي بكر الصديق أنه زود جنوده عندما ساروا لفتح الشام بأوامر تمت معها هذه النبوة حرفياً. ومما يستحق الأخذ في الاعتبار أن نجد اثنين من مؤرخي المسلمين لا يعلمان غالباً بهذه النبوة يرويان لنا حديثاً يذكرنا بها قال جلال الدين السيوطي لما بعث أبو بكر الصديق ابن أبي سفيان لفتح الشام أمره أن لا يقتل امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً ولا يقطع أشجاراً منتجة ثماراً ولا يتلف أرضاً مزروعة ولا ينحر شاة ولا دابة إلا ما دعت إليه حاجة الطعام ولا يقلع نخلة منتجة ولا يحرقها قبل قلعها ولا يغدر بأحد ولا يخشى أحداً وروى الواقدي الرواية عينها بأكثر تفصيل قال أمر أبو بكر الصديق ليزيد ابن سفيان أنه إذا ظفر بأعدائه لا يذبح ولداً ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً ولا يقرب نخلة ولا يحرق مزرعة ولا يقلع أشجاراً مثمرة ولا ينحر ماشية إلا لضرورة الطعام ولا يغير ما اتفق عليه ولا ينقض محالفة صلح وإذا مر بأديرة الرهبان الذين انقطعوا لعبادة الله يدعهم وما انقطعوا إليه لا يقتلهم ولا يهدم أديرتهم وأما إذا مر بتلك الطائفة التي تعبد الشيطان والصلبان ذوي الرؤوس المحلوقة من الوسط يضربهم بسيفه إلى أن يعتنقوا دين الإسلام أو يدفعوا الجزية وهم صاغرون.

لا شك أن المشابهة عظيمة بين ما ورد في سفر الرؤيا وبين ما أمر به أبو بكر جنوده ولكن لم ترد إشارة إلى نبي ما في ذلك الموضع مما يؤيد دعوة محمد كما أنه لا مسلم خبير يقدر أن يستشهد بالآيات المذكورة ولو سلمنا أنها نبوة تمت بعد موت محمد بجملة سنين.


١. ان الذي فسر هذا المثل بهذه الكيفية هو محمد نفسه كما في البخاري وغيره اهـ مصحح

الفصل الثالث

هل يمكن أن تكون فصاحة القرآن معجزة تدل على أنه موحى به من الله؟

تمثال في معبد الكرنك، مصر
 تمثال في معبد الكرنك، مصر

يجزم إخواننا المسلمون أن فصاحة القرآن وطلاوة عباراته بالغة حد الإعجاز حتى أنه يكفي لإثبات رسالة محمد سيما وأنه لم يكن يعرف الكتابة ولا القراءة فمن المحال أن يكون قادراً على الإتيان به ما لم يكن موحى به من الله. ويقولون لكل نبي آية بينة تدل على أن رسالته من عند الله إلا أن الآيات تنوعت حسب أحوال الزمان الذي جاء فيه الأنبياء. ففي زمن موسى مثلاً بلغ السحر والسحرة مكانة عظمى عند المصريين فأوتي موسى من الآيات ما يشبه السحر في ظاهره وهو ليس بسحر في الحقيقة بل معجز للسحرة. وفي زمن المسيح بلغ الطب مبلغاً عظيماً فكانت آيات المسيح مشبهة بالطب ولكنها تفوقه، وفي زمن محمد كانت الفصاحة هي الصناعة الرائجة بين العرب فأوتي القرآن معجزاً لفصحاء عصره وشعرائه. ومن أدلتهم على إعجاز القرآن ما جاء فيه من تحدي العرب على أن يأتوا بكتاب مثله أو سورة منه كما في سورة البقرة آية ٢٣ ومن ذلك قوله "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً" (سورة الإسراء ١٧:‏٨٨).

ورداً عليهم نقول إذا فحصنا دعواهم بإعجاز القرآن فحصاً دقيقاً خليقاً بأهمية الموضوع لا نجد دليلاً على صحة دعواهم لأنه كم من الكتب الشهيرة في العالم ألفها قوم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة وجاءت لا مثيل لها ومن هذه الكتب كتاب وضعه ريج فيدا في بلاد الهند وضعه بين سنة ١٠٠٠ و١٥٠٠ ق م قبل أن تعرف صناعة الكتابة في تلك البلاد بزمن طويل ويزيد حجمه عن القرآن وقد صنفه أكثر من واحد إلا أنهم لم يكن لهم كاتب يملون عليه آيات كتابهم. وفي اللغة اليونانية القديمة قصيدتان في غاية الفصاحة وهما الإلياذة والأودسة ١ منسوبتان في الغالب إلى شاعر أعمى اسمه هوميروس وكان العميان في سالف الزمان لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ولا كانت لديهم الوسائل التي لدينا اليوم وليس ثمة وجه للظن أن يكون أملى قصيدته على بعض الكتبة لأنه كان فقير الحال يحصل قوت يومه بالتجوال على البيوت يتلو أشعاره. على أنه لم يقم دليل قاطع على أن محمداً كما زعموا غير عالم بالقراءة والكتابة وغاية ما أوردوه لإثبات هذه الدعوى هو ما وصفه به القرآن بأنه النبي الأمي (سورة الأعراف ٧:‏١٥٦ و١٥٧). إلا أن هذا الوصف لا يثبت عدم معرفته القراءة والكتابة بل يثبت كونه نبياً من الأمم ٢ لا من بني إسرائيل وذلك واضح من سورة آل عمران آية ٢٠ في قوله "وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِينَ .. الخ." ومن ذلك ترى أن العرب مدعوون هنا بالأميين فقال النبي الأمي كما نقول اليوم النبي العربي وكانت عادة الأنبياء أن يأتوا من أهل الكتاب أي بني إسرائيل.

فلما ادعى محمد النبوة وكان من غير أهل الكتاب دعوه النبي الأمي أي من الأمم كما تقدم تمييزاً له عن بقية الأنبياء الذين كانوا جميعاً من بني إسرائيل. وبخلاف ذلك، علم المطلعون من المسلمين بالروايات المنسوبة إلى البخاري ومسلم التي تنفي عن محمد وصمة الجهل بالقراءة والكتابة من ذلك ما ينسبونه إليه في معاهدة الحديبية من أنه أخذ القلم وضرب على توقيع علي بن أبي طالب بالنيابة عنه تحت إمضاء رسول الله وكتب ابن عبد الله. ومما ينسبونه إليه أنه لما أحتضر طلب أن يأتوه بأدوات الكتاب ليوصي بمن يخلفه وقبل أن يأتوه بها خانته قواه كما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس. وبما أن هذه الروايات موضوع نزاع بين أهل السنة والشيعة فلا نجزم بصحتها غير أننا نقول أن مجرد وجودها مسندة إلى أئمة الحديث أمر يستحق الاعتبار وخصوصاً لأن لا شيء فيها بعيد الوقوع.

واعلم أن فن الكتابة كان معلوماً عند العرب في عصر محمد لأنه معلوم بالتأكيد أنه لما وقعت بعض أهالي مكة أسرى عند أهالي المدينة افتدوا أنفسهم منهم بأن يعلموهم الكتابة ثم أن وجود المعلقات السبع (سواء كانت معلقة في الكعبة كما ظن جلال الدين السيوطي أم محفوظة في خزانة عكاظ كما قال أبو جعفر أحمد ابن اسمعيل بن نواس) دليل على أن الكتابة كانت أمراً عادياً بين مؤلفي ذلك العصر والذين قبلهم سواء كانوا يكتبون مؤلفاتهم بأنفسهم أو يكتبها كتبة آخرون على ذمتهم.

وإن قلنا أن محمداً كان يعرف الكتابة ولكنه لم يحسنها بحيث يتهيأ له أن يكتب كتاباً فلا يؤثر ذلك في أهمية القرآن لأننا نعلم من أقوال السالفين أن زيداً بن ثابت كان من جملة الكتبة الذين استخدمهم محمد وكانوا يكتبون كما يملي عليهم على العظام وعلى الخشب والخزف بالحرف الكوفي ٣ خلواً من نقط الوقف وحركات الضبط وعلى مدى الأيام تبين لعلماء التفسير اختلاف القراءات القرآنية الذي نتج عنه نقص الأبجدية الكوفية. ولي هنا سؤال أمكتوبٌ القرآن بالحرف الكوفي في اللوح المحفوظ أم بغيره على أن الحرف الكوفي وإن كان قديماً إلا أنه مستخرج من الأبجدية السريانية وتلك من الفينيقية.

وكان إذا أملا محمد آية على الكاتب يسارع إلى حفظها المتدينون من قومه ولكن ذلك لا يمنع من أن بعض الآيات لم يحفظها أحد أو مات الذين حفظوها. جاء في صحيح مسلم أن عائشة قالت ما معناه مما أنزل في القرآن عشر آيات في الرضاعة نهي عنها ونسخت بخمس آيات أُخر ومما لا شك فيه أن عائشة سمعت هذه الآيات في زمانها من بعض القراء ولا نجدها اليوم في القرآن.

وروى مسلم عن عمر بن الخطاب ما معناه أن الله أرسل محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب وبما أن آية الرجم مما أنزله الله في هذا الكتاب رجم رسول الله ورجمنا من بعده والرجم حد الزاني وكان نص آية الرجم هكذا "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة."

ولكنا لا نجد هذه الآية في القرآن المتداول اليوم والذي نجده أن الزنى حده الجلد مائة جلدة (انظر سورة النور ٢٤:‏٢-٤) وروى ابن ماجة أن عائشة قالت أن آية الرجم والرضاعة نزلتا.. وكان القرطاس المكتوبتان فيه تحت فراشي ومات رسول الله حينئذ وفيما أنا منشغلة بموته دخلت بهيمة وأكلت القرطاس. وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري أنه قال لخمسمائة من حفظة القرآن في البصرة أنا اعتدنا أن نتلو سورة تضاهي سورة براءة في الطول والشدة وقد نسيتها ولم يبق منها في بالي غير هذه الكلمات "توكلت .. الخ." واعتدنا أن نتلو سورة على المسبحة ونسيتها ما عدا قوله "أيها الذين .. الخ."

ومن المشهور أن أبيا زاد على نسخة قرآنه سورتين قصيرتين تحت اسمين اعتباريين وهما سورة الخلع وسورة الحفظ وتسمى الأخيرة أيضاً سورة القنوت لأنه يؤكد أنهما نزلتا في القرآن وحذفهما عثمان في حين أن ابن مسعود حذف سورة الفاتحة والمعوذتين من مصحفه. وقال قوم من الشيعة أن في القرآن بعض الآيات المشيرة إلى علي بن أبي طالب وحذفت عمداً من القرآن المتداول اليوم منها سورة النساء آية ١٣٦ و١٦٤ وسورة المائدة آية ٧١ وسورة الشعراء آية ٢٨٨ وقالوا أن في سورة آل عمران آية ١٠٦ أبدلت كلمة "أئمة" الأصلية بكلمة "أمة" وفي سورة الفرقان آية ٧٤ أبدلت العبارة الأصلية "واجعل لنا من المتقين إماماً" بعبارة محدثة "واجعلنا للمتقين إماماً" وذكروا تغييرات أخرى في سورة يوسف آية ١٢ والمؤمنين آية ٣٩ أحدثوها عمداً. وقد سلم الإمام فخر الدين الرازي أن في سورة هود آية ٢٠ تختلف القراءة عن مصحف علي ففي القرآن المتداول تقرأ هكذا ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وتقرأ في مصحف علي هكذا "ويتلوه شاهد منه إماما ورحمة ومن قبله كتاب موسى" والفرق بين العبارتين خليق بالاعتبار عند الشيعة لما في العبارة الثانية من الإشارة إلى علي باعتبار كونه هو الشاهد وهو الإمام والرحمة، وليس كتاب موسى الإمام والرحمة كما في العبارة الأولى. وقال آخرون أن سورة برمتها حذفت من القرآن بالقصد وتسمى سورة النورين واقتبسها إلى آخرها مرزا محسن من كشمير ببلاد الهند في كتابه المسمى (دبستان مذاهب).

وليس غرضنا من ذكر شبهات الشيعة في ما أضيف إلى القرآن وما حذف منه إثبات هذه الشبهات أو نفيها ولكن حيث أنهم قالوا أن القرآن معجزة لرسالة محمد صار من الواجب علينا الإشارة إلى ما قاله نفس علمائهم والثقة منهم في الزيادة والنقصان اللذين اعترياه دفعاً لدعوة الإعجاز.

نتقدم الآن إلى بيان المنهج الذي سلكوه لجمع متفرقات القرآن من سور وآيات إلى كتاب واحد ونعتمد في التحري عن ذلك على المصادر الموثوق بها عند المسلمين أنفسهم.

"عن زيد بن ثابت قال أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر أن عمراً أتاني فقال أن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القران وأني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟ فقال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد قال أبو بكر أنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أخبرني به من جمع القرآن. قلت كيف تفعلوا شيئاً لم يفعله رسول الله؟ قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره لقد جاءكم رسول من أنفسكم حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر طول حياته ثم عند حفصة بنت عمر. رواه البخاري كما في مشكاة المصابيح في آخر كتاب فضائل القرآن."

وذكر هذه الرواية ما عدا الجملة الأخيرة جلال الدين السيوطي (انظر تاريخ الخلفاء طبعة لاهور سنة ١٣٠٤ للهجرة صحيفة ٥٣).

ومن المحتمل أنه لم تكن وقتئذ نسخة كاملة للقرآن سوى تلك التي جمعها زيد واعتمد كافة المسلمين في قرآنهم على حفظه في الصدور وتلاوته بالشفاه إلا بعض أجزاء منه قد كتبت حسبما تلاها الحفظة في سبع قراءات. ولما أصبح القرآن في خطر الضياع والفساد والسريان والاختلال في جميع متونه أنذر حذيفة ابن اليمان عثمان بن عفان بسوء العاقبة وذلك عندما كان منهمكاً في افتتاح بلاد الأرمن وأذربيجان. وروى البخاري معناه يا أمير المؤمنين تدارك المسلمين قبل أن يقع الاختلاف بينهم في القرآن كما اختلف من قبلهم اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة يقول لها ابعثي إلينا بالصحف لننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فبعثتها إليه وعند ذلك انتدب الخليفة زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الله بن الحارث بن هشام فنسخوها وقال للثلاثة القرشيين إن اختلفتم مع زيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش لأنه نزل بلسانهم ففعلوا ذلك حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل إقليم نسخة وأصدر أمراً أن كل قرآن خالف هذه النسخة يحرق فقال شهاب أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت يقول لما نسخنا القرآن فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمعها من رسول الله وبعد التحري عنها وجدناها عند خزيمة ابن ثابت الأنصاري: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فألحقناها بموضعها. ومن ذلك يتضح وجود تنقيح في النسخ التي أصدرها عثمان لما رأيت من الخلاف بينها وبين الصحف الأصلية التي كانت عند حفصة وعدا ذلك فإن صدور أمر الخليفة بحرق النسخ القديمة المخالفة لما استنسخه وهو دليل آخر على وقوع الاختلاف في نسخ القرآن ومما يزيد ذلك الدليل وضوحاً أن نسخة حفصة نفسها أمر بحرقها مروان عندما كان حاكماً على المدينة لما تحقق من الاختلاف بينها وبين ما استنسخه عنها عثمان. وبالرغم من هذه الوسائط المتناهية في الشدة التي اتخذها حكام المسلمين الأولين لتوحيد نسخة القرآن لم يزل فيه بعض الاختلافات التي يعبر عنها بالقراءات كما نعلم مما نقله إلينا الأئمة والمفسرون الراسخون في العلم ومنهم البيضاوي وانظر مثلاً تفسيره لسورة آل عمران آية ١٠٠ وسورة الأنعام ٩١ وسورة مريم ٣٥ وسورة القصص ٤٨ وسورة الأحزاب ٦ وسورة سبا ١٨ وسورة ص ٢٢ .. الخ.

إلا أنه من الوجه الآخر نقول أن السبب الرئيسي الذي نستنتج منه بقاء القرآن على ما كان عليه تقريباً بعد وفاة محمد هو أنه تضمن أقوالاً كشفت الستار عن حياته الأدبية مثل (سورة الأحزاب ٣٧ و٣٨ و٤٩-٥٢) لأنه من المحال أن يجترئ مسلم على أن يلصق بنبيه تلك الوصمة المشار إليها في هذه المواضع ما لم يكن اعترف بها هو نفسه وأمر أن تُدرج في صفحات كتابه الذي نزل عليه من السماء (على حد زعمه). ويا حبذا لو اعترف بأنها خطيئة اعترافاً صريحاً واستغفر ربه لكنه ادعى أنه فعل ما فعله بموجب تنزيل العزيز الحكيم "لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً". لهذا لم يخجل أتباعه أن يذكروا له تلك الحادثة في ما دونوه من تاريخه وبالرغم عن الاعتذارات الكثيرة التي شفعوا له بها، إلا أنه لم يتبرر أمام الناقدين المحققين فاجتنبوه واجتنبوا دينه.

وليس بين علماء المسلمين اليوم من يستطيع أن يبرر القرآن ومحمداً من تلك القصة ومهما قالوا مدافعين لا يقدرون أن يسكتوا لسان الضمير الحي عن التصريح بالحق إن لم يصرح الفم. قالوا إن القرآن لمعجزة، بل الآية الواحدة منه معجزة تدل على رسالة محمد الإلهية وأنه لا الملائكة ولا الأنس ولا الجن يقدرون أن يأتوا بسورة منه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وإن كل كلمة منه خطت بالقلم في اللوح المحفوظ بجانب عرش الله قبل أن يبرأ البرايا بعصور كثيرة، مع العلم بأن القصة المشار إليها كانت من ضمنه. ثم أن جبريل نزل به من عند العرش إلى سماء الدنيا في ليلة القدر وبعد ذلك بلغه إلى محمد شيئاً فشيئاً حسب مقتضيات الأحوال. قال ابن خلدون تأييداً لهذا "اعلم أن القرآن أنزل من السماء باللسان العربي على الأسلوب الذي كان مألوفاً عند العرب للإعراب عن أفكارهم وأنزل عليه باللفظ حسب مقتضيات الأحوال ببيان وحدانية الله وشرح الواجبات المفروضة على الإنسان في هذه الدنيا." وقال مثل هذا في مواضع كثيرة. "ويدل هذا كله على أن القرآن من بين الكتب الإلهية إنما تلقاه نبينا صلوات الله وسلامه عليه متلواً كما هو بكلماته وتراكيبه بخلاف التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية فإن الأنبياء يتلقونها في حال الوحي معاني ويعبرون عنها بعد رجوعهم إلى الحالة البشرية بكلامهم المعتاد ولذلك لم يكن فيها إعجاز." وبحسب رأي هذا العالم يكون القرآن لفظاً ومعنى من عند الله بخلاف التوراة والإنجيل فإن معانيها من عند الله وأما ألفاظهما فمن عند الأنبياء والرسل الذين كتبوهما. وعليه إذا اتضح لنا من البحث أن عبارة القرآن ليست من الإعجاز في شيء أو على الأقل لا دليل على إعجاز القرآن فلا يصح أن يرد علينا المسلم بقوله "كذلك عبارة التوراة والإنجيل خالية من الإعجاز. ولا يمكن أن تدل على كونهما صادرين من الله" لأننا لم ندع قط أن عبارة كتابنا تتضمن شيئاً من الإعجاز ولا ادعينا أنها دليل على تنزيله من عند الله بل نقول عن كتابنا ما قاله ابن خلدون أن مسيحي عصره والعصر الحاضر على رأي واحد من جهة أسفار الكتاب المقدس وأن كل كاتب من كتبته استعمل عباراته الخصوصية فمنهم من كتب شعراً فصيحاً بليغاً ومنهم من كتب نثراً بسيطاً فكانت المعاني من عند الله والتعبير من عند ذلك النبي أو الزبوري أو البشير أو المؤرخ، كل حسبما أمره الرب أن يكتب.

ثم أنه من المحقق الآن عند العلماء أن لسان قريش الذي كتب به القرآن إنما هو لسان أهل مكة لا لسان أهل الجنة فإن العربية كما هو معلوم إحدى اللغات السامية وهي كأخواتها العبرانية والآرامية والحبشية والسريانية والأشورية وغيرها من اللغات التي هي أقل أهمية. ونحن لا ننكر أن اللغة العربية إحدى اللغات القديمة كما أننا نعترف بأن القرآن في بعض فصوله فصيح العبارة وبليغ الأسلوب غير أن علماء اللغة أثبتوا اشتماله على كلمات غير عربية معدلة عن اللغات الأخرى، منها كلمة فرعون مأخوذة من اللسان المصري القديم وكلمتا آدم وعدن مأخوذتان من لغة قديمة تُدعى أكاديان وإبراهيم من لغة الأشوريين وهاروت وماروت والصراط وحور والجن والفردوس مأخوذة من لغة قدماء الفرس وتابوت وطاغوت وزكاة وملكوت من لغة السريان والحواريين من اللغة الأيتوبية وحبر وسكينة وماعون وتوراة وجهنم من ألفاظ اليهود والإنجيل من لغة اليونان. وعليه فكلام القرآن ليس عربياً محضاً وحينئذ لا مانع من أن تكون هذه الكلمات الغير عربية مكتوبة في اللوح المحفوظ أسوة بكلماته العربية ما دام لها الفضل عليها في التعبير عن كثير من معاني القرآن. مع أن هذا يفتقر إلى الإثبات. كما اشتمل القرآن على كلمات غير عربية اشتمل على تراكيب لو وردت في غيره من الكتب لعدها علماء النحو والبيان غلطات لا محالة وهي كثيرة نكتفي ببعضها: ففي سورة البقرة ٤ قوله أولاً، "تلك عشرة كاملة،" والصواب تلك عشر وقال في سورة الأعراف وقطعناهم اثنتي عشر أسباطاً، فأنث العدد وجمع المعدود والصواب التذكير في الأول والإفراد في الثاني وقال في سورة النساء ٤:‏١٦٠ "لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الّزَكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" والصواب والمقيمون الصلاة.

وقال في سورة المائدة ٧٣ "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"، والصواب والصابئين، وقال في سورة المنافقين ٦٣:‏١٠ "وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ"، والصواب وأكون بالنصب وقال في سورة آل عمران ٥٢  "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"، والصواب فكان.

ومما أخطأ فيه مراعاة المروي قوله سلام على الياسين والوجه الياس وقوله "وطور سينين" والصواب سيناء ومن خطأه في الضمائر قوله في سورة الحج ١٩:‏٢ "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ" والصواب اختصما في ربهما وقوله في سورة الأنبياء "وأسروا النجوى الذين ظلموا" والصواب وأسر النجوى وقوله في سورة الحجرات "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما" والصواب اقتتلتا أو بينهم.

وبخلاف ما تقدم فإن الرأي العام عند العلماء الخالين من الغرض هو أن القرآن ليس بأفصح من كل الكتب العربية فبعضهم لا يفضله من حيث الفصاحة والبلاغة على المعلقات السبع وعلى مقامات الحريري وإن كانوا لا يتجاسرون على التصريح بذلك في البلاد الإسلامية، على أن التاريخ ذكر أن كثيرين من علماء العرب أنكروا إعجازه من حيثية اللغة وقال السلطان إسمعيل في كلامه عن الإسلام إن عيسى ابن صابح المكنى بأبي موسى مؤسس شيعة المزدارية والمعروف بالمزدار كان يقول أن البشر يقدرون أن يكتبوا مثل القرآن في الفصاحة والبلاغة والروي فنشأ عن ذلك نزاع استفحل شره في حكم المأمون استمر من سنة ١٩٨ هجرية إلى سنة ٢١٨. وقال مؤلف كتاب شرح المواقف أن المزدار كان يقول أنه كان من ممكن للعرب أن يأتوا بأفصح من القرآن بكثير. وقال الشهرستاني أن المزدار أبطل دعوى القرآن بالإعجاز من حيث الفصاحة والبلاغة والنظام فقال إن إعجاز القرآن ليس من حيث جمال عباراته بل من حيث أخباره بحوادث الماضي والمستقبل التي تضمنها وأن الذي صرف العرب عن مباراته، هو عدم الإنصاف في الحكم بمضاهاته وادعائه بإحرازه السبق على غيره بغير حق مما ثنى عزيمته المناظرين عن الاهتمام بدعواه ولو وجدوا حكماً يقضي بينهم وبين صاحب القرآن لأتوا بمثله بدون نزاع.

نعم أن إخواننا المسلمين يعتبرون من قال منهم بعدم إعجاز القرآن مبتدعا ويتضررون من تكرار هذا القول إلا أننا لسنا نريد إساءتهم ولا إهانة كتابهم بل نقصد فقط أن نبين لهم بما لدينا من الأدلة أن مسألة إعجاز القرآن لم تقع موقع القبول والتسليم حتى عند العرب أنفسهم، بل كانت من بدء الإسلام إلى الآن موضوع خلاف ونزاع أدى إلى التحزب والانشقاق. فإن كان العرب ارتابوا في إعجاز القرآن وأنكروه حالة كونهم أرباب اللغة وأهلها فكيف يتعين على الأعاجم أن يسلموا بإعجازه ويتخذونه دليلاً على نبوة صاحبه فاحكموا!

ولنفرض أن القرآن أفصح كتاب عربي على وجه الأرض هل يلزم عن ذلك أنه كتب بالوحي أو هبط على محمد من سماء السموات؟ لا يلزم ذلك أبداً لأنه في كل لغة راقية كتب المؤلفون كُتب عديمة المثال؛ ففي لغتنا الإنكليزية لا يوجد كأشعار شكسبير وفي لغة الألمان تفردت قصيدة شيلر وغوث عن النظير؛ وفي لغة الفرس فاق حافظ الكل في نوع من القصائد وفاق مولانا الرومي في نوع آخر؛ وفي لغة السكريتية الهندية تجلت عن المثيل قصائد ريج فيدا ولم يدع كتبتها بالإعجاز لفصاحتها وبلاغتها ولا قالوا أنها وحي هبط عليهم من السماء.

وعليه ففصاحة الكتاب ليست دليلاً على كونه منزلاً من السماء لأنه على الأرض فصحاء كثيرون والفصاحة من  الصناعات البشرية إنما دليل على سمو تعليمه لا تنسيق ألفاظه كما شرحنا في المقدمة وإلا لكان الهنود محقين في دعواهم عن كتابهم مع أنه قد ذكر فيه نحو ثلاثة وثلاثين إلهاً. يمكن أن يكون الكتاب موحى به من الله باعتبار ما يتضمن من التعاليم الحقة والأفكار الصالحة والمبادئ الروحانية السامية ولا حاجة إلى الألفاظ إلا ما دعت إليه ضرورة البيان. وتسري هذه القاعدة على الكتب المؤلفة أيضاً فإن قيمتها الحقيقية تقاس بصلاح تعليمها وجودة مبادئها لا بزخارف ألفاظها وطلاوة عباراتها. فإن كان المسلم لا يزال يدعي أن القرآن أفصح كتاب في الوجود وفصاحته معجزة تدل على أن محمداً رسول الله فنقول هذه دعوى لا يمكن إقامة الدليل عليها إلا إذا توفرت لدينا شروط هي من وراء مقدرة البشر لأنه لا يتأتى لأحد أن يحكم بأسبقية القرآن على سائر الكتب في كل اللغات في الفصاحة والبلاغة ما لم يطلع على كافة الكتب واللغات ويقارن بينها وبين القرآن وهذا ما لا سبيل إليه. ولا يتعرض أحد به مسة من العقل لمشروع محال، وعليه فليس من المعقول أن يتمسك المسلم بأهداب هذه الحجة الواهية مؤكداً أن ديانته نور وهدى لكل الناس وأن نبيه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين إلى غير ذلك من الدعاوى الطويلة العريضة وليس لديه من البراهين إلا فصاحة القرآن المزعومة التي لا يتهيأ لمخلوق أن يسلم بها لأنها تقتضي، كما قلنا فحصاً ليس بمقدور أحد، ولو أن بمقدور الأعمى أن يميز جميع الألوان التي في قوس قزح، لكان ذلك أيسر من أن يكلف البصير بفحص جميع الكتب التي في العالم في كل اللغات ليعلم عن بينة أي كتابه أفصح الكل وعليه فكل الدعاوي الإسلامية قائمة على هذا الأساس الباطل والبرهان الساقط.

ومع أننا لم نستطع أن نقرأ الكتب جميعها ونعلم كل اللغات للتمييز بينها وبين القرآن فقد قرأنا الكتاب المقدس ولله الحمد وأننا نقول بملء أفواهنا أن كثيراً من أسفاره في لغتها الأصلية أفصح من أي قسم من القرآن ومن بين تلك الأسفار سفر النبي أشعياء والتثنية والمزامير وقد لا ينكر أحد هذه الحقيقة من علماء اللغات إلا إخواننا المسلمون ولو فتح الله عليهم ودرسوا اللغة العبرانية التي كتبت بها هذه الأسفار لاعترفوا هم أيضاً بهذه الحقيقة.

ونذكر هنا طريقة سهلة مستطاعة لكل قارئ يقابل بها بين الكتاب المقدس والقرآن إذا كان يجهل اللغات الأصلية التي كتب بها الكتاب المقدس بأن يقرأ سفر النبي أشعياء أو غيره من الأسفار التي ذكرناها في أي لغة كاللغة التركية أو الفارسية أو الإنكليزية أو الفرنسية إلى غير ذلك ثم يقرأ أي سورة من القرآن في تلك اللغة فلا يلبث طويلاً حتى يتنازل عن دعواه وهو صاغر.

ولكن لنفرض بعد هذا كله أن القرآن يرجح على سائر الكتب في الفصاحة والبلاغة فلا يصح أن نتخذ رجحانه من هذه الحيثية دليلاً على كونه موحى به من الله لأنه لا مناسبة بين الفصاحة والوحي. كما أنه لا يستدل بجمال المرأة على فضيلتها ولا بقوة الرجل على حكمته وإنما يعلم الوحي من غيره بما اشتمل عليه من صلاح التعليم وملاءمة مبادئه لطبيعة الله القدوس وكفاءته في جبر نقائص البشر وشفاء أشواقهم الروحية كما شرحنا ذلك في موضعه.

قيل عن ماني الذي ادعى النبوة زاعماً أنه هو الروح القدس الذي بشر به المسيح أنه يأتي بعده، أنه جاء بكتاب صور جميلة يدعى أرتنج وقال أن الله أعطاه الكتاب ليكون معجزة وبينة على أنه رسوله الأمين ونبيه الصادق وحجته على صحة دعواه أن لا أحد من البشر يقدر أن يرسم صورة مثل هذه الصور. فهل لأنه لا أحد عمل كتاباً مثل كتابه تقوم صحته ونؤمن به نبياً ورسولاً؟ كلا بل غاية ما في الأمر نعترف له بإتقان صناعة الرسم والتصوير. وعلى هذا القياس أن سلمنا بأنه لا كتاب في الدنيا يضاهي القرآن فصاحة فحسبنا أن نعترف لصاحبه بإتقان الفصاحة كما اعترفنا لماني بإتقان التصوير. فالاعتماد إذاً لا على زخارف القرآن اللفظية بل على مشتملاته وهذا ما قصدنا أن نبحث فيه في الفصول الآتية.


١. Iliad—Odyssey

٢. لقد قال بمثل ذلك بعض محققي المسلمين انظر السيرة النبوية لزيني دحلان اهـ مصحح

٣. هذا خلاف المشهور لأن الحرف الكوفي لم يكن يعرف إلا بعد وفاة محمد اهـ مصحح

٤. قابل منار الحق

الفصل الرابع

هل إذا فحصنا مشتملات القرآن تفيدنا أنها من عند الله أوحى بها إلى محمد؟

قلعة الزبارة في قطر
 قلعة الزبارة في قطر

من أهم طرق الفحص التي بواسطتها نطلع على حقيقة القرآن أن نقرأ محتوياته بتأمل وإمعان نظر لأن مجرد استظهاره بدون تعقل معانيه لا يكفي، ولا يغاير محفوظات الببغاء الذي يكرر ألفاظاً ولا يدري ما يقول. أن الذين يؤمنون أن القرآن كلام الله وأنه نور وهدى للناس، أقل ما يجب عليهم أن يتفقهوا معناه ويقفوا على حقيقته لإنارة قلوبهم وأذهانهم. واعلم أن النور لا يليق به أن يوضع من وراء ستار الباطل ولا تحت مكيال الخرافات والجهل بل يوضع على منارة التعقل والتروي ليضيء من استضاء به ويهدي من اهتدى به. أن قراءة القرآن بتأمل وعناية وبفهم معناه أمر واجب على كل مسلم ومهما يكن للقرآن من علو المنزلة فلا يظفر أحد بطائل من ورائه ما لم يفهم أقواله ويلزم الطاعة لأوامره ونواهيه، ولكننا بعكس ذلك نجد جمهور المسلمين من قراء وسامعين قد اكتفوا بتلاوته وتجويده بلحن مطرب واكتفوا بالسمع ونشوة الطرب والأغرب من ذلك أنهم يتوقعون ثواب من الله عن تلاوته والاستماع إليه بهذه الكيفية فتأمل! ومن العجب العجاب أن لا يتلى إلا بالعربية مهما يكن لسان الذي يتلوه وألسنة الذين يسمعونه وهذا ما لا يجوز أن يقابل به كتاب يقولون أنه منزل من عند الله. إنهم بهذه المعاملة لقرآنهم يشبهون ابن سبيل يسير في الدجى مخبئاً مصباحه تحت طي ثيابه وكان ينبغي له أن يظهره ويرفعه أمام بصره ليتبين له الطريق.

وحيث أن إخواننا المسلمين يضعون القرآن في مكانة عالية وحيث أنه من المهم أن لا يرفض الإنسان وحياً إلهياً، لذلك وجب على المفكرين من المسيحيين أن يدرسوا القرآن درساً دقيقاً ليتعلموا ما يعلمهم إياه لئلا يرفضون النور والهدى والخلاص برفضهم له. وإذا درس المسلمون والمسيحيون الكتاب باعتناء يكونون قادرين أكثر على معاونة أحدهم الآخر لمعرفة طريق الحق والسير في الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

واعلم أن أهم ما جاء في القرآن هو ما ورد فيه عن ذات الله وأوصافه وتوحيده مثل كونه الإله الأزلي الأبدي القادر الحكيم العليم وأنه هو السميع البصير المتكلم باسط السموات والأرض الرحيم العدل الكريم الصبور القدوس المحيي المميت الموصوف بجميع أوصاف الكمال المنزه عن النقائص والعيوب متعال عن الضعف والجهل والظلم والتغير.

ثم أنه يدعو الناس إلى الإيمان بتوحيده وينهي عن الشرك وعبادة الأصنام وينذر بالنشر والثواب والعقاب على الأعمال التي يعملها العبد في هذه الحياة الدنيا، ويعد الصالحين بجنات تجري من تحتها الأنهار والأشرار بعذاب النار، وإن من أوفى محتوياته مقالاً وأوسعها مجالاً ما شهد به للتوراة والزبور والإنجيل أي أسفار العهد القديم والجديد الذي يجمعها الكتاب المقدس كما ذكرنا ذلك في المقدمة آمراً بالإيمان به وبالأنبياء والرسل الذين جاءوا به والذين لم يأتوا بكتب وعدم التفريق بينهم، ويحرم الرياء ويحرم بعض الأشياء ويحل البعض الآخر، وينهي عن القتل والسرقة والزنا والحنث ويأمر بإنصاف اليتيم وبالإحسان إلى المسكين.

أما من حيث هذه التعاليم فالكل يسلمون بصوابها سواء كانوا مسلمين أو نصارى لأنها صالحة وكل صالح مصدره الأول الله بصرف النظر عما إذا كان جاء به نبي في كتاب موحى به أو ضمير أو بأي حالة أخرى وعليه فقبل أن نقبل دعوى محمد كنبي أو رسول يجب أن نبحث أولاً في هذه النقط، (١) هل كان محمد أول من علم بوحدانية الله وبالحلال والحرام وبشر الخطية وثواب الآخرة وعقابها؟ (٢) هل تعليمه من هذه الحيثية أو غيرها كان أوسع وأرقى مما جاء به الأنبياء الأولون، إذ كان نتيجة وحي جديد يحتاج الحال إلى إرسال رسول آخر بكتاب غير الكتب السابقة ليقرر هذه الحقائق من جديد؟

وعلى هذا السؤال نجيب فنقول: إن جميع هذه الحقائق التي ذكرها القرآن أخيراً جاءت من قبل في الكتاب المقدس مفصلة تفصيلاً ليس من وراءه من مزيد ونودي بها في أنحاء كثيرة من المسكونة حتى أن بلاد العرب نفسها لم تعدم نصيباً من معرفة وحدانية الله وعظمة صفاته من قبل أن يخلق محمد وأجداده الأولون. وهل من يجهل أن وحدانية الله مثبوتة في فصول العهد القديم والجديد من أولها إلى آخرها؟ الكل يعلمون ذلك ويؤكدون أن هذه العقيدة أساس الإيمان عند النصارى كما هي عند اليهود وكذا العقائد الأخرى مشروحة شرحاً وافياً في الكتاب المقدس مثل كون الله هو خالق السموات والأرض وأنه أمر معروف لدى كل من خالط اليهود والنصارى من الشعوب الآخرين كما دلت آثارهم حيث اكتشفوا كتابات منقوشة على صخور في بلاد الفرس لداريوس الملك يحرض قومه على الإيمان بأن الله هو الخالق عز وجل وذلك من قبل التاريخ المسيحي بخمسمائة سنة وقبل محمد بأكثر من ألف سنة.

فلو كان محمد هو أول من قال بوحدانية الله لوجب علينا بدون نزاع أن نؤمن به، أما وقد سبقه إلى ذلك كثيرون من قديم الزمان فليس له علينا حجة. وأقل ما نقول في هذا الصدد أن العرب من قبل مولده كانوا يؤمنون بإله واحد عظيم يدعونه الله تعالى ويدعون الكعبة بيت الله. واعلم أن كلمة الله متى وردت محلاة بال التعريفية دلت على الإله الحق الواحد وقد ذكرها العرب محلاة بأل التعريفية كما مر بيانه. ونعلم ذلك من اسم أبي محمد عبد الله الذي مات قبل أن يولد ابنه يتضمن اسم الله معرفاً بأل فثبت الإيمان بوحدانيته تعالى. ولا ننكر أن العرب في الجاهلية كانوا يعبدون آلهة مع الله يعبدونها كوسطاء وشفعاء يقربونهم إليه وبهذا المعنى جعلوها كشركاء له تعالى، ومع هذا كان هناك بين هؤلاء المشركين موحدون. ولو فرضنا أن محمداً لم يسمع قط من وثني العرب عن وحدانية الله لكفاه ما سمعه من العرب المتنصرين والمتهودين ومن النصارى واليهود النازلين في بلاد العرب في ذلك الزمن. ولعلك لست جاهلاً أن محمداً سافر إلى سورية على الأقل مرتين وخالط وعامل أهلها وكانوا حينئذ يدينون بالنصرانية وحدث ذلك من قبل أن يدعي الرسالة. أما سفرته الأول فحدثت وهو ابن تسع سنوات برفقة عمه أبي طالب وأما سفرته الثانية فحدثت وهو ابن خمس وعشرين سنة برفقة مملوك لخديجة يدعى ميسرة ولا ينكر أحد أن كثيراً من أقاربه وأصحابه كانوا يهوداً ونصارى، ناهيك عن زوجته مارية القبطية، ومن هؤلاء ورقة بن نوفل الذي كان تابعاً لمذهب الحنفاء ثم صار مسيحياً واطلع على التوراة والإنجيل (انظر سيرة الرسول مجلد أول)، ومنهم عثمان بن حويرث الذي تنصر في بلاد القيصر بالقسطنطينية وكلا الشخصين، حسب سلسلة الأنساب التي دونها ابن هشام هما أبناء عم خديجة. وكان رجل من الحنفاء يدعى عبيد الله ابن جحش قد أسلم وهاجر إلى الحبشة ولكنه لم يلبث حتى تنصر ثم توفي وتزوج محمد بأرملته المدعوة أم حبيبة. وكان من جملة صحابته سليمان الفارسي الذي يقول عنه البعض أنه من نصارى بين النهرين ولما أخذ في السبي إلى بلاد الفرس اعتنق مذهب زردشت، ويقول آخرون وهو الرأي المعول عليه أنه فارسي وزردشتي مولداً ومنشأ لكنه اعتنق الدين المسيحي فيما بعد في بلاد سورية وبعدها سافر لبلاد العرب ثم أسلم وصاحب محمداً وهو الذي أشار عليه عند هجومه إلى الطائف بإقامة المتاريس لهدم مبانيها وكذا أشار عليه بحفر الخنادق حول المدينة لحمايتها من هجمات قريش وحلفائهم في السنة الخامسة للهجرة. ومنهم عبد الله بن سلام وكان قبل أتباعه لمحمد عالماً يهودياً وحبراً من أحبار اليهود وروى عنه العباسي ١ والجلالان في تفسيرهما أنه هو الرجل المشار إليه بقوله "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ" (سورة الأحقاف ٦٤:‏١٠) يريد الاتفاق بين الأسفار المقدسة وبين القرآن. وذكر العباسي أن عبداً مسيحياً يسمى يسار أو أبو فكيهة ورجلاً آخر رومياً دعته العرب أبو تقبيحة اتهمهما الناس بأنهما أعانا محمداً على تأليف القرآن وأملياه عليه وأشار القرآن إلى هذه التهمة في سورة الفرقان حيث يقول "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وَأَصِيلاً" (سورة الفرقان ٢٥:‏٤ و٥). وقال العباسي أيضاً في تعليقه على سورة النحل ١٦:‏١٠٣ "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ" ما معناه أن الرجل الأعجمي الذي زعموا أنه علم محمداً القرآن رجل مسيحي يدعى قاين وذهب الجلالان أن الآية تشير إلى شخصين آخرين وهما يسار وجبرا وقال بعضهم بل تشير إلى سلمان الفارسي وآخرون إلى صهيب وآخرون إلى راهب اسمه عداس ناهيك أن زيداً الذي تبناه محمد كان سوري الجنس مولداً ومنشأ ٢ وعليه فقد كان يدين بالمسيحية ولعل إشارة القرآن كانت إليه.

فإذا اعتبرنا هذه الأخبار التي صراحتها لا تحتاج إلى محاورة ولا جدال نجد أنه لا يمكن بالكلية أن تنسب التعاليم التي جاءت في القرآن من حيث وحدانية الله والقيامة والثواب والعقاب إلى غير ذلك مما تقدم ذكره إلى محمد بدليل ورودها في الكتاب المقدس أي التوراة والإنجيل من قبل محمد بقرون كثيرة وعليه نحكم أنه اقتبسها من هذا الكتاب بمعرفة هؤلاء الصحابة والأعوان ونحن لا نذمه على اقتباسه هذه التعاليم من التوراة والإنجيل بل بالحري نشكره غير أن وجود هذه الحقائق في القرآن لا يثبت إعجازه ولا هو دليل على وحيه.

وكثيراً ما قالوا أن البرهان القاطع على نبوة محمد إنباؤه بأمور كثيرة مستقبلة في القرآن وقد تمت وهذا يدل طبعاً أنه من عند الله لأنه لا يعلم الغيب إلا هو ويؤيدون حجتهم هذه بما ورد في سفر التثنية ١٨:‏٢١ و٢٢ "وَإِنْ قُلْتَ فِي قَلْبِكَ: كَيْفَ نَعْرِفُ الْكَلامَ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ؟ فَمَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ بِاسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ وَلَمْ يَصِرْ، فَهُوَ الْكَلامُ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ، بَلْ بِطُغْيَانٍ تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ، فَلا تَخَفْ مِنْهُ." فمن الواجب علينا أن نفحص باعتناء الآيات القرآنية التي يزعمون أنها تتضمن أنباء عن حوادث كانت ستحدث في المستقبل عندما أملاها محمد لكتبته.

لو اتفق المسلمون أن القرآن تأليف محمد وكتب بالوحي وليس كما يقولون أنه أملاه له جبرائيل لكانت حجتهم أقوى.

وقد أحصوا الآيات التي أنبأ فيها عن المستقبل في أثنين وعشرين خبراً وردت في المواضع الآتية (سورة البقرة ٢:‏٢١ و٢٢ و٨٨ و٨٩ وسورة آل عمران ٣:‏١٠ و١٠٧ و١٠٨ و١٤٤ وسورة المائدة ٥:‏٧١ وسورة الأنفال ٨‏٧ وسورة التوبة ٩:‏١٤ وسورة الحجر ١٥:‏٩ و٩٥ وسورة النور ٢٤:‏٥٤ وسورة القصص ٢٨:‏٨٥ وسورة الروم ٣٠:‏١-٤ وسورة فصلت ٤١:‏٤٢ وسورة الفتح ٤٨:‏١٦ و١٨-٢١ و٢٧ و٢٨ وسورة القمر ٥٤:‏٤٤ و٤٥ وسورة الصف ٦١:‏١٣ وسورة النصر ١١٠:‏١ و٢) ولا يخفى على القارئ الفطن أن هذه النبوات المزعومة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول، ما يشير إلى انتصارات محمد. والثاني، ما يشير إلى القرآن نفسه. والثالث، وهي نبوة واحدة تشير إلى الروم. ولنتأمل في هذه الأقسام بالتتابع على وجه مختصر.

فنقول أما من جهة النبوات بانتصارات محمد فلا تحتاج إلى بحث كثير لأنه لا يمكن إقامة الدليل على أنها كتبت أو نزلت كما يقولون من قبل وقوع الحوادث التي قال المفسرون أنها تشير إليها. ولكن نسلم جدلاً أن تلك النبوات كتبت قبل الوقائع الدالة عليها، فلا يترتب على ذلك شيء عظيم لأنه ليس بالأمر المستغرب أن يعد محمد قومه بالنصر في مقدمة كل حرب بل هذه خطة القواد العظام يبشرون جيوشهم بالنصر تشجيعاً لهم على خوض غمار الحرب بقلب رابط الجأش ولابد أن تدور الدائرة على أحد القائدين المتحاربين فهل يجوز للقائد المنتصر أن يدعي النبوة بناء على كونه سبق فوعد قومه بالنصر من قبل. كلٌّ يعلم أن القائدين جنكيز خان وتيمورلنك مثلاً بشرا عساكرهما بالفتح المبين والغنم العظيم وقد تمت بشراهما وانهزمت الأعداء فهل كانا لأجل هذا من أنبياء الله ورسله؟ على أن أنباء محمد بانتصاراته يرجى تحقيقها عند جنوده أكثر مما يرجى تحقيق أنباء القواد الآخرين عند جنودهم لأن أولئك كانوا يؤمنون بأن قائدهم رسول الله المؤيد بقوته غير المتناهية وهذا يولد في نفوسهم البسالة والإقدام بكيفية عديمة المثال في الحروب الاعتيادية كما جرى في واقعة الوهابيين وفي واقعة المهدي وخليفته في الأقطار السودانية التي كانت سيستفحل شرها لولا أن دهمتها وهي في مهدها ضربة قاضية من الجيوش المنتظمة ذات العدد والعُدة، الأمر الذي لم يلق محمد مثله في زمانه الغابر.

ولزيادة الإيضاح نتأمل في غزوة بدر إحدى غزوات محمد لأن بعضهم يطبق عليها ما ورد في سورة القمر ٥٤:‏٤٤ و٤٥ حيث يقول "أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ." قال البيضاوي في تفسيره لسورة الأنفال آية ٥ ما معناه أن أبا سفيان مع تسعة وثلاثين راكباً كانوا يحرسون قافلة آتية من سوريا فأعلم جبريل محمداً بخبرها وقلة حرسها مع وفرة ثروتها. فقام محمد لساعته وحرض رجاله بأن يهجموا على تلك القافلة ويسلبوا ثروتها فلما بلغ الخبر أهل مكة قادهم أبو جهل إلى بدر، وإذ سمع رجال محمد بذلك خشوا العاقبة ولاموا محمداً على عدم إنذارهم بذلك من قبل ليأخذوا لأنفسهم الأهبة اللازمة وودوا لو يجدون في طلب القافلة فقالوا يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فاعتذر بأن الله وعده بالغلبة على إحدى الطائفتين إما القافلة أو العدو. وقال البيضاوي أيضاً في تفسيره لآية ٦ من السورة عينها ما معناه أن المسلمين أحجموا أولاً عن محاربة قريش في هذه الواقعة لأنهم يزيدون عنهم عدداً وسلاحاً ولم يكونوا مستعدين للحرب حينئذ. وقال في تفسيره لسورة القمر آية ٤٤ و٤٥ ما معناه أن عمر لم يكن يعلم معنى هذه الآية حتى الساعة التي لبس فيها محمد درعه وخرج للقتال في ذلك اليوم. أما كون المسلمين خشوا بأس قريش في بادئ الأمر فظاهر من سورة الأنفال ٨:‏٦ "يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقوُنَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ."

وقال ابن هشام عن واقعة بدر ما معناه لما علم رسول الله بقدوم جماعة أبي سفيان من سورية فحرض رجاله ليوقعوا بهم وقال لهم هاكم قافلة قريش تحمل أمتعتهم فاحملوا عليهم عسى الله أن يدفعهم إلى يدكم فتحمس بعضهم وأحجم البعض الآخر إذ لم يخطر في خلدهم أن رسول الله يتقدمهم في المعركة. ولما دنا أبو سفيان من الحجاز أخذ يسأل في طريقه كل من مر به عن قوم محمد لأنه أوجس خيفة على قافلته من شرهم إلى أن بلغه خبرهم بالتفصيل فاستأجر ضمضم بن عمرو الفغاري وأوفده إلى مكة بحشد قريش لحماية أموالهم من هجمة محمد. فأقبل جند عديد منهم للغاية المذكورة. وورد في كتاب حياة القلوب تعليقاً على الروايتين السابقتين ما معناه أن محمداً أظهر لقومه أن القافلة لا يمكن إلحاقها إذ قد بعدت عنهم وأن قريشاً قادمون نحوهم ويأمرهم الله بالجهاد في سبيله ضد هؤلاء القوم الكافرين فما بلغهم ذلك حتى هلعت قلوبهم من شدة الخوف. وقال في غير موضع لما سمع قوم محمد بكثرة عدد قريش وقع الرعب في قلوبهم وصاحوا مولولين فأخذ محمد يشجعهم ويبث فيهم روح البسالة والإقدام مكرراً عليهم سورة القمر ٥٤:‏٤٠ و٤٥ حيث يقول "أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ." وهذه على نحو ما يقول كل قائد لجنوده يوم يلتئم الجمعان وتحتدم نار الحرب إلا أن محمداً زاد عن القواد بأن عزا قوله إلى مصدر سماوي ليقوي رجاءهم فحاربوا بشجاعة ونالوا النصر وليس ذلك من النبوة في شيء كما رأيت.

ثم نتقدم إلى القسم الثاني من نبوات القرآن المزعومة وهي التي تتعلق بالقرآن نفسه. ظن قوم أن بقاء القرآن سالماً من التحريف بالزيادة والنقصان كان تتميماً لقوله في سورة الحجر ١٥:‏٩ "إِنَّا نَحْنُ نَّزَلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ." قال صاحب كتاب إظهار الحق أي حافظون له من الزيادة والحذف الخ بواسطة القراء. وقد تم ذلك، فإنه منذ تنزيله إلى عصرنا الحاضر لم يجترئ كافر من الكفرة الملحدين ولا مترف من القرامطة أن يمسه أقل مساس في المعنى أو اللفظ أو حركات الضبط. غير أن الذين فطنوا إلى ما قدمناه في الفصل الثالث من الجزء الثاني من هذا المؤلف يذكرون حكاية ما فعله عثمان ثالث الخلفاء الراشدين بالقرآن وكيف أنه أحرق جميع النسخ القديمة مما يدل بلا نزاع على وقوع اختلاف بين نسخ القرآن الأمر الذي لم يمكن إخفاؤه إلا بحرق القديم منها فكيف نضرب عن ذلك صفحاً ونقول أن القرآن باق على ما نزل؟ وعدا حادثة الحرق نقول إن كان القرآن باقياً على ما كان عليه حقيقة فماذا يكون ظنك حينئذ بالأحاديث الصحيحة الشاهدة بوقوع التغيير في نسخه من ذلك قول محمد رحمه الله أن فلاناً قد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتهن. ويروى "أنسيتهن." ومن الآيات الساقطة التي لم يتفق له من يذكره إياها، آية المتعة أسقطها علي وهذا ما حدا بعائشة أن تلومه وتقرعه على هذا الفعل الذميم فقالت أنه يجلد على القرآن وينهي عنه وقد بدله وحرفه، ومنها آية الرجم وما كان يقرأه أبي بن كعب وفقد من القرآن المتداول اليوم وهو قوله اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك الخ وعليه نقول إن كانت آية "إِنَّا نَحْنُ نَّزَلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" نبوة كما يزعمون، فهي نبوة لم يتبين صدقها فإذا القسم الأول والثاني من نبوات القرآن المدعى بها مما يختص بانتصارات محمد وببقاء القرآن على أصله دون تحريف لا ينطبق عليها حكم النبوات الصحيحة.

بقي علينا أن نتكلم عن القسم الثالث من النبوات المحكي عنها وهي التي تشير إلى انهزام الروم ثم غلبتهم وهي واقعة في أربع آيات وننقل لفظها هنا للتفكير "غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" (سورة الروم ٣٠‏١-٥). زعم قوم من المفسرين أن هذه الآيات نبوة صريحة بالمستقبل دالة على صحة رسالة محمد وقالوا أن الآية الأولى منها تدل على انكسار الروم في سورية أمام الفرس في ملك خسروبرويز ولما بلغ خبر انتصار الفرس على الروم فرح المشركون وقالوا أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون، فقد ظهر إخواننا على إخوانكم فلنظهرن عليكم فعند ذلك نزلت الآية التالية وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين وروي أن أبا بكر عقد مراهنة بينه وبين أبي بن خلف أن هذه الآية ستتم في ظرف ثلاث سنين لكنه لما علم من محمد أن كلمة بضع المشار إليها في الآية هي كناية عن عدد قليل يتراوح بين الثلاثة والتسعة بدّل الشروط المتفق عليها من حيث المدة وقالوا أن الروم غلبت بعد سبع سنين وربح أبو بكر المراهنة وقبض قيمتها من ورثة أبي الذي كانت أدركته الوفاة وقتئذ. هذا ما حكوه لتأييد نبوة القرآن المتعلقة بالروم وفارس والآن اسمح لي أيها القارئ العزيز أن نتبين صحة هذه الحكاية مع التسليم بأن الآية المشار إليها كتبت قبل واقعة الحرب وظهور النتيجة وأنها باقية على ما كانت عليه.

نعلم من التاريخ أن فارس هزمت الروم في أرض سورية في السنة السادسة قبل الهجرة الموافقة لسنة ٦١٥ ميلادية وإذ تمت هذه الحادثة وغلبت الروم في أدنى الأرض بلغ هذا الخبر إلى مكة في أيام قليلة. قال البيضاوي في تفسيره ما معناه أن تلك النبوة تمت يوم انتصر الروم على فارس وكان ذلك في يوم الحديبية. ونعلم أن معاهدة الحديبية تمت في ذي القعدة من السنة السادسة بعد الهجرة الموافقة لشهر مارس سنة ٦٢٨ ميلادية فإن صح تفسير البيضاوي وكانت غلبة الروم في السنة الثانية عشرة بعد انهزامهم خلافاً لما جاء في القرآن من أن بين الحادثتين بضع سنين والبضع لا يزيد عن تسع وعليه فلم تتم النبوة، على أنه ليس من النوادر البالغة حد الإعجاز أن يخبر أحد أية الدولتين تحرز الغلبة فإن هذا يمكن معرفته بدون تكليف جبريل بأن يأتي بوحي من السماء بل يعرف ذلك بمضاهاة الدولة الواحدة بالأخرى. فمن كانت أكثر رجالاً وأوفى عدة وأعلى همة فهي الغالبة لا محالة حتى وإن غلبت في بادئ الأمر. لهذا لنا الحق أن ندعي بأن محمداً أنبأ بانتصار الروم أخيراً من تلقاء نفسه بمجرد رأيه الثاقب وذكاء فكره إسوة بكثيرين من ذوي الآراء الصائبة وقيل في الأمثال أن ظن العاقل أصح من يقين الجاهل. عدا ذلك نقول أنه من المحتمل أن يكون أبو بكر راهن صاحبه على انتصار الروم من قبل أن يشاور محمداً فإن صح هذا الاحتمال كان أبو بكر نبياً أيضاً كمحمد لأنه تأكد أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين حتى أنه عقد مراهنة على هذه النتيجة فتأمل! أما الحقيقة الناصعة فهي أنه لا قول أبي بكر ولا قول محمد من النبوة في شيء بل إنهما كرجلين مدربين بمرور السنين ومحنكين بمشاهدة الوقائع لاحظا أن دولة الفرس كثر فيها الاضطراب والهرج وأخذ منها الضعف والاختلال كل مأخذ بدليل تولية الملوك عليها وسقوطهم في زمن قصير. فإنه ما بين موت أنوشروان سنة ٥٨٧ ميلادية وبين سقوط يزدجرد الثالث سنة ٦٤٢ ميلادية ملك على الفرس لا أقل من أربعة عشر ملكاً ومات أكثرهم قتلاً بعد تمليكهم بزمن قصير وحدث في السنين الخمس التي ما بين ملك خسروفرويز (سنة ٢٢٧ ميلادية) وبين تولية يزدجرد أنه قد ملك نحو أحد عشر ملكاً فكل من له مسة من العقل يحكم لأول وهلة أن دولة كهذه لا تقوى على الروم. فليس بعظيم على محمد أن يعرف هذه النتيجة الضرورية، على أن محمد لم يعين بالضبط عدد السنين التي تكون الغلبة من بعدها بل أتى بعدد مرن يتمدد وينكمش فقال بضع سنين محتاطاً لنفسه لئلا تمسك عليه غلطة ومع ذلك فأخطأ الحقيقة بالرغم عن احتياطه، ولو مددنا بضعاً إلى أقصى حدودها لأن الروم لم يغلبوا فارس قبل مرور عشرة سنين لا تسع بعد انهزامهم على أقل تقدير.

ومما يؤكد لنا أن محمداً كان عالماً بضعف الفرس من قبل أن يطلع على آية الروم بسنين كثيرة ما رواه ابن هشام في سيرة الرسول قال ما معناه عقد محمد ورؤساء قريش مؤتمراً في مكة قبل الهجرة واجتهد في أن يستميلهم إلى الإقرار بالكلمة الأولى من الشهادتين وترك الشرك واعداً إياهم بعلو المنزلة على العجم والعرب إلى أن قال "يا عم كلمة واحدة تعظونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم."

ومع هذا كله فإن البيضاوي كفانا مؤونة هذا البحث وأراحنا من المناظرة فيما إذا كانت آية الروم نبوة كما زعموا أم لا، وذلك لأنه يروي لنا خبر اختلاف قراءة تلك الآية إذ يقرأها بعضهم هكذا غَلبت (مبنياً للمعلوم) عوض غُلبت (مبنياً للمجهول) وسيُغلبون (مبنياً للمجهول) عوض سيَغلبون (مبنياً للمعلوم). فتكون جملة الآية هكذا غَلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلبتهم سيُغلبون في بضع سنين. فإن صحت هذه القراءة بطلت دعوة الذين يدعون باشتمال هذه الآية على معجزة الإنباء بالمستقبل وكانت حكاية المراهنة التي زعموا أن أبا بكر عقدها مع أبي حديث خرافة لأن أبيا كان قد مات قبل انتصار المسلمين على الروم بل قبل انتصار الروم على الفرس بسنين كثيرة ومن هنا نعلم شطط الحديث ووهنه وهو عندهم مصادر الثقة. وقال البيضاوي في تفسيره آية الروم بحسب القراءة الثانية ما معناه أن الروم انتصروا على ريف الشام ثم أن بقية الآية تبشر بانتصار المسلمين عليهم في بضع سنين وبموجب هذا التفسير يلزم أن يكون الحديث الذي اثبتوا به نزول الآية المذكورة قبل تاريخ الهجرة بست سنين غير صحيح لأنها تكون قد نزلت بعد ذلك باثنتي عشرة سنة على الأقل والحاصل أن الاستدلال على كون محمد رسول الله بإنبائه عن حادثة مستقبلة كما يزعمون استدلال باطل. أولاً لأن تاريخ نزول الآية المتضمنة الإنباء بالمستقبل غير معلوم بالضبط، ثانياً لأن قراءتها الصحيحة غير معلومة أيضاً، ثالثاً لا يمكن أن يتبين من معنى الآية المذكورة أن شيئاً من النبوة قد تم.

مما تقدم يظهر أن ما بناه المسلمون من إثبات رسالة نبيهم على براهين النبوات المزعومة في القرآن قد سقط من أصوله لدى الامتحان الدقيق ولما كانت الأشياء تعرف بأضدادها علينا أن نقارن بين نبوات القرآن المذكورة وبين نبوات الكتاب المقدس وما كان منها بخصوص المسيح في العهد القديم وما كان بخصوص اليهود في كلا العهدين أو تلك النبوات التي في سفر الرؤيا مثل    ٩ و ١٤:‏٦.

ومن البراهين التي يقدمونها على كون القرآن موحى به من الله ما يدعونه من اشتماله على أخبار الأمم البائدة منذ قرون كثيرة. أما هذه الدعوى فلو صحت لكانت ذات أهمية عظمى في إثبات ما أرادوا أن يثبتوه فعلينا أن نعرضها على بساط البحث والتنقيب كتاجر حريص ينقد الدراهم التي يتعامل بها خشية من أن تكون مزيفة فيندم حيث لا ينفع الندم، أما الذهب النقي فيدفع به صاحبه إلى يد الناقد غير هياب ولا وجل لأنه كيفما يمتحن يتزكى ويحمد حتى وإن طُرح في نار حامية. فهل يا ترى تحتمل أخبار القرآن التاريخية نار الامتحان كذهب خالص أو تحرق من قليل الشرر كهشيم العشب؟

ولنبدأ بحكاية عاد وثمود قبيلتين من العرب ذكرهما القرآن فنقول أننا نعلم بوجودهما من كاتبين من قدماء اليونان وهما بطليموس وديودورس سيسلوس وزاد القرآن عما ذكراه شيئاً يسيراً في قصة هاتين القبيلتين، وأن كثيرين من المكتشفين المحققين الذين نبغوا في العصر الحاضر أثبتوا باكتشافاتهم ما رواه الكتاب المقدس عن قدماء المصريين وبابل وأشور، أما عاد وثمود فلم يثبت أحد ما حكاه القرآن عنهما حتى ظن كثير من العلماء الباحثين أن محمداً نقل خبرهما من كتب الصابئين ٣ التي دعاها في قرآنه "صحف إبرهيم" (سورة الأعلى ٨٧‏١٩). ويظهر أنه فيما بعد علم أن هذه الصحف مزورة فلم يعد يذكرها مدة أربع سنين بعد ادعائه الرسالة. أما من جهة هود وصالح وشعيب فمن المحتمل أن يكونوا مبشرين مسيحيين جاءوا بلاد العرب يكرزون لها بالإنجيل ومن المحتمل أن يكونوا غير ذلك حيث أنه لم يذكرهم أحد من المؤرخين ولا غيرهم سوى القرآن أما تاريخ الزمن الذي وجدوا فيه إن كانوا وجدوا حقيقة فغير معلوم. وقال بعض العلماء إذا كان القرآن لم يصب كبد الحقيقية في ما رواه عن الأشخاص المعلوم وجودهم من التاريخ قبل الإسلام بقرون فلنا حق أن نزعم أيضاً بأن ما رواه عن عاد وثمود وطسم وجديس وهود وصالح وشعيب الخ ليس بصحيح إلا إذا كان يُقام عليه الدليل. ومن أمثلة ما اخطأ القرآن في سرد أخباره إبراهيم فإنه يروى عنه كثيراً مما لا يوافق ما جاءت به التوراة التي يشهد لها أنها نزلت من عند الله مثل حكاية طرحه في النار وخروجه منها سالماً التي إنما هي خرافة يهودية أخذها عنهم بغير تحقق عن أصلها. قال صاحب مصادر الإسلام ما معناه منشأ أن هذه القصة هو اشتباه بعض المفسرين الجهلة بين لفظة أور بلغة البابليين القديمة التي معناها مدينة والتي في قوله تعالى خطاباً لإبراهيم "أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكِلْدَانِيِّينَ" (تكوين ١٥:‏٧) وبين كلمة أور التي معناها نار في اللغة الكلدانية، فظن ذلك المفسر أن الرب أخرج إبراهيم من نار الكلدانيين لا من مدينتهم فاضطر حينئذ إلى تمهيد الخبر بتلك القصة السخيفة ووردت كلمة أور بمعنى مدينة في قوله أورشليم أي مدينة شليم وأخطأ القرآن في تسمية أبي إبراهيم آزر (سورة الأنعام ٦:‏٧٤) وهو تارح (تكوين ١١:‏٢٦) ثم قال في سورة الأعراف ما معناه أن الله أرسل الطوفان على المصريين في عصر موسى وذكر الطوفان محلى بال التعريف في هذا الموضع يحملنا على الظن بأنه عنى طوفان نوح الذي ذكر في السورة عينها (انظر آية ١٣٢ و٦٣). ومن خطئه الفاضح أن التبست عليه مريم ابنة عمران (سورة آل عمران     ٣:‏٣٣-٤٤)  وأخت  هارون ( سورة مريم ١٩:‏٢٩ مع خروج ١٥:‏٢٠ وعدد ٢٦:‏٥٩ ) بمريم  أم  المسيح  ( انظر   سورة   التحريم ٦٦:‏١٢) وبين الأولى والثانية زهاء ألف وأربعمائة سنة. قال الإمام مسلم في صحيحه ما معناه أن نصارى نجران انتقدوا على القرآن هذه الغلطة التاريخية أمام المغيرة فتشاور مع محمد بهذا الصدد ولكنه لم يقف منه على جواب شاف ومن وقتها إلى الآن انقضت ألف وثلاثمائة سنة على القرآن وهو يدرس ويشرح إلا أن أحداً من العلماء لم يوفق أن يزكيه بإزاء هذا الشطط التاريخي الصريح.

وجاء في سورة الكهف ١٨:‏٦٤-٩٩ سيرة ذي القرنين. قال البيضاوي وابن هشام أنه اسكندر الكبير المكدوني وهذه عبارة البيضاوي حرفياً وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ (يعني اسكندر الرومي ملك فارس والروم وقيل المشرق والمغرب ولذلك سمي ذا القرنين أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها وقيل لأنه انقرض في أيامه قرنان من الناس وقيل كان له قرنان أي ضفيرتين وقيل كان لتاجه قرنان ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته كما يقال الكبش للشجاع كأنه ينطح أقرانه واختلف في نبوته مع الاتفاق على إيمانه وصلاحه).

إن كان اسكندر عمر جيلين كما زعم البيضاوي فما كان أقصر أعمار أهل زمانه إذ أنه توفي ابن ثلاث وثلاثين سنة على أثر ارتكابه فسقاً بسكر في مدينة بابل سنة ٣٢٣ ميلادية ولم يكن نبياً كما زعم القرآن ولا مؤمناً من عامة المؤمنين، إنما كان من عباد الأصنام وادعى أنه ابن إله المصريين أمون. وأما حكاية أنه بلغ مغرب الشمس ووجدها تغرب في عين حمئة أو حامية حسب قراءة بعضهم فمن مختلق الحديث (سورة الكهف ١٨:‏٨٧) لأن الشمس لا تدور حول الأرض بل الأرض تدور حولها كما هو معلوم وكذلك لا صحة لما رواه القرآن عن السد الذي بناه من زبر الحديد والقطر (النحاس) بين جبلين مأهول أحدهما بأمة صالحة والآخر بأمة متوحشة (سورة الكهف ١٨:‏٩٥). ومع ذلك يجزم البيضاوي مع رفقائه المفسرين إن ذا القرنين ما هو إلا اسكندر المكدوني المعروف ولعل الذي حملهم على ذلك التأكيد ما ورد في نبوة دانيال ٨:‏٣ و٤ من سيرة الكبش ذي القرنين الذي كان ينطح غرباً وشمالاً وجنوباً ولم يقف أمامه أحد فظنوا أنه رمز إلى اسكندر وسموه ذا القرنين، والحقيقة بخلاف ذلك لأن الإصحاح نفسه يبين أن ذلك الكبش يرمز به لا إلى اسنكدر بل إلى اتحاد مملكتي مادي وفارس وعلى ذلك قوله "أَمَّا الْكَبْشُ الَّذِي رَأَيْتَهُ ذَا الْقَرْنَيْنِ فَهُوَ مُلُوكُ مَادِي وَفَارِسَ" (دانيال ٨:‏٢٠). وأما اسكندر فمرموز إليه في الإصحاح عينه بتيس ذي قرن واحد بين عينيه وصرح بأنه غلب الكبش أي مملكة مادي وفارس وعلى ذلك قوله: "رَأَيْتُ الْكَبْشَ يَنْطَحُ غَرْباً وَشِمَالاً وَجَنُوباً فَلَمْ يَقِفْ حَيَوَانٌ قُدَّامَهُ وَلا مُنْقِذٌ مِنْ يَدِهِ، وَفَعَلَ كَمَرْضَاتِهِ وَعَظُمَ. وَبَيْنَمَا كُنْتُ مُتَأَمِّلاً إِذَا بِتَيْسٍ مِنَ الْمَعْزِ جَاءَ مِنَ الْمَغْرِبِ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأرْضِ وَلَمْ يَمَسَّ الأرْضَ، وَلِلتَّيْسِ قَرْنٌ مُعْتَبَرٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَجَاءَ إِلَى الْكَبْشِ صَاحِبِ الْقَرْنَيْنِ الَّذِي رَأَيْتُهُ وَاقِفاً عِنْدَ النَّهْرِ وَرَكَضَ إِلَيْهِ بِشِدَّةِ قُّوَتِهِ. وَرَأَيْتُهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى جَانِبِ الْكَبْشِ فَاسْتَشَاطَ عَلَيْهِ وَضَرَبَ الْكَبْشَ وَكَسَرَ قَرْنَيْهِ. وَالتَّيْسُ الْثاني مَلِكُ الْيُونَانِ، وَالْقَرْنُ الْعَظِيمُ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ هُوَ الْمَلِكُ الأوَلُ" (دانيال ٨:‏٤-٧ و٢١). ومما مهد الأسباب لعلماء المسلمين أن يعتبروا ذلك الكبش رمزاً إلى اسكندر هو أن كلمة الكبش تطلق في العربية على سيد القوم والحاصل أن كل ما قاله القرآن عن ذي القرنين الذي يعني به اسنكدر المكدوني لا أثر له في تاريخ الملك العظيم الذي دونه كثير من مشاهير المؤرخين وهذا ما حدا بالعلماء أن لا يثقوا بالأخبار التاريخية المنقولة عن القرآن.

ومن خطإه في التاريخ أنه أخبر بأن المرأة التي تبنت موسى هي امرأة فرعون (سورة القصص ٢٨:‏٩) بينما موسى نفسه وهو أعلم بمن ربّته من محمد قال أنها ابنة فرعون لا امرأته (انظر خروج ٢:‏٥-١٠). وجاء ذكر هامان مقترناً بفرعون في مواضع جمة من القرآن كخادمه ووزيره والحقيقة لم يكن لأحدهما أقل علاقة بالآخر فإننا نعلم من سفر أستير أن هامان كان حبيباً وخليلاً لأحشويرش ملك فارس الذي يدعوه اليونان زركسيس وعاش في بلاد فارس لا في مصر بعد فرعون موسى بمئات من السنين. ومن غلطاته أنه قال أن فرعون أمر هامان أن يبني له صرحاً يمس السموات كما في سورة غافر وهذا خطأ وصوابه أن هذا البرج أو الصرح لم يبن في مصر بل في بابل من قبل فرعون بقرون كثيرة (انظر تكوين ١١:‏١-٩).

وجاء في سورة (طه ٢٠:‏٧٨ و٩٦) أن العجل الذي عبده بنو إسرائيل في البرية في وقت موسى قد عمله لهم السامري وهذا خطأ فاضح لأن مدينة السامرة المنسوب إليها هذا الرجل لم تكن بعد في الوجود وقد بنيت بعد موسى بمئات من السنين (انظر ملوك الأول ١٦:‏٢٤) ولعله التبس على كاتب هذه السورة العجل الذي عبده بنو إسرائيل في البرية بالعجلين الآخرين اللذين عبدوهما بعد زمن داود وسليمان (ملوك الأول ١٢: ٢٨) حتى أن هذين العجلين كانا قبل أن تبنى مدينة السامرة ولما بنيت السامرة كانت عاصمة للمملكة السامرة وهذه الحقيقة هي التي بنيت عليها هذه القصة.

وجاء في سورة البقرة ٢:‏٢٥٠-٢٥٢ حكاية داود مع جليات الجبار مشوشة بحكاية فرقة جدعون التي امتحنها بالشرب من النهر عندما حارب المديانيين وبين الحكايتين زمن مديد. وفي سورة الكهف ١٨:‏٨-٢٦ وردت قصة أهل الكهف وهي حكاية مكذوبة صنفها أصحاب البدع من طوائف النصارى وخلاصتها أن سبعة شبان مسيحيين هربوا من اضطهاد أحد قياصرة الروم المدعو دقيانوس واختبئوا في مغارة فرقدوا نحو ٣٠٠ سنة ولما استيقظوا وجدوا كل شيء قد تغير وكان الإمبراطور حينئذ ثيودوسيوس وهو رجل مسيحي فاندهشوا غاية الاندهاش إذ بين ليلة وضحاها انقلبت الأحوال رأساً على عقب. وقد وردت هذه القصة في كتاب لاتيني اسمه مجد الشهداء تأليف غريغوريوس، كما أثبت ذلك صاحب كتاب مصادر الإسلام وظن بعضهم أن كاتب هذه القصة لم يكتبها كواقعة حال بل تخيلها كرواية ليعظ بها قومه ويريهم قدرة الله عل كل شيء، وأما اليوم فلا يصدقها أحد من النصارى وتستعمل في أوروبا لتسلية الأولاد الصغار.

وأظن أنه لا حاجة بنا إلى المزيد من سرد الغلطات التاريخية الواردة في القرآن اكتفاء بما سردناه ولعل في هذا القدر كفاية لصرف إخواننا المسلمين عن الاحتجاج بمضامين القرآن التاريخية على صحة نسبته إلى الله وصدق رسالة محمد.

وزعم بعضهم أن من البراهين الدالة على كون القرآن كتاب الله خلوه كما يتراءى لهم من التناقض والاختلاف كأنهم يقولون أن كتاباً كبير الحجم كهذا لا يمكن أن يكون من عند الله إن وجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وهذه أيضاً دعوى باطلة لأننا نرى فيه اختلافاً كثيراً بعضه قليل الأهمية وبعضه جوهري فالأول كالاختلاف الواقع بين عددي ١٣ و ١٤ وبين عددي ٣٩ و ٤٠ من سورة الواقعة وما قاله البيضاوي ونقله الزمخشري من الحديث لتسوية الاختلاف المذكور لم يكن قولاً سديداً ولكننا نسلم أن هذا شيء زهيد بجانب ما سنذكره لك من المسائل الخطيرة.

جاء في سورة النساء ٤:‏٤٧ أن الله لا يغفر خطية الشرك ويغفر ما دون ذلك والشرك هو اتخاذ آلهة مع الله أو دونه إلا أنه ورد في سورة الأنعام ٦:‏٧٦-٧٨ أن إبراهيم اتخذ الشمس والقمر والنجوم آلهة دون الله وهذا شرك بين في حين أن إخواننا المسلمين يعتبرونه نبياً عظيماً من أولي العزم ويعتبرون أن جماعة الأنبياء معصومون.

ويحرم القرآن النفاق في جملة مواضع منها (سورة البقرة ٢:‏٧٦ والسناء ٤:‏١٣٨ والتوبة ٩:‏٦٥-٦٩ والمجادلة ٥٨:‏١٤) ويجعل مثواهم في الدرك الأسفل من النار (سورة النساء ٤:‏١٤٤) ومما لا ينكره أحد من ذوي العقول السليمة أنه إذا أسلم أحد مكرهاً بقوة السيف لا يكون إسلامه من قلبه بل من شفتيه ومتى خالف ظاهر الإنسان باطنه كان منافقاً ولا يخفى ما فرضه القرآن على المسلمين من نشر دينهم بقوة السيف إلى أن يدين بالإسلام كل العالم ولا تكون في الأرض فتنة ويكون الدين كله لله. ففي مثل هذه الظروف يتخير الرجل الملزم بالإسلام كرهاً خصلة من خصلتين أما الموت الزؤام أو كلمة يقولها وينجو بحياته فيقولها نفاقاً ورياء وهذا من أردأ أنواع الاختلاف، يحرم الشيء لقبحه فإذا كان فيه مغنم حلله وحث عليه. نعم قد أضاف القرآن خصلة ثالثة لأهل الكتاب وهي دفع الجزية وهم صاغرون إن لم يرغبوا في الإسلام ولا في القتال (سورة التوبة ٩:‏٣٠ وسورة المائدة ٥‏٤٤ وسورة الصف ٦١:‏١١ وسورة الحج ٢٢:‏٧٨) إلا أن دفع الجزية ضرب من الإكراه وقد أسلم من أهل الكتاب خلق كثير تخلصاً من الجزية وما بلغت إليه من المغارم الفادحة في عهد الحكام الظالمين رافعين شكواهم إلى رب العالمين.

يحرم القرآن إلى حد معلوم خطيئة الهوى وعلى ذلك قول "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" (سورة النازعات ٧٩:‏٤٠ و٤١) فنقض ذلك بإباحة تعدد الزوجات بالإضافة إلى ما كان مملوكاً من السراري (سورة النساء ٤: ٢٣) وأباح لمحمد من هذه الحيثية أكثر من سائر المسلمين بل أباح له ما هو محظور عليهم فمن ذلك قوله "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زّوَجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً" وقوله "مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً وقوله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكِ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكْتَ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ولاَ يَحْزَنَّ" (سورة الأحزاب ٣٣:‏٣٧ و٣٨ و٥٠ و٥١). ونعلم من الحديث الصحيح أن محمداً منح له أن يتمتع بالنساء أكثر من سائر المسلمين لرجحانه عليهم في الهوى والصبابة إليهن وزد على ذلك أن الجنة التي وعد بها في دار البقاء والخلود هي تلذذ غير محدود بحور عين حتى وإن كان أحد غير مستعبد للهوى فما دام مسلماً لا مناص له من هذه الجنة (سورة الرحمن ٥٥:‏٤٦-٧٨ وسورة الواقعة ٥٦:‏١١-٣٩ وانظر كتاب مشكاة المصابيح في صفة الجنة). فالقرآن من هذه الحيثية أردأ من أن يخالف بعضه بعضاً على أنه من الاختلاف أيضاً غير معصوم فكيف يكون هوى النفس محرماً في الدنيا وهو في الجنة مباح؟

والخمر محرم على المسلم هنا على الأرض كما جاء في سورة المائدة ٥:‏٩٣ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَا لْمَيْسِرُ وَا لأنْصَابُ وَلأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (قابل أيضاً سورة البقرة ٢:‏٢١٦) ولكن في الجنة للمؤمنين أنهار من خمر كما ورد في سورة محمد ٤٧:‏١٦ "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ" (قابل سورة الدهر ٧٦:‏٥ وسورة المطففين ٨٣:‏٢٥).

وأقوال القرآن عن المسيح يسوع لا تخلو من التناقض، فبعض الآيات تتكلم عنه كمجرد إنسان ونبي كسائر الأنبياء وتنكر لاهوته بتاتاً كما ورد في سورة المائدة ٥:‏١٩ "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعاً" وراجع آية ١١٣ و١١٤ من السورة وكذلك آل عمران ٣:‏٤٩ وقيل أيضاً في سورة الزخرف ٤٣:‏٥٩ "إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ." ثم توجد بعض الآيات الأخرى التي تعطي له أعظم الألقاب التي لم تعط فيه لغيره البتة منها كلمة الله سورة النساء ٤:‏١٦٩ وهذا اللقب لا يصح أن يُسمى به أي مخلوق كان، ويذكر له وحده معجزة الولادة من العذراء (سورة الأنبياء ٢١:‏٩١) وإنه وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ (سورة آل عمران ٣:‏٤٥) ويقول البيضاوي الوجاهة في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة. وفي سورة المائدة ٣:‏٣٦ قيل "وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ." وجاء في الحديث تفسيراً لهذه الآية كما أخرجه مسلم والبخاري والغزالي وغيرهم كل ابن آدم عند ولادته ينخسه الشيطان بإصبعيه في جنبيه إلا عيسى بن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب (راجع مشكاة المصابيح الكتاب الأول الباب الثالث) ويشهد القرآن لمعجزات المسيح (سورة البقرة ٢‏٢٥٤) وأنه خلق طيراً من الطين مع أن قوة الخلق هي من صفات الله وحده وهو الفريد من بين الأنبياء أولي العزم الذي لا يذكر له القرآن خطية. ولا نجد فيه عن أي نبي آخر أن ولادته كانت بقوة الروح القدس "وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ" (سورة الأنبياء ٢١:‏٩١) وأنه آية للعالمين (كما مر) وأنه روح من الله (سورة النساء ٤:‏١٦٩) وكل الأنبياء أموات ما عدا يسوع كما يقول القرآن إن الله رفعه إليه (سورة النساء ٤:‏١٦٩) وهو حي في السماء. ويوافق المسلمون المسيحيين في الاعتقاد أن المسيح سيرجع في انتهاء العالم لم يكن يلزم للمسيح أن يشرح صدره ويوضع عنه وزره كما قيل عن محمد في سورة الانشراح والقول بمغفرة خطاياه يناقض ما جاء في سورة محمد ٤٧:‏١٩ "وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" ولا تصل عليه أمته ولا تسلم كما أمر محمد (مشكاة المصابيح وجه ٨٦) من المعلوم أن لا نبي يحتاج لشفاعة أمته وصلواتها إلا هو.

ففي كل هذه النقط يتفق المسلمون مع المسيحيين على الفرق الموجود بين المسيح وأي نبي أو إنسان آخر. والقرآن لا يعطي محمداً المقام الذي يعطيه ليسوع ولا شك أن غرض القرآن هو استبدال المسيح بمحمد كرأس الجنس البشري. وهذا الأمر عجيب جداً ومتناقض حيث أن القرآن لا يسند لمحمد ولادة بمعجزة ولا يقول بعصمته ولا ينسب له القدرة على المعجزات ولا حتى صفات حميدة شريفة كما سنظهره في آخر هذا الفصل وما يليه.

ومن أهم تعاليم القرآن أن القدر هو سبب سعادة أو شقاء الإنسان في الآخرة، كما جاء في سورة الإسراء ١٧:‏١٣ و١٤ "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً" وفي سورة إبراهيم ١٤:‏٤ "فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ" وورد نفس القول في سورة المدثر آية ٣٤ ثم معناه في سورة البقرة آية ٥ و٦ والنساء آية ٩ والأنعام ١٢٥ والأعراف ١٧٧ و١٧٨ .. الخ. ثم نجد في سورة الأعراف ٧:‏١٧٨ "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ" وفي سورة هود ١١:‏١٢٠ "ولامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (راجع سورة السجدة ٣٢:‏١٣) وإن ذلك كان غرض الله تعالى من الخلق مع أنه في أماكن أخرى نجد أن الناس سيجزون حسناً في العالم الآتي إذا كانوا مسلمين ويعاقبون إذا لم يكونوا كذلك. فإذا كان كل عمل قد قدر على الإنسان من قبل والإنسان ليس له حرية إرادة فينتج أن الإنسان لا يكون له استحقاق أو عدم استحقاق ولا يكون صالحاً أو طالحاً وليس له ثواب أو عقاب فإن الثواب والعقاب عبارة عن جزاء خير أو شر. ولا تكون للأوامر والنواهي الإلهية فائدة حيث أن لا توجد في الإنسان مقدرة على الطاعة أو عدمها لأن القدر سجل كل شيء من ذي قبل. ولكن القرآن يحتوي على أوامر ونواهي ويصرح أنها أنزلت من العليم ففي بعض الأماكن يخبر القرآن محمداً أن مساعيه لإهداء الناس عبث لأن الله نفسه جعل من المستحيل عليهم الإيمان كما ورد مثلاً في سورة البقرة ٢:‏٥ و٦ "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمِ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ."  ثم نراه مأموراً أن يسعى في هديهم لا بالعنف بل باللطف كما جاء في سورة البقرة ٢:‏٢٥٧ "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" وفي سورة النور ٢٤:‏٥٤ "قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ" وفي سورة الغاشية ٨٨:‏٢١ و٢٢ "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بَمسَيْطِر."

ولكن في مكان آخر نجد تعليماً مناقضاً تماماً لهذا التعليم فكل واحد يعرف أن المسمى نبي السيف ادعى أن الله أمره أن ينشر الإسلام بالقوة كما ورد في سورة البقرة ٢:‏٨٦-٨٩ و٢١٢ وسورة النساء ٤:‏٧٦ و٩١ وسورة الأنفال ٨:‏٤٠ وسورة الفتح ٤٨:‏١٦ وسورة التحريم ٦٦:‏٩ فنجد من المناقضات شيئاً كثيراً. ولا فائدة من القول أن الآيات المتأخرة نسخت الآيات الأولى كما ورد في سورة البقرة ٢:‏١٠٠ "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا" وأيضاً سورة النحل ١٦:‏١٠١ "وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَّزِلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ." إن هذه إنما أتى بها لكي تبعد عن الأذهان تناقض القرآن لذاته، ولنا مثال حسن عن ذلك إذا قابلنا البقرة ٢:‏٦٢ مع سورة آل عمران ٣:‏٨٥ ففي الأول نرى أن المسلمين واليهود والمسيحيين والصابئين خالصون في قوله "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللِّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" وفي الثانية نرى أن المسلمين وحدهم لهم الخلاص إذ قال "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ." ومن السهل علينا أن نظهر مناقضات أخرى في القرآن حيث أن علماء المسلمين أنفسهم يصرحون أن في القرآن لا أقل من مائتين وخمسة وعشرين آية منسوخة. وكثير من هذه الآيات المنسوخة هي خاصة بالعدل والأمور المباحة في الدين ونرى الله الغير المتغير يأمر بعد ذلك المسلمين بالجهاد والحرب واضطهاد الناس رغماً عن إرادتهم (البقرة      ٢:‏٢١٧ و٢١٨ وسورة التوبة ٩:‏٦ و٢٩).

ويوجد نوع مهم آخر من التناقض في القرآن يجب على المسلمين ملاحظته وهو يختص بما في القرآن عن التوراة والإنجيل. رأينا آنفاً أن القرآن يصرح أنه انزل مصدقاً لسائر الكتب وليحفظها من التغيير والتبديل ولكنه في أمور كثيرة يناقضهما معاً. ومن هذه المناقضات التامة تعاليم جوهرية في الإنجيل مثلاً موت المسيح على الصليب إتماماً للنبوات وكفارته عن خطايا العالم كله ولاهوته وقيامته وأنه وحده القادر على تخليص أنفس العالم. وواضح أنه لا يمكن للغير المتغير أن ينزل وحياً يخالف قصده الأزلي وطريقه المعين للخلاص ومواعيده وشريعته الأدبية وتعاليمه الإلهية. وعدا ذلك فإن دعوى القرآن إنه وحي جديد ودعوى محمد أنه نبي برسالة جديدة تخالفان تعاليم العهد الجديد كما يتضح ذلك من قول الرب يسوع المسيح "اَلسَّمَاءُ وَالأرْضُ تَزُولانِ وَلكِنَّ كَلامِي لا يَزُولُ" (متى ٢٤:‏٣٥) وقابل (مرقس ٨:‏٣١ ولوقا ٢١:‏٣٣ ويوحنا ١٢:‏٤٨) ويقول بولس الرسول "وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا. كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضاً: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا" (غلاطية ١:‏٨ و٩) إذاً فلا محل لأي وحي جديد ينزله جبرائيل أو غيره سواء كان إنساناً أو ملاكاً. ففي هذا الأمر يناقض القرآن نفسه فهو أولاً يشهد بصحة الكتاب وتصديقه له ثم يعلم تعاليم تخالف تعاليمه الجوهرية.

وفي أمور ثانوية أخرى كثيرة يناقض القرآن أيضاً نفسه باختلافه عن الكتاب المقدس الذي جاء مصدقاً له، ففي سورة مريم ١٩:‏٢٣ يقول أن المسيح وُلد تحت نخلة مع أن الكتاب المقدس يقول أنه وُلد في خان ووُضع في مذود (لوقا ٢). ويقول القرآن أنه تكلم وهو في المهد (سورة آل عمران ٣:‏٤١ وسورة المائدة ٥:‏١٠٩ وسورة مريم ١٩:‏٣١) وإنه لما كان صبياً خلق من الطين طيراً (سورة آل عمران ٣:‏٤٣ وسورة المائدة ٥:‏١١٠). لا ننكر أن هذه معجزات ولكن الإنجيل يصرح أن أول معجزة صنعها كانت في بدء خدمته العلنية في الثلاثين من عمره (لوقا ٣:‏٢٣ ويوحنا ٢:‏١١). وكذلك في الواجبات الأدبية يخالف القرآن الإنجيل فإن المسيح علم أن يحب الناس أعداءهم ومحمد علمهم أن يجاهدوا في سبيل الله، قال المسيح في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون (بشارة متى ٢٢:‏٣٠ ومرقس ١٢:‏٢٥ ولوقا ٢٠:‏٣٥) غير أن القرآن يعلم أنه سيكون في الجنة للمسلمين ما لا يحد من الملاهي والملذات الشهوانية.

ومن المحال رفض هذه الحجج بدعوى أن الكتب المقدسة التي بأيدي اليهود والنصارى محرفة إذ قد فندنا هذا الزعم تماماً في أول هذا الكتاب. كان الأمر سهلاً لو كانت هذه الدعوى من كتاب لا يزعم أنه منزل من الله كما يقول القرآن وكل واحد يصادق على أن ذلك مؤلف لكتاب متأخر يمكن أن ينخدع سيما متى كان ملقنوه جهلة اعتمدوا على خرافات شائعة وليس على الكتاب المتقدم نفسه. ولكنا لا نرغب أن نستنتج مثل هذا الاستنتاج عن القرآن نفسه بل نفضل أن نترك الأمر لإخواننا المسلمين ليحكموا لأنفسهم، ولا شك أن القارئ العزيز قد رأى أن القرآن ليس فيه حجة وافية على وحيه.

إذا كان القرآن من الله تعالى فلا بد أن تعاليمه تكون في كل شيء أرقى وأشرف وارفع عن ما جاء في الإنجيل، كما أن الإنجيل في أمور خاصة أرفع وأرقى من التوراة ولكن ليس الحال كذلك لأن الإنجيل لا يعد المؤمنين في الدار الأخرى بأكل وشرب وأمور عالمية بل بأفراح روحية كسلام القلب والطهارة ومحبة الله وخدمته. فالإنجيل يعلمنا أن المؤمنين الحقيقيين بالمسيح الذين يثبتون في محبتهم وطاعتهم لله ويكونون أمناء حتى الموت يدخلون إلى المنازل المقدسة التي أعدها لهم يسوع المسيح ويسكنون دائماً وأبداً في الحضرة الإلهية "وَعَبِيدُهُ يَخْدِمُونَهُ. وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ وَاسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ" (رؤيا يوحنا ٢٢:‏٣ و٤). وينهي الإنجيل عن استعمال القوة في الأمور الدينية ويترك للإنسان حرية تامة لقبول أو رفض الحق. إذا أراد أحد أن يؤمن بالمسيح فالروح القدس يساعده ويمكنه من قبول ولادة روحية جديدة ويهبه الهدى والخلاص. والذين يرفضون المسيح ليسوا بملزمين بالإيمان به ولكنهم يحكمون على أنفسهم بالدينونة (يوحنا ٣:‏١٨-٢١). وعلاوة على ذلك فالإنجيل خلافاً للقرآن يمنح راحة القلب والثقة بنوال السلام مع الله للذين يأتون إليه بواسطة يسوع المسيح، وكل مسيحي حقيقي يعرف ذلك من اختباره ولكن بحسب القرآن يبقى الإنسان طول حياته بين الشك واليقين فيما إذا كان من السيء لحظ الذين حكم الله عليهم بالهلاك وخلقهم للهلاك.

البشارة (الإنجيل) معناها أخبار مفرحة وهذا هو القصد منها إذ يعلن أن الله لم يخلق نفساً للهلاك بل بالعكس "يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ" (تيموثاوس الأولى ٢:‏٤) ولكي تنال الناس هذه النعمة أرسل ابنه الوحيد إلى العالم كي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (انظر يوحنا ٣:‏١٦) فالإنجيل يعلم بوضوح أن لا يهلك أحد إلا الذين يرفضون محبة الله ورحمته المقدمة في شخص يسوع ولا يؤمنون به ولا يعترفون بدعواه ولا يقبلونه مخلصهم وشفيعهم الوحيد عند الله فيفضلون الظلام على النور لأن أعمالهم شريرة ولا يقبلون محبة الحق كي ينالوا الخلاص.

وإذا كان القرآن هو آخر وأتم وحي للإنسان فلا بد أن يبين لنا أكثر من الإنجيل وأحسن منه عن قداسة الله وعدله ورحمته وعن طاعة تامة لشرائع الله ويظهر نجاسة الخطية روحياً وطريق الخلاص والحاجة إلى قداسة روحية وعن محبة الله لنا وعن ضرورة محبتنا له وواجبنا نحو الله ونحو الإنسان ولزوم طهارة القلب ويصور لنا الجنة صورة أشرف وأطهر مما جاء بها العهد الجديد. فالذين قرأوا القرآن والكتاب المقدس يحكمون لأنفسهم إذا كان القرآن حقاً فاق على الإنجيل في ذلك أم لا.

إذا فحصنا محتويات القرآن لنعرف إذا كان من الله أم لا، يعترضنا هذا السؤال كيف نعرف ماهية القرآن وحقيقته إذا لم يكن من الله؟ يوجد جواب تام لهذا في مصادر الإسلام. يؤكد العلماء أن كثيراً من الحكايات القرآنية ومن الفروض والطقوس الإسلامية مأخوذة من الأديان الأخرى والكتاب المذكور يقدم البراهين على ذلك، فالقارئ العالم يجد فيه أجزاء من الكتب الفارسية والهندية وقدماء المصريين وغيرهم من الأمم السالفة وأن مؤلف مصادر الإسلام يؤكد أن هذه الأجزاء المدرجة بالقرآن هي في أغلب الأحيان مأخوذة منها ويقدم البراهين أيضاً على أنه توجد غير تلك أشياء أخرى كثيرة هي خرافات كانت شائعة بين جهلاء اليهود والنصارى في وقت محمد لا أثر لها في الكتاب المقدس.

وعلاوة على كل ذلك فمن يفحص كتاب سيرة ابن هشام يرى أن زيداً بن عمرو بن نوفل قبل محمد علم بما يأتي (١) التوحيد (٢) رفض عبادة اللات والعزي وبقية الأصنام التي يعبدها العرب (٣) السعادة في الجنة (٤) تحذير الأشرار بعقاب النار (٥) إعلان غضب الله على الكافرين (٦) ذكر هذه الأسماء لله: رب والرحمن والغفور (٧) منع دفن البنات أحياء. وقال أيضاً مع الحنفاء أننا نبحث عن ملة إبراهيم ومحمد نفسه صرح أنه يدعو الناس إلى ملة إبراهيم. والقرآن في مواضع كثيرة يدعو إبراهيم حنيفاً (سورة آل عمران ٣:‏٨٩ وسورة النساء ٤:‏١٢٤ وسورة الأنعام ٦:‏١٦٢) وفي الجزء الثالث من كتاب الأغاني وجه ١٥ أن محمداً قابل زيداً بن عمرو وتحادث معه قبل ادعائه النبوة.

ومؤلف مصادر الإسلام يؤيد قوله بأن قصة المعراج الواردة في سورة الإسراء وفي الأحاديث هي على نفس حكاية الشاب الزردشتي التقي الوارد في كتاب فارسي يُسمى ارتأي ثيراف نامك وفيه أن ذلك الشاب صعد إلى النجوم وعند رجوعه قال ما زعم أنه رآه، وأن المؤرخ العربي أبا الفدا في كتابه التواريخ القديمة من المختصر - في أخبار البشر يذكر فروضاً أدخلت إلى الإسلام وأمر بها القرآن والحديث فيقول كان العرب في الجاهلية يفعلون أموراً قد اتخذها الإسلام ودونها في شريعته ويذكر أبو الفداء عوائد قد أدخلت إلى الإسلام من وثني العرب في الجاهلية منها منع التزوج بالأمهات والبنات والجمع بين الأختين والحج للكعبة ولبس الإحرام والطواف والسعي ورمي الجمار كالوضوء والغسل وفرق الشعر وتقليم الأظافر الخ. وقال أن وثني العرب كانوا يختتنون ويقطعون يد السارق، لا شك أن البعض يقولون مع ابن إسحاق (جزء ١ وجه ٢٧) إن هذه العوائد كانت من أيام إبراهيم. هذا صحيح عن الختان ولكن ليس صحيحاً عن العوائد الأخرى المشار إليها سابقاً ولا يعقل أن الله بإعطائه وحياً جديداً لأمة يأمرهم باستعمال الفرائض التي يقيمونها قبلاً وأيضاً هذا لا يوافق المعتقد أن القرآن كان مكتوباً على اللوح المحفوظ في السماء منذ أجيال قبل أن تكون العرب.

يقول المسلمون أن القرآن يعلم شيئاً كثيراً عن علم الله وعن الآداب وعن الحكم بالعدل وعن الحياة الآتية فلذا هو من الله. نقول لا شك أنه كذلك ولكن هذه الحجة تكون قوية إذا كان القرآن يفوق الكتاب المقدس في سمو تعاليمه عن هذه الأمور ولكن حيث قد رأينا أن صفات الله وذاته في القرآن ليست بأتم منها في الإنجيل، بل والحق يقال أن قول القرآن عن عزم الله ليملأ جهنم بالأنس والجن (سورة هود ١١:‏١٢٠ وسورة السجدة ٣٢:‏١٣) وسماحه تعالى لمحمد بالتلذذ بالنساء أكثر من سائر المسلمين وأمره بالجهاد لانتشار الإسلام وغير ذلك من أمور مهمة تبرهن أن تعاليم القرآن أدنى بكثير من شريعة موسى. فالعهد القديم لم يصرح بتعدد الزوجات عموماً (مع أنه سمح لليهود به ضمناً وقتاً من الزمن) فوحدة الزوجة هي شريعة الله للإنسان كما هو ظاهر في (تكوين ٢:‏١٨-٢٤) وأوضحه المسيح في (متى ١٩:‏٣-٩ ومرقس ١٠:‏٢-١٢) وشدد عليه رسله كما في (تيموثاوس الأولى    ٣:‏٢-١٢ وكورنثوس الأولى ٧:‏٢) بل حرم المسيح شهوة العين على هذه الأرض كما جاء في (متى ٥‏٢٨). ولكن القرآن يجعل المسلم يؤمل بشهوات جسدية لا حد لها في الجنة أمام وجه الله سبحانه وتعالى وهذا التعليم لا ينتج طهارة قلبية هنا على الأرض. أما عن الحكم بالعدل فيحسن بنا أن نسأل هل وجد حاكم عادل في البلاد الإسلامية في أي زمن في التاريخ الماضي والحاضر؟

لا ننكر أن القرآن يخبرنا شيئاً كثيراً عن العالم الآتي وخصوصاً عن عذاب الجحيم وملذات النعيم وليس لنا أن نبحث في الأول منها هنا فقط نذكر إخواننا المسلمين بشيئين عن الجحيم الأول في سورة مريم ١٩:‏٧١ قوله "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً" وقد سعى المفسرون جهدهم في تأويل هذه الآية . الأمر الثاني هو الحديث القائل أن أمة واحدة من الطوائف الإسلامية هي التي ستخلص. من هذين الدليلين نرى خوف المسلمين من الموت ومن يوم الدينونة يظلل حياتهم كلها. أما المسيحي الحقيقي فينتظر بفرح يوم القيامة والمسلم يخاف منه.

ولا يجمل بنا أن نمر على أمر الملذات الموعود بها المؤمن في الجنة بدون أن نقدم بعض الملاحظات. فنجد لها وصفاً كاملاً في (سورة البقرة ٢:‏٢٣ وسورة النساء ٤:‏٦٠ وسورة الرعد ١٣:‏٣٥ وسورة يس ٣٦:‏٥٥-٥٨ وسورة الصافات ٣٧:‏٣٩-٤٧ وسورة محمد ٤٧:‏١٦ و١٧ وسورة الرحمن٥٥: ٤٦-٧٨ وسورة الواقعة ٥٦:‏١١-٣٧ وسورة الدهر ٧٦:‏٥ و١١-٢٢ وسورة المرسلات ٧٧:‏٣١-٣٦ وسورة المطففين ٨٣:‏٢٢-٢٨) وحباً في الاختصار أوردنا هنا بعضها:

"مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ"(سورة محمد ٤٧:‏١٦ و١٧).

"وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الاوَلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِريِنَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمَ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون.  لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلَ سَلاَماً سَلاَماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً" (سورة الواقعة ٥٦:‏١٠-٣٩).

وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الارَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً" (سورة الإنسان ٧٦:‏١٢-٢١).

"وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَاِن تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ ربِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاِكهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّباَنِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإكْرَام"ِ (سورة الرحمن    ٥٥:‏٤٦-٧٨).

وفي الحديث كثير جداً من ذلك في البخاري ومشكاة المصابيح وعين الحياة بعنوان وصف الجنة وأهلها ولكنا نكتفي بإيراد جزء قليل مما جاء في أحياء العلوم للغزالي.

"سئل رسول الله عن قوله ومساكن طيبة في جنات عدن قال قصور من لؤلؤ في كل قصر سبعون داراً من ياقوت أحمر في كل دار سبعون بيتاً من زمرد أخضر في كل بيت سرير، على السرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام في كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن في كل غداة يعني من القوة على جميع ذلك." ثم قال أن الرجل من أهل الجنة ليتزوج خمسمائة حوراء وأربعة آلاف بكر وثمانية آلاف ثيب الخ الخ (الأحياء).

وعندما تدرس كل ذلك ترى أنه بحسب القرآن والحديث سعادة المسلم الآتية هي لبس الحرير والاتكاء على أرائك من استبرق والأكل من كل فاكهة زوجان وارتشاف خمر لذة للشاربين والتلذذ بحور العين وقاصرات الطرف. مثل تلك الجنة مأدبة ملأنه بكل ما تريده نفس الإنسان الشهوانية ولا محل فيها للقدسين والطاهرين من الرجال والنساء، يهرب منها الطاهرون كما هربوا على الأرض من النهم والخمور والفجور. مثل هذه الجنة لا يصح أن الله القدوس الذي تبغض ذاته كل خطية وإثم يعدها للمؤمنين. كيف أن الروح البشرية التي خلقت لمعرفة وخدمة الله التي تطلب سعادة روحية في محبة خالقها والقرب منه تفرح وتسر بمثل هذه الأمور الدنيوية؟ وحتى هنا على الأرض يرى المتهتكون أن هذه الملذات الشهوانية تنتج شقاء لا سعادة، فوصف الجنة في القرآن يدل على أنه لا يمكن أن يكون من الله. إن للمفسر محيي الدين لما رأى ذلك سعى أن يؤوله إلى معنى روحي فقال تفسيراً لسورة الواقعة ٥٦:‏١٨ أكواب وأباريق - من خمور الإرادة والمعرفة والمحبة والعشق والذوق ومياه الحلم والعلوم الخ ولكن معظم المسلمين إن لم يكون كلهم اعتبروه هرطوقياً وقالوا بحق أن القرآن والحديث معناهما حرفي.

وفي بحثنا في محتويات القرآن يجب أن لا نغفل عن لفت نظر القارئ إلى أنه لا يسد عوز واشتياق البشر روحياً الذي هو من أهم أمور الوحي للإنسان، فإن الله وضع في قلب الإنسان ذلك الاشتياق حتى لا يجد راحة إلا مع الله. يقول بعض كتبة المسلمين أن القرآن يخيف الناس ويجعلهم يبكون كما جاء في حديث النجاشي ملك الحبشة (مع العلم أنه يجهل العربية) أنه بكى عند سماعه بعض القرآن. وبفرض صحة ذلك لا يمكنهم البتة القول بأن القرآن يمنح سلاماً للقلب كما منح المسيح المؤمنين به في كل الأجيال ولا يزال يمنح (يوحنا ١٤:‏٢٧)، بل بالعكس توجد فيه آيات مثل قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً مع الاعتقاد بالقدر تجعل كل مسلم عاقل يقضي حياته في فزع دائم من الموت، ولا يعلن القرآن الله تعالى للإنسان كي يعرفه وهذا واضح من كتابة المسلمين بعدم إمكانية معرفة الله حتى في الكتب المقصود بها التعليم والإرشاد فواضح أنه حيث لم يرشد القرآن إلى معرفة تامة عن الله وأن محمداً نفسه صرح بأن معرفته عن الله ليست كما يجب فالإسلام في هذا الأمر المهم جداً لا يسد احتياج الإنسان.

والقرآن لا يعلم أن طهارة القلب ضرورية قبل الاقتراب من الله، بل بالعكس كما رأينا يحتوي القرآن على عبارات مضادة لإمكانية طهارة قلب الإنسان ويظهر منها أن الله لا يعمل بحسب قداسته وعدله ورحمته ومحبته. ولا يظهر القرآن كيف ينال الإنسان مغفرة خطاياه ويحسب باراً أمام الله. صحيح أنه توجد فيه فروض لها جزاء ولكن لا مفر من القدر في القرآن والقدر هو الحكم في مستقبل الإنسان هناء أو شقاء، ولا توجد كفارة فيه ولا يعين كيف يكسر الإنسان قيود الخطية وهو عبدها.

يقول بعض المسلمين أن محمداً سيشفع لشعبه في يوم الدين ويقول آخرون أنه الآن وهو ميت له نفوذ عند الله، ولكن كل ذلك مخالف تماماً للكتاب المقدس الذي يدعي القرآن بتصديقه. فمن (يوحنا ١٤:‏٦ وأعمال الرسل ٤:‏١٢ وتيموثاوس الأولى    ٢:‏٥ و٦) يتضح أنه لا يوجد شفيع أو وسيط غير يسوع، بل ولا يوجد في القرآن نفسه عبارة تثبت وساطة محمد بين الله والإنسان، لا حاجة لنا للحديث في هذا الموضوع فإن المأمور في القرآن بالاستغفار لذنوبه لا يمكنه أن يكون وسيطاً لدى الله. نعم إن الإنسان الذي أخطأ وتاب يمكنه الصلاة لله لمغفرة ذنوب الآخرين كما لذنوب نفسه ولكن هذا أمر آخر. القرآن والحديث يصرحان أن نبي العرب يستغفر لذنوبه وذنوب أمته ففي سورة غافر ٤٠:‏٥٥ "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالابْكَارِ." وفي سورة النساء ٤:‏١٠٦ "وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيما." وهاتان الآيتان تشابهان الآيات الواردة في القرآن أن الله وعده أن يغفر ذنوبه كما في سورة الفتح ٤٨:‏١ و٢ "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ." ويقول ابن عباس ما معناه ذنوبه قبل النبوة وذنوبه إلى يوم موته وقال الزمخشري في كشافه يريد جميع ما فرط منك ما تقدم في الجاهلية وما بعدها وقيل ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد. وعلى الفرض أن القرآن قد نزل من الله تعالى نرى هنا أمراً مهماً عن محمد فإن كلمة ذنب المستعملة لمحمد في القرآن ليست أقل من خطية ففي سورة الرحمن ٥٥:‏٣٩ كلمة ذنب مستعملة للأنس والجان وفي سورة القصص ٢٨:‏٧٨ نرى كلمة ذنب مساوية لكلمة جرم ونرى كلمة ذنب مستعملة أيضاً للكذب والافتراء والشهوة وعدم الإيمان ولأمور أخرى كثيرة من أكبر الخطايا كما في سورة يوسف ١٢:‏٢٩ وسورة الملك ٦٧:‏١١ وسورة الشمس ٩١:‏١٤ وغير ذلك. وفي سورة محمد ٤٧:‏١٩ نراه يخاطب محمداً قائلاً "وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ." فهنا نرى كلمة ذنب خاصة به دون تابعيه من المؤمنين والمؤمنات كما فسرها بعضهم اعتسافاً. وفي سورة الشرح ٩٤:‏١-٣ "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ." فهل يمكن أن يخطئ جميع هذه الآيات الواضحة؟ حقاً إن الكمال لله وحده.

والحديث يوافق القرآن في هذا الأمر سواء كان في كتب السنة أو الشيعة ولنأخذ قليلاً من الأمثال المؤيدة ذلك. روى أحمد والترمذي وابن ماجة كما في مشكاة المصابيح عن فاطمة أن محمداً كان يقول عند دخوله المسجد رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وعند خروجه رب اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب نعمتك وعن عائشة اللهم اغفر لي وارحمني والحقني بالرفيق الأعلى الجامع الصغير وعنها اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وعن أبي موسى اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي خطأي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت عل كل شيء قدير. وروى البيهقي عن عائشة في كتاب الدعوة الكبرى إنها سألت النبي قائلة ألا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله فقال لا يدخلها أحد إلا برحمته تعالى. وقالت ولا أنت قال ولا أنا إلا إن تغمدني الله برحمته وكرر ذلك ثلاثا. وروى الإمام جعفر أن محمداً بات ليلة عند أم سلمة وبينما كان يصلي بكى وقال اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا تنزع مني صالح ما أعطيتني قالت أم سلمة لقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فسألته لماذا تقول هذا فقال لها يا أم سلمة كيف أكون آمناً من نفسي وقد ترك الله يونس لنفسه طرفة عين ففعل ما فعل. وقال محمد الباقر أن محمداً بات ليلة عند عائشة وصرف وقتاً طويلاً في الصلاة فقالت له لماذا تتعب نفسك وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً وروى أنه في نهاية خطابه يوماً لتابعيه قال اللهم اغفر لي ولأمتي وخاطبهم إني أسأل الله المغفرة لنفسي ولكم. ويوجد غير ما تقدم أحاديث كثيرة سنية وشيعية ولكن ما ذكر فيه الكفاية.

وهذه الأحاديث تبين لنا في بحثنا عن محمد وتؤكد أنه كان كبقية أبناء البشر يشعر بضرورة رحمة الله ومغفرته والقرآن يشير إلى خطايا أنبياء العهد القديم فلآدم (البقرة ٢:‏٣٣ و٣٤ وطه ٢٠:‏١١٩) ولنوح (نوح ٧١:‏١٩) ولإبراهيم (الأنعام والبقرة) وموسى (الأعراف والشعراء والقصص) وهارون ويوسف (يوسف) ويونس (يونس) ولا شك أنهم تابوا كما يذكر الكتاب المقدس. فنرى في المزمور الحادي والخمسين صلاة داود التي قدمها في توبته. وكل خاطئ يحتاج للتوبة ويطلب المغفرة من الله وطلب المغفرة إقرار بالذنب. كل إنسان بشري يمكنه استعمال الصلوات التي قدمها محمد وذكرها آنفاً، وعليه فلا يمكن لمن يحتاج إلى التوبة أو لمن احتاجها ولو مرة واحدة أن يكفر عن خطايا غيره. والقرآن يقول أنه لا ينفع إنسان آخر في يوم القيامة ورد في سورة البقرة ٢:‏٤٨ "وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ" ومكررة في آية ١٢٣. وأيضاً في سورة الانفطار  ٨٢:‏١٩ "يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ." وحيث تبرهن أن محمداً لا يمكنه تخليص أمته فلذلك هم يحتاجون لمخلص. والقرآن لا يعلن مخلصاً ولا شفاعة فلذلك هو لا يسد احتياجات الإنسان. فالقرآن لا يتمم الشروط التي رأيناها في المقدمة لصحة الوحي الحقيقي، فهو في ذلك على عكس الإنجيل تماماً كما بينا في القسم الثاني من هذا الكتاب، المسيح حي ومحمد ميت ٤ والمسيح ليس إنساناً كاملاً بدون خطية فقط بل كلمة الله "يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللّهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ" (عبرانيين ٧:‏٢٥).

ولا تنس أن الغرض هنا ليس الجدل بل طلب الحق، ولا ينفعنا التعصب فلننبذه بنعمة الله وقد أجهد المؤلف نفسه في كلامه عن محتويات القرآن أن لا يحيد عن قانون الأدب والأمانة واللطف وسوف يسير على مبدئه هذا في ما يلي من الفصول أيضاً.


١. لعل صوابه ابن عباس اهـ مصحح

٢. كذا في الأصل لكن المصحح يظنه بعيد الاحتمال

٣. انظر ملاحظة الكندي عن عاد وثمود في رسالته من طبعة لندن

٤. كل المسلمين يعرفون أن محل قبر المسيح المزعوم خال وقبر محمد فيه جثته

الفصل الخامس

بحث في المعجزات المنسوبة لمحمد وهل هي برهان على نبوته

طائر النورس
طائر النورس

ليس من الضروري لإثبات نبوة شخص أن يعمل معجزات، فأنبياء كثيرون لم تكن لهم معجزات وأناس آخرون لم تكن لهم الرسالة الإلهية وأتوا بما يشبه المعجزات. ففي عصر موسى مثلاً فعل سحرة مصر أعمالاً ظهرت كأنها عجائب مثل أعمال موسى (خروج ٧:‏١٠-١٣ و٢٢ و٨:‏٧ و١٨) وعلاوة على ذلك أخبرنا الكتاب عن أنبياء كذبة سيفعلون معجزات (مرقس ١٣:‏٢٢ ومتى ٢٤:‏٢٤ ورؤيا يوحنا ١٦:‏١٣ و١٤ و١٩:‏٢٠) وخصوصاً عن الذي سيأتي المسمى عند المسلمين بالدجال. قليل من الأنبياء الحقيقيين من صنع المعجزات، وفي العهد القديم لم يعمل أحد معجزات حتى أيام موسى وحيث لم يكن موسى نبياً عظيماً فقط بل مشترعاً ومرسلاً بوحي جديد لذلك أعطيت له قوة على عمل المعجزات المذكورة في التوراة، وكان ذلك ضرورياً له ليثبت دعواه أنه أتى برسالة من الله وإنه يتكلم بسلطان من الله وإنه يعلن وحياً إلهياً. وهذه القوة على عمل المعجزات أعطيت لإيليا وأليشع أيضاً لأنهما عاشا في وقت كاد الدين يمحى فيه وكان عليهم أن يردوا الشعب إلى الله ولكن لم يخبرنا الكتاب إن داود أو إرميا أو غيرهما من الأنبياء الكبار كانت لهم قوة المعجزات. فيوحنا المعمدان الذي كان أعظم نبي إلى وقته (متى ١١:‏١١ ولوقا ٧:‏٢٨) قال عنه اليهود بحق "يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً" (يوحنا ١٠:‏٤١). يتضح أنه في وقت الاحتياج الشديد أو عند إعلان وحي جديد كان الله يعطي قوة المعجزات دليلاً على الرسالة.

فإذا كانت دعوى محمد صحيحة ثابتة بأنه خاتم الأنبياء وآخر وأعظم المرسلين الذي أرسل للعرب الذين لم يقم منهم قبلاً نبي .. الخ، والذي قال إنه أتى بأعظم رسالة إلهية وبوحي أعظم من سابقيه وأن القرآن أملاه عليه جبريل الذي أنزله في ليلة القدر من السماء السابعة حيث كان مكتوباً على اللوح المحفوظ وأعلن أيضاً أن رسالته عامة لجميع الناس ولا تخلفها رسالة أخرى لأنه خاتم المرسلين كان من الضروري أن يعمل معجزات ليبرهن هذه الدعوى وإلا لم تثبت دعواه. وحيث أنه لم يتنبأ كما بينا سابقاً فيجب علينا البحث في معجزاته.

أما القرآن فيجيبنا جواباً صريحاً حاسماً أنه لم يعمل معجزة البتة. وهذا وارد في كثير من الآيات منها "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالإيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأّوَلُونَ" (سورة الإسراء ١٧:‏٥٩)، وقد فسرها البيضاوي بقوله وما صرفناه عن إرسال الآيات التي اقترحها قريش (إلا أن كذب بها الأولون) إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع كعاد وثمود وأنها لو أرسلت لكذبوها تكذيب أولئك واستوجبوا الاستئصال على ما قضت به سنتنا وقد قضينا أن لا نستأصلهم لأن فيهم من يؤمن أو يلد من يؤمن. ويذكر ابن عباس مثل ذلك المعنى. ولا شك في معناها فهي واضحة بأن الله لم يعط محمداً قوة المعجزات التي طلبها منه قريش لأنه علم أنهم سيرفضونه حتى ولو صحت دعواه.

وتوجد آيات أخرى غير هذه فيها هذا المعنى في سورة البقرة ٢:‏١١٢ و١١٣ "وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً." ويقول البيضاوي أن قريشاً هم الذين طلبوا منه الآيات، فبدلاً من الآيات (المعجزات) التي طلبوها قدم لهم آيات (أعداد) من القرآن كدليل على رسالته. ومما يُظهر أن الآيات هنا معناها أعداد من القرآن ما جاء في سورة البقرة ٢:‏١٤٦ "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا" فهذه الآيات ليست معجزات كما يدعي البعض بل هي أعداد من القرآن وإلا فما هو معنى الفعل يتلو؟ وفي سورة البقرة ٢:‏٢٥٣ "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ" وفي سورة البقرة ٢:‏٩٣ "وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ." فالفعل أنزلنا يبين أن الآيات إنما هي أعداد قرآنية وهي التي يتكلم عنها القرآن دائماً بقوله أنزلنا كما في سورة الأعراف ٧:‏٢٠٢). ومن معنى الآية" وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ" (سورة الأنعام      ٦:‏١٢٤) نرى أن قريشاً طلبت بدلاً من الآيات القرآنية معجزات كالتي عملها رسل الله وقد طلبوا منه ذلك في سورة الأنعام      ٦:‏٣٧ وسورة يونس ١٠:‏٢١ وسورة الرعد ١٣:‏٢٩ وأيضاً في سورة الأنعام ٦:‏١٠٩ "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ." وهذا يصرح أن محمداً لم يعط قوة المعجزات، ونوع الآية التي طلبتها قريش واضحة في سورة الرعد ١٣:‏٣٣ "وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعاً." والبيضاوي في تفسيره لهذه الآية يظهر طلب قريش الذي لأجله نزلت هذه الآية وفي سورة الإسراء ١٧:‏٩٢-٩٥ نرى ما يشابه ذلك "وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَّزِلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً."

ومن هذه العبارة يتضح أن قريشاً لم ترض بالقرآن كدليل على إرسالية محمد فطلبوا منه عمل المعجزات المذكورة، فجاوبهم محمد بأنه بشر ولا يمكنه عمل مثل هذه المعجزات. وعليه لا يمكن التعويل على قصة المعراج وتدفق المياه من الأرض أو من بين أصابعه (ما سنرويه بعد) لأنها لو كانت حقيقة تاريخية لما جاوبهم بمثل ذلك بل كان بالحري يثبت لهم قدرته على فعل المعجزات. وفي سورة العنكبوت نراهم أيضاً يطلبون نفس الطلب وكان الجواب الرفض كالأول، "وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (سورة العنكبوت ٢٩:‏٥٠ و٥١).

فيتضح من هذه العبارات أن القرآن يصرح بعدم إتيان محمد بالمعجزات بل قال إن الآيات القرآنية هي دليل كاف على إرساليته ونبوته (كما في سورة الإسراء) وقد رأينا في الباب الثالث والفصل الثالث من هذا الكتاب أن البلاغة والفصاحة لا تكفيان لأن تكونا حجة على إنزال كتاب من الله.

غير أن بعض المسلمين يقولون أن في القرآن نفسه توجد معجزتان لمحمد أولهما انشقاق القمر في سورة القمر ٥٤:‏١ يقول "اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ" ولكن هذا القول لا يثبت أنها معجزة أتاها محمد لأسباب عديدة منها:‏

(١) إذا كان المقصود منها معجزة فهي تناقض ما جاء في سورة الإسراء والمسلمون يقولون بعدم تناقض القرآن لنفسه،

(٢) إن محمداً لم يذكر هنا أو في أي محل آخر من القرآن أن له علاقة بهذه المسألة، ولا يدعوها القرآن معجزة ولا يقول أن انشقاق القمر دليل على إرسالية محمد، ولو كان القرآن قصد أن محمداً عمل مثل هذه المعجزة الباهرة لصرح بذلك كما صرح العهد القديم والعهد الجديد عن معجزات موسى والمسيح وتلامذته بكل وضوح،

(٣) إذا كان محمد أتى بهذه المعجزة شق القمر لكان يجيب بها طلبات قريش الواردة في سورة الرعد والإسراء وغيرهما مع العلم أن جميع المفسرين متفقون على أن سورة القمر نزلت قبل هاتين السورتين،

(٤) إن تلفاً أو ضرراً يعمل بإحدى مخلوقات الله كالقمر يكون علامة على قوة عظيمة ولكنه لا يثبت إن عاملها مرسل من الله،

(٥) لو كان قد حصل أمراً مثل ذلك يختص بالطبيعة لكان قد علم في جميع الأرض وسجل في تواريخ أمم كثيرة كحادثة خارقة للعادة ومدهشة، والذين لهم معرفة ببعض علم الفلك ومقدار حجم القمر وماذا ينتج لو انشق إلى اثنين وانفلتا على الأرض لا يصدقون ذلك،

(٦) ولا يوجد تاريخ يذكر مثل هذه الحادثة ولا حتى ظهور انشقاقه بل وبعض أكابر المفسرين ينكرون الزعم بأن سورة القمر تشير إلى مثل ذلك فمنها قول البيضاوي والزمخشري قيل معناه سينشق يوم القيامة فلو كان الأمر صحيحاً لما كان للشك مجال ولا قيل ولا قال أو لو كانت الأحاديث القائلة أن محمداً ظهر لأهل مكة انشقاق القمر إلى قسمين أو إلى فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت كما قال ابن عباس أو كما قال ابن مسعود رأيت حراء بين فلقتي القمر (الزمخشري) أو كما قال آخرون فلقة صارت دون الجبل والأخرى فوقه وعلى هامش المشكاة اجتهد الشارح على الهامش في أن يبين كيف لم ير الناس الحادثة فقال كان بالليل وقت نيام الناس في لحظة فلا يلزم شعور الناس في جميع الآفاق بذلك حتى يجب اشتهاره بين جميع الأمم التي كان القمر طالعاً عليهم في ذلك الوقت،

(٧) كلمة الساعة معرفة بال لها معنى خاص في القرآن كما في سورة طه وسورة الحج وسورة الشورى وفي مشكاة المصابيح باب إشراط الساعة وهو يوم القيامة كما يقول البيضاوي فواضح أن يوم القيامة لم يكن قريباً عندما كتبت سورة القمر لأنها كتبت قبل الهجرة بزمن طويل وحيث أنهم يقولون أن انشقاق القمر علامة من علامات الساعة وقريب منها فيكون المعنى عندما تقوم الساعة ينشق القمر. ومعلوم أنه يمكن في العربية استعمال الأفعال الماضية بمعنى المستقبل، وقد رأينا أنه حتى في وقت البيضاوي فسر بعضهم الآية بهذا المعنى وها نحن اليوم بعد ذلك بمئات من السنين ولم تأت الساعة فلا شك إذا أن المقصود بانشقاق القمر أنه سيكون حين قيام الساعة وابن عباس يقول أن انشقاق القمر وظهور الدجال علامات أخر تحصل قبل يوم القيامة.

ومن كل ما مضى نرى أن القرآن لم ينسب لمحمد عمل هذه المعجزة فلا يصح إذاً أن نقتبس هذه الآية دليلاً على ذلك وكذلك لا يمكن التمسك بمعجزة لم تحدث إلى الآن دليلاً على نبوة محمد.

وقد جاء في المعلقات السبع لامرء القيس قصيدة فيها ست فقرات واردة في القرآن في سورة القمر إحداها دنت الساعة وانشق القمر وقد مات هذا سنة ٥٤٠ م أي قبل ولادة محمد فتأمل!

والمعجزة الثانية التي ينسبها البعض لمحمد هي حادثة غزوة بدر مع أن البعض يقولون بل كانت في غزوة حنين وآخرون أحد وآخرون خيبر وقد جاءت في سورة الأنفال ٨:‏١٧"وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى."

وقال البيضاوي لما طلعت قريش أتاه جبرائيل وقال خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان تناول كفاً من الحصاء فرمى بها وجوههم وقال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت فنزلت (وما رميت) يا محمد رمياً توصلها إلى أعينهم ولم تقدر عليه (إذ رميت) أي أتيت بصورة الرمي (ولكن الله رمى)، أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعاً حتى انهزموا. وقيل ما معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم وقيل إنه نزل في طعنة طعن (محمد) بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات أو رمية سهم رماه (محمد) يوم خيبر نحو الحصن فأصاب لبابة بن أبي الحقيق على فراشه (وهو زوج صفية التي تزوجها محمد بعد مقتل زوجها بقليل) والجمهور على الأول.

ومن هذا الشرح يتضح أنه لا يعرف يقينا عما إذا كانت هذه العبارة تشير إلى بدر أو أحد أو خيبر أو إلى الحصباء التي رماها محمد  بل ربما إلى طعنة طعنها أو سهم رماه. وعلى كل حال لا تثبت أنها معجزة عملها محمد، بل بالعكس تظهر الآية أن محمداً لم يقدر على رمي الحصباء في أعين أعدائه أو على قتل أحد فإن الفاعل بالحقيقة لم يكن محمد بل الله. فإذا سلمنا أن الآية تشير إلى بدر فليس من الغريب أن يفعل مثل ذلك قائد لكي يشجع جنوده ويثبط أعداءه فإذا كانت النتيجة الفوز لا يتصور أحد بشيء خارق في المسألة، ولا يمكن أن تكون طعنة إنسان معجزة إذا كانت هي المشار إليها.

وعدا هاتين الآيتين يزعم بعض المسلمين وجود آيات بينات في أماكن أخرى من القرآن تنسب لمحمد عمل المعجزات. فإذا كان ذلك صحيح نستغرب جداً كيف لم يصف القرآن معجزة واحدة منها مع أنه يخبر نوعاً من المعجزات التي فعلها يسوع (سورة آل عمران ٣:‏٤٣) فلنفحص تلك العبارات ونرى إذا كانت تشير إلى آيات بينات أتى بها محمد.

ففي سورة (الصف ٦١:‏٦) "فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ" وهذا أما يشير إلى الوعد بمجيء شخص يُدعى أحمد ولا وعد مثل ذلك في الإنجيل وأما أن يشير إلى المسيح المذكور في الآية نفسها والبيضاوي يؤيد هذا الرأي الأخير بقوله فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ الإشارة إلى ما جاء به أو إليه وتسميته سحراً للمبالغة ويؤيده قراءة حمزة والكسائي هذا ساحر على أن الإشارة إلى عيسى عليه السلام. فإذا صح تفسير البيضاوي فلا دليل في العبارة لإتيان محمد بمعجزة، أو بعبارة أخرى نرى أن آيات بينات الواردة هنا أو في أي مكان آخر تشير إلى آيات قرآنية كما بينا سالفاً ليس إلا.

وإذا قال أحد أن قوله سحر مبين أو ساحر يؤيد علم أشياء خارقة للطبيعة ولا يمكن أن تشير إلى الفصاحة نجيبه من القرآن نفسه ففي سورة ص ٣٨:‏٤ "وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ" وفي سورة الزخرف ٤٣:‏٣٠" وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ." قال البيضاوي سموا القرآن سحراً وفي سورة الأحقاف ٤٦:‏٦ "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ." فنرى في هذه الآية نفس ما رأينا في سابقتها والبيضاوي يقول أن المراد بالحق الآيات (الأعداد).

ويحتج كثير من المسلمين بأن في الأحاديث معجزات كثيرة منسوبة لمحمد وإننا لا ننكر ذلك كما سترى ولكن علينا أن نفحص صحة الأحاديث الدالة على هذا الأمر قبل أن نقبلها كبرهان أو دليل فنلاحظ أولاً أن القرآن لم يذكر معجزة لمحمد بل وبين سبب عدم إعطائه قوة المعجزات. فكل مفكر سواء من المسلمين أو المسيحيين يرى أن الآية القرآنية أهم بكثير من عدة أحاديث ثم أنه من السهل جداً أن نفهم لماذا في الأزمنة المتأخرة وضعت أحاديث تنسب المعجزات لمحمد ومحال أن نتصور أن الآيات القرآنية غيرت أو بدلت لإنكار معجزاته إن كان عمل معجزات. ثانياً نرى الذين جمعوا الأحاديث لم تكن لهم معرفة ذاتية عن الحوادث التي جمعوها فكلهم عاشوا بعد محمد بكثير من السنين فكان تعويلهم على أقوال متداولة وقالوا أنها مسندة بأسانيد موثوق بها. ويرى القارئ في كشف الظنون الجزء الثاني وجه ٣٤-٣٧ أن جامعي كتب الصحاح الستة ماتوا بحسب ما يأتي:

البخاري سنة ٢٥٦ هـ ومسلم ٢٦١ هـ والترمذي ٢٧٩ هـ وأبو داود ٢٧٥ هـ والنسائي ٣٠٣ هـ وابن ماجة ٢٧٣ هـ أما كتب الشيعة فبعد ذلك أيضاً الكافي سنة ٣٢٩ هـ وما لا يستحضره الفقيه ٣٨١ هـ والتهذيب ٤٦٦ هـ والاستبصار ٤٠٦هـ ونهج البلاغة ٤٠٦ هـ. وأن اختلاف أهل الشيعة وأهل السنة في الأحاديث مع اتفاقهم في القرآن يدل على عدم الثقة بالأحاديث سيما ما خالف منها نص القرآن. وأكثر الأحاديث ثقة هو حديث البخاري في صحيحه ويليه مسلم والترمذي، ولكي يظهر للقارئ الكريم كثرة الأحاديث المكذوبة في أيام البخاري نفسه وكم من الموضوعات كانت شائعة إذ ذاك يكفي أن نذكر أن البخاري نفسه يقول أنه جمع ١٠٠٠٠٠ حديث ظنه صحيح و٢٠٠٠٠٠ لم يثق بصحته وبعد الفحص والتنقيب حكم بصحة ٧٢٧٥ حديثاً ولما حذف منها المكرر بقي ٤٠٠٠ فقط، وحتى ما بقي ليس كله صحيحاً فكثير منها ما يناقض الواحد الآخر كما في هذه المسألة عن معجزات محمد. وجمع أبو داود ٥٠٠٠٠٠ حديثاً وقبل منها ٤٠٠٠ فقط.

فعلينا أن نقدم من تلك المعجزات المزعومة لتعرف طبيعتها:

(١)  بعث النبي رهطاً إلى أبي رافع فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلاً وهو نائم فقتله فقال عبد الله بن عتيك فوضعت السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب حتى انتهيت إلى درجة فوضعت رجلي فوقعت في ليلة مقمرة ١ فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة فانطلقت إلى أصحابي فانتهيت إلى النبي فحدثته فقال ابسط رجلك فمسحها فكأن لم أشتكيها قط (رواه البخاري). وسنرى في الفصل التالي ماذا تبين لنا هذه القصة عن أخلاق محمد. ولكننا نكتفي هنا بملاحظة أن حكاية قتل أبي رافع حكاها ابن هشام في سيرة الرسول وابن الأثير وكاتب روضة الصفا وفي كل مخالفة للأخرى فالواحد يقول أن ساقه الذي كسر والآخر ذراعه وغيره بل صدره رض فقط. وبعضها كما في ابن هشام وابن الأثير لا يذكر أن شفاؤه معجزة ينسبها لمحمد ولكن كلهم يتفقون أن قتل الرجل وهو نائم كان بأمر محمد. فلو كان محمد عمل معجزة في هذه الظروف لكنا وقعنا في مشكلة أدبية أشد وأصعب إذ هل يصح أن نقول أن معجزة إلهية تصنع لخير قاتل مثل عبد الله بن عتيك؟

(٢)  توجد أخبار متناقضة مختلفة عن الماء الذي أنبعه محمد لتابعيه العطشى ونجد في مشكاة المصابيح عدداً وافياً منها وسنقدم لك نوعاً عن جابر قال عطش الناس في يوم الحديبية ورسول الله بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه قالوا ليس عندنا ما نتوضأ به ونشرب إلا ما في ركوتك فوضع النبي يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون قال فشربنا وتوضأنا قال لجابر كم كنتم قال لو كنا مائة ألف لكفانا. كنا خمس عشر مائة وعن رواية أخرى ١٤٠٠ وأخرى بين ١٤٠٠ و١٥٠٠ وأخرى ١٣٠٠ وغيرها ١٦٠٠ وغيرها ١٧٠٠ وابن عباس ١٥٢٥. وروى البخاري نفس هذه الحكاية باختلاف قال عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله أربعة عشر مائة يوم الحديبية والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ النبي فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها ثم قال دعوها ساعة فارووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا. رواه البخاري وقد كررت هذه الحكاية في المشكاة وكل مرة تختلف عن الأخرى.

فيرى القارئ أنها ليست معجزة إذ تتجمع المياه في البئر بعد تركها مدة وهذا يخالف تماماً ما قيل عن كفاية ١٠٠٠٠٠ رجل من نبع أصابعه.

(٣)  وتوجد عدة قصص عن أشجار وأحجار حيّت محمداً كرسول الله وكيف أن الأشجار تبعته أو أطاعت أوامره واخترنا للقارئ واحدة كعينة عن جابر قال سرنا مع رسول الله حتى نزلنا وادياً أفيح فذهب رسول الله يقضي حاجته فلم ير شيئاً يستتر به وإذا شجر تين بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله إلى إحداها فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقادي عليّ بإذن الله فانقادت معه كالبعير المحشوش الذي يطيع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقادي عليّ بإذن الله فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالنصف مما بينهما قال التئما عليّ بإذن الله فالتأمتا فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله مقبلاً وإذا الشجرتين قد افترقتا قامت كل واحدة منهما على ساق رواه مسلم.

(٤)  وتروى أيضاً عينة من نوع آخر من المعجزات عن أنس قال أن رجلاً كان يكتب للنبي فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين فقال النبي إن الأرض لا تقبله فأخبرني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها فوجده منبوذاً فقال ما شأن هذا فقالوا دفناه مراراً فلم تقبله الأرض وعلماء المسلمين لم يتفقوا مطلقاً على من هو هذا الرجل السيء الحظ.

(٥)  وعن جابر قال كان النبي إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه صاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق. فنزل النبي حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت قال بكت على ما كانت تسمع من الذكر رواه البخاري.

(٦) عن علي بن أبي طالب قال كنت مع النبي بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله رواه الترمذي والدارمي.

(٧) عن ابن عباس قال أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله فقالت يا رسول الله أن ابني به جنون وأنه ليأخذه عند غدائنا وعشائنا فمسح رسول الله صدره ودعا فثعّ ثعة وخرج من جوفه مثل الحجر الأسود يسعى رواه الدارمي.

(٨) عن ابن عمر قال كنا مع النبي في سفر فأقبل أعرابي فلما دنى قال له رسول الله تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله قال ومن يشهد على ماتقول قال هذه السلمة. فدعاها رسول الله وهو بشاطئ الوادي فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت ثلاثا كما قال ثم رجعت إلى منبتها رواه الدارمي.

(٩) وعن ابن عباس قال جاء أعرابي إلى رسول الله قال بم أعرف أنك نبي؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة يشهد أني رسول الله فدعاه رسول الله فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي ثم قال ارجع فعاد فأسلم الأعرابي رواه الترمذي وصححه.

(١٠) وفي كتاب تركي اسمه مرآة الكائنات القصة التالية ٢ : لما خرج محمد إلى الطائف قال فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت إليها فإذا فيها جبريل فقال أن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت قال فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد أن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وأنا ملك الجبال وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. قال النبي لا بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا شريك له .. الخ.

ولا ضرورة أن نزيد من هذه الحكايات فمن يرغب الزيادة فعليه أن يرجع إلى روضة الصفا أو روضة الأحباب وجامع المعجزات في الفارسية أو مرآة الكائنات في التركية وفي كثير من الكتب العربية ذكرنا أنفاً بعضها.

ونجد في الكتب الهندية والوثنية كثيراً جداً من معجزات الأصنام كهذه يصدقها كثيرون من جهلاء الوثنيين في بلاد عديدة، ولكن جميعها تختلف في الأسلوب والماهية عن المعجزات الصحيحة الواردة في الإنجيل والتي يشهد القرآن بصحتها. وتلك الحكايات (الوثنية وغيرها) تذكرنا بحكايات ألف ليلة وليلة وتثبت أن العرب في الجاهلية كانت لهم قوة التصور وتأليف الحكايات.

ولنلاحظ أن بعض تلك المعجزات التي قد رويناها هي نفس ما طلبته قريش من محمد، فلو كان قد أتاها فعلاً لكان قد ذكر القرآن بعضها ولكن بدلاً عن ذلك نراه يقول أن محمداً ليس بوكيل بل نذير وبشير ويبين سبب عدم إتيانه بالمعجزات مطلقاً.

إذا تفضل قراؤنا بالاطلاع على المعجزات التي صنعها يسوع وتلاميذه كما هي مدونة في العهد الجديد قالوا ما أعظم الفرق في نوعها عن تلك التي ينسبها الحديث لمحمد مناقضاً القرآن.

ليست معجزات العهد الجديد مجرد حوادث مدهشة خارقة للطبيعة كشجرة تشير وتتكلم وعمود يصرخ ويئن كالطفل أو كمسح ساق أو ذراع قاتل فتشفى .. الخ، بل هي أمثال فعلية ملآنة بالتعاليم الروحية وظاهر بها الرحمة والقوة الإلهية مثل إبراء الأبرص وفتح أعين الأعمى وإقامة الموتى الخ (متى ١١:‏٤ و٥ ولوقا ٧:‏٢٢). ومعجزات المسيح لم تعمل لنجاة قاتل من إحدى نتائج فعلته ولم يكرس القوى الإلهية في جعل الأشجار تتكلم والأحجار تصرخ.

وعلاوة على ذلك فمعجزات العهد الجديد كتبت بعد صعود المسيح بقليل في حياة أكثر تلاميذه تحت الإرشاد الإلهي بعضها كتبها نفس تلاميذ المسيح كمتى ويوحنا وبعضها تحت ملاحظتهم كمرقس ولوقا. ويوجد سبب آخر على صحة ما دوّن عن معجزات المسيح وهي كتابتها عند حدوثها، ولكن من الوجهة الأخرى يرى المعجزات التي نسبها الحديث لمحمد لم تَكتب إلا بعد موته بمئات من السنين. وجاء في الإنجيل أن المسيح يشير إلى أعماله باعتبار أنها دليل على رسالته الإلهية "اَلأعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي" (يوحنا ١٠:‏٢٥) (راجع أيضاً عدد ٣٢ و٣٧ و٣٨ و١٤:‏١١ و١٢ و١٥:‏٢٤) أما في القرآن فبالعكس فإنه أنكر معجزات محمد. أنظر سورة الإسراء وشهد بمعجزات المسيح انظر سورة آل عمران.

ونبين باختصار بعض الفروق العظيمة التي بين معجزات المسيح ومعجزات محمد التي في الأحاديث.

توجد شهادة كافية أن كثيرين ممن صرحوا أنهم أول شهود المعجزات المسيحية صرفوا حياتهم في أتعاب وأخطار وآلام تحملوها طوعاً في تقرير الحوادث التي سلموها لنا ولسبب اعتقادهم بها فقط خضعوا لقوانين جديدة غيرت سلوكهم.

ولا توجد شهادة أن الذين صرحوا بأنهم شهود المعجزات المحمدية فعلوا مثل ذلك في تقرير الحوادث التي دونوها أو غيروا سلوكهم بسبب اعتقادهم بها.

جمع الأحاديث الإسلامية كان متأخراً جداً وحوادثها غريبة حتى لا يمكن لعالم أن يثق بصحتها كمعجزات غير أنها ربما كانت تستحق ثقة أكثر بخصوص أمور أخرى متعلقة بمحمد، وما جاء عن ذلك في المشكاة أو حياة اليقين أو عين الحياة وغيرها من الكتب الشائعة الاستعمال بين علماء السنة والشيعة غريبة جداً حتى أنها تلقي الشك والريب على جميع الأحاديث الأخرى. فمثلاً يوجد حديث معناه أن الحور العين تنمو من الأرض كالورد على شاطئ نهر في الجنة فيجمعهن المسلمون لملذاتهم وأيضاً يوجد في الجنة طيور مطبوخة وتطير ثانية بعد أن يشبع منها المسلمون. وأن الله تعالى لما أراد خلق آدم بعث إلى الأرض جبرائيل ليأتيه بقبضة من ترابها فلما أتاها جبرائيل ليقبض منها القبضة قالت إني أعوذ بعزة الله الذي أرسلك أن تأخذ مني شيئاً يكون فيه غداً للنار نصيب فرجع جبرائيل إلى ربه ولم يأخذ منها شيئاً وقال يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها (ثم أرسل ميكائيل فكذلك ثم بعث الله تعالى ملك الموت فأتى الأرض فاستعاذ بالله أن يأخذ منها شيئاً فقال وأني أعوذ بالله أن أعصي له أمراً فقبض قبضة من زواياها الأربعة. وفي حديث آخر أن الله تعالى أذن لي (محمد) أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه منثنية تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك فيرد عليه لا يعلم ذلك من حلف بي كاذباً. وفي حديث آخر لما أرادت حواء أن تأكل من الحبة نمت الشجرة علو ٥٠٠ سنة لتنجو منها وحديث آخر أن المسافة ما بين أكتاف وآذان حملة العرش مسيرة ٧٠ سنة.

ويصرح علماء الشيعة أنه توجد مناقضات في الحديث فورد في الكافي أن علياً بن إبراهيم سأل علياً بن أبي طالب عن تناقض بعض الأحاديث ومخالفة بعضها للقرآن وطريقة تمييز الصحيح منها عن غيره فذكر له بعض شروط لتمييز ذلك فقال له فإن وافق الخبران جميعاً قال ينظر إلى ما ليس إليه حكامهم وقضاتهم أميل فيترك ويؤخذ بالآخر. قال فإن مال حكامهم إلى الخبرين جميعاً قال إن كان فارجه حتى تلقى أمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

فينتج من كل ذلك أن دعوة محمد النبوة لم تؤيدها معجزة كما بينه القرآن أما المعجزات في الحديث فغير معقولة البتة ومتناقضة تماماً وبعضها مناقض للقرآن وليس لها أدلة تثبت حدوثها.


١. يقول في مشكاة المصابيح في هامشها سبب الوقوع اشتباه الدرج لضوء القمر

٢. وجدناها حرفيا في السيرة النبوية فنقلناها منه

Pages