November 2014

محاضرة ١٤

حرية وليس فجوراً

(غل ٥:‏ ١٦-‏ ٢٦)

"وَإِنَّمَا أَقُولُ:‏ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ. وَلَكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ:‏ الَّتِي هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً:‏ إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ:‏ مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ. وَلَكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضاً بِحَسَبِ الرُّوحِ. لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضاً".

الجزء الحالي من هذه الرسالة يضع أمامنا حقيقة، بطريقة مميزة جداً، ألا وهي الطبيعتان في المؤمن. من المهم أن نتذكر أنه عندما يخلصنا الله فإنه لا يهلك الطبيعة الجسدانية التي تلقيناها في ولادتنا الطبيعية. إن الولادة الجديدة لا تقتضي ضمناً إزالة الطبيعة القديمة الجسدانية، أو إحداث تغيير فيها، بل منح طبيعة جديدة بشكل مطلق تولد بروح قدس الله، وهاتان الطبيعتان تبقيان جنباً إلى جنب في المؤمن بالرب يسوع المسيح. هذا يفسر الصراع الذي عرفه كثيرون منّا منذ أن اهتدينا. في الواقع، ليس من داع لأن أقول، "كثيرون منّا"، لأن كل المهتدين يختبرون في وقت أو آخر شيئاً من ذلك الصراع بين الجسد والروح. قال يسوع:‏ "المولود من الجسد هو جسد"-‏ أي، الطبيعة القديمة-‏ "والمولود من الروح هو روح"-‏ أي الطبيعة الجديدة، وهاتان الطبيعتان تقيمان جنباً إلى جنب إلى أن نتلقى افتداء الجسد الذي سيكون في المجيء الثاني لربنا يسوع المسيح، عندما سيحول جسد إذلالنا هذا ويجعله على شبه جسد مجده. وعندها سنتحرر إلى الأبد من كل النزعة الداخلية إلى الخطيئة. والآن وحتى ذلك الوقت علينا أن نتعلم، وأحياناً بخبرات مؤلمة جداً، أن الطبيعة الجسدانية، تلك الطبيعة القديمة، "لَيْسَت خَاضِعةً لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهاُ أَيْضاً لاَ تَسْتَطِيعُ" (رو ٨:‏ ٧).

إن الطبيعة القديمة فاسدة جداً، وضيعة جداً، لدرجة أنها لا تستطيع أبداً أن تتقدس، والطبيعة الجديدة نقية جداً ومقدسة جداً، حتى أنها لا تحتاج لأن تتقدس. لذلك ليس من ذكر في الكتاب المقدس لتقديس الطبيعة القديمة. ما الذي يحتاج إذاً لأن يتقدس؟ إنه الإنسان نفسه. وهو يتقدس إذ يسلك وفق إملاءات الطبيعة الجديدة. إن روح قدس الله يقوده، لأن المؤمن لا يولد بالروح وحسب بل يسكن فيه الروح القدس.

يجب ألا نخلط بين الولادة الجديدة بالروح واقتبال الروح. الولادة الجديدة هي عمل روح الله. فهو الذي يُحدث الولادة الجديدة بالكلمة. ونحن نقتبل الكلمة بالإيمان. ونؤمن بالكلمة، وروح قدس الله من خلال الكلمة يأتينا بالولادة الجديدة. يقول الرسول يعقوب:‏ "شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ" (يعقوب ١:‏ ١٨). ويقول الرسول بطرس:‏ "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ ..... وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا" (١ بطرس ١:‏ ٢٣، ٢٥). وعندما أومن بتلك الكلمة أولد ثانية؛ وذلك تغيير داخلي. إنه منح حياة جديدة؛ إنها حياة أبدية. ولكن هناك شيء أكثر من ذلك. لقد كان صحيحاً وحقيقاً دائماً في كل التدابير من آدم إلى يوم العنصرة، أنه أينما كان الناس يؤمنون بكلمة الله فإنهم كانوا يولدون ثانية، ولكن الروح القدس نفسه كأقنوم إلهي ما كان يأتي عندها ليسكن فيهم. والآن ومنذ العنصرة، وعند الإيمان، فإننا نُختم بروح قدس الله. فهو يخلق الطبيعة الجديدة، ثم يأتي ليسكن في المرء الذي يولد ثانية، وإذ يتعلم المؤمن أن يدرك حقيقة أن روح قدس الله يسكن فيه، وإذ يضع كل شيء تحت سيطرته، فإنه يجد الانعتاق من قوة الخطيئة الطبيعية الفطرية.

لاحظوا كيف يورد الرسول بولس القول هنا:‏ "وَإِنَّمَا أَقُولُ:‏ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ (أو رغبة) الْجَسَدِ". إنه لأمر في غاية السهولة أن نشبع رغبة الجسد. علينا ألا نربط كلمة "شهوة" دائماً في ذهننا بمعنى رديء أو نجس. فالكلمة بحد ذاتها تعني "رغبة" بكل بساطة، وأياً كانت رغبة الجسد فإنها دائماً بغيضة في نظر الله. ها هنا امرئ يرغب بكل أنواع الإنغماس في الشهوات والأهواء الجسدانية، وليس من الصعب علينا أن ندرك خسة ذلك. ولكن هنا لدينا آخر يرغب بالشهرة العالمية والمديح والتملق من رفاقه وأصحابه، وتلك أيضاً شهوة الجسد أو الفكر، وهذه يبغضها الله كما الآخر. إن كل نوع من الشهوات الجسدانية هو رغبة، وإذا أردنا أن نتحرر من السير بحسب هذه الرغبات الجسدية فما علينا سوى أن نسلك في الروح القدس.

أن يسكن الروح القدس فينا شيءٌ، وأن نسلك في الروح شيءٌ آخر تماماً. أن نسلك في الروح أي أن الروح القدس يسيرنا ويمكننا أن نسلك في الروح فقط عندما تكون حياتنا مستسلمة حقاً للمسيح. قد يقول أحدهم:‏ "حسناً إذاً. إنني أفهم ما تقصده في أن كل المؤمنين لديهم الروح القدس، وأن كثيرين منا لم يتلقوا البركة الثانية، وليسوا ممتلئين من الروح". لست أجد التعبير "البركة الثانية". في الكتاب المقدس، رغم أني أقر بأنه توجد في حياة العديد من المسيحيين خبرة تجيب على ما يدعوه الناس "البركة الثانية". فقد عاش كثير من المسيحيين لسنوات في مستوى متدنٍ، وإلى حد ما جسداني، ودنيوي. إنهم يحبون الرب، ويحبون كلمته، ويحبون أن يحضروا الطقوس في بيته، ويستمتعون بصحبة المسيحيين، ويسعون لأن يسلكوا مستقيمين رجالاً ونساءً خلال هذا العالم، ولكنهم لم يسلموا أنفسهم حقاً أبداً ولا قدراتهم كلياً للرب. هناك شيء يبقون عليه، بعض الخلاف مع الله، وطالما استمر هذا فسيكون هناك دائماً صراع وهزيمة، ولكن عندما يأتي المرء إلى حيث ينتبه إلى الكلمة، "أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا (أي تسلموا) أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ" (رومية ١٢:‏ ١). عندما يقوم المرء بذلك التسليم فيكون هناك في الحياة ما هو رد على نوع من البركة الثانية؛ أي أن روح قدس الله يكون الآن حراً لكي يمتلك زمام أمور ذلك المؤمن، ويعمل من خلاله ويستخدمه لمجد الله بطريقة ما كان ليقوم بها ما لم يكن ذلك الرجل أو المرأة مستسلماً كلياً للرب.

إننا نتحدث كثيراً عن "التسليم الكامل"، ومع ذلك، كما أخشى، بعض منا يستخدم التعبير بلا مبالاة كبيرة. لا يفيد الحديث عن أن نكون مستسلمين بالكامل لله إن كنت لا أزال أسعى وراء اهتماماتي الذاتية. إن كنت متمحوراً على ذاتي. إن كنت متألماً لأن الناس لا يمتدحونني، أو كنت أشعر بالسمو والإطراء لأنهم يفعلون ذلك، فعندها لا يكون روح الله قد وجد طريقه إلي. إن لم يكن المسيح نفسه هو هدف روحي الوحيد، إن كنت لا أستطيع أن أقول:‏ "بالنسبة لي الحياة هي المسيح". إن كان اهتمامي الكبير ليس في أن يتعظم المسيح فيّ سواء بحياتي أو بمماتي، فعندها لا أكون مستسلماً كليةً له. إن كنت لا أستطيع أن أقول من قلبي:‏ "لا تكن مشيئتي بل مشيئتك"، فلا ينفع هنا الحديث عن التسليم الكامل للمسيح. المؤمن المستسلم (للمسيح) لا يعود يسعى إلى ما يخصه بل إلى الأشياء التي تخص المسيح يسوع. وذاك هو الإنسان الذي "يسلك في الروح". "اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ".

يتبدى الصراع في الآية ١٧:‏ "لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي (أو يرغب) ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ (أي بخلاف) الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ". لا يقول بالضبط:‏ "لكي لا تستطيعوا أن تفعلوا الأشياء التي تفعلونها، لأن الله قد جعل تدبيراً احتياطياً في أننا قد نفعل الأشياء التي نريد، ولكن يجب ترجمة النص كما يلي:‏ "لئلا تفعلوا الأشياء التي تفعلونها". ها هنا صراع في قلب المؤمن. فالجسد يرغب في شيء والروح ترغب في شيء آخر، وطالما أنه لا يكون هناك استسلام كامل لمشيئة الله فإن هاتين الرغبتين هما في صراع دائم، ولذلك فإن المؤمن قد لا يفعل الأشياء التي يريد. أستيقظ في الصباح وأقول:‏ "اليوم لن أسمح للساني بأن يقول أي شيء غير لطيف أو كلمة لا تتلاءم والمسيح". ولكن تحدث ظروف غير متوقعة، وحتى قبل أن أدرك أجد أني قد قلت شيئاً كنت لأقضم لساني عليه. فالأمر الذي لم أقصد أن أفعله قد فعلت. ومن جهة أخرى، فإن الأشياء التي كنت أقصد أن أفعلها لم أفعلها. ما الذي أفهمه من ذلك؟ هناك صراع. إن روح الله لا تسيّر قلبي وحياتي بشكل كامل، وبسبب هذا الصراع قد لا أفعل الأشياء التي أرغب لها. فأنا معوق، وحياتي ليست حياة استسلام كامل كما كان الله يريدها أن تكون. كم هو كثير على أولئك الذين يختبرون هكذا أمور. يا للمرارة الناجمة عن  الحياة المنهزمة والحياة الخائبة، حتى لأناس ليسوا مسيحيين حقيقيين، الذين يعرفون بركة وغبطة أن تكون مخلصاً بدم الرب يسوع المسيح الثمين والذين يتوقون أن يمجدوا الله، ومع ذلك فهم مهزومون على الدوام. لماذا؟ لأن روح الله ليس لها المكان الأسمى في حياتهم.

"وَلَكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ". علينا أن لا نفكر في أن طريقة الانعتاق أو الاستسلام لله هي في حفظ الناموس. لعلي أقول:‏ "من الآن فصاعداً سأتعمد أن أكون أكثر انتباهاً وحرصاً، وسأطيع ناموس الله في كل شيء. وهذا بالتأكيد سيؤدي إلى قداستي عملياً". ولكن، لا. أجدني خائباً مخيباً من جديد. سأجد أن إرادة صنع الخير موجودة في داخلي، ولكن أن أنجز ذلك أمرٌ آخر، وهكذا على أن أتعلم أن تقديسي لا يعود بالناموس بل بالتبرير. ثم ماذا؟ إنه يخبرنا قائلاً:‏ "إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ". إن استسلمتم لروح الله، وإن كانت له السيادة على حياتكم، وإن انقدتم به، فعندئذ بر الناموس يتحقق فينا نحن الذين نسلك ليس بحسب الجسد بل بحسب الروح. ولئلا نسيء الفهم، فإنه يضع نصب أعيننا شهوات الجسد، لكي نستطيع أن نخرج هذه الأشياء إلى النور، لكيما نراها على قباحتها وبشاعتها، بحيث أنه إذا كان لأي منها مكان في قلوبنا وحياتنا ندينه في حضرة الله. غالباً ما نصادف أناساً اليوم يقولون أنهم لا يؤمنون بفساد الحياة البشرية، ولكن هذه هي الأشياء التي تأتي من الإنسان الطبيعي، وحتى المؤمن إن لم يكن حريصاً منتبهاً، إن لم يسلك مع الله منقاداً بالروح، فإنه قد يسقط في إحداها.

"وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ (أي واضحة):‏ الَّتِي هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ". ربما يقول بعضكم أو يفكر أن:‏ "أود لو لم يستخدم هذه الكلمات؛ فأنا لا أحبها؛ إنها كلمات مقرفة بغيضة". يا أصدقائي الأعزاء، دعوني أذكّركم، ليست المسألة مسألة كلمات؛ إن الخطايا التي تعبر عنها هذه الكلمات هي المقرفة والمغثة للغاية. كثير من الناس الذين لا يحبون هذه الكلمات يعيشون في الخطايا، والله يُخرج كل الأشياء إلى النور ويسمي الخطيئة باسمها. هناك أناس يعيشون في خطيئة الزنى. والذين لا يحبون أن يسمعوا تسمية شرهم باسمه. لنأخذ كلمات الرب يسوع "إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي" (متى ٥:‏ ٣٢). هناك أولئك الذين يرتكبون الزنى بحسب ذلك المقطع وآخرون يفكرون به. إن سمحت لنفسك بعلاقة عشق غير مقدسة، سامحاً لنفسك بحرية جنسية غير مقدسة مع من ليس لك حق بأن تدخل معها بعلاقة زواج فإنك تكون مذنباً في عيني الله بالخطيئة المذكورة هنا. "عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ"، أي الأفكار الفاسدة الفاحشة المنغمسين فيها. لا يمكنك أن تمنع الأفكار المنحطة الفاسدة من أن تراود فكرك، ولكن يمكنك أن تتجنب الانغماس فيها. الدَعَارَة هي الانغماس في الأفكار النجسة والوضيعة والآثمة. يأتي إلي الناس أحياناً وهم في حالة كرب شديد ويقولون:‏ "إن أفكار الشر تراودني، حتى عندما أصلي، وأتساءل أحياناً إذا ما كنت قد اهتديت حقاً أم لا". ذاك هو الجسد يدل على نفسه. هذه الأشياء قد تخطر في ذهنك، ولكن هل تنغمس فيها؟ قال رجل ويلزي:‏ "لا أستطيع أن أمنع عصفوراً من أن يحط فوق رأسي، ولكني أستطيع أن أمنعه من أن يبني عشه في شعري". وهكذا فإنك قد لا تكون قادراً على أن تتحاشى الأفكار الشريرة عندما تندفع إلى ذهنك، ولكن يمكنك أن تتجنب الانغماس في تلك الأفكار.

"عِبَادَةُ الأَوْثَانِ"، أي أن تضع أي شيء في منزلة أو مكان الله الحقيقي الحي. "السِحْر". لعلك تقول:‏ "آه، السحر. ولكنه طراز عتيق. فقد اعتادوا أن يحرقوا السحرة". ولكن ما هو السحر أو العرافة؟ إنها كلمة تدل على "التعامل مع الأموات"، وأعتقد أن شيكاغو فيها عدد كبير من السحرة. فغالباً ما أرى، عند اجتيازي للطريق، لافتات تقول:‏ "وسيط روحاني"، أو شيء من هذا القبيل، إذ يدّعي أناسٌ القدرة على التواصل مع الأموات. تلك إنما هي سحرٌ أو عرافةٌ، وهي أمرٌ بغيضٌ عند الله. "عَدَاوَةٌ":‏ تلك خطيئة علينا جميعاً أن نحذر الوقوع فيها. يقول الكتاب:‏ "كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ" (١ يو ٣:‏ ١٥). إن العداوة أو الكراهية تأتي من الطبيعة القديمة. "خِصَامٌ"-‏ أي حب النزاع والخصام. هناك كثيرون منا ينكمشون من تلك الخطايا الأولى، ولكن ليس من السهل أن نتدبر أمرنا معها، فنحن شديدوا الحساسية على نحو مفزع، وهذا دليل واضح على الطبيعة القديمة، مثل "أعمال الجسد" الأخرى تلك. "الغيرة"، هي رغبة مضطردة تجعلنا نستبعد البعض لكي ننال إعجاب آخرين. ها هنا كارز لديه موهبة ضئيلة، وهو مستاء لأن كارزاً آخر لديه تقدير أكبر لدى الناس. ها هنا امرئ يغنّي قليلاً. وآخر يغنّي أيضاً ويثير إعجاباً أكبر، وهناك مشكلة بخصوص ذلك. ها هنا معلمة في مدارس الأحد، وبعض معلمين آخرين يبدون مفضلين عليها، وهي في حالة سخط وعلى استعداد تقريباً لأن تترك عملها. إذا تتبعنا هذه الأشياء إلى مصادرها فنجد أنها تأتي من الجسد، ولذلك فيجب إدانتها أمام الله. ثم يأتي "السخط" وهو الغضب، هناك غضب مقدس ولكن السخط الذي نسمح به أنت وأنا عادةً غير مقدس. الغضب المقدس الوحيد هو غضب من الخطيئة. "اغضبوا ولا تخطأوا" (أفسس ٤:‏ ٢٦). كان البيوريتاني القديم يقول:‏ "إني مزمع على أن أغضب لا أن أخطئ، وهكذا أغضب على الخطيئة فقط". ومن ثم لدينا "التحزب"، الذي ينشأ عن "الشقاق". إن الكلمتين مترابطتان على نحو وثيق. إن كل هذه الأشياء هي خاطئة. "البدعة"، هي مدرسة فكرية تجعلنا ضد حقيقة الله "الجسد"، كما يقول الكتاب:‏ "كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ" (عب ١٣:‏ ٥). لدى أحدهم منزل أفضل من منزلي، ولدى أحدهم سيارة افضل من سيارتي، وأنا أحسده. يقول العرب:‏ "شعرت مرة بالاستياء ورحت أتذمر لأنه ليس لدي حذاء إلى أن التقيت برجل ليس له أقدام". ما من أحد فينا إلا ولديه أكثر مما يستحق. فلماذا سنحسد الآخرين؟ لنفترض أن بعض الناس لديهم قصر فخم وليس لدي سوى كوخ.

"خيمة أو كوخ، ما يهمني؟
فهم يبنون قصراً لي فوق هناك"

"كن مكتفياً"، يقول روح الله، "بالأشياء التي لديك". عندما تصل إلى تلك الحالة، "حالة الاكتفاء"، فستصبح الحياة أكثر سعادة بكثير.

"قتلٌ". ماذا لو وضعنا القتل إلى جانب خطايا الغيرة والحسد؟ إن الكثيرين من جرائم القتل قد نتجت عن هذه الخطايا نفسها. وكما تعرفون فإن القتل ليس مجرد أن تطعن رجلاً بسكين أو أن تنسف دماغه بمسدس. يمكنك أن تقتل إنساناً عن طريق عدم اللطف أو الفظاظة. أعرف كثيراً من الناس الذين ماتوا بقلب محطم بسبب فظاظة أولئك الذين كانوا يتوقعون منهم أمراً مختلفاً. إن الله يعطينا أن نظهر الكثير من محبة المسيح، لكي نصبح بركة للناس بدلاً من أن نكون لعنة لهم. ثم لدينا "السُّكر". بالطبع ليس من حاجة لأن أتحدث عن هذا الأمر للمسيحيين. هذه أيضاً من أعمال الجسد. ثم لدينا "البطر". والعالم يسميه "قضاء وقت ممتع" بطريقة جسدانية. "وَأَمْثَالُ هَذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً:‏ إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ".هنا يستخدم صيغة تدل على الزمن الحاضر المستمر (المضارع):‏ "إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ، أو الذين تتميز حياتهم بمثل هذه الأشياء، لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ". إن اتصف الناس بهذه الأمور فإنهم يثبتون أنهم ليسوا مسيحيين على الإطلاق. المسيحيون الحقيقيون قد يقعون فيها، ولكنهم يبقون بؤساء وتعساء فيها ويستمرون فيها إن لم يدينوها. هذه الأشياء تأتي من الجسد.

والآن لدينا العكس-‏ ثمر الروح:‏ "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ:‏ مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ ٢٣وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ". نلاحظ أن الكلمة المستخدمة هنا هي "ثمرة"، إذ لا نقرأ في الكتاب المقدس عن "ثمار" الروح، بل عن "ثمرة". هذه الثمرة ذات الجوانب التسعة من الطبيعة الجديدة هي ثمرة يحركها روح قدس الله. "المحبة"، وهي جوهر الطبيعة الإلهية. "الفرح"، يقول الكتاب المقدس "فَرَحُ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ" (نحميا ٨:‏ ١٠). "السلام"، وذاك أكثر من سعادة، إنه سرور عميق ولا يتكدر ولا ينزعج مهما تعرض للتجارب على الأرض. "طول الأناة"، وهذا يقودك لان تحتمل بدون تذمر، "اللطف"، بعضٌ منا فظ وقاس جداً، ولكن المسيحي يجب أن يصقل ذاته فيصبح كالمسيح وديعاً ولطيفاً. "الإيمان"، بمعنى الشعور بثقة الإيمان بالله. "الوداعة"، إننا لسنا ودعاء بالطبيعة. فالإنسان الطبيعي يجعل نفسه دائماً في المقدمة، أما الإنسان الروحي فيقول:‏ "لا بأس علي، لأميزن الآخرين. إني على استعداد لأن أبقى في الخلف". أينما وجدت هذه الروح المصرة على المضي إلى الواجهة نعرف أن المرء لا يزال يسلك في الجسد. وعندما تجد رغبة بأن تعطي تقديراً ورعاً لآخرين ستجد أن المرء يسلك في الروح. ثم لدينا "التعفف"، وهوضبط النفس تماماً، فالجسد كله يكون متمالكاً لنفسه وفي حالة خضوع لروح الله. "ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ". إنك لستَ في حاجة إلى ناموس لتضبط الإنسان الذي يسلك هكذا في الروح.

"وَلَكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ". إنها لا تقول "أولئك الذين هم للمسيح ينبغي أن يصلبوا الجسد". لقد فعلوا ذلك عندما وضعوا إيمانهم في الرب يسوع المسيح. لقد آمنوا بالذي صُلب من أجلهم عوضاً عنهم. ولذلك يمكن القول:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غل ٢:‏ ٢٠). إنه أمر محسوم. إن صلبت الجسد، إن أدركت أن حقيقة صلب المسيح هي من أجلك، إذاً فلا تعِشْ في تلك الحالة التي مُتَّ لأجلها. "إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضاً بِحَسَبِ الرُّوحِ". إن كانت لدينا هذه الحياة الجديدة. إن كنا مرتبطين الآن بمسيحنا القائم. فلندعه الآن يضبط طرقنا، لنستسلم له، ولنسلك في الروح، ولا نكن راغبين في الشهرة أو المجد، ودعونا ألا نسعى وراء ما يمكن أن يقودنا إلى التفاخر الكاذب، مبغضين أحدنا الآخر، قائلين وفاعلين أشياء تؤلم الآخرين بدون داع، أو نحسد بعضنا البعض.

قد يقول بعض منكم:‏ "هذا معيار رفيع للغاية، وأخشى أني لا أستطيع أبداً أن أبلغه". لا، ولا أنا، لا أستطيع أبداً أن أحرزه بقوتي الذاتية، ولكن إن كنا أنا وأنت مستسلمين لروح قدس الله، وإن سمحنا له أن يصنع هذه الأشياء واقعياً في حياتنا، فعندها سنحقق المعيار المثالي الموضوع أمامنا ها هنا، ولكن لن نكون نحن أنفسنا، بل المسيح سيحيا فينا مظهراً حياته، حياته المقدسة، في ومن خلال أعضاء جسدنا. ليُعطنا الله أن نعرف حقيقة وواقعية هذا الأمر.

محاضرة ١٥

النعمةُ العاملةُ

(غل ٦:‏ ١-‏ ١٠)

"أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضاً. اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهَكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئاً، فَإِنَّهُ يَغِشُّ نَفْسَهُ. وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ، لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ. وَلَكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ. لاَ تَضِلُّوا! اللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً. فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ. فَإِذاً حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ".

سنتأمل الآن عدداً من النصائح والتحذيرات الخاصة التي لها علاقة بتجلي النعمة، وبموقفنا نحو إخوتنا عموماً والعالم الخارجي، إذ حيث النعمة فاعلة في النفس سيكون هناك دائماً اعتبار لطيف حسنٌ للآخرين. حيث تسود روح الميل إلى النقد القاسي، أو حيث الحقد والمكر يملأ القلب. يمكن للمرء أن يتأكد، في ذلك الوقت على الاقل، أن من تتجلى عنده هذه النزعات والميول يكون قد فقد حسَّه بالمديونية لنعمة الله.

في المثال الأول، لدينا حالة أخٍ قد أخفق رغم أن ذلك لم يكن عن عمد. يقول روح الله:‏ "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا". لم يبدأ بنيّة الخطيئة. لم يكن يحاول أو يسعى لأن يخمد صوت ضميره، ولكن إغواءً مفاجئاً ثبت أنه كان كثيراً بالنسبة له، كما هنا مثلاً، في حالة الرسول بطرس، الذي كان حقاً يحب الرب، ولكن عندما وُضع أمام تحدٍّ لأن يكون أحد تلاميذه كان ممتلئاً بالخوف جداً حتى أنه أنكر ذاك الذي كان قد قال أنه لن يتركه أبداً . من المهم أن نميز بين الخطيئة المتعمدة المقصودة، عندما يخمد المرء صوت ضميره ويباشر في نهج محدد من الشر، والإخفاق المفاجئ وغير المتوقع بسبب إغراء قاهر يُفقده احتراسه. كم من أناس وقعوا تحت هكذا ظروف. لعلها قوة الشهوة أو الشغف الجسدي. قد تكون مسألة مزاج نزق أو كبرياء وخُيلاء شديدة. إن المرء يمضي وهو غير مدرك للخطر. فيجد نفسه في ظروف غير مستعد لها. وقبل أن يدرك ما يحدث، يجد أنه قد أخطأ ضد الشخص الذي أحبه أكثر من الجميع. من السهل على الآخرين الذين لا يفهمون دوافع الفعل الخفية أن ينتقدوا هكذا شخص بشدة، خاصة إن كانت هكذا غلطة تتصف بالتشكيك نحو الشهادة للرب. إن أسهل طريقة في مثل هكذا حالة هي الإصرار على الاستئصال الفوري وقطع العلاقة مع الآثم (مرتكب الخطأ) وحرمانه من كل امتيازات الكنيسة. ولكن نجد هنا طريقة أفضل تتكشف لنا إذ يكتب بولس "أَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضاً". ليس من دليل على الروحانية أن نفسح المجال للإدانة القاسية، بل أن نبدي حنواً نحو الذي يخفق وأن نسعى لأن نعيده إلى الصحبة والعلاقة مع الله، فقط بروح الوداعة يمكن القيام بذلك. إن الروح الناقدة القاسية سوف تدفع المخفق المرتكب إلى الخطيئة وتجعل الأمر أكثر صعوبة لاسترداده في النهاية. أما الكلمة الحانية المحبة المصحوبة بجهود مباركة لاستعادته، فهي غالباً ما تؤدي  إلى نتيجة طيبة في إنقاذه من المزيد من الانحدار.

إن كنا نذكر ما نحن وكم من السهل أن نسقط نحن أيضاً، فإننا لن نتجاوز الحدود في تعاملنا مع الآخرين. هذا لا يعني أننا مدعوون لأن نتغاضى عن الخطيئة. فهذه يجب معالجتها بصدق وإخلاص، إذ يخبرنا الناموس أن "عليك أن تُوبِّخ قريبك بحكمة ولا تتركه يُخطأ". ولكن علينا أن نحدد طريقة الانعتاق. ودون أن ننسى حاجتنا أنفسنا لمعونة إلهية مضطردة لكي نُحفظ من الخطيئة، علينا أن نعرف بشكل أفضل كيف نتعامل مع أولئك الذين يُضِّلون سواء السبيل في ساعة الإغواء.

ثم نجد كلمة قيّمة تتعلق بالإهتمام المشترك بأولئك الذين يعتبرون مؤمنين:‏ "اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهَكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ". إن ناموس المسيح هو ناموس المحبة، والمحبة تتطلب أن نساعد الآخرين في محنتهم وأن نشاركهم الأحمال والأثقال، إن ظنّ أحدٌ أنه أسمى من هكذا خدمةٍ وأن هذا لا يتناسب مع كرامته، فإنه إنما يُظهرُ ضآلته ذاته، "لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئاً، فَإِنَّهُ يَغِشُّ نَفْسَهُ".

على كل امرئٍ أن يميز مسؤوليته الفردية أمام الله، ولذلك عليه أن يكون منتبهاً لأن يكون عمله متوافقاً مع فكر الله المعلن، كما تشير إليه كلمته. وإن سار هكذا بإطاعة، سيعرف أن الفرح يأتي من العلاقة الطيبة مع الله وسوف لن يعتمد على الآخرين من أجل سعادته. إنه مبدأ مميز واضح في الكتاب المقدس أن على كل إنسان أن يتحمل مسؤوليته الشخصية. وهذا هو معنى الآية ٥، حيث توحي الكلمة "أثقال" بأمر مختلف تماماً عن استخدامها في الآية ٢.

تضع الآية ٦ أساساً لمبدأ واسع التطيبق:‏ "لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ". فإن استخدم الله أحداً ليعلّمني ويساعدني في طريق الحياة، فإن علي أن أكون مسروراً لأن أفعل ما أستطيع لأكون ذا نفع وعون له. لا يكفي الكارزين المكرسين لعمل الرب أن تؤازرهم المواهب الثمينة عند أولئك الذين يخدمونهم، رغم أن ذلك متضمن فيه، بل إنه عطاء وأخذ مستمرين في كل مسالك الحياة. إن من يسعى مكتفياً بأن يستفيد من الآخرين وهو ليس مهتماً بمشاركتهم، ستكون له حياة تشبه البحر الميت. يقال أنه ما من شيء يمكن أن يعيش في تلك المياه لأنه ليس فيها منفذ. ورغم أن ملايين الأطنان من المياه العذبة تصب فيه كل أسبوع، فإن التبخر والرواسب غير العضوية تجعله مراً ولاذعاً حتى تستحيل الحياة فيه. إن من يهتم بإعطاء الآخرين أكثر من أن يأخذ منهم ، سيكون مثل المياه العذبة على الدوام ومسروراً في خبرته، وسوف يتمتع على أكمل وجه بالأشياء الجيدة التي تُقدم له.

إنها لحقيقة لافتة في هذا السياق، تلك التي يمكن أن ندعوها مبدأ العطاء والأخذ، وهي أن الروح القدس يُلفت انتباهنا بوقار أكثر إلى الناموس الشقيق في "الزرع والحصاد". فالجهد أو المال الذي تبذله لا يضيع سدىً في المستقبل. من يتصرف من أجل اللحظة الحاضرة فقط هو كمثل من يكون غير مبالٍ بالحصاد القادم، وبالتالي فهو إما يفكر أن يدّخر من خلال زرع ضئيل، أو أن يبذر بذوراً بغيضة على نحو متهور في حقله، فيزرع الشوفان، كما يقول الناس، ومع ذلك فهو يرغب بأن يحصد نوعاً مختلفاً جداً من الحصاد. إننا نحصد كما نزرع. هذا مؤكد مرةً تلو الأخرى في الكتاب المقدس. فها هنا نجد القول:‏ "لاَ تَضِلُّوا! اللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً". وفي مكان آخر نجد ربنا قد وضع نفس المبدأ. فيسأل:‏ "هَلْ يَجْتَنُونَ (أي الناس) مِنَ الشَّوْكِ عِنَباً أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ هَكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً" (متى ٧:‏ ١٦، ١٧). لقد زرع إسرائيلُ الريحَ، كما قال النبي، وتنبأ بأنهم سيحصدون الزوبعة (هوشع ٨:‏ ٧). الناس الذين يزرعون الشر يحصدون المثل أيضاً، كما أكد أليفاز (أيوب ٤:‏ ٨). في هذا دليل بحد ذاته لا يحتاج إلى تأكيد أو برهان ومع ذلك فكم ننساه بسهولة، وكم نأمل وباستعداد كبير أن يحدث، بتحول غريب وغير طبيعي، أن تتغير حماقتنا الخاطئة فتصبح تحت السيطرة لتعطي ثماراً سلميةً من البر. ولكن سواء أكانت في حالة المنغمس في شؤون الدنيا غير المخلص، أو المسيحي الذي أخفق، فإن الناموس المتصلب سوف يتحقق-‏ إننا نحصد ما نزرع. كم من المهم إذاً أن نسلك بحذر أمام الله، في ألا نسمح لأنفسنا بأي فرصة غير لائقة عند المرء الذي يُقر ويعترف بربوبية المسيح. "لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً" (الآية ٨). ليس الأمر أننا "نكسب" حياةً أبديةً بسلوكنا؛ إننا نتلقاها كهبة عندما نؤمن بالرب يسوع المسيح (يوحنا ٣:‏ ٣٦). ولكن لدينا الآن حياة أبدية في الأجساد المائتة، وفي مشهد من التناقض، حيث كل شيء حولنا مضاد لتلك الطبيعة الجديدة والتي غرسها الله والتي تُعطى لنا في التجدد. قريباً، ولدى عودة ربنا، سندخل إلى الحياة بكل ملئها، وعندها، وعند عرش الدينونة أمام المسيح سنحصد بحسب ما زرعنا. فالذين يؤمنون بالله الآن سينالون مكافأة ثمينة في ذلك اليوم. والذين يستسلمون الآن إلى نزوات الجسد والمنشغلين بالأمور التي لا تمجد الله سيعانون الخسران.

كم يأتي هذا التحذير في حينه إذاً:‏ "فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ"، المترافق مع الوعد الأكيد "لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ" (الآية ٩). إننا ميالون جداً، بعد أن بدأنا في الروح، لأن نسعى لأن ننتهي بالجسد، كما في حالة هؤلاء الغلاطيين. ولكن فقط ذاك الذي من الروح سوف يُكافأ في يوم التجلي. فما كان من الجسد-‏ ولو كان متديناً ظاهرياً-‏ سيثمر فساداً ويجني خيبة في النهاية.

وكي يختم هذا الجزء من الرسالة يعود الرسول بولس إلى المبدأ العام في الآية ٦، ويسحبه الآن ليشمل كل الناس في كل مكان. الإنسان الروحي هو الذي يرى الأشياء من وجهة نظر الله، ولذلك لا يستطيع أن يكون متعصباً منعزلاً، متمحوراً على ذاته، أو غير مهتم بالنفوس المعوزة المحتاجة إليه والمحيطة به. "فَإِذاً حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ" (الآية ١٠). ولذلك فعلينا أن نحاكيه ذاك الذي بذل حياته في فعل الخير للناكرين ولغير الأتقياء، كما للقطيع الصغير الذين كانوا يرتقبون عزاء إسرائيل. وإذ نسعى بقوة الروح القدس الساكنة فينا، لكي نحافظ على نفس الموقف نحو إخوتنا البشر، خطاة كانوا أم قديسين، فإننا نحقق بر ذلك الناموس الذي يقول، "أحبب قريبك كنفسك". لسنا في حاجة لأن نضع أنفسنا تحت الناموس لنفعل ذلك. نحن في حاجة فقط لأن نميز علاقتنا بالمسيح الممجد الذي هو رئيس تلك الخليقة الجديدة التي ننتمي إليها بالنعمة.

هل نترقب أبداً هكذا فرصة لنظهر صلاح وجودة الله لأولئك الذين نحتك بهم، وهكذا نمجد الرب، الذي نحن فيه والذي نخدمه؟ أما وقد تعاملنا مع أنفسنا على نحو عجيب، فكيف لنا إلا أن نسعى لنضرب مثلاً خلال تعاملنا مع الآخرين في الرحمة واللطف المحب الذي أظهره الله لنا؟

هذا بالفعل هو معنى أن نعيش على مستوى أعلى من الناموس. إنها حرية النعمة، التي يعطيها الروح القدس لكل الذين يدركون ويؤمنون بربوبية المسيح.

محاضرة ١٦

الافتخارُ بالصليبِ

(غل ٦:‏ ١١-‏١٨)

"اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي! جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَراً حَسَناً فِي الْجَسَدِ، هَؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا، لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ الْمَسِيحِ فَقَطْ. لأَنَّ الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لاَ يَحْفَظُونَ النَّامُوسَ، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ. وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ. لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ. فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللهِ. فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَاباً، لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ. نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. آمِينَ".

هناك شيء في الآية ١١ أعتقد أنه يضعنا في قلب بولس الرسول. لقد كان على مبعدة قليلاً عن غلاطية عندما جاءه النبأ عن معلمين متهودين قد اندسوا وسط الجماعات (المسيحية)، وكانوا يعلّمون المؤمنين أنه ما لم يختتنوا ويحفظوا الناموس لا يمكنهم أن يخلصوا. لقد رأى أن هذا كان يعني التنازل والتخلي عن حقيقة النعمة كلياً. إنّ المؤمن لا يطيع لكي يخلص، بل لأنه خلص. إنه يُسَرُّ بأن يمجّدَ ذاك الذي افتداه، وإطاعته تنبع من قلب ممتلئ بالامتنان نحو ذاك الذي بذل حياته لأجله. إنه لا يحاول أن يجعل نفسه، أو أن يحفظ نفسه، أهلاً للسماء. لقد كان الرسول منزعجاً جداً مما سمعه لدرجة أنه جلس فوراً وخطَّ هذه الرسالةَ بنفسه. إنها تحتدم بالحرارة المتقدة الناجمة عن غيرته المتوهجة لإنجيل الله. كما قلنا تواً، إنه لم يكن من المعتاد للناس أن يكتبوا رسائلهم بأنفسهم في تلك الأيام. فكتابة الرسائل كانت مهنة منفصلة متميزة، كما لا يزال الحال عليه في بعض مدن الشرق اليوم. وإن كان لإنسانٍ أن يرسل العديد من الرسائل، فإنه كان يستخدم أحد محترفي كتابة الرسائل، وإن كانت لديه مراسلات كثيرة كان ليستخدم مختزلاً. فما كان ليقوم بكل المراسلات بنفسه. وكان الرسول (بولس) في العادة يملي رسائله على أشخاص مختلفين. وكانوا يكتبوها لأجله، ثم كان يوقّع عليه ويرسلها إلى المعنيين بها. ولكن في هذه الحالة هنا، من الواضح أنه لم يكن متوافراً لديه ناسخ أو مختزل بالقرب منه، وكان مهتاجاً جداً في داخله، لدرجة أنه لم يكن يطيق صبراً على تأجيل الرسالة، وهكذا جلس وكتبها بنفسه. ويشير إلى ذلك في الآية ١١:‏ "اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي!". لم تكن هذه الرسالة طويلة. فبالمقارنة مع رسالته إلى أهل رومية، نجدها قصيرةً. إنها لا تزيد عن ثلث طول الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ونصف طول الرسالة الثانية إلى كورنثوس. وبالمقارنة مع كتابات أخرى في العهد الجديد، فإنها تعتبر رسالةً قصيرةً موجزة بحق. ولكن إن لجأنا إلى ترجمة أكثر دقة نجد الفائدة أكبر. فالترجمة الأدق هي:‏ "انظروا ما أكبر الحروف التي كتبتُ بها إليكم بيدي نفسي". وهذا لا يدل فقط على أنه لم يكن معتاداً على كتابة الرسائل بنفسه وحسب، بل أيضاً أنه كان يعاني من مرض في عينيه، وكان غير قادر على أن يرى جيداً. أتذكرون مرةً عندما كان يُحاكَمُ في أورشليم، وأمر رئيسُ الكهنة بأن يُضربَ بولس على فمه، فرد بولس عليه ساخطاً وقائلاً:‏ "سَيَضْرِبُكَ اللهُ أَيُّهَا الْحَائِطُ الْمُبَيَّضُ!" (أع ٢٣:‏ ٣)، وقال أحدهم:‏ "«أَتَشْتِمُ رَئِيسَ كَهَنَةِ اللهِ؟»"، وفي الحال اعتذر وقال:‏ "«لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّهُ رَئِيسُ كَهَنَةٍ»". كان لا بد أن يعرفه، على الأقل من خلال ثيابه الكهنوتية، ولكن بولس كان في الركن البعيد من الحجرة ببصرٍ ضعيف، فلم يستطع أن يميز الرجل. ثم هناك النص الكتابي الذي يقترح نفس الأمر. فقد قال لتوه في هذه الرسالة:‏ "إَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي" (غل ٤:‏ ١٥). ما كانوا ليفعلون ذلك لو لم يكن بصره ضعيفاً. لذلك أعتقد أنه من الممكن أن سبب ذلك كان مرضاً في عينيه اضطر لتحمله لسنوات عديدة، ولذلك جلس ليكتب الرسالة كما لو كان نصف أعمى بأحرف كبيرة ممتدة منتشرة. وإذ كان يدرك أن المخطوطة التي كان سيرسلها لم تكن أنيقة مرتبة فإنه اعتذر عن ذلك بقوله:‏ "اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي!". أعتقد أن الرسالة بأحرفها الكبيرة قد لامست قلب أولئك الغلاطيين، ولا بد أنها قد جعلتهم يدركون كم كان فعلاً يحبهم، وكم كان مهتماً بهم وقلقاً عليهم، حتى أنه لم يُطِقْ صبراً على الانتظار كي يكتبها بالطريقة المعتادة، بل أرسل هذه الرسالة بأسرع ما أمكنه بعد أن كتبها.

ثم يختم بالقول:‏ "جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَراً حَسَناً فِي الْجَسَدِ، هَؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا". لو أمكن الحفاظ على المسيحيين ضمن حظيرة اليهودية وجعلهم طائفة أخرى يهودية لأمكن تجنيبهم بذلك الكثير من الاضطهاد الذي تعرضوا له. ولذلك يقول الرسول بولس، إن هؤلاء المبعوثين من أورشليم الذين يجولون بينكم ليس لديهم خيرٌ لكم في قلوبهم، بل إنما يريدون أن يعملوا منظراً حسناً في الجسد؛ إنهم يريدون أن يحشدوا الكثير من الموالين والمشايعين للتعليم الذي ينادون به، ولكنهم لا يرون أن اسم الرب يسوع المسيح يلازمه فصل أو انفصال. كان ليمكنني أن أمضي معهم وأعمل منظراً حسناً في الجسد أيضاً، وبذلك لن يكون هناك اضطرار للتعرض للاضطهاد من أجل صليب المسيح. ذلك الصليب لم يكن فقط حيث تألم الرب يسوع المسيح من أجل خطايانا بل رمز الفصل. إنه يدل على مدى بغض العالم لابن الله، وبولس جعل تطابقاً بينه وبين ذاك الذي رفضه العالم بازدراء، ولذلك كان يفتخر بذلك الصليب.

عندما يستند الناس إلى أساس قانوني أو شرعي ويقولون لكم أن الخلاص هو بالجهود والمساعي البشرية، فإنهم أنفسهم لا يعيشون وفق اعتراف إيمانهم. لعلكم سمعتم البعض يقول:‏ "لا أعتقد أن على الناس أن يخلصوا بدم الرب يسوع المسيح. أعتقد أنه لو فعل كل امرئ ما في وسعه فهذا كل المرجو منه". هل رأيتم إنساناً فعل كل ما في وسعه؟ هل فعلتم أفضل ما تعلمون؟ تعلمون أنكم أخفقتم مراراً وتكراراً، حتى في تلك الأشياء التي كنتم تعرفون أنها صائبة، وأشياء لم تفعلوها بينما كان يجب أن تعملوها، وأشياء فعلتموها وكنتم تعلمون أنه ما كان يجب عليكم القيام بها. لذلك، فإن الحديث عن الخلاص بأن تعمل ما في وسعك سخيفٌ ومنافٍ للعقل. ما من امرئ فعل كل ما في وسعه، بالطبع ما عدا مخلصنا القدوس الطاهر الذي لا عيب فيه، الرب يسوع المسيح.

قد يقول أحدهم:‏ "يكفيني من الإنجيل أن أتبع ما جاء في العظة على الجبل". هذا قولٌ حسنٌ جداً. ولكن هل رأيتَ إنساناً فعل ذلك؟ أو هل عملتَ أنت هكذا؟ اختبروا أنفسكم بها. اقرأوا متى ٥، ٦، و ٧، واختبروا أنفسكم بصدق. تحققوا من أنفسكم، ولاحظوا كم تقصرون عن عيش هذه الوصايا الثمينة لهذا الخطاب الرائع الذي أدلى به الرب يسوع المسيح. علينا بلا شك أن نعيش أنا وأنتم وفقه. إنه يدل على نوع الحياة التي ينبغي على كل مؤمن أن يعيشها. ولكن إن لم تعش حسب العظة على الجبل، إما من ناحية إحراز الخلاص أو الحفاظ عليه، فإنك في الحال تضع نفسك خارج السرب. إنك لم تحيَ وفقها، وأخشى ألا تفعل ذلك، ولذلك فعليك أن تكون ممتناً وشاكراً لله بالفعل لأنه يخلص الخطأة البؤساء بالنعمة. قد يقول آخر:‏ "أعتقد أنه إن حفظنا الناموس الذي أعطاه الله على جبل سيناء (والذي يقول بولس عنه أنه مقدس، وعادل، وصالح)، فإن في ذلك تحقيقٌ لكل ما يطلبه الله أو الإنسان منا". أعتقد أن هذا الكلام معقول فيما يخص العيش الحقيقي. ولكن من جديد أطرح السؤال:‏ هل حفظتموه؟ هل تعرفون أحداً قد حفظه على الإطلاق؟ دعونا لا ننسى هذه الكلمات:‏ "لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب ٢:‏ ١٠). ولذلك، وعلى هذا الأساس، ليس من أمل لأي أحد منا. "إن أخفقنا"، يقول البعض، "فإن الله أعطانا الأسرار". ولكن أولئك الذين يتحدثون بهذا الشكل ليسوا متأكدين أبداً من أنهم يحفظون الأسرار على نحو صحيح. أنى لك أن تعرف أنك تحافظ عليهم بشكل كامل؟ قد تخفق في نقاء الهدف وأنت تتناول عشاء الرب، أو في المعمودية. وحتى أولئك الذين يستندون إلى الجهد الذاتي كوسيلة لتحقيق الخلاص لا يحفظون الناموس بشكل كامل. إننا نخفق جميعاً، ولذلك نحن في حاجة لأن نميز حقيقة أن الخلاص هو فقط بنعمة الله المجانية والمنقطعة النظير.

إنهم يريدونكم أن تتبعوهم في تعاليمهم لكي يفتخروا بأجسادكم، على حد قول الرسول بولس. الناس يحبون التبعية، ويحبون أن ينضم إليهم الناس في أي موقف يتخذونه. إذ يخدم كبرياء القلب الطبيعي أن يكون قادراً على تزعّم مجموعة كبيرة.

إزاء كل الجهد البشري يضع بولسُ صليبَ مخلصنا المبارك:‏ "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ". عندما قال هذه الكلمات لم يكن يفكر فقط بتلك الأداة الخشبية التي مات عليها يسوع، وبالتأكيد ما كان يفكر بصليبٍ موضوعٍ على برج كنيسة، أو على مذبح كنيسة، ولا بصليبٍ يتدلى من سلسلة على صدرة أو عنقٍ، أو يرتديه أحدٌ كَحِلْيةٍ و زينةٍ. عندما كتب عن "صليب ربنا يسوع المسيح"، كان يفكّر بكل ما يتضمنه ذلك الصلب للمخلص المبارك على تلك الخشبة. إن صليب المسيح هو معيار بغض الإنسان لله. فكّروا في هذا الأمر. لقد أرسل الله ابنَه إلى العالم. ملايين من الناس تكلمت عن ذلك في موسم عيد ميلاد المسيح، والتجار اليوم يشجعون الناس على التقيد والاحتفال بمولده لكي يبيعوا بضائع أكثر. وستجد أنه حتى التاجر اليهودي سيتمنى لك عيد ميلاد مجيد إن اشتريتَ منه شيئاً ما. ولكنْ تذكروا ذلك، لقد أنبأنا العالمُ للتو بما يفكر به نحو المسيح. قد يحتفلون بمولده بالهدايا التي يقدمونها لبعضهم البعض، وقد يقيمون حفلات مهيبة واحتفالات عظيمة باسم المسيح المولود في بيت لحم، ولكن هذا العالم قد أظهر موقفَه من يسوع بأن أخذوه على عجل إلى الصليب الروماني. وعندما سأل بيلاطسُ:‏ "ماذا تريدون أن أفعل لكم بيسوع الذي يُدعى المسيح؟" صرخوا بصوت واحد متّفق أن:‏ "اصلبه" (متى ٢٧:‏ ٢٢)، وذاك هو المسيح الذي يعترفون بعبادته اليوم، إنه المسيح الذي صلبوه. بل حتى إنهم ليحتفلون بعيد ميلاد المسيح في خانات المدن، ويحتفون بميلاده بالشرب والسكر والعربدة في ليلة الميلاد أو يوم الميلاد. وسوف يسمّون ذلك محافظة على عيد ميلاد يسوع. إلا أن مسيح بيت لحم هو مسيح الصليب، والعالم قد أطلق حكمه عليه. لقد قالوا:‏ "لا نريد هذا الإنسان أن يملك علينا". ويقول بولس الرسول:‏ "حسناً. إني أناصر هذا الرجل الذي رفضه العالم". وعندما يقول:‏ "حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ"، فكأنه يقول بطريقة أخرى:‏ "إن افتخاري، وفرحي، ومسرتي هي في ذاك الذي صلبه العالم". ١.

إذاً صليبُ المسيح كان المكان الذي أظهر الله فيه محبته بكامل امتلائها. "فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ:‏ لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا" (١ يوحنا ٤:‏ ١٠). عندما فعل الإنسانُ أسوأ ما أمكنه، بذل الله أفضل ما عنده. عندما قال الإنسانُ:‏ "خذه بعيداً! اصلبْه!"، قبِلَه الله بديلاً عن الخطاة، ووقعت عليه الدينونة التي كانت تستحقها خطايانا. ولذلك فعندما قال بولس:‏ "أَفْتَخِرَ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ"، فإنه كان يقصد أن يقول:‏ أفتخر بالمحبة التي أعطانيها يسوع بموته عني أنا الخاطئ.

ولكنه أظهر أن موت المسيح هو موتي وأن عليّ أن أتخذ مكاني معه، معتبراً أن موته هو موتي:‏ في ٢:‏ ٢٠، نقرأ:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". عندما يقول بولس:‏ "أَفْتَخِرَ بِصَلِيبِ المسيحِ"، فإنه يقصد أن يقول:‏ أقبل صليبَ المسيح صليباً لي؛ أقبل موتَه موتاً لي؛ وآخذُ مكاني معه في كونه مات عن العالم، والخطيئة، وعن الذات، ومن الآن وصاعداً لستُ تحت الناموس بل تحت النعمة. لقد صلبَ الناموسُ مخلصي. لقد استوفى مطالبه عند ذلك الصليب، والآن، وقد تحققت جميعُ مطالبه، فقد تحررتُ من سلطته وأنا حرٌ لأن أسلك أمام الله في النعمة، ساعياً لأن أمجّده في حياة من الطاعة السعيدة لأني أحب ذاك الذي مات هناك ليزيل خطيئتي. كل هذه، وأكثر من ذلك بكثير، يتضمنه التعبير:‏ "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ".

أيها المسيحيون، هل اتخذتم هذا الموقف؟ هل تدركون أن صليب المسيح يعني الانفصال الكامل عن العالم الذي رفضه؟ هذا ما نعترف به باعتمادنا؛ وهذا هو ما تعنيه المعمودية المسيحية. لقد سمعتُ من كثيرين عن مؤمن فكَّر مليّاً ولوقت طويل قبل أن اتخذ خطوة اقتبال المعمودية لأنه كان يخشى ألا يكون قادراً على أن يحيا وفق ما يمليه عليه هذا الطقس الجميل، وبالطبع فإننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بمعزل عن المسيح. ولكن ما الذي يشتمله ذلك؟ تمييزاً وإدراكاً مني بأني قد دُفِنْتُ معه، وأن هذه هي نهاية حياتي كإنسانٍ يحيا بحسب الجسد. ولذلك فقد أُقِمْتُ مع المسيح لأسلك في جدّة الحياة.

أذكر بعض الأخوة الذين كانوا يتحدثون عن علاقة مسيحي بجماعات ذوي ممارسات سرية يحلفون على إبقائها طي الكتمان. [يخبرنا الكتاب المقدس عن الرب يسوع أنه قال:‏ "فِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ" (١٨:‏ ٢٠). ومن هنا أعرف أنه لم يكن أبداً ضمن أي جماعة أو نظام أقسم أعضاءه على كتمان أمرهم، وأنه دعاني لأكون تابعاً له]. قال أحد هؤلاء الأخوة للآخر:‏ "إنك تنتمي إلى الجماعة كذا".

فأجاب:‏ "لا . لستُ كذلك".

فقال الآخر:‏ "بلى. أعرف ذلك. فقد كنتُ هناك في تلك الليلة التي أُدْخِلْتَ في عضويتهم، وعندما ينتمي شخصٌ إلى تلك الجماعة فإنه يبقى فيها حتى الموت".

  • "نعم، بالضبط. وإني أقر بما تقول. ولكني قد دفنتُ وثيقة عضويتي في قاع بحيرة أونتاريو".

لقد قصد أن يقول أنه بمعموديته قد آل النظام القديم إلى زوال.

سمعتُ عن امرأة فتية عزيزة كانت مُحِبة للدنيا ومنغمسة في شؤونها كلياً، ولكنها أتت في نهاية المطاف إلى المعرفة التي تخلص بالرب يسوع. وجاء أصدقاؤها إلى عيد ميلادها في مساء أحد الأيام ليقيموا حفلة مفاجئة لها، وأرادوا أن يأخذوها معهم إلى مكان فيه تسلية دنيوية غير سليمة. فقالت:‏ "جميلٌ منكم أن تفكروا بي، لكني لا أستطيع أن أذهب معكم. فأنا لا أذهب أبداً إلى هذه الأماكن".

  • "هراء. لطالما ذهبتِ معنا إلى هناك".
  • "ولكني دفنتُ الفتاة التي اعتادت أن تذهب إلى تلك الأماكن".

"لستُ أنا الذي أحيا، بل المسيح يحيا فيَّ".

المعمودية المسيحية يجب أن تدل على انفصال عن العالم الذي صلَبَ الرب يسوع المسيح. انظروا إلى إسرائيل. لقد كانوا دائمً مستعبَدين لفرعون، وهناك فرعون قديم على الجانب الآخر من البحر، وهو يصرخ أن:‏ "عودوا إلى هنا واخدموني؛ ضعوا أعناقكم تحت نير عبوديتي من جديد". ويخيل إلي أني أسمعهم يقولون:‏ "وداعاً يا فرعون. فالبحر الأحمر يفصل بموجه بيننا. لقد صُلِبْنا لمصر ومصر لنا". ومن هنا القول:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ". وهكذا صُلِبَ العالمُ لي وأنا للعالم. دعوني أوجه كلمة تحذير هنا. لقد حكم كثيرون على أشياء العالم القذرة، والبذيئة، والفاسدة، والدنسة، ولم يحكموا على العالم المتألق، المثقف، الجميل. إلا أن العالم المتألق، المثقف هو قذرٌ في عيني الله كمثل كثيرين سلكوا معه، قبل أيام من اهتدائهم. يمكنك الخروج من صحبة وشركة الله باتصالك بالعالم المثقف، كما لو أنك تنزل إلى أسفل العالم، والأماكن غير الورعة لوسائل التسلية السوقية.

أيها المسيحيون، ابقوا على مقربة من موطئ أقدام قطيع المسيح، ولا تدعوهم يلاقونكم في الحقول الأخرى. ها هنا ختان حقيقي. لقد كان الختان طقساً يرمز إلى موت الجسد. "فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ المخلوق الجديد"، أو حرفياً:‏ "الخليقة الجديدة". وهذا هو كل ما في الأمر. أنت وأنا من خلال الصليب قد خرجنا من الخليقة القديمة، إن كنا قد خلصنا، وأصبحنا الآن في الخليقة الجديدة التي رئيسها الممجد هو المسيح. انظر إذاً إلى علاقاتك، ومسراتك، وتسليتك، وحياتك الدينية، واحرص على أن تحفظ نفسك في تلك الدنيا التي يٌعتَرَفُ فيها بالمسيح رئيساً ورباً.

ثم يضيف قائلاً:‏ "فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا الْقَانُونِ"-‏ أي قانون؟ فهو لم يضعْ أي قانون. نعم، لقد قال أننا خليقة جديدة. هذه هي الطريقة لامتحان أي شيء يوضع أمامنا. أهو من الخليقة القديمة أم الجديدة؟ إن كان من القديمة، فلا علاقة لي به. فأنا أنتمي إلى الخليقة الجديدة وعليَّ أن أسلك بحسب هذا القانون. "فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ"، لأنهم سيحتاجون إلى الرحمة على الدوام. سوف لن يحرزوا الكمال في هذه الحياة، إلا أن الله لا ينسى خاصته أبداً. أحياناً ننجرف كثيراً حتى أننا ننساه، بل حتى نشعر كأن قلوبنا قد فترت محبتها له، وكأنه قد تخلى عنا، ولكن دعونا نتذكر دائماً القول:‏ "لا أتركك، لا أهملك" (عب ١٣:‏ ٥). هناك نفي مزدوج في الأصل، فالقول هو:‏ "سوف لن أتركك، أبداً، أبداً، ولن أتخلى عنك". وما من شك في أن الرب المبارك سوف لن يتخلََّ عمن وضع ثقة إيمانه في يسوع، ولذلك فهو دائماً يتعامل معنا برحمة، مسترداً أنفسنا عندما نخفق.

ثم يستخدم الرسول تعبيراً خاصاً ومميزاً جداً:‏ "وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللهِ". فمن يقصد بقوله "إِسْرَائِيلِ اللهِ"؟ لا أعتقد أنه يشير إلى الكنيسة أو ما شابه ذلك، لأنه قد أشار لذلك تواً عندما تكلم عن الخليقة الجديدة. أعتقد أنه يرى إسرائيل الحقيقي في أناس الله الأرضيين الذين يقبلون حقاً شهادة الله والذين يعترفون بخطيئتهم ويؤمنون بالمخلص الذي قدّمه الله. "لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ" (رو ٩:‏ ٦). أن يكون المرء مولوداًً من نسل إبراهيم لا يجعله ابناً لإبراهيم. كما وأنه إن كان إنسانٌ مولوداً من إسرائيل لا يجعله إسرائيلياً. عليه أن يمتلك إيمان إبراهيم ليبارَكَ مع إبراهيم المؤمن المخلص، وعليه أن يقتبل المخلص الذي جاء بإسرائيل إن كان يريد أن يُعتبر إسرائيلياً حقيقياً.

أما الآن وقد جعل هؤلاء المهوِّدون علامةً مميزة جداً على الجسد من خلال طقس وقالوا أن الإنسان الذي لا يحمل تلك العلامة يُعتبر نجساً وغير مؤهل لعلاقة الشركة مع المسيحيين، فيقول بولس:‏ لدي علامة أفضل من أي شيء تتكلمون عنه:‏ "فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَاباً، لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ". ما الذي عناه بذلك؟ إن جسده كان قد تجرح عدة مرات كرمى ليسوع، عندما انهالت عليه تلك الحجارة القاسية في لسترة، وعندما جُلِدَ بالسياط وُسِمَ جسَدُهُ، ولكنه يفتخر بتلك الأمور ويقول:‏ "إنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ". يقول أحدهم:‏ "عندما نصل إلى السماء لن ينظر الله إلى أوسمتنا بل إلى الندوب على أجسادنا". أتساءل إن كنا قد تلقينا أية ندوب من أجل يسوع. إن الكثير من هذه الندوب ليست جسدية، بل هي ندوب في القلب، ولكنه أمر عظيم أن تكون لدينا سمات الرب يسوع.

والآن يختم بولس هذه الرسالة بدون أية تحيات أو سلامات. ففي حين كانت معظم رسائله تحوي الكثير من التحيات لمختلف الناس، إلا أننا نجد هنا أنه لم يرسل أية تحية خاصة أو توصية لأحد منهم، ذلك لأنهم، وكما تلاحظون، كانوا يتلاعبون بسرعة وباستخفاف بأمور الله، ولن تكون هناك فائدة، بعد أن كتب لهم هذه الرسالة الشديدة اللهجة، من أن يسترضيهم بإرسال تحيات حارة قلبية للأخوة في المسيح وكأنه لم يحدث ما يعيق حياة الشركة. ولذلك يكتفي بالقول:‏ "نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. آمِينَ". ليعطِنا الله جميعاً أن نتمتع بتلك النعمة.


١. كانت هذه الخطبة قد ألقيت خلال موسم عيد الميلاد.

الـباب الأول

في بيان أن العهد القديم والجديد (أي التوراة والانجيل) هما كلام الله ولم يُحرّفا ولم يُنسخا

الفصل الأول

في شهادة القرآن للتوراة والانجيل

القاهرة، مصر
القاهرة، مصر

لا يخفى أن العلماء قد قسموا البرهان إلى نوعين: عقلي ونقلي. فالعقلي يحتوي على الدليلين الخارجي والداخلي. ولو كنا نؤلف تأليف لإقناع الكفار والملحدين وعبدة الأصنام، لكان يجب علينا أولاً أن نأتي بالدليل الخارجي بأن التوراة والإنجيل هما قديمان وغير محرَّفين، ونبيّن وجوب الاعتماد عليهما لأنهما وحي من الله تعالى ثم علينا أن نذكر تاريخ كل سفر من أسفارهما - بقدر إمكاننا- لنبيّن كيفية جمع الأسفار، وهل يحق لنا بعد وزن الدليل الخارجي أن ننسب الأسفار للأنبياء الذين كُتبت أسماؤهم عليها أم لا؟ وأخيراً نبحث في حقيقة الدليل الداخلي المأخوذ من نفس الأسفار ونبيّن نتيجة بحثنا.

أما المسيحيون فإنهم كرروا ذلك، لأن الملحدين وغيرهم أثاروا حرباً عواناً ضد الكتب المنزلة. ولإقناعهم فحص المسيحيون وحققوا جميع الأدلة، سواء كانت لهم أو عليهم لكونهم شديدي التمسك بالوصية المقدسة القائلة "امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالحَسَن." (تسالونيكي الأولى٥:‏٢١) فإطاعة تلك الوصية مطلوبة منا بأمر من الله تعالى الذي وهبنا عقل لأجل هداية خطواتنا في سبيل تمجيد اسمه الأقدس. وحيث أن الحق من أخص صفات الله فهو لن يبيد ولن يتلاشى، بل يجب أن يبقى أبدياً. والذي يريد البحث عن الحق الإلهي والسير في مسالكه حسب إرادة الله المقدسة لا يخوِفه ولا يصده عن أدق تنقيب حول أسس إيمانه شيء ما، وبعد إتمام ذلك التنقيب والبحث لا يثبت على صخرة الحق وحده فقط، بل هو قادر أيضاً على إعانة آخرين مثل اللاأدرية وغيرهم من المترددين والمذبذبين في الشك، فإيمانه حينئذ يستحق أن يطلق عليه اسم إيمان إذ ليس هو كتقليد الجاهلين ولا كتمسُّك المتعصبين.

أما الأدلة العقلية على صحة الديانة المسيحية فمكاتب العلماء المسيحيين مملوءة بالكتب في موضوعها، وليس هنا محلٌّ لإيرادها. لأن غرض هذا التأليف ليس إقناع الكفرة، بل مساعدة إخواننا المسلمين الذين يقبلون القرآن كآخر إعلان من الله تعالى لهم، ويؤمنون أنه يحتوي على كلام الله نفسه، فأهم من كل شيء عند المسلم اعتقاد صدق ما قاله القرآن الشريف لأن بعض المسلمين الجاهلين يعتقدون بعكس ما قاله القرآن في ذلك وما سببه إلا سوء الفهم ١ ولا يستغرب اذا قلنا أن أكثرهم يعتقد في الكتاب المقدس غير ما يشهد القرآن له. فيجدر بكل مسلم أن يشترك معنا في البحث عن شهادات القرآن للتوراة والإنجيل، لنستفيد جميعاً فائدة تُذكر فتُشكر.

يعلم الجميع أن المصحف يشهد أنه وُجد في جزيرة العرب زمن صاحب القرآن أمتان مختلفتان في الدين، قال في سورة البقرة ٢:‏١١٣  "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِم." وملخص ما قاله البيضاوي في تفسيره لهذه الآية إنها نزلت عند قدوم وفد نجران على صاحب القرآن، حيث تناظروا مع أحبار اليهود وتقاولوا بذلك، ليست على شيء أي على أمر يصح ويعتد به والحال إنهم من أهل العلم والكتاب، ومثل قولهم قال الذين لا يعلمون كعبدة الأصنام والمعطلة. لكنهما وإن اختلفا ديناً فقد اتحدا بتسمية كل منهما أهل الكتاب؛ ألا وهما المسيحيون واليهود. قال في سورة آل عمران ٣:‏٦٩-٧١  "وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون."َ وفي آل عمران ١٢٠ "وَلَو آمَنَ أَهْلُ الْكتَابِ لَكَانَ خَيْر لهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون." وفيها أيضاً آية ١٩٩ "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم." وفي سورة النساء ٤:‏١٥٣  "يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ." وفيها آية ١٥٧ "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إلا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه." وفي سورة العنكبوت آية ٤٦ و ٤٧  "وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكتَابِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون."

إن القرآن يشهد أن الكتاب الذي انتمى إليه هذان الشعبان لم يزل موجوداً بصحته إلى زمنه. قال في سورة البقرة ٢:‏١٠٥ و١٠٩ "مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ .. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَاب ..". وفي سورة آل عمران ٣:‏٢٠ و٢٣ "وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكتَابَ والأُمِيِينَ .. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُون."

قال البيضاوي: ما ملخصه الداعي محمد، وكتاب الله القرآن والتوراة. وفيها أيضاً آية ٦٤ "قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ..الخ." وآية ٦٥ "يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إلا مِنْ بَعْدِهِ .. الخ." وآية ٦٩ "وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُم." وآية ٧٠ "يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ." وآية ٧١ "يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ .. الخ." وآية ٧٢ "وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ .. الخ." وآية ٧٥ "وَمِنْ أَهْلِ الْكتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ.. الخ." إلى آيات كثيرة يسمي القرآن اليهود والنصارى بأهل الكتاب، ولا شك أنه هو الذي كان وقتئذ موجوداً بأيديهم. قال في سورة المائدة آية ٤٧ "وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ .. الخ." (وآية ٤٨) "إِنَّا أَنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيُّونَ .. الخ." وآية ٧٢ "قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ .. الخ." وفي سورة الأعراف يصرح بأن اليهود تلقوا الكتاب -التوراة- بالتوارث عن آبائهم حيث يقول في آية ١٦٨ "فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكتَابَ .. الخ." حتى أن القرآن يأمر محمداً أن يسأل أهل الكتاب إن حصل عنده شك في القرآن ليتثبَّت به. قال في سورة يونس ١٠:‏٩٤ "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ..الخ."

وحتى أنه يشهد شهادات مفصلة ومبينة لأجزائه الثلاثة أي التوراة والزبور والإنجيل. قال في سورة آل عمران ٣:‏٣ و٤ "وَأَنْزَلَ التوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ مِنْ  قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ .. الخ." وفي سورة   الأنعام ٦:‏٩١  "قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا .. الخ." وآية ٩٢ "وَهَذَا كِتَابٌ (أي القرآن) أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ .. الخ" قال البيضاوي: يعني التوراة أو الكتب التي قبله. وفي آية ١٥٤ "ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيل الكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون."َ وفي آية ١٥٦ "أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا .. الخ." قال البيضاوي أي اليهود والنصارى. وقال في سورة هود آية ١١٢ "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ .. الخ." وفي سورة المائدة يصف حالة اليهود في آية ٤٦ "وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ .. الخ." وآية ٤٧ "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيُّونَ إلى أن قال فيها وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكافِرُون." وقال في المسيح والإنجيل آية ٤٩ "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ." وقال في حالة القرآن (آية ٥١) "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكتَابَ (أي القرآن) بِالحَقِّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكتَابِ (أي من جنس الكتب المنزلة) وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" أي رقيباً على جميع الكتب يحفظها عن التغيير ويشهد لها بالصحة والثبات هكذا قال البيضاوي.

وقال بخصوص المسيح والإنجيل وأتباعه كما في سورة الحديد ٥٧:‏٢٧ "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون." وقال بخصوص زبور داود (المزامير) كما في سورة الإسراء ١٧:‏٥٥ "وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً." وقال في سورة الأنبياء ٢١:‏١٠٥ "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُون."

لقد شهد القرآن في عدة آيات أن التوراة والزبور والإنجيل منزلة من عند الله، وأنه جاء مصدقاً ومهيمناً أي مراقباً وحافظاً ومثبتا لها، كما تقدم، وكما في سورة الملائكة آية ٣١ "وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا .. الخ."

وفضلاً عن ذلك يخبرنا القرآن أن من لا يقبل هذه الكتب ولا يؤمن بها سوف يُعاقب في الآخرة عقاباً شديداً كما في سورة غافر٤٠:‏٥٣ و٧٠ "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكتَابَ هُدىً وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ .. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ."

ثم نجد القرآن يقول بموافقة تعليم التوراة لتعليم الانجيل الذي جاء به سيدنا عيسى المسيح  كما جاء في سورة المائدة آية ٤٩ "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ .. الخ." وحيث أن القرآن يقول كل ذلك عن الكتاب المقدس فالحاجة لا تمس إلى إظهار الأدلة على صحة ذلك الكتاب كما يكون لو كنا نكتب لإفادة كافر مثلاً.

ورب معترض يقول (اولاً) إنكم يا جماعة المسيحيين لا يسعكم الاستشهاد من القرآن لأنه غير مقبول لديكم ككتاب منزل من عند الله تعالى (وثانياً) ان الأسفار الموجودة الآن بأيدي المسيحيين باسم العهدين القديم والجديد ليست هي الكتب الأصلية المشار إليها في القرآن، أو إنها تحرفَّت. وإن لم تُحرَّف فهي على كل حال منسوخة. فرداً على ذلك نسلم بأن الاعتراض الأول كان في محله لو كان البرهان على المسيحيين، وحيث أنه أُقيم على المسلمين المعتقدين بإنزال القرآن من عند الله، فالاستشهاد منه يكون برهاناً قاطعاً، لأنه مسلَّم عند الخصم، وإلا فنحن المسيحيين لا نحتاج إلى إثبات صحة الكتاب المقدس بالاستشهاد من القرآن. وأما الاعتراض الثاني فإنه يعارض نصوص القرآن على خط مستقيم، إذ يقول بعدم تغيير كلمات الله. قال في سورة  (الأنعام ٦:‏ ٣٤ ) "وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ." وفي سورة يونس ١٠:‏٦٤ "لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ." وفي سورة الكهف ١٨:‏٢٧ "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه"، كما ستراه في بقية فصول هذا الباب. والآن نكتفي قبل الشروع في ذلك بإيراد بعض نصوص القرآن الذي يشهد فيها للكتاب المقدس ثم نكشف عن أقوال أشهر المفسرين لكي نكون على بينة من معنى الآيات التي نستشهد بها.

جلي من القرآن أن الكتاب كان موجوداً بين أهله في زمن محمد. ولم يكن كما يزعم اسماً بلا مسمى. ولأجل إثبات ذاك نكتفي بقليل من كثير. ففي سورة المائدة آية ٧١ "قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابِئُونَ وَالنصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون." وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن ابن عباس قال: جاء رافع وسلام ابن مشكم ومالك ابن الصيف فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا. قال: بلى. ولكنكم أحدثتم وجحدتم بما فيها وكتمتم ما أُمرتم أن تبينوه للناس. قالوا: نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق (أسباب النزول).

فمن هذا يظهر أن محمداً أعلن قبوله للكتب المتداولة بين اليهود. ولو أنه رفض البدع والأحداث التي قال إنهم قد أدخلوها في رسوم ديانتهم الظاهرية، ومن هذا القبيل يوافق قول محمد لقول سيدنا المسيح لليهود في زمنه كما في بشارة متى ٢٣:‏١٦-٢٤ "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ، أَيّهُمَا أَعْظَمُ: أَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذهَبَ؟ الخ..."

ولكن المهم هنا هو أن هذه الآية ورواية ابن عباس لسبب نزولها تثبتان أن التوراة والإنجيل كانا موجودين عند اليهود والمسيحيين، وإلا فلا معنى لأمرهم بإقامة الأوامر والنواهي الموجودة بتلك الكتب إن كانت أُعدمت أو تحرَّفت،  ففي الحالة الأولى تكون طاعة الأمر غير ممكنة بل مستحيلة. وأما في الثانية فطاعة المحرَّف تُضلهم عن سواء السبيل.

وفي سورة البقرة ٢:‏١١٣ "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكتَاب." ومعنى صيغة قوله (يتلون) إنهم كانوا في ذلك الوقت يتلون التوراة والإنجيل، وهما موجودان بين أيديهم، وإلا كان الواجب استعمال صيغة الماضي دلالة على أنهم تلوه في الماضي فقط. تأمل.

وفي سورة يونس ١٠:‏٩٤ "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكتَابَ مِنْ قَبْلِكَ .. الخ." وملخص ما حكاه جل المفسرين أن المخاطَب محمد، والمراد أمته وكل سامع وآمر بسؤال أهل الكتاب لأنه محقق عندهم، ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة فإن القرآن مصدق لما فيها، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أُنزل إليه، أو تهييج الرسول وزيادة تثبيته كما في البيضاوي وخلافه. فألفاظ هذه الآية تؤكد أن الكتاب المقدس كان موجوداً في زمن مجيء القرآن، وأنه يعترف بصحته، ويثق به وبقرَّائه من اليهود والنصارى. وإلا لما جاز له أن يطلب من محمد أو أمته أو كل سامع أن يسألهم ليتثبَّت الإيمان في قلوبهم ويزول عنهم الشك بشهادة هؤلاء الثقات وكتابهم الموجود الذي لم يُغيَّر ولم يُحرَّف. ولا ريب أنه لم يبق عند القارئ شك بسلامة الكتاب من كل شين إن كان يعتقد بصدق قرآنه المبين.

وقال في سورة الأعراف آية ١٥٨ مادحاً اليهود "وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ." وقال البيضاوي على هذه الآية ما ملخصه "ومن بني إسرائيل طائفة يهدون الناس محقين، أو بكلمة الحق وبالحق يعدلون بينهم في الحكم." والمراد بها: الثابتون على الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه، وقيل هم مؤمنو أهل الكتاب. هذه الآية تشهد أن الكتاب المقدس كان موجوداً بصحته وسلامته من كل تغيير في زمن إتيان القرآن، وكانت أمة موجودة عاملة بأوامره ونواهيه.

وفي سورة آل عمران ٣:‏٢٣ "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ." وملخص ما قاله البيضاوي أن سبب نزول هذه الآية أن محمداً دخل مدراس اليهود. فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد: على أي دين أنت؟ فقال: على دين إبراهيم. فقال له: إبراهيم كان يهودياً. فقال: هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم. فأبيا. فنزلت. وقال - الكتاب - أي التوراة أو جنس الكتب السماوية - يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم - الداعي محمد وكتاب الله التوراة. فهذه الآية تبين جلياً أن التوراة كانت في زمن صاحب القرآن، ولثقته بها سماها كتاب الله، وطلب من خصومه أن تكون حكماً بينهم.

وفي السورة أيضاً آية ٩٣ مع ملخص ما قاله البيضاوي "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لبَنِي إِسْرَائِيلَ (أي حلال لهم) إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ (يعقوب) عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التوْرَاةُ - أي قبل إنزالها - قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين." أمر بمحاجتهم وتبكيتهم. ومع محاولة البيضاوي ومحايدته فالآية تفيد أن التوراة كانت موجودة في زمن محمد بأيدي اليهود. وقوله عقب هذه الآية فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك من بعد ما لزمتهم الحجة "فأولئك هم الظالمون." الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم. وقول البيضاوي أن التوراة كانت عند المدّعي ثقة وحقاً من الله. تأمل.

وفي سورة المائدة آية ٤٦و٤٧ مع ملخص تفسير البيضاوي "وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ." تعجب من تحكيمهم من لا يؤمنون به. والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم (إلى أن قال) وفيها حكم الله حال من التوراة "وما أولئك بالمؤمنين." بكتابهم لإعراضهم عنه وعما يوافقه أو بك وبه "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى" يهدي إلى الحق "ونور" يكشف ما اشتبه من الأحكام "يحكم بها النبيون" من بني إسرائيل أو موسى ومن بعده "الذين أسلموا" صفة مدح للنبيين الذين هادوا والربانيون والأحبار زهّادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على (النبيون) "بما استحفظوا من كتاب الله" بسبب أمر الله إياهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف "وكانوا عليه شهداء" رقباء لا يتركون أن يغيروا أو شهداء يبينون ما خفي منه.

وملخص مفهوم هاتين الآيتين أنه يتعجب من تحكيم اليهود لصاحب القرآن مع أنهم لا يؤمنون به. والحال أن التوراة التي فيها حكم الله هي عندهم وليسوا بمؤمنين به لإعراضهم عن تحكيمها بينهم. والله أنزل التوراة تهدي إلى الحق، وهي نور يكشف ما اشتبه من الأحكام. تحكم بها الأنبياء المسلمون أنفسهم لربانيي اليهود، وتحكم بها أيضاً ربانيوهم وأحبارهم بسبب أمر الله لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف. فلذا هم عليه رقباء، لم يمكّنوا أحداً من تحريفه أو تغييره، فهل هذه الآيات تسمع دعوى التحريف والتغيير للتوراة؟

ومن الأدلة الشاهدة على وجود الكتاب المقدس أي العهدين الجديد والقديم بسلامته حين مجيء القرآن، الاقتباسات الموجودة فيه المصرحة بأنها مقتبسة منهما كما في سورة المائدة آية ٤٩ "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا -أي في التوراة- أَنَّ النفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ." فهذه الآية منقولة من سفر الخروج ٢١:‏٢٣-٢٥ ونصه "وَإِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْساً بِنَفْسٍ، وَعَيْناً بِعَيْنٍ، وَسِنّاً بِسِنٍّ، وَيَداً بِيَدٍ، وَرِجْلاً بِرِجْلٍ .. الخ."

وفي سورة الأنبياء ٢١:‏١٠٥ قوله "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ" كتاب داود "مِنْ بَعْدِ الذكْرِ" أي التوراة "أَنَّ الأرْضَ" أرض الجنة أو الأرض المقدسة "يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُونَ" عامة المؤمنين." ملخصاً من البيضاوي. فهذه الآية مقتبسة من مزمور ٣٧:‏٢٩ ونصه "الصدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الأبَدِ."

وفي سورة الأعراف آية ٣٩ قال "إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ." فهذه الآية مقتبسة من الإنجيل كما في بشارة متى ١٩:‏٢٤ قال "وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ." وفي بشارة مرقس ١٠:‏٢٥  لفظ العدد بعينه وفي بشارة لوقا ١٨:‏٢٥ قال "لأنَّ دُخُولَ جَمَلٍ.." إلى آخر العدد بلفظه.

فهذه الاقتباسات الثلاثة، أحدها من التوراة، وثانيها من الزبور، وثالثها من الإنجيل هي برهان جلي بأن الكتب المنزَلة التي كانت بأيدي اليهود والنصارى هي التي بأيدينا الآن، وتُسمى بالأسماء التي كانت بعينها. ومثال ذلك إذا ما اقتبسنا أبياتاً من مثنوي جلال الدين الرومي أو من الديوان المنسوب لعلي ابن أبي طالب أو من كتاب آخر مشهور، فمن أول نظرة من القارئ الخبير يحكم حكماً قطعياً بأن هذه المصنفات موجودة في وقتنا الحاضر. كذلك كان ينبغي لعلماء القرآن المنصفين أن يحكموا بأن الآيات التي اقتبسها من الكتاب المقدس تدل على أنه كان موجوداً في زمن محمد، بل الآيتان المقتبستان من التوراة والزبور في قوله وكتبنا لهم فيها أي التوراة وقوله ولقد كتبنا في الزبور فيهما برهان صريح أن هذين السفرين كانا موجودين حينئذ كما هما الآن.

عدا ذلك أن كثيراً من القصص الواردة في القرآن وردت في الكتاب المقدس. ومن أمثال ذلك قصة يوسف (سورة يوسف) وقد تكون في القرآن مغيرة عن الأصل تغييراً يطابق التقاليد اليهودية المتأخرة أكثر من آيات التوراة المتقدمة، كما شرحنا ذلك في كتاب تنوير الأفهام في مصادر الإسلام وكذلك يشتمل القرآن على مقتبسات كثيرة جداً من أسفار الكتاب المقدس لا يمكن تعليلها ولا فهمها إلا بمراجعة الأصل، فنقتصر على ذكر واحدة منها. ورد في سورة آل عمران ٣:‏٩٣ اسم إسرائيل بدل يعقوب وأنه حرم على نفسه طعاماً، فمن المستحيل أننا نقدر أن نفهم لماذا أبدل اسم يعقوب بإسرائيل، وما هو نوع الطعام الذي حرمه على نفسه إلا بمراجعة التوراة. اُنظر سفر التكوين ٣٢:‏٢٢-٣١ حيث تجد ذلك مشروحاً شرحاً وافياً.

وورد في الأحاديث المحمدية فقرات منقولة عن الكتاب المقدس. من أمثال ذلك ما ورد في كتاب - مشكاة المصابيح ص٤٨٧ من طبعة سنة ١٢٩٧هـ الباب الأول والفصل الأول في كلامه عن وصف الجنة وأهلها - قال رسول الله: "قال الله تعالى أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.." فلا يشك أحد أن هذا الحديث منقول من الرسالة الأولى لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس ٢:‏٩. ومما هو جدير بالملاحظة هنا أنه بينما يقرر محمد أن هذا الوصف من كلام الله ينكر كثيرون من علماء الإسلام أن بولس رسولٌ، وأن رسائله موحى بها من الله.

ينقسم الكتاب المقدس في الغالب إلى قسمين العهد القديم ويتضمن الأسفار المقدسة القانونية عند الأمة اليهودية، وكُتبت في الأصل باللغة العبرانية، ما عدا القليل منها فإنه كتب باللغة الآرامية. والعهد الجديد وقد كُتب باللغة اليونانية، أما اليهود فلا يؤمنون إلا بواحد منهما أما نحن المسيحيين فنؤمن بالعهدين كليهما. ولكن القرآن يشير إلى الأسفار المقدسة جميعها بكتاب واحد هو الكتاب المقدس مع أنه يذكر له ثلاثة أقسام وهي التوراة والزبور والإنجيل.

ويقسم اليهود أسفارهم أو كتبهم إلى ثلاثة أقسام وهي الناموس والأنبياء والمزامير، كما يظهر من بشارة لوقا ٢٤:‏٤٤. وهذا التقسيم يرجع عهده إلى سنة ١٣٠ قبل المسيح ٢، وفي الوقت الحاضر يسمي اليهود القسم الثالث الصحف، ولأنها تبتدئ بالمزامير يدعوها القرآن والإنجيل "الزبور". ويدعو القرآن القسم الأول توراة هي معدولة من الكلمة العبرانية مع تغيير طفيف في اللفظ. وقد يطلق المسلمون هذا الاسم على الكتاب المقدس كله لأنه يبتدئ بالتوراة. وكثيراً ما يشير القرآن إلى أنبياء العهد القديم ويعلق على الإيمان بهم أهمية  عظيمة،  ومن  ذلك قوله  في  سورة  البقرة ٢:‏١٣٦ "قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون" وجاء مثل ذلك في سورة آل عمران ٣:‏٨٤. من هنا يظهر جلياً أن القرآن يتفق مع الإنجيل في الشهادة بأن كل أسفار الكتاب في تلك الأقسام الثلاثة موحى بها.

وقد يطلق أيضاً المسيحيون اسم الإنجيل على كل أسفار العهد الجديد كما يطلقه عليها القرآن، ومن أسباب ذلك أن العهد الجديد يبتدئ بالبشائر الأربع، ومنها أن الإنجيل معناه خبر سار أو بشارة، وهذا الخبر السار خلاصة العهد الجديد من أوله إلى آخره، فسُمي به، وذلك واضح من بشارة مرقس ١٣:‏١٠  حيث يقول "وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ" ومن مواضع أخرى كثيرة.

وكان العهد الجديد (أي الإنجيل) منتشراً في عصر محمد في قسم عظيم من العالم بين الشعوب المسيحية، لذلك لم يقتبس منه القرآن فقط آية موجودة في ثلاثة من أقسامه (بشائره) أي ( بشارة متى ١٩:‏٢٤  وبشارة مرقس ١٠:‏٢٥ وبشارة لوقا ١٨:‏٢٥) كما ورد في سورة الأعراف آية ٣٩ بل اقتبس منه أيضاً محمد نفسه كما تقدم ذكره. وعلى هذا ينبغي لكل ذي عقل سليم خال من التعصب الذميم أن يعترف بأن القرآن يشير إلى الكتاب المقدس بأنه كتاب منتشر في عصره وموحى به من الله تعالى.

وعدا ما تقدم لا يفتأ القرآن يذكر الكتاب المقدس بالاحترام والتعظيم ويلقّبه بأعظم الألقاب، مثل قوله كلام الله (سورة البقرة ٢:‏٧٥) ويسميه  بها  "الفرقان"  آية ٥٣  "وضياء وذكرى للمتقين" (سورة الأنبياء ٢١:‏٤٨) "وكتاب الله" (سورة  البقرة  ٢:‏١٠١). وفي البيضاوي وكتاب أسباب النزول يشير إلى مقام الكتاب المقدس في تفسير آية ٢٣ من سورة آل عمران بأن محمداً طلب من اليهود التوراة لتكون حكماً بينه وبينهم. وفوق ذلك يفيد القرآن أن نوع الوحي الذي أُوحي به إلى محمد كالذي أوحي به إلى الأنبياء المتقدمين، كما يدل على ذلك قوله "قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ" (سورة آل عمران ٣:‏٧٣) وقوله "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ." (سورة النساء ٤:‏١٦٢) وقوله "كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (سورة الشورى ٤٢:‏٣). مما ذكر نعلم أن التنزيل المنسوب إلى القرآن يجب أن ينسب إلى الأسفار المتقدمة عليه حيث أن من أول البديهيات المسلم بها في علم أصول الهندسة هو أنه إذا ساوى شيئان ثالثاً فهما متساويان لبعضهم لا محالة فأسفار العهدين منزلة من عند الله بنفس التنزيل الذي ينسبه القرآن لنفسه، وعليه فالقرآن يأمر أتباعه أن يعترفوا بالأسفار المتقدمة عليه كما يعترفون به بلا أقل تمييز، وهم مأمورون أيضاً أن يعتقدوا بأن القرآن نزل مصدِّقا لكتاب اليهود والنصارى، ومن أمثال ذلك ما ورد في سورة آل عمران ٣:‏٣ "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ." ولزيادة التوكيد على أن التوراة والإنجيل موحى بهما جاء في القرآن تهديد صارم لمن يكفر بهما أو يظن بهما الظنون، ومن ذلك قوله "الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ." (سورة المؤمن آية ٧٠). والبيضاوي في تفسيره لهذه الآية يفسر قوله الكتاب بالقرآن أو الكتب السماوية على العموم ويفسر قوله وما أرسلنا به رسلنا بسائر الكتب أو الوحي والشرائع وبمقتضى هذا التفسير على افتراض أن المقصود هنا بالكتاب ليس الكتاب المستعمل في قوله يا أهل الكتاب بل هو القرآن، تكون الكتب السماوية الأخرى هي أسفار العهد القديم والجديد لا محالة.

ويشهد القرآن أن أسفار العهد القديم تتفق مع أسفار العهد الجديد في المسائل العمومية، ومن ذلك قوله "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" - سورة المائدة ٤٩.

والخلاصة لما تقدم حيث أننا انتهينا من هذا الفصل نلحقه بالمواد الآتية: (أولاً) ان أسفار العهد القديم والجديد، أي التوراة والزبور وأسفار الأنبياء، والإنجيل ورسائل رسل المسيح كانت جميعها منتشرة في عصر صاحب القرآن بين اليهود والنصارى. (ثانياً) يقرر القرآن أن هذه الأسفار موحى بها من الله، أي منزلة من عنده تعالى. (ثالثاً) بينما يعظّم القرآن نفسه إلى أعلى درجات التعظيم، فإنه يساوي بين نفسه وبين الأسفار المقدسة المتقدمة عليه. (رابعاً) يسمّي القرآن الكتاب المقدس "كتاب الله وكلام الله والفرقان والذكر ونوراً وهدى ورحمة .. الخ." (خامساً) يأمر القرآن محمداً أو المسلمين أن يرجعوا إلى الكتاب المقدس في تحقيق ما يرتابون فيه من أصول دينهم ويحرضون النصارى واليهود أن يفعلوا مثل ذلك. (سادساً) يشير القرآن على اليهود أن يتخذوا التوراة حكَمَاً فيما هم فيه يختلفون. (سابعاً) يأمر القرآن المسلمين أن يشهدوا أنهم مؤمنون بالكتاب المقدس كما هم مؤمنون بقرآنهم. (ثامناً) إن الذين لا يؤمنون بالكتاب المقدس لهم عذاب عظيم في الآخرة كما لو لم يؤمنوا بالقرآن.


١. يجدر بالقارئ الكريم أن يقتني نسخة من كتاب خلاصة الأدلة السنية على صدق الديانة المسيحية المطبوع في بيروت سنة ١٨٧٧

٢. انظر مقدمة يشوع بن سيراخ لمجموعة امثال جده

الفصل الثاني

الكتاب المقدس لم يُنسَخ ولا يمكن أن يُنسخ لا في حقائقه ولا في عقائده ولا في مبادئه الأدبية

برج القاهرة
برج القاهرة

تبيّن من البراهين التي قدمناها في الفصل السابق أنه ينبغي للمسلمين الخاضعين لأوامر القرآن أن يدرسوا كتاب الله أي أسفار العهدين القديم والجديد ويحترموه ويطيعوه.

غير أن بعضهم لا يسلم معنا بهذه النتيجة استناداً على دعواهم­­­­­­­­­­: (١) إن الكتاب المقدس نُسخ (٢) أن الأسفار المقدسة المتداولة اليوم ليست هي الأسفار التي ذكرها القرآن وشهد لها (٣) وبعضهم يقول ربما تكون هي بعينها، إلا أنه اعتراها التحريف والتبديل ولعبت بها يد الأغراض حتى لم تعد تستحق الكرامة ولا العناية المعطاة لها في القرآن. فغرضنا من الفصول الآتية البحث في هذه الاعتراضات لنرى صحتها من عدمه، ولنبدأ في هذا الفصل بالبحث عما إذا كان الكتاب المقدس نُسخ حقيقةً كما يزعمون أم لا. نقول إن كانت هذه الاعتراضات في محلها تسقط حجتنا التي قدمناها في الفصل الأول، غير أنه بهذا يضعف نفوذ القرآن كما لا يخفى على اللبيب.

ولنسلم هنا أن بعض علماء الإسلام يحاولون أن يثبتوا صحة وقوع النسخ على الكتاب المقدس، كالبيضاوي مثلاً، فإنه يقول في تفسيره على قوله "وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ" (سورة التوبة ٣٠) أي الدين الذي ينسخ سائر الأديان ويبطل مفعولها اعتقاداً وعملاً. ثم ورد في كتاب عيون أخبار الرضا فصل ٣٦ قوله: "كل نبي كان في أيام موسى وبعده كان على منهاج موسى وشريعته وتابعا لكتابه إلى زمن عيسى، وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعا لكتابه، إلى زمن نبينا محمد وشريعة محمد لا تُنسخ إلى يوم القيامة."

وورد في كتاب هداية الطالبين إلى أصول الدين للمولوي محمد تقي الكاشاني الفارسي ما ترجمته إلى العربية "إن علماء الإسلام قرروا أن محمداً نبي هذا الزمان، ودينه ناسخ لأديان الأنبياء السابقين." (أنظر ص ١٦٦).

ورداً على ذلك نقول إن مسألة النسخ وإن كانت مقبولة عند العامة وكثيرين من الخاصة، غير أنه يجب أن نلاحظ أن القرآن لم يشر إليها بكلمة واحدة، ولا أشار إليها الحديث عند السنيين ولا الشيعيين. وبالإجمال أن هذه المسألة تشوِّش تعليم القرآن وتقلبه رأساً على عقب.

إن نسخ بمعنى أُزيل أو أُبطل لم يرد  في القرآن  إلا  في  موضعين  اثنين:  الأول سورة البقرة ٢:‏١٠٦ وهو قوله "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهاَ"، والثاني سورة الحج ٢٢:‏٥٢ وهو قوله "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِه"ِ. فلا توجد في الموضع الأول ولا الموضع الثاني أقل إشارة تدل على أن القرآن ناسخ للكتاب المقدس، بل هو ناسخ لنفسه في بعض أجزائه، حتى أن بعضهم عدد الآيات المنسوخة من القرآن فبلغت مائتين وخمساً وعشرين آية.

ويخبرنا البيضاوي بأنه توجد قراءات مختلفة لآية سورة البقرة ١٠٦، لكن لدى التأمل نجد أن تلك القراءات واحدة في المعنى، ولا يمكن أن يطلق عليها معنى النسخ الذي هو الإزالة أو الإبطال، فالإشارة إذاً إلى نسخ القرآن نفسه في بعض أجزائه.

وإليك مثالاً مشهوراً ذكره البيضاوي في تفسيره النَّسخ المشار إليه في سورة الحج، حيث يبيّن كيف نسخ الله بعض الكلمات من سورة النجم، وهي قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لتُرتجى. وملخص الخبر أنه بينما كان محمد يتلقى الوحي من جبريل ألقى الشيطان على لسانه تلك الكلمات ليستهويه إلى عبادة اللات والعزى ومناة، فقالها كأنه موحى بها من الله، ثم بعد ذلك نسخها الله. وروى هذه القصة يحيى وجلال الدين في تفسيرهما على النَّسخ الوارد في سورة الحج، ورواها ابن هشام عن ابن اسحق في سيرته، وقد ذكرت أيضاً في المواهب اللدنية وذكرها الطبري. وفي هذا القدر كفاية لإقامة الدليل على أن النسخ المعبَّر عنه بقوله فينسخ الله الوارد في سورة الحج هو ما تكلمنا عنه. ومع أن الدعوى بأن الزبور ناسخ للتوراة والإنجيل ناسخ للزبور دعوى باطلة ليس لها أساس في القرآن ولا في الحديث البتة، وقد راجت بين عوام المسلمين رواجاً عظيماً، ولا بأس أن نورد شهادة بعض العلماء المعتبرين في هذا الصدد.

قال الحاج رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق "إن القول بنسخ التوراة بنزول الزبور ونسخ الزبور بظهور الإنجيل بهتان لا أثر له في القرآن ولا في التفاسير، بل لا أثر له في كتاب من الكتب المعتبرة لأهل الإسلام - والزبور عندنا ليس بناسخ للتوراة ولا بمنسوخ من الإنجيل، وكان داود عليه السلام على شريعة موسى عليه السلام، وكان الزبور أدعية." فهذا العالِم ينكر النسخ على هذه الكيفية. وقد صدق في ما قال لأنه لا يقول بالنسخ أحد إلا إذا كان جاهلا للقرآن وللكتاب المقدس كما سنبينه. اقرأ الكتاب المقدس بتأمل وخشوع حتى تقف على مشتملاته الجوهرية، وحينئذ ترى بمزيد من الوضوح أن تعليم أسفار العهدين القديم والجديد واحد، وأنها سائرة على نظام واحد، ووجهتها واحدة مستدرجة في إعلان مقاصد الله الأزلية لبني الإنسان.

ففي أسفار العهد القديم نتعلم كيف خلق الله الإنسان، ثم كيف دخلت الخطية إلى العالم، ويتلو ذلك الوعد الإلهي بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية، وبعد ذلك بمئات السنين نجد أن العالم القديم قد ضل عن عبادة الله ووقع في عبادة الأوثان والرذيلة، وفي ذلك الوقت دعا الله إبراهيم من وسط قومه وأوثق معه ميثاقاً بأن المخلّص من موت الخطية الذي وعد به الجنس البشري يكون من ذرية ابنه الشرعي إسحاق. ثم نجد بعد ذلك أن الله يجدد الميثاق المشار إليه مع إسحاق، فيعقوب، وينبّئهم بأنهم سينزلون إلى مصر، ثم ينجلون عنها إلى أرض كنعان للغاية التي دعاهم إليها.

ثم نزلت التوراة على موسى وقد شملت على هذه المواعيد وزادت عليها مواعيد جديدة تستحق الاعتبار، ثم توالى الأنبياء جيلاً بعد جيل وأتوا بأقوال لا تخرج عن المعاني التي أتى بها موسى، بل غاية ما في الأمر زادتها وضوحاً وبياناً من جهة أن الإنسان خاطئ ولا بد له من مخلّص، ثم أخذوا من وقت إلى آخر يبسطون كلامهم عن ذلك المخلص، فأنبأوا عن أعماله العجيبة، والبلدة التي يولد فيها، وعن آلامه وموته. أما الإنجيل فيخبرنا عن بعض وقائع المخلّص وأعماله التي جاءت موضحة ومتممة لنبوات التوراة والمزامير وكل أسفار العهد القديم.

ثم يخبرنا كيف بعث ذلك المخلّص رسله إلى العالم أجمع وأمرهم أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، وبعد ذلك كيف ينتظرونه حتى يأتي مرة ثانية على سحاب السماء كما وعدهم ليدين الأحياء والأموات، ويعتق الأرض من عبودية الفساد، ويملك إلى الأبد.

وأما أسفار أعمال الرسل ورسائلهم، وهي الأجزاء المتممة لأسفار العهد الجديد، فتشرح لنا كيف ابتدأ الرسل بالكرازة بالمسيح. وسفر الرؤيا، خاتمة أسفار العهد الجديد، ينبئنا عن الضيقة العظيمة التي سيقع فيها المؤمنون بالمسيح، ثم النصر العظيم الذي يتبعها.

هذه بالاختصار سلسلة حقائق العهدين من ابتداء سفر التكوين إلى نهاية سفر الرؤيا، فكأن الكتاب المقدس والحالة هذه يشبه عمارة عجيبة، أساسها التوراة والإنجيل ختامها، وكل منهما يظهر حكمة الله وعدالته ومحبته ورحمته الفائقة وأنه خالق كل الأشياء.

ففي توراة موسى يظهر قصد الله من حيث نعمته بكل وضوح، حتى أن الذين عرفوه حسبما هو مبيَّن فيها مالوا إليه وأحبوه وعبدوه وآمنوا به ووجدوا فيه ما يشبع أشواق نفوسهم الخالدة من السلام والسعادة الحقيقية. وفي أسفار الأنبياء والمزامير تعلو هذه الأخبار إلى درجة أرفع من تلك لأنها تشرح لنا أن الله من البدء اختار بني إسرائيل وهذَّبهم شيئاً فشيئاً صابراً على غلاظة قلوبهم وشر أفعالهم وفشلهم في تأدية ما كلفهم به. وتشرح لنا مسألة أخرى هي من الأهمية بمكان وذلك أن بعض الرسوم الدينية ومناسك العبادة الخارجية ليست مقصودة في حد ذاتها، ولكنها خصّت ببني إسرائيل ليستعملوها مؤقتاً توصُّلاً إلى قصد معلوم وهو (أولاً) إيجاد فاصل مميز بين اليهود والأمم إلى أن يأتي المخلّص الموعود به (ثانياً) لتعليمهم بأن تلك الطقوس وإن كانت مؤيَّدة بأوامر إلهية، فليست إلا رموز لحقائق روحية، لأن العبادة المقبولة عند الله لا تقوم بشكلها الظاهر فقط، بل بالحالة التي يكون عليها قلب العابد حيث قال المسيح: "اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" - يوحنا ٤:‏٢٤ ومما يدل على أن تلك الطقوس ليست مقصودة لذاتها ما قاله صموئيل النبي "هَلْ مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِالمُحْرَقَاتِ وَالذبَائِحِ كَمَا بِاسْتِمَاعِ صَوْتِ الرَّبِّ؟ هُوَذَا الاِسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذبِيحَةِ وَالإصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكبَاشِ" -  صموئيل الأول ١٥:‏٢٢. وورد في سفر ميخا النبي أن ملكاً يُسمى بالاق سأل: "بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى الرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإلَهِ الْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ؟ بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكبَاشِ؟ بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي؟ ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟ فجاءه الجواب من قبل النبي مصرحاً بعدم فائدة الشعائر التي عدَّدها في سؤاله ما لم تكن مقرونة بتكريس الحياة والقلب لله وهاك نص الجواب: "قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلا أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ" - ميخا ٦:‏٦-٨.

والسيد المسيح يوافق على هذا التعليم كل الموافقة بأن صرح بأقوال مشابهة، وهاك ما قاله: "تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، للأنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" يوحنا ٤:‏٢٣ و٢٤. ولما أعلنت هذه الأسرار الروحية والتعاليم الراقية وقدمت الكفارة عن خطايا العالم أجمع (انظر يوحنا الأولى ٢:‏٢) ودرّب المسيح الحواريين وأرسلهم ليكرزوا ويبشروا بالإنجيل في كل أقطار المسكونة ويعرضوا على بني آدم هبة الله المجانية وهي الحياة الأبدية (انظر رومية ٦:‏٢٣) معطياً لهم قدرة ومعونة حتى يقيموهم من قبور خطاياهم إلى حياة البر والفضيلة ويملأوا الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر -  إشعياء ١١:‏٩. ولما تم كل هذا آن الآوان الذي ينبغي فيه حل رموز تلك العبادة القائمة بالذبائح والبخور والغسل إلى غير ذلك مما هو مذكور بالتفصيل في التوراة بالعبادة الروحية التي كانت ترمز إليها تلك الرسوم الظاهرة. ولولا العبادة الروحية لكانت تلك الرسوم خالية من الفائدة. وإذا جاء الصريح استُغني عن الرمز كما يُستغنى عن القشرة بعد نضوج الحبة. وإلى هذا المعنى أشار إرميا النبي فقال "هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً" -  إرميا ٣١:‏٣١-٣٣. ومن هذه الآيات أخذنا كلمة (العهد الجديد) وجعلناها اسما للإنجيل، وهو الجزء الثاني من الكتاب المقدس. ولاحظ كيف تتفق هذه الآيات مع قول المسيح الذي أشرنا إليه آنفاً في بشارة يوحنا ٤ :‏٢٣ و٢٤. فإنه يتبين أن كل الطقوس والشعائر اليهودية الوقتية  (أو كما يسميها بعضهم الشريعة الطقسية)  قد تمت تماماً في ملء روحانية العهد الجديد الذي نوى المسيح أن يعقده مع كل من يؤمن به من أية أمة كانت على الأرض. ومن أجل ذلك قال المسيح بهذا الصدد لامرأة من السامرة "يَا امْرَأَةُ صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ لا فِي هذَا الْجَبَلِ وَلا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأنَّ الْخَلاصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" - يوحنا ٤:‏٢١-٢٤.

ثم أن الجواب الذي أجابت به تلك المرأة المسيح يدل على أن مسألة إتمام العهد القديم بالعهد الجديد، أو بعبارة أخرى إيضاح العبادة الطقسية بالعبادة الروحية، كان معروفاً ومنتظر ليس فقط عند اليهود  الأتقياء (انظر بشارة  لوقا ٢:‏٢٩) بل  وعند المحققين  من  السامريين (انظر  بشارة  يوحنا ٤:‏٢١-٢٣). واقتبس أحد الحواريين مقالة إرميا التي ذكرناها آنفاً في هذا الصدد، وبيّن أن ذكر العهد الجديد الذي بشر به إرميا يدل على أن يهود عصره كانوا يعتقدون بأن الطقس الموسوي شاخ وهرم وقارب على الاضمحلال واحتاج الحال إلى العهد الجديد (انظر رسالة العبرانيين ٨:‏١٣) الذي لا يبطل التوراة بل يكشف الحجاب عن حقائقها (انظر إنجيل متى ٥:‏١٧ و١٨) واعلم أن الحق بحسب جوهره ثابت ودائم غير قابل للتبديل أو النسخ، فالحقائق التي وردت في العهد القديم يجب أن تبقى حقاً إلى ما لا نهاية. ولا يُقال إن العهد الجديد نسخها، بل يُقال إنه شرحها وأبرزها في شكلها الروحي الذي يلائم الناس في كل زمان ومكان.

العهد القديم كان بين الله وبني إسرائيل فقط، ومدته انتهت بمجيء المسيح وتأسيس ملكوته. أما العهد الجديد الذي تنبأ به إرميا النبي فعهد بين الله والمؤمنين بالمسيح سواء كانوا من بني إسرائيل أو من الأمم فهذا العهد الأخير أعم وأهم من الأول، لأن الأول كان قائماً على فرائض وطقوس ورسوم تدرِّب بني إسرائيل فقط على إدراك الحقائق الروحية تدريجياً استعداداً لأن يكونوا تلاميذ للمسيح وأساتذة العالم أجمع. فالعهد الأول والحالة هذه يشبه بذرة محصورة في دائرة ضيقة، وأما العهد الجديد فيشبه شجرة متأصلة نامية شاغلة مكاناً متسعاً. فكأن بذرة العهد القديم أنبتت شجرة العهد الجديد، والاثنان واحد جوهراً وإن اختلفا ظاهراً.

وحيث كان الأمر كذلك فمن الخطأ المعيب أن يُقال أن العهد القديم منسوخ والعهد الجديد ناسخ، ولعل الذين قالوا هذا القول لاحظوا الطقوس والفرائض التي خصّت ببني إسرائيل وأُهملت من جانب المسيحيين فنجيب عن ذلك أن تلك الطقوس الإسرائيلية هي بذاتها أنتجت العبادات الروحية للمسيحيين. كما تنتج البذرة شجرة تُرى كأنها شيء جديد، والحقيقة هي أنها البذرة بعينها إنما أخذت شكلاً آخر تبع الناموس للنمو والارتقاء، فلا يصحّ أن يُقال إن الشجرة نسخت البذرة ومحت أثرها من صحيفة الوجود، بل أتمتها وأظهرت قوتها وإنتاجها بشكل محسوس.

ولا يبرح من ذهنك أن وصايا التوراة نوعان: طقسية وأدبية؛ والأولى كانت خاصة ببني إسرائيل، والكثير منها لم يكن مشروعاً إلا عندما أُوحي إلى موسى بالتوراة على جبل سيناء. ومن أجل ذلك لم يكن إبراهيم مكلفاً منها إلا بالختان. وهذه ملاحظة جديرة بالالتفات، لأنها تدل على أن نفوذ الوصايا الطقسية محصور ووقتي حتى أنه لم يشمل إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط وذريتهم إلى زمن موسى. فالغرض إذاً من هذه الوصايا الطقسية هو كما أسلفنا بيانه أمران: الأول، لأجل أن يعزل اليهود عن الأمم عزلة تامة صوناً لهم من السقوط في الوثنية التي كان لها السلطان الأعظم في تلك العصور المظلمة، واستدامت هذه العزلة إلى مجيء المسيح وتأسيس كنيسته على الأرض. والثاني، حتى يتعلّموا عملياً أن العبادات الظاهرة القائمة في المناسك وإن كانت موحى بها من الله ليست مقصودة لذاتها ولا تروي النفس المتعطشة إلى الله، بل غاية ما هنالك يرمز بها إلى حقائق روحية هي المقصودة بالذات كما شرحناها في غير هذا الموضع (قارن مزمور ٥١:‏١٦ و١٧) وبين ما تممه المسيح. فلم تكن تلك الوصايا مفروضة على الأمم، وقد ضعف تأثيرها على بني إسرائيل أنفسهم منذ قيامة المسيح من الأموات.

أما الوصايا الأدبية فهي أزلية أبدية، والناس ملتزمون بها في كل زمان ومكان، وإن كان أُوحي بها إلى موسى، إلا أن الالتزام بها من بدء الخليقة إلى منتهاها. فمن الوصايا الأدبية: لا تزن، لا تسرق، لا تقتل، لا تعبد الأصنام. فهذه الوصايا متعلقة بذات الله تعالى وطبيعته القدوسة؟ من أجل ذلك ينبغي أن تكون من الأزل إلى الأبد، ولا معنى للناسخ والمنسوخ في هذا المقام. فمن يزعم أن الإنجيل ينسخ التوراة هو على خطأ مبين وجهل مطبق وما الإنجيل بناسخ للتوراة بل مصدق وشارح لمعانيه ومرقٍ لرسومه من الجسديات إلى الروحيات. ولهذا السبب ورد في الإنجيل أقوال تفوق الحصر من التوراة في مواضيع مختلفة، مشروحة شرحاً وافياً ومدققاً. ولقد صدق القرآن حيث أفاد في وصفه الإنجيل بكونه مصدقا للتوراة كما جاء في سورة المائدة ٤٩ "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ". وليس بناسخ كما يزعم بعضهم.

ولنكرر القول هنا إن الوصايا الواردة في التوراة ولم يلتزم بها المسيحيون ما هي إلا وصايا طقسية، على أن الإنجيل لم ينسخها ولم يبطلها بل قد أكملها وبلغها إلى درجة رضوان الله الكامل. ومن أمثلة ذلك ما ورد في التوراة أن الله فرض على بني إسرائيل تقديم الذبائح الذي كان مستعملاً من بدء الخليقة عند كل الشعوب، وأمرهم أن يقدموها في أوقات معلومة ولغايات مختلفة، منها التكفير عن الخطايا. ولا يُعقل بداهة أن تقديم ذبائح الحيوانات يرفع خطايا البشر،  وقد لاحظ ذلك داود النبي فقال "لأنَّكَ لا تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلا فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لا تَرْضَى"  (مزمور ٥١:‏١٦) وقد كمل الإنجيل التوراة في هذا الموضوع حيث يقول:

"لأنَّ النامُوسَ، إِذْ لَهُ ظِلُّ الْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ لا نَفْسُ صُورَةِ الأشْيَاءِ لا يَقْدِرُ أَبَداً بِنَفْسِ الذبَائِحِ كُلَّ سَنَةٍ التي يُقَدِّمُونَهَا عَلَى الدَّوَامِ أَنْ يُكَمِّلَ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ. وَإِلا، َفَمَا زَالَتْ تُقَدَّمُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْخَادِمِينَ، وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً، لا يَكُونُ لَهُمْ أَيْضاً ضَمِيرُ خَطَايَا. لكِنْ فِيهَا كُلَّ سَنَةٍ ذِكْرُ خَطَايَا. لأنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا. لِذلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لمْ تُرِدْ، وَلكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا اَللّه. إِذْ يَقُولُ آنِفاً: إِنَّكَ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً وَمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُرِدْ وَلا سُرِرْتَ بِهَا. التي تُقَدَّمُ حَسَبَ النامُوسِ. ثُمَّ قَالَ: هَئَنَذَا أَجِيءُ لأفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ. يَنْزِعُ الأوَّلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ. فَبِهذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً." عبرانيين ١٠:‏١-١٠.

وان اشعياء النبي كشف لنا سلفاً عن المقصود من تلك الذبائح الحيوانية في إنبائه عن حمل الله (إشعياء ٥٣) الذي كان ناوياً على تقديمه من بدء الخليقة - رؤيا ١٣:‏٨.

وحيث أن هذا الذبح العظيم الذي كانت تشير إليه الذبائح الحيوانية قد تم تقديمه، فلا لزوم لتلك الذبائح الحيوانية بعده. أما المسيحيون فلا يقدمونها اكتفاء بذبيحة المسيح، ولا يقدمها اليهود لأنهم أُمروا في التوراة أن لا يقدموا ذبيحة إلا في أروشليم داخل أسوار هيكل سليمان، ومن المعلوم أن الهيكل خرب وزال من الوجود، وبُني على آثاره جامع عمر وهو باق إلى اليوم. ومع أن المسيحيين لا يقدمون ذبائح حيوانية لكنهم لا يزالون يقدمون ذبائح ذات شأن عظيم عند الله، وهي ذبائح نفوسهم، أي يضحّون بأجسادهم وأرواحهم ونفوسهم ليكونوا ذبائح حية مقدسة مرضية عند الله الحي الأزلي، وبهذا يتممون المعنى الروحي المقصود من المحرقات المفروضة في شريعة موسى. وأشار إلى هذه الذبائح الرسول بولس بقوله: "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلا تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ الصالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكامِلَةُ." رومية ١٢:‏١ و٢. ويشير إليها أيضاً بطرس الرسول بقوله "كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ." بطرس الأولى ٢:‏٥.

ثم مشروع في التوراة فريضة غسل الجسد، ولا شك أن الغرض من هذا هو (أولاً) تنظيف الجسد، فالله يحب أن تكون أجسادنا نظيفة وبصحة معتدلة حسب الحالة التي فُطرنا عليها، لأنه من المحتمل أن وساخة الجسد تدنس الروح (ثانياً) حتى يتعلم الإنسان بالاختبار أن تنظيف الجسد وغسله مراراً وتكرار لا يطهر القلب من الأهواء الفاسدة، ولا يخلي الذهن من الأفكار الدنسة، ولا يمنح النفس مغفرة عن خطاياها السالفة. وعليه تحتاج نفوسنا إلى القداسة التي بدونها لا يعاين أحد الرب وقد ثبت أن الغسل اليهودي عديم التأثير وبعبارة أخرى لا يمكن أن يقدس النفس، وما هو إلا ظل ورمز إلى غسل أجلّ وأسمى وهو الغسل الروحي السماوي الذي يمكن الحصول عليه بدم المسيح فقط الذي بالإيمان به نطهر من كل خطية. من أجل ذلك ينبغي للمسيحيين الحقيقيين أن يمتثلوا أمر الرسول الصادر في هذا الشأن حيث يقول "لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ." كورنثوس الثانية ٧ :‏١.  فتطهير الجسد والروح لازم لهما ولكن يجب أن نحاذر من أن نجعل تطهير الجسد علة لتطهير الروح.

ومشروع أيضاً في التوراة أن الذبائح يجب أن تُقدَّم في مكان معلوم (انظر التثنية ١٢:‏١٣) وهو المكان الذي يختاره الرب ليجعل عليه اسمه، وفي ذلك معنى رمزي  يشير إلى  مسكنه (انظر تثنية ١٢:‏٥) والمكان الأول الذي اختاره الرب لهذه الغاية كان شيلوه (انظر يشوع ١٨:‏١) ثم اختار أورشليم مع أن الملك سليمان صرح بأن الهيكل الذي بناه مسكنا للرب في أورشليم ليس بالحقيقة مسكن اله بل رمزاً وعلامة محسوسة على وجوده تعالى بين شعبه، ويدل على ذلك قوله "لأنَّهُ هَلْ يَسْكُنُ اللهُ حَقّاً عَلَى الأرْضِ هُوَذَا السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لا تَسَعُكَ، فَكَمْ بِالأَقَلِّ هذَا الْبَيْتُ الَّذِي بَنَيْتُ." ملوك الأول  ٨:‏ ٢٧ . وأيَّد النبي إشعياء كلام سليمان في هذه المسألة في قوله "لأنَّهُ هَكَذَا قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ الأبَدِ، الْقُدُّوسُ اسْمُهُ: فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ، لِأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ وَلِأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِينَ." إشعياء ٥٧:‏١٥. ثم صادق المسيح على هذا الفكر وأيده بأقوال كثيرة بما معناه لا ينبغي أن يُسجَد لله في مكان خاص، وأن العبادة الخالصة مقبولة عن الله بدون اعتبار المكان (يوحنا ٤:‏٢١-٢٤) وزاد هذا الاعتقاد تمكناً ورسوخاً بعد أن قدم المسيح نفسه ذبيحة خارج أسوار أورشليم مرة واحدة أغنتنا عن ألوف الذبائح والمحرقات. ومن ذلك الوقت فصاعداً لم يبق وجهٌ معقول لتخصيص بقعة من الأرض للعبادة ولنسبة القداسة والبركة إليها بنوع خصوصي.

فترى من هنا أن العهد الجديد ليس محصوراً بين أمة ولا في إقليم دون آخر، بل هو متسع لقبول من يؤمن بالمسيح من أية أمة وبلاد على وجه الأرض بحيث تمنح له حصته من بركات الله ومزايا الإيمان.

قد رأينا كفاية لعدم لزوم تخصيص مكان للعبادة أو تقديم الذبائح كما كان الحال في شيلوه وهيكل سليمان، ولكن الله خصص شخصاً حياً هيكلاً روحياً ليس بنياناً من طوب وطين، وفيه وحده تقبل العبادة وتقدم الذبائح الروحية التي أشرنا إليها آنفاً، وهذا الشخص هو يسوع المسيح، فعلى المسيحي الحقيقي أن يقدم نفسه لله ذبيحة حية مقدسة لا في مكان مخصص بل في شخص المسيح لكي يحوز باستحقاقه القبول والرضا عند الله. نرى مما تقدم أن شريعة الذبائح المفروضة في التوراة تمت في العهد الجديد، وارتفعت إلى اعتبار أكرم ومعنى أسمى وتم ذلك في الساعة التي استغنى فيها الحال عن حرفية هذه الشريعة ووضحت روحانيتها.

ثم فُرض في التوراة ثلاثة أعياد لليهود، وأُمر ذكورهم أن يصعدوا في كل عيد إلى المكان الذي اختاره الرب ليظهروا أمامه (خروج ٢٣:‏١٤ و١٧ وتثنية ١٦:‏١٦). غير أن اليهود على مرّ السنين والأزمان غالوا في الاعتبار الخارجي لهذه الأعياد وتجاوزوا الحد وظنوا أنهم بذلك يحرزون رضا الله والتقرُّب إليه وإن كانوا يهملون التقوى الحقيقية فلهم في حفظ هذه الأعياد ما يكفر ذنوبهم. فغضب الله عليهم وكره أعيادهم وأرسل إليهم أنبياءه ببلاغ مخصوص في هذا المعنى. ومن ذلك قوله "رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي. صَارَتْ عَلَيَّ ثِقْلاً. مَلِلْتُ حِمْلَهَا. فَحِينَ تَبْسُطُونَ أَيْدِيكُمْ أَسْتُرُ عَيْنَيَّ عَنْكُمْ، وَإِنْ كَثَّرْتُمُ الصلاةَ لا أَسْمَعُ. أَيْدِيكُمْ مَلآنَةٌ دَماً اِغْتَسِلُوا تَنَقُّوا اعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ. تَعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ .. الخ" (إشعياء ١:‏١٤-١٧  وعاموس ٥:‏٢١). من هنا نرى أنه لا يحوز القبول لدى الله إلا للذين يتقدمون إليه بالروح والحق. وهذا ممكن في العهد الجديد بالإيمان الحي بكفارة المسيح. ويدل على ذلك قوله "وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الأعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ قَدْ صَالَحَكُمُ (المسيح) الآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالمَوْتِ لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلا لوْمٍ وَلا شَكْوَى أَمَامَهُ." كولوسي ١:‏٢٢. وقوله "فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى الأقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإيمَانِ مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ." عبرانيين ١٠:‏١٩- ٢٣.

وفُرض في التوراة الختان وجُعل علامة للعهد المأخوذ بين الله وهو الطرف الأول وبين إبراهيم ونسله وهو الطرف الثاني، ولكنه مشروط على الذين يتَّسمون بهذه العلامة أن يؤمنوا بوعد الله - أنه يتناسل من إبراهيم وإسحاق ويعقوب نسل تتبارك به جميع قبائل الأرض (تكوين ٢٧:‏١٠-١٤و١٨:‏١٨ و٢٢:‏١٨ و٢٦:‏٤). وكرر الله شريعة الختان على يد موسى النبي (لاويين ١٢:‏٣) على أن الغاية المقصودة منه هي تمييز اليهود عن الأمم، ولم يكن تحقيقها في ذلك الوقت لأن كثيراً من الأمم كانوا مختتنين، فلا بد أن يكون القصد منه والحالة هذه أن يتعلم اليهود أن يختنوا قلوبهم من الشهوات الحيوانية. والتوراة نفسها تؤيد هذا التأويل ومن ذلك قوله "فَاخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ." تثنية ١٠ :‏١٦. وفي مواضع أخرى يفسر ختن القلب بالحب الخالص لله حيث يقول "وَيَخْتِنُ الرَّبُّ إِلهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ لِكَيْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا." تثنية ٣٠:‏٦. وكذلك أسفار العهد الجديد تنسج على هذا المنوال (رومية ٢:‏٢٥ و٢٨ و٢٩).

ولما أكمل العهد القديم بالعهد الجديد عيَّن الله لهذا علامةً بدل الختان وهي فريضة المعمودية ويوسم بها من يؤمن بالمسيح من أية أمة كانت على وجه الأرض (بشارة متى ٢٨:‏١٩) وهذه العلامة الجديدة مناسبة للرجال والنساء والكبار والصغار، وأنها كالختان تعلّم نقاوة القلب. وحلَّ العماد محل الختان للتمييز بين المؤمنين بالمسيح وبين اليهود والأمم الذين يمارس كثير منهم الختان. وأما ما يشير إليه الختان وهو طهارة القلب والنية فتشير إليه المعمودية من باب أولى (كولوسي ٣:‏٥-١٧).

وفي العهد القديم فرائض أخرى كثيرة ضربنا عنها صفحاً مكتفين بالذي عددناه والمراد منها توجيه القلب إلى حقائق روحية واستيعابها، ومتى أدركناها لم تبق حاجة إلى ممارسة فرائضها المنظورة، بل تكون مضرَّة إذ يُخشى على الذين يستعملونها أن يتمسكوا بالعرض دون الجوهر كما فعل اليهود الذين تمسكوا بطقوس ورسوم تشير إلى المسيح ورفضوا المسيح نفسه وظنوا أنهم ناجحون بفضل هذا التمسك الباطل.

فمع هذا البيان الوافي لا ينبغي لذي فهم أن يرتاب في فساد دعوى نسخ الانجيل للتوراة. إذاً لم ينسخ الإنجيل التوراة بل أثبتها ورفع درجة طقوسها ورسومها من الشبح الذي لا يغني شيئا عن روحانية العبادة. وهذا ما عناه السيد المسيح بقوله: "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأنْقُضَ النامُوسَ أَوِ الأنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ لا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكلُّ" بشارة متى ٥:١٧ و١٨. هذه هي علاقة الإنجيل بالتوراة.

أما من جهة الوصايا الأخلاقية فقد ذكرنا أنها موافقة لإرادة الله وصفاته، فلا تقبل التغيير ولا النسخ، بل تبقى ثابتة إلى ما لا نهاية كما أن صفات الله ثابتة، فهي في العهد القديم عينها في العهد الجديد، إلا أنها مشروحة في الأخير شرحاً مدققاً وبالغة حد الكمال. ومن أمثلة ذلك أن القتل محرَّم في التوراة (خروج ٢٠:‏٣٠ وتثينة ٥:‏١٧)، أما المسيح فقد شرح القتل في الإنجيل بإحساسات الغضب التي إن لم تُخمَد أدَّت إلى القتل  المريع (بشارة متى ٥:‏٢١ و٢٢). ثم  أن  الزنا  محرم  في  التوراة (خروج ٢٠:‏١٤ وتثنية ٥:‏١٨). أما المسيح فيعتبر كل نظرة إلى النساء بشهوة هو زنا (بشارة متى ٥:‏٢٧ و٢٨)، وقال شارحاً الزنى ما معناه وإن كان موسى أباح الطلاق لليهود لقساوة قلوبهم، فهو يحرمه إلا لعلة الزنى، ويعتبر الطلاق بغير هذه العلة زنى وتسهيلاً للغير عليه أيضا (بشارة متى ٥:‏٣١ و٣٢).

وقد حرمت التوراة القَسَم بغير الله، وكذا حرمت النطق به كذباً أو باطلاً (خروج ٢٠:‏٧ ولاويين ١٩:‏١٢ وتثنية ٦:‏١١) فلما جاء المسيح وجد اليهود يستعملون الأقسام في كلامهم العادي، فنهاهم عن ذلك وأمرهم بترك القسم قطعياً من غير ضرورة، وأن يتكلموا بالصدق إيجاباً وسلباً:‏ نعم نعم لا لا .. (بشارة متى ٥:‏٢٣-٣٧).

وأمرت التوراة بني إسرائيل أن يحب كل منهم قريبه كنفسه (لاويين ١٩:‏١٨) وفسر علماؤهم القريب المذكور هنا بمن كان من أمتهم، وأما الغريب فيعتبر خارجٌ حدود هذه الوصية. ولهذا جرى لسانهم في اقتباسها بهذا المعنى أن يحبوا أمتهم ويبغضوا الأجانب. أما المسيح ففي شرحه هذه الوصية أوجب المحبة للقريب والغريب والعدو والصديق (بشارة متى ٥:‏٤٣-٤٨) وكان بنو إسرائيل في زمن موسى يصعب حتى على خيارهم أن يخمدوا ثورة غضبهم ويتحاشوا جريمة القتل مخافة من الله، كما وأنه كان يصعب عليهم حفظ الوصايا الأخرى الناهية عن السرقة والطمع والزنى. أما في زمن المسيح لعلهم كانوا أحسن حالاً وأطيب قلباً لطول عهدهم بالأنبياء والرسل وتأثير الروح القدس، حتى لم يعد يصعب عليهم حفظ هذه الوصايا وأمثالها، إلا مَن كان متوغلاً في الشر منهم.  ولهذا كان عليهم أن يرتقوا في معارج الفضيلة ويُكلَّفون بوصايا أخلاقية في منتهى الصلاح والكمال لم يحلم بها أفاضل أسلافهم. وفي ذلك الوقت جاء المسيح وفسر لهم الوصايا الأخلاقية الواردة في شريعة موسى بغاية الدقة حتى بلغت الكمال، ثم قرن تعليمه بالعمل في كل أيام حياته، وصار ممكناً بفضل قدرته المباركة ونعمة الله ومعونة الروح القدس أن يبلغ المؤمن بالمسيح حتى المحتقرون منهم إلى أعلى طبقات البر والصلاح ويسبقوا خيار بني إسرائيل في هذا المضمار.

فنهت شريعة موسى عن كل عمل شرير، وأما شريعة المسيح فلم تقف عند هذا الحد فقط بل تجاوزته إلى النهي عن الأفكار الشريرة. جاءت شريعة موسى بعبارة سلبية تعدّد ما نهى عنه الله، أما شريعة المسيح فأحاطت بالسلب والإيجاب، فكما نهت عن فعل الشر أمرت بفعل الخير. من أجل ذلك كان يقع تحت طائلة العقاب بموجب شريعة موسى كل من يعمل الشر، وأما بموجب شريعة المسيح فيقع تحت طائلة العقاب كل من لم يفعل الخير وإن كان بريئاً من فعل الشر. ومن أقوال المسيح في هذا المعنى مثل مشهور هو مثل السامري الصالح أوجب فيه المسيح دينونة كاهن ولاوي لم يسعفا رجلاً جريحاً بل تركاه  ومضيا (لوقا ١٠:‏٣٠-٣٧). ومنها مثل العبد الذي أخذ من سيده وزنة ولم يتاجر بها، بل صرّها في منديل وحفظها عنده، فأوجب عليه العقوبة مع أنه لم يختلس من المال درهماً واحداً، لكنه لم يربح فوقه، وذلك كناية عن عدم فعل الخير (لوقا ١٩:‏٢٠-٢٤).

نهت شريعة موسى بني إسرائيل عن أن يخالطوا الأمم حذراً من أن ينقادوا إلى عبادتهم الوثنية وفعلهم المنكر، وأما شريعة المسيح فلا تقف معنا عند حد السلامة من دين الوثنيين وأفعالهم، بل توجب علينا أن نبشرهم بالمسيح ونعلمهم معرفة الإله الحقيقي حتى نربحهم ونضمهم إلى صفوفنا. إلا أنه من بعض الوجوه يوجد فرق ضروري بين العهد القديم والجديد. الأول، علَّم الناس أنهم خطاة وذوي طبيعة خاطئة في نظر الله القدوس وأمرهم أن يلقوا رجاءهم على مخلّص آتٍ يولد من عذراء في بيت لحم ويقدم نفسه كفارة عن خطاياهم. وأما الفرق الثاني، فهو يبشر بأن المخلّص الموعود به قد جاء وقدَّم نفسه كفارة، ليس عن خطايا اليهود فقط بل عن خطايا العالم كله، ولم يبق عليهم إلا أن يؤمنوا به فيخلصون. ولكن هذا الفرق وحده هو تتميم في الزمان الثاني لما سبق به الوعد في الزمن الأول.

ربما يظهر للبعض أنه لمناسبة تقدم العالم في المدنية والحضارة فالدين الذي كان ملائماً للناس في زمن موسى لم يلائمهم في زمن المسيح إذ أنه عتق وشاخ. ومثل ذلك الدين الذي وضعه المسيح إذ مرَّ عليه ستمائة سنة خلق وقدم أيضاً ولم يعد يلائم العالم في عصر محمد، فولى الأدبار أيضاً وقام مقامه الإسلام.

فرداً على ذلك نقول (أولاً) بما أن الطقوس والرسوم الدينية هي رموز تشبيهية، فيجوز أن تهرم وتشيخ متى أتى المرموز إليه وعوضاً عما كانت مفيدة في زمن الرمز بها لا تكون مفيدة في العصور الأخرى بل ربما أضرّت. أما المبادئ الجوهرية للدين الحق فلا تقبل التغيير، ولا يؤثر عليها مرور القرون واختلاف العصور كالشريعة الأخلاقية، فإنها إن كانت حقاً وواجبة في زمن تبقى كذلك في كل الأزمان. فمبادئ شريعة موسى الأخلاقية كانت حقاً في زمن آدم وإبراهيم والمسيح، وهي حقٌّ في هذا الزمان، وتبقى حقاً إلى يوم القيامة بل إلى ما لا نهاية، لأن جوهر الدين الحق لا يقبل التغيير ولا يعجز عن التأثير (ثانياً) نقول إن كان العالم قد تقدم في المدنية والعلم يقتضي تقدمه في الدين أيضاً. ولو سلمنا جدلاً أن عصر محمد وجزيرة العرب مسقط رأسه كانا أكثر حضارة وأرقى مدنيّة من بلاد فلسطين ومن الأمة اليهودية في عصر المسيح، واقتضى تنزيل دين الإسلام مشايعا لهذه المدنية الباهرة، لكان من اللازم أن يكون الاسلام راقياً كرقي الديانة المسيحية على الأقل من حيث المبادئ الأخلاقية وروحانية العبادة والعتق من نير الطقوس اليهودية المتراكمة، فهل الإسلام راقٍ هذا الرقي من هذه الحيثيات؟ أم يرجع القهقرى إلى زمن موسى؟ إننا نترك الحكم لأهل الإنصاف والخبرة بالتوراة والإنجيل والقرآن (ثالثاً) نقول إن الطبيعة البشرية واحدة في كل العصور من حيث احتياجاتها وميولها والفساد المتسلط عليها، لذلك يحتاج البشر أجمعون إلى روح الله القدوس ليطهر قلوبهم من زمن مضى أو حاضر أو مستقبل. إلا أن ابن آدم يميل للخطية ويحتاج إلى يد تنتشله وتقرّبه إلى الله على الرغم من ميوله الطبيعية، وهذه اليد الناشلة لا يمكن الوصول إليها إلا إذا تفضل الله علينا وأحبنا أولاً فيكون هو البادئ بالصلح. نعم هذا هو الإنجيل بعينه، لأنه إعلان محبة الله للعالم الأثيم. قال الرسول يوحنا أحد الحواريين الاثني عشر نحبّه لأنه أحبنا أولاً ..(يوحنا الأولى ٤:‏١٩) فهذه الطريقة هي أرقى وأنجح وأفضل طريقة معقولة لاجتذاب الإنسان إلى الله ومصالحته مع خالقه ولا يقدر العقل البشري أن يتصوّر وسيلة دينية تحمل الإنسان على إنكار نفسه، والارتفاع في درجات الصلاح والتعبد لله مثل الإيمان بأن الله أحبنا أولاً وبذل ابنه من أجلنا.

ونزيد قائلين إن دعواهم بأن التوراة منسوخة دعوى منقوضة بأقوال الأنبياء والرسل الصريحة الدلالة بل بأقوال المسيح نفسه التي وردت ضمن أسفارهم. ومن ذلك قول إشعياء النبي مشيراً إلى أسفار العهد القديم "طبعاً يَبِسَ الْعُشْبُ، ذَبُلَ الزهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الأبَدِ" - إشعياء ٤٠:‏٨. ويؤيد المسيح هذه الحقيقة داحضاً وقوع النسخ على أسفار العهد القديم، ومثبتاً بقاء كلماتها إلى الأبد، أو على الأقل مدة وجود العالم ومن ذلك قوله: "اَلسَّمَاءُ  وَالأرْضُ تَزُولانِ وَلكنَّ كَلامِي لا يَزُولُ."  متى ٢٤:‏٣٥ ومرقس ١٣:‏٣١ ولوقا ٢١:‏٣٣.

ولعل معترضاً يقول إن المسيح قصد بقاء كلامه في تلك المواضع إلى زمن حصار أورشليم بواسطة جيش تيطس أي سنة ٧٠ للميلاد. فنجيب أن من يطالع هذه الإصحاحات الثلاثة ويلاحظ سياق الكلام فيها، يحكم لأول وهلة أن إشارة المسيح ليس إلى حصار أو خراب أورشليم، بل إلى منتهى العالم إلى يوم القيامة حين يأتي ثانية ليدين الأحياء والأموات (بشارة متى ٢٤:‏٣٠ و٣١ ومرقس ١٣:‏٢٦ و٢٧ ولوقا ٢١:‏٢٧ و٢٨)، لأنه لما أشار إلى الضيقات الهائلة التي ستحيق بالعالم في آخر الزمان وتغيُّر وجه الأرض كان من المناسب أن يطمئن المؤمنين به بأن كلامه يبقى ثابتاً ١   لا يتغير ولا يزول حتى يتمسكوا به في أوقات الشدائد.

ومما يدل على أن كلام المسيح باقيا الى القيامة قوله "مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كَلامِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكَلامُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأخِيرِ" (يوحنا ١٢:‏٤٨). وهذا الدليل من الصراحة بمكان بحيث لا يجهله أحد، لأنه إن كنا سنُدان في اليوم الأخير بموجب إنجيل المسيح فيقتضي أن يبقى بدون تبديل الى يوم الدين. وعدا ذلك أمرنا في الانجيل أمرا صريحا أنه إن جاءنا أعظم عظيم ولو ملاك من السماء وبشرنا بخلاف ما ورد في الانجيل وادعى بأنه مرسل من الله يكون ملعونا (رسالة بولس الرسول الى غلاطية ٨:١)، ولهذه الأسباب ابتعد المسيحيون الحقيقيون عن ضلالات الأنبياء الكذبة الذين ظهروا بعد المسيح وادعوا بأنهم هم المشار اليهم في الانجيل بالفارقليط مثل ماني الفارسي وغيره وكذلك لم يتوقعوا وحياً جديداً غير المتضمن في العهد الجديد.

ولا يبرح من بالك أن قصد المسيح من دوام كلامه وبقاء كل لفظة من ألفاظ العهد القديم والجديد على وضعها الأصلي شيئان مختلفان لأن قصد المسيح من دوام كلامه وكلام العهدين بقاء معانيهما لا ألفاظهما. فلا يجهل عالِم بأصول اللغة أن المعنى هو المراد لا الألفاظ التي هي آلة للتعبير. إذ قد توجد قراءات مختلفة لنسخ العهدين، كما توجد قراءات في القرآن وكل الكتب القديمة لكنها لا تغيّر المعنى، ولم تمس مبدأً من مبادئ الدين في العهدين.

ولقائل أن يقول يُؤخذ من كلام المسيح من حيث بقاء كلمة الله في العهد القديم والجديد بدون تبديل أنه لا يجوز تبديل الطقوس والرسوم الخارجية الواردة في التوراة، ولكنها تبدَّلت بالإنجيل. فنقول إننا أجبنا على هذا الاعتراض في ما تقدم بما فيه الكفاية، ولا بأس من تكرار الجواب بأن الطقوس والرسوم الخارجية الواردة في التوراة لم تبدّل بالحقيقة، بل تقدَّمت وتكمَّلت كما علّم  المسيح  نفسه (بشارة  متى ٥:‏١٧) ومن أمثلة ذلك أن المسيح أصلح كيفية الصيام مع أن أنبياء العهد القديم لم يأمروا به ولا نهوا عنه، بل غاية ما في الأمر أنه كان محترماً عند اليهود (بشارة متى ٦:‏١٦-١٨).

وقول بعضهم إن أمر المسيح الوارد في الإنجيل (بشارة متى ١٠:‏٥) وتصريحه في بشارة متى ١٥:‏٢٤ للبشارة المذكورة، منسوخان كلاهما بأمره الوارد في ختام هذه البشارة. فنجيب قائلين: إن الأوامر الوقتية يجب أن تكون وقتية، فمتى نُفِّذت تماماً انتهت. فلا يُقال إنها نُسخت، ولا أُبطلت. وإثبات ذلك ظاهر من معنى كلام السيد المسيح أنه لم يقصد حصر التلاميذ في بلاد فلسطين دائماً أبداً، لأنه له المجد هو نفسه لم يتجاوز حدود فلسطين إلا هذه المرة التي استدعته إلى القول المشار إليه، فلا يُعتبر عدم سفره نهياً صريحا للتلاميذ عن السفر دائماً، ولا أن رسالتهم مختصة في بني إسرائيل فقط.

ولنرجع الآن إلى الحقائق المذكورة في التوراة فنقول إنها أيضا لا تقبل النسخ. وإثبات ذلك سهل جداً، لأنه من البديهي لكل ذي فهم أن الحقيقة الواردة في الكتاب كواقعة حال يجب أن تكون صدقاً أو كذباً. أما كونها كذباً فلم يدَّعِ هذه الدعوى أحدُ من المسلمين، وأما كونها صدقاً فيستحيل نسخها كما هو مستحيل لأي حادث أن يُمحى من بطون التاريخ، ويُمحى أثره من صحيفة الوجود وفي هذا كفاية.

والآن وقد أتينا في هذا الفصل بمزيد الوضوح والجلاء بأن كل تعاليم العهد القديم والجديد الجوهرية لا تقبل التغيير ولا النسخ، لأنها تمثل للناس إرادة الله وصفاته وهي منزَّهة عن التغيير والتبديل في كل العصور والأزمان. وعليه فطريق الخلاص واحدة في كل الأجيال، وسيُدان الناس في اليوم الآخِر بموجب تعليم المسيح الذي رأى إبراهيم يومه بعين الإيمان وفرح به، وبالإيمان باسمه يخلُص كل إنسان، حتى الأنبياء والمرسلين.


١. وكذلك القرآن يثبت ان لا تغيير لكلمات الله (انظر سورة الأنعام آية ٣٤ و١١٥ وسورة يونس آية ٦٤ وسورة الكهف آية ٢٧)

الفصل الثالث

في أن أسفار العهد القديم والجديد المتداولة اليوم هي بعينها التي كانت بأيدي النصارى واليهود في عصر محمد ولها قد شهد القرآن

أبو الهول في الجيزة
أبو الهول في الجيزة

في هذا الفصل والذي يليه بحثان في غاية الأهمية (الأولى) هل أسفار العهدين المنتشرة اليوم هي بذاتها التي كانت في عصر محمد (والثاني) إن كانت هي بذاتها فهل اعتراها تحريف أو تبديل كثير أو قليل؟ وقبل البحث في هذا وذاك لنفرض أن الكتاب المقدس المتداول اليوم لم يكن هو بذاته الذي كان في عصر محمد، أو على الأقل اعتراه التحريف بحيث أصبح لا يوثق به، كما يزعم جهّال المسلمين. فإن كان الأمر هكذا فما أشقى بني آدم وما أنكد حظهم وأنحس طالعهم، لأن كلام الله الذي لا يقبل التغيير على حسب فهمنا، ونطقت به الأنبياء والرسل كما يصرح القرآن ويحتم على المسلمين أن يقروا ويعترفوا به قد تلاشى من الوجود أو تشوه بالباطل، فسقطت قيمته وما أشقى الجنس البشري بهذا المصاب العظيم! حتى القرآن طاش سهمه وخاب مسعاه، لأن الله أنزله مهيمناً ١ على الكتاب المقدس ليحفظه سالماً من أيدي الأغراض ولم يحفظه، إن هذا ليهدم ركنا عظيما من أركان الثقة بالقرآن. كيف لا وقد وكل الله إليه مأمورية فأهملها شر إهمال.

لكن هذه الدعوى باطلة والشكر لله، فإن كلمته التي في العهدين لم تتلاشَ ولا تحرَّفت، بل بقيت محفوظة بعنايته الضابطة لكل شيء كما يعترف القرآن ويهدي أتباعه إلى صراط مستقيم من هذه الحيثية.

ومن الغريب أننا نحن المسيحيين بواسطة تمسكنا بشهادة القرآن في حق الكتاب المقدس بالصحة والنزاهة ندافع عن القرآن نفسه من هجمات أغبياء المسلمين، الذين لو دروا أن الطعن في الكتاب المقدس طعن في قلب القرآن، لم يطعنوا.

ومن الشواهد على ذلك قول الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" الذي طبعه سنة ١٢٨٤ هجرية أن أحد علماء دلهي من أعمال الهند أفتى قائلاً "إن هذا المجموع المشتهر الآن بالعهد الجديد ليس بمسلم عندنا، وليس هذا هو الإنجيل الذي جاء ذكره في القرآن بل هو عندنا عبارة عن الكلام الذي أُنزل على عيسى" (ص ١٤٤ و١٤٥). وقد وقع رحمة الله في مثل هذا الخطأ الفاحش من شدة تعصبه، فقال ما معناه إن التوراة والإنجيل الأصليين فُقدا قبل رسالة محمد، والأسفار الموجودة اليوم لا مقام لها عندنا أكثر من كتب أقاصيص ملفقة من باطل وحق وإننا لا نعتبر أن الكتاب وُجد بحالة من الصحة والنقاوة حتى زمن الإسلام ثم دهمته مصيبة التحريف فأُتلف، بل نقول إنه فُقد كله قبل ذلك بزمن طويل.

ورداً على ذلك نقول إن رحمة الله لا يعني بالتوراة والإنجيل الأصليين ونفس الصورتين اللتين كتبهما موسى ورسل عيسى بأيديهم، لأنه إن كان يقصد ذلك يورط نفسه من جهة القرآن، لأن نسخته الأصلية ضاعت أيضاً. بل قصد الإنجيل والتوراة اللذين هما طبق الأصل. ودعواه بأنهما ضاعا باطلة، كما هو مسلَّم عند علماء الإسلام المحققين في كل العالم، وهذه من أفحش الغلطات التي سقط فيها رحمة الله، وإن مثله لا يُلتمس له عذر كما كان يُلتمس لأهل العصور المظلمة. أما وهو من أبناء هذا العصر الذي سطع فيه نور العلم والعرفان فيُؤاخذ بغلطته كل المؤاخذة. يبذل هذا الشيخ مجهوداً ليوهم بسطاء المسلمين أن التوراة الأصلية فُقدت عندما سبى بختنصر الملك أورشليم وهدم هيكل سليمان سنة ٥٨٧ قبل المسيح، ويقيم الدليل على ذلك من سفر مزمور يدعوه بعضهم "سيدراس الثاني" ويدعوه بعضهم الرابع، ويحاول أن يقنع المسلمين بأن سيدراس هذا إنما هو عزرا المسمى في القرآن عُزير، وأنه قد ألف كتاباً وادعى أنه هو التوراة الحقيقية الأصلية التي نزلت على موسى النبي. إلا أننا بمراجعة ذلك السفر الذي يشير إليه لا نجد ما يدل على صحة دعواه مطلقاً، بل ما يدحضها ويزيفها، فورد في أصحاح ١٤:‏٢١ و٢٢ بأن عزرا استدعى الكتبة إلى كتابة كل ما عُمل في العالم من البدء، كما هو مكتوب في أسفار الشريعة. فإذا صحَّ هذا السند فإنه يدل على أن عزرا كان من حَفَظة أسفار الوحي، فأملاها على الكتبة فكتبوها ودّونوها. فلا يُقال عن عزرا والحالة هذه إنه ألف كتاباً من عند نفسه وادعى بأنه التوراة. وجاء في تفسير البيضاوي لسورة التوبة ٩:‏٣٠ ما ينقض زعم رحمة الله ويؤيد بياننا. قال ما معناه عندما سبى بختنصر اليهود لم يبق أحد من حفظة الوحي، فبعث الله عزيراً من الأموات وقد مر عليه مئة سنة ميتاً، فأملى التوراة وجاءت طبق الأصل حتى تعجب منه اليهود. إن كانت هذه الرواية صحيحة فلا غرو أن يتعجب منها اليهود. إنما العجب كل العجب أن يوجد بين العقلاء من يصدق خرافة كهذه، فإنه لا سفر سيدراس الثاني ولا الرابع ذكر هذه السخريات، ومع ذلك يؤخذ من هذه المزاعم التي رواها البيضاوي في تفسيره ورحمة الله في إظهار الحق أن عزرا كان حافظ الأسفار الوحي لا مزوراً. ثم نقول مرة ثانية، إن كانت الرواية الواردة في سفر سيدراس الثاني صحيحة فلا يؤخذ منها أن التوراة انعدمت من الوجود بسبب حرق كل نسخها، كما أنه لا ينعدم القرآن إذا أُحرق، لأنه كان يوجد حفظة للتوراة كما يوجد حفظة للقرآن الذين في إمكانهم أن يدونوه في الكتب. ويحسن أن نقول عن سفر سيدراس إنه لا يوجد أحد من علماء اليهود أو المسيحيين اعتمده ونسبه إلى عزرا. ويظهر من مطالعة الجزء الأول منه أنه كُتب ما بين ٨١ و٨٦ ميلادية. ومن المعلوم أن عزرا كان قبل الميلاد بنحو خمسمائة سنة (انظر سفر سيدراس الثاني أصحاح ٢:‏٤٧ و٧:‏٢٨ و٢٩). وعليه تكون نسبة هذا السفر إلى عزرا منتحلة، وبالنتيجة يكون السفر مزوراً وأن اليهود الأولين لم يعدوه بين أسفارهم القانونية. إلا أنه في القرن الثالث للميلاد قبله بعضهم من الذين يجهلون اللغة العبرانية المكتوب بها، وإلا لما كانوا يقبلونه.

وإذ قد انتهينا من كلمتنا عن هذا السفر، وأقمنا الدليل بأن التوراة والأسفار الأخرى المقدسة التي أوحي بها إلى الأمة اليهودية لم تتلاش قط من الوجود، فنقول إن ثبت وجودها في حياة عزرا - أي بعد خراب الهيكل بأكثر من مائة عام - ثبت وجودها في زمن بختنصر. أما إنها كانت موجودة في زمن عزرا فالدليل عليه من نفس سفر عزرا المقبول لدى اليهود والنصارى أجمعين، فلقد ورد فيه قوله عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل - توراة سفر عزرا ٧:‏٦. (قارن بين هذا وبين ما ورد في سفر نحميا ص ٨). ثم جاء أيضاً في سفر عزرا أن شريعة الرب (أي التوراة) كانت في يده وقت صعوده من بابل إلى أورشليم، وعلى ذلك قول الملك أرتحششتا له "مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ مُرْسَلٌ مِنْ قِبَلِ الْمَلِكِ وَمُشِيرِيهِ السَّبْعَةِ لأجْلِ السُّؤَالِ عَنْ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ حَسَبَ شَرِيعَةِ إِلهِكَ التي بِيَدِكَ" (عزرا ٧:‏١٤). ومن هنا يظهر بمزيد الوضوح أن التوراة لم تتلاش في زمن بختنصر، وعندنا دليل آخر ورد في كتاب عبري يُدعى برقي أبهوث كُتب في القرن الثاني للميلاد ما معناه نزلت التوراة على موسى في جبل سيناء، واستودعها موسى إلى يشوع، وهذا سلمها إلى شيوخ إسرائيل، وهؤلاء سلموها إلى الأنبياء، وسلمها الأنبياء إلى السنهدريم "مجمع اليهود" الأعظم. ويُروى أن هذا المجمع كان مؤلفاً من علماء اليهود وبدأ بتأسيسه عزرا، وكان الغرض منه المحافظة على التوراة وتعليمها للشعب. وورد في التلمود - كتاب تقليد اليهود - أنه بعد السبي البابلي الذي نحن في صدده أعاد المجمع العظيم التوراة إلى مجدها وجلالها القديم، وأشار إلى ذلك كتاب برقي أبهوث بما معناه أن ذلك المجمع وضع ثلاثة وصايا كشعائر مقدسة الأولى، احترس في القضاء، الثانية علِّم كثيرين، الثالثة كن حصناً منيعا للتوراة. وهذه الوصية الأخيرة أوجبت على اليهود أن يبذلوا قصارى جهدهم في صيانة التوراة سالمة من كل ما يعرض لها، وقد قاموا بهذا المهمة خير قيام. وما من أمة بالغت في العناية بكتابها المقدس كما بالغت الأمة اليهودية بتوراتها، فقد أحصوا عدد كلماتها وحروفها. وأذكر هنا قولاً مأثوراً قاله أحد أكابر هذا المجمع يدل على مبلغ عنايتهم بالتوراة، وإلى أي حد رفعوا مقامها. ورد في برقي أبهوث قوله إن سمعان العادل (أحد خلفاء المجمع) كان يقول: العالم قائم على ثلاثة أعمدة التوراة والعبادة والعمل الصالح. بمثل هذا الاهتمام والتدقيق تداولت التوراة بين اليهود من السلف إلى الخلف جيلاً بعد جيل في لغتها الأصلية وهي العبرية والآرامية بكل اعتناء وتدقيق. ومن الأدلة المعتبرة على ما نحن بصدده تعدد قراءات التوراة، أي وجود اختلافات لفظية مع وحدة المعنى. أليس هذا برهاناً على أنه لم يكتبها شخص واحد، ولا كُتبت في عصر واحد. ثم أنه يوجد فيها ما يشبه التناقض في أخبار بعض الوقائع والمسائل التي ليس لها مساس في الجوهر، وهو بالحقيقة ليس بتناقض. فوجود شيء من هذا القبيل في أسفار التوراة مع سكوت اليهود عنه وعدم تجاسرهم على تسويته، لدليل قوي على تمسكهم بالمتون الأصلية واستحفاظهم عليها، مهما يكن من أمرها. وتظهر قوة هذا الدليل بأكثر وضوح من المثال الآتي نقلاً عن القرآن. ورد في سورة آل عمران ٣:‏٥٥ قوله "إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ."وورد في سورة النساء ٤:‏١٥٧ قوله "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" قد ارتاب بعضهم في كون الضمير الأخير عائد إلى المسيح، ولكن لا يمكن أن يرتاب في تصريح القرآن بموت المسيح الوارد في سورة مريم ١٩:‏٣٣ "وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا" فهذا كله يظهر أنه منقوض بما ورد في سورة النساء ٤:‏١٥٧ "وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُم" لأنه في المواضع الأولى يثبت موته وفي الموضع الأخير ينفيه. فوجود التناقض الظاهري في متن القرآن دليل معتبر على أن المسلمين لم يمسوه بسوء وإلا لكانوا من باب أولى أزالوا شبه التناقض هذا وخصوصاً في آية "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" إذ قُرئت قبل موتهم وهذه القراءة يزول معها الالتباس، فما كان أيسر عليهم أن يثبتوا القراءة الثانية محل الأولى لكنهم لم يفعلوا حرصاً على الأصل. هكذا يدل وجود شبه التناقض الواقع في أسفار التوراة على أمانة أهلها.

قد كتب بعض المؤلفين المسلمين جدولاً طويلاً من المناقضات الواردة في الكتاب المقدس وزعموا أنها مناقضات حقيقية، وهي تناقضات ظاهرية فقط كمثل التي نقلناها هنا عن القرآن، وقد وفق بين كثير منها العلماء المحققون والتي لم يهتدوا إلى التوفيق بينها فصعوبتها قائمة على عدم معرفتهم كل ظروفها. ووجود هذه الاختلافات في أسفار التوراة دليل على عظمة اعتناء اليهود بالمحافظة على الأصل لأنهم لم يتخذوا وسيلة لإزالة هذا الخلاف ويكفوا نفوسهم مؤونة احتجاجات المعارضين الذين لا يفتأون ينقبون في الكتاب، لا توصل المعرفة الله، بل ليظفروا باحتجاج جديد، ويُظهروا براعتهم للناس ومن جدَّ وجد في الخير كان أو في الشر وإن أغمض الرجل عينيه لا يُعدم نصيبا من التدهور في الهوة والشمس طالعة.

 ولنتأمل الآن باختصار فيما إذا كانت أسفار العهد القديم أولاً وأسفار العهد الجديد ثانياً، المتداولة اليوم، هي بذاتها التي كانت في زمن محمد، وإليها أشار القرآن فنقول:

إنه يوجد لدينا جملة جداول محصاة فيها أسفار العهد القديم يرجع تاريخها إلى ما قبل محمد، وهي موافقة لتوراة العصر الحاضر تمام الموافقة. قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي في تاريخه الذي كتبه سنة ٩٠ ميلادية لا يوجد بيننا معشر اليهود عشرات الألوف من الكتب المتناقضة، بل يوجد اثنان وعشرون سفراً نؤمن أنها موحى بها من الله محتوية على تاريخ كل العصور، منها خمسة أسفار ٢ لموسى وتشتمل على شريعة الله وتاريخ الجنس البشري من ابتداء العالم إلى موته، أي نحو ثلاثة آلاف سنة تقريباً. ومن ذلك الوقت إلى حكم الملك أرتزركسيس الذي خلف زركسيس مدون في ثلاثة ٣ عشر سفراً والأربعة ٤  الأسفار الباقية (المزامير والأمثال). والجامعة ونشيد الأنشاد، لتسبيح الله وتهذيب الأخلاق. وقدَّم لنا مجمع جامنيه الذي عُقد سنة ٩٠ ميلادية قائمة هذه الأسفار بعينها، وقرر مجمع لادوكية أنها اثنين وعشرين سفراً، ثم في القرون المتأخرة جزأوا بعض هذه الأسفار لسهولة المراجعة. ويمكننا أن نقدّر ونعين تاريخ التجزئة بالضبط. مثلاً في نسخة بطرسبرج التي كُتبت باللغة العبرية سنة ٩١٦ م لا تزال فيها الأسفار الصغار للأنبياء الاثني عشر ٥ متضمنة في كتاب كل سفر كان يعتبر أصحاحاً، محصية فيه أعداد الآيات. أما تقسيم كل من سفر صموئيل والملوك والأخبار إلى جزئين وفصل عزرا عن نحميا فقد تم لأول مرة في طبعة العهد القديم العبرية في البندقية سنة ١٥١٦ و١٥١٧ ميلادية. يقول يوسيفوس المؤرخ إن الكتب الأخرى التي لا يساوون بينها وبين الاثنين والعشرين سفراً القانونية في الوثوق بأقوالها وقد ترجموا الكل إلى اليونانية، ومع أن هذه الأسفار الغير القانونية كُتبت وتُرجمت من قبل المسيح بكل اعتناء وتدقيق، لم ينزلوها منزلة الأسفار القانونية ولا عدّوها معها. وتمت هذه الترجمة بين سنة ٢٤٧ و٢٨٥ قبل المسيح في مصر بناء على طلب بطليموس الثاني الملقب فيلادلفيوس. ويظن البعض أنها بين سنة ٢٠٠ و٢٥٠ قبل المسيح ويرجحون الرأي الثاني، وليس هذا ذا بال. وتُدعى هذه الترجمة بالسبعينية نسبة إلى عدد الذين ترجموها، فإنهم كانوا سبعين عالماً من علماء اليهود، وهي أقوم ترجمة للتوراة في الوجود.

ولنذكر بعد ذلك الترجمات الأخرى للعهد القديم لزيادة التأكيد بأن التوراة التي بأيدينا اليوم هي التي كانت في عصر محمد وقبله بقرون كثيرة، لأنه إن لم تكن موجودة حينئذ فمن أين أتت تلك الترجمات وعلى الخصوص الترجمة السبعينية، هذا ظاهر لأبسط الناس وعامتهم.

ثم الترجمة اليونانية التي تُرجمت بواسطة أكويلا التي تممها سنة ١٣٠ ميلادية وترجمها مرة أخرى رجل سامري اسمه سيماش، وفرغ منها سنة ٢١٨ ميلادية، ثم تُرجمت الى اللاتينية القديمة في القرن الثاني للميلاد نقلا عن الترجمة السبعينية. ثم ترجمها جيروم عن اللغة العبرية الى الطليانية وتسمى الترجمة اللاتينية وفرغ منها سنة ٤٠٥ م والترجمة السريانية لبشستا والمظنون أنها تُرجمت في آخر القرن الأول.

يقول يعقوب من أودسا إن التوراة تُرجمت أيضاً في حياة المسيح بناء على طلب ملك أودسا ابجار، ويظنون أن أول من أشار إلى الترجمة السريانية هو مليتس من أهالي ساردس في القرن الثاني، وينسبها آخرون إلى القرن الثالث. والترجمة السريانية الفيلكسية أتمها بوليكاربوس نحو سنة ٥٠٨ وهذبها وأصلحها توماس هرقل ٦١٦ م. وعليه كل الترجمات السريانية كانت موجودة من قبل عصر محمد، والترجمة الأخيرة من هذه اللغة بوشرت في نفس أيامه.

ولما احتمى أصحاب محمد ببلاد الحبشة قبل الهجرة رأوا أهل تلك البلاد يقرأون التوراة والإنجيل في لغتهم الحبشية. وبسبب قِدم تلك الترجمة كان من الصعب على الأحباش فهمها، والمظنون أنها تُرجمت في القرن الرابع للميلاد. وكذلك لما فتح عمرو مصر وجد الدين الغالب فيها النصرانية، ووجد الكتاب المقدس مترجماً إلى اللغة القبطية في اصطلاحات البلاد الثلاثة الصعيدي والبحيري والبشموري. وقد تُرجمت عن الترجمة السبعينية، ويظن بعضهم أنها تُرجمت في ما بين القرن الثالث والرابع، ويقول بعضهم بل قبل ذلك.

وتُرجم بعض أجزاء التوراة عن اللغة السريانية إلى الآرامية سنة ٤١١ م وعن الترجمة السبعينية سنة ٤٣٦ م. وبعد ذلك بنحو قرن تمت الترجمة المشهورة بترجمة القديس جاورجيوس، وكانت مع قرب عهدها قبل الهجرة بسنين كثيرة.

وترجم التوراة أسقف غوثية إلى لغة أهل بلاده سنة ٣٦٠م. وأكثر هذه التراجم تممها قوم مسيحيون ما عدا الترجمة السبعينية والأكويلية طبعاً. كثيراً ما ترجم اليهود بعض أسفار التوراة إلى الآرامية حيثما ابتدأ أكثرهم يهملون التكلم بالعبرية، ومن بين هذه التراجم ترجمة أنكلوس التي تمت ما بين سنة ١٥٠ و٢٠٠ م. وترجم يوناثان ابن عزيل أسفار الأنبياء سنة ٣٢٠م وعدا عن كل هذه الترجمات كان يوجد كتاب الترجوم الأورشليمي، وهو عبارة عن ترجمة أسفار العهد القديم وشروحها إلى اللغة الآرامية، وقد تم في القرن السادس أي قبل الهجرة. ومن المعلوم أنه كان في سالف الزمان بغض شديد بين السامريين واليهود، ومن أجل ذلك لم يعتمد السامريون من التوراة سوى أسفار موسى الخمسة واعتبروها كما هي موحى بها من الله. ولم نعلم بالتأكيد متى حصلوا على نسخة الأسفار الخمسة، فيظن البعض أنه كان في سنة ٦٠٦ ق م. أي حينما ابتدأت سنو السبي السبعون، ويظن البعض أن منسى حفيد ألياشيب الكاهن العظيم - وهو الذي قد تزوج بابنة سنبلط كما جاء ذلك في سفر نحميا أصحاح ١٣:‏٢٨ - أحضر هذه الأسفار إلى السامرة حينما نفاه نحميا من أورشليم وأسس هناك هيكلاً على جبل جرزيم نحو سنة ٤٠٩ ق م.

ولا يزال بين أيدي المسيحيين بعض النسخ من توراة السامريين - أي أسفار موسى الخمسة - باللغة العبرانية الأصلية، لكن بحروف مختلفة عن التي يستعملها اليهود.

وبمراجعة هذه الأدلة والتراجم المتعددة لأسفار العهد القديم عند اليهود والنصارى نجزم ونحتم أن توراة اليوم هي بذاتها التي كانت في عصر محمد، وشهد لها القرآن في آيات كثيرة. وأن القراءات المتعددة للتوراة لا تطعن في سلامتها ولا تشوش نقاوتها لأنها لا تمس جوهر تعليمها واختلاف القراءات مسألة لا بد منها لكل كتاب قديم عظيم كاختلافات قراءات القرآن.

ولنتكلم الآن في نسخ العهد الجديد المتداول اليوم في العالم المسيحي ونبحث هل هي الإنجيل الحقيقي الذي يشهد له القرآن، وهل هو الذي كان موجوداً في عصر محمد أم لا؟

أما رجال العلم والتحقيق في كل العالم فلا يخالج قلوبهم أقل شك في صحة هذه الدعوى، لأن الأبحاث العصرية المتأخرة أثبتت قطعيا أنه حتى في عصر المسيح كتب تلاميذه (الحواريون) مذكرات بأقواله وتعاليمه وأعماله، وكثير منها وارد في بشارة مرقس على نوع أخص، وفي بشارتي متى ولوقا أيضاً على نوع ما. إلا أن واقعة صلب المسيح وموته ودفنه وقيامته وصعوده لم يدون منها التلاميذ شيئاً إلا من بعد صعوده طبعاً، ثم أنهم لم يروا ضرورة تدفعهم إلى كتابة الإنجيل لقوم يعلمونه بمشاهدة العيان، إذ كانوا معاصرين ليسوع ورأوه وجها لوجه وكلموه شفاهياً وكانوا معه وحوله كل يوم يسمعون وعظه ويرون معجزاته (كورنثوس الأولى ١٥:‏٦ وأعمال ١:‏٢١ و٢٢)، ولأن المسيح لم يأمرهم أن يكتبوا الإنجيل (الأخبار السارة) بل يكرزوا به، ليوضع الأساس على شهادة قوم أحياء معاصرين له شهادة شفاهية مشفوعة بدلائل الصدق والإخلاص. وأما كتابة الإنجيل فابتدأت على هذا المنوال. اعلم أن هذا الإنجيل معناه الخبر السار أو البشارة السارة . فقد كتبها قبل الكل بولس الرسول ضمن رسالتين متواليتين بعث بهما إلى أهل تسالونيكي، ويرجع تاريخهما إلى ما بين سنة ٢٢ و٢٣ بعد صعود المسيح، ومثل هاتين الرسالتين بقية رسائل بولس في وحدة التعليم في كل المبادئ التي نتمسك بها إلى اليوم.

لكن لما مضى الجيل المعاصر للمسيح أو كاد، مسَّت الحاجة إلى تدوين الإنجيل في الأسفار لصون حقائقه من الطوارئ، وإفادة الأجيال الآتية، فألهم روح الله القدوس من اختار لتنفيذ هذه المهمة من رسل المسيح ورفقائهم القريبين منهم، فكتب أولاً القديس مرقس بشارته قبل خراب أورشليم سنة ٧٠ للميلاد. وظن بعضهم أنه ما بين سنة ٦٥ و٦٦ في مدينة رومية. وكان مرقس رفيقا لرسل المسيح وأحد تلامذته الأولين وكان مشهوراً في الكنائس الأولى ومعروفاً عنه بأنه تلميذ بطرس، فكتب بشارته بناءً على معلوماته الشخصية ومعلومات بطرس، غير أن روح الله القدوس عصمه من الخطأ وذكّره بما عساه يكون نسيه، وألهمه ما يكتب في تلك الأخبار وما لا يكتب.

وكتب متى رسول المسيح بشارته قبل سنة ٧٠ للميلاد. وكتبها لوقا ما بين سنة ٦٠ و٧٠، وكتبها يوحنا ما بين سنة ٩٠ و١٠٠ أي حينما بلغ من العمر سن الشيخوخة والحاصل أن بين أيدينا بشارتين لرسل المسيح، وهما بشارتا متى ويوحنا، وبشارتين لرفقائهما وهما بشارة مرقس (ومن المحتمل أن تكون من إملاء بطرس) وبشارة لوقا رفيق بولس الرسول. وهذا الأخير يقول في فاتحة كتابه إنه فحص واستعلم بالتدقيق عن كل ما كتب من شهود العين. ومما لا شك فيه أن الأصحاحين الأولين من بشارته كتبهما حسب شهادة العذراء مريم.

وربما يقول معترض إن هذا كله لا يدل على أن هذه الكتب موحى بها من الله، فأجيب: نعم، ليست موحى بها كالوحي الذي يتصوره المسلمون ويروونه عن القرآن من أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ من قبل خلق العالم ونزل إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أملاه جبريل على محمد مفرَّقاً حسب الوقائع والأحوال. إن وحياً كهذا يظهر لنا معاشر المسحيين أنه ليس بالجيد فضلاً عن أنه لم يقم دليل على أن القرآن موحى به مثل هذا الوحي (كما هو مثبوت في كتاب مصادر الإسلام). ويقول وعلماء النقد والتفكير إن فرضنا أن كتاباً مقدساً كُتب في السماء ونزل إلى الأرض على هذه الكيفية فلا يمكننا أن نقيم الدليل على أن ذلك الكتاب كُتب في السماء ولا أن له صلة بها. وأما الوحي التوراتي والإنجيلي فهو أن الله إذا أراد أن يعلن لعباده أمراً من الأمور على يد أنبيائه لا يتخذهم كآلات صماء، بل يستخدم عقولهم وأذهانهم وذاكرتهم وذكاءهم وأرواحهم في ما يكتبونه، فيكون وحياً (يوحنا ١٦:‏١٣).

ولنشرح هنا بعض المسائل التي تشوش على أذهان إخواننا المسلمين في فهم حقيقة الإنجيل. يقول بعضهم إن الإنجيل الذي بين أيدي المسيحيين اليوم ليس هو الإنجيل الحقيقي الذي أُنزل على المسيح لأننا نرى عندهم أربعة أناجيل لم تُكتب إلا بعد صعود المسيح بمدة طويلة. فنقول إن كتابة الإنجيل بعد صعود المسيح بمدة طويلة لا يطعن في صحته كما لا يطعن في صحة، القرآن كونه جمع بعد حياة محمد (كما ورد في مشكاة المصابيح ص ١٩٣ والمؤلفات المعتبرة). وأما كون عندنا أربعة أناجيل فهو ليس بحق، فإن عندنا إنجيلاً واحد لأن كلمة "إنجيل" وإن كانت استُعملت اسما لبعض أسفار العهد الجديد فمعناها خبر سار أو بشارة مفرحة، لأنها معدولة عن كلمة يونانية مجانسة لها لفظاً وتفيد هذا المعنى بالضبط. لكن إخواننا المسلمين قلما يفطنون لهذا المعنى.

ولما كانت خلاصة أسفار العهد الجديد وزبدتها إعلان محبة الله للبشر، بحيث أنه أرسل لهم يسوع المسيح ليخلّصهم من خطاياهم، وهذا خبر سار جداً، فدُعي به العهد الجديد أو بالعبارة اليونانية المعربة إنجيل. وبهذا الاعتبار لا تكون أناجيل كثيرة، بل إنجيل واحد كرز به متى ومرقس ولوقا ويوحنا وبولس وبطرس .. الخ. فالكارزون هم المتعددون، وأما الإنجيل فهو واحد غير متعدد. وبمراجعة الأصل اليوناني نجد البشائر الاربع التي في صدر أسفار العهد الجديد مسماة بكيفية تطابق الشرح الذي قدمناه، فبشارة متى مسماة إنجيل المسيح كما كتبه متى والبشارة الثانية مسماة إنجيل المسيح كما كتبه مرقس وهكذا. وإنما حباً بالاختصار اتفقوا على تسميتها بحسب الأسماء الحاضرة. وبعد البشائر الأربع سفر الأعمال (أي أعمال الرسل) وخلاصته أن الرسل كرزوا بالإنجيل في أقاليم كثيرة من العالم بين اليهود والأمم، وبدأوا بالكرازة بعد صعود المسيح بأيام قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع. والكارز الأول بالإنجيل هو نفس المسيح (مرقس ١:‏١٥ و١٣:‏١٠ ولوقا ٢٠:‏١) وبهذا الاعتبار يكون الإنجيل نزل على المسيح، وقد شهد عن نفسه بأنه تلقى رسالته أي الإنجيل عن الله، وعلى ذلك قوله "وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ" (يوحنا ١٢:‏٥٠ وقارن يوحنا ٨:‏٢٨ و١٢:‏٤٩).

وأما بقية أسفار العهد الجديد فلم تُقبل ضمن دائرة الوحي إلا بعد الاستفسار والتحري الدقيق والأسانيد الكافية، خشية أن ينطوي معها سهواً مصنفات أخرى. واستغرقت هذه المهمة زمناً طويلاً مراعاة للظروف الصعبة التي أحاطت بتلك الأسفار، مثل أن البعض منها كان رسائل خصوصية لأفراد معينين، كرسالة بولس الرسول الأولى والثانية إلى تيموثاوس وإلى تيطس وفليمون، ورسالة يوحنا الثانية والثالثة. والبعض الآخر بُعث أولاً كرسائل إلى كنائس معينة، إلا أننا علمنا من مؤلفات المسيحيين الأولين أن البشائر الأربع عُرفت وصار اعتمادها أنها وحي من الله ما بين سنة ٧٠ إلى سنة ١٣٠ م. وقد تم من بعض الوجوه إحصاء أسفار العهد الجديد في سنة ١٧٠ م وسُمي هذا الإحصاء بالقانون الموراتوري، وقد اشتمل على كل أسفار العهد الجديد المتداولة اليوم ما عدا رسالة يعقوب الرسول، والرسالة الثانية لبطرس الرسول والرسالة إلى العبرانيين. وبعد التحري أبطلوا هذا القانون وعملوا إحصاءً جديداً تحروا فيه الضبط بأكثر تدقيق. يتضمن هذه الرسائل أيضاً مع الإشارة بأن الرسالة الثانية لبطرس كانت مشكوكاً في وجودها ضمن الاحصاءات الأولى.

ومن الجدير بالملاحظة أن كتابة الكتب والحصول عليها في تلك القرون الغابرة كان محفوفاً بالمصاعب والنفقات الثقيلة، وعدا ذلك لو أُحصيت أسفار العهدين المكتوبة بخط اليد بالحرف اليوناني الكبير المستعمل حينئذ لما بلغت مجلداً كبيراً فقط بل مجلدات كثيرة. ومع كل هذه المصاعب كانت توجد أسفار الكتاب المقدس مجموعة بين يدي كثيرين من المسيحيين في جهات مختلفة من العالم. وفي مجمع لاودكية الذي عُقد سنة ٣٦٣ م الذي ذكرنا أنه أحصى أسفار العهد القديم ضمن اثنين وعشرين سفراً قد أحصى أيضاً أسفار العهد الجديد على الحالة التي هي عليها الآن ما عدا سفر الرؤيا، لأن بعض الكنائس قبلته وبعضها لم تقبله (يومئذ). وفي مجمع قرطجنة الذي اجتمع سنة ٣٩٧ م أقروا كل الأسفار المتداولة اليوم مشفوعة بهذا البيان "قبِلْنا من آبائنا بأن هذه الأسفار ينبغي أن تُقرأ في الكنائس."

وعدا الاحصاءات المجمعية لأسفار العهد الجديد كما مر فقد أحصاها مشاهير الكتاب المسيحيين منذ القرون الأولى للميلاد، متحرّين أبحاثهم الخصوصية، منهم أوريجانوس الذي مات سنة ٢٥٣ م وأثناسيوس الذي مات سنة ٣٧٣ وأيسيبوس وكان معاصرا له. وكلهم أجمعوا في أبحاثهم الخصوصية على قانونية أسفار العهد الجديد كما قررتها المجامع. ويعقّب إيسيبوس على إحصائه بهذه الملاحظة: إن بعض المسيحيين لم يقرروا رسالة يعقوب ولا رسالة يهوذا ولا الرسالة الثانية لبطرس ولا رسالتي يوحنا الثانية والثالثة ولا سفر الرؤيا، لكن بعد التحري الدقيق اقتنعنا بأن هذه الأسفار قانونية ويجب قبولها ضمن أسفار العهد الجديد بعد التأكد القوي أنها وحي الله.

وعلى ما تقدم لم تمض الأربعة القرون الأولى للميلاد حتى تقرر نهائياً اعتماد أسفار العهد الجديد على حالته الراهنة في فلسطين وسورية وقبرص وآسيا الصغرى وإيطاليا وشمال أفريقيا. ومن هنا لا ينبغي لذي عقل سليم أن يرتاب بأن الكتاب المقدس المتداول اليوم كان موجوداً بتمامه وعلى شكله الحاضر في عصر محمد بين المسيحيين المستوطنين في جزيرة العرب وسوريا ومصر والحبشة وغيرها من الأقاليم التي تعارف محمد بشعوبها.

ولقائل يقول ربما انقرض الكتاب المقدس بعد عصر محمد وصنف المسيحيون كتاباً آخر دعوه باسم الكتاب الأول .. الخ. فنجيب أن هذه الدعوى بمثابة من يدّعي أن القرآن بعدما ملأت نسخه الدنيا قد انقرض وكتب المسلمون كتاباً آخر وسموه باسمه، فهذه الدعوى لا يدعيها إلا كل جاهل. ومع ذلك نجيب عليها أنه من البراهين القاطعة على وجود وحدة الكتاب المقدس قبل محمد وبعده النسخ القديمة المخطوطة باليد في اللغة اليونانية، وهي اللغة الأصلية لأكثر أسفار العهد الجديد، واللغة التي تُرجمت إليها هي أقدم ترجمة للعهد القديم أي الترجمة السبعينية.

وأقدم متن عبراني موجود اليوم هي النسخة التي وُجدت في مصر وتشتمل على الوصايا العشر والقانون العبراني الوارد في (خروج ٢٠:‏٢-١٧ وتثنية ٦:‏٤-٩) وقد كتبت ما بين ٢٢٠ و٢٥٠ للميلاد أي قبل الهجرة بقرون. وأكبر نسخة للعهد القديم وأقدمها عندنا اليوم هي النسخة الشرقية نمرة ٤٤٤٥ محفوظة في المتحف البريطاني، وكُتبت ما بين سنة ٨٢٠ و٨٥٠. ويليها في الأقدمية نسخة سان بطرسبرج وهي مؤرخة سنة ٩١٦. وهاتان النسختان منقولتان عن نسخ أقدم منهما بكثير، وذكر الناسخ اسم اثنتين منها وهما نسخة "حليل" ونسخة "موخا" وروى زكوت المؤرخ اليهودي أن نسخة حليل كُتبت سنة ٥٩٧ م. وأنه رأى جزئين منها يشتملان على هذه الأسفار يشوع، قضاة، صموئيل الأول والثاني، ملوك الأول والثاني، إشعياء، إرميا، حزقيال، هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، ميخا، ناحوم، حبقوق، صفنيا، حجي، زكريا وملاخي. وأما نسخة موخا فليست أقل أقدمية من النسخة الأخرى، ولا بد على الأقل أن إحدى هاتين النسختين كانت موجودة في عصر محمد. ومن تعليقات اليهود عليهما نعلم أنهما كانتا موافقتين لنسخة العهد القديم التي بين أيدينا، وعندنا نسخ كثيرة منقولة عن نسخ عبرانية أقدم منها.

وإن قيل ماذا جرى للنسخ العبرانية القديمة. نجيب بما يجيب به اليهود: وهو أنه عندما كانت تبلى النسخة من كثرة الاستعمال تحفظ في الخزانة حتى إذا مات رباني مشهور دفنوها معه. وبعض الأحيان يخشون عليها أن تُهمل مع طول الزمان وتُداس بأقدام أو يلحقها عارض يدنس ورقها وهذا حرام عندهم، فيُجهِزون عليها بالحريق.

وأما نسخ العهد القديم في الترجمة اليونانية الشهيرة بالترجمة السبعينية الذي يدل وجودها على وجود الأصل العبراني من قبلها فعندنا منها كثير، وقد كُتبت كلها قبل الهجرة بسنين عديدة وهاك أشهرها:

(١) النسخة السينائية كُتبت في القرن الرابع أو في بداية القرن الخامس

(٢) النسخة الفاتيكانية كتبت في القرن الرابع وربما في بدايته

(٣) النسخة الإسكندارنية كتبت فيما بين نصف القرن الخامس ونهايته

(٤) النسخة القطونية كتبت في القرن الخامس أو السادس

(٥) النسخة الأمبروسانية كتبت في نصف القرن الخامس

وكل هذه النسخ وجدت من قبل عصر محمد وفي عصره، وإذا أراد الباحث أن يتحرى هل إذا كانت هذه النسخ تضاهي النسخ المتداولة فما عليه إلا أن يزور مكاتب أوروبا الشهيرة ويقارن هذه بتلك.

وإن نسخة العهد القديم اليونانية المستعملة اليوم طبعت عن هذه النسخ القديمة المذكورة، وبمراجعتها مع الأصل العبراني لم يوجد فرق ولا في تعليم واحد إلا اختلاف في القراءات بسيط جداً، مثل أن المترجمين أخطأوا في ترجمة كلمة صعبة على الفهم. وبمراجعة النسخ الحاضرة على الترجمة السبعينية لا يوجد فرق إلا في أعمار بعض الآباء الأولين المذكورين في أصحاحي ٥ و١٠ من سفر التكوين. ولكن الاختلافات في القراءة لا تمس جوهر الكتاب في أدنى شيء.

وأما نسخ العهد الجديد اليونانية المتداولة فتعززها النسخ اليونانية الأصلية. وقد كتبت على رقوق لا على ورق. ولا محل لاعتراض رحمة الله الهندي من هذه الحيثية إذ يقال "إن بقاء القرطاس والحروف إلى ألف وأربعماية سنة أو أزيد مستبعد عادة" إلا أنه وُجد في مصر كتابات على ورق البردي يرجع تاريخها إلى ألف وثمانماية سنة كما هو معلوم عند رجال الآثار.

ولنرجع إلى ما نحن فيه، فنقول إن كثيراً من النسخ المتضمنة للترجمة اليونانية لأسفار العهد القديم تتضمن أيضاً أسفار العهد الجديد بالأصل اليوناني: أولاً، النسخة السينائية المذكورة سابقاً، وتوجد في المتحف الأمبراطوري بمدينة سان بطرسبرج. ثانياً، النسخة الفاتيكانية المحفوظة في مكتبة بابا رومية (الفاتيكان). ثالثاً، النسخة الإسكندرانية وهي في متحف لندن، وقد ذكرنا تواريخها فراجعها في مواضعها. رابعاً، أنه في سنة ١٩٠٧ اكتشفوا في دير قديم بقرب سوهاج إحدى مدائن صعيد مصر على أربعة أجزاء من النسخ القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع من باب الاحتمال أو القرن السادس بالتأكيد يشتمل واحد منها على سفر التثنية ويشوع وآخر على سفر المزامير. ويشتمل الثالث على البشائر الأربع والأخير على قطع من رسائل بولس الرسول. خامساً، النسخة البيزانية وكانت محفوظة في جامعة كمبردج بانجلترا وكتبت في بداية القرن السادس. سادساً، النسخة الأفرايمية وقد كتبت في أوائل القرن الخامس، وهي اليوم في المتحف الأهلي بباريس.

وعدا هذه النسخ الكبيرة توجد نسخ صغيرة تشتمل على أجزاء متفرقة من أسفار العهد الجديد بالأصل اليوناني، ومن أقدمها عهداً نسخة مخطوطة على شقة واحدة من البردي اكتُشفت حديثاً في أطلال البهنسا، وهي تشتمل على الأصحاح الأول والأصحاح العشرين من إنجيل يوحنا وكُتبت ما بين سنة ٢٠٠ و٣٠٠ ميلادية أو بعبارة أخرى قبل محمد بأكثر من ٢٧٠ سنة. وهذا الاكتشاف الحديث بالقطر المصري له اعتبار ممتاز من حيث وجهتنا الخصوصية التي نرمي إليها في هذا الموقف، بمعنى أن هاتين النسختين اللتين اكتُشفتا بسوهاج والبهنسا قد دُفنتا في صحاري مصر التي صارت فيما بعد بلاداً إسلامية قبل الهجرة بمئات من السنين، وبقيتا تحت التراب إلى هذه الأيام حتى عثروا عليهما. لا يقدر أحد يدعي مهما بلغت درجة تعصبه إنهما مزورتان بعد نزول القرآن أو محرفتان في أيام محمد أو بعده.

ويبلغ عدد النسخ القديمة للعهد الجديد بالأصل اليوناني ما بين جامعة لها وكلها، ولجزء منها، ٣٨٩٩ نسخة، فُحصت كلها فحصاً دقيقاً ونمروها لتسهيل معرفة مواضعها على طلبة علم اللاهوت. وتوجد نسخ أخرى غير منمرة لا تقل عن ألفي نسخة.

وبما أننا تكلمنا على نسخ العهد الجديد بالأصل اليوناني يحسن بنا أن نتكلم أيضاً عن نسخه المترجمة، لا سيما وأن بعضها مترجم من قبل الهجرة بزمان طويل، منها ما هو منقول عن باشيطا السريانية ويبلغ على الأقل عشر نسخ مؤرخة في القرن الخامس، ونقل عنها ثلاثون نسخة مؤرخة في القرن السادس. وفي كلامنا عن العهد القديم أشرنا إلى ترجمات باللغات القديمة التي ليس على وجه الأرض من يحسن التكلم بها كلغته الأصلية، وكذلك ترجمات العهد الجديد. والكل محفوظ في متاحف الآثار، ويرجع تاريخها إلى ما قبل عصر محمد بمئات السنين إلا ترجمة واحدة كتبت في عصره ولكن قبل هجرته وسيأتي ذكرها.

ولتفصيل ذلك نقول إنه يوجد اليوم نسخ كثيرة من الترجمات القديمة للعهد الجديد إلى اللغة السريانية أشهرها (باشيطا) ترجمت ما بين القرن الثاني والثالث للميلاد. ونسخة فيلكس السريانية تمت سنة ٥٠٨ م ونقحها توما الهرقلي سنة ٦١٦. ووجد عدا هذه ترجمات أخرى سريانية بقي منها نسختان أصليتان وهما نسخة الكارتونية والسينائية السريانية، ومما يدل على وجود هذه الترجمات السريانية للعهد الجديد قديماً هو أن طاطيان المولود سنة ١١٠ م صنّف اتفاق البشيرين الأربعة وعندنا ترجمته باللغة الأرمنية واللاتينية مع اختلاف طفيف. وعن السريانية ترجم ابن الطبيب المتوفي سنة ١٠٤٣ نسخة عربية تُسمى "دياطسرون" (ومعنى ذلك (اتفاق البشيرين). واكتشفوا حديثاً قطعاً من ترجمة العهد الجديد من اليوناني إلى سريانية فلسطين التي كانت في عهد المسيح، وكتبت هذه الترجمة في القرن الرابع إن لم يكن قبله، ثم نسخة سنة ٦٠٠ م وتُسمى نسخة كليماكوس وتشتمل على أجزاء من البشائر الأربع وسفر أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول.

وتُرجم العهد الجديد إلى اللاتينية قديماً كما يقرر ذلك أغسطينوس وجيروم. قال الأخير: وُجدت ترجمات في بعض الأحيان لم تبلغ حدها في الصحة وذلك من جهل المترجمين. وأضبطها كلها الترجمة اللاتينية القديمة ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني للميلاد، ومع ذلك رأى وجوب إيجاد ترجمة تكون أكثر ضبطاً من تلك لسد حاجة الشعب، فترجم العهد الجديد إلى اللاتينية ما بين سنة ٣٨٣ و٣٨٥ م وتُسمى الترجمة العامية وتوجد على الأقل ثمانية آلاف نسخة مخطوطة عن الترجمة العامية المذكورة، بعضها مؤرخ في القرن الرابع وبعضها في الخامس إلى السادس. وهذا كله تم قبل زمان محمد. فتأمل.

وقد ذكرنا في ما مضى أن العهد القديم تُرجم إلى اللغة القبطية في اصطلاحاتها الثلاثة، وهنا نقول إن العهد الجديد تُرجم كذلك، فالترجمة البحيرية تمت ما بين القرن الثالث والرابع، والترجمة الصعيدية تمت في ذلك التاريخ. وأما اللهجة البشمورية فكانت انقسمت إلى ثلاثة لهجات الفيومية والأخميمية والأقاليم الوسطى، وإلى كل واحدة من هذه ترجم بعض أسفار العهد الجديد أو كلها وأقدمها جميعاً الترجمة القبطية الصعيدية، ونسخها الأصلية ترجع إلى القرن الرابع والخامس. والترجمة القوطية ترجمت نحو سنة ٣٦٠ م وأقدمها نسخة أصلية لها كتبت إما في القرن الخامس أو السادس.

وهنا نتخذ وسائل أخرى لإقامة حجتنا عدا النسخ الأصلية والترجمات القديمة لأسفار العهد القديم والجديد التي فصلناها. فنقول إن كتابنا المقدس في العصر الحاضر هو عين الكتاب الذي كان قبل محمد، وذلك من الاقتباسات التي نُقلت عنه في مؤلفات المسيحيين القدماء في لغات مختلفة يوناني ولاتيني وسرياني وقبطي. ففي هذه المؤلفات وردت آيات كتابية كثيرة جداً، بحيث لو ضاع الكتاب من العالم يُجمع ثانية من هذه الاقتباسات. واعتبر هذا الدليل قياساً على القرآن. ألم تر في مؤلفات المسلمين آيات كثيرة منه، ولسنا مبالغين إن قلنا إنه ضاع القرآن اليوم، يُعاد من الاقتباسات الواردة في التفاسير والمؤلفات الإسلامية وصدور الحفظة الكثيرين. ومثل هذا إن لم نقل أكثر منه يوجد في مؤلفات المسيحيين. وأغرب من ذلك أن في مؤلفات الوثنيين القدماء أقوال ليست بقليلة مقتبسة من الكتاب المقدس، مثل كتابَي سلسوس فورفيري وجوليان الكافر. وعدا الاقتباسات الصريحة الواردة في مؤلفات المسيحيين القدماء يؤخذ من مضامينها ما يطابق تمام المطابقة حقائق الكتاب المعروف الآن، مثل أعمال المسيح وموته وقيامته وصعوده إلى السماء، ومثل الفداء إلى غير ذلك مما هو مشروح في محلاته.

وعندنا أدلة أخرى عدا هذه وتلك تثبت ما نحن بصدده يمكننا تسميتها بالأدلة الأثرية، ففي مدينة روما اكتُشفت قبور كثيرين من مسيحيي القرون الأولى للمسيح في سراديب تحت الأرض منقوش عليها كتابات وصور يؤخذ منها إن هؤلاء المسيحيين يؤمنون بالعقائد التي يعلمنا إياها الإنجيل الآن. وأظن في هذا القدر كفاية لإقناع كل معاند ومكابر بأن أسفار العهد الجديد والقديم محفوظة بتمامها ونقاوتها من قبل عصر محمد الذي منها يقتبس ولها يشهد وإياها يحترم. وأن هذه الأسفار مُحصاة في جداول بين أيدي اليهود والمسيحيين تبيّن أنها أسفار موحى بها من الله، وكلها نص واحد قديمها وجديدها بمتونها الأصلية وترجماتها، لا يوجد بينها إلا اختلاف في القراءات كما أشرنا إلى ذلك في موضعه.

من أجل ذلك عندما يأمر القرآن محمداً أن يسأل أهل الكتاب عما جاء فيه من التعاليم يجب على المسلمين أن يفهموا ويتأكدوا أنه يقصد الكتاب الذي بين أيدينا الآن، لأنه هو الأسفار المقدسة الموجودة بين أيدي اليهود والمسيحيين في كل العالم لا غير. وقد رأينا في الفصل الأول أن القرآن يذكر في مواضع كثيرة الأقسام الرئيسية لهذا الكتاب، وهي التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل، ويرفعها إلى أعلى مراتب الكرامة، فيسميها تارة كلام الله وكتاب الله وتارة الفرقان والذِّكر ويهدد بأشد أنواع العذاب الذين كذبوا بها (سورة المؤمن ٤٠:‏٧٠) ويقول القرآن إنه نزل ليكون مهيمناً عليه (سورة المائدة ٥:‏٥١) ويأمر المسلمين أن يؤمنوا بها كإيمانهم بنفس القرآن - سورة البقرة ٢:‏١٣٦ وسورة آل عمران ٣:‏٨٤.

وبما أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة إن كتابنا المقدس هو كتاب الله فيجب عليكم حتماً أن تطالعوه باحترام ودعاء عسى أن يفتح الله الرحمن الرحيم أذهانكم لفهمه حتى تروه كما وصفه القرآن هدى وذكرى لأولي الألباب.


١. انظر سورة المائدة (آية ٥١) يقول "وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه الخ" ويفسر البيضاوي قوله "ومهيمنا عليه" رقيبا على سائر الكتب ليحفظها من التغيير ويشهد لها بالصحة والثبات وقرئ على صيغة المفعول أي هُومِنَ عليه أو حوفظ من التحريف والحافظ له هو الله أو الحفظ في كل عصر شهيدا عليه أي على الكتب كلها.

٢. سفر التكرين والخروج واللاويين والعدد والتثنية

٣. سفر يشوع والقضاة مع راعوث وصموئيل والملوك وأخبار الأيام وعزرا مع نحميا واستير وايوب والاثنا عشر سفرا للأنبياء الصغار واشعياء وارمياء مع مراثيه وحزقيال ودانيال

٤. المزامير والأمثال والجامعة ونشيد الانشاد

٥. هوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجي وزكريا وملاخي

الفصل الرابع

في أن أسفار العهد القديم والجديد لم يعتريها تحريف لا قبل محمد ولا بعده

الهرم في الجيزة
الهرم في الجيزة

رأينا في الفصل الماضي أن الكتاب المقدس معدود في القرآن "كلام الله" ورأينا في أكثر من موضع من القرآن أيضاً أن كلام الله غير قابل للتبديل والتغيير، فإذا كانت هاتان المقدمتان صحيحتين كانت النتيجة ضرورة هي عدم تحريف الكتاب المقدس لا قبل محمد ولا بعده.

إلا أن هاتين المقدمتين تؤديان بنا إلى تصفُّح القرآن لنرى ماذا يقول في هذا الصدد وكيف فسر أقواله المفسرون المعتبرون مع العلم بأنهم لم يتفقوا على رأي واحد في هذه المسألة وإنما لا يؤيدون الرأي العام الذي وُضع عند جهال المسلمين.

ورد في سورة الكهف ١٨ :٢٧ "وَا تْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ" لا شك أن كلمة كتاب تشير إلى القرآن ولكن قوله (لكلماته) تشمل الكتاب المقدس لأنه كلام الله، وبناءً عليه لا يكون مبدل لكلمات الكتاب المقدس، وهاك تفسير البيضاوي قال: "لا مبدل لكلماته" (لا أحد يقدر على تبديلها أو تغييرها غيره).

وورد في سورة يونس ١٠ :٦٤ "لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ" قال البيضاوي (أي لا تغيير لأقواله ولا اخلاف لمواعيده)، وورد في سورة الأنعام ٦ :٣٤ العبارة عينها (لا مبدل لكلمات الله) وجاءت مرة أخرى في آية ١١٥. نعم قد ذكر البيضاوي على الآية الأخيرة أن الكتاب المقدس محرف ولكن لم يقصد التحريف الذي يقوله عامة المسلمين كما سترى في ما بعد.

لما فحص علماء المسلمين في الهند هذه المسألة اقتنعوا في الوقت الحاضر بأن أسفار العهدين ليست بمبدلة ولا بمغيرة ولا محرفة حسب فهم العامة، ولعلهم بنو آراءهم على تفسير الإمام فخر الدين الرازي لأنه في تفسيره آل عمران ٣ :٧٨ يجيب معترضاً يسأل "كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس،" فيجب أن نتأمل في الجواب جيدا حيث يقول أولاً على سبيل التخمين: "لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف؟ ثم أنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام، وعلى هذا التقدير يكون التحريف ممكناً،" فنجيب أولاً أن هذا ليس رأي المفسر بل يفرضه فرضاً، وأما رأيه فهو هكذا: إن الآيات الدالة على نبوة محمد كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين، واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم فكان هذا هو المراد بالتحريف وبليّ الألسنة (الرازي المجلد ٢) وانظر تفسيره على سورة النساء ٤ :٤٥ (مجلد ٣)، حيث يعيد هذين الرأيين ويضيف عليها رأياً آخر خلاصته أن قوماً من اليهود اعتادوا أن يدخلوا على الرسول يسألونه المسألة فيجيبهم عليها ومتى خرجوا من عنده يحرفون كلامه، وبناء على هذا الرأي لا يكون اليهود حرفوا كتابهم بل حرفوا جواب محمد على سؤالهم، وعلى كل حال عني الرازي بالتحريف الواقع من اليهود تحريف الشروح بالآيات الكتابية لا الآيات نفسها وهو التحريف المعنوي لا اللفظي.

وحكى الرازي في تفسيره على سورة المائدة ٥ :١٦ قصة مآلها أن اليهود فيما هم يقرأون التوراة (تثنية ٢٣:٢٢-٢٤) لووا ألسنتهم وبدَّلوا معنى الرجم بالجلد ولم يمسوا لفظ الآية المكتوبة بأقل تحريف، وحكى البيضاوي في تفسيره سورة المائدة آية ٤٥ هذه القصة عينها للدلالة على أن معنى التحريف المشار إليه في الآية التحريف المعنوي وهو المقصود بليّ الألسنة وفسر قوله "يحرفون الكلام من بعد مواضعه" أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، إما لفظاً بإهماله وتغيير وضعه وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده.

فإن أردت أن تعرف أي الرأيين هو الرأي الصحيح فما عليك إلا أن تراجع سفر التثنية ٢٢ :٢٣ و٢٤ في الأصل العبري أو في أية ترجمة حديثة أو قديمة فتجد أية الرجم التي نسبوا إليها التحريف باقية على أصلها كما بينها القرآن والحديث في عصر محمد، وبذلك نعلم أن اليهود لم يحذفوا شيئاً من الآية ولا أمالوها عن موضعها، بقي الرأي الآخر وهو التحريف المعنوي الذي توصلوا إليه بتغيير المعنى. ومن العجب أن آية الرجم التي قالوا إن اليهود حرفوها كانت في القرآن كما نعلم من الحديث، ثم لا نرى لها الآن أثراً.

جاء في مشكاة المصابيح أن عمر قال "أن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم، رجم رسول الله ورجمنا بعده، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف" متفق عليه من الفصل الأول من كتاب الحدود، ولكن لما جمع زيد بن ثابت القرآن حذفت هذه الآية لئلا يُقال عن عمر إنه زاد على القرآن، فإن صدق عمر في ما رواه يكون تحريف الكلام عن مواضعه المنوه عنه في القرآن في سورة المائدة ٥ :٤٥ واقعاً في القرآن لا في التوراة، ويكون المحرفون هم المسلمين لا اليهود .. فتأمل!!

اتهم القرآن اليهود بكتمان الحق وهم يعلمون به، وبليّ ألسنتهم في الإجابة عن تعليم توراتهم في هذا الموضوع، واتهمهم بنبذ كتاب الله وراء ظهورهم وبالتحريف، وجاءت التهمة الأخيرة في أربعة مواضع منه (سورة البقرة ٢ :٧٥ وسورة النساء ٤ :٤٥ وسورة المائدة ٥ :١٤ و٤٤) ولنا أن نلاحظ أن هذه الدعاوى مهما يكن من أمرها فإنها موجهة إلى اليهود فقط لا إلى المسيحيين، وعليه تكون أسفار العهد الجديد سالمة من مظنة هذه التهم، سواء قبل محمد أو بعده. بقي علينا أن نتساءل في تفسير ما عناه القرآن باتهامه اليهود بهذه التهم. وقد مر عليك تفسير الرازي والبيضاوي لثلاثة من الأربعة مواضع المذكورة سابقاً، ونتكلم الآن على الرابع وهو سورة البقرة ٢ :٧٠ اتفق المفسران أي البيضاوي والرازي أن المراد بالتحريف المذكور هنا تشويه التفسير وكتمان الحق (راجع سورة الأنعام ٦ :٩١ حيث عزي إلى اليهود أنهم جعلوا الكتاب قراطيس أبدوا منه ما أبدوا وأخفوا ما أخفوا) وإن يكن هذا العمل ممقوتاً إلا أنه بمعزل عن تبديل آيات الكتاب لأن إخفاء القرطاس يختلف عن تبديل ما ورد فيه، فتأمل.

ثم إن سألنا متى حرف اليهود توراتهم أجاب البيضاوي: حرفه أسلاف اليهود المعاصرين لمحمد، وأجاب الرازي: حرفه معاصرو محمد بالذات، على أن ذينك الإمامين أجابا بالجوابين المتقدمين رداً على من تصور أن التحريف لفظي ووقع كتابة، وهما يتبرآن من هذه الدعوى، ولهذه المناسبة قال الرازي في (مجلد ٣) في كيفية التحريف وجوه (أحدها) أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر، مثل تحريفهم اسم ربعة عن موضعه في التوراة بوضعهم آدم طويل مكانه، ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله ونظيره قوله تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، فإن قيل: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب، قلنا: لعله يُقال القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف، ثم أن الرازي دحض هذا الجواب بقوله (والثاني) أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم وهذا هو الأصح (الثالث) أنهم كانوا يدخلون على النبي ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. انتهى.

هذا رأيه الذي يقول به ونتيجته أنه برأ اليهود من تهمة تبديل آيات التوراة، وعليه لما قال أن القرآن يؤكد وقوع التحريف بالتوراة ينبغي أن نفهم مقصوده الحقيقي لا الدعوى الباطلة التي يدّعيها جهلاء المتأخرين.

ومما تقدم نجاوب على كل من يدّعي أن الكتاب المقدس محرف في نصوصه وأن الكتاب الصحيح غير موجود اليوم إذ لم يكن صحيحا في زمن محمد يكون مكذباً ومخالفاً لآيات القرآن الصريحة التي تشهد أنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأن من أهم أغراض القرآن أنه جاء ليكون مصدقا للكتاب المقدس، فكيف يصح أن يشهد له أنه صحيح وحق وموحى به من الله وهدى للناس، ثم يعود فينسب إليه التغيير وضياع الثقة منه وعدم التعويل عليه، لأنه إن صحَّ هذا يكون القرآن قد ناقض بعضه بعضاً.

ليس أحد يؤمن بالإله الحق يقدر أن ينسب إليه تعالى أنه أنزل القرآن مصدقا للكتاب مبدَّل ومغيَّر ومشوش التعاليم في العقائد الدينية، وقد فطن لهذه النظرية الإمامان البيضاوي والرازي اللذان اقتبسنا تفسيرهما وجزما بأنه لم يقع في الكتاب المقدس تغيير قط لا قبل العصر المحمدي ولا بعده. بقي للمعترض أن يقول: وقع التغيير في الكتاب المقدس في ذات عصر محمد، والرد على اعتراض كهذا لا يكلفنا مشقة ولا عناء. لأننا نجيب قائلين إن الأسفار المقدسة التي أشرنا إليها في مقدمة كلامنا كُتبت قبل عصر محمد بزمان طويل. والكتاب المتداول اليوم منسوخ عن ذلك الأصل، وعليه لا يتصور عاقل إجماع اليهود والنصارى على تغيير أسفارهم وقد انتشرت في كل العالم.

وعلى كل حال لنسمع ما قيل بإزاء هذه الدعوة فإن عامة المسلمين وبعض علمائهم العديمي الخبرة بالموضوع لا يزالون يتصورون أن الكتاب المقدس بحالته الحاضرة مغيَّر، وإن سألتهم: متى وقع ذلك التغيير لا يتفقون على جواب واحد، فيقول البعض: قبل عصر محمد، وآخرون: بعده، ويقول قائل منهم: قبله وبعده! وحتى يُثبتوا مزاعمهم عكفوا على كتب الكفرة والملحدين بكل دين يلتقطون منها كل اعتراض سخيف وافتراء بارد ويحاربون بها الكتاب المقدس استظهارا لزعمهم بالتغيير وجهلوا أو تجاهلوا أن هذه الاعتراضات التي تسلّحوا بها دُحضت منذ زمن طويل ولم تعُد مقبولة بين العلماء الغربيين ونرجو أن علماء المسلمين المحققين إن انخدعوا بها اليوم لا ينخدعون بها غداً.

حُكي أن بعض المسيحيين من أهل القرون الأولى بعد المسيح اتهموا اليهود بتهمة تغيير النصوص الإلهية كما يتهم المسلمون لأنهم وجدوا فروقاً في أعمار الآباء المذكورين في أصحاح ٥ و١٠ من سفر التكوين ما بين النسخة العبرية والترجمة السبعينية فعللوا هذه الفروق بعلة التغيير، ولكن الذين ادعوا هذه الدعوى هم جهلاء المسيحيين لا علماؤهم، وأما الآن وقد مضى نحو ألف وأربعمائة سنة على الموضوع وقد درس الكتاب جيدا لم يبق بين علماء الغرب من يدعي بأن اليهود غيروا توراتهم لا في الموضع المشار إليه ولا في سواه، ثم أن بعض كتاب المسلمين اعترضوا على اختلاف القراءات التي يُقرأ بها الكتاب واستدلوا بها على إفساد نصوصه، إلا أن هذه النظرية باطلة لأنه توجد نسخ أصلية كثيرة ما بين عبري ويوناني ولغات أخرى إن قارنتها بعضها على بعض لا تخلو بطبيعة الحال من اختلاف القراءات كما هي الحال في جميع الكتب القديمة، ويا ترى ما جنس تلك القراءات المختلفة، إن أكثرها يرجع إلى اختلاف في الهجاء، مثل كلمة صلاة العربية تارة تكتب بالواو وتارة بالألف، ومثل كلمة قيامة تارة تكتب بالألف وتارة بدونها، ويرجع بعضها إلى اختلاف في تصريف الأفعال كاختلاف القراءات القرآنية التي أشار إليها المفسرون وأثبتوا أنواعها في تفاسيرهم ومن ذلك قراءات هذه الآية ما ننسخ من آية أو ننسها (البقرة ٢ :١٠٦):

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا   قراءة حفص
مَا نُنْسِخْ .. الخ   قراءة ابن عامر
نَنْسأَهَا   قراءة ابن كثير وأبو عمرو
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنَسِّهَا   قراءة آخرين
تَنْسَهَا   قراءة آخرين
تُنْسَهَا   قراءة آخرين
نُنْسِكِهَا   قراءة آخرين
مَا نُنْسِكَ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسَخْهَا   قراءة عبد الله

وفي سورة البقرة ٢ :٢٨٥ أشار البيضاوي إلى قراءات مختلفة:

وَكُتُبِهِ      قراءة حفص
وَكِتَابِهِ   قراءة حمزة وصاحب الكشاف
لا نُفَرِّقُ   قراءة حفص
لا يُفَرِّقُ   قراءة يعقوب
لا يُفَرِّقُونَ   قراءة آخرين

ويقبل علماء السنيين قراءات أخرى على ما تقدمت الإشارة إليه من ذلك سورة الأنعام ٦ :٩١ وسورة مريم ١٩ :٣٥ وسورة القصص ٢٨ :٤٨ وسورة الاحزاب ٣٣ :٦ وسورة سبأ ٣٤ :١٨ وسورة ص ٣٨ :٢٢ فهذه القراءات مهما تكن لا تغير معاني القرآن تغييراً يستحق الذكر ولا تؤثر أقل تأثير في عقائده. فإن قام كاتب مسيحي واحتج باختلافات القراءات على وقوع التغيير في متن القرآن ألا يستجهله المسلمون أو يرمونه بالتعصب الذميم، فمثل هذا الحكم يجب أن يُحكم به على الذين يتخذون قراءات كتابنا حجة على تغييرها، إن آدابنا لا تسمح لنا أن ندعي بدعاوٍ كهذه على مناظرينا.

ثم أن اختلاف القراءات في الكتاب المقدس يوجد أكثر مما في القرآن، ولذلك جملة أسباب (١) لأن حجمه أربعة أضعاف القرآن، (٢) إنه أقدم من القرآن بكثير، (٣) إنه كُتب في ثلاث لغات العبرية واليونانية والآرامية وكتب القرآن بلغة واحدة وهي العربية، (٤) إحصاء القراءات في التراجم القديمة كلها ولو قد ثبت أن كثيراً منها غلطات وقعت من المترجمين ولم ينتج عنها اختلال جوهري، (٥) أُحصيت القراءات بعناية عظيمة وتدقيق كلي أكثر بكثير من العناية التي بُذلت في إحصاء القراءات القرآنية، (٦) وأهم من الكل أن الكتاب المقدس لم يصلحه ولا راجعه أحد قبل النشر كما عمل عثمان ثالث خلفاء محمد بالقرآن. فقام على النسخ القديمة وأحرقها، ولم يُبقِ على نسخة إلا نسخة حفصة، ثم ألحقها مروان على ما قيل بأخواتها فأحرقها، ومع كل ذلك إن عرضنا على ميزان الاعتبار والفحص كل القراءات المختلفة الواقعة في الكتاب المقدس لا نجد شيئاً منها يمس جوهره.

وقد اتفق أن المفسرين المسيحيين لما عسر عليهم فهم كلمة أو آية من الكتاب تصوروا أنها وقعت خطأ من الناسخ واعتبروها مصحفة. ولما اطلع علماء الإسلام على شيء من ذلك ترجموا عن غير علم كلمة مصحف "بمغيَّر" أو "محرَّف" مثل الشيخ رحمة الله الهندي، فإنه بناءً على ذلك ادّعى أن علماء النصارى يسلّمون بوقوع التغيير في كتابهم، مع أن المسألة بسيطة جداً، لأن الكلمة التي لم يفهمها المفسرون وظنوا أنها مصحفة كانوا يشيرون إليها لأجل مراجعتها وتصليحها.

ومن أمثلة ذلك كلمة وردت في دانيال ٣ :٢ و٣ بالآرامية وهي (تفتايي) ولم توجد قط في كتاب آخر ولم يعرف معناها بالتدقيق ولا المادة المشتقة منها. فظن بعض المفسرين أن هذه الكلمة مصحفة أي خطأ من الناسخ. ولكن منذ سنين قليلة اكتشفوا كتابات آرامية قديمة في الآثار المصرية وردت فيها الكلمة المذكورة. وعرفوا معناها بالتدقيق وأصل اشتقاقها ومن هنا نعلم كيف حُفظت الأسفار بالصحة والضبط حتى في مثل هذه الكلمة.

وحدثت مثل هذه الكلمة في الكتاب المقدس على المنوال الذي به حدثت نظائرها في القرآن، من ضمنها قوله "إن هذان" (سورة طه ٢٠ :٦٦) فكان من المحتمل أن بعض المفسرين يرتابون في صحة هذه العبارة ويقودهم ريبهم إلى اتخاذ الوسيلة لتصحيحها، كما أنهم صححوا بالفعل كلمة "يفرق" بكلمة "يفرقون" جرياً على سياق الكلام (سورة البقرة ٢ :٢٨٥ قراءة يعقوب) وظنها بعضهم مصحفة عن كلمة نفرق في (قراءة حفص) وأشار إلى ذلك البيضاوي.

ليس من مقصدنا هنا إيراد القراءات المختلفة التي جاءت في القرآن  بل نضرب لكم مثلاً لإزالة ما عساه يكون قد علق بأذهانكم من الشبهة في ما يقابل هذه القراءات في الكتاب المقدس، وأما القراءات في كتابنا فتنقسم باعتبار أهميتها إلى ثلاثة أقسام: (١) القراءات الناتجة عن إهمال الناسخ أو جهله (٢) وتلك التي اقتضاها بعض النقص في الأصول المنسوخة (٣) وتلك التي وضعت لتصحيح عبارة ظنها الكاتب الأخير خطأ من الكاتب الأول وهي ليست بخطأ. ولا يسوغ عقل أن أحداً من المسيحيين قصد أن يتلف كتابه الذي يدين به ويهتدي بنوره، نعم إن بعض الهراطقة ليبرهنوا عقيدة عندهم أتوا بآيات ليس لها وجود إلا في نسخهم الخاصة من العهد الجديد. كما ادّعوا بأن الآيات التي تنقض تعليمهم لم تكن موجودة في النسخ الأصلية، ولو أن هؤلاء الهراطقة بلغوا لهذه الدرجة فإنهم لم يقصدوا أن يتلفوا كتابهم. وغاية ما في الأمر أنهم انخدعوا ببعض الأضاليل، غير أن المسيحيين على العموم ميزوا في كل وقت وفي كل حال الخطأ المدخل في نسخ الكتاب بمقابلتها على النسخ القديمة.

ثم نقول لو فرضنا أن فريقاً من اليهود أو النصارى غلت مراجل الحقد والتعصب في قلوبهم ضد الإسلام فتواطأوا معاً واجتمعت كلمتهم أن يحذفوا من التوراة والإنجيل كل ما يتعلق بمحمد، وقد فعلوا، فماذا يكون رأيك في بقية المسيحيين واليهود المتفرقين في كل أنحاء المعمورة؟  فإنهم بدون شك يرفضون أعمال تلك الجمعية الشيطانية ويرفضون الكتاب المزور خوفاً من أن يشتركوا في جريمتهم العظيمة، ومالنا ولهذا الفرض، ففي وقائع التاريخ ما يغنينا عنه، لقد حدث قبل محمد بزمن طويل أن الهراطقة سعوا كثيراً، لكنهم عجزوا أخيراً عن أن يحرفوا العهد الجديد على وفق مبادئهم، وهذا يدل على عدم إمكانية هذا المشروع، وحاول رجل من أهل العصور الأولى اسمه ماكرون أن يحذف الأصحاحين الأولين من بشارة لوقا فلم يفلح، لا بين الجمهور، ولا بين فريق قليل منهم.

ثم نقول لو أن ملكاً أو صاحب سلطة سياسية قام بعد وفاة موسى بقليل وجمع كل نسخ التوراة أو أصحاحات منها وأحرقها، واستنسخ توراة جديدة من محفوظات بعض اليهود، ومن السطور المكتوبة على العظام وشقق الأخشاب ونشرها بأمر سلطاني، وألزم رعاياه في كل مكان بالاعتماد على هذه النسخة الجديدة، لما كانت تبلغ قراءاتها المختلفة إلى المقدار الذي بلغت إليه بدون هذا الفرض، إلا أننا كنا نقع في ورطة أدهى وأمر بكثير من اختلاف القراءات، هي ضياع الثقة من التوراة بالمرة، لأنه لا يبقى دليل على أن النسخة الجديدة طبق الأصل، وتكثر الظنون في البواعث التي حركت ذلك الملك أن يفعل تلك الفعلة المنكرة.

وكذلك تكون النتيجة لو وقع مثل هذا الفرض لأسفار العهد الجديد في ختام القرن الأول للمسيح، لأنه كان يتعذر علينا اليوم الإتيان بدليل شاف أن النسخة الجديدة موافقة للأسفار التي أُحرقت وتلاشت من الوجود، وتبقى الأذهان مرتبكة ومرتابة في صحتها إلى يوم يبعثون! ولكن لله الحمد، فإن مثل هذا لم يقع في كتابنا لا في أسفار العهد القديم ولا في أسفار العهد الجديد، والحمد لله الذي لم يسمح أن يكون بيننا عثمان ولا بين اليهود الحجاج.

قد حدث أن بعض أباطرة الرومان الوثنيين شرعوا أن يحرقوا نسخ الكتاب المقدس على أمل أن يلاشوه من الوجود، لا ليستنسخوا كتاباً جديداً على هواهم، فدافع المسيحيون عن كتابهم وفدوه بدمائهم، وكثيراً ما شرع مضطهِدوهم بمثل هذا الشروع فلم يفلحوا.

ولو فرضنا أن كل كتبنا أُحرقت عن آخرها بحيث لم يبق كتاب واحد، لكان المحروق هو الورق فقط، ولكانت كلمة الله هي الباقية، جاء في هذا المعنى "يَبِسَ الْعُشْبُ ذَبُلَ الزهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الأبَدِ" (إشعياء ٤٠ :٨). وكيف تبقى كلمة الله إن أحرقت الكتب؟ تبقى بوسائط كثيرة، منها أن كثيرين من المسيحيين في كل عصر شغفوا بالكتاب المقدس حتى استظهروا أهم اجزائه، سيما المزامير وأسفار العهد الجديد، وعليه لا يمكن أن نتصور ملاشاة الكتاب من الأرض والمسيحيون على ظهرها.

لما حدث الاضطهاد العظيم في فرنسا في القرن السادس عشر أقبل قسوس كنائس الإصلاح إلى الكتاب المقدس يحفظونه غيباً حتى إذا سُلب من بين أيديهم يكون مدخراً في صدورهم ليستقوا من ينبوع الحياة رأساً ويرووا الآخرين، وقد أصبح معلوما لدى جميع الذين لهم قسط من الفطنة ما بذلته اليهود والنصارى من منتهى الجهد والحذر في الاحتفاظ على أسفارهم الإلهية نظير أرواحهم، وأصبحت الدعوى عليهم بأنهم بدلوا وغيروا أسفارهم قبل أو بعد الهجرة دعوى باطلة لا تصدر إلا من جاهل أو متعصب!

ولزيادة الشرح نقول: ما الفائدة التي كانت ترجوها اليهود والنصارى من وراء هذه الفعلة المحرمة وكلٌّ يعلم بحكم العقل والنقل عظم جريمة تحريف الكتب الإلهية، وقد ورد في ختام العهد الجديد ذكر دينونة هائلة تحيق بمن يحذف أو يزيد شيئاً على ما هو مكتوب في الكتاب وورد مثل ذلك في العهد القديم (تثنية ٤ :٢ ورؤيا ٢٢ :١٨ و١٩) وفضلاً عن كونهم لا يستفيدون شيئاً بل يخسرون رجاءهم فإنهم يعلمون أنهم بتحريفهم كتابهم لا يضرون أنفسهم فقط بل يضرون أولادهم وأحفادهم وهلم جراً.

وعدا ذلك نقول إن محمدا لم يلبث زمناً طويلاً حتى بات ذا سلطان عريض وجنود وبيت مال، وكان الأقرب إلى العقل أن النصارى واليهود الذين في بلاد العرب على الأقل لو كان في كتابهم أخبار عنه أو خبر لكانوا أسرعوا به إليه والنسخة في أيديهم تزلّفاً إليه إن لم يكن حباً في الدين فحباً في الدنيا، ولكان محمد وأتباعه يحرصون الحرص كله على كل تلك النسخ العزيزة التي شهدت له وشهد لها عوضاً عن أن يحذفوا من كتابهم تلك الأخبار، ويعرّضون أنفسهم بغير داعٍ لحرب لا قِبل لهم بها، ويدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون (سورة التوبة ٩ :٣٠) وينحدرون من مقام الحرية والمساواة إلى مقام الذمي الوضيع، ويبيتون هدفاً من آونة إلى أخرى للمذابح والفظائع كالتي جرت حتى في القرن العشرين في أطنة وما جاورها.

وكم من المشاهد المؤلمة تمثلت على مسارح الإسلام جيلاً بعد جيل بتحريض سورة التوبة على ألسنة حكام السوء وجمهور العوام.

لو كان اليهود والنصارى آمنوا بمحمد ورحبوا برسالته على العين والرأس لما نجوا فقط من هذه الرزايا بل كانوا شاركوا المسلمين في حظوظهم وامتيازاتهم الدنيوية، لكن أبت نفوسهم أن ترد هذا المنهل واعتصموا بإيمان آبائهم ولم يعيروا جانباً من الالتفات لخطبة الجمعة المذيلة بدعاء التهديد والإرهاب ينادى بها على المنابر في سائر أطراف مملكة آل عثمان، كقول الخطيب على منبره: اللهم رمِّل نساءهم ويتِّم أطفالهم، وخرِّب كنائسهم، وكسر صلبانهم، واجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين .. الخ، أليس من البيّن والجلي أنه إذا وُجد يهودي أو مسيحي كائن من كان جزءاً في كتابه يأمره بانتظار نبي من جزيرة العرب اسمه أحمد لكان بكل سرور اندمج في سلك الصحابة والتابعين ويفوز بسعادة الدارين. ولست بمبالغ إن قلت إن الترغيبات التي اقترنت بالإسلام من نعيم الدنيا ومجدها لجدير بها لولا عناية الله ومخافته أن تغري أهل الكتاب لا أن يحذفوا منه خبر محمد بل يختلقوه فيه ويحشروه في كل فصل من فصوله، فعدم إدخال اليهود والمسيحيين خبر محمد في أسفارهم وقد بلغ محمد وخلفاؤه ما بلغوا من السلطان أعظم دليل عند من وهبهم الله العدل والإنصاف على أمانة أهل الكتاب في حفظهم كتابهم على أصله بدون زيادة ولا نقصان.

ولو فرضنا أن طائفة من طوائف النصارى أو اليهود أضمرت السوء لمحمد حسداً وحقداً وحذفت خبره من الكتاب، لا لدفع غُرم ولا لجلب غُنم، بل على سبيل المكيدة، لظهرت مكيدتهم للطوائف الأخرى وبادروا إلى إصلاح التحريف وردّوا الكتاب إلى أصله، وغني عن البيان ما بين النصارى واليهود من العداوة القديمة وما بين طوائف النصارى من الاختلاف المذهبي في دقائق الدين مما لا يتصور معه جمع كلمتهم والتأليف بين آرائهم على تغيير كتابهم، ولو فرضنا أنه أمكن ذلك بين يهود ونصارى جزيرة العرب فلا يمكن تعميمه في كل جهات العالم. وكانت تقع تلك الفئة الباغية تحت سخط وزجر الجمهور في كل مكان.

وعدا ذلك فإنه نبغ في العالم مؤرخون عظماء بين النصارى واليهود والمسلمين في عصر محمد وقبله وبعده وسجلوا في مؤلفاتهم حوادث الزمان، وباطلاعنا على تواريخهم لم نر أثراً في تاريخ أحد منهم يدل على تواطؤ النصارى واليهود على حذف شيء من الأسفار المقدسة يتعلق بمحمد ولا بغير محمد.

وإن فرضنا أنه وُجد بين النصارى أو اليهود طائفة انتزعت مخافة الله من قلوبهم والحياء من الناس، بحيث لم يعودوا يبالون بعذاب الله ولا بملام الناس، وشرعوا يحذفون خبر محمد من التوراة والإنجيل، فإنهم يجدون ذلك ضرباً من المحال بسبب أن الديانة المسيحية وكتبها قبل الهجرة كانت قد انتشرت انتشاراً عظيماً، حتى أن سكان آسيا الصغرى وسوريا واليونان ومصر والحبشة وشمالي أفريقيا وإيطاليا قد اعترفت بالمسيح، بل وأكثر من ذلك فإن كثيرين في جزيرة العرب وبلاد فارس والأرمن والقوقاز والهند وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وانكلترا وألمانيا قد قبلوا المسيحية أيضاً، ولهذه البلاد لغات مختلفة تُرجم الكتاب إلى كثير منها، فتُرجم إلى الطليانية والأرمنية والأشورية والقبطية والكوشية والقوطية والقوقازية، وعدا هذه كانت التوراة موجودة في الأصل العبراني والعهد الجديد موجوداً في الأصل اليوناني، وتُرجمت التوراة كلها إلى اليونانية، وسُميت الترجمة السبعينية، وتُرجم كثير منها إلى الآرامية من قبل ميلاد المسيح.

ولا يخفى على أحد أن اليهود متفرقون في أنحاء العالم وبالأكثر في الجهات المشار إليها، وهم منقسمون إلى طوائف مختلفة، وكذلك المسيحيون منقسمون إلى طوائف كثيرة متضادة، فلا تقدر إحدى طوائف اليهود أو النصارى أن تُقدم على هذا المشروع خشية من تشهير الطوائف الأخرى بها، وتنادي عليها بالويلات بدون رحمة. وعلى ما تقدم مهما يكن المرء أحمق أو مختل العقل فلا يبلغ منه الحمق والخلل حداً يتصور له معه إمكانية اتفاق اليهود والنصارى هؤلاء مع اختلاف طوائفهم وأولئك مع اختلاف طوائفهم وتوحيد رأيهم على تغيير أسفارهم الإلهية، وإن فرضنا المستحيل وقلنا بل اتفقوا كلهم وغيروا كتابهم وجردوا صحائفه من السيرة المحمدية، فماذا عسانا نقول عن النسخ التي اكتُشفت بعد عصر محمد ويرجع تاريخها إلى ما قبله. فمن يا ترى غيَّر هذه أيضاً وهي تحت الأرض مخفية مع الآثار القديمة، هل انضمت جماعة الجن إلى حزب المتواطئين؟ ثم أن للمسيحيين مؤلفات دينية تفوق الحصر تشتمل على اقتباسات في مواضيع مختلفة من الكتاب المقدس. فهل راجع المتواطئون هذه المؤلفات أيضاً ونقحوها من سيرة النبي العربي.

والأغرب من ذلك كله أنه بينما يزعم المسلمون أننا غيَّرنا كتابنا وحذفنا منه البراهين على رسالة نبيهم، يحاول علماؤهم الراسخون أن يثبتوا وجود هذه البراهين في كتابنا اليوم، فإن صدق علماؤكم وكان في الكتاب براهين على ذكر محمد فلماذا إذاً تتهموننا بأننا حذفناها؟ أليس من عزم الأمور أن تستقروا على رأي واحد؟

ومن أمثلة براهينهم التي يوردونها في الكتاب على البشارة بنبيهم ما وعد به المسيح تلاميذه من إرسال الفارقليط كما جاء في بشارة يوحنا ١٦ :٧  لا يسلم المسيحيون أن الفارقليط هو محمد، إلا أن إبقاء هذه الآية في قلب الإنجيل لليوم دليل على أنها لم تُحذف منه، ثم نقول لو كان المسيحيون يريدون أن يحذفوا الآيات الدالة على نبوة محمد من كتابهم لكان الأولى بهم أن يحذفوا هذه الآية لأنها هي الآية الوحيدة التي نبه إليها القرآن وعينها بالحصر وقال إنها تشير إلى نبوة محمد، حيث يقول "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" (سورة الصف ٦١ :٦)، وكما أن محمداً ادعى أنه الفارقليط الذي وعد به المسيح بإرساله، ادّعى من قبله هذه الدعوى عينها ماني الفارسي (كما يعلم ذوو الاطلاع) وبنى دعواه على آية المسيح المشار إليها. وتبعه بعض المسيحيين، ولما اتضح على توالي الأيام أنه دجال واضمحلت شيعته، لم يحذف المسيحيون هذه الآية التي استعان بها على ضلالته، وهاك هي موجودة في الإنجيل إلى اليوم.

ثم أن اليهود اطلعوا على آيات كثيرة في توراتهم تدل على المسيح دلالة واضحة، واحتج بها المسيحيون عليهم احتجاجا لم يجدوا معه سبيلاً إلى التخلص من الالتزام بالحق، وعداوتهم للمسيح أشهر من نار على علم. ولكم لم يحملهم هذا كله على تحريف آية واحدة من الآيات الدالة على المسيح مع كونها تلصق بهم أعظم جريمة وتقضي عليهم قضاء مريعاً، فلو كان اليهود حرفوا التوراة في شأن محمد، لكان الأولى بهم أن يحرفوها في شأن المسيح ويحذفوا منها  هذه  البينات   الراهنات  (تكوين ٤٩ :١٠  وتثنية  ١٨ : ١٥ و١٨ ومزمور ٢٢ :١٤ - ١٨ وإشعياء ٧ :١٤ و٩ :٦ و٧ و١١ :١ - ١٠ و٥٢ :١٣ .. الخ، والإصحاح  ٥٣ كله،  ودانيال ٨ :١٣ و١٤ و٩ :٢٤-٢٧ وميخا ٥ :٢ وزكريا ١٢ :١٠) قابل هذه النصوص الجلية بما ورد في الإنجيل، لوقا ٢٤ :٢٥-٢٧.

وفي التوراة آيات تتعلق بمسألة أخرى يود اليهود لو لم تكن موجودة فيها، وهي تلك التي تشهر بفظائعهم وجرائمهم المتناهية في القبح، فلو كانوا حرفوا توراتهم بخصوص محمد فما كان أجدر بهم أن يحذفوا كل ما يشين سمعتهم ويلصق بهم شر الفعال!

أمرهم الله أن يحافظوا على شريعة التوراة (يشوع ١ :٧) وأن لا ينقصوا منها ولا يزيدوا عليها  (تثنية ٤ :٢ و١٢ :٣٢) فعملاً بالوصية حافظ اليهود على توراتهم، وخوفاً من أن تسقط منها كلمة أو حرف أحصوا كلمات كل سفر من أسفارها، بل أحصوها حروفاً وقيدوا الاحصاءات في كتبهم الدينية ليرجعوا إليها عند اللزوم، وليكن معلوماً أن نسخة التوراة المتداولة بين اليهود هي عين النسخة المتداولة بين النصارى، وكلتاهما تُطبعان في مطبعة واحدة.

ولئلا يظن بعضهم أنه ربما غيَّر اليهود توراتهم قبل المسيح. ونحن أخذناها عنهم مغيَّرة فصارت نسختهم ونسختنا واحدة. أقول إن القرآن كفانا مؤونة هذا الاعتراض، لأنه يشهد بأن المسيح جاء مصدقا لما معهم من التوراة، ثم أنه لا المسيح ولا رسله اتهموا اليهود بتهمة التحريف. وهاكم صحائف الإنجيل راجعوها تجدوها بيضاء نقية من هذه التهمة، في حين أنها شهرت بخطاياهم في غير هذه المسألة، بل يشهد الإنجيل للتوراة بأنها موحى بها من الله، وأنها باقية على أصلها، ويحرض المسيحيين على قرائتها والعمل بها، ومن ذلك  الآيات  الآتية  في  الإنجيل (متى ٥ :١٧ و١٨ و٢٢ :٣١ و٣٢  ومرقس ٧ : ٦- ١٠  ولوقا ١١ :٢٩-٣٢ و٢٤ :٢٥-٢٧ ويوحنا ٥ :٣٩ و٤٥-٤٧ وتيموثاوس الثانية ٣ :١٦)، من هذه الآيات البينة يتضح أنه في عصر المسيح ورسله قبلت التوراة لديهم كتاباً موحى به من الله ليس بها مساس من مظنة التحريف والتغيير، لأنه لو حرفها اليهود لكان المسيح وبَّخهم علانية على هذا الشر العظيم، ولأشار بلا شك إلى مواضع التحريف وأصلحها لتبقى صالحة للاستعمال في كنيسته.

وهذه النظرية ذاتها تثبت عدم ضياع التوراة وعدم تحريفها عند خراب أورشليم في زمن بختنصر والأسر البابلي، ولو حدث شيء لكان المسيح بيَّن الحقيقة.

إن بعض كتاب المسلمين يدعون أنه في وسعهم أن يثبتوا وقوع التحريف عمداً في التوراة، ويعينوا الآيات المحرفة، ومنها على ما يدّعون الآية الواردة في سفر التثنية ٢٧ :٤ ففي النسخة السامرية مكتوب "جبل جرزيم" وفي العبرانية "جبل عيبال" ولكن الحقيقة هي أنه ليست النسخة العبرانية وحدها المكتوب فيها جبل عيبال بل في كل التراجم القديمة كالترجمة السبعينية واللاتينية الدارجة والسريانية والباشطا والأرمنية والحبشية.

وعليه فالعبارة الأصلية "جبل عيبال" كما في الأصل العبري لا "جبل جرزيم" كما في النسخة السامرية التي حرفها السامريون لرغبتهم الخصوصية في الجبل الذي سموه بهذا الاسم، ومع كونهم حرفوا نسختهم في هذه الكلمة انحصر التحريف فيها ولم يتعدَّ إلى النسخ الأخرى المعتمدة عند طوائف اليهود وطوائف النصارى. وهناك احتمال آخر في هذه المسألة، فربما ظنَّ الناسخ الذي نقل النسخة السامرية عن العبرانية أن الكاتب الأول كتب جبل عيبال سهواً عوض جبل جرزيم لمناسبة ما ورد في عدد ١٢ من ذلك الأصحاح، ما مؤداه أن بعضاً من الأسباط الاثني عشر يقفون على جبل جرزيم ويباركون الشعب والبعض الآخر يقفون على جبل عيبال وينطقون باللعنات على من يرتكب تلك المعاصي المذكورة هناك. ويقول الشعب آمين، فمن المحتمل أن كاتب النسخة السامرية ظن المقصود جبل البركات لا جبل اللعنات وعلى كل حال فإن السامريين لم يقدروا أن يعمموا هذا الخطأ أو التحريف إلا في دائرتهم الخصوصية (إن صح أنه تحريف!)

ولو كان اليهود هم الذين حرفوا نسختهم لا السامريون لكان الأولى بهم أن يحرفوا عدد ١٢ لا عدد ٤.

ثم إننا كنا قد أشرنا في ما تقدم إلى الخلاف الموجود بين النسخة السامرية والنسخة العبرانية والترجمة السبعينية من حيثية أعمار بعض الآباء الأولين في أصحاحي ٥ و١٠ من سفر التكوين. وفي الغالب يجب أن يُحمل هذا الخلاف على محمل الخطأ، لأن الأرقام قابلة الخطأ حيث يسهل أن يحل بعضها محل الآخر، ومن الواضح أن اختلاف النسخ في هذه الأرقام لا يمس جوهر الكتاب في شيء.

وحاول بعض كتاب المسلمين أن يثبتوا وجود اختلاف كثير بين أسفار الكتاب المقدس، وزعموا أن هذا الاختلاف دليل على تحريفه، غير أن الكتّاب المطلعين ذوي العقول الراجحة والأفكار النيرة يسلّمون أنه إن كتب كاتبان أو أكثر عن واقعة حال، وكتب كلٌّ منهم بمعزل عن الآخر، تأتي كتاباتهم مختلفة اختلافاً ظاهرياً، ولكن إن اتفقت اتفاقاً تاماً يستدل من اتفاقهم على أنهم متواطئون.

أما البسطاء فيشتبه عليهم ظاهر الاختلاف بين سفر وآخر ويعثرون في صحة الأسفار، أما المطلعون فيعلمون أصله ويحلونه حلاً جميلاً، والاختلاف الظاهري بين أسفار الكتاب المقدس أعظم دليل على أمانة أهله، وإلا لكانوا أزالوه منه لكي لا يبقى عرضة لانتقاد المنتقدين، ومن أمثلة والاختلاف الظاهري ما ورد عن نسب المسيح في بشارة متى الإصحاح ١ وبشارة لوقا الإصحاح ٣ وما ورد عن موت يهوذا في بشارة متى ٢٧ :٥ وسفر الأعمال ١ :١٨ و١٩ فلو كان استباح أهل الكتاب التحريف لكانوا وفَّقوا بين هذه المواضع من كتابهم.

ويزعم قوم من المسلمين أن الإنجيل محرف لقول بعض النصارى إن الآيات الآتية غير موجودة في النسخ القديمة وهي بشارة مرقس ٩:١٦ إلى ٢٠ وبشارة يوحنا ٥ : ٣ و٤ و٧ :٥٣ - ٨ :١١ ورسالة يوحنا الأولى ٥ :٧، ولو أن هذه الآيات لم تكن موجودة في المتن في النسخ الأكثر أقدمية إلا أنها موجودة على الهامش، فظنها الناسخ من الأصل فأدمجها فيه بسلامة نية، وسواء أصاب في ظنه أو أخطأ، فإن وجود هذه الآيات وعدمه لا يؤثران في جوهر الكتاب ولا في عقيدة من عقائد الكنيسة لأن الحقائق الأساسية التي تضمّنها مستوفاة بأكثر تفصيل في مواضع أخرى من كتابهم.

وبالنسبة لهذه المسألة يوجد فرق عظيم بين الكتاب والقرآن فإن المطلعين من المسلمين يعلمون أن فريقاً من الشيعة أثبتوا أن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني وعثمان بن عفان الخليفة الثالث غيَّرا جملة آيات من القرآن بسوء النية والقصد ليخفيا عن المسلمين حقيقتين هما من الأهمية بمكان: الأولى، هي يجب أن يكون عليٌّ صاحب الخلافة بعد محمد. والحقيقة الثانية يجب أن تحصر الإمامة في ذريته، ويدّعي فريق آخر أنه أسقط من القرآن سورة بجملتها يقال لها سورة النورين للغاية المشار إليها. أما نحن فلا يهمنا التحري عما إذا كانت هذه الدعوى صحيحة أو مُختلقة، ولكن تهمّ أهل السنة من المسلمين، لأنه إن كانت سورة النورين من القرآن حقيقة يكون ما أشقاهم واسوأ حظهم، لأنها تنذرهم بسوء العاقبة كما في قوله "إن لهم في جهنم مقاماً عنه لا يعدلون"، وكتب ميرزا محسن بكشمير في كتاب له سنة ١٢٩٢ هجرية يسمى (داستاني مذاهب سورة النورين) وذكر أن بعض الشيعيين يؤكدون بأن عثمان عندما أحرق المصاحف القديمة وأمِن على نفسه مناقشة الحساب، عمد إلى النسخة التي كانت بين يديه وشطب منها كل ما كان من مصلحة علي ابن أبي طالب وذريته من السيادة والإمامة، وقال أن بعض العلويين ينكرون القرآن المتداول اليوم، ولا يسلمون بأنه هو الذي نزل من الله على محمد، كما يعتقد المسلمون. بل يقولون إنه اختلقه أبو بكر وعمر وعثمان. نعم إن لدى العلماء المحققين من الأدلة ما يكفي لدحض هذه الدعاوي الباطلة، غير أنهم لا يسعهم إلا التسليم بأن هذه التهم الشائنة صوبها نفس المسلمين إلى القرآن، والذي يهمنا من المسألة أن هذه التهم في اعتبارهم مخلة بجوهر الخلاص لكل فرد من المسلمين، إن كان في الإسلام خلاص، في حين أن الدعاوى المزعومة على كتابنا المقدس محصورة في آيات قليلة، وهي التي سبقت الإشارة إليها إن حذفت من الكتاب أو زيدت عليه لا تخل بشيء من عقائد الدين والخلاص على الإطلاق - لأنها عرضية لا جوهرية.

ويدّعي بعض المسلمين عدا ما تقدم ذكره أنه قد ضاع من بين دفتي الكتاب المقدس أسفار كانت معدودة منه يوماً ما كسفر ياشر (كما في سفر يشوع ١٠ :١٣) وكتاب حروب الرب (كما في سفر العدد ٢١ :١٤)، فنقول دحضا لهذا الاعتراض إن السفرين المذكورين لم يندرجا قط في سلسلة أسفار التوراة، وإن كانت أشارت إليهما التوراة، وحكمها حكم الأسفار التي أشار إليها القرآن وهي ليست منه كصحف إبراهيم مثلاً.

واعترض بعضهم بأن الكتاب المقدس عند الكنيسة الرومانية يتضمن أسفاراً معدومة عند كنيسة البروتستانت، ورداً على هذا نقول: إن أسفار العهد الجديد موجودة بذاتها عند عموم المسيحيين من بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس، وأما أسفار العهد القديم فقد زادت عليها الكنيسة الكاثوليكية أسفارا لم تكن مدرجة من ضمن التوراة عند المسيحيين الأولين ولا عند اليهود فضلاً عن كونها لا توجد في الأصل العبراني، نحن معاشر البروتستانت نعتمد أسفار العهد القديم حسبما هي مدرجة في قانون اليهود وتثبَّتت لنا من المسيح ورسله. ولكن إن فرضنا أن هذه الأسفار المزيدة موحى بها فإنها بجملتها لا تؤثر على أية عقيدة من عقائد الديانة المسيحية. وأما الفروق المذهبية بين كنيسة البروتستانت وغيرها فلم تنتج عن زيادة هذه الأسفار على العهد القديم، ولا عن اختلاف في الكتب، كما أن مذاهب الإسلام لم تنتج عن اختلاف في القرآن بين مذهب وآخر.

قد تكلمنا عن نسخ أسفار العهد القديم والجديد في اللغات الأصلية، وتكلمنا عن التراجم القديمة في جملة اللغات التي لم تبق إلى اليوم، ونتكلم هنا بالإيجاز عن الأدلة التي أقامها لنا كتبة المسيحيين الأولين على الموضوع الذي نحن بصدده. فنقول إن بين أيدينا مؤلفات مسيحية كثيرة يختلف تاريخها من القرن الأول للميلاد إلى ما بعد الهجرة في لغات مختلفة يونانية ولاتينية وسريانية وقبطية وأرمنية، أقدمها رسالة اكلميندس إلى كورنثوس سنة ٩٣ إلى ٩٥ ورسائل أغناطيوس السبع سنة ١٠٩ إلى ١١٦ ورسالة بوليكاربوس سنة ١١٠ تقريباً ورسالة نُسبت خطأ إلى برنابا سنة ١٠٠ إلى ١٣٠ كتبت جميع هذه باليونانية.

ثم قام كّتَّاب كثيرون بعد هؤلاء وكتبوا ما عنَّ لهم في لغات مختلفة. وأولئك أجمعون كأنهم اليوم أحياء بين ظهرانينا يشهدون بأن إيماننا اليوم كإيمان الكنيسة في عصورهم الأولى، وعدا ذلك اقتبسوا آيات كثيرة من أسفار العهد القديم والعهد الجديد منها ما هو بالمعنى ومنها ما هو باللفظ، وجميع ما اقتبسوه مطابق لكتابنا المقدس المتداول اليوم. وهذا دليل قوي على أن الكتاب المقدس لم يُحرف لا قبل الهجرة ولا بعدها، ولو فرضنا أنه قامت جمعية في عصر محمد أو بعده وضمت بين أحضانها أخبث من على وجه الأرض وتعاونوا على تحريف الكتاب المقدس فستمنعها جبال من الصعوبات لا يستطيعون تذليلها إذ عليهم أولاً أن يجوبوا أقطار الأرض المنتشرة فيها المسيحية واليهودية من قارة آسيا وأوروبا وأفريقيا، ويزوروا كل مجمع لليهود، وكل كنيسة ومكتبة وبيت يهودي ومسيحي. ويجمعوا كل النسخ في كل اللغات ما بين عبرانية ويونانية ولا تينية وقبطية وأرمنية وحبشية وعربية وغيرها. وعليهم أن يحتالوا على السامريين ويستكشفوا خبايا أسفارهم المتوغلة في القدم وتراجمها المتأخرة في لغتهم الخاصة، ويسلبوها منهم، وعليهم أيضاً أن يحرفوا الترجوم الآرامي اليهودي. وبعدما ينتهون من جمع نسخ الكتاب المقدس من كل العالم عليهم أن يتفقوا على ما هم شارعون في حذفه ويحذفوه، ويبقى عليهم بعد ذلك كله أن يجمعوا مؤلفات اليهود والنصارى الدينية في كل اللغات من كل أقطار الأرض ليخفوا الاقتباسات المتضمنة فيها لئلا تنكشف حيلتهم ويذهب تعبهم باطلاً، وعليهم في ختام مشروعهم أن يكون لهم سلطان فائق الطبيعة حتى يمحوا من ذاكرة المسيحيين واليهود الذين على وجه الأرض ما حفظوه غيباً من توراتهم وإنجيلهم الأصليين لكي لا يفطنوا إلى التوراة والإنجيل المحرفين، أظن ما من عاقل يتصور جواز هذه المستحيلات، فمن باب أولى لا يتصورها إخواننا الراسخون في العلم، مع أن القرآن صرح في سورة آل عمران بقوله "مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ الليْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" - سورة آل عمران ٣ :١١٣ فمن ذلك نستنتج ثلاثة أمور (١) أنه كان يوجد بعض الأتقياء الذين لم تسمح لهم ذمتهم بتحريف الكتاب (٢) أن الكتاب كان موجوداً بين أيديهم (٣) أنه كان معروفاً عندهم وهم يتلونه.

ولايمكن لذي عقل أن يتصور إمكانية اتفاق اليهود والمسيحيين على ارتكاب هذا الإثم الفظيع الموجب للمذمة في الدنيا وغضب الله في الآخرة، لأنه لا يوجد سبب يدعو إلى هذا الاتفاق.

ولنفرض أن جماعة أقوياء من المسلمين في وقتنا أو قبل ظهور مطابع الحروف والحجر عزموا أن يحرّفوا القرآن وكل الكتب الإسلامية ألا يهزأ بهذا الكفر حال كون القرآن لم يترجم إلى لغات متعددة كالكتاب المقدس في عصر محمد؟

ولنفرض أنه لو تيسر لهم أن يجمعوا نسخ القرآن المنتشرة في أقطار العالم ويحرفوها، فليسوا هم بقادرين على جمع الكتب الدينية الإسلامية ولا التفاسير الكثيرة للقرآن، ولو فرضنا أنهم قدروا على ذلك أيضاً، ألا يظهر تحريفهم من الكتب التاريخية كابن هشام والواقدي والغازي وفتوح مصر وفتوح العجم أو على الأقل الطبري وابن الأثير؟ لا يمكن لأي عاقل أن يتصور إمكانية ذلك، حتى لو كانت كل هذه الكتب في لغة واحدة. فبالأحرى لا يمكن تحريف الكتاب المقدس في عصر محمد أو بعده لانتشار الاقتباسات الكثيرة ولتعدد تراجمه.

    ولو سلمنا جدلاً بإمكان تحريف الكتاب المقدس بغضّ النظر عن كل هذه الصعوبات، أفما كان يظهر هذا التحريف من الكتب التي اكتُشفت حديثاً وقد كنا نعرف أسماءها ولم نر مسمياتها وهي في اللغات اليونانية والقبطية والأرمنية والسريانية منها: (١) قانون الرسل (سنة ١٣١ - سنة ١٦٠ ب م)، (٢) كتاب محاربة أرستيدس (سنة ١٣٨ - سنة ١٤٧ ب م)، كتاب اتفاق البشيرين لستاتيانوس (سنة ١٦٠ - سنة ١٧٠ ب م) وهذه الكتب قد ضاعت من قبل محمد بمدة طويلة، واكتُشفت في هذه الأيام الأخيرة، فلا يمكن تحريفها في حياته أو بعد موته، وهي تشهد بوحدة الإيمان المسيحي في العصور الأولى وفي هذا العصر، كما هو مثبت في الكتاب المقدس المنتشر اليوم في كل العالم، فترى من هذه الأدلة الساطعة والحجج الدامغة أن التوراة باقية على حالها كما كانت في زمن المسيح، والإنجيل باق على حاله كما كان في زمن رسله الأطهار - الحواريين.

ومن الحقائق التي تدحض الرأي الشائع بين المسلمين بتحريف الكتاب المقدس، هو أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر، وفتح أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد الشام، وسعد بن أبي وقاص العراق، وقعت بين أيديهم أشهر مكاتب العالم في ذلك العصر. وأخصّ بالذكر مكتبة اسكندرية وقيصرية، وكان في هذه المكتبات عدد وفير من نسخ الكتاب المقدس والمؤلفات المسيحية القديمة، وما كان أيسر عليهم أن يحفظوا هذه المكتبات أو على الأقل الكتب المقدسة التي جاء القرآن مهيمناً عليها، وتكون لهم في مستقبل الايام حَكَماً يحكمون بها عما إذا كان ما يستحدث من النسخ محرفاً أو هي طبق الأصل، ولكنهم أحرقوها. أحرقوا التوراة والزبور والإنجيل التي قال القرآن إنها كلام الله وخبر إحراق هذه المكاتب ورد في تاريخ أبي الفرج وكشف الظنون.

لو حفظ المسلمون نسخ الكتاب التي وقعت بين أيديهم لأمكنهم منع ا حتمال تحريفه في العصور الأخيرة لكنهم لم يبالوا بوصية قرآنهم ولا قضوا حق هيمنته. أما المسيحيون فقد استحفظوا على ما وقع في أيديهم من هذه الكتب المقدسة القديمة التي كتبت قبل الهجرة بقرون عديدة وسلمت من أيدي المسلمين في الاسكندرية وغيرها، وهاكم هي اليوم محفوظة في مكتبة روما وبطرسبرج وباريس ولندن وغيرها من مكتبات أوروبا. ويمكن لسياح المسلمين ونزلائهم في أوروبا أن يزوروا هذه المكتبات ويتحروا حقيقة دعوانا. وقد أخذت صورة بعض النسخ القديمة بواسطة آلة التصوير الشمسي ونشرت بين الناس لكي يراها من ليس في وسعه أن يزور هذه المكتبات من أهل الأقاليم القاصية الذين يهمهم الاطلاع عليها، ومن مقارنة هذه النسخ الأصلية القديمة بعضها على بعض حصلنا على النسخة اليونانية الأصلية للعهد الجديد والنسخة العبرانية للعهد القديم وهما مطابقتان للنسخ القديمة المتفرقة في العالم. ومن النسختين الأصليتين ترجمنا الكتاب المقدس إلى أكثر من أربعمائة لغة أي أكثر لغات العالم التي تصلح للترجمة.

ومما سبق أقمنا الأدلة القاطعة الدالة على عدم تحريف الكتاب المقدس على الاطلاق لا قبل عصر محمد ولا بعده. وأن العلماء المحققين من المسلمين السالفين والمتأخرين يوافقون على عدم التحريف. وقد أثبتنا أيضاً بطلان وقوع نسخ في الكتاب المقدس لا في أخباره التي رواها ولا في مبادئه الأخلاقية ولا عقائده الدينية، وقد بيّنا أن الكتاب المقدس اليوم هو بعينه كتاب العصور الأولى المتقدمة على زمن محمد بمئات من السنين، وشهد له القرآن بأنه كلام الله وكتابه في أكثر من مائة وعشرين موضعاً إلى أن قال إنه جاء مهيمناً عليه.

وعلى ما تقدم يجب على كل مسلم مؤمن بالقرآن إيماناً حقيقياً أن لا يدع روح التعصب الذميم يحول بينه وبين الاعتقاد بصحة الكتاب المقدس، واتخاذه لنفسه نوراً وهدى في سبيل الحياة (انظر سورة غافر ٤٠ :٥٦)، وحتى تتوفق إلى الهداية به يجب أن تقرأه بانتباه طالباً من الله بإخلاص واشتياق أن ينير ذهنك ويفتح قلبك لتفهم تعليمه وتهتدي إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين - آمين.

ميزانُ الحَق

كيفَ تخلُصُ أيُّها الإنسانْ؟

O Man, How can you be saved?

الجزء الثاني

الدكتــور فــاندر

Dr. Carl Pfander

(Arabic)

الباب الثاني

الغرض من هذا الباب أن نبين تعاليم الكتاب المقدس الأساسية وأن نبين أيضا أن هذه التعاليم توافق الشروط الضرورية للوحي الحقيقي

كما بينا ذلك في مقدمتنا

الفصل الأول

بيان مختصر لمشتملات التوراة

نهر النيل في القاهرة
نهر النيل في القاهرة

يتألف الكتاب المقدس من قسمين: أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد. ويُطلق على القسم الأول اسم التوراة والأخير اسم الإنجيل، لأن القسم الأول يبتدئ بشريعة موسى، والثاني يبتدئ بالأناجيل أي البشائر الأربع.

وكنا قد بينا فيما تقدم أن اليهود قسموا أسفار العهد القديم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: التوراة (الشريعة) والأنبياء، والصحف وتُسمى الأخيرة بالمزامير لأنه يبتدئ بها. وكُتبت أسفار العهد القديم جميعها باللغة العبرانية، ماعدا إصحاحات قليلة كُتبت بالآرامية، أما أسفار العهد الجديد فلغتها الأصلية اليونانية. وحفظ اليهود توراتها باللغة الأصلية بكل دقة وعناية إلى الوقت الحاضر وأخذها عنهم النصارى من بدء تاريخ الديانة المسيحية بأمر المسيح نفسه (بشارة متى ٥:‏١٧ و٢١:‏٤٢ و٢٦:‏٥٤ ومرقس ١٢:‏٢٤ ولوقا ٢٤:‏٢٧ و٤٥ ويوحنا ٥:‏٣٩ .. الخ). ولهذا فأسفار التوراة التي نستعملها اليوم هي ذات الأسفار التي كانت بأيدي اليهود في بلاد فلسطين في عصر المسيح وفي كل مكان وزمان.

يتضمن العهد القديم الوحي الإلهي الذي كتبه الأنبياء والمرسلون إلى زمن المسيح وأكثر الأسفار متوَّجة بأسماء الذين كتبوها ما عدا القليل منها حيث يُعرف كاتبوها من التقاليد القديمة. ومع ذلك فإن شهادة المسيح لها وتصديقه عليها كما صرح القرآن لا يدع سبيلاً للارتياب فيها. وقد قسم العهد القديم في العصور السالفة إلى اثنين وعشرين سفراً على عدد حروف الهجاء العبرانية، وتقسم في الوقت الحاضر إلى أربعة وعشرين سفراً بفصل راعوث عن سفر القضاة وفصل مراثي ارميا عن سفر نبوته واعتبارهما سفرين كلّ على حدة. وقد جرت عادة أكثرهم أن يقسموا الأسفار إلى سفرين أول وثان،وهي صموئيل والملوك وأخبار الأيام. ويقسم سفر الأنبياء الإثني عشر إلى اثني عشر سفراً صغيراً، فبلغت الأسفار بموجب هذا التقسيم الأخير تسعة وثلاثين سفراً، وهو التقسيم الذي اعتمد عليه المسيحيون. وأظن أن مسألة التقسيم لا يعلق أحد عليها أهمية كبيرة مثل تلك التي يكون لها مساس بالمتن الأصلي.

فتوراة موسى أو أسفار شريعة موسى الخمسة، التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية، يسجل الوحي تاريخ خلق العالم والإنسان، وكيف عصى آدم ربه وسقط في الخطية وجلب الموت على نفسه، وكيف أن الله الكلي الرحمة والجود وعد أن يرسل مخلّصاً إلى العالم يولد من نسل المرأة (سفر التكوين ٣:‏١٥) ولما توغل العالم في المعاصي والفجور أهلك الله بني آدم أجمعين ما عدا نوح وأهل بيته. إلا أنه من بعد الطوفان عادت ذرية نوح إلى فعل الشر وسقطت في عبادة الأوثان بالتدريج، إلى أن لم يبق بينهم من يعبد الإله الحق إلا إبراهيم،فاختاره الله واتخذه خليلاً لأنه آمن به. وعند ذلك وعده بأن المخلّص سيأتي من نسل ابنه إسحاق، وكان لإسحاق ابنان اصطفى الله منهما يعقوب وسمّاه إسرائيل وجدّد معه عهده ووعده الذي وعد به إبراهيم، وهو أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض. وفي سبيل إنجاز ذلك الوعد الكريم أرسل الله الأنبياء من ذريته دون الشعوب الأخرى كما يعترف بذلك القرآن "وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُّوَةَ"(سورة الجاثية ٤٥:‏ ١٥) وذلك حتى تكون نبواتهم فصل الخطاب في تعريف المخلّص الآتي وتقديمه للعالم.

كانت الحالة تقتضي قبل إنجاز الوعد أن يتدرب بنو إسرائيل على الشؤون الدينية ويتخرجوا فيها حتى يصلحوا أن يكونوا فيما بعد أساتذة المسكونة، وكذا قضت التدبيرات الإلهية وكانت الخطوة الأولى أن ينزل الأسباط إلى مصر وهم نفر قليل، ولم يمض عليهم أربعمائة سنة حتى صاروا شعباً عظيماً يعد بمئات الألوف. فخشي فراعنة مصر عاقبة نموهم السريع، واتّخذوا الوسائل لإبادتهم، وسخروهم في الأعمال الصعبة المضنية للجسم، فأخرجهم الله على يد موسى سنة ١٣٢٠ ق. م أو سنة ١٣١٤ بموجب الحساب اليهودي وأظهر لهم الله مجده على جبل سيناء، وأعطاهم الوصايا العشر وغيرها مما هو مدون في التوراة. ومن ضمن غايات شريعة موسى إنارة أذهان الشعب ليفقهوا موضوعاً غاية في الأهمية كان مجهولاً في ذلك العصر ولا يزال مجهولاً إلى وقتنا الحاضر عند الجانب الأعظم من سكان العالم، ولا يعرفه إلا اليهود والنصارى، ألا وهو قداسة الله. ومن غايات الشريعة أيضاً فرز اليهود عن الأمم واعتزالهم عنهم في كل شؤون الدين والدنيا، وكانت الحكمة في ذلك حفظ الإعلانات الإلهية من أن يشوبها شيء من رجاسات الأمم وعاداتهم فيختلط الحق بالباطل، فاقتضت الحكمة الإلهية اعتزال أمة إسرائيل لتبقى شرائعهم على حالها إلى أن يأتي المسيح الذي هو روح النبوة والشرع وخلاصة الوعود والعهود، لن تكون هناك ضرورة لبقاء الحجاب الفاصل بين اليهود والأمم، بل يجب إزالته لأنه يكون قد جاء المسيح مشتهى كل الأمم الذي له تخضع شعوب الأرض.

وبعد أن انقضت أربعون سنة على بني إسرائيل بين حط وترحال في برية سيناء المعروفة بأرض التيه، أدخلهم الله أرض كنعان أو أرض الميعاد، وفي القرآن الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، وفي سفر يشوع ذكر فتح بني إسرائيل لأرض كنعان وإبادة كثير من شعوبها الوثنية جزاء لهم على توغلهم في كل معصية، مثل تقديم أطفالهم ذبائح لأوثانهم، وانغماسهم في الفسق والفجور تكريماً لمعبوداتهم المشهورة بتلك القبائح. أما شعب إسرائيل فقد ملكوا الأرض إنجازاً لوعده تعالى إلى خليله إبراهيم.

وفي سفر القضاة وراعوث وسفري صموئيل والملوك وأخبار الأيام نجد تاريخ الوقائع الرئيسية التي وقعت لشعب إسرائيل من ذلك الحين إلى السبي البابلي. وحدث مراراً كثيرة في غضون المدة التي أقاموها في أرض كنعان أنهم سقطوا في وثنية بقايا الشعوب الأصليين، فجازى الله شعبه بأن سلط عليهم الوثنيين فقهروهم وكدروا صفو حياتهم إلا أنه كلما تابوا إليه ورجعوا إلى عبادته تعالى نصرهم على أعدائهم نصراً باهراً على أيدي أفراد اصطفاهم من بينهم.

وبعد انتهاء حكم ملكهم الأول المدعو شاول، وفي القرآن طالوت (سورة البقرة ٢:‏٢٤٨) مسح الله داود ملكاً عليهم، وكان ذلك حوالي سنة ١٠٢٠ ق.م وخلفه ابنه سليمان وحكم من سنة ٩٨٠ إلى سنة ٩٣٨ ق.م. وبعد نهاية حكمه ثار عشرة أسباط على خلفه رحبعام وخرجوا عن طاعته وشيدوا لهم مملكة هي مملكة إسرائيل، وملّكوا عليهم يربعام بن نباط، وبقي السبطان على ولائهم لبيت يهوذا وشيدوا مملكة أخرى هي مملكة يهوذا، ولم تلبث مملكة إسرائيل حتى سقطت في العبادة الوثنية، وبعد قليل اقتفت آثارها يهوذا، فدفعهم الله إلى أيدي أعدائهم وعاقبهم هذه المرة عقاباً أشد صرامة من العقوبات التي ألفوها وبدأ بقصاص مملكة إسرائيل ليعطي يهوذا فرصة للاعتبار والتوبة، فسلط عليها الآشوريين فغزوها وأسروها في فارس ومديان سنة ٧٣٠ ق.م. وهنا انقرضت مملكة إسرائيل، أما مملكة يهوذا فلم تتعظ مما حدث مع إسرائيل، بل سارت على نهجها إلى أن خضعت لملوك بابل سنة ٦٠٦ ق.م، وظلت تحت نيرهم سبعين سنة أي إلى سنة ٥٣٦ ق.م. وفي سنة ٥٨٧ هدم بختنصر ملك بابل هيكل سليمان وأسر رؤساءهم إلى بابل.

وفي سفر عزرا تفصيل لرجوع اليهود إلى أرضهم وذلك أنه لما انقضت عليهم سبعون سنة العبودية التي تنبأ عنها ارميا النبي أنقذهم الله بأن حول قلب كورش ملك فارس بعدما انضمت بابل وكثير من الأراضي تحت سلطانه إلى العطف عليهم ومؤاساتهم،فسمح لهم أن يرجعوا إلى بلادهم، وتتلو ذلك قصة تجديد الهيكل وترميم أورشليم كما هي مشروحة في سفري عزرا ونحميا.

ولكن لما رفض اليهود المخلّص الذي وعدهم الله به تنبأ عليهم المسيح بعقاب هائل لم يروا مثله في تاريخهم السالف، وهو قلب مدينتهم المحبوبة وهيكلهم العظيم رأساً على عقب، وإتماماً لهذه النبوة ونبوات موسى خرَّب الرومان مدينتهم وهيكلهم سنة ٧٠ م. ومن ذلك الوقت إلى الآن تفرقوا في الأرض طولاً وعرضاً بلا بلاد أو ملك، وكابدوا من الضيقات ولا زالوا يكابدون ما ليس له مثيل.

وعلى ما تقدم يمكننا أن نلخص من التوراة أن مقصد الله في معاملته بني إسرائيل هذه المعاملة وتسجيل وقائعهم وتواريخهم الهامة بين أسفار الوحي في ثلاثة أشياء (أولاً) أن يُظهر لهم ولأهل العصور المقبلة أن القلب البشري يميل إلى العصيان والتمرد بالرغم عن نعم الله وبركاته وهدايته المتوالية بواسطة إرسال الرسل والأنبياء جيلاً بعد جيل، معلّمين ومنذرين، وكل ذلك لم يمنع الإنسان من الابتعاد عن عبادة الله الحي وليّ نعمته وخالقه إلى عبادة الأصنام، (ثانياً) لكي يعلّم بني إسرائيل أن العتق من نير الخطية وسلطان الشهوات الجسدية لا يمكن أن ينتج عفواً من مجرد معرفة وصايا الله، ولا من حفظ الرسوم والطقوس الدينية، بل لا بد من عامل قوي عسى أن تتولد فيهم مشاعر الشوق إلى المخلص الموعودين به في توراة موسى وأسفار الأنبياء بالتدريج، ويشعرون بشديد الحاجة إليه، (ثالثاً) حتى يُطلع الأمم جيلاً فجيلاً على معاملة الله لبني إسرائيل وإعلاناته السامية لهم عن قداسته وعدله ورحمته، أما عدله فبواسطة ما أوقعه عليهم من القصاص الصارم على خطاياهم، وأما رحمته فبواسطة ما أحسن إليهم به وبارك فيهم وغفره لهم إلى غير ذلك لكي يتخذوا لأنفسهم عبرة من ذلك ويعلموا أن أصنامهم لا شيء، وأن إله إسرائيل هو الإله الحق خالق السموات والأرض ويعبدونه ويخدمونه ويستنيرون بنور إنجيل الخلاص بيسوع المسيح مخلص العالم الذي أخبرت عنه التوراة إلى أن حصرت نسبه في ذرية داود وعينت مولده في بيت لحم بأرض يهوذا.

وعدا الأسفار التي ذكرناها في بيان تاريخ إسرائيل حسبما تقدم يوجد أسفار أخرى تشتمل على تعليمات في تمييز ما هو مقبول عند الله، كما تشتمل على صلوات وتسابيح وشكر لله العلي العظيم، ونبوات عن حوادث المستقبل تم منها إلى اليوم عدد كبير. ومن هذه الأسفار سفر أيوب والمزامير والأمثال وأشعياء وارميا وحزقيال ودانيال والأسفار الاثني عشر الصغيرة، وكلٌّ هؤلاء الأنبياء، ولو أنه كتب سفره لأهل عصره من بني إسرائيل محذراً ومعلّماً، إلا أنه من الجهة الأخرى قصد إعداد العصور المستقبلة لقبول مخلص العالم الذي نبّه الله عن مجيئه بواسطة إبراهيمَ خليله وإسحاق ويعقوب وموسى.

فمن هذه الأسفار كان من الممكن لخائفي الله وأتقيائه من بني إسرائيل أن يعرفوا النقط الرئيسية في وصف المخلّص، مثل أن يعرفوا وقت مجيئه، والبلدة التي يولد فيها، ونسبه وسبطه، وأخلاقه، ولاهوته، وأعمال رحمته وإحسانه، والآلام التي كانت تنتظره في سبيل خلاص العالم من اتضاع وهوان وآلام وصلب وموت وقبر، وأنه سيقوم بدون أن يلحق جسده فساد، وأن يعرفوا طبيعة ذلك الخلاص العظيم الذي جاء ليهبه للعالم.

هذا واعلم أن الأسفار المقدسة من أولها إلى آخرها وحدانية الله، وجوهر إيمان اليهود قائم على هذه الآية الذهبية "إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" (تثنية ٦:‏٤) وأيد المسيح هذا الإيمان وأنزله المنزلة الأولى (مرقس ١٢:‏٢٩) إلا أنه لأجل استثمار هذه العقيدة الجوهرية وتشخيصها في أعمالنا وسيرتنا اليومية اقتضت الضرورة أن يعلن الله نفسه للجنس البشري بحالة يمكن معها أن يكون معروفاً ومحبوباً. وإلا فمجرد معرفة وحدانية الله لا تقدم ولا تؤخر في حياة الفضيلة، ولا تختلف عن عقائد بعضهم بوحدة الوجود، وكما أن إبليس يعرف أن الله واحد - وهو أخبث من بني آدم – وهو يوحده لكن لا يحبه (يعقوب ٢:‏١٩).

وعلى ما تقدم وتحقيقاً لنبوات الكتاب عندما آن الأوان جاء من هو وحده كلمة الله (يوحنا ١:‏١) ليعلن الله لنا ويهب حياة أبدية لكل من يؤمن به إيماناً حقيقياً على وفق نطقه الكريم (يوحنا ١٧:‏٣).

غير أن جمهور اليهود عثروا في المسيح عند مجيئه لأنهم كانوا قوماً عالميين في أذهانهم وميولهم، فلم تكن تهمهم مسألة الخلاص من الخطية، بل حصروا اهتمامهم وهوى قلوبهم في مخلّص يخلصهم من نير السلطة الرومانية. ولم يهمهم أن يكونوا أغنياء في الإيمان وسلام الله، بل أن يكونوا حكاماً وولاة يسودون على البلاد والعباد ويغنمون الغنائم ويملأون الخزائن ذهباً وفضة أسوة بدولة الرومان والفرس. ومن كانت هذه مطامعهم وآمالهم فلا عجب أن تغمض أبصارهم وتعمى قلوبهم عن نبوات الأنبياء الصريحة المشيرة إلى المسيح كمخلّص من الخطية، يأتي إلى الأرض مجرداً من زخارف العالم، خالياً من أبهة الملك وجلال السلطان، محتقراً مخذولاً من الناس، ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته، ولكنه يعصب القلوب المنكسرة ويعتق أسرى إبليس والخطية.

فلم يمنع الناس في الماضي والحاضر عن قبول المسيح عدم الدليل ولا غموض النبوات عن الإشارة إليه، بل تمنعهم محبة العالم وخلوهم من محبة الله والديانة الروحية، أما ذوو العقول الروحية بين اليهود فقد عرفوا وآمنوا به وتبعوه، وبعد صعوده إلى السماء تفرقوا في أطراف المسكونة يذيعون بين الأمم أخبار مخلّصهم المحبوب كما أمرهم.

وكتب الإنجيل رسل المسيح (الحورايون) وتلاميذهم بإلهام الروح القدس الذي وعد المسيح أن يرسله بعد صعوده. ويتضمن الإنجيل أخباراً عن تعليم المسيح ومعجزاته تحقيقاً لنبوات العهد القديم بشأن المسيا المنتظر، ويتضمن شرح طريق الخلاص بما مضمونه أن المسيح مات على الصليب ليقدم نفسه كفارة عن خطايا العالم، وأنه قام في اليوم الثالث ومكث على الأرض بعد قيامته أربعين يوماً يتردد في غضونها على تلاميذه يعلّمهم ويشرح لهم الكتب، ويمكّنهم من مشاهدته ولمسه ليشهدوا للعالم عنه شهادة عين. وفي ختام المدة أعطاهم مهمة الرسالة التبشيرية إلى كل الخليقة في كل الأرض، وأمرهم قبل الشروع في الخدمة أن يمكثوا في أورشليم حتى يلبسوا قوة من الأعالي، بمعنى أن يحل عليهم الروح القدس ليقويهم ويذكرهم ويلهب قلوبهم شوقاً وغيرة ليشهدوا عنه إلى أقصى الأرض. ثم صعد إلى السماء أمام عيونهم تاركاً لهم الوعد برجوعه ثانية، وظلوا يودعونه بأبصارهم حتى حجبه عنهم سحاب السماء، وعند ذلك ظهر لهم ملاكان من السماء أخبراهم أنه سيأتي هكذا كما رأوه منطلقاً إلى السماء، بحسب ما سبق ووعدهم به (يوحنا ١٤:‏٣) وأعمال (١:‏٩-١١).

واعلم أن كثيراً من أقوال المسيح وأعماله في زمن حياته على الأرض، ولما صعد إلى السماء أخذوا يبشرون بالإنجيل شفاهياً ثم كتبوه فيما بعد في أربع بشائر معنونة هكذا إنجيل المسيح كما كتبه متى وكما كتبه مرقس ولوقا ويوحنا. وتمت كتابة هذه البشائر قبل ختام القرن الأول للميلاد، ومن بين البشيرين الأربعة رسولان هما متى ويوحنا أما مرقس فهو تلميذ بطرس الرسول، وكتب إنجيل المسيح كما أخذه عن معلمه وعن آخرين، ونجد في بشارته فصولاً يجب أن تكون قد كُتبت قبل صعود المسيح، وأما لوقا فهو زميل وتلميذ بولس الرسول، كتب في بشارته الأمور المتيقنة، لا عند واحد بل عند كثيرين من الذين عاينوا الوقائع والأخبار التي كتبها (لوقا ١:‏١-٤).

ولنا في رسالتي بطرس ورسالة يعقوب ويهوذا الحقائق التي دونها التلاميذ عن المسيح، وكذا كتب يوحنا أعز صديق وأحب تلميذ للمسيح ثلاث رسائل، وكتب بولس جملة رسائل منها رسالتي تسالونيكي كتبهما أولاً حوالي السنة الثانية والثالثة والعشرين بعد الصعود يشرح فيهما طريق الخلاص بيسوع المسيح وماذا يترتب على الدعوة المقدسة من واجبات لله، وورد في الرسالة الأولى لأهل كورنثوس ١٥:‏٣ و٤ ما اقتبسه المسيحيون الأولون في أقدم صيغة من قانون إيمانهم "أَنَّ المَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الكُتُبِ"، ومن هنا يتبين لنا أن أقدم المسيحيين اعتقدوا أن جوهر الكتب، أي أسفار العهد القديم والجديد، إنما هي الكفارة التي قدمها المسيح عن خطايانا بموته على الصليب، وقبول تلك الكفارة عند الله بدليل أنه أقامه من الأموات. ومن جملة أسفار العهد الجديد سفر أعمال الرسل، وفيه خبر حلول الروح القدس وهو (الباراكليت) بعد الصعود بعشرة أيام وكيفية شروع الرسل في تبشير الأمم. وفي  الرسالة إلى العبرانيين شرح للعلاقة بين شريعة موسى وإنجيل المسيح. وسفر الرؤيا ويتضمن نبوة الجهاد الذي سيقع بين الكنيسة والعالم وانتصار الكنيسة أخيراً. وفي أصحاح ٩ منه مسائل يهم المسلمين الاطلاع عليها، ويشرح هذا السفر لنا كثيراً من الوسائل التي يتخذها الشيطان لتجريب المسيحيين وتعذيبهم بهدف أن يفصلهم عن مخلّصهم. وأهم هذه الوسائل ظهور المسيح الدجال الذي يبذل عنايته في مقاومة الخلاص الذي بالنعمة، أما المسيحيون الحقيقيون فيخرجون من أتون التجارب كالذهب الممحص، وآخر الكل يأتي المسيح على سحاب السماء بقوة ومجد عظيم ليؤسس في الأرض الجديدة والسماء الجديدة ملكوته الدائم "وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلا مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً، إِلا المَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الحَمَلِ" (رؤيا ٢١:‏٢٧).

وبالإجمال تتفق أسفار العهد الجديد مع أسفار العهد القديم في تعيين طريق الخلاص الذي به تتبارك كل الأمم  (تكوين ٢٨:‏١٤) ألا وهو الإيمان بنسل المرأة الموعود به (تكوين ٣:‏١٥) الذي وُلد من العذراء مريم (لوقا ١:‏٧ و ١٦ وانظر القرآن سورة الأنبياء ٢١:‏٩١ وسورة التحريم ٦٦:‏١٢) ليخلّص شعبه من خطاياهم (بشارة متى ١:‏٢١) الذي بذل حياته فدية عن كثيرين (أشعياء ٥٣:‏١٠ و١١ ومتى ٢٠:‏٢٨) وقام لأجل تبريرنا (مزامير ١٦:‏٩-١١ وأعمال ٢:‏٢٢-٣٦ ورومية ٤:‏٢٥) والذي به وحده  يقدر الإنسان أن يبلغ إلى  معرفة  الله  الحقيقية (يوحنا ١٤:‏٦)  وينال  الخلاص  الأبدي (أعمال ٤:‏١٢).

ومن هذا نعلم أن الوعد الذي وعد به الله منذ ألوف السنين آدم وابراهيم واسحق ويعقوب وداود قد أنجزه وصار ممكنا للإنسان أن يعتق من عبودية الخطية والشيطان وتعتق الأرض وتتغير حالتها إلى حالة السعادة والكمال أعظم بكثير مما كان قبل سقوط آدم في الخطية.

فأسفار العهد القديم والجديد معاً إنما هي إعلان واحد من لدن الله، أما العهد القديم فيشرح لنا كيف دخلت الخطية إلى العالم وكيف وعد الله بالخلاص منها. وأما العهد الجديد فيشرح كيف أكمل الله ذلك الوعد وكيف قدم المسيح حياته كفارة عن خطايا العالم (الرسالة الأولى ليوحنا ٢:٢) "ليهب الخلاص لكل من يُقبل إليه إقبالاً حقيقياً" (بشارة متى ١١:‏٢٨ ويوحنا ٦:‏٣٧).

أما من جهة الأنبياء والرسل فنؤمن أنهم مفوضون من عند الله لتعليم وتبشير العالم، فليسوا هم ملوكاً ولا ولاة، بل منذرين ينذرون الناس أن يتوبوا عن خطاياهم ويرجعوا إلى الله الحي، كما أنهم ليسوا بمعصومين من الخطية، وأنه لم يعش أحد معصوماً من الخطية سوى المسيح، ولنا الأدلة الكافية على عصمته منها شهادات الأنبياء (أشعياء ٥٣:‏٩ وقارن يوحنا ٨:‏٤٦) وشهادات تلاميذه (بطرس الأولى ٢:‏٢٢ ويوحنا الأولى ٣:‏٥ وعبرانيين ٤:‏١٥) ويشهد له نفس الذين صلبوه (لوقا ٢٣:‏٤ و١٤ و٤٧).

والقرآن مع نسبته الخطايا للأنبياء الآخرين لم ينسب واحدة ليسوع، بل يشهد له بأنه مطهَّر عنها.  قال  في  سورة  مريم ١٩:‏١٨ على لسان الملاك الذي بشَّر أمه به قَالَ "إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً" قال البيضاوي وغيره أي طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح، وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما هذا الحديث المتفق عليه وهو قوله: "كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب أي المشيمة" (انظر مشكاة المصابيح باب بدء الخلق).

مع أن محمداً في قرآنه وحديثه ينسب خطايا كثيرة لغير المسيح من  الأنبياء  والرسل (انظر سورة طه ٢٠:‏١٢١  والبقرة ٢:‏٣٥ و٣٦ والمعارج ٧٠:‏١٩ والأنعام ٦:‏٧٦ .. الخ وإبراهيم ١٤:‏٤١ والقصص ٢٨:‏١٥ و١٦ والشعراء ٢٦:‏١٩-٢١ والأعراف ٧:‏١٥٠ ويوسف ١٢:‏٢٤ وص ٣٨:‏٢٤ و٢٥ و٣٤ و٣٥ والصافات٣٧:‏١٣٩-١٤٤ والفتح ٤٨:‏٢ وهود ١١:‏٤٤-٤٧ والانشراح ٩٤:‏٢ و٣ والأحزاب٣٣:‏١ والزمر ٣٩:‏٦٥ والمائدة ٥:‏١٧ وعبس ٨٠:‏١-٦ والأنعام ٦:‏٥٢ والنساء ٤:‏١٠٦ ومحمد ٤٧:‏٢١ وغيرها من الآيات القرآنية). وفي الحديث كثير من ذلك الحديث الصحيح قوله: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، وفي البخاري ومسلم حديث يرويه أبو هريرة أن رسول الله قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنتين منهم في ذات الله .. الخ." وقد قال محمد أحاديث متعددة تفيد استغفاره وتوبته من ذنوبه منها قوله: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة" وقوله "توبوا إلى ربكم، فوالله أني لأتوب إلى الله عز وجل مائة مرة في اليوم،" وقال قتادة إنه قال عقب نزول قوله: "لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً" .. "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين" إلى آخر الأحاديث.

وإننا لا نؤمن بعصمة الأنبياء والرسل في أعمالهم العمومية، لكننا نؤمن أنهم معصومون في تبليغ رسالة الله من أن يزيدوا عليها أو ينقصوا منها أو يلحقوا بها أقل تحريف، والعاصم لهم هو الروح القدس (بشارة متى ١٠:‏٢٠  ومرقس ١٣:‏١١  ويوحنا ١٤:‏٢٦ وتيموثاوس الثانية ٣:‏١٦ وبطرس الثانية ١:‏٢١).

ونحن المسيحيين وإن كنا نؤمن بأن الروح القدس ألهم الأنبياء والرسل أن يكتبوا ما كتبوا في أسفار العهد القديم والجديد، فإننا لا نؤمن بأن تلك الأسفار كانت مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل خلق العالم ثم أملاها الروح القدس على الرسل والأنبياء حين كتبوها، فإن الله يتنزه عن أن يستخدم النبي كآلة صماء فاقدة الحس والعقل والإرادة والمعرفة إلى غير ذلك، بل يستخدم معرفته واختباره وعلمه وعقله وقلبه وروحه وجسمه، فيتكلم بالوحي وكأنه يتكلم من نفسه، وعليه نجد في الكتاب المقدس العنصر الإنساني كما نجد العنصر الإلهي (مواهب الإنسان مع الوحي).

وفي الكتاب المقدس أسرار تفوق مداركنا البشرية، استنتج بعضهم منها أنها مخالفة للعقل، والحقيقة ليست كذلك، بل لما كانت عقولنا هبة من الله فلا يمكن أن يكون وحيه الإلهي مخالفاً لها، بل بما أن عقولنا محدودة والله غير محدود، فمن الضروري أن نعجز عن إدراك ذات الله. فإن أتانا رجل بكتاب وادّعى أنه رسول الله يحمل إلينا كتاباً منه تعالى، ورأينا أن هذا الكتاب يعلن الله بحيث يحيط به العقل لعلمنا أن دعواه باطلة، فلا تبرح هذه الحقيقة من بالنا، وها إننا نزيدها عندما نبحث في الفصل التالي ما أوحاه الله لنا عن ذاته وصفاته.

الفصل الثاني

في صفات الله كما هي معلنة في الكتاب المقدس

الأعمدة في معبد الكرنك، مصر
 الأعمدة في معبد الكرنك، مصر

يعلّمنا الكتاب المقدس بقسميه أن الخليقة تدل على وجود خالقها. وأن ضمير الإنسان وعقله يشهدان بوجوده تعالى. (مزامير ١٩:‏١-٤ وأعمال ١٧:‏٢٤-٢٩). وأما كون الله واجب الوجود فدلَّ عليه الكتاب حينما ينسب إلى الذين ينكرونه الجهل الاختياري والسفه التعمدي (مزامير ١٤:‏١ و٥٣:‏١ وروميه ١:‏١٩-٢٣) وفي الكتاب  نرى  أن  الله  واحد (تثنية ٤:‏٣٥ و٣٩ و٦:‏٤ وأشعياء ٤٤:‏٨ و٤٥:‏٥ و٤٦:‏٩ ومرقس ١٢:‏٢٩ ويوحنا ١٧:‏٣ وكورنثوس الأولى ٨:‏٤ وأفسس ٤:‏٦) وأنه روح (يوحنا ٤:‏٢٤)، وغير منظور (يوحنا ١:‏١٨ وتيموثاوس الأولى ٦:‏١٥ و١٦) وغير محدود أزلي غير متغير (مزامير ٩٠:‏٢  و١٠٢:‏٢٤-٢٧ ويعقوب ١:‏١٧) ومحيط بكل مكان  وبكل  علم (مزامير ١٣٩:‏١-١٢  وارميا ٢٣:‏٢٣ و٢٤  وأعمال الرسل  ١٧:‏٢٧ و٢٨) وكلي القدرة والحكمة (سفر التكوين ١٧:‏١ وأيوب ١٢:‏٧-١٠ و١٣ ومزامير ١٠٤:‏٢٤ وأشعياء ٤٠:‏١٢-١٨ والرسالة الأولى ليوحنا ٣:‏٢٠).

وكما أن الله موصوف في الكتاب بالأوصاف المتقدمة فهو موصوف بالقداسة (رؤيا ١٩:‏٢ و٢١:‏٨ و١ صموئيل ٢:‏٢ ومزامير ٢٢:‏٣ و٤٥:‏١٧ وأشعياء ٦:‏٣ ورؤيا ٤:‏٨). وأنه بار وعادل (سفر العدد ٢٣:‏١٩ والتثنية ٣٢:‏٤ ومزامير ٣٣:‏٤ و٥ وأشعياء ٢٦:‏٧ و٤٥:‏٢١ ورومية ٢:‏٥-١١ ويوحنا الأولى ١:‏٩ والرؤيا ١٥:‏٣ و١٦:‏٥-٧) ورؤوف رحيم طويل الأناة (خروج  ٣٤:‏٦ ومزامير ٩:‏٨-١٠ ومراثي ارميا ٣:‏٢٢ و٢٣ وحزقيال ٣٣:‏١١ ومتى ٥:‏٤٥ ويوحنا ٣:‏١٦ ويوحنا الأولى ٤:‏١٦) وخالق وضابط كل شيء (تكوين ١:‏١ وصموئيل الأول ٢:‏٦ و٧ ومزامير ٣٣ و٣٧:‏٢٣-٢٥ و١٠٤ ومتى ٦:‏٣١ و٣٢ و١٠:‏٢٩-٣١ ورومية ١١:‏٣٦ ورؤيا ٤:‏١١).

هذه بعض الصفات المجيدة التي ينسبها الكتاب إلى الإله الحقيقي وأما بقية صفاته فمجموعة في وصفه بالكامل في طبيعته  ومعرفته  وهدايته  وسائر  أعماله (تثنية ٣٢:‏٤ وصموئيل الثاني ٢٢:‏٣١ وأيوب ٣٦:‏٤ و٣٧:‏١٦ ومزامير ١٨:‏٣٠ و١٩:‏٧ وبشارة متى ٥:‏٤٨).

فمن اطلع على هذه الصفات وحكم عقله يسلم أنها جديرة بالله الخالق الرحيم، ويجزم أن مجرد العلم والعقل لا يبلغان بصاحبهما إلى إنشائها بمعزل عن الإلهام الإلهي بدليل أن الفلاسفة القدماء كأرسطو وأفلاطون الذين استنفدوا العقل والعمل في البحث عن الله تعالى لم يهتدوا إلى معرفته حسب الأوصاف المنسوبة إليه في الكتاب المقدس التي سبق ذكرها. فما أدركوا حقيقة وحدانيته إدراكاً جلياً ولا ذاتيته ولا قداسته وعلى الخصوص الصفة الأخيرة أي القداسة، فإنها وردت في الكتاب المقدس بحالة لا مثال لها في كتب الأديان جميعها قديمها وجديدها.

إن الأتقياء المخلصين المجدّين في معرفة الله تعالى وعمل مرضاته إذا قرأوا الكتاب المقدس فهموه ووصلت كلمته إلى قلوبهم وتضئ بصائرهم بنور روحي (مزامير ١١٩:‏١٠٥ و١٣٥)، هؤلاء يقدرون أن يجدوا الله (تثنية ٤:‏٢٩ وارميا ٢٩:‏١٣ ويوحنا ٧:‏١٧) ويعرفون إرادته وتنسكب في قلوبهم مخافته ومحبته بروحه القدوس (رومية ٥:‏٥) ويقبلون نعمة الله التي تقدّرهم على طاعته وتجدد قلوبهم ويولدون ميلاداً ثانياً روحياً (يوحنا ١:‏١٢ و١٣ و٣:‏٥ و٦) ويصيرون بواسطة إيمانهم بيسوع المسيح خليقة جديدة (كورنثوس الثانية ٥:‏١٧) يحبون البر ويبغضون الإثم ويهربون من الشر ويلتصقون بالخير. ولأن الكتاب المقدس يصف الله بالقداسة والعدل، فهو يعاقب الذين يقسّون قلوبهم كما قسّى فرعون قلبه. وهو إله عادل شديد العقاب، ولكنه يعامل الذي يتوبون إليه ويرجعون عن خطاياهم ويخدمونه في جِدَّة الحياة كآب رؤوف رحيم كثير الوفاء والإحسان. نرى مما تقدم أن طالب الحقيقة، إذا راجع الآيات التي أشرنا إليها في هذا الفصل ودرسها مستعيناً بالصلاة، تبين له أن شروط الوحي متوفرة في الكتاب المقدس وإن شاء الله سنبين ذلك بأكثر جلاء في الفصول الآتية.

وسيظهر من أسفار العهد الجديد أن معرفة الله الحقيقية يحصل عليها الإنسان بتعليم روح الله القدوس المستعد على الدوام أن يعيننا ويرشدنا، وأن الله مُعلَن تمام الإعلان في المسيح يسوع وعلى ذلك قوله: "اَلَّذِي رَآنِي  فَقَدْ  رَأَى  الآبَ"  (يوحنا ١٤:‏٩) بل مُعلَن فيه دون سواه لأنه "كلمة الله."

الفصل الثالث

في حالة الإنسان الأصلية وحالته بعد السقوط واحتياجه إلى الخلاص من الخطية والموت الأبدي

طريق الكباش في معبد الكرنك، مصر
طريق الكباش في معبد الكرنك، مصر

من رام الاطلاع على حالته الحقيقية كما هي في اعتبار الله القدوس يطلع عليها جزئياً على صفحة ضميره، ولكنه يعرفها تمام المعرفة من الكتاب المقدس لأنه كلام من هو بكل شيء عليم "لَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ" (عبرانيين ٤:‏١٣)، ولا يعلم الله ما عملناه فقط بل وما سنعمله وما يخطر على بالنا كل أيام حياتنا، وهو الذي يقدر أن يخبرنا عن غايته التي قصدها من خلقه إيانا وحفظه لنا على قيد الحياة وعلى أي شيء تتوقف سعادتنا في المستقبل، إن الفلاسفة كتبوا في الإلهيات أفكارهم وخواطرهم عن هذه المواضيع، ولكن العقل السليم يجزم بأنه إن كان الله قد أعلن إرادته لنا بواسطة الرسل والأنبياء يكون إعلانه أجدر بثقتنا من الآراء الفلسفية والمقاييس البشرية المحدودة والغير المعصومة، فمن أراد أن يعرف غاية خَلْقنا الله وكيف سقطنا إلى حالة الخطية والتعاسة، يجب أن يرجع إلى كلام الله حتى يقف على الحقيقة، وهنا نتوسل بكل لطف واحترام إلى القارئ المسلم العزيز أن يلقي التشيع والتحامل جانباً أثناء اطلاعه على الكتاب المقدس أي التوراة والزبور والإنجيل، التي يشهد لها القرآن أعظم شهادة تليق بكلام الله، اقرأ في الكتاب بما يليق بمقام صاحبه من التوقير والاحترام بنيّة خالصة، داعياً الله أن يمنحك فهماً وهدى روحيين حتى يتيسر لك أن تفهم ما تقرأه، وتنفتح بصيرة قلبك وتشاهد حالة نفسك الداخلية، تلك الحالة التعيسة الشقية،  عند ذلك تنال الخلاص الدائم والحياة الأبدية والبركة والسعادة اللانهائية، في سفر التكوين ١:‏٢٦-٢:‏٢٥، وسفر الجامعة ٧:‏٢٩ نجد أن الله خلق الإنسان في حالة الاستقامة والقداسة والسعادة، وهذا يبيّن أن الله خلق الإنسان على صورته وشبهه، أي أن عقل ذلك الإنسان المخلوق المحدود وخصوصاً روحه كانت قبل سقوطه تشابه الخالق الغير المحدود بطريقة ما، وبها جعل الله نفسه معروفاً لدى الإنسان ، وكان الإنسان حينئذ معصوماً من الخطية بل من خطور الأفكار الشريرة على قلبه وعقله كما من كل الشهوات الجسدية والنفسية والروحية، وكان جسمه غير معرض لمرض ما أو للموت، وحيث أنه عرف الله وأحبه ورغب في أن يخدمه كان سعيداً وقنوعاً، وكان رئيس كل المخلوقات التي على وجه الأرض، ونعلم من سفر التكوين أن الله أعدّ له مسكناً جميلاً مباركاً هو جنة عدن (تكوين ٢:‏٨) وكانت واقعة غالباً على السهل الذي بُنيت عليه بابل فيما بين النهرين ومدن أخرى فيما بعد.

فكل امرئ يعلم بشهادة ضميره ووجدانه أنه فقد تلك الحياة السعيدة، حياة العصمة والهناء، وأصبح مكبلاً في قيود الخطية والتعاسة، ثم أن تاريخ الأمم البائدة التي أهلكها الله عن وجه الأرض بسبب خطاياهم، والشقاء الحاضر المخيّم على الأرض من ألم وموت يحصد الكبار والصغار لأعظم دليل على أن الإنسان لم يبق على الحالة التي خلقه الله عليها، وكان يريد أن يبقى الإنسان ونسله عليها إلى الأبد، ويخبرنا الكتاب المقدس بمقدار ما بلغ إليه الإنسان من الشرور والمعاصي وخصوصاً في حق الله القدوس (تكوين ٨:‏٢١ ومزامير ١٤٣:‏٢ ورومية ٣:‏١٠-٢٠ و٢٣ ويوحنا الأولى ١:‏٨).

ومن يتأمل في حالة قلبه أقل تأمل وفكر لبرهة في الأميال الفاسدة والأهواء المشوشة التي تنبع على الدوام من قلبه كما ينبع الماء من العين، لا يبقى عنده مجال للريب في أنه بالحقيقة خاطئ في نظره تعالى كما هو موصوف في الآيات المشار إليها والتي تشهد عليه ذمته وضميره أنه ليس هو خاطئاً فقط، بل إن الخطية والفساد استحوذا على قلبه حتى لم يبق في مقدرته وسيلة للتخلص من نير الخطية، وشعر أن هذه حالته منذ حداثة سنّه، بل منذ ولادته، وحينئذ يتبين له أن طبيعته الأخلاقية فاسدة. إلا أن للناس مذاهب في ميلهم نحو الرذيلة، فبعضهم ميالون لمحبة المال، وبعضهم للبخل، وبعضهم لمحبة الشهرة، وآخرون ملحدون، وبعضهم زنادقة، وغيرهم منافقون، والبعض ميالون لأكثر من هذه، وعلمنا علم اليقين بالاختبار والمشاهدة أنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض خال من الخطية، حتى أن خير الأخيار وأكثر الناس تقوى يعترفون بأنهم طالما عملوا أعمالاً لم يكن يجوز لهم أن يعملوها، ولم يعملوا أعمالاً كان يجب أن يعملوها، وبالجملة فإن حياة العالم كله في العصور الغابرة والحاضرة دليل محسوس على صدق كلام الله المسطور في الكتاب المقدس، وأن كثيرين من الوثنيين لما سمعوا شهادة الكتاب عن الإنسان وقارنوا بينها وبين واقع الحال في أنفسهم وبين ذواتهم شعروا أن هذه رسالة منه تعالى تصف حالتهم الروحية البائسة قائلين إن صاحب هذا الكتاب إنما هو الذي خلقنا.

وقد اختبر بعضهم تغييراً في حالة قلوبهم بحيث أصبحوا يبغضون الخطية ويحبون الصلاح، إلا أن هذا التغيير يجب أن يُنسب إلى الميلاد الثاني الذي شرحه المسيح في يوحنا ٣:‏٣ و٥ الذي لا يمكن أن يحصل عليه أحد إلا بواسطة الإيمان به.

وقد رأينا أن التوراة تفيد أن آدم عندما خلقه الله لم يكن يميل بطبيعته الأولى إلى الخطية، وأنه كان خالصاً من حالة الشقاوة التي تستولي اليوم على ذريته. ثم أن البحث العقلي يؤيد ذلك، لأنه من المعلوم أن الخطية هي مخالفة لمرضاة الله، وأن الخطية هي التعدي على الشريعة الأخلاقية التي توافق ذاته تعالى وتصدر عنها فليس من المعقول أن نقول أن إرادته تعالى هي التعدي على ذاته وحيث أن بني آدم غرقوا في بحار الخطية والشقاوة، وغدوا سبايا النفس الأمّارة بالسوء، فيلائم حالتهم أن يبحثوا حتى يعلموا من أين أتتهم هذه المصيبة الدهماء.

ونجد الجواب على هذا السؤال في أسفار الكتاب المقدس حيث نقرأ أن الخطية ونتائجها المحزنة دخلت إلى العالم بسبب عداوة إبليس وغوايته لجنسنا من الجهة الواحدة، وبسبب حرية إرادة الإنسان وابتغائه أن يعمل مرضاته دون مرضاة الله من الجهة الأخرى، ولما خدع إبليس حواء التي خدعت آدم، عصى ربه حراً مختاراً،  ومن تلك الساعة ارتد آدم عن الله وحاد عن جادة الحق، وانقطعت الصلة بينه وبين من هو ينبوع الحياة والسعادة الحقيقة (تكوين ٣ قارن يوحنا ٨:‏٤٤ ورومية ٥:‏١٢ و١٩ وتيموثاوس الأولى ٢:‏١٣ و١٤).

قيل: لماذا لَمْ يمنع الله دخول الخطية إلى العالم؟ ولماذا سمح لإبليس أن يجرب الإنسان وينتصر عليه؟ ولماذا لا يزال يترك له الحبل على الغارب في تجربة البشر إلى الآن؟ الجواب مفصل في كتاب "طريق الحياة"، ونكتفي هنا بالقول أن الله لم يكشف لنا غايته من ذلك تماماً، وليس في طاقة البشر إيجاد جواب شاف من كل وجه لهذا السؤال الصعب، وليس من الضروري أن نضع أعمال الله تحت بحثنا، إنما الضروري أن نعترف بسوء حالتنا ونبحث عن كيفية النجاة،  وغاية ما في الأمر أن نعرف ما عرفه إبراهيم، وهو أن ديان الأرض كلها لا بد أن يكون عادلاً في كل أعماله (تكوين ١٨:‏٢٥).

 غير أن بعض الحكماء أكدوا لنا أن وجود التجارب في الحياة الدنيا والشقاوة والآلام الناتجة عن الخطية هي درس لتدريب النفس على حياة الفضيلة بواسطة مقاومة التجارب والانتصار عليها بنعمة الله، وبواسطة اختبارنا نتائج الخطية المحزنة،  أنعم الله على الإنسان بحرية الإرادة ليختار لنفسه ما شاء من الحق أو الباطل، الطاعة أو المعصية، الحرية أو العبودية لإبليس. وقد أعلن الله إرادته ومحبته لنا وهدانا إلى طريق الحق، إلا أنه تركنا نختار ما نريد، ولم يلزمنا بالرغم من أن نختاره دون سواه، فقصد الله أن نحبه،  لكن لا إكراه في المحبة، كما لا إكراه في الدين المسيحي الحق بعد أن تتبين الرشد من الغي.

وعلَّمنا الله في كتابه أنه لم يكن حسب إرادته أن نخضع لسلطان إبليس ونرزح تحت نير الخطية، بل إرادته أن نتحرر ونعتق من هذه العبودية الصارمة، ونتطهر من شوائب الخطايا والعيوب، ونرجع إلى الحالة التي خلقنا عليها: حالة الطهارة والقداسة التي فقدها آدم لكي نصير ورثة السعادة الأبدية. وأن الكتاب بقسميه، واختبار الجنس البشري، يثبتان أن الإنسان لا يقدر أن يحظى بالسعادة الحقيقية ما لم يتب عن أعماله الشريرة ويرجع بإيمان حقيقي إلى الله ويتحرر من سلطان الخطية ويفوز بالغفران، لأنه بدون نقاوة القلب لا يمكن أن نشاهد الله ببصائرنا القلبية (بشارة متى ٥:‏٨ وعبرانيين ١٢:‏٣٤). إن التقي الحقيقي يجب أن يكون  قديساً  لأن  الله  قدوس (لاويين ١٩:‏٢ وبشارة متى ٥:‏٤٨ وكورنثوس الثانية ٦:‏١٤-٧:‏١ وبطرس الأولى ٢:‏٩ و١٠ ويوحنا الأولى ٣:‏١-٨).

هذا هو تعليم الكتاب المقدس، لأن الضمير والعقل يشهدان أن الإنسان خُلق صالحاً على صورة الله وشبهه، ثم سقط، وأن لا وسيلة لإرجاعه إلا بواسطة إعادة خلقه على صورة القداسة التي سقط منها ليكون أهلاً لسكنه مع الإله القدوس ورؤية وجهه ذي الجلال والإكرام.

فإن كنا نقابل بين تعاليم الكتاب المقدس وكتب الأديان الأخرى من حيث المبادئ المذكورة هنا، نجد فرقاً عظيماً، لأن تلك الكتب لا تفيدنا شيئاً بخصوص مقصد الله في خلقه الإنسان، ولا تشير أقل إشارة إلى وجوب تطهير القلب وتقديس الروح، وكل ما جاء فيها بهذا الصدد محصور ضمن أعمال الوضوء والغسل التي لا تصل إلا إلى الجسد، والمغفرة في تلك الكتب تلتمس من باب الإثابة على الحج والأضحية والصدقات. ونحن لا ننكر أن الوضوء والغسل لازمان لتنظيف الأبدان، ولكن أين هي الأبدان من القلوب؟ قال المسيح زاجراً ولائماً فرقةً من اليهود تصوروا أن الغسل يقربهم إلى الله "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ المُرَاؤُونَ، لأنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ، وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً! أَيُّهَا الفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى، نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ الكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضاً نَقِيّاً" (بشارة متى ٢٣:‏٢٥ و٢٦). وكذلك الأعمال الصالحة وفي جملتها الصدقات يجب أن تكون ناتجة عن محبتنا لله وامتثالاً لمشيئته وإظهارا لشكرنا على سابق مغفرته ورحمته، وليس لكي نستعطفه ونحمله على أن يغفر لنا. إن مثل هذه الأحاسيس تقلب العمل الصالح إلى عمل رديء، لأن الديان العادل لا يقبل الرشوة ليغفر للمذنب ذنبه، فقيمة الأعمال الصالحة تُقاس على البواعث التي تبعث إليها، والله عليم بتلك البواعث ولا تخفى عليه خافية.

ولأجل أن نعلم مشيئة الله ونستعين على الانقياد إليها تعلَّمنا أسفار العهد القديم والجديد ما يجب علينا أن نعمله وما يجب أن نجتنبه، وعدا ذلك فإنه لخص الشريعة الأخلاقية في وصايا مختصرة وردت في أجزاء مختلفة من التوراة. ففي أسفار موسى نجد الوصايا العشر (خروج ٢٠:‏١-١٧ وتثنية ٥:‏٦-٢١) وفي أواخر أسفار العهد القديم نجد خلاصة أخرى للشريعة الأخلاقية.

وردت في سفر ميخا النبي "قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلا أَنْ تَصْنَعَ الحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ" (ميخا ٦:‏٨).

    ينتقد بعضهم على المسيحيين أن ليس لهم شريعة مؤلفة من أوامر ومحظورات، وفاتهم أن الشريعة التي أشرنا إليها في أسفار العهد القديم لا تزال نافذة المفعول على المسيحيين، غير أن لنا في الإنجيل شريعة عظيمة نطق بها المسيح في موعظته على الجبل (بشارة متى الإصحاحات من ٥ إلى ٧ ) وعدا ذلك فإنه جمع واجباتنا في آيتين وجمعهما في واحدة (مرقس ١٢: ٢٨ – ٣١ ولوقا ٦:‏ ٣١ ) "فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَناً، سَأَلَهُ: أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَّوَلُ الكُلِّ؟ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنَّ أَّوَلَ كُلِّ الوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ، وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، هذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولَى، وَثَانِيَةٌ  مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ، لَيْسَ  وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ  مِنْ  هَاتَيْن" (مرقس ١٢:‏٢٨-٣١) و"وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا  أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ  هكَذَا" (لوقا ٦:‏٣١). فمما تقدم نرى أن المسيح وضع مبادئ عمومية جامعة للإرشاد إلى ما ينبغي عمله في كل ظروف الحياة، مع أن غيره من واضعي الشرائع عينوا إرشاداً مخصوصاً لكل عارض يحدث لهم. ومن يقرأ رومية ١٢:‏١-٢١ و١٤:‏١-٨ وكورنثوس الأولى ١٣:‏١-١٣ وأفسس ٤:‏١-٢١ وكولوسي ٣:‏٤ يرى سموّ وقداسة المبادئ المحتمة على المسيحيين أن يسلكوا فيها. لم نؤمر بغسل أيدينا قبل الصلاة، بل أمرنا أن نغسل قلوبنا، ولا أن نحج مرة في العمر بل نكون على الدوام حجاجاً متغربين في الأرض، لأنه ليس لنا فيها مدينة باقية بل نكون قاصدين المدينة السماوية، وكلما قطعنا مرحلة من طريق الحج إلى السماء زدنا تمثلاً واقتداءً بقداسة الله. وعلينا أن لا نصلي خمس مرات أو سبعاً في اليوم بل نصلي في كل حين وبدون انقطاع (تسالونيكي الأولى ٥:‏١٧) أي نصرف حياتنا بجملتها في شركة مستديمة مع الله، ولا أن نقدم ذبائح حيوانية كما كان يقدم اليهود، بل نقدم ذواتنا ذبائح حية مقدسة مرضية عند الله (رومية ١٢:‏١ و٢ وبطرس الأولى ٢:‏٥).

مما تقدم نرى أن شريعة العهد الجديد أبلغ وأسمى من شريعة العهد القديم، وهي توافق تمام الموافقة صفات الله الجلالية والكمالية لأنها توصي بنقاوة القلب وبالتالي تؤدي إلى قداسة الحياة. وبدون هذه الوصايا الروحية يضيع لب الدين ولا يبقى منه سوى قشور الرسوم الخارجية التي لا تبرّر الإنسان. إن وصايا الإنجيل أعلى في روحانيتها وكمالها من وصايا كل الأديان، لأنها مدبرة بطريقة خصوصية لتغير طبيعة القلب الفاسدة إلى طبيعة مقدسة تفيض أعمالاً صالحة مدى العمر. وعليه يجب أن نقبل وصايا الدين المسيحي، لا كأقوال بشرية مثل بقية الأديان (إلا الدين اليهودي) بل كما هي بالحقيقة وصايا الله نفسه. وإن أردت قولاً جامعاً لوصايا الإنجيل فانظر إلى ما قاله المسيح في هذا المعنى وتأمل فيه بعين مجردة من الغرض، قال: "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، هذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى، وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ بِهَاتَيْنِ الوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأنْبِيَاءُ" (بشارة متى ٢٢:‏٣٧- ٣٩) وهذه الأقوال مقتبسة بتوسع من أسفار العهد القديم (تثنية ٦:‏٥ و١٠:‏١٢ و٣٠:‏٦ ولاويين ١٨:١٩).

فترى تعليم أسفار العهد القديم والعهد الجديد واحداً من حيث الواجبات التي يكلفنا بها الله، والطريق الذي ينبغي لنا أن نسير فيه، لأنه في العهدين يريد الله منا أن تمتلئ قلوبنا بمحبته لأنه أحبنا أولاً، حتى نصرف سائر قوانا الجسدية والروحية والنفسية والعقلية كل يوم وكل ساعة في خدمة الله ومرضاته. وكما أننا نبتغي الخير لأنفسنا ونسعى لمصالحنا يجب أن نعمل مثل ذلك لجيراننا، وإن كانوا أعداءنا، لأن الأعداء في اعتبار الله لم يخرجوا عن كونهم جيراننا وأقرباءنا وإخواننا، وإياهم قصد المسيح لما أوصى "تحب قريبك كنفسك" (لوقا ١٠:‏٢٥-٣٧) بمثل هذه الفضيلة نطيع قانون المسيح الذهبي القائل: "فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ، لأنَّ هذا هُوَ النَّامُوسُ وَالأنْبِيَاءُ" (بشارة متى ٧:‏١٢) وعلى قدر ما في هذه الوصايا من توثيق رابطة المحبة بين الإنسان وخالقه، وبينه وبين بني جنسه، يتنقّى القلب من الجنس، وتُعتق النفس من محبة الذات، وتؤدي بطبيعة الحال إلى سعادة الدارين.

وكذلك توافق هذه الوصايا الناموس الطبيعي الذي نقشته يد الخالق على صحائف القلوب والضمائر. فإن كنت تقارن بين ناموس ضميرك وشريعة قلبك وبين ما نتلوه عليك من وصايا المسيح وموسى، تعلم وتجزم أن تعليم الكتاب المقدس صادر من الخالق عز وجل، وتتحقق أنه موحى به منه، فليكن معلوماً لك أن الذين لا يقبلون تعليم الكتاب المقدس يدانون بموجبه في اليوم الأخير، لأنه منقوش على قلوبهم وضمائرهم، ولهذا السبب كتب الله شريعته الأخلاقية على القلوب حتى لا يكون عذر لمن عصى،  حتى أن الوثنيين والملحدين مسؤولون عن حفظ الناموس الأخلاقي حسب طبيعتهم، لأن الناموس مكتوب على قلوبهم، ويعرفون إلى درجة ما أنهم خالفوا هذا الناموس الطبيعي، وأنهم واقعون تحت طائلة العقاب ومحتاجون لمخلص.

ولقائل يقول: إن كان الناموس مكتوباً على القلوب ويكشف لنا احتياجنا إلى مخلّص، فما الداعي إلى الكتاب المقدس؟ وأجيب: إن الداعي إليه هو وجود شهادة ثانية تؤيد شهادة الضمير، وأن في الكتاب المقدس بياناً أوفى ونوراً أعظم وثقة أرسخ لكي نتشجع في جهادنا الروحي طالبين منه تعالى العون في كل أحوال الحياة.

وفي الكتاب شهادة يا حبّذا لو فطن إليها الناس وهي أن معرفة الحق لا تبررنا،  بل بالحري تزيد مسئوليتنا ما لم نكن سالكين بموجب الحق الذي عرفناه (بشارة متى ٧:‏٢١-٢٧ ولوقا ١٠:‏٢٥-٢٨ ويوحنا ١٣:‏١٧ ورومية ٢:‏١٣) ويشهد أيضاً أن العدالة الإلهية لا ترتضي أن تمس الطاعة الكاملة شائبة من شوائب النقص، بمعنى أنه لا يرتضي إلا بالكمال في أخلاقنا وأعمالنا (بشارة متى ٥:‏٤٨). فإن أطاع الإنسان الوصايا جميعها ما عدا وصية واحدة يعد مجرماً (يعقوب ٢:‏١٠ و١١ وغلاطية  ٣:‏١٠-١٢) وكذلك الحال بالنسبة إلى القوانين المدنية، مثال ذلك أن قانون البلاد يمنع القتل والسرقة، فإن كنت لم تقتل ولكن سرقت ولو مرة واحدة في العمل وضُبطت، لا يشفع لك عند القاضي أنك لم تقتل بل يعاقبك على سرقتك. لم يُذكر عن آدم إلا خطية واحدة، ومع ذلك جلبت الويل والموت. تأمل ما أشنع عواقب الخطية الواحدة! من أجل ذلك لا تأمل أن تفوز بغفران الله عن معصية واحدة مقابل طاعات كثيرة. فمن طلب رضا الله بعمله، عليه أن يحفظ وصاياه جميعها بالضبط والدقة، ومتى تعدى على أقل وصية يُدرج اسمه في قائمة العصاة ويحال إلى الدينونة.

ولكن هل وُجد على سطح كرتنا الأرضية إنسان أطاع الله كل حياته طاعة كاملة؟ ومن ذا الذي أحب الله من كل قلبه وفكره ونفسه وأحب قريبه كنفسه؟ (بشارة متى ٢٢:‏٣٧ و٣٩) ومن ذا الذي قضى عمره ولم يرتكب معصية ولا زلة ما ولا فرطت من فمه كلمة سوء ولا جال على خاطره فكر  خبيث ولا  شهوة  رديئة؟ (أيوب ٤:‏١٨ و١٩ و٢٥:‏٤-٦  ومزمور ١٤٣:‏٢  ورومية ٣:‏٢٠) ولم يوجد إنسان عاش ومات ولم يعمل خطية قط إلا سيدنا يسوع المسيح.

وإذ قد علمنا أن كل الجنس البشري (ما عدا يسوع) مذنب بشهادة ضميرك وشهادة كلمة الله المعلنة في الكتاب المقدس، ألا يجب علينا أن نعترف بخطايانا بقلب منسحق خاشع أمام خالقنا قائلين: "يا رب الأرباب البار القدوس، إن الطهارة التي أنت تريدها ليست فينا، ولذا نحن يا رب نستحق غضبك والموت الأبدي، فطهرنا."

أما كون الله يعاقب الخطاة على خطاياهم فقضية مسلّمة. (أولاً) لأن التجارب والاختبارات تؤيد ذلك، (ثانياً) لأن شهادة الضمير تؤيده، أيضاً (ثالثاً) لأن كلمة الله تصرح بهذه الحقيقة (حزقيال ١٨:‏٢٠ وبشارة متى ٢:‏٣٦ و٢٥:‏٤١ ورومية ١:‏١٨  و٢:‏٨ و٩ وكولوسي ٣:‏٢٥ وتسالونيكي الثانية ١:‏٩) يتصور بعضهم أن الله يغفر للمذنبين ذنوبهم بدون أن يعاقبهم استناداً على كونه رحيماً ورحمته غير متناهية، إلا إن هذا محال إلا بتدبير طريقة لتكريم شريعته والوفاء بمطالبها، وإلا كان غفر الذنوب بدون قضاء حق شريعته غير عادلاً. حقاً إن رحمته ومحبته غير محدودتين ولكن لا تنس أن عدله وقداسته غير محدودتين كذلك، فيستحيل عليه أن ينظر بعين الرضى إلى فاعل الشر.

وعدا ذلك فإن الخطية بطبيعة الحال لعنة وقصاص لفاعلها، ولا يمكن أن يكون سعيداً لا في هذه الدار ولا في الدار الآتية، لأن الإنسان الشهواني مثلاً لا يعرف للسعادة الحقيقية معنى حتى هنا، لأن الخطية تنزل طبيعة الإنسان إلى الحضيض، فيصير قاسياً جباناً محباً للذات دنيئاً نذلاً متباعداً عن حضرة الله القدوس مصدر السعادة وينبوع السلام والسرور.  قال المسيح "إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ" (يوحنا ٨:‏٣٤) وأعظم قصاص يقع على الخاطئ هو بقاؤه في حالة الخطية، وذلك نصيب الذين أصرّوا على تفضيل الظلمة  على النور  والشر  على  الخير  وإبليس  على  الله (يوحنا ٣:‏١٩ ورؤيا يوحنا ١٢:‏١١).

ولاحظ أيضاً أنه من رحمة الله ومحبته أن لا يترك الإنسان يخطئ بلا عقاب، لأنه إن علم الإنسان أنه إن أخطأ لا يُعاقب يتهور في الخطية ويغوص في بحر الفساد، فتسوء حاله وتبلغ تعاسته حداً لا يوصف، وتكون حياته ويلاً  لنفسه وقومه. فأين هذه النتائج المحزنة المدمرة من رحمة الله ومحبته؟

ويتضح إن التعدي على شريعة الله يوجب العقوبة، وإلا فلماذا أنزل الله الشريعة الأخلاقية ولماذا كتبت في الأسفار الإلهية؟ ولماذا كتبها على قلوب البشر؟ لا يقدر ذو عقل سليم أن يتصور أن عبيد الله العصاة والطائعين متساوون عند الله ويعاملهم معاملة واحدة.

وحيث أن كل الجنس البشري أخطأ ما عدا واحداً، فوجب علينا جميعاً القصاص، ولا قدرة فينا نحن الخطاة أن نرضي الله أو أن نكفر عن خطايانا وننال غفرانه ونحصل على المصالحة معه.  ثم أننا لا نحتاج فقط إلى نجاة من القصاص، بل بالأكثر نحتاج أيضاً إلى وسيط نخلص به من قوة الخطية ومحبتها. فالقصاص حسن ونافع للخاطئ وفي الغالب يقوده إلى التوبة، ولهذا تُعد الخطية موجبة للقصاص دائماً. ولكننا نحتاج إلى طريقة بها نخلص من نتائج الخطية الأبدية التي تحول بيننا وبين الله، وتنفينا من حضرته المقدسة، وتسقطنا من محبته وعنايته الأبوية، وتحفظنا من أن نكون على صورة إبليس عقلاً وقلباً، وإذا لم نحصل هذا الخلاص فخيرٌ لنا أن لا نوجد. فكيف إذاً نجد طريقة الخلاص؟ إذا كان الإنسان في حالته الساقطة الحالية لا يمكنه أن يتمم شريعة الله فمن أين له أن يكفّر عما مضى ويتصالح مع الله تعالى؟ إن أعماله الحسنة لا تستوجب أقل مكافأة، فضلاً عن كونها غير مقبولة بالمرة،  كيف يقبل الله شيئاً من يدٍ مدنَّسة ومن قلب فاسد؟ وليس فقط أعمال الإنسان ولكن حتى كلماته وأفكاره مدنسة بالخطية، فكيف نستحق بأعمالنا الحسنة نوال مغفرة خطايانا مع عدم إتمامنا الواجب لله وللقريب؟ وذلك محال.  ولو فرضنا أنه وُجد إنسان لم يخطئ قط، فلا  يكون إلا  أنه قام بالواجب، وليس للقائم بالواجب فضل (لوقا ١٧:‏١٠) ولا يمكنه أن يشفع بواجبه لنفسه أو لغيره، ويعلّمنا الكتاب المقدس أن شريعة الله تكلّفنا أن نكرس له حياتنا بجملتها تكريساً تاماً (بشارة متى ٢٢:‏٣٦-٤٠) فإن أخطأنا إلى الله يوماً ما، فليس في وسعنا أن نعوّض ما فاتنا في المستقبل.

ويظن بعضهم بحماقة وجهل أنهم عبدوا الله أكثر مما فرض عليهم، وهذا منتهى الغباوة.  وبالرغم عن دعوتهم الباطلة، إلا أنهم عندما يخلون إلى أنفسهم لا يقدرون أن يقنعوا ضمائرهم أنهم مبرَّرون في عين الله. وكثيراً ما تبكتهم قلوبهم بآلام مرة وتخيفهم من هول العقاب بعد الموت حتى يقضوا الجانب الأوفر من حياتهم معذبين في خوف الموت ويموتوا في عذاب شديد. ولنضرب لك مثلاً وهو ما حكاه ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان عن أبي عمر، أن إبراهيم بن يزيد "لما حضرته الوفاة جزع جزعاً شديداً،  فقال: وأي خطر أعظم مما أنا فيه؟ أنا أتوقع رسولاً يرد علي من ربي، إما بالجنة أو بالنار، والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة"، وبالطبع كان ذلك من خوفه مما بعد الموت.

وكذلك لا تكفي التوبة لمحو خطايانا، نعم إن توبتنا عن خطايانا ضرورية إلا أنها لا تكفر عن ما مضى من آثامنا، فلذلك التوبة ليست كافية لخلاصنا، ويجب أن نلاحظ أن المتعدي على الشريعة البشرية لا تمحو التوبة عنه ما جناه، فهل إذا قال قاتل أو لص للقاضي إنه تاب عن فعلته، يكون القاضي عادلاً إذا أطلقه حراً؟ لا شك أن ذلك مخالف للعدل لدى أفكارنا الطبيعية. وحيث أن هذا الفكر عن العدل هو جزء منه الناموس الأخلاقي الذي نقشه الله على صفحات قلوبنا فلا بد أن يكون صحيحاً، ويوجد كثيرون تقست قلوبهم لدرجة لا يمكنهم معها التوبة إذا أرادوا.

ها قد رأينا أنه لا يمكن خلاص أنفسنا بأعمالنا ولا بعقوبتنا على الخطية ولا من نتائجها الأخرى، وبالأحرى لا يمكننا أن نتخلص من محبة وقوة الخطية ونحصل على المصالحة مع الله بواسطة استحقاق فينا. فإذا لم يوجد مخلّص يكفر عن خطايانا نبقى إلى الأبد منفيين من حضرة الله، ولا يمكن لنا أبداً أن نحصل على السعادة الأبدية التي يرغب فيها كل البشر.

وقد بيّنا أنه إذا وُجد مخلّص يمكنه أن يكفّر عن الخطايا ويحرر أسرى الخطية ويجعلهم طاهرين في عين الله العادل القدوس، وهكذا يتضح لنا أن المخلّص لا يمكن أن يكون مجرد إنسان مولوداً مثل البشر وارثاً طبيعة آدم الفاسدة خاطئاً كغيره. فلا يمكن لخاطئ أن يخلّص خطاة، وحيث أن كل البشر خطاة فليس منهم من يقدر أن يكفّر عن البقية، وجاء في الزبور أن "الأخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلا يُعْطِيَ اللّه كَفَّارَةً عَنْهُ" (مز ٤٩:‏٧) لا يوجد من يقدر أن يخلّص أخاه من موت الجسد، فكم بالأحرى لا يمكن لشخص أن يفدي الآخر من الموت الأبدي.

ومع ذلك إذا وُجد مخلّص فيجب أن يكون إنساناً، وإلا فلا يصح أن يكون نائباً عنا وواحداً منا ولا رئيساً للبشر، ولا يمكننا أن نقتنع بإخلاصه ونفهم محبته لنا، ويجب أن يكون أرقى من الذين يخلّصهم في طبيعته وقدره وفي الوقت نفسه، يشاركهم في طبيعتهم. كما يجب أن يكون خالياً من الخطية ويتمم شريعة الله تماماً، فإن لم يوجد مثل هذا المخلّص قد هلك كل العالم ولا رجاء لهم، ولا يمكنهم الوصول إلى السعادة والقداسة التي يشتاق إليها كل مخلوق.

ولكن هل يوجد مثل هذا المخلّص؟ إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس نرى أنه موجود، فالعهد القديم يتضمن الوعد بمجيئه، والجديد يخبرنا كيف جاء. فقد شهد الأنبياء والرسل بأنه المخلّص الوحيد الحقيقي من الخطية، وقد قدم لله كفارة كاملة وشفاعة تامة عن خطايا كل العالم (يوحنا الأولى ٢:‏١ و٢) ولذلك فهو قادر أن يحصل لنا على غفران خطايانا.

هذا المخلّص هو الرب يسوع المسيح الذي بواسطة قدرته وقداسته وبطاعته حتى الموت حمل خطية العالم وصار شفيع كل الناس، فقد كفر عنا وصالح الإنسان مع الله القدوس البار، ونال الخلاص الأبدي لكل المؤمنين الحقيقيين به، إذاً فهو يقدم لكل العالم مغفرة الخطايا والفرح الأبدي.

فلهذا نشترك مع الرسول بقلوب تمتلئ بالشكر في قوله "وَمَلِكُ الدُّهُورِ الذِي لا يَفْنَى وَلا يُرَى، الْلإِلهُ الحَكِيمُ وَحْدَهُ، لَهُ الكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ" (تيموثاوس الأولى ١:‏١٧).

لأن الله المحب المحيي أرحم الراحمين في محبته ورحمته الغير متناهيتين، قدّم لنا نحن الخطاة فداءً عظيماً وخلاصاً مجيداً بالرب يسوع المسيح. آمين.

Pages