November 2014

ميزان الحق

ميزان الحق

The Balance of Truth

لا تحريف في التوراة والإنجيل

There is no corruption in the Torah or the Bible

الجزء الأول
الدكتــور فــاندر

Dr. Carl Pfander
(Arabic)

القسم (٢)

الأصحاح ١:‏١٤-‏٤٥

العمل العظيم للخادم الإلهي

في هذا القسم نحن مدعوون إلى أن نتأمل في تجاوب مختلف الأشخاص مع دعوة الرب وشهادته خلال خدمة رسالته على الأرض. لقد سمع البعض بسرور دعوته الكريمة ليكونوا معه تلاميذ ورسلاً، وتخلوا حالاً وعن طيب نفس عن انشغالاتهم وأعمالهم العادية جميعاً محبة به. وآخرون كانوا مترددين وخائفين لئلا يحملوا نيره. كان البعض يطلبونه بسبب حاجتهم الشخصية، سواء كانت جسدية أم روحية؛ وتبعه آخرون إيماناً منهم بأنه كان المسيا الموعود ورغبة منهم في أن يكونوا شركاء له في ملكوته. ولكن أياً كان الدافع الذي قادهم لأن يتعلقوا به فإنه اقتبلهم وكان يعلّمهم بصبر وأناة، كاشفاً لهم المعنى الحقيقي لرسالته وما يتعلق بملكوت الله ذاك الذي "سُرَّ الآب أَنْ يُعْطِيه" لهم (لوقا ١٢: ٣٢). إن الآب هو من اجتذب الناس إلى الرب يسوع، ولذلك كان هناك ترحيب بجميع الذين جاؤوا إليه (يوحنا ٦: ٤٤). إنه نفس الأمر تماماً اليوم. قد يأتي أحدهم إليه بقلب محطم إذ يعلم أن يسوع المسيح يشفي القلوب المنكسرة، ويأتي آخر إليه بسبب اشتياقٍ وتوقٍ لديه لم يستطع أن يشبعه في هذا العالم البائس؛ ويأتي هذا منكس الرأس بسبب الخجل والخزي والحزن من جراء حياة رديئة شريرة مبددة؛ وذاك آخر يأتي لأنه سمع أن هناك سروراً وسعادة وفرحاً في المسيح. ولكن جميع الذين يأتون ينالون نعمة واستقبالاً فخماً ملكياً. على الجميع أن يأتوا كخطأة، إذ هؤلاء فقط من جاء يدعوهم (متى ٩: ١٣).

لم يضع ربنا قالباً لطريقة تعامله مع النفوس. إنه يكشف عن ذاته بطرق وأعمال عديدة مختلفة، بحسب الحاجات الخاصة لكل فرد. الأمر العظيم والذي يهمه هو أن يصل إلى كل الضمائر وأن يجتذب كل القلوب. أياً كان السبب الذي يأتي لأجله المرء إلى يسوع، يمكنه أن يكون متأكداً أنه لن يُخزَ أو يُرذل أو يُرد خائباً. إن الرب يقدّر عالياً التكرس المحب له. وبهذه الطريقة نتجاوب مع تضرعاته الكريمة ومطالبه الرقيقة.

"وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ»" (الآيات ١٤، ١٥).

بعد وَضْعِ يوحنا المعمدان مقيداً في سجن مكايروس (إذا اعتمدنا كتابات المسيحيين الأوائل وشهادة يوسيفوس) كان صعود يسوع إلى الجليل، وذلك عقب فترة مكوث صغيرة في اليهودية، كما يدون إنجيل يوحنا؛ وهناك بدأ خدمته العلنية في الكرازة بالنبأ السار بأن ملكوت الله قريب. إشارة منه، وبلا شك، إلى النبوة المتعلقة بالزمان التي ترد في (دانيال ٩) أعلن قائلاً: "قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ"؛ ودعا الجميع إلى التوبة- أي ليدينوا أنفسهم أمام الله، وليؤمنوا بالبشرى الحسنة.

"وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ». فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ" (الآيات ١٦- ٢٠).

 لقد "أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ.... يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ". هذان الأخوان كانا قد التقيا بيسوع قبل برهة، ولكنهما ما كانا قد دُعيا بعد ليتركا كل شيء ويتبعاه. والآن وصلا إلى مرحلة حاسمة في حياتهما، إذ عليهما أن يتخذا قراراً مصيرياً. لاحظ أن الرب يسوع، وليسوا هم، من أخذ المبادرة (يوحنا ١٥: ١٦).

"«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ»". من الخطأ أن نحاول تطبيق هذه الكلمات على جميع تلاميذ الرب يسوع. بطريقة خاصة اختار هذين التلميذين، والآخرين فيما بعد، لأجل خدمة عظيمة في ربح النفوس. ولكن يمكننا أن نكون على يقين بأن كل من يتبعه بإخلاص سيستخدمه الرب بطريقة ما وإلا لا يكون إخلاصه حقيقياً.

لقد دعا الرب صيادي السمك الأربعة ليصيروا صيادين للناس. لقد رأى أنهم كانوا يؤدون عملهم في بحر الجليل بخبرة وإتقان، فدعاهم وأعدهم لخدمة أسمى وأعظم، ألا وهي ربح النفوس له. علينا ألا نستنتج من ذلك أن كل من يتبعون الرب يسوع المسيح سيصبحون رابحي نفوس عظماء. البعض يُدعون للخدمة بإمكانيات وطاقات أكثر تواضعاً بكثير. والبعض ليس لديه القدرة على أن يكرز أو يعظ، أو حتى أن يقوم بأي عمل شخصي فعال. ولكن كل واحد مدعو ليخدم في أية وظيفة أو مهمة يوكله الرب بها، حتى ولو كانت مجرد أن يعاني من أجله. يمكن للجميع أن يشاركوا في خدمة الصلاة وبذلك يكونون عوناً حقيقياً لأولئك الذين عُهد إليهم أمر الكرازة بالكلمة.

"فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ". لقد انجذبَتْ قلوبُهم في الحال إليه ورُبحت له. والآن، وقد جاءت الدعوة إلى خدمة علنية كامل الوقت، فلم يكن هناك تردد. صحيح أنه لم يكن لديهم الكثير ليتخلوا عنه، ولكنهم لأجل اسمه تركوا كل ما كان لديهم من الناحية الدنيوية، وجعلهم فَعَلَةً شجعان ومقتدرين في عملهم العظيم بربح النفوس له.

"رَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ". هذان أيضاً كانا صيادي سمك، وعلى الأقل يوحنا كان قد عرف يسوع قبلاً، وربما يعقوب أيضاً. من الواضح أن الرب يسوع المسيح قد ميّز فيهما اتقاد الروح وتكرس قلبهما المحب.

"فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا ... وَذَهَبَا وَرَاءَهُ". لقد كان هذا امتحاناً حقيقياً لقد كانا بلا شك يحبان والدهما زبدي بشدة. ولكنهما وضعا المسيح ودعوته بالدرجة الأولى، ولذلك تركا المنزل وشؤون عملهم لأجله. تخيلوا ما كان ليفوت بطرس وأندراوس ويوحنا ويعقوب لو خذلوا المسيح أو لم يبالوا بمطلبه منهم بأن يتركوا كل شيء من أجله. لقد تخلوا عن عملهم في الصيد لينكبوا على أعظم عمل أُوْكِلَ لإنسان- ألا وهو ربح النفوس للمسيح.

أما عن الزمن الذي انقضى بين دعوته للتلاميذ الصيادين الأربعة وتلبيتهم للدعوة، فلا يمكنننا إلا أن نخمنه. يبدو أن كل الأحداث قد جرت خلال بضعة أيام. وفي الواقع، لعل ذلك السبت الذي جرت فيه كل هذه الأعمال العظيمة المقتدرة قد تلا مباشرة اليوم الذي اصطادوا فيه ذلك المقدار الكبير العجائبي من السمك.

إن خدمة الرب يسوع المسيح في التعليم والشفاء مترابطتين على نحو وثيق دائماً وأبداً. والأخيرة تكمل الأولى، بمعنى أنها تصادق عليها وتثبت صحتها. الأعمال التي تُظهر قدرته أثبتت أنه ابن الله، المسيا المُنْتَظَر من قِبَل بني اسرائيل ومخلص العالم. لم يقم بأية معجزة عديمة الجدوى، أو أعمال أعاجيبية دراماتيكية مذهلة لإثارة العجب والدهشة. لم يكن ساحراً يسعى لإدهاش الناس بقدرته الخفية على العناصر أو على عقول الناس. في كل ما فعل كان أمام ناظريه تمجيد الآب ومباركة البشر. يوم السبت هذا في كفرناحوم لم يكن سوى حدث عابر من حياته الحافلة بالخدمة التي أُرسل لأجلها من قبل الآب الذي مسحه بالروح القدس لكي يَصْنَعَ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ (أعمال ١٠: ٣٨). لقد أدرك أن كل الأمراض، وكل سقم ونقص جسدي، على أنها، في المقام الأول، عمل عدو الله والإنسان، إذ ما كان ليوجد مرض في العالم لو لم تدخل الخطيئة لتشوه خليقة الله الجميلة. لقد كان توقُه المميز هو لإبطال عمل الشيطان وتحرير الذين يعانون من آثار الخطيئة، روحياً وجسدياً أيضاً. ومن هنا فقد أعطى لإسرائيل أن يتذوق مبدئياً البركة التي ستصبح عامة كونية عندما يتأسس ملكوت الله وينعتق البشر من عبودية الفساد (رومية ٨: ٢٠، ٢١).

"ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ. فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ فَصَرَخَ قَائِلاً: «آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ قُدُّوسُ اللَّهِ!» فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «ﭐخْرَسْ وَاخْرُجْ مِنْهُ!» فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «مَا هَذَا؟ مَا هُوَ هَذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!» فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا. فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكاً بِيَدِهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ. وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ. فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً وَلَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ" (٢١- ٣٤).

"دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ". إلى هذه المدينة انتقل ربنا وأمه وإخوته بعد أن تركوا الناصرة. ولذلك كانت هذه المدينة موطناً ليسوع (متى ٤: ١٣؛ يوحنا ٢: ١٢). إنها تُدعى "مَدِينَتِه" (متى ٩: ١). وهنا كان كثيراً ما يعلّم ويصنع العجائب. لقد كانت مدينة نالت حظوة أكثر من أي مدينة أخرى في الجليل؛ ومع ذلك فقد رفضت شهادته وألقى عليها إحدى أشد الويلات (متى ١١: ٢٣). "لِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ". لقد حفظ يسوع السبت بدقة كما شاء الله، ولكنه أبى الاعتراف بكل تلك التقاليد والإضافات والملحقات الناموسية والتشريعية التي ألحقها الربانيون (الربابنة) بالكتابات المقدسة، فجعلوا أمراً ثقيلاً مرهقاً مما كان يفترض أن يكون بركة. لقد كان المجمع مفتوحاً أمامه كمعلم، فدخل إليه وصار يعلّم.

المجمع في إسرائيل:

إن أول ذكر للمجمع هو في المزمور ٧٤: ٨. وآخر ذكر له هو في رؤيا ٣: ٩، حيث نقرأ عن مجمع الشيطان. إن الكلمة بحد ذاتها تعني مجرد مكان اجتماع أو تجمع. خلافاً للهيكل الذي كان مكرساً لله، كان المجمع مكاناً يدل على الولاء الطوعي لناموس الله. لقد كان اليهود يشعرون بالحاجة إلى هكذا أماكن يستطيعون فيها التجمع لتلقي التعاليم وحياة الشركة. لم يكن هناك سوى هيكل واحد معترف به في أي زمن، وكان هذا في أورشليم. كانت هناك مجامع في كل مكان تواجدت فيه عائلات يهودية كافية لتحافظ عليها وتساعد على استمرارها، وغالباً ما كانت عديدة في المدينة الواحدة.

إذ كان طفلاً، اعتاد يسوع على أن يحضر إلى المجمع. وبدأ باكراً بالمشاركة في الخدمة فيه (لوقا ٤: ١٦). لاحظ هنا (في إنجيل لوقا ٤: ١٦) الكلمات "حَسَبَ عَادَتِهِ". لقد أعطى كرامةً وتقديراً للمكان الذي كانت كلمة الله تُعلَّم وتُفسَّر فيه، وأوصى الآخرين بأن يفعلوا المثل، رغم أن أولئك الذين كانوا يعلِّّمون ما كانت حياتهم تتوافق مع التعليم الذي يُلقون (متى ٢٣: ٢). أفلا نتعلم من ذلك أن نحترم المكان الذي يُعترف فيه باسم الله وتُقرأ فيه كلمته، حتى ولو لم نكن نسلم أو نصادق أو نؤيد كل ما يجري هناك، بسبب الضعف البشري؟ إننا ميالون لأن نذهب إلى حد التطرف، إما في إظهار اللامبالاة الكاملة لعقيدة الشر أو السلوك الشرير، أو بأن نتخذ موقفاً متشامخاً متكبراً مع البر الذاتي نحو أولئك الذين لا يرون كما نرى نحن أو نفعل ولا يسلكون بحسب معاييرنا. من المهم أن ندرك ذلك في حين أننا مدعوون، كأفراد، أن "كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ. تَعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ" (أشعياء ١: ١٦، ١٧). فلسنا مدعوين لأن نعتلي كرسي الدينونة وننتقد الآخرين الذين يكونون مخلصين مثلنا، ولكن لم يتعلموا أن ينظروا إلى كل شيء مثلنا بنفس طريقتنا.

"كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ". هؤلاء الناس كانوا معتادين على أن يفسروا التعاليم التي تلقوها من معلميهم الذين سبقوهم، وما كانوا يحاولون أن يعطوا أية تعاليم موثوقة مقبولة من تلقاء ذاتهم. أما يسوع فكان يتكلم كمُرسَلٍ من الله ليس لديه حاجة لأن يدعم تعاليمه بشهادات من سلطات بشرية، بل كرز بالكلمة كناطق باسم الآب، والذي كان هو نفسه ممثلاً له. كان هذا تعليماً لم يعهده الناس من قبل أبداً على الإطلاق.

"رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ". يخبرنا الكتاب المقدس بوضوح عن حقيقة أن يكون امرؤ ممسوساً من الشيطان. لم تكن هذه مجرد إيمان خرافي عند اليهود. ففي هذه الحادثة يتم قطع الخدمة بظهور رجل تسيطر عليه روح نجسة شريرة.

"أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ قُدُّوسُ اللَّهِ". الروح الذي يتملّك الرجل عرف يسوع واعترف به وبسلطته، وخشي أن يلقي دينونة على الأرواح الشريرة، فيقيدهم في السجن الأبدي المعد للملعونين المحكوم عليهم بالهلاك إلى أبد الدهر. قد يتلقى البشر تعاليم المسيح وتصريحاته بشك، ولكن الأرواح الساقطة يعرفون من يكون يسوع.

"فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ". لم يكن يسوع في حاجة إلى شهادة من الأرواح الشريرة. لقد أمر الروح النجس أن يصمت وأن يخرج من ذاك الرجل المسعور.

"فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ .... وَخَرَجَ مِنْهُ". كما لو كانت محاولة أخيرة حاقدة يائسة، ألقى الروح النجس عذاباً أكبر على هذه الضحية البائسة، ثم في إطاعة كارهة للأمر الذي ما كان ليمكنه أن يعصاه، خرج من الرجل وهو لا حول له ولا قوة. كان هذا التحرر من الروح النجس على مرأى من كل الحاضرين.

"مَا هَذَا؟ مَا هُوَ هَذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟" أولئك الذين اكتظ بهم المجمع اهتزوا عندما أدركوا قوة المسيح وسلطته على الأرواح الشريرة، وسأل بعضهم الآخر عن معناه كله وعن مصدر سلطته. لم يحدث معهم أبداً، عندما كانوا يصغون إلى مفسري الناموس العاديين، أن عرفوا مثل هكذا تجلٍّ للتأييد الإلهي.

"فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ". راح كل واحد يخبر الآخرين عن الأمر اللافت الذي حدث في مجمع كفرناحوم حتى انتشر النبأ في كل المنطقة الجليلية تلك. ولكن، وكما أثبتت الأحداث فيما بعد، أن ترى في يسوع معلماً عظيماً أمر، وأن تنحني في توبة أمام الله وتقتبل المخلص الذي أرسله، كفادٍ للخطيئة، هو أمر آخر.

"جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ". تعامل الرب مع هذين أصلاً في بيت صيدا. ولعل سمعان قد انتقل إلى كفرناحوم بعد زواجه، على الأرجح ليشاطر زوجته بيت والدتها.

"وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً". أينما حل يسوع كان هناك أدلة على الخراب والدمار الذي كانت الخطيئة قد عملته في بني اسرائيل. لو أن هذا الشعب كان مخلصاً لله، لكان (الله) أزال كل مرض من بينهم (خروج ١٥: ٢٦). ولكنهم أخفقوا كشعب في إطاعة كلمته. وبالتالي كان المرض والوباء سائداً منتشراً في كل مكان. إذ رأى التلاميذ حالة هذه المرأة المتألمة، فإنهم لفتوا انتباه يسوع إليها، وهم على ثقة بأنه سيريحها من هذا الوضع الذي ترزح تحته.

"فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكاً بِيَدِهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً". لقد كان هناك شفاء في لمسته. ففي اعتبار حانٍ وشخصي تجاه المرأة المسكينة المتألمة، أنهضها "فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً". لقد هدَّأتْها يده وخففت ألمها وحررتها من نار الحمى التي كانت تسري في عروقها. وفي موقف من الامتنان قامت تلك التي كانت مضطجعة هناك عاجزة وهرعت لخدمة الآخرين.

"وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ". لمّا قارب النهار على الانتهاء، أمكن رؤية حشد ممتزج مختلط قادماً من كل صوب، وقد جاؤوا بالمرضى المصابين بالأوبئة والمتلبسين بالأرواح لكيما يُظهر يسوع قدرته على شفائهم كرمى لهم.

"كَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ". لم تكن هذه مجرد مغالاة. لم تكن كفرناحوم مدينة كبيرة. من كل حدب وصوب فيها ذهب السكان إلى بيت سمعان وأندراوس، يدفعهم إلى ذلك الفضول أو الإحساس بالحاجة. للأسف أن الغالبية العظمى الساحقة منهم لم يفكروا جدياً بمسؤوليتهم تجاهه ذاك الذي جاء بينهم خلال عمل نعمته، ليس فقط ليشفي أجسادهم، بل أيضاً ليعلن الخلاص لنفوسهم.

"لَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ". لقد شفى كثيرين من الأمراض والأسقام الجسدية، معتقاً إياهم من العبودية الروحية لقوة الشيطان، بل وحتى رفض أن يسمح للأرواح الشريرة بأن تعرِّف عن هويته، لأنه لن يرضَ بشهادة تأتي من مضيفي الشرير.

لقد كانت حياة ربنا على الأرض خدمة متواصلة مطردة بلا توقف. هذا لا يعني أنه كان على الدوام منشغلاً بالتعليم والشفاء. لقد وجد متسعاً من الوقت لمشاركة هادئة مع الآب. ورغم ذلك فلم يكن أحد من تلاميذه منشغلاً كما هو. إن رواية هذا السبت في كفرناحوم ما هي إلا مثال عن أيام كثيرة أمضاها في إعلان إنجيل الملكوت وسد حاجات الرجال والنساء، شهادة على اهتمامه الإلهي بهموم وشؤون البشر. وفي هذه كلها ترك لنا مثالاً نحتذي به. إننا نهدر وقتاً طويلاً على أشياء لا تنفع. لقد سخَّر كل لحظة لمجد الله. في حياتنا أشياء كثيرة ليست لها قيمة حقيقية أو دائمة. أما هو فكل ما قاله أو فعله كان قيّماً ويفيد إلى الأبدية.

"وَفِي الصُّبْحِ بَاكِراً جِدّاً قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ فَتَبِعَهُ سِمْعَانُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: «إِنَّ الْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ». فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضاً لأَنِّي لِهَذَا خَرَجْتُ». فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ الْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ. فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِياً وَقَائِلاً لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي!» فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ: «أُرِيدُ فَاطْهُرْ». فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ وَقَالَ لَهُ: «ﭐنْظُرْ لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئاً بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ». وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيراً وَيُذِيعُ الْخَبَرَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِراً بَلْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ" (٣٥- ٤٥).

بعد ذلك السبت الحافل في كفرناحوم اختلى المخلص الخادم بنفسه باكراً جداً في الصباح في مكان منعزل، وأمضى هناك بضعة ساعات في مشاركة مكرسة مقدسة مع أبيه. كانت الصلاة بالنسبة له، كإنسان كامل، مسرة روحه المقدسة وهو يناجي في كل الأشياء ذاك الذي أرسله.

مع طلوع الفجر جاء سمعان والآخرون يطلبونه، وعندما وجدوه أخبروه أنه كان هناك آخرون كثيرون يبحثون عنه ويرغبون في رؤيته والاستماع إليه. من الواضح أنهم كانوا يفكرون بالاعتراف به ملكاً وأن يحاولوا أن يفرضوا فكرة القطيعة مع الحكومة الرومانية. أما بالنسبة له فلم يكن هناك ملكوت بدون الصليب. ولذلك، وبدلاً من أن يذهب ليرحّب بأولئك الذين كانوا يطلبونه على هذا النحو، قال في هدوء: "لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ". لقد أشار إلى أنه كانت لديه خدمة لهؤلاء، لأنه أُرسل ليكرز بإنجيل الملكوت لهم أيضاً. ولذلك، فإن المجموعة الصغيرة تابعت طريقها من قرية إلى قرية في كل أرجاء الجليل، ووعظ في المجامع وكان يخرج الشياطين.

وفي إحدى هذه الأماكن، وبينما كان يكرز، تقدم إليه أبرص نجس، وجثا على ركبته أمامه طالباً منه أن يشفيه من ذاك الداء المخيف. لقد كان على يقين بأن يسوع لديه القدرة على فعل ذلك، ولكن هل سيرغب بأن يفعل ذلك لشخص واقع، من دون ريب، تحت لعنة الله؟ إذ كانت هذه هي الفكرة المتعلقة بالبرص السائدة في اسرائيل. فصرخ ذاك: "«إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي!»". بقلبٍ مليء بالحنو انعطف يسوع نحوه بنعمة، دون أن يخشى احتمال أن يتلوث أو يتنجس من جراء احتكاكه بنجس، فمد يده ولمس الأبرص قائلاً له: "«أُرِيدُ فَاطْهُرْ»". وفي الحال جرت المعجزة. فمضى البرص بأمر يسوع، وانصرف ذاك الذي كان سابقاً ضحية لذلك المرض المريع الفظيع وهو مبتهج فرح. وطلب إليه يسوع، الذي لم تكن لديه رغبة بأن يهتف له الناس كصانع معجزات قدير، طلب من ذلك الرجل الذي شُفي ألا يخبر أحداً بما حدث، بل أن يذهب أولاً إلى الكاهن في هيكل أورشليم ليُري نفسه لهم على سبيل الفحص، وأن يقدم الطيرين والقرابين الأخرى التي كان موسى قد أمر بها، كما ورد في (لاويين ١٤) "شَهَادَةً لَهُمْ". يمكن للمرء أن يتخيل اندهاش وانذهال الكاهن عندما رأى هذا الرجل يتقدم من أجل التطهير الطقسي، لأن ذلك كان شيئاً لم يكن أحد قد سمع به في اسرائيل ولقرون.

نعلم من الإنجيل أنه ذهب، ولكنه لم يستطع أن يمسك نفسه عن أن يعلن في كل مكان عما اختبره؛ وبنتيجة ذلك احتشد عدد كبير جداً ليروا يسوع لدرجة أنه اضطر ليترك المدينة ويبقى خارجاً في الريف. لم يكن شفاء البرص بقدرة بشرية، وما أنجزه يسوع بلمسة أو بكلمة ما كان لطبيب على الأرض أبداً أن يحققه. لقد كان البرص مرضاً متعلقاً ببنية الإنسان. لقد كان يظهر تأثيره في الخارج بينما هو ينبع من الداخل. وبسبب بذاءة وقذارة هذا المرض استخدمه الله كصورة عن النجاسة التي في الخطيئة.

إن كل نفس غير مخلصة هي مصابة بهذا الداء المخيف وهي خاطئ آثم نجس في نظر الله. لم يكن الإنسان يصاب بالبرص أو الجذام لأن لديه تقرحات مريعة على جسده. بل كانت هذه علائم تدل على المرض الذي في داخله. وليس الإنسان خاطئاً لأنه يرتكب الخطيئة: بل إنه يخطئ لأنه خاطئ، ولذلك فهو منفسد في جسده. وقدرة الرب وحدها يمكن أن تعتقه من هذا الداء.

الأصحاح ٢

لقد لاحظنا لتونا أن المعجزات قد عملها ربنا ليريح البشر من بؤسهم وتعاستهم وليثبت مسيانيته. سنركّز أيضاً على الحقيقة الثمينة بأن هذه المعجزات قد عُني بها أن تعلنَ للبشر نعمة الله ومحبته الحانية، التي تبدت في المسيح، فكشفت على نحو كامل عمق اهتمامه بأولئك الذين استجلبوا على أنفسهم ذلك المرض الرهيب والبلوى بسبب أنهم أداروا ظهرهم له. إن الجنس البشري برمته كان يعاني بسبب الخطيئة. لقد كان إسرائيل بشكل خاص قد وُعد بمناعة من المرض إذا ما أطاعوا ناموس الله (خروج ٢٣: ٢٥). وكل أعمى أو أصم أو مشلول أو مصاب بالمرض من بينهم كان شاهداً على إخفاقهم في هذه الناحية (تثنية ٢٨: ١٥- ٢٣). بشفائه لذاك المريض، كان يسوع يبطل عمل الشيطان (أعمال ١٠: ٣٨). وبقيامه بذلك فإنه كان يحقق ما سبق أن جاء في النبوءة عن "عبد يهوه"، ملك اسرائيل المسيا المنتظر الموعود (أشعياء ٣٥: ٤- ٦). شفاء الأجساد وغفران الخطايا كانا مرتبطان على نحو وثيق في العهد القديم (مزمور ١٠٣: ٣؛ ٦٧: ٢؛ أشعياء ٥٨: ٨). وكان الأمر يصح أيضاً على نفس المنوال فيما يخص خدمة الرب على الأرض كما سيوضح هذا القسم الذي سنتناوله الآن. وهناك منطق لا يزال صحيحاً حتى ولو كانت بركاتنا الآن روحية (أفسس ١:٣) أكثر منها مؤقتة زائلة. ولكن يوحنا يصلي من أجل غايس لكي ينال صحة الجسد وانتعاش الروح معاً يداً بيد (٣ يوحنا ١: ٢). وكما في مكان آخر يمكننا أن نتيقن أن سبب ذلك هو أن الله أبانا له هدف خفي معين من البركة. إلا أن لنا الحرية في أن نصلّي على الدوام أحدنا للآخر من أجل الشفاء (يعقوب ٥: ١٦). عندما كان يسوع يعلنُ على الأرض إنجيل الملكوت، كان من الملائم أن تتجلى بركات الدهر الآتي، وهكذا يحصل الناس على مثالٍ عما يمكن لإسرائيل والكون بأكمله أن يتمتع به بامتلائه عندما يسود مُلْكُ الله على جبل صهيون وتعم البركةُ جميعَ الأرض.

إن كل شكل من أشكال شفاء المرض قام به ربنا يسوع يبدو وكأنه يرسم جانباً من الخطيئة، التي تشبه الحمى المتقدة في النفس، فتكون مثل برص يدنس الكيان كله، أو شلل يجعل المرء عاجزاً كلياً عن أن يخطو خطوة تجاه الله، أو كمثل ذراعٍ ذاويةٍ عاجزة عن القيام بخدمة حقيقيةٍ. أياً كان الشكل الذي تأخذه الخطيئة، فإن يسوع يستطيع أن يقدم انعتاقاً كاملاً منه.

كل شفاء هو إلهي، سواء أكان قد تم بقوة أو قدرة معجزية، أو بعادات جسدية منضبطة على نحو صحيح، أو حمية أو تدريب، أو بمعالجة طبية مدروسة. الله وحده هو الذي يستطيع أن يقدم صحة و قوة متجددتين. فذاك الذي بقدرته أتينا إلى الوجود، وقد أعطانا كل تلك الأجساد المدهشة، بوظائفها الرائعة، هو الوحيد الذي يستطيع أن يحفظنا على نحو سليم معافى أو يشفينا من المرض.

"ثُمَّ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ أَيْضاً بَعْدَ أَيَّامٍ فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ. وَلِلْوَقْتِ اجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ الْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِالْكَلِمَةِ. وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجاً يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْجَمْعِ كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هَذَا هَكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ؟» فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هَكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهَذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا» - قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ». فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللَّهَ قَائِلِينَ: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا قَطُّ!»" (٢: ١- ١٢).

خدمة الرب المبكرة في الجليل لا تزال مستمرة مطردة، والأحداث التي ترد في هذا المقطع تلي مباشرة تلك التي مرت في المشهد السابق. كانت كفرناحوم المركز الذي انطلق منه يسوع إلى بقية نواحي الجليل، في أوائل الصيف أو أواخر الربيع من العالم ٢٨ م.

"سُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ". حضور يسوع في أي مكان كان سرعان ما يصبح معروفاً، كما في هذه المناسبة عندما انتشر خبر أن الشافي العظيم هو من جديد في المدينة التي اختارها موطناً له.

"فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِالْكَلِمَةِ". لقد كان يعلن لتلك الحشود التي ملأت المنزل واكتظت عند الباب الرسالة التي جاء من السماء لكي ينقلها، ألا وهي إنجيل الملكوت. لقد كانت هذه مهمته الرئيسية خلال فترة خدمته التي استمرت ثلاث سنوات ونصف. وكان شفاء المرضى أمراً ثانوياً بالنسبة له، رغم أن ذلك كان الأمر الأهم بالنسبة للناس بلا شك. ولكن مرض النفس أشد خطراً من مرض الجسد، وأن ينقل للبشر رسالة الحياة أهم بكثير من تخليصهم من الأمراض أو العلل الجسدية.

"وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجاً يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ". هذا المشلول البائس العاجز لم يكن ليستطيع أن يشق طريقه بدون مساعدة ليصل إلى حيث كان يسوع، ولكن كان له أربعة أصدقاء كانوا مقتنعين بشدة على ما يبدو بأن الرب سيعطي قوة لأوصال ذلك المريض المشلولة.

"كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَ... دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعاً عَلَيْهِ". إذ وجدوا أن كل الطرق العادية المؤدية إلى يسوع كانت مغلقة بسبب الحشد المتدافع عند الباب، فإن هؤلاء الأصدقاء النشطين، وإذ كانوا عازمين على ألا يخفقوا في محاولتهم لإحضار المتألم المصاب مباشرة إلى المخلص المحب صانع المعجزات، فإنهم حملوه إلى أعلى السطح (والذي يمكن الوصول إليه عن طريق سلم خارجي) وهناك، وإذ نزعوا القرميد والقش على السقف، صنعوا فتحة كبيرة بما يكفي ليُنزلوا المريض منها، بأن ربطوا حبالاً إلى السقالة التي كان يضطجع عليها المريض فأوصلوه إلى حيث كان يسوع يعلّم. يمكن للمرء أن يتخيل مدى الاهتياج والإثارة عند الناس وقد رأوا ذلك الرجل المضطجع وهو يُنزل إلى عند قدمي يسوع. بالنسبة له لم يكن في هذا أي تطفل أو اقتحام وقح لا مبرر له، أو مقاطعة، بل دليل صامت على إيمان الخمسة، الذين وثقوا به على أنه قادر على استخدام قدرته لشفاء المريض.

"فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ". إنما الإيمانُ تبرهنه الأعمال. إصرار ومثابرة ونشاط هؤلاء الرجال أظهر حقيقية إيمانهم باستعداده لأن يسد حاجتهم. هذا ما أدركه، وإذ رأى أن المفلوج كان في حاجة إلى ما هو أعظم من شفاء الجسد- أي مغفرة خطاياه، "قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ»". لقد كانت هذه لحظة درامية مؤثرة، ولا بد أن كلماته قد أذهلت المستمعين، إذ لم يسبق لهم أبداً أن عرفوا رجلاً يتحدث على هذا الشكل.

كان المشلول حرفياً "ضعيفاً (لا قوة له)" (رومية ٥: ٦). وبهذه كان يمثل صورة لكل الناس في خطاياهم. لقد أدخلت كلمة المسيح القوة إلى أطرافه المشلولة، كما أن تلك الكلمة ذاتها تعطي حياة جديدة لمن يقتبله بإيمان.

أظهر الأصدقاء الأربعة لذلك الرجل العاجز إيمانهم من خلال أعمالهم. وإذ كانوا متيقنين بأن صديقهم المريض كان في حاجة إلى يسوع، فإنهم كانوا مصممين على ألا يسمحوا لأي شيء بأن يمنعهم من إحضاره إلى مكان وجود المخلص. هل نهتم نحن على تلك الدرجة بأصدقائنا غير المهتدين إلى يسوع كما فعلوا؟ لقد كان مما يبهج المسيح رؤيتُه لإيمان هؤلاء الرجال، لأن الإيمان دائماً يمجد الله. إنه يميز حضوره في كل نفس صادقة ساعية وراءه، وهو سريع الاستجابة في تلبية رغبة القلب المؤمن.

"وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ". هؤلاء كانوا ناموسيين لم يعرفوا شيئاً عن النعمة وكانوا ينكرون ادعاءات يسوع بأنه ابن الآب. إنهم لا يلتجئون إلى الكتابات المقدسة سعياً وراء الاستنارة، بل إنما يفكرون في أنفسهم عن معنى كل ما يجري. وإذ كانوا ممتلئين بالتحامل والإجحاف ومصممين على ألا يؤمنوا بيسوع، فإنهم تشاجروا معه في الحال.

"مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ؟" بالنسبة لهم، كان أسوأ شكل من أشكال التجديف هو أن يدّعي أحدهم، أياً كان، أن لديه سلطة على مغفرة الخطايا. هذا الامتياز كان وقفاً على الله وحده. لم يعرفوا أن الله المتجلي في الجسد كان حاضراً في وسطهم.

"شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هَكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ". لم يتكلموا بصوت مرتفع، أو بشكل مسموع معبّرين عن نقمتهم أو اعتراضهم على كلماته، بل إن يسوع عرف أفكارهم (مزمور ٩٤: ١١)، وأجابهم بناء على ذلك. "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهَذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟" أن يكون قادراً هكذا على قراءة أعمق الأسرار في تفكيرهم وحياتهم كان دليلاً آخر على ألوهيته، ذلك أن الله وحده هو الذي يعرف أفكارنا من بعيد (مزمور ١٣٩: ٢).

"أَيُّمَا أَيْسَرُ؟": بالنسبة لهم، كانوا عاجزين عن شفاء المريض كما كانوا عاجزين عن الصفح عن الخاطئ. أما يسوع فقد كان قادراً على أن يفعل كلا الأمرين. لقد اختار أن يفعل أولاً الأمر الأهم.

"لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا". كان لينجز معجزة لكي يوضح سلطته وقدرته على تحرير الناس من الخطيئة ومضاعفاتها بآن معاً.

"قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ". لذلك التفت إلى ذلك المشلول الذي كان لا يزال عاجزاً وأمره أن ينهض ويحمل سريره- وهو عبارة عن نقالة يمكن طيّها بسهولة- فعاد صحيحاً معافى إلى منزله. لقد كانت هناك قوة في كلمته. فعندما تكلّم حلّت قوة في تلك الأوصال وقام الرجل، لدهشة جميع من كانوا يتابعون المشهد.

"مَجَّدُوا اللَّهَ". عندما رأى الناس ذلك الرجل الذي كان مفلوجاً في السابق يقف على قدميه يمضي حاملاً سريره، استجابة لأمر من يسوع، أدركوا أن طاقة إلهية كانت فعالة في وسطهم، فأعطوا الله المجد لقيامه بهذه الأعاجيب عن طريق خادمه (وعبده) يسوع. لا شك أن كثيرين تساءلوا فيما إذا لم يكن ذاك هو بالفعل هو المسيا المنتظر، ومن هنا جاء كلامهم أن: "«مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا قَطُّ!» ". لقد كان في هذا تجلٍّ مذهل وجديد لنعمة وقدرة الله.

وإذ غادر يسوع المنزل، "خَرَجَ أَيْضاً إِلَى الْبَحْرِ"، وهناك علّمَ الجموعَ التي تبعَتْه، كاشفاً لهم الحقائق العظيمة المتعلقة بملكوت الله الآتي والذي طالما انتظره بنو اسرائيل طويلاً.

"وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ فَقَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ. وَفِيمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَتَّكِئُونَ مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ لأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَتَبِعُوهُ. وَأَمَّا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: «مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ»" (٢: ١٤- ١٧).

ليس المسيح مخلصنا فحسب، بل هو ربنا أيضاً. والفداء يشتمل على أكثر من الخلاص من إثم الخطيئة والدينونة المستحقة من جرائها. إنه يشمل أيضاً على تحريرنا من قوة وسلطة الشيطان، معبود هذا العالم، وخضوعنا السار لذاك الذي اشترانا بدمه الثمين. ونقرأ: "إنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ.... لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ" (١ كورنثوس ٦: ١٩، ٢٠). بسبب ذلك فإن علينا أن نتمسك بالرب يسوع كمعلّم وسيّد أسمى على حياتنا. وإن الامتنان له على كل ما فعلت نعمته لنا، بحد ذاته، يتطلب منا الإقرار من كل القلب بسيادته علينا. فلسنا مُخَلَّصين بـ "إتّباع يسوع"، بل إننا مطالبون بإتّباع يسوع لأننا مُخَلَّصون. ويتطلّب الولاء للمسيح أن نسلم إرادتنا له وأن نسعى لتمجيده في كل طرقنا. غالباً ما نسمع هذا القول أن إرادتنا يجب أن تُكسر أو تُقهر، ولكن ذلك ما هو إلا أسوأ علم نفس وأسوأ علم لاهوت. الإنسان ذو الإرادة المقهورة أو المكسورة لا يعود قادراً على اتخاذ قرارات محددة. أنشد تينسون يقول:

"إراداتُنا ملكُنا،
وإننا إنما نجعلها لك".

وهذا ما يؤكد عليه الكتاب المقدس. علينا أن نسلم إرادتنا طوعياً لذاك الذي بذل نفسه لأجلنا، لكي تكون خدمتنا هكذا مرضية سارة، وطاعتنا مقبولة نحن الذين نبتهج بإرادة الله فوق كل شيء آخر. إننا في حاجة لأن نحترس من أن ندعو يسوع "رباً" إن كنا نستخفّ بوصاياه وأوامره. فبالطاعة نبرهن على محبتنا له (يوحنا ١٤: ١٥). إننا نرى في الطاعة الكاملة عند لاوي العشار، الذي يدعى متى في مكان آخر (متى ٩: ٩- ١٣)، مثالاً عن الصفة التي يجب أن تتميز بها قلبُ كل من رُبحوا إلى المسيح.

"رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ". لاوي أو متى، كاتب الإنجيل الأول، كان عضواً في طبقة العشّارين المكروهة المرذولة. لقد كان جابي ضرائب في خدمة روما. وهؤلاء كان اليهود يبغضونهم لأنهم كانوا يقتطعون الضرائب ويسحقون إخوتهم لكي يغتنوا هم أنفسهم. كان هناك مكان جباية ضرائب في كفرناحوم، حيث كان يجب على جميع الصيادين أن يحضروا صيدهم وأن يدفعوا نسبة معينة كضريبة عنه. ولعل لاوي كان مرتبطاً بهذا المنصب. من الواضح أنه كان قد سمع يسوع من قبل واقتنع في قلبه بأنه كان المسيا؛ ولذلك فعندما سمع يسوع يقول له: "«ﭐتْبَعْنِي». قَامَ وَتَبِعَهُ". لقد كانت لديه استجابة سريعة لطلب المسيح.

"وَفِيمَا هُوَ (يسوع) مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ". إذ بدأ لاوي مهنة جديدة أقام وليمةً، دعا إليها الكثير من أصدقائه القدامى، "العشارين والخطاة"، وأيضاً "يسوع وتلاميذه". لقد كانت تلك هي طريقته ليدلي بشهادة تنم عن الولاء الجديد لديه، ولا بد أنها تركت انطباعاً كبيراً لدى زملائه القدامى.

"وَأَمَّا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ". في نظر أولئك المتدينين المتعصبين الشكليين، كان ذلك جريمة وإساءة كبيرة. ولكن أظهر هذا كم كان فهمهم ضعيفاً لطبيعة رسالة يسوع.

"لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ". كما أن الطبيب يخدم المرضى أكثر من الأصحاء، كذا المسيح جاء ليقدم رسالة النعمة للخطأة المحتاجين أكثر من سعيه وراء أولئك الذين كانوا يتخيلون أنهم صالحون بما فيه الكفاية أمام الله. وفي الواقع، ليس من أحد بارّ (رومية ٣: ١٠)، ولكن كان هناك كثيرون يفتخرون في أنفسهم ببرّ لم يمتلكوه أبداً. ليس من بركة لهؤلاء. الخاطئ المعترف هو من يجد الرحمة.

ثم طُرِح سؤال يتعلق بالصوم. استغل يسوع المناسبة ليكشف حقيقة هامة في هذا الخصوص.

"وَكَانَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ يَصُومُونَ، فَجَاءُوا وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. لَيْسَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ وَإِلاَّ فَالْمِلْءُ الْجَدِيدُ يَأْخُذُ مِنَ الْعَتِيقِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ»" (٢: ١٨- ٢٢).

لقد كان تلاميذ يوحنا وأولئك الفريسيون، الفئة التقليدية المتزمتة من اليهودية، هم الذين أثاروا هذا السؤال عن سبب عدم إتباع تلاميذ يسوع لنمطهم في الصوم. لقد كانت تلكما الجماعتين تفكران بالإمساك عن الطعام في أوقات معينة على أنها أمر يستحق المكافأة والتقدير، أو على الأقل أمر يفيد في الوصول إلى قداسة القلب والحياة. لذلك بدا لهم أن تلاميذ يسوع، من هذه الناحية على الأقل، قد نزلوا إلى مستوى أدنى منهم؛ لكن يسوع أجابهم بأن طرح سؤالاً: "«هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا". والمغزى أنه لم يكن مناسباً لأتباعه أن يتفجّعوا ويندبوا أمام الله وأن يحزنوا في نفوسهم طالما أنه هو نفسه، منبع كل البركة، كان معهم. ولكن يسوع، وقد شبه نفسه بالعريس، أخبر مسبقاً متنبئاً بالوقت الذي سيؤخذ فيه عنهم، فعندها سيصومون بالمعنى الحقيقي للكلمة، إمساكاً عن حماقات وجهالات العالم- ذلك العالم الذي كان سيحتشد ضدهم في معارضة مريرة لتعاليم معلمهم.

علاوة على ذلك، فإن أولئك الذين أثاروا المسألة حول الصوم لم يدركوا أن يسوع كان قد جاء ليقدم نظاماً جديداً بالكلية. ويخبرنا الإنجيل في موضع آخر أن الناموس كان قد أُعطي بموسى، وأنه كانت هناك أشياء كثيرة في الناموس تتعلق بالصوم. ولكن النعمة والحق جاءا بيسوع المسيح. ولم يكن في مخططه أن يدعو الرجال والنساء للخضوع لمبادئ ناموسية تشريعية. فأن يفعل ذلك كان كمن يخيط قطعة قماش جديدة على رداء بالٍ. فهذا سيجعل الشق أسوأ وحسب. أو سيكون كمن يضع خمراً جديدة في زقاق عتيقة. فعندما يبدأ الخمر بالتخمر ستنفجر الزجاجات ويُتلف الخمر. فمن غير الممكن وضع خمر النعمة الجديدة في قوالب وقوانين وتشريعات ناموسية: فأحدهما يبطل الآخر، كما نقرأ في (رومية ١١: ٦): "فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً وَإِلاَّ فَالْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلاً". بجوابه هذا، ميز ربنا بين ناموسية الماضي والنعمة التي جاء ليكشفها أو ليعلنها. وكان هذا من خلال المقياس الذي أوضحه الحادث الذي تلا ذلك.

"وَﭐجْتَازَ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ فَابْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ السَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «ﭐنْظُرْ. لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ احْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إلاَّ لِلْكَهَنَةِ وَأَعْطَى الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضاً؟» ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «ﭐلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ. إِذاً ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً»" (٢: ٢٣- ٢٨).

بينما كان التلاميذ يسيرون في حقل ذرة في يوم سبت ابتدأوا يقطفون بعض السنابل ويفركونها بأيديهم ويأكلون الحبوب. وكان هذا يتوافق تماماً مع التدبير الذي وضعه الناموس، لأن الله كان قد قال لموسى: "إِذَا دَخَلتَ زَرْعَ صَاحِبِكَ فَاقْطِفْ سَنَابِل بِيَدِكَ وَلكِنْ مِنْجَلاً لا تَرْفَعْ عَلى زَرْعِ صَاحِبِكَ»" (تثنية ٢٣: ٢٥). ولكن الفريسيين ما لبثوا أن رأوا خطأً في سلوك التلاميذ لأنهم كانوا يستفيدون من هذا التدبير في يوم السبت، ولذلك اعترضوا في الحال، قائلين: "ﭐنْظُرْ. لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟" لم يكن في الناموس أي شيء يعلن أن هذا التصرف يتناقض مع أي شيء أمر به الله، ولكنهم كانوا قد أضافوا تقاليد كثيرة جداً إلى الناموس حتى أن التلاميذ بدوا وكأنهم يخالفون وصية أو مبدأ إلهياً. رداً عليهم، لفت يسوع انتباههم إلى ما فعله داود عندما كان هو ورجاله جياعاً وجاؤوا إلى بَيْتَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. فقد طلب داود طعاماً له ولأتباعه. فأجاب أَخِيمَالِكَ الكاهن، والد أَبِيَاثَارَ، أنه ما كان لديهم خبزٌ سوى خبز التقدمة الذي أُخِذَ من المائدة المُقَدَّسة وكان مخصصاً لإطعام الكهنة (لاويين ٢٤: ٩؛ ١ صموئيل ٢١: ٦). ونزولاً عند طلب داود، على كل حال، أُعطيَ هذا الخبز للرجال الجياع، ولم تحل عليهم أية دينونة من جراء ذلك. عندما رُفِضَ خادم الله الممسوح كان من المهم أن يُصار إلى خدمته وخدمة حاجات أتباعه أكثر من الحفاظ الدقيق والشكلي على نظام خيمة الاجتماع، لأن البشر في نظر الله هم، أولاً وأخيراً، أهم من الطقوس. وكانت هذه هي الحالة هنا. فأعلن يسوع أن ﭐلسَّبْت إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ؛ و"إِذاً ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً". بهذه الكلمات، إن كانت لهم أذنان للسمع، كانوا ليفهمون أنه إنما يعلن ألوهيته، إذ مراراً وتكراراً يُقال عن السبت أنه "سبت الرب"، وبما أن يسوع يعلن نفسَه رباً لذاك اليوم (السبت) فهو بالتأكيد يقر بأنه إله اسرائيل المتجلي في الجسد.

لا أريد هنا أن أدخل في الموضوع الحاسم المتعلق بالعبارة "فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ". لقد كان هذا مثار جدل وموضع نقاش كبير، ولعلنا لن نفهمه بشكل كامل إلى أن نعرف كما نُعرف. ولكن علينا أن نتذكر أنه كان من الممكن ببساطة لبعض النساخ والكتبة أن يخلطوا بالخطأ بين "أَبِيَاثَار" و"أَخِيمَالِكَ". من جهة أخرى، لعل هناك تعليل إلهي يفسر تنحية الأب جانباً في حين يتم التعريف بالابن على أنه رئيس الكهنة البار في تلك الأيام.

الأصحاح ٣

من جديد نرى الرب في خلاف مع الفريسيين فيما يتعلق بمسألة السبت. إن إعلانه بأن السبت كان تدبيراً مُنعماً من الله لأجل راحة الإنسان ولم يكن يُعنى به أن يزيد من الأثقال عليه بل أن يريحه، لم يأخذ بعين الاعتبار الانطباع الذي سيخلفه هذا عند أولئك الناموسيين التشريعيين الصارمين المتزمتين والماكرين.

"ثُمَّ دَخَلَ أَيْضاً إِلَى الْمَجْمَعِ وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي السَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الْيَدُ الْيَابِسَةُ: «قُمْ فِي الْوَسَطِ!» ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟». فَسَكَتُوا. فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: «مُدَّ يَدَكَ». فَمَدَّهَا فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى" (٣: ١- ٥).

كان من بين الحضور في خدمة المجمع في ذلك السبت المعين رجلٌ بائس عاجز بيدٍ يابسة- أي يد صارت مشلولة وعلقة إلى جنبه بدون فائدة.

وإذ كانوا يعرفون قلب يسوع الحنون، عرف منتقدوه أنه من المسلم به أن سيهتم لأمر هذا الرجل؛ وبدلاً من أن يبتهجوا بهذا الدليل على المحبة الإلهية والمراعاة، راحوا يراقبونه بعيون مليئة بالغيرة والحسد ليروا إن كان سيستخدم قدرته الشفائية في يوم السبت، وفي دخيلة أنفسهم كانوا يودون لو يفعل ذلك ليستطيعوا أن يكيلوا له تهمة انتهاك تقليد الشيوخ. هكذا هو قلب الإنسان، يكون خارجياً أو ظاهرياً تقياً ومتديناً، عندما يكون غريباً عن نعمة الله.

يسوع، الذي لم يكن من شيء خفي عليه والذي كان يقرأ أفكارهم ككتاب مفتوح، أمر الرجل المشلول جزئياً بأن "«قُمْ فِي الْوَسَطِ!»". يمكن للمرء أن يتخيل كم كان هذا الرجل ليطيع بتوق ولهفة ورجاء، وهو ينظر إلى يسوع مرتقباً شفاء عجزه.

وهنا طرح الرب السؤال: "«هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟»". ولم يُجِبْ أحدٌ. وإذ كان عارفاً بريائهم، نظر حوله إليهم بغضب. لقد كان غضباً مقدساً بسبب ادّعائهم تكريم الله ولا مبالاتهم بحاجات الناس. لقد أحزنت غلاظةُ قلوبهم روحَ يسوع الحانية. ثم أمر الرجل أن يبسط يده. وفي الحال، وإذ نظر بإيمان إلى يسوع، شعر بحياة جديدة تدب في ذلك الطرف المشلول، ومدّها ووجد أنها صارت سليمة وقوية مثل اليد الأخرى.

لعل المرء يفكر أن هكذا إظهار للنعمة والقوة التي كانت في المسيح كانت لتملأ كل قلب بالسرور وتؤدي إلى مديح الله وشكره لافتقاده شعبه على ذلك النحو الرائع؛ ولكن كان لهذا تأثير معاكس على هؤلاء المدافعين الغيورين عن التقاليد البشرية إزاء الإعلان الإلهي.

"فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ. فَانْصَرَفَ يَسُوعُ مَعَ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْبَحْرِ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَمِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ أُورُشَلِيمَ وَمِنْ أَدُومِيَّةَ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. وَالَّذِينَ حَوْلَ صُورَ وَصَيْدَاءَ جَمْعٌ كَثِيرٌ إِذْ سَمِعُوا كَمْ صَنَعَ أَتَوْا إِلَيْهِ. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ أَنْ تُلاَزِمَهُ سَفِينَةٌ صَغِيرَةٌ لِسَبَبِ الْجَمْعِ كَيْ لاَ يَزْحَمُوهُ لأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَفَى كَثِيرِينَ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهِ لِيَلْمِسَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِ دَاءٌ. وَﭐلأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ حِينَمَا نَظَرَتْهُ خَرَّتْ لَهُ وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: «إِنَّكَ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!» وَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ" (٣: ٦- ١٢).

مظهرين انعدام الضمائر نحو الله، ومع أنهم حريصون جداً على الشكليات المتعلقة بحفظ تقاليدهم ومفاهيمهم المغلوطة عن مشيئة الله فيما يتعلق بحفظ يوم السبت من كل أسبوع، فإن الفريسيين، أنصار التقليد القويم المتزمتين الصارمين، تحالفوا مع الهيرودوسيين، السياسيين الفاسدين في عصرهم، في كيفية القبض على يسوع وإزاحته من الطريق. فهذان الفريقان اللذان هما على طرفي نقيض، التقوا هناك، كما يحدث غالباً عند البشر ذوي وجهات النظر المختلفة، فاتفقوا كلياً في رفضهم للمسيح وتشاوروا فيما بينهم على إهلاكه. هذا هو الشر المحتوم ومقاومة الله في القلب الطبيعي.

ونعلم أن يسوع انصرف من تلقاء ذاته، ومضى مع تلاميذه إلى شاطئ بحر الجليل. وإذ علم الناس بوجوده احتشد جمعٌ غفير، ليس فقط في الجليل نفسها، بل أيضاً من اليهودية ومن مناطق جنوبية شرقية كأدومية، أرض أدوم، وآخرون من الشمال الغربي من مناطق صور وصيداء. لقد انتشرت سمعة يسوع على نطاق واسع. لقد كان أوان ترقب واهتياج تحزري وسط الشعب اليهودي في كل مكان، الذين كانوا يبحثون بثقة عن الظهور الذي سبق التنبؤ به لابن داود الذي طال انتظاره والذي كان ليأتي بالانعتاق والخلاص لإسرائيل. من الواضح أن الأمل بأن يكون يسوع النبي الذي من الناصرة هو المسيا في قلب الحشود الوافرة العدد التي أتت من القريب والبعيد لتسمع كلماته وتعاين أعمال قوته.

لقد كان الحشد الذين ازدحموا حول يسوع وهو واقف على شاطئ ضيق كثيفاً جداً. ولذلك طلب من أحد تلاميذه (نعلم من روايات أخرى أنه بطرس) أن يمنحه الإذن باستخدام قارب الصيد خاصته، الذي كان قد ثبت مرساته بعيداً عن الشاطئ، كمنبر. وإذ وقف في هذه السفينة الصغيرة راح يخاطب الشعب الذين كانوا مشدودين بتوق إلى كلماته. ارتفعت التلال عند الشاطئ في ذلك الجزء من الساحل ذي البحر الصغير الداخل إلى اليابسة كمدرج كبير واسع وهكذا أمكن لصوت المتكلم أن يُسمع بيسر وسهولة لآلاف الناس.

كان هناك كثير من المرضى وسط تلك الجموع، وبع إنهاء خطبته شفى يسوع جميع الذين أتوا إليه. لقد كان إيمانهم كبيراً جداً في قدرته على الشفاء لدرجة أنهم كانوا يمدون أيديهم بلهفة إليه مؤمنين أن لمسة من ردائه ستجلب لهم الانعتاق الذي كانوا يتوقون إليه. ولم يخب أمل أحد. وحتى أولئك الممسوسين بالأرواح النجسة كانوا يتحررون من عبوديتهم، وكانت الأرواح الشريرة تعلن حقيقة ألوهيته. "«إِنَّكَ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!»". ولكنه ما كان يستحسن الاعتراف المسموع من تلك القوى الشريرة، ولذلك كان يأمرها أن تكف عن الاعتراف به على ذلك النحو.

"ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ. وَجَعَلَ لِسِمْعَانَ اسْمَ بُطْرُسَ. وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ وَجَعَلَ لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ (أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ). وَأَنْدَرَاوُسَ وَفِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ وَمَتَّى وَتُومَا وَيَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَتَدَّاوُسَ وَسِمْعَانَ الْقَانَوِيَّ وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. ثُمَّ أَتَوْا إِلَى بَيْتٍ" (٣: ١٣- ١٩).

من بين الكثيرين الذين صاروا تلاميذ ليسوع اختار اثني عشر كانوا على صلة وثيقة به، وكانوا، مع استثناء وحيد، قد قُدِّرَ لهم أن يكونوا شهوداً له بعد موته وقيامته.

"وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا" (الآية ١٤). ليس الناس هم من يختارون أنفسهم أو يقيمون أنفسهم خداماً للمسيح. هو الذي يختار ويعيّن خاصته (يوحنا ١٥: ١٦). يمكننا القول أن جميع الرسل الاثني عشر هم "أناسٌ قد اختيروا بعناية" (حتى يهوذا)، لأنهم موضع اهتمام الله الخاص. "سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ" (الأرواح النجسة). لقد كان الاثنا عشر عاجزين بأنفسهم، ولكن الرب قوّاهم ليصنعوا أعمالاً مقتدرة ليثبتوا مصداقية الرسالة التي كانوا سيحملونها إلى إسرائيل.

يظهر اسم سمعان، الذي أعطاه الرب لبطرس، متمايزاً وحده في الآية ١٦.لقد كان بشكل من الأشكال رئيساً للرسل. طبيعة شخصيته المتقدة النشطة وتوهج روحه أهّلتْه بطريقة خاصة للزعامة والقيادة بعد أن مُنِحوا الروح القدس في العنصرة. وكما نعلم، فقد كانت خدمته لليهود بشكل خاص، رغم أنه هو الذي فتح باب الإيمان أمام الأمميين بكرازته بالإنجيل في بيت كورنيليوس. لقد أعطاه يسوع لقب "الصخرة".

يليه في الترتيب "يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ وَجَعَلَ (يسوع) لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ (أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ)". عندما كان يسوع اسماً جديداً لأي شخص، فإنه كان يشير إلى صفة معينة مميزة كان يراها فيه أو كان على وشك أن يخلقها فيه في الأيام اللاحقة. "بُوَانَرْجِسَ" ترجمتها "ابْنَيِ الرَّعْدِ". من الواضح أن هذين الشابين كانا ذوي مزاج انفعالي، تسهل إثارتهما إلى أحكان انفعالية متسرعة، وعلى الأرجح أنهما كانا سرعان ما يلتزمان بقرارات قاطعة حاسمة. كان يعقوب أول واحد بين الاثني عشر الذي وقّع شهادته بدمه. وأما يوحنا، الذي من الواضح أنه كان أصغر واحد في المجموعة، قد عمّر طويلاً بعدهم جميعاً، وبعد معاناة لا تصدق، مات ميتة طبيعية في أفسس في العقد الأخير من القرن الأول في التاريخ المسيحي.

وكان أندراوس شقيق بطرس، وهو الذي أرشد الأخير إلى المسيح، كما نعلم من يوحنا ١: ٤٠- ٤٢. الأسماء َفِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ (الذي يُدعى نثنائيل أيضاً) مرتبطين معاً. لقد كانا صديقين قبل أن يلتقيا بيسوع، وفيلبس هو من عرّف الآخر على المخلص. ومتى، المعروف أيضاً باسم لاوي، كان جابي ضرائب في دار جباية الضرائب للرومان في كفرناحوم، ولكنه ترك كل شيء ليتبع المسيح. ولا نعرف شيئاً عن حياة توما الباكرة. أنه معروف كثيراً في ذاكرتنا بسبب إعلانه الذي صرّح به عن شكّه في هوية ذاك الذي قال الآخرون أنه المسيح القائم، ولكن- مع ذلك- اعترف به وعبده رباً وإلهاً عندما ظهر يسوع لهم بعد أسبوع. يَعْقُوب وَتَدَّاوُس (أو يهوذا، غير الإِسْخَرْيُوطِيَّ)، كانا أخوين، وهما ابنا حَلْفَى، ومن الواضح أنهما كانا من أقارب يسوع بحسب الجسد. وسِمْعَانَ الْقَانَوِيَّ، الذي يُعرف في مكان آخر باسم "الغيور"، كان ينتمي إلى جماعة يهودية متطرفة مخرِّبة كانت تعمل بشكل سري، وأحياناً بشكل علني، لأجل تحرير فلسطين من نير الرومان.

آخر تلميذ في القائمة هو يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيّ (الذي من خريوط) الذي حُكِمَ عليه بالخزي إلى الأبد. لقد بدا على أنه "الجنتلمان" من بين التلاميذ الاثني عشر، رجل ثقافة، وقد عُيّنَ ليكون مؤتمناً على صندوق الجماعة الصغيرة، ويكون هكذا، بالتالي، موضع تقدير خاص من قِبَلِ الآخرين، ولكنه، بالحري، كان كاذباً ومنافقاً من البداية. وهو من قال يسوع عنه فيما بعد: "وَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!".

بعد أن يعطينا مرقس لائحة الأسماء تلك يُسارع إلى إخبارنا عن المزيد من نشاطات وأعمال خادم الله الممسوح.

"فَاجْتَمَعَ أَيْضاً جَمْعٌ حَتَّى لَمْ يَقْدِرُوا وَلاَ عَلَى أَكْلِ خُبْزٍ. وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ لأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّهُ مُخْتَلٌّ!»" (٣: ٢٠، ٢١).

كثيرون أتوا إلى يسوع من أجل الشفاء والتعليم لدرجة أنه بالكاد كان يتسنى ليسوع فرصة للراحة الجسدية. لقد كان مشغولاً جداً طوال الوقت حتى أنه لم يحظ بوقت فراغ أو استراحة هو أو التلاميذ حتى ليتناولوا وجبات طعامهم العادية بهدوء وراحة. وكان أقرباؤه- ويقصد بهم أقرباءه المباشرين- كانوا يخافون حقاً على سلامة قواه العقلية وحاولوا أن يثنوه عن المزيد من الخدمة للوقت الحاضر على الأقل، معتبرين أنه مُخَبّلٌ. ولكنه لم يسمح لأحد بأن يتدخّل في العمل الذي كان قد جاء لينجزه.

"وَأَمَّا الْكَتَبَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ فَقَالُوا: «إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ». فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ بِأَمْثَالٍ: «كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطَانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطَاناً؟ وَإِنِ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى ذَاتِهَا لاَ تَقْدِرُ تِلْكَ الْمَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُتَ. وَإِنِ انْقَسَمَ بَيْتٌ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَقْدِرُ ذَلِكَ الْبَيْتُ أَنْ يَثْبُتَ. وَإِنْ قَامَ الشَّيْطَانُ عَلَى ذَاتِهِ وَانْقَسَمَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ بَلْ يَكُونُ لَهُ انْقِضَاءٌ. لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ قَوِيٍّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. وَلَكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً». لأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّ مَعَهُ رُوحاً نَجِساً»" (٣: ٢٢- ٣٠).

إذ عاين بعض الكتبة المعجزات التي اجترحها، وهم قادة للدين كانوا قد نزلوا من أورشليم، راحوا يرقبون ما يجري بعين الحسد والغيرة. وإذ لاحظوا تعاظم تأثيره على عقول الجماهير خشيوا على هيبتهم وسلطتهم. وحتى عندما كانت الأرواح الشريرة تغادر ضحاياها، إذ تطردهم كلمتُه، كان الكتبة والفريسيون يأبون الإيمان بأن روح الله كانت تعمل في ومن خلال يسوع فيشهد له بذلك على أنه المسيا الموعود. فأعلنوا عامدين متعمدين: "«إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ»". لقد كان هذا دليلاً على مدى قسوة قلوبهم ورفضهم الكامل الكلي لشهادته. وباعتبارهم عمل الروح القدس بأنه عمل رئيس الشياطين فإنهم كانوا يتجاوزون كل الحدود. لقد كانت قلوبهم مُقسّاةً، وفات أوان التوبة بالنسبة لهم.

هذا  ما سمّاه البعضُ "الخطيئة التي لا تُغتفر".  في الواقع، ما من خطيئة لا تُغفر إن تاب الناس عنها والتجأوا إلى المسيح بالإيمان. ولكن من الممكن أن يخطئ المرء لدرجة يتحجر معها الضمير كالحديد المحمى، وعندها يفقد الإنسان كل رغبة في التوبة ويستسلم إلى وهم وضلال قوي يجعلهم يصدقون الكذبة ويصيرون إلى الهلاك الأبدي. هكذا كان الحال مع هؤلاء الكتبة. لقد رفضوا كل شهادة أعطاها الله على الحق كما تبدّى في يسوع.

لقد كشف الرب كل الشر والحماقة التي في اقتراحهم بأنه كان يطرد الأرواح النجسة بمعونة رئيس الشياطين عندما قال: "كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطَانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطَاناً؟" وأوضح قائلاً: "إِنِ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى ذَاتِهَا لاَ تَقْدِرُ تِلْكَ الْمَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُتَ". ولا يمكن لبيتٍ منقسمٍ عَلَى ذَاتِهِ أن يَثْبُتَ. كما وأنه لا يمكن الاعتقاد بأن الشَّيْطَان يمكن أن يقوم عَلَى ذَاتِهِ ويسعى لتدمير مملكته. فقيامه بذلك إنما فيه نهاية سلطته على البشر.

لقد كان الشيطان قد وضع يده، كمثل رجل قوي، على هذه الضحايا البائسة المسكينة مستعبداً إياها لسنين إلى أن جاء من هو أقوى منه ليقيّدَه بكلمته ويتلف بيته بذلك. رفض شهادة الروح القدس من قِبَلِ أي شخص كانت تدل على تحالف هذا الشخص كلياً مع الشيطان في هذا الصراع الكبير.

ولذلك أضاف يسوع قائلاً في جلال: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. وَلَكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً»". وتعليل هذه الخطيئة يأتي في الآية التالية: "لأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّ مَعَهُ رُوحاً نَجِساً»".

لم تكن هذه الكلمات بغاية تعذيب النفوس القلقة التي كانت ترغب بصدق في معرفة المسيح، بل هي بمثابة منارة متوهّجة تحذّر من خطر التعنت والإصرار على رفض شهادة الروح للمسيح، إلى أن يصل الوجدان المتقسّي إلى مرحلة لا يعود قادراً معها إلى التجاوب مع رسالة الإنجيل.

"فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجاً وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِساً حَوْلَهُ فَقَالُوا لَهُ: «هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجاً يَطْلُبُونَكَ». فَأَجَابَهُمْ قَائِلاً: «مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟» ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللَّهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي»" (٣: ٣١- ٣٥).

أقرباء يسوع، بمن فيهم أمه التي من الواضح أنها ما كانت قد فهمت بعد بشكل كامل طبيعة ومصير ابنها الذي حبلت به بأعجوبة، أرسلوا رسولاً يطلب منه أن يأتي إليهم، في حين وقفوا على الأرجح على طرف الحشد. وفي جوابه أظهر الرب كيف أن كل العلاقات الطبيعية المجردة كان يجب أن تحل محلها علاقات ذات طابع روحي. لقد سأل: "«مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟»". ثم، وإذ راح ينظر إلى الوجوه التواقة المحيطة به والذين كانوا يصغون إلى كلماته بكل جوارحهم، قال: "«هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللَّهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي»". وهكذا أكّد على الحقيقة العظيمة التي كشفها لنيقوديموس: "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يوحنا ٣: ٦). إنها ولادة جديدة تتجلى في إطاعة الكلمة التي تأتي بالمرء إلى علاقة أبدية مع ربنا يسوع المسيح.

يجدر بنا أن نلاحظ أن مرقس، وبتوجيه الروح القدس، لم يُرشَد لأن يدوّن الأحداث في حياة وخدمة يسوع بحسب ترتيبها الزمني الكرونولوجي، بل بالأحرى بترتيب أدبي جميل، فيه يربط معاً حقائق وتعاليم معينة تركز على مبادئ بارزة رائعة.

الأصحاح ٤

لقد كان استخدام الرب للأمثال له هدف مضاعف. لقد أوضح عدة حقائق عميقة وهامة بهذا الشكل لكي يختبر صدق واهتمام سامعيه. فإن كانوا فعلاً مهتمين سيسعون ليحصلوا على معنى القصة، وهكذا يصبحون باحثين جديين عن الحقيقة. وإن كانوا لا مبالين فإنهم سوف لن يُبدوا المزيد من الانتباه، وهكذا سيستمرون في حياتهم اللا مبالية المهملة، مقسّين قلوبهم ضد الحق (متى ١٣: ١١- ١٥؛ لوقا ٨: ١٠). ولكن عندما تقلق أو تتحرك ضمائر مستمعيه فإنها ستجد أن هذه الأمثلة التوضيحية الحيوية قد ثبَّتَت في أذهانهم الحقائقَ العظيمة التي كان يسوع يعلّمها، تاركةً انطباعاً يتعذّر محوه عليهم (متى ١٣: ١٦، ١٧). لقد كان ربنا أمير الكارزين والوعّاظ، ونعلم أنه "بِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ" (متى ١٣: ٣٤). إن الفكر البشري مركب بطريقة تجعله يتلقى التعليم بيسر أكثر إذا كان من خلال أمثلة توضيحية ملائمة أكثر منها من مجرد بسط للفرضيات والجدليات والتعاريف. لقد أحسن سبيرجن القول بأن "العظة هي البيت؛ والأمثلة التوضيحية هي النوافذ التي تجعل النور يدخل". أولئك الذين يعتمدون كلياً على الحقيقة المجردة أو النظرية لكي يصلوا إلى قلوب مستمعيهم ويحركوا ضمائرهم هم على الأرجح سيخفقون في تحقيق رغباتهم الجدية أكثر من أولئك الذين يجعلون أحاديثهم وخطبهم تشرق أو تسطع من خلال استخدامهم لحوادث ملائمة منيرة تنزع إلى إيضاح العقائد التي يحاولون إيضاحها أو إرسائها. وفي هذا السياق، كما في كل مكان آخر، نرى أن يسوع المسيح هو المثال الأعظم لنا؛ وأتباعه الأوائل، الذين دُوِّنَت أقوالهم ورسائلهم في العهد الجديد استخدموا نفس الطريقة.

إن أمثال الرب يسوع المسيح كانت لافتة بسبب دقتها وأمانتها إلى الطبيعة والواقع والحياة البشرية. لقد استمد أمثلته التوضيحية من تلك الأشياء التي كان مستمعوه على أُلفة بها بشكل كامل، وبهذا أمكنهم أن يتبعوه بكل طيب خاطر، والحوادث المروية ستتثبت وترسخ في أذهانهم مع العبر التي يوضحها طالما أن هناك رغبة حقيقية في معرفة ذلك الحق الذي يحرر (يوحنا ٨: ٣٢).

"وَﭐبْتَدَأَ أَيْضاً يُعَلِّمُ عِنْدَ الْبَحْرِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَحْرِ وَالْجَمْعُ كُلُّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ عَلَى الأَرْضِ. فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «ﭐسْمَعُوا. هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلَكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَراً. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً يَصْعَدُ وَيَنْمُو فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ». ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!»" (٤: ١- ٩).

كما لاحظنا سابقاً، لا يتبع مرقس نظام تسلسل زمني مباشر في سرده للأعمال والتعاليم التي أعطاها الرب يسوع أو قام بها. هذا الجزء، الذي يرتبط بـ متى ١٣ يعطينا وصفاً للتعليم بالمثل الذي أعطاه يسوع على شاطئ بحر الجليل في صيف عام ٢٨ م تقريباً بحسب أحدث التقديرات التاريخية.

"دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَحْرِ". كانت الأرض مرتفعة قليلاً في مكان معين من شاطئ بحر الجليل حيث جرى هذا الحادث؛ وهكذا أمكن للرب يسوع أن يجلس في قارب صيادي السمك ويواجه الجمهور أو الحشد الواقف أمامه والذين كانوا يجلسون بشكل مريح أو يقفون وكأنهم في مدرج طبيعي، وهكذا يتمكن الجميع من سماع صوت المعلم، الذي اجتذبتهم فيه رسالته وشخصيته.

"كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ". هذه الأمثال كانت صورة توضيحية مستمدة من الأشياء التي كان يألفها المستمعون بشكل كامل، وقد استخدمها لكي يستطيعوا أن يتبعوه بيسر وعن طيب نفس إن استمالهم إليه على هذا النحو.

"ﭐسْمَعُوا. هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ". من المحتمل أن الجمهور كان بمقدورهم أن يروا شخصاً مثل هذا الزارع الذي يتحدث عنه يسوع على مقربة منهم أو ربما كانوا يرونه في تلك اللحظة أمام أعينهم. إن الزارع يرسم صورة المسيح نفسه في المقام الأول، رغم أن التطبيق يصح على كل كارز بالكلمة.

"سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ". لا حاجة لأن نُثَبَّط أو نُخيَّب إذا ما كان الكثير من البذار يبدو ضائعاً، إذ حتى عندما كان أعظم الزارعين هنا، كان هناك عديدون لم ينتبهوا إلى كلمات النعمة التي تلفظت بها شفاهه المقدسة. لقد كانت قلوبهم قاسية كلياً وفاقدة الإحساس مثلها مثل قارعة الدروب المطروقة بكثرة.

"وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ". إن التربة في هذا المثال قد تبدو مواتية في الظاهر، ولكن لم يكن لها عمق كبير في الأرض. فثمة طبقة من تربة طينية صلبة كانت هناك مما يدل على النقص أو الحاجة إلى التوبة والتمرس في الخبرة أمام الله.

"وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ". حيث لا يكون هناك إيمان راسخ بالله لن يكون هناك تأثيرات دائمة تتبع أو تلي استثارة العواطف المؤقتة.

"وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ .... فَلَمْ يُعْطِ ثَمَراً". على المزارع الحريص أن يتبع النصيحة التي تقول: "احْرُثُوا لأَنْفُسِكُمْ حَرْثاً وَلاَ تَزْرَعُوا فِي الأَشْوَاكِ" (إرميا ٤: ٣؛ هوشع ١٠: ١٢). هذا يتحقق على أفضل وجه في التعامل مع نفوس الأفراد. عند مخاطبة الناس في الجماعة بالضرورة سيكون هناك كثيرون منشغلين جداً بالقضايا الدنيوية ولذلك لن تجد البذرة الجيدة مكاناً ولو صغيراً لتستقر فيه عندهم.

"وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً يَصْعَدُ وَيَنْمُو". إن الأرض الجيدة تدل على القلوب التي أعدها الله لتتلقى بذرة الإنجيل، رغم أن النفوس لم تكن جميعاً لتثمر على نفس النحو. الكثير يعتمد على كلٍّ من عُمق عمل الروح في الإقناع وزرع الإيمان قبل الاهتداء والزمن الذي تستغرقه حراثة النفس فيما بعد.

"«مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!»". وهكذا بهذه الطريقة الجليلة، يسترعي الرب انتباهنا. من السهل أن نصغي فقط بآذاننا الظاهرة الخارجية وهكذا نخفق في أن إيصال الرسالة إلى القلب. بالنسبة لأولئك الذين لديهم آذان للسمع ويرغبون أن يفهموا مثال يسوع بيسر وسهولة أعطى الرب نفسه شرحاً كاملاً لما قاله.

"وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ عَنِ الْمَثَلِ فَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللَّهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ». ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «أَمَا تَعْلَمُونَ هَذَا الْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ الأَمْثَالِ؟ اَلزَّارِعُ يَزْرَعُ الْكَلِمَةَ. وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ الْكَلِمَةُ وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ الْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَهَؤُلاَءِ كَذَلِكَ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ: الَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلْوَقْتِ بِفَرَحٍ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذَلِكَ إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ. وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ الشَّوْكِ: هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَهُمُومُ هَذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ الأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ الْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا وَيُثْمِرُونَ وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً»" (٤: ١٠- ٢٠).

على الأرجح أكثر أن ذلك كان في المساء الهادئ بعد انتهاء نشاطات النهار، حيث أن التلاميذ وبعضاً من الآخرين الذين كانوا يتفكرون في قلوبهم بقصة الزارع جاؤوا إلى يسوع على انفراد وسألوه أن يُعطيهم بصيصَ ضوء على معناه. فشرح لهم في الحال المثل مؤكداً لهم أن الرسالة التي كان ليعلنها لم تكن محتجبة عن أولئك الذين أُعطي لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت الله؛ أما بالنسبة لأولئك الذين كانوا راضين وقانعين بأن يبقوا في جهل فهو سيعلّمهم بالأمثال دونما شرح لمعناها لعلهم بذلك يمضون في الطريق الذي اختاروه بأنفسهم من العمى واللامبالاة بالحقائق الروحية. فإن لم تكن لديهم رغبة بالتعليم سوف يُتركون في جهلهم. كانت هذه هي دينونة الله العادلة على أولئك الذين يرفضون أن يتحولوا إليه ويجدون بذلك غفراناً لخطاياهم.

من التعبير "سِرَّ مَلَكُوتِ اللَّهِ" يجب أن نفهم الأسرار المتعلقة بالأيام الآتية عندما سيعود الملك المرفوض إلى السماء، ولكن بما أن مبادئ مُلكه قد انتشرت في كل أصقاع الأرض فسوف يكون هناك نظام أرضي حيث سيتعرف الجميع على المسيح على أنه الملك الشرعي الحق، وسيتم الإقرار بكلمته على أنها دستور ملكوته. هذا هو عالم الاعتراف أو الإقرار الذي يدعى عامة باسم العالم المسيحي، والذي يعني، حرفياً، ملكوت المسيح. وفيه يوجد أولئك المؤمنون الحقيقيون وغير الحقيقيين، الذين يقرون بالخضوع لسلطته، سواء أكانوا مولدين حقاً من الله أم لا.

إنه يشرح المثل فيقول أن حبة الحنطة تشير إلى الكلمة- أي الحق الذي جاء ليعلنه. المستمعون على قارعة الطريق هم أولئك الذين لم يختبروا أبداً الأمور الروحية. إنهم يسمعون الكلمة بأذنهم الخارجية، ولكنهم تحت سيطرة الشيطان لدرجة أنه يزيلُ كلَّ اعتبار للحبة المزروعة في قلوبهم. أما المستمعون في الأرض الصخرية فيبدو أنهم أظهروا برهاناً على إيمان حقيقي ولكنهم مثل السيد "بليابل" في كتابات "بنيان"، اقتنعوا بسهولة بأن يقدموا اعترافاً مسيحياً ثم تخلوا عن ذلك بسهولة عندما نشأت الصعوبات أمامهم. إنهم يزلون ويتعثرون لأنهم ليس لديهم أصل في أنفسهم.

المستمعون في الأرض ذات الأشواك هم الذين يتلقّون ظاهرياً الكلمة ولو بسرور وفرح، ولكن السعي إلى الثروة والرغبة بالأشياء المادية الدنيوية تخنق الكلمة فتصبح عقيمة الثمر.

المستمعون في الأرض الجيدة هم ليس فقط أولئك الذين يسمعون الكلمة بل أيضاً يتلقونها بإيمان في قلوبهم؛ وهؤلاء يأتون بثمر لله، وبذلك يُظهرون حقيقية اعترافهم. صحيح أنهم ليسوا جميعاً يُثمرون بنفس الدرجة؛ ولكن الجميع يحملون ثمراً إلى حد ما: وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً.

في تأملنا لعمل الكرازة بالإنجيل علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هدف الله المبارك في النعمة وحالة قلوب الناس الذين تأتي إليهم الرسالة. بالنسبة للبعض إنها مسألة ليست في محلها. فهم لا مبالين بها من البداية ولن يهتموا بالمسألة أبداً. والبعض يهتمون لفترة من الزمن. فتتحرك عواطفهم ولكن ليس من عمقِ اختبارٍ لديهم. آخرون أيضاً لديهم درجة من الاهتمام، ولكنهم أناس ذوي فكر مزدوج. إنهم يودون أن يستفيدوا على أكمل وجه من كلا العالمين، ولذلك فإنهم لا يعطون الأمور الروحية الأهمية الأولى. آخرون، وقد أعدهم الروح القدس بعلمه الإقناعي الإيماني، يتشوقون لمعرفة طريق الحياة، وبذلك يقتبلون "بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ" (يعقوب ١: ٢١)، ويثمرون لله.

بعد هذا الشرح الذي يقدمه الرب يسوع فإنه يقدم مزيداً من التعليم مؤكداً على ضرورة وأهمية الصدق وحقيقية الإيمان.

"ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ السَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى الْمَنَارَةِ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ وَلاَ صَارَ مَكْتُوماً إلاَّ لِيُعْلَنَ. إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!». وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐنْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ. لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ»" (٤: ٢١- ٢٥).

لعلنا نجد في هذه الآيات جزءاً من العظة على الجبل، ولكننا من جهة أخرى قد نفترض أن يسوع قد استخدم مراراً وتكراراً هذه الاستعارات نفسها ليشدد على الحقيقة في رسائله.

إن الشمعة أو السراج لا تُخفى تحت المكيال (وعلى هذا دلالة على الانشغال بالعمل)، ولا تحت السرير (وهذا يدل على محبة الراحة والطمأنينة)، ولكنها تُوضع على منارة لكي تضيء على كل من في المنزل. المعنى واضح. إن كنا نعترف بانتمائنا وولائنا للمسيح فإننا لا ينبغي أن نسمح لمتطلبات العمل أو الرغبات الأنانية من أي نوع كانت من أن تعرقل أو تعيق شهادتنا الصادقة له ذاك الذي نقر بأنه مخلصنا وربنا.

ما هو غير حقيقي وصادق سيظهر عاجلاً أم آجلاً. ما من شيء يمكن أن يخفى عن عين الرب المقدسة تلك التي ترى كل الأشياء، ولا تبقى سراً عنه ذاك الذي يعرف أعمق أفكارنا ونوايا قلبنا. كل شيء سينكشف تحت ضوء كرسي دينونته أو قضاءه الواضح. فيالسعادتنا إن كنا من بين أولئك الذين لهم آذان للسمع، فنبدي التفاتة إلى كلماته.

هنا يُوجّه إلينا تحذير لأن نكون حريصين ومهتمين بما نسمع وكيف ندين ونحكم ونعقل الأمور، لأننا نحن سوف نُعامل كما نعامِل الآخرين؛ وكما نسمع بالإيمان حق الله، فإن معرفتنا سوف تزداد. إنها شريعة ذلك الملكوت بأنه من يستخدم ما لديه على نحو حسن يُزاد له الكثير وذاك الذي ليس له سوى إقرار فارغ سوف يجرد حتى من ذلك في نهاية الأمر.

ثم نجد تدويناً لمثَلين آخرين نجدهما في متى ١٣ ولكن ليس بنفس الترتيب، إلا أنهما مرتبطان ببعضهما من ناحية المغزى أو المعنى.

"وَقَالَ: «هَكَذَا مَلَكُوتُ اللَّهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتاً ثُمَّ سُنْبُلاً ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ». وَقَالَ: «بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللَّهِ أَوْ بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُهُ؟ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. وَلَكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ وَتَصْنَعُ أَغْصَاناً كَبِيرَةً حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا»" (٤: ٢٦- ٣٢).

"هَكَذَا مَلَكُوتُ اللَّهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ". إن الكرازة بالكلمة هي زرع البذار، التي بها ينتشر ملكوت الله، بمعناه الروحي، في كل العالم. "اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ" (١ كورنثوس ١: ٢١).

"الْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ". كما أن سر الحياة في البذرة متعذرٌ فهمه، والذي يؤدي إلى نمو النبات، كذا تماماً هي أعجوبة الولادة الجديدة (يوحنا ٣: ٦- ٨).

"أَوَّلاً نَبَاتاً ثُمَّ سُنْبُلاً ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ". إن قانون النمو في العالم الطبيعي يشكل صورة عن النمو بالنعمة وفي فهم الحقائق الروحية. إن الناس لا يصبحون فجأة قديسين ناضجين. بينما نَخْلص في لحظةٍ عندما نؤمن بالرب يسوع، يأخذ نمونا مدة سنوات. وبمقدار ما نتمثل الحق بدراسة الكلمة، والصلاة، والتكرس للمسيح نأتي بثمار للكمال. "وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ". فالمزارع العظيم إذاً يُعنى بحقوله المحروثة (١كورنثوس ٣: ٩) إلى أن يصير المحصول على أفضل حال- فعندها يجني الثمار التي طالما انتظرها بصبر وأناة (يعقوب ٥: ٧).

"بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللَّهِ أَوْ بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُهُ؟" هنا كان الرب يسوع يوشك على أن يستخدم مثلاً توضيحياً مختلفاً تماماً ليصور وجهة أو مظهراً من الملكوت كما سيكون عليه عندما يكون قد مضى إلى الآب- هذا الجانب المختلف تماماً في الواقع عن الصورة الأولى لحقل الحنطة.

"مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ". ليس الواقع أنه ليس هناك بذور أصغر من حبة الخردل، ولكن في بستانٍ مليءٍ بالأعشاب تكون بذرة الخردل هي الأصغر حجماً على الإطلاق. هذه تصور لنا البداية الصغيرة والتي تبدو ضئيلة وغير هامة لملكوت الله في العالم الذي سيلي صعود ابن الإنسان إلى يمين الآب.

"تَصْنَعُ أَغْصَاناً كَبِيرَةً". إن شجرة الخردل هي أكبر جميع البقول، وتمثّل على نحو ملائم الملكوت كقوة ينبغي أن يُحسب حسابها على الأرض. بمعنى آخر، إنها تؤسس لذاك الذي رآه الرب مسبقاً على أنه العالم المسيحي الذي سيأتي- ألا وهو مجتمع واسع يشتمل على الجميع حيث "طيور السماء"، كما يخبرنا النص، هي ممثلة لإبليس وزبانيته (متى ١٣: ١٩؛ مرقس ٤: ١٥؛ لوقا ٨: ١٢)، طيور السماء هذه التي تجد فيها ملجأً تختبئ فيه. إن طيور السماء، التي كانت منشغلة جداً في تبديد البذار الجيدة في المثل الأول، هي الآن محتجبة مختبئة في أغصان شجرة الخردل. كم كان الرب عارفاً بالمسار الذي ستسير عليه الأحداث! إن نمو شجرة الخردل التي تمثل الكنيسة المعترفة يبدو حسناً لبعض الوقت، ولكن الطابع السريع الزوال سرعان ما سيظهر أو يتجلى.

آراء متغايرة في الملكوت:

بالكاد يمكن أن يوجد فارق كبير في النظر إلى ملكوت الله في حالته السرية الحالية عنه في التمييز الذي يوضحه ربنا في هذين المثلين. حقل الحنطة فيه آلاف مؤلفة من السيقان، وهي تتشابه مع بعضها بشكل أو بآخر، وتختلف عن بعضها في ثقل رأس البقول. هذا هو ما ينبغي أن تكون عليه كنيسة الله في العالم. شجرة الخردل هنا هي، بمعنى من المعاني، محاكاة لشجرة الأرز في لبنان (حزقيال ٣١:  ٣- ٦) أو شجرة بابل العظيمة، نَبُوخَذْنَصَّرُ (دانيال ٤: ١٠- ١٢). في كلا المثلين، كما في المثلين التوضيحيين الذين أوردهما يسوع، طيور السماء- أي زبانية الشيطان- تجد مسكناً لها في الأغصان. قد يبدو أنه من غير الممكن لملكوت الله أن يصبح على هذا الشكل. ومع ذلك فإن هذا هو ما تنبأ به الرب يسوع وهذا ما تبين أنه كان على مر العصور جميعها منذ ذلك الحين.

"وَبِأَمْثَالٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هَذِهِ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى انْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ" (٤: ٣٣، ٣٤).

لقد كان يسوع يأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الأخلاقية والروحية لمستمعيه ويعطي الكلمة المناسبة لكل مجموعة. لقد كان يستخدم أمثلةً توضيحية ذات طابع بسيط وعلى أكبر درجة من الوضوح الممكن. "بِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ". إن أظهروا مزيداً من الاهتمام كان سيسره أن يشرح معنى أي تشبيه رمزي يمكن لمستمعيه أن يستوعبوه. لقد كان يخدم بما فيه حاجات الناس. لم يسعَ أبداً إلى أن يفتن الآخرين أو يبهرهم بـ "كلمات طنانة رنانة"، كما يفعل بعض ممثلي عالم الشر، بل كان يستخدم لغة سهلة للفهم، وكان دائماً على أهبة الاستعداد لأن يعلم أية نفس ساعية وراء المعرفة. وفي كل هذا كان كارزاً ضليعاً، مثالاً عن كل الذين يسعون لخدمته بإعلان كلمته.

"وَقَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «ﭐسْكُتْ. ابْكَمْ». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هَكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»" (٤: ٣٥- ٤١).

"«لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ»". كل شيء كان مستقراً في ذهنه. لم يقترح أن يحاولوا أن يصلوا إلى الطرف الآخر من البحيرة، التي كانت كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ (٥: ١)، بل قال بأن يجتازوا إلى الأمام وحسب. لو تذكّروا هذه الكلمات فيما بعد لأدركوا أنه ما من ريح كانت لتغير مخططاته لهم وله.

"وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ". لقد كان يشفي ويعلم طوال النهار. ولا شك أنه كان متعباً جداً جسدياً عندما استقبلوه في القارب الذي كان سيُقلِّه عبر البحيرة. لاحظ القول أنه كَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً "سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ". "فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ". بالنسبة للعين الطبيعية، كانت الأوضاع قد صارت خطيرة جداً. ولكن الرب يسوع المسيح كان نائماً في سلام في حين أن العاصفة كانت هائجة. "«يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟»". في خوفهم التفت التلاميذ غريزياً إلى الرب يسوع وأيقظوه من نومه الخفيف بصراخ قلقهم وانزعاجهم. بالطبع كان يهتم لأمرهم، ولكنهم لو عرفوا ذلك لكانوا سيشعرون بالأمان في العاصفة تماماً كما في الجو الصحو عندما كان في السفينة معهم.

"فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «ﭐسْكُتْ. ابْكَمْ»". في كل عرضه لسلطته الخالقة وبهدوء، أمر الريح بأن تهدأ، والأمواج الغاضبة المتلاطمة، التي كانت ترتطم بالمركب ككلاب هائجة، أن "تبكم"، كما ورد في الترجمة، وما لبثت العناصر أن أطاعت سيدها، وخمدت العاصفة. إنه لا يزال يتكلم على هذا النحو إلى القلوب المضطربة والنفوس القلقة المتزعزعة.

"«مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هَكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟»". لقد كان الأمر وكأنه كان يود أن يذكّرهم بكلماته قبل أن بدأوا رحلته. لقد قال لهم أن يجتازوا إلى العبر- ولم يقصد أن يغرقوا وسط البحر. كان من المفترض أن يكون هذا كافياً ليُهدّئ مخاوفهم، وكان هذا الواقع، لو أنهم كانوا على إيمان حقيقي بكلماته.

"فََقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»". ومع ذلك لم يفهموا بعد سرَّ شخصه، ولذلك تساءلوا فيما بينهم في حيرة وارتباك عن حقيقة هويته. فكل الطبيعة كانت تعترف بقدرته. أكان من المعقول أن لا يكون هو الله متجسداً؟

من أثار العاصفة؟ هل كان هبوب العاصفة ذلك المساء على بحر الجليل مجرد ظاهرة طبيعية، أم كانت بفعل الشيطان؟ يبدو أنها كانت محاولة من قبل العدو (الشيطان) ليُهلك الرب يسوع المسيح قبل أن يحقق الرسالة التي جاء لأجلها إلى الأرض. ولكن تماماً، وكما حدث عندما حاول سكان الناصرة أن يلقوا به من فوق الجرف ويقتلوه ولكن عجزوا عن أن يحققوا هدفه (لوقا ٤: ٢٨، ٢٩)، هكذا، في هذه الحادثة أيضاً، هُزم الشيطان ثانية. لم تكن لديه قوة أو قدرة على أن يُنهي حياة ابن الله. فتلك الحياة كانت لتُبذل فقط طواعية بإرادة المسيح نفسه بما يتوافق مع مشيئة الآب (يوحنا ١٠: ١٧، ١٨).

الجانب الأعجوبي من حياة وشهادة يسوع المسيح:

العقلانيون ومعلمو المسيحية المتعقلون جميعهم مولعون بمحاولة تفسير الأشياء اللافتة المنسوبة إلى الرب يسوع في الأناجيل على أسس طبيعية مجردة. ومثال عن هذا النوع من التفكير والتحاجج نجده في الكتاب الواسع الانتشار بين القراء، "الناصري". ولكن هدف الروح القدس الواضح من تدوين هذه الأعمال المعجزية هو أن يُظهر لنا أن ذاك الذي كان يعمل على ذلك النحو المعجزي ليشفي وليساعد البشرية المتألمة التي تعاني إنما كان هو الله نفسه وقد نزل إلى الأرض كإنسان. لا حاجة لتفسيرات وتأويلات بعيدة الاحتمال إذا فكّرنا في من كان ذاك الذي قام بهذه الأشياء. إن كل ذلك هو تجليات عادية طبيعية كاملة للقدرة الإلهية التي عملت استجابة لحاجات الناس. فأن ننكر المعجزات يعني أن نقلل من شأن ذاك الذي اجترحها.

يسوع المسيح ربنا هو سيد كل الظروف وهو كفؤٌ ومؤهل لكل حالة طارئة. الرياح والأمواج تطيعه؛ والأرواح الشريرة تهرب أمامه؛ الوباء والمرض والموت تتبدد عندما يظهر. ما من شيء يمكن أن يصمد أمام قدرته. إن له كل السلطة في السماء وعلى الأرض. والأمر العجيب الذي لنا أن نعرفه هو أنه مخلصنا وفادينا. نحن الذين آمنّا به يُطلب إلينا الآن أن نلقي عليه كل همومنا واهتماماتنا لأنه يُعنى بنا. إن الصعوبات ما هي إلا فرص أمامه ليُظهر قدرته. والحالات الطارئة التي تصيبنا تعطينا الامتياز للبرهان على اهتمامه المحب بنا ونحن نثق بنعمته ونتكل على قدرته.

الأصحاح ٥

يأتي القسم الأول من هذا الإنجيل إلى خاتمته مع هذا الأصحاح الخامس. طوال هذا الإصحاح نجد عبد يهوه يخدم بالنعمة حاجات البشر، كاشفاً عن محبة ذاك الذي أرسله، ولكنه كان يلاقي معارضة مطّردة ورفضاً متزايداً باستمرار من جهة رؤساء اسرائيل رغم أن عامة الشعب كانوا يصغون إليه بسرور. ولكن حتى بين أولئك لم يكن هناك كثيرون ممن اقتبلوا الرب بالإيمان واعترفوا بيسوع رباً حقاً لهم.

في هذا الإصحاح نراه يُظهر قدرته وقوته على الأرواح الشريرة، والأمراض، والموت. نراه أولاً في كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ على الضفة الغربية من البحيرة، أو بحر الجليل.

"وَجَاءُوا إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ اسْتَقْبَلَهُ مِنَ الْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيراً بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ. وَكَانَ دَائِماً لَيْلاً وَنَهَاراً فِي الْجِبَالِ وَفِي الْقُبُورِ يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِالْحِجَارَةِ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَال: «مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ الْعَلِيِّ! أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!» لأَنَّهُ قَالَ لَهُ: «ﭐخْرُجْ مِنَ الإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِسُ». وَسَأَلَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَأَجَابَ قَائِلاً: «ﭐسْمِي لَجِئُونُ لأَنَّنَا كَثِيرُونَ». وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً أَنْ لاَ يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ الْكُورَةِ. وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْجِبَالِ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ الشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ: «أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا». فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ - وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ فَاخْتَنَقَ فِي الْبَحْرِ. وَأَمَّا رُعَاةُ الْخَنَازِيرِ فَهَرَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي الضِّيَاعِ فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَنَظَرُوا الْمَجْنُونَ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّجِئُونُ جَالِساً وَلاَبِساً وَعَاقِلاً فَخَافُوا. فَحَدَّثَهُمُ الَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ جَرَى لِلْمَجْنُونِ وَعَنِ الْخَنَازِيرِ. فَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ" (٥: ١- ١٧).

بعبوره البحر، دخل يسوع وتلاميذه إلى منطقة جدارة المحظورة، حيث يعيش عدد وفير مختلط من الناس؛ الكثيرون منهم كانوا منشغلين بما كان اليهود المتزمتون يعتبرونه عملاً غير شرعي أو ناموسي، ألا وهو تربية الخنازير لولائم الأمميين.

قرب المكان الذي أرسى فيه القارب، وعلى النجد المرتفع أعلى الشاطئ، كانت هناك مقبرة، أو مكان فيه قبور عديدة محفورة في الصخر. في هذه المقبرة وبين القبور كان يعيش شخص تلبَّسَه شيطان وكان ذا شخصية عنيفة، بربرية، لا يمكن ترويضها، قد جعلتْها قوى الشيطان التي تملَّكتهُ هكذا. لقد كان يرعب كل منطقة الريف لفترة طويلة؛ ورغم أنه كان غالباً ما يُمسك ويُقيد بالقيود والأغلال إلا أنه كان يكسر قيوده كما لو بقوة فائقة الطبيعة والبشر، وهكذا كان يحرّر نفسه من كل ضبطٍ. نهاراً وليلاً كانت صرخته الغريبة وغير الاعتيادية تُسمع بينما كان يزأر على الجبال مجرّحاً نفسه بالحجارة وهو يصرخ في نوباته المخيفة. إنها صورة مرعبة لإنسان سيطر عليه الشيطان بشكل كامل.

ولكنه سرعان ما عرف قوة يسوع التي تحرر. فعندما رأى الرب وعلى بعدٍ كبير جاء إليه راكضاً وطرح نفسه أمامه، صارخاً بصوت مرتفع: "«مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ الْعَلِيِّ! أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!»" رغم أن شفتي الرجل هما اللتان تلفظتا بهذه الكلمات لكن الصوت كان صوت الشياطين التي فيه. هذه الأرواح الشريرة عرفت يسوع في الحال وما كانت في حاجة لأن تعرف سر طبيعته. لقد أَمَرَ الربُّ أن تخرج الروحُ النجسة من الرجل. ثم أمره بأن يعترف باسمه. وكان الجواب مدهشاً: "«ﭐسْمِي لَجِئُونُ لأَنَّنَا كَثِيرُونَ»". كان في هذا إشارة إلى أنه لم يكن هناك روح شريرة واحدة فقط بل عدد كبير من الأرواح تسكن هذا الإنسان البائس المسكين الذي كان قد أرعب الحي لدرجة كبيرة.

ثم يأتي الطلب الغريب من الروح النجسة واستجابة الرب لهذا المطلب، هذا الأمر الذي كان أكثر غرابة. فالأرواح النجسة (التي كانت تخشى أن تتحرر من الأجساد بشكل كامل)، هذه الأرواح النجسة طلبت أن تدخل إلى قطيع من الخنازير التي كانت ترعى على مقربة. وإذ تركت جسد الرجل دخلت إلى الخنازير. وهذه المخلوقات المرتعبة، وقد جُنت وفقدت السيطرة، اندفعت بعنف من على تلة عالية شديدة الانحدار إلى البحر وغرقت. لسنا في حاجة لأن نحاول أن نشرح هذه الظاهرة الغريبة، ولكن لا يمكننا إلا أن نفكر في إمكانيات الشر عندما ندرك أن شخصاً واحداً كان فيه أرواح شريرة أكثر من ألفي خنزير نجس.

أما الرجل وقد تحرّر، وبعد أن كان متوحشاً وعنيفاً، أصبح الآن لطيفاً وهادئاً. وإذ اهتدى فقد غطى جسده العاري سابقاً وأخذ مكانته في المحبة المتعبدة والامتنان عند أقدام يسوع: لم يعد مخبولاً مجنوناً بل صار هادئاً ساكناً الآن وفي كامل قدراته العقلية.

أما وقد أُعلموا من الرعاة (رعاة القطيع) بما حدث، فإن أصحاب الخنازير خرجوا ليروا ما جرى بأنفسهم. وبدلاً من أن يبتهجوا بشفاء الرجل الممسوس بالروح، كانوا غاضبين بسبب خسارتهم للحيوانات النجسة التي كانت تشكل ثروة بالنسبة لهم. وإذ نظروا إلى يسوع على أنه سبب هذه الكارثة، التمسوا منه أن يغادر شواطئهم.

"وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ طَلَبَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ مَجْنُوناً أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ بَلْ قَالَ لَهُ: «ﭐذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ». فَمَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ" (٥: ١٨- ٢٠).

"طَلَبَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ مَجْنُوناً أَنْ يَكُونَ مَعَهُ". ذاك الذي تحرر بطريقة رائعة عجيبة من حالة العبودية والمحنة، في موقف امتنان صادر من قلبه تطلع إلى أن يترك كل شيء ويمضي مع الرب يسوع كما فعل الآخرون. لقد كان هو من أخذ المبادرة.

"فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ بَلْ قَالَ لَهُ: «ﭐذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ»". لم تكن مشيئة الرب أن يُحصى هذا الرجل من بين الاثني عشر أو حتى السبعين، لقد كان مجال خدمته هو أن يكون في موطنه في المكان حيث كان معروفاً جداً فشهادته للمسيح هناك سوف يكون لها أثر أكبر مما لو سافر خارج دياره.

"فَمَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ". إن "الْعَشْر الْمُدُنِ" هي اسم كان يُطلق على مجموعة من القرى على الجانب الشرقي من بحر الجليل، وهي نفس المنطقة التي خرج منها أولئك القوم الذين رجوا يسوع أن يغادر شواطيهم. بفضل شهادة هذا الرجل تغير موقف أولئك الناس عندما زار يسوع تلك المنطقة مرة ثانية. لقد استُقبل عندئذ بحفاوة بالغة مميزة (٧: ٣١).

"وَلَمَّا اجْتَازَ يَسُوعُ فِي السَّفِينَةِ أَيْضاً إِلَى الْعَبْرِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ. وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ اسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ. وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً قَائِلاً: «ﭐبْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا». فَمَضَى مَعَهُ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَزْحَمُونَهُ. وَﭐمْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئاً بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ أَرْدَأَ - لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ جَاءَتْ فِي الْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ». َلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ. فَلِلْوَقْتِ الْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ الْجَمْعِ شَاعِراً فِي نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ وَقَالَ: «مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟» فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «أَنْتَ تَنْظُرُ الْجَمْعَ يَزْحَمُكَ وَتَقُولُ مَنْ لَمَسَنِي؟» وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى الَّتِي فَعَلَتْ هَذَا. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ الْحَقَّ كُلَّهُ. فَقَالَ لَهَا: «يَا ابْنَةُ إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ»" (٥: ٢١- ٣٤).

عبر الرب وتلاميذه المياه من جدارة إلى كفرناحوم. وكان كثيرون ينتظرونه هنا. ما إن بدأ يعلّمهم حتى تقدم إليه وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمَجْمَعِ، اسْمُهُ يَايِرُسُ، وخَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْ يسوع، وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً أن يأتي معه إلى منزله ليشفي ابنته الصغيرة التي تكاد تفارق الحياة. ونزولاً عند مطلب الأب المضطرب القلق رافقه الرب إلى بيته حيث تبعه جمعٌ كثيرٌ في الطريق.

وفيما هم يسيرون التحقت بالجمع امرأةٌ لديها بلوى. لقد كانت تعاني من نزف دم منذ اثنتي عشرة سنة. ويخبرنا مرقس أنها عانت الأمرّين من أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا لتحصل على الشفاء، وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئاً، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ أَرْدَأَ. من يعرف جيداً القيمة الباهظة للعقاقير الدوائية لمعالجة هكذا حالةٍ مَرَضية يفهم تماماً عبارة مرقس المليئة بالتهكم. ما كان أحدٌ ليستطيع أن يستخدم تلك العقاقير المستخلصة المقيتة دون أن يتألم، ومع ذلك لم تكن لها قدرة على أن تشفي أو حتى أن تقدم ولو بعض الارتياح المؤقت للمريض.

إذ سمعت بيسوع، انبعث الأمل في قلب تلك المرأة المريضة، فقالت: "«إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ»". لقد جَاءَتْ فِي الْجَمْعِ ومدّتْ يداً تواقة مرتجفة مِنْ وَرَاءٍ، وفي اللحظة التي مَسَّتْ هدبَ ثَوْبَه الأزرق أدركت أن الأمر قد تمّ. فقد عَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ.

وللحال وقف يَسُوعُ، والْتَفَتَ بَيْنَ الْجَمْعِ، وَسألَ: "«مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟»" لقد كان يرغب أن تعترف تلك المرأة أمام الجميع بالأعجوبة التي صُنِعت لأجل إيمانها. فانبرى التلاميذ لاستنكار سؤال معلمهم مُذكِّرين إياه بأن حشداً كبيراً كان يزحمه؛ فلماذا يسأل عمن لمسه؟ لم يميزوا الفرق بين أن يزحمه الناس وأن يلمسه أحدهم في إيمان.

وإذ شعرت أنه ليس في مقدورها أن تحتجب، تقدمت المرأة إليه وخَرَّتْ أمامه، وأخبرته عن سبب ما فعلته بجرأة كبيرة وعن نتيجة ما حدث. وإذ ابتهج من إيمانها بنعمته وقدرته، فإنه قال لها معزياً ومشدداً: "«يَا ابْنَةُ إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ»". ثم تابع طريقه إلى منزل رئيس المجمع.

"وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جَاءُوا مِنْ دَارِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: «ﭐبْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ الْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟» فَسَمِعَ يَسُوعُ لِوَقْتِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي قِيلَتْ فَقَالَ لِرَئِيسِ الْمَجْمَعِ: «لاَ تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ». وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَتْبَعُهُ إلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ. فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجاً. يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيراً. فَدَخَلَ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ». فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ الْجَمِيعَ وَأَخَذَ أَبَا الصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا وَالَّذِينَ مَعَهُ وَدَخَلَ حَيْثُ كَانَتِ الصَّبِيَّةُ مُضْطَجِعَةً وَأَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: «طَلِيثَا قُومِي». (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي). وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ لأَنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً. فَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ" (٥: ٣٥- ٤٣).

قبل وصولهم إلى البيت جاء رسولٌ يطلب من يايرس أن يكفَّ عن إزعاج المعلّم. قالوا أنه قد فات الأوان على شفاء الصبية، لأنها توفيت لتوها. ولكن يسوع طمأن قلب الوالد الجزع قائلاً: "«لاَ تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ»". يا لها من كلمات معزية جاءت في وقتها آنذاك! من كان ليمكنه، سواه نفسه، رب الحياة، أن ينطق بهكذا كلمات في وقت بات فيه الأمل مفقوداً وقد تدخل الموت؟ عندما تنضب كل الموارد الطبيعية من بين أيدينا تدخل هذه الكلمات المباركة نفسها إلى أعماق قلبنا فتعطينا حتى في يومنا هذا السلام والطمأنينة والثقة.

"وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَتْبَعُهُ إلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ". هؤلاء الثلاثة يشكلون الحلقة الداخلية من بين مختاريه. سنراهم لاحقاً معه على الجبل، عندما سيتجلى أمامهم (٩: ٢)، ونراهم ثانيةً في بستان الجَثْسَيْمَانِي (١٤: ٣٢، ٣٣).

"فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجاً يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيراً". لقد لاحظ الرب يسوع المسيح كل ذلك. إن الكثير من الندب والنحيب كان احترافياً رياءً ونفاقاً وتزلّفاً، وهذا ما يزدريه الرب. أما حزن قلب الوالدين فهذا ما كان له وقع شديد على مشاعر يسوع الحانية، وسرعان ما حوَّل حزنَهم إلى فرح.

"لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟" قال ذلك تقريعاً وتوبيخاً للنادبين المأجورين، الذين ما كانت صرخاتهم وعويلهم يدل على أي إحساس لديهم بالخسران. وبما أن كل حياة هي له، فقد أمكنه أن يعلن بثقة مطلقة: "لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ". وتقدم ليوقظها من رقادها.

"فَضَحِكُوا عَلَيْهِ". بالنسبة لهم، لم يكن سوى دجال مشعوذ يدّعي امتلاك قدرات ليست لديه. ولكنه لا يلبث أن يظهر النقيض. فطرد الجميعَ خارجاً من المنزل ما عدا الوالدين والتلاميذ الثلاثة المختارين، ودخل حجرة الموت لينتشل الضحية من براثنه.

"وَأَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: «طَلِيثَا قُومِي»". لقد تكلم بالآرامية، لغة طفولته في الناصرة. وقد فُسِّرتْ كلماته لنا بمعنى: "يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي"، وحرفياً: "أيها الحمل الصغير، استيقظي".

"وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ". لقد كانت الاستجابة سريعة وفورية. ولدهشة الوالدين وفرحهما، رأيا اللون يعود إلى وجنتيها الشاحبتين، ونهضت ابنتهما الحبيبة من مضجعها وأتت إلى ذراعيهما. لقد كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وتحررها من قبضة الموت أذهل كل من رآها.

"أَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذَلِكَ". ما كان يرغب أن يحيونه كمجترح عجائب عظيم. فما قام به كان كرمى ليايرس وزوجته. لم يكن أمراً غايته أن يُذاع. كانت الفتاة التي نهضت تواً من رقادها بحاجة لانتعاش، ولذلك أمر "أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ". ما من شيء كان ليدل أكثر أو يقدم برهاناً أوضح من ذلك على حقيقية المعجزة التي تمت في جسدها.

إن الحوادث الأربع الواضحة المميزة في خدمة ربنا يسوع المباركة والمدونة في الجزء الأخير من الأصحاح ٤ والأصحاح ٥، كلها تحمل شهادة على ألوهيته ذاك الذي تنازل بالنعمة ليأخذ مكانة خادم (عبد). في الحادثة الأولى (٤: ٣٥- ٤١)، نرى قوته وقدرته التي تسود على الطبيعة، منتزعاً صرخة انذهال من تلاميذه، "مَنْ هُوَ هَذَا الإنسان؟" والمشهد الثاني يصور قوته وسلطته التي تفوق الشيطان، التي تبدت في تحريره لذاك الإنسان الممسوس بالشياطين، الذي كان ليبقى بسرور في صحبته، ولكن أُرسل لينقل الشهادة إلى وسط شعبه عن التحرر الذي عمله الرب يسوع المسيح فيه. بينما كان سكان تلك المنطقة في ذاك الوقت منزعجين من خسران خنازيرهم، ورَجَوا الرب يسوع أن يغادر شواطئهم، نعلم في مقطع لاحق أنهم اقتبلوه واستقبلوه بسرور عندما جاء في المرة الثانية إلى تلك المنطقة (قارن ٥: ٢٠ مع ٧: ٣١- ٣٧). لا يمكن لأحد أن يشك في أن شهادة ذلك الرجل الذي افتُدي قد ساعدت على تغيير موقفهم.

إن قصص شفاء المرأة التي كان فيها نزف دم وإحياء ابنة يايروس تردان بالتتالي في الآيات ٢١ إلى ٤٣، وهما تدلان على قوة المخلص وقدرته على المرض والموت. المرأة المسكينة المريضة التي "تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِين"، والتي كانت حالتها بعد العلاج أردأ من ذي قبل، وجدت في هذا الطبيب العظيم شخصاً فهم حالتها كلياً وشفاها في الحال عندما لمست هدب ثوبه الأزرق بإيمان (عدد ١٥: ٣٨). من غير شك، أطاع يسوع، كإسرائيلي حقيقي، حرفية هذه الوصية المخصصة لإظهار الصفة الإلهية عند أولئك الذين لهم علاقة بالرب (يهوه).

الصبيّةُ الفتيةُ الميتة كانت ميئوساً من حالتها وما كان لإنسان أبداً أن يقدر على أن يساعدها، ولكن عندما دخل، ذاك الذي هو القيامة والحياة (يوحنا ١١: ٢٥)، إلى الغرفة حيث كان جسد الصبية مضطجعاً استعداداً لمراسم الدفن، فإن الموت لاذ بالفرار أمامه وأُعيدت الفتاة إلى والديها.

هذا التجلي لقدرة ربنا على الموت سببت اهتياجاً وسط الناس، ولكن يسوع أمرهم ألا يذيعوا ذلك. لقد كانت رسالته أكثر أهمية من المعجزات التي كان يقوم بها، وما كان ليريد أن يُلفت الانتباه إلى هذه المعجزات على حساب الرسالة التي جاء لأجلها.

إن الحوادث الثلاثة المدونة والتي فيها أقام الأموات هي أيضاً موحية. الجميع ميتون في الخطيئة، وهو وحده من يستطيع أن يعطي الحياة. سواء أكان الميت طفلاً ببراءة لا نظير لها، أو شاباً في ريعان الصبا، كما في حالة ابن أرملة نائين، أو إنسان ناضج راشد، مثل لعازر الذي كان قد أقامه من بين الأموات قبل أربعة أيام، والذي كان جسده قد دخل مرحلة الفساد، جميعهم كانوا يحتاجون إلى ما كان المسيح وحده يستطيع أن يعطيه، وقد برهن أنه كُفؤ لكل حالة من هذه الحالات.

الجزء ٢: الأصحاحات ٦: ١ إلى ١٠: ٤٥
الخادم رُفِضَ ولكنه لا يزال يخدم في النعمة
القسم (١)

الأصحاح ٦

الرفض والمعارضة تزداد

في حين تركت أعمال يسوع المقتدرة انطباعهاً مميزاً في نفوس عامة الشعب الذين كانوا يسمعونه في توق ولهفة، كانت هناك حفنة ضئيلة من الطبقة المثقفة والمتدينة ظاهرياً الذين كانوا على استعداد للاعتراف به على أنه عبد يهوه الموعود الذي سينقذ إسرائيل. وبدلاً من التصديق على إعلاناته المسيانية صاروا يرتابون فيه معتبرينه دجالاً أفّاكاً وجعلوا أنفسهم في موضع المعارضة المطلقة له لدرجة أنهم كانوا يسعون لإيجاد طريقة ما يهلكونه بها. هذا الموقف يصبح بارزاً ومسيطراً بشكل مطرد في القسم الثاني من هذا السفر. ونرى الموقف يتطور في الأصحاح الحالي (السادس).

"وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. وَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ ابْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ: «مِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ؟ وَمَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هَذِهِ؟ أَلَيْسَ هَذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأَخَو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ هَهُنَا عِنْدَنَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ». وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ. وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَصَارَ يَطُوفُ الْقُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ" (٦: ١- ٦).

ينبغي أن نفهم الكلمة "وَطَنِهِ" الواردة في الآية ١ التي تدل على مدينة الناصرة والمنطقة المحيطة بها حيث عاش يسوع في طفولته وفي شبابه.

دخل إلى المجمع حيث كان ولا بد قد التقى بأبناء بلدته في السنوات التي مضت. وهناك علَّم بطريقة أدهشت الناس، الذين كانوا يعرفون أنه لم يكن من تلاميذ أية مدارس ربانية، بل أنه عاش وسطهم كنجار. وكانت عائلته معروفة بالنسبة إليهم. لقد كانوا يتحدثون عنه على اعتباره ابْنَ مَرْيَمَ وَأَخَو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ، كما وذكروا "َأخَوَاته". قد يبدو من هذا الحديث أن مريم قد أنجبت أولاداً آخرين بعد ولادة ابنها البكر يسوع (متى ١: ٢٥). يرفض الكاثوليك (كنيسة روما) هذه الفكرة، ويقولون أن مريم "دائمة البتولية". ويصرون على اعتبار أن أخوة يسوع وأخواته المذكورين هنا هم أبناء يوسف من زواج سابق (أي قبل خطوبته لمريم)، أو من الممكن أن يكونوا أبناء عموم يسوع. ولكن يبدو أن هذه مجرد ذريعة لتفادي القول أن مريم قد تزوجت فعلياً من يوسف (بعد ولادة يسوع العذرية).

وردَّ يسوع على الاعتراضات إزاءه بالقول: "«لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ»". لقد كانت الشكوكية وعدم التصديق لديهم شديدة جداً حتى أن يسوع لم يقدر، كما يقول الإنجيل، أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ أتوا إليه في بلواهم فَشَفَاهُمْ. إن الله يعمل بحسب تجاوب الإيمان. عدم الإيمان أو التصديق يقيّد يد القدرة الكليّة، إلا في الدينونة، ولم تأتِ ساعة الدينونة بعد.

وَتَعَجَّبَ يسوع من أن أولئك الذين عرفوه حق المعرفة كانوا غير مؤمنين بل وحتى معارضين له. تخبرنا رواية لوقا في إنجيله أنهم حاولوا حتى أن يرموا به من فوق الجرف الذي بُنِيَت عليه المدينة، إلا أنه عبر في وسطهم وجاز، وسار في طريقه، وكان حزيناً لأجل قساوة قلوبهم.

"وَدَعَا الاِثْنَيْ عَشَرَ وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصاً فَقَطْ لاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ نُحَاساً فِي الْمِنْطَقَةِ. بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَالٍ وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ. وَقَالَ لَهُمْ: «حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتاً فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ». فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا. وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ" (٦: ٧- ١٣).

فوَّضَ يسوع الآن التلاميذ الاِثْنَيْ عَشَرَ الذين اختارهم "ليكونوا معه" لأن يمضوا إلى قرى الجليل ويعلنوا إنجيل الملكوت ويدعوا الناس إلى التوبة، وهكذا يستعدوا للقاء الملك عندما سيتجلى لهم. أرسلهم يسوع اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ ليعملوا معاً بروح شركة وصداقة وشهادة. وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى شفاء المرضى وطرد الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ، وبذلك يصادق على هؤلاء التلاميذ كممثلين له مندوبين من قِبَلِه.

لأنهم كانوا ذاهبين إلى شعبهم، إسرائيل، ولأن مهمتهم عاجلة، فقد أمرهم ألا يأخذوا معهم سوى عصا الترحال- لا محفظة، ولا حقيبة، ولا مزود، ولا نقود في كيسهم. كان عليهم أن يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَالٍ وَألاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ.

عندما كانوا يدخلون مدينة أو قرية كان عليهم أن يقبلوا أية ضيافة تُقدم لهم أياً كان من يعرضها عليهم، وكان عليهم أن يمكثوا في ذلك البيت، إذا رُحِّبَ بهم فيه، إلى أن يغادروا البلدة. ولا يفترض فيهم بأي شكل أن يسعوا وراء الراحة الشخصية أو التقدير الخاص. وعندما لا يُقبَلون فإن عليهم والحالة هذه أن ينْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِهمْ شَهَادَةً عَلَى أولئك الذين لم يقبلوا رسالتهم. إذ أن هؤلاء لن يكون في انتظارهم سوى الدينونة- دينونة أسوأ بكثير من تلك التي وقعت قديماً على سَدُومَ وَعَمُورَةَ.

اتباعاً لتعاليم معلمهم خَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوب الناس- أي أن يغيروا موقفهم تجاه الله- وهذا كان يتطلب بالتالي موقفاً جديداً تجاه الذات وضد الخطيئة.

أَخْرَج الاثنا عشر شَيَاطِينَ كَثِيرَةً وَشفوا مَرْضَى كَثِيرِينَ. من المهم أن نلاحظ أنهم دَهَنُوا بِزَيْتٍ أولئك الذين كانوا يأتون إليهم طالبين الشفاء، كما أوصى يعقوب في رسالته. هذا هو الموضع الآخر الوحيد الذي يرد فيه ذكر هذه الطريقة فيما يخص الشفاء الجسدي. اعتقد البعض أن الزيت كان يُستخدم كعلاج أو دواء، ونجد مثالاً عن ذلك في قصة السامري الصالح الذي سكب زيتاً وخمراً على جراح ذاك الذي تركه اللصوص بين حي وميت على طريق أريحا. ولكن الزيت هو رمز الروح القدس، ويبدو على الأرجح أن المسح (بالزيت) عُنِيَ به أن يشير إلى العمل الكريم للروح القدس فيما يخص الشفاء استجابة لصلاة الإيمان.

"فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُوراً. وَقَالَ: «إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذَلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ». قَالَ آخَرُونَ: «إِنَّهُ إِيلِيَّا». وَقَالَ آخَرُونَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ». وَلَكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: «هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!»، لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ!» فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِماً أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ فَعَلَ كَثِيراً وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ" (٦: ١٤- ٢٠).

إن رواية معاملة هيرودس الآثم الغادرة ليوحنا، سابق يسوع، كان يُعتقد أنها كانت تهدف إلى زرع الرعب في النفس، ولكنها إنما صورة عن قابلية التحسن في قلب الإنسان الطبيعي.

كان هيرودس مهتماً برسالة يوحنا في البداية، وأرسل في طلبه لكيما يسمع بنفسه من معلم الصحراء. طالما كان يوحنا يتناول موضوع إنجيل الملكوت، فإن مستمعيه في البلاط الملكي، والذين كانوا فاسدين، كانوا يصغون إليه ببعض الانتباه، ولكن عندما تجرأ المعمدان على أن يوبخ الملك الماكر المخادع الفاسق بسبب علاقات سفاح القربى مع زوجة أخيه فيلبس ثار غضب الملك، وسعى إلى إسكات موبخه بأن حبسه في سجن مظلم، على الأرجح أنه سجن مكايروس، الذي يقع على المنحدرات الصخرية المطلة على البحر الميت. وهناك تُرك يوحنا ليَهزُل ويذبل وحتى ليتساءل فيما إذا كان يسوع هو بالفعل المسيا المنتظر الموعود، ما لم نفهم أن اهتمامه كان ترسيخ إيمان تلاميذه.

سكت هيرودس عن قطع رأس يوحنا لكي يُرضي هيروديا، التي كانت تجسد تماماً ما قاله الشاعر بأن "ليس غضب الجحيم الشديد بأشد من غضب امرأة محتقرة". عندما سمع هيرودس بالمعجزات التي قام بها يسوع، فإن ضميره المذنب الشاعر بالإثم استيقظ، وقال أن يوحنا المعمدان قد نهض من بين الأموات، ولذلك فهذه الأعمال المعجزية المقتدرة كانت تتم على يده. ظن آخرون أنه لا بد أن يكون إيليا الموعود الذي، بحسب ملاخي، كان ليأتي ليدعو إسرائيل إلى التوبة قبل اليوم العظيم والرهيب الذي سيأتي فيه الرب. قال آخرون أنه كان نبياً، أو على الأرجح أحد الأنبياء القدماء الذين عادوا إلى الحياة. ولكن هيرودس كان في ذلك الوقت مقتنعاً بأن يسوع لم يكن سوى يوحنا وقد عاد إلى الحياة. لقد تذكر من جديد المشاهد التي تعرض فيها للتوبيخ من أجل هيروديا، والسجن، وأخيراً قطع رأس كارز الصحراء، لأنه عرف أنه كان مذنباً مرتكباً جريمة فظيعة أمام الله والإنسان في معاملته الشائنة التي عمل بها ذاك الذي لا يخاف والذي كان يعلن حاجة الإنسان إلى التوبة.

رواية موت يوحنا تأتي على النحو التالي:

"وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: «مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ». وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ «مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي». فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا: «مَاذَا أَطْلُبُ؟» فَقَالَتْ: «رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ». فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً: «أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَقٍ». فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدّاً. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سَيَّافاً وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَقٍ وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ" (٦: ٢١- ٢٩).

إن الاحتفال بعيد ميلاد هيرودس كان قد تحول إلى طقس عربدة فاسد لافت مترع بالسكر والفسوق. ومما زاد على التمتع الشهواني بالملذات، الذي كان يمارسه الرؤساء المدنيون والعسكريون وبقية أصحاب المقام الرفيع الذين كانوا حاضرين، فإن ابنة هيروديا كانت قد دُعيت لتشارك في ما كان رقصاً شهوانياً حسياً، من دون ريب، هذا الرقص الذي أبهج الحضور والنظارة حتى أن هيرودس طلب إلى الفتاة بتهور أن تطلب منه أية هدية حتى نصف مملكته كمكافأة لها على أدائها.

متأثرة بأمها الشريرة طلبت رأس يوحنا المعمدان على صحن كبير أو على طبق كبير. صُدِمَ الملك بهذا الطلب وكان ليريد أن يرفضه، ولكن بسبب قسمه الذي أعطاه أمام كل هؤلاء الحاضرين لم يستطع أن يرد طلبها لئلا يفقد ماء وجهه ويصبح موضعَ سخريةٍ أمام أتباعه ومستخدميه. ومهما يكن من أمر، فإنها لم تكن سوى جريمة جديدة أخرى تضاف إلى سجل جرائمه العديدة التي كان قد ارتكبها لتوه. ولذلك فقد أرسل سيّافاً في الحال ليقطع رأس النبي ويحضر رأسه الملطخ بالدم، نزولاً عند طلب الراقصة التي أعطته بدورها إلى أمها.

يمكن للمرء أن يتخيل كيف راحت هيروديا تتأمل في حبور بذلك الشيء المخيف عندما أدركت أن تلك الشفاه الباردة سوف لن تتهمها من بعد بالزنى أو بأية خطيئة أخرى. ولكنها لم تتوقع ما سيحدث عندما سترى يوحنا المعمدان في النهاية. ففي يوم الدينونة سينهض ليدينها بسبب لا مبالاتها المتعنتة إزاء الدعوة إلى التوبة.

عندما علم تلاميذ يوحنا بما حدث جاؤوا وأخذوا جثة معلمهم وقاموا بدفن لائق لها، وكما يورد إنجيل آخر (متى ١٤: ١٢)، فإنهم "مضوا وأخبروا يسوع"، الذي انتابه حزن شديد عميق على يوحنا بدافع تعاطفه الحاني.

بعد ذلك نقرأ عن عودة الاثني عشر من جولتهم الكرازية والتقرير الذي قدموه إلى يسوع.

"وَﭐجْتَمَعَ الرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا. فَقَالَ لَهُمْ: «تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً». لأَنَّ الْقَادِمِينَ وَالذَّاهِبِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ. فَمَضَوْا فِي السَّفِينَةِ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ. فَرَآهُمُ الْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ الْمُدُنِ مُشَاةً وَسَبَقُوهُمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً" (٦: ٣٠- ٣٤).

لقد تجمع التلاميذ بروح مليئة بالحيوية والحماس حول (ربهم) وأخبروه بكل ما فعلوه وبكل ما علّموه وهم ينطلقون من قرية إلى أخرى في الجليل. رأى أنهم كانوا مأخوذين جداً بنجاحهم، وعلاوة على ذلك كانوا إلى حد ما منهكين بسبب الجهد والشد الذي كانوا قد عانوه. ولذلك فقد طلب إليهم أن يتركوا الجموع ويختلوا في موضع هادئ في الريف وأن "يستريحوا قليلاً". كم يحتاج خدامه إلى هكذا فترات من الصحبة الهادئة معه!

فَمَضَوْا إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ- أي إلى مكان في الريف الواسع الطلق بعيداً عن أية مدينة أو بلدة لينالوا بعض الراحة الجسدية وهدوء الفكر الذي كانوا في حاجة ماسة إليه. إن منحنا أنفسنا هكذا فرص، فإن حوادث الانهيار العصبي والجلطات القلبية ستخف كثيراً وسط خدام المسيح.

لا نعلم تماماً كم أمضت تلك الجماعة الصغيرة في صحبةٍ وخِلوة وارتياح مع الرب. ولكن بعضاً ممن رأوا الجهةَ التي كانوا قد ذهبوا إليها نقلوا الخبرَ إلى الآخرين، وسرعانَ ما جاء حشدٌ كبيرٌ من الناس من جميعِ المدن المجاورة وتجمعوا حولَ يسوع. لم يستطع أن يصرِفَهُم ولا أن يرفُضَ أن يعلِمَهُم.

إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا. وقلبهُ الكبير تحركت فيهِ عواطفُ الحنو نحوهم، لذلك بدأ حالاً يعلِمَهُم أشياء كثيرةٍ. بحماسةٍ لا تكلُ ولا تَمل، علَمهُم طوالَ الوقت في ذلك اليوم، ساعياً ليُعَرِفَهُم بالأمور المتعلقةِ بملكوت الله.

"وَبَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «ﭐلْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ مَضَى. ﭐِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الضِّيَاعِ وَالْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزاً لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ: «أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزاً بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيهُمْ لِيَأْكُلُوا؟» فَقَالَ لَهُمْ: «كَمْ رَغِيفاً عِنْدَكُمْ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا». وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا: «خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ». فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقاً رِفَاقاً عَلَى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ. فَاتَّكَأُوا صُفُوفاً صُفُوفاً: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ وَقَسَّمَ السَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً وَمِنَ السَّمَكِ. وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ" (٦: ٣٥- ٤٤).

كان قد كُتِبَ عن المسيا المنتظر الموعود قبل قرون من مجيئه إلى العالم: "مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزاً" (مز ١٣٢: ١٥)، وأيضاً "كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ" (أش ٤٠: ١١). إن إطعام الجموع في مناسبتين منفصلتين لابد أنه قد أعاد إلى ذهن ذلك الشعب تلك النبوءات وجعلهم يتساءلون فيما إذا لم يكن يسوع المسيح هو الذي طالما تم التنبؤ عنه لوقت طويل.       

عندما أخرج اللهُ اسرائيلَ من مصر رَتّبَ لهم مَائِدَةً فِي الْبَرِّيَّةِ (مز ٧٨: ١٩). أعطى الرب يسوع الجموع الجائعة، الذين تبعوه وأصغوا إليه طوال النهار، مثلاً عن القدرة الكلية نفسها. إنه لمما يُرثى له أن نلاحظ كم من النقاد غير المؤمنين يحاولون أن يُضعفوا ويشوهوا هذه الشهادات عن مجد ربنا الخلاّق بأن يلمّحوا إلى أن هذا (الصنيع الذي قام به الرب) لم يكن سوى حالة مشاركة في الغداء بين الجيران والأقارب الذين كانوا متجمهرين هناك والذين كانوا قد نسوا أو تجاهلوا أن يأتوا بأي طعامٍ معهم- ولذلك أكلوا جميعاً معاً، فبدا لهم كما لو أن الطعام قد تضاعف بطريقةٍ عجيبةٍ مدهشةٍ. يقول الكتاب المقدس: "عَلى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلى فَمِ ثَلاثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ". ومن المدهش أن أولى هذه المعجزات هي إحدى عجائب عديدة قد سجلها كلٌ من الإنجيليين الأربعة. هؤلاء الرجال، التي لا يمكن أن يُشك بأمانتهم والذين كانوا حاضرين للأحداث المرسومة الموصوفة أو علموا عنها من آخرين على نحو دقيقٍ، فجميعهم يصفونها على أنها حدثٌ فائقٌ للطبيعة، ذاك الذي يُكثّر الحِنطةَ على آلاف منحدرات التلال، والأسماكَ في كل البحار، قد أنجز بقدرته الإلهية وحكمته، ما كان ليُنجزَ بشكلٍ عادي خلال أسابيع أو أشهر من الزمان. وهكذا عَرفت الجموع حنو الله وقدرته كما تراءت في يسوع المسيح، والتي تسدُ حاجة كل نفسٍ كما حاجة كلِّ جسدٍ.

"الْوَقْتُ مَضَى". كان التلاميذ قلقينَ ومهتمينَ بخصوص الناس الجياع الذين كانوا مع الرب يسوع طوال النهار، والذي كان كثيرون منهم بعيدين عن منازلهم. وكان الليل على وشك أن يحلَّ، وبدا أنه من اللطفِ وحكمة التدبير أن يحثّوهم على العودة حالاً إلى مساكنهم المختلفة.

"ﭐِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا .... وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزاً". إن كان عليهم أن يضمنوا طعاماً مناسباً قبل أن يهبط الليل فعليهم أن يهرعوا، إذ لم يتمَّ إعدادِ أي مؤن لهم في ذلك المكان المهجور النائي، كما ارتأى التلاميذ.

"«أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا»". إن مطلب ربنا لابد أنه قد أدهش تلاميذه. فلم يكن لديهم شيء ليشاركون الآخرين به، وما كانوا يعرفون كيف يحصلون على الطعام. لقد كانت رغبته هو أن يدربهم على تحسس حاجات الناس ومسؤوليتهم فيما يخص ذلك، كما أنه ليود أن نهتم اليوم بالمجاعة الروحية التي تحيط بنا جميعاً، ومسؤوليتنا على أن نسعى إلى أن نبذل قصارى جهدنا ونلعب دورنا في سد متطلبات هذه المسؤولية. وإننا جميعاً أيضاً عُرضة لأن نحاولَ أن نقيس مقدرة الله على أن يسد حاجاتنا بتلك التي تراها أعيننا، بدلاً من تذكّرنا بأن لنا علاقة بذاك الذي خلق الكون من العدم ويُبقيه بكلمة قوته.

"كَمْ رَغِيفاً عِنْدَكُمْ؟" نعلم من الروايات الأخرى (الواردة في الأناجيل) أن أندراوس كان قد اكتشف وجود غلامٍ معه خمسة من الأرغفة التي كان الناسُ معتادين عليها، وسمكتين صغيرتين. لقد اقترح أحدهم أن ذاك إنما كان غداءَ الغلام الخاص- وقد أعطاه كلُُّه لكي يقتات الآخرون عليه. ورغم ضآلة كميته، أمكن ليسوع المسيح أن يستخدمه بشكلٍ كبيرٍ. في الحالات الطارئة التي نمرُّ بها، عادةً ما نسأل "من أين؟" و"كيف؟" متناسين أنه ما من شيءٍ صعبٌ أمام الرب. فذاك الذي يُكَثِّرُ الحبوب المبذورة في الأرض يمكنه أن يأخذ القليل الذي نأتي به ويجعله كافياً لسدِ حاجات الكثيرين.

"فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ". بسُلْطةٍ، أمر المخلص الحشدَ المتجمهر أن يجلسوا جماعاتٍ على العشب الأخضر، حيث يمكن القيام بخدمتهم على نحوٍ أفضل. وأطاعوا أمرهُ. فَاتَّكَأُوا صُفُوفاً صُفُوفاً: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ"، ومن غير شك كانوا يتساءلون عما سيحدث بعد ذلك، وعن السبب في اعتراضه على إرجاع الناس إلى بيوتهم على عجل. إن الأمر الذي أصدره الرب بأن يجعل الناس يجلسونَ كان له مغزى. فإذ يجلسون على الأرض كانوا يصيرون جميعهم على مستوى واحد. وتختفي الفوارق في المنزلةِ الاجتماعيةِ. لقد كان في ذلك ترسيخٌ لعقيدة "اللا فرق".

"رَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ وَأَعْطَى". إذ تلقى الطعامَ من يدي أندراوس أو من ذلك الغلام المتوقع، قدّم الرب يسوع شكراً، وبدأ يكسر الخبز ويقسمُ الأسماك، مناولاً الزاد إلى التلاميذ، لكيما بدورهم يمررونه إلى الحشد الجائع الذين كانوا ينظرون في عجبٍ ودهشةٍ. عندما كسر الرب يسوع الخبز وأعطاه لتلاميذه لكي يمررونه إلى الجموع، ما كان لأحد عذرٌ إذا ما ذهبَ جائعاً. وهكذا الحالُ اليوم، إذ نقدمُ الخبزَ الحيَّ إلى النفوس الجائعة، لا يحتاجُ أحدٌ لأن يذهبَ دون أن يأخذَ بركةً أبدية.

"فَأَكَلَ الْجَمِيعُ". تبين أن هناك مئونة وافرة كافية للجميع. لم يُخَيّّبْ أحدٌ. لم يحتجْ أحدٌ لأن يذهب جائعاً من تلك المائدة التي أقامها الربُ يسوع المسيح.

"رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً وَمِنَ السَّمَكِ". لم يكن الجميعُ راضينَ وحسب، بل عندما انتهت الوليمة كانت هناك سلالٌ كثيرةٌ باقية إذ كان هناك التلاميذ، ومع ذلك تساءلَ الإثنا عشر كيف أمكن لذلك الطعام أن يكون كافياً لكلّ ذلك العدد!

"كَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ". ويضيف متى إلى ذلك: "مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (متى ١٤: ٢١). لذلك كان العدد فعلياً أكثرَ من خمسةِ آلاف، رغم أنه لم يكن هناك نساءٌ أو أطفالٌ، بلا شك، قد خرجوا إلى تلك البرية ليسمعوا المعلم العظيم في ذلك اليوم.

سوف نجد، إذ نسعى لخدمة ربنا المبارك، أننا كلما قدمنا للآخرين كلما بقي لدينا أكثر لأنفسنا.

"لمْ يفرّغ الحبُّ قلباً،
ولم يفرّغ العطاءُ كيس دراهم".

"وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ. وَبَعْدَ مَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً فَصَرَخُوا لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُم وقَالَ لَهُمْ: «ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدّاً إِلَى الْغَايَةِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً" (٦: ٤٥- ٥٢).

لدينا هنا صورة زمانية تدبيرية عما سيحتمله تلاميذ المسيح هنا  في بحر الزمان العاصف الهائج بينما الرب يتشفع من أجلهم في العلاء.

بعد إطعام الجموع أشار يسوع لتلاميذه لكي "يَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا". لم تكن هذه سوى رحلة قصيرة من ذلك المكان إلى جَنِّيسَارَتَ شمال البحيرة، شرقي كفرناحوم. لم يذهب يسوع معهم. ولكن بعد انطلاقهم مضى إلى الجبل لكي يكون وحده مع الآب ليناجيه في الصلاة.

"كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ". ولكنها كانت على مرمى النظر، وكان قلبه قلقاً على تلاميذه الذين كانوا يعملون جاهدين، مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، وهم يسعون للوصول إلى وجهتهم المنشودة، والرياح تعاكسهم. أشار أحدهم إلى أن الكلمة التي تُرجمت "مُعَذَّبِينَ" هي نفسها التي تُرجمت إلى " يُعَذِّبُ" الواردة في (٢ بطرس ٢: ٨). إنها تعني أكثر من العمل العضلي المضني. لقد كان التلاميذ في محنةٍ روحيةٍ ذهنية حقيقية وقلق، إذ كانوا خائفين أن تغرق سفينتهم، ويغرقوا هم أنفسهم معها في البحر المتلاطم الأمواج الذي كان يوشك على ابتلاعهم. ولعلهم كانوا أيضاً يعانون من بعضهم البعض فيحمّل كل منهم الآخر مسؤولية الوضع المتقلقل الخطر الذي وجدوا أنفسهم فيه. يا لها من صورة تعبّر عن الحالة الذهنية التي غالباً ما يجد المؤمنون أنفسهم فيها خلال صراعاتهم مع ظروف الدنيا في غياب الرب يسوع عن هذا العالم.

كم كان ضئيلاً إدراك التلاميذ، وهم يصارعون الريح والموج، بأنه طوال الوقت كانت عين الرب ترعاهم وقلبه قلقاً عليهم مهتماً بهم. كم سريعٌ هو تناسينا، وإذ نحن "نصارع خلال وجهتنا إلى السماء"، كما يقول روذرفورد، فإن رئيس كهنتنا العظيم لا ينفك ينظر إلينا من العلاء ويشفع فينا بلا انقطاع.

مع بزوغ أول أشعة الفجر في الأفق "نَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ"، أي في الساعة بين الثالثة والسادسة صباحاً في توقيتنا الحالي، نزل يسوع من الجبل وجاء ماشياً على وجه المياه. يبدو أن يسوع كان على وشك أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ عندما صرخ التلاميذ المرتعبون، ظناً منهم أنه خَيَال. فكشف لهم ذاته وقال: "«ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا»".

مندهشين فوق العادة، استقبلوه في السفينة وسرعان ما هدأت الريح. ترد في موضع آخر تفاصيل، حُذفت من هنا عن عمد، لكي يتم التركيز على أن مجيئه قد أسكت العاصفة. وهذا ما سيكون عليه الحال لدى عودته ثانيةً لأجل خاصته.

إذ كانوا منذهلين مما جرى ونسوا سريعاً البرهان على قدرته الخالقة في مضاعفة الأرغفة والسمك، تساءل التلاميذ متعجبين عن سر شخص الرب.

"فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ وَأَرْسَوْا. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ عَرَفُوهُ فَطَافُوا جَمِيعَ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ. وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ!" (٦: ٥٣- ٥٦).

عندما أرسوا على شواطئ جَنِّيسَارَتَ في نهاية المطاف، كانوا لم يزالوا في السفينة عندما بدأت جموع الناس تُقبل نحو يسوع من كل تلك المنطقة. لم يستطع أن يحتجب: فسمعته وشهرته سبقته إلى هناك. وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ متضرعين إليه أن يشفيهم. وبينما راح ينتقل من قرية إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى، بل وحتى إلى الريف الفسيح، كانت تتقاطر من حوله الحشود الذين كانوا يأتون بأصدقائهم وأقربائهم المرضى إليه راجين منه أن يسمح لهم ولو بلمس هدب ثوبه. ويخبرنا الإنجيل أن "كُل مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ". الله المتجسد كان يسير وسط شعبه، وكان يُسرُّ بأن يخفّف آلامهم ومعاناتهم وأن يشفيهم من أمراضهم. وأينما سار كانت تتجلى قدرته على الشفاء. ولكن كل ذلك، وللأسف، لم ينفع في إقناع الرؤساء بأن المسيا الذي طالما انتظروه قد جاء ليحررهم.

الأصحاح التالي يظهر المعارضة والمقاومة المتزايدة المتنامية، التي بلغت أوجها، كما نعلم، في الصليب.

القسم (٢) - ٧:‏١-‏ ٨:‏٩

الأصحاح ٧

التقليد إزاء الوحي أو الإعلان

بالنسبة للذهن الروحي، إنها لمسألة تدعو للعجب المطرد أن ترى الناس على استعداد بالغ لأن يتبعوا وبرضا لا خوف فيه سلطة التقاليد البشرية، تماماً كما أنهم على استعداد كامل لتجاهل التعاليم الواضحة التي في كلمة الله. وفي مناسبات كثيرة نجد ربنا المبارك يصارع الإجحافات عند بني اسرائيل الذين كانوا يرفعون التقليد إلى مستوى الإعلان، بل أعلى منه في بعض الحالات.

"وَﭐجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضاً مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ لاَمُوا - لأَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ الْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِاعْتِنَاءٍ لاَ يَأْكُلُونَ مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ الشُّيُوخِ. وَمِنَ السُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا لاَ يَأْكُلُونَ. وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ. ثُمَّ سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ: «لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزاً بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «حَسَناً تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ. لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ: غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ وَأُمُوراً أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ»" (٧: ١- ٨).

بعضٌ من الفريسيّين والكتبة الذين كانوا يراقبون يسوع بشكلٍ متواصلٍ مطردٍ في محاولةٍ منهم لأن يجدوا أي خطأٍ يَرِدْ لديه في كلماته أو تصرفاته هو وتلاميذه، لاحظوا أن بعض التلاميذ كانوا يأكلون الخبز بأيدٍ دنسةٍ على حد اعتباراتهم. كان هذا أمراً مخالفاً للناموس بحسب تقليدٍ سُلِّمَ إليهم من الأيام الأولى. الفريسيّون الأكثر صرامةً كانوا يمرون بعمليةٍ طويلة ليس فقط بتطهير الأيدي من النجاسة بل أيضاً بالغسل الطقسي قبل أن يتناولوا طعامهم.

تخبرنا الآية ٤ أنهم "مِنَ السُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا (أو يعتمدوا) لاَ يَأْكُلُونَ". هذه هي إحدى المعموديات العديدة التي يرِدُ ذكرُها في (عبرانيين ٩: ١٠). فالكلمة المترجمة بـ "غَسَلاَتٍ" هناك إنما هي أساساً "معموديات". إلى ذلك، كانت هناك العديد من الشعائر الأخرى المماثلة من غَسْلِ آنِيَةِ الشرب، والأطباق التي كان يقدم فيها الطعام، وأيضاً الموائد.

إن الناموسييّن التشريعيّين المتقيدين بالتقاليد جاؤوا مباشرةً إلى يسوع، وسألوه لماذا ما كان تلاميذه يغتسلون بحسب تقليد الشيوخ، بل كانوا يأكلون الخبز بأيدٍ غير مغسولةٍ. لاحظوا أن هذا لم يكن سؤالاً يتلاءم مع كلمة الله بل كان مجرد تقليدٍ بشريٍ وحسب.

في رده عليهم أشار ربنا إلى الكلمات الواردة على لسان أشعياء النبي، فيقول: "حَسَناً تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ". لقد كانت هذه اللهجة قوية. المرائي هو الرجل ذو الوجهين، إنه ممثل بالفعل، إذ أن الممثلين الإغريق (اليونانيين) كانوا يظهرون على المسرح مرتدين أقنعةً ليقوموا بمختلف الأدوار والشخصيات. لقد كان الرب يعرف، من خلال رياء منتقديه، أنه بينما كانوا دقيقين في إتباع الأوامر وحريصين على الشكليات في هكذا أمور، فإنهم كانوا لا يبالون فعلياً فيما يخص الأمور الأهم والأعظم لأنها كانت أوامر صادرة من الرب تماماً. وعن هؤلاء كتب أشعياء يقول: "هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً ،وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ". هناك شيءٌ في غاية الأهمية هنا يحسن بنا كثيراً أن نضعهُ إلى قلبنا. إنه خطأٌ فادحٌ يرتكبه أولئك الذين يُقرون بأنهم خدام الله بأن يؤخذوا بالشكلية والشعائر الطقسية والتقاليد التي ليس لها أساسٍ كتابي. قد يبدون أبرياء بما فيه الكفاية عند البدء بذلك، ولكن شيئاً فشيئاً سنجد أنهم يغتصبون مكانة كلمة الله في ضمائر أولئك الذين يتبعونه، وهذا أمرٌ في غاية الخطورة.

نعلم من (٢ تيموثاوس ٣: ١٦، ١٧) أن :" كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ". إن تمت دراسة الكتاب المقدس بعناية وعُمِلَ بحسب ما يرد فيه، فإنه يؤهّل إنسانَ الله إلى الأعمال الصالحة، ثم سيكون واضحاً أنه ما من عمل يستحق أن يُعتبر صالحاً في نظر الله إن لم يصادقه الكتاب. إن تمييز هذا المبدأ سوف ينجّي من حماقاتٍ كبيرةٍ وعملٍ مضنٍ لا طائل تحته بما يتعلق بأمور الله. فالرب أكد كلمات أشعياء عن منتقدي تلاميذه بأن أخبرهم بأنهم أنفسهم قد ألقوا جانباً وصية الله، واستبدلوها بتقاليد بشرية مثل تلك التي كانوا يشيرون إليها، وأضاف قائلاً: "وَأُمُوراً أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ".

ليست فقط الكنيسة الكاثوليكية، (كنيسة روما اللاتينية)، وحدها من ترفع شأن التقليد إلى مستوى الكتاب المقدس أو حتى فوقه، بل هناك عدد ليس بقليل من البروتستانت الذين يفعلون الشيء نفسه، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. كم نحن في حاجة لأن نعود إلى مكان تعليم كلمة الله، فنسأل "ما الذي يقوله الكتاب المقدس؟" عندما تُطرحُ أسئلةٌ مثل الطرق والوسائل في التعليم. لأن كل ما هو ضد كشف الله لا يمكن أن يلقى حظوةً في عينيه، أياً كان مقدار الصلاح أو الخير الذي يبدو أنه لينجزه.

إذ أكتب هكذا فإني لا أتجاهل أبداً ولو لوهلةٍ حقيقة أن الكتاب المقدس نفسه يعطي مجالاً أو حرية معتبرة فيما يتعلق بالطرق والنهج الذي نتبعه في الوصول إلى الضالين والسعي إلى مساعدة المؤمنين. لقد أعلن الرسول بولس قائلاً: "صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً". ما أريد أن أؤكد عليه هو الخطأ الفادح في استبدال السلطة الإلهية بسلطةٍ بشريةٍ. علينا أن نكون متأكدين أنه ليس فقط العقائد بل أيضاً طرقنا العملية يجب أن تكون بتوافقٍ مع الكتاب المقدس. وهذا وحده هو طريق الأمان والسلامة.

وإذ يستأنف حديثه يشير الرب موضحاً كيف أن هؤلاء الفريسيّين أنفسهم قد تجاهلوا التعليم الواضح للكلمة في حين أنهم يُعطون سلطةً كاملةً للتقليد.

"ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «حَسَناً! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ. لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ وَمَنْ يَشْتِمُ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ أَيْ هَدِيَّةٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئاً لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. مُبْطِلِينَ كَلاَمَ اللَّهِ بِتَقْلِيدِكُمُ الَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُوراً كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ». ثُمَّ دَعَا كُلَّ الْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا. لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ لَكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ»" (٧: ٩- ١٦).

لاحظوا كم كانت لهجته شديدة حين قال في الآية ٩: "حَسَناً! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ". إن القلب الطبيعي يثور على ما هو إلهي ويقبل بكل ترحيب ما هو بشري محض.

وبعدها يُوردُ يسوع مثالاً محدداً واضحاً جداً عن التضاد بين التقليد والكتاب المقدس. فقد تحدث الله بموسى، فأمره أن يُكرمَ شعبَهُ أباهم وأمهم. وإن جزاء أو قصاص الموت كان مرتبطاً بانتهاك هذه الوصية.

"مَنْ يَشْتِمُ (أو يسيء أو يخطئ، بأي شكل من الأشكال تجاه، أو يؤذي) أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً". هذا سيعني بالضرورة الاهتمام بالأشخاص الطاعنين في السن الذين كانوا غير قادرين على أن يعيلوا أنفسهم. أقل ما ينبغي ويمكن للأبناء والبنات أن يفعلوه هو أن يشاركوا والديهم بما أعطاه الله لهم، ولكن الربانيّين كانوا قد أعلنوا أن الإنسان قد يكرس كل ممتلكاته لله، معتبراً أنه قربان – أي تقدمة للحفاظ على العمل في الهيكل. فإن كان والدا المرء في حاجة فإنه يصر على أنه ليس لديه ما يقدمه لهم أو يساعدهم فيه، لأن كل ما كان يمتلكه قد كرسه أو قدمه لله لتوه. كان هذا هو جوهر الأنانية المتخفية وراء التقوى المدّعية الكاذبة؛ وكانت هذه الأساليب تُبطلُ أثر كلمة الله في التقليد. كان هذا مجرد مثالٍ عن انتهاك حق الله بالاتكال على النظم والتشريعات البشرية. وأضاف يسوع من جديد قائلاً: "أُمُوراً كَثِيرَةً مِثْلَ هَذِهِ تَفْعَلُونَ".

ويخبرنا الإنجيل أنه بعد ذلك استغل الفرصة ليعلّم جميع الشعب عن طبيعة النجاسة الحقيقية. فقال: "«ﭐسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا. لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ لَكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ". ثم يضيف قائلاً بوقار رزين: "إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ". بهذه الكلمات وضع ربنا أساس مبدأٍٍ عظيم وأكّد على حقيقةٍ هائلة. فحتى الآن كان ضمير الإسرائيلي الحي يركز على الاهتمام بتوق عما يجب أن يفعله فيما يخص المأكل أو المشرب، لئلا يتناول، ولو بشكلٍ غير متعمدٍ أو مقصود، شيئاً كان نجساً بحسب الطقوس والشعائر، وبذلك يتنجسُ ويَصيرُ غير كفؤٍ لأن ينضم إلى رعية الرب عندما يجتمعون للعبادة في الهيكل. إلا أن يسوع أعلن أن النجاسة الأخلاقية والروحية تأتي ليس من أمورٍ خارجية كالطعام والشراب بل من داخل الإنسان نفسه، من قلبه ذاته، ذلك القلب الذي قال عنه إرميا النبي أنه أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ بشكل كبير (١٧: ٩).

"وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَيْتِ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَنِ الْمَثَلِ. فَقَالَ لَهُمْ: «أَفَأَنْتُمْ أَيْضاً هَكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى الْجَوْفِ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْخَلاَءِ وَذَلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ الأَطْعِمَةِ». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً فِسْقٌ قَتْلٌ سِرْقَةٌ طَمَعٌ خُبْثٌ مَكْرٌ عَهَارَةٌ عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ تَجْدِيفٌ كِبْرِيَاءُ جَهْلٌ. جَمِيعُ هَذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ»" (٧: ١٧- ٢٣).

من الواضح أن هذه الكلمات لربنا قد أذهلت حتى تلاميذه أنفسهم، الذين كانوا معتادين على النظر إلى الأمور من وجهة النظر الطقسية. ولذلك عندما تركوا الجمع وكانوا في البيت لوحدهم مع يسوع سألوه أن يُوضِحَ ما كان قد قصده بحديثه كما فعل. وبحسب طرقه العادية المألوفة التي كان يتبعها في نهجه- وذلك بأن يكاشف بالحقيقة دائماً أولئك السائلين المخلصين الصادقين- قال لهم: "«أَفَأَنْتُمْ أَيْضاً هَكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ". هذه الأشياء الخارجية، كالطعام والشراب، كانت مجرد أشياء مادية: فما كانت لتقدر أن تؤثر على نفس الإنسان. بالطبع لم يكن ربنا يَنكر أنه كان هناك أطعمةً مؤذية ضارة بل وحتى سامة قد تُحدث ضرراً خطيراً كبيراً للجسد؛ ولكن ما كان في باله هنا هو نجاسةُ الروح، وإقصاءُ المرء عن استحقاق الشركة مع الله. إن الطعام وأي شراب لا يدخل إلى القلب بل يمر عبر الجهاز الهضمي ولا يترك أي انطباعٍ أو تأثيرٍ على نفس أو روح المرء الذي أكلَ أو شَرِبَ.

"إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ"- أي من قلب الإنسان، فهذا ما ينجّس الإنسان، لأن القلب نفسه هو كمثل عش من الطيور النجسة. "مِنَ الدَّاخِلِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً فِسْقٌ قَتْلٌ سِرْقَةٌ طَمَعٌ خُبْثٌ مَكْرٌ عَهَارَةٌ عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ تَجْدِيفٌ كِبْرِيَاءُ جَهْلٌ". يا لها من قائمة! من يستطيع أن يقول أن هذه الأشياء لم يكن لها أيُ مكانٍ في قلبه! بالطبع هناك بعضٌ يَبغُضُ كلياً عديداً من هذه الأشياء، ومع ذلك فإن كل إنسانٍ هو عُرضة لأن يسقُطَ في كل خطيئةٍ قد ذُكِرَتْ هنا ولو لمجرد أن يسمح لِفِكرِهِ أن يُسْهِبَ فيها. ومع ذلك فهناك أُناسٌ يُنكرون فساد الطبيعة البشرية. لعلهم يفكرون بالقائمة الوارد ذكرها هنا ويجيبون على السؤال بصراحةٍ، هل يخلو قلبي من أيِّ شيءٍ من هذه الأشياء؟

عندما نتحدث عن الفساد الكامل في الطبيعة البشرية فإننا لا نعني بالضرورة أن كل الناس آثمون ومذنبون بكل الخطايا المعلنةِ هنا. إننا نعني أن كل الناس بالطبيعة بعيدون عن الله، وأن قابليتهم للقيام بكل هذه الأشياء موجودة في قلوبهم.

الدكتور جوزيف كوك، وفي إحدى المناسبات عندما يعترضُ على مبدأ فساد البشرية الذي ليس له أساس كتابي، استخدم هذا المثال التوضيحي: فقال أنه كان مهووساً بساعةٍ دقيقةٍ رائعة. لقد كانت تحفةً فنيةً جميلةً رائعةً، وتشكلُ حليةً للحجرة التي كانت قد وُضِعَت فيها. إن التحف الفنية كانت باهظةَ الثمن؛ كان وجه الساعة جميلاً للنظر إليه، والعقارب كانت متقنة الصنع للغاية، وبالإجمال كانت ساعةً تثير العجب. كان هناك شيءٌ واحدٌ فقط ليس على ما يرام فيها: أنها ما كانت تضبط الوقت. وبالتالي فهي فاسدة سيئة كلياً من ناحية الوقت. هكذا هو الحال مع الإنسان الطبيعي. إنه بعيدٌ عن الله؛ قلبه في خصومةٍ وعداوةٍ مع الله، ومن داخل ذلك القلب تنبعُ الخطايا بأشكالٍ مختلفةٍ متنوعةٍ عديدة. الحمد الله، هناك علاجٌ شافٍ لهذه الحالة. صلى داود أن "قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ" (مز ٥١: ١٠)، وهذا ما يُسرُّ الله أن يعمله من خلال الولادة الجديدة.

إن كل الأشياء الشريرة التي ذكرها يسوع هنا تأتي من الداخل. هذه تُنَجِسُ الإنسان. فكم من المهم بالحري أن نميز حقيقة أن هذه الأشياء تجد عشاً لها بشكلٍ طبيعي في القلب الإنساني، وأننا نَزِنُ الأمور كلها على ضوء صليب المسيح.

في القسم التالي نرى نعمة الله تمتدُ لتطال من هم خارج شعب إسرائيل.

"ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ وَدَخَلَ بَيْتاً وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ لأَنَّ امْرَأَةً كَانَ بِابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ أُمَمِيَّةً وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً - فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ الشَّيْطَانَ مِنِ ابْنَتِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا: «دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضاً تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ». َقَالَ لَهَا: «لأَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ». فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ الشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ وَالاِبْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْفِرَاشِ" (٧: ٢٤- ٣٠).

كان الرب يسوع قد مَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ- أي أنه انتقل خلال مسير رحلاته مع التلاميذ إلى المنطقة الشمالية الغربية من الجليل. كانت هذه المدن بعيدة عن الجليل، ولكن الرب نفسه، كما نجد مدوناً لدينا، لم يكن قد خرج حتى الآن أبعد من الحدود التي تفصل فلسطين عن أراضي الأمميين، باستثناء المرة التي كان فيها طفلاً صغيراً، حيث أخذته أمه ووالده بالتربية، يوسف، إلى مصر هرباً من غضب هيرودس. لقد جاء إلى العالم، كما يقول بولس في (رومية ١٥: ٨)، كخادم للختان مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ. ورغم أنه كان يتطلع دوماً إلى الوقت الذي سيمجد فيه الأمميون الله لأجل رحمته، كما تشير الآية التالية، إلا أن خدمته، خلال حياته على الأرض، اقتصرت على الخراف الضالة من بيت إسرائيل.

أما الآن فنجده يلتقي بامرأة معينة يونانية، أممية صرفة، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً. هذه المرأة كان في ابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ. لقد كانت قد عانت الكثير بسبب هذه الحالة. ورغم أنها غريبة عن العهود الموعودة، فإن المرأة الفِينِيقِيَّة السُورِيَّة سمعت عن يسوع، وشعرت أنه بالتأكيد سوف يحرر ابنتها إن رغب في ذلك. لذلك جاءت ملتمسةً أن يطرد الروح النجس من ابنتها الشابة. في موضع آخر نعلم أنها استندت في مطلبها إلى حقيقة أنه ابن داود. من الواضح أنها علمت من جيرانها اليهود عن المسيا الذي كان سيأتي من نسل داود، وصدقت في إيمانها أن يسوع هو ذاك المنتظر. ولذلك جاءت تطلب إليه أن: "«ارْحَمْنِي يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ. ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدّاً»" (متى ١٥: ٢٢). ولكنه حافظ على هدوئه. فلكونها خاطئة من الأمميين لم يكن لها الحق بأن تطالبه بأي شيء لكونه ابن داود الموعود. وأخيراً، وإذ استمرت في الصراخ وراءه، قال: "«دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ»". قد يبدو هذا القول قاسياً، ولكن وكما أن يوسف قد اتهم إخوته بأنهم جواسيس لكي يسبر ضمائرهم، كذلك فإن الرب أجاب المرأة هكذا لكي يأتي بها إلى إدراك أنه حقها بالبركة كان إنما استناداً إلى النعمة الصافية النقية فقط.

لقد تجاوبت بطريقة رائعة. لم يكن لديها شعور بالاستياء أو الامتعاض بسبب حديثه إليها مهيناً أو بتكلمه معها بطريقة فظة جافة. فَأَجَابَتْ بتواضع وَقَالَتْ لَهُ: "«نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَجراء الْكِلاَب أَيْضاً (وهنا استخدمت صيغة مصغرة، جراء الكلاب) تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ»". لكأنها كانت تقول : "يا سيد، أعرف حقيقة أنني بائسة، وثنية منبوذة، ولكن أعطني، يا سيد، بعضاً من الكسر التي يرميها أبناء الملكوت. اسمح لي أن أكون بمكانة الجرو وبهذا أنال رحمة من يدك". لم يكن هناك ما يروق لربنا المبارك أكثر من الإيمان الممزوج بالتواضع. فأجابها قائلاً: "«لأَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ»". وإذ هرعت إلى منزلها، بقلب مبتهج وآمال كبيرة بلا شك وهي تدخل البيت، وجدت َالاِبْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْفِرَاشِ والشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ.

"ثُمَّ خَرَجَ أَيْضاً مِنْ تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ وَجَاءَ إِلَى بَحْرِ الْجَلِيلِ فِي وَسْطِ حُدُودِ الْمُدُنِ الْعَشْرِ. وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَصَمَّ أَعْقَدَ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. فَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ عَلَى نَاحِيَةٍ وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ: «إِفَّثَا». أَيِ انْفَتِحْ. وَلِلْوَقْتِ انْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ وَانْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيماً. فَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ. وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَاهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ أَكْثَرَ كَثِيراً. وَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً! جَعَلَ الصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ!»". (٧: ٣١- ٣٧).

إذ ترك شواطيء صور وصيداء، عبر يسوع إلى الجزء الشمالي من بحر الجليل ودخل إلى قارب، واجتاز البحر مرة أخرى ليزور الْمُدُن الْعَشْر. هذه هي المنطقة التي كان يعيش فيها رجل القبور ذاك الذي من جدرة الذي كان ممسوساً. بعد أن حرّره يسوع، طلب إليه أن يمضي إلى منزله وأن يخبر أصدقاءه بالأمور العظيمة التي صنعها الرب له. ولذلك نشر الخبر السار، كما يخبرنا الإنجيل، في كل أرجاء الْمُدُنِ الْعَشْرِ. ولذلك فعندما رجع يسوع إلى هناك كان الناس مستعدين لاستقباله. ومن المحتمل أن نفس الأشخاص الذين كانوا قد طلبوا منه في الحادثة السابقة أن يغادر شواطئهم قد كانوا وسط الحشد الذين جاؤوا إليه وهم يتوقون لسماع كلامه ومعاينة معجزاته. ونعلم من الإنجيل أنهم جَاءُوا إِلَى يسوع بِأَصَمَّ أَعْقَدَ اللسان وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ- تلك اليد الحانية التي طالما ارتفعت لتمنح البركة، والتي بلمستها كان يتبدد كل دنس ونجاسة. ولكن الرب تعامل مع هذا الرجل بطريقة مميزة نوعاً ما. فبدلاً من شفائه علانية على الملأ أمام كل الناس، وإدراكاً منه لحقيقة أن لمعارضة له كانت آخذة في الازدياد، أخذه على ناحية من بين الجمع، ووضع إصبعه في أذنيه، ثم تفل ولمس لسانه. قد نتعجب من ذلك، ولكن علينا أن نتذكر أن ناسوت ربنا يسوع المسيح كان مقدساً ونقياً بشكل مطلق، لم تمسه الخطيئة أو الفساد من أي نوع كان. من الواضح أنه كان يشير إلى أن الشفاء أتى من داخل كيانه نفسه. إذ رَفَعَ (يسوع) نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ َأَنَّ إذ أدرك الخراب والتلف الذي خلّفتْه الخطيئة من كل ناحية، ثم تحدث بالآرامية قائلاً: "«إِفَّثَا»" أَيِ "انْفَتِحْ". وللوقت صار الرجل قادراً على أن يسمع وأن يتكلم أيضاًَ. وطلب يسوع ممن كانوا يحيطون به ألا يذيعوا الخبر. كما لاحظنا، لم تكن لدى يسوع رغبة بأن ينال شهرة كصانع معجزات. فبينما كان مستعداً على الدوام لأن يخدم الناس في حاجاتهم، كانت رسالته العظيمة هي أن يعلن إنجيل الملكوت أينما ذهب من مكان إلى آخر. ولكن الناس كانوا متحمسين جداً بنتيجة رؤيتهم لقوته المقتدرة حتى أنهم كلما أوصاهم ألا يقولوا شيئاً عنها، كانوا يذيعون الخبر أكثر. ونعلم أنهم "بُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً! جَعَلَ الصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ!»".

بالتأكيد كل من يعرف المسيح، بأية درجة كانت، سينضم بفرح إلى أولئك الناس الذين في المدن العشر في نسب كل الشرف والمجد لذاك الذي صنع كل الأشياء بشكل حسن.

الأصحاح ٨:‏١-‏٩

يختتم الجزء الحالي بالآية ٩ من هذا الأصحاح. ورغم أن الحادثة المروية في هذا المقطع ليس لها علاقة مباشرة بالمجادلات التي كان الرؤساء يرغبون بفرضها على يسوع بدون رغبة منه، إلا أنها توصلنا إلى نهاية أحد مظاهر أو جوانب خدمته.

"فِي تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ دَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ لأَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ». فَأَجَابَهُ تَلاَمِيذُهُ: «مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هَؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟» فَسَأَلَهُمْ: «كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا: «سَبْعَةٌ». فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هَذِهِ أَيْضاً. فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ. وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ" (٨: ١- ٩).

"إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ". لقد كانت الظروف مشابهة لتلك الحادثة التي جرت قبل بضعة أشهر. ومع ذلك فمن الواضح أن التلاميذ كانوا قد نسوا- كما نفعل نحن أيضاً في معظم الأحيان- التجلي اللافت المميز للقدرة الإلهية التي رأوها في ذلك الوقت.

"إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ". لقد تأثر قلب يسوع بحاجة الجمع، وكان قلبه هو الذي يدفعه لتقديم يد العون لهم. لقد كانوا محتشدين حوله "لثلاثة أيام"، وكانوا ينتبهون إلى تعليمه، إلى أن نفذت كل مؤن الطعام لديهم، والآن "لَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ". ولم يستطع أن يحتمل أن يتركهم في هذه الحالة البائسة.

"إِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ". كان كثيرون منهم يقطنون بعيداً جداً عن المكان الذي كانوا فيه. فأن يذهبوا جياعاً إلى منازلهم سيكون أمراً شاقاً حقاً عليهم.

"«مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هَؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟»". هذه عبارة دلّت على جحود قلب التلاميذ. سيبدو لنا أمراً لا يُصدق أنهم سرعان ما نسوا الحادثة السابقة، إن لم نعرف شيئاً عن انعدام الثقة وعدم الإيمان في قلوبنا.

"«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا: «سَبْعَةٌ»". لقد كانت هذه الزوادة التي أعدوها لحاجتهم الخاصة، ولكن أمكنهم أن يتمتعوا بامتياز مشاطرة الآخرين بها. لا حظوا أنهم هذه المرة لم يتدبّروا الطعام من شخص آخر.

"أَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى". بإتباعه نفس ما فعل في المرة السابقة، تم ترتيب جلوس الناس على الأرض، وبعد أن شكر، كسر يسوع الخبز وأعطاه لتلاميذه ليوزعوه على الجمع.

"كَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ". لماذا لم تُذكر هذه من قبل؟ هل كان التلاميذ المتشككون قد أبقوها لأنفسهم إلى أن رأوا تضاعف إو تكثير الخبز؟ من الواضح أن الأسماك قد بُورِكت على نحو منفصل ثم وُزِّعَتْ كما الخبز.

"فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ". من جديد كانت هناك وفرة وفضلات كِسَر. فبقايا الخبز والسمك عُهِدَ إليه أن يوزعها، وجمع التلاميذ ما بقي في سبعة سلال من الطعام الزائد- وهذه كمية كافية تدوم لفترة طويلة.

"وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ". ويضيف متى قائلاً: "مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ" (متى ١٥: ٣٨).

أنواع السلال:

لقد قيل أن في النص اليوناني الأصلي كلمتين مختلفتين تشيران إلى نوعين مختلفين من السلال واردتين في هاتين الروايتين. في الأصحاح السادس، بعد إطعام الخمسة آلاف، كانت هناك اثنتي عشر سلة يد قد رُفِعَتْ- هذه من النوع الذي كان الجمع يحملها معه خلال ترحاله سيراً على الأقدام. وفي الحادثة الثانية، رُفِعَتْ سبع سلال سبتية. وهذه كانت سلالاً كبيرة من النوع الذي كان يُستخدم غالباً لحمل السمك أو نقل بقية البضائع.

الأرقام في الكتاب المقدس:

إن العدد ١٢ يُستخدم عادة في الكتاب المقدس للإشارة إلى الكمال الإداري، في حين يدل العدد ٧ إلى الكمال الصوفي الباطني أو الروحي. كانت السلال الاثني عشر تدل على التدبير الوافر الذي سيتم التمتع به خلال سيادة حكم المسيا. السلال السبع تدل على كمال البركة الروحية عندما نعلم أننا لا نحيا بالخبز وحده، "بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (متى ٤: ٤).

إحدى أسماء الله في العهد القديم كان "إيل شدّاي"- أي الإله الكامل الكفاءة. لقد كان الرب يُظهر نفسه كإله متجسّد، بالغ القدرة على سد كل حاجة عندما أطعم الجموع الذين احتشدوا، في هاتين المناسبتين، لسماعه يكرز بإنجيل الملكوت. إن مؤوناته غير محدودة. ما نحتاج إليه هو الإيمان لكي نتّكل على غنى رحمته وأن ندنو من مخزنه الوافر الفيّاض. الخبز الذي كان يعطيه أعطى صورة عن ذاته كخبز الله النازل من السماء، الذي إن أكل الإنسان منه يحيا إلى الأبد (يوحنا ٦: ٣٣).

الأصحاح ٩:‏١-‏ ٨

الآيات الثمانية الأولى من هذا الأصحاح من الجزء الختامي لهذا القسم الثالث، الذي نرى فيه تصوراً مسبقاً عن المجد العتيد أن يُعلن لدى المجيء الثاني للرب يسوع.

"وَقَالَ لَهُمُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ». وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدّاً كَالثَّلْجِ لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدِي جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ لَكَ وَاحِدَةً وَلِمُوسَى وَاحِدَةً وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا». فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ" (٩: ١- ٨).

تحوي الآية الأولى على ما كان يشكّل، بالنسبة للتلاميذ بالتأكيد، إعلاناً صاعقاً مذهلاً. فقد قال يسوع بأن هناك قَوْماً بينهم لن يَذُوقُوا الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ ومجد عظيم. وحدث هذا بعد أسبوع حيث يوضح لنا الرسول بطرس أنهم لم يَتْبَعوا خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، عندما أعلنوا قدرة الرب يسوع المسيح ومجيئه، بل إنهم كانوا شهود عيان لجلالته عندما كانوا معه على الجبل المقدس (٢ بطرس ١: ١٦، ١٧).

"تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ". لقد سطع مجد ألوهيته الفائق المتجاوز الحد خلال حجاب جسده مغيراً مظهره بطريقة أذهلت تلاميذه وملأتهم بالإحساس بشخصه الحافل بالأسرار.

"بَيْضَاءَ جِدّاً كَالثَّلْجِ لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذَلِكَ". لقد بدا رداؤه نفسه بالغ الرقة أو شبه الأثير وتوهّج بلمعانٍ ما كان ليمكن لأي حائك لكتان أو أية مادة أخرى تُستخدم في الكساء أن يُصدر مثله. إن الكلمة التي تُرجِمَتْ إلى "قَصَّار" كانت تعني بالأصل مُلَبِّسٍ للجلد أو لجلد الحيوان، ولكن استُعملت بمعنى أوسع هنا أعلاه.

"ظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ". هاتان الشخصيتان البارزتان المشهورتان كان قد مضى عليهما قرون عديدة في الفردوس. لقد كانا يعيشان، ويدركان، ويستطيعان مخاطبة الرب والتحدث مع بعضهما البعض. لقد كانا يمثلان الناموس والأنبياء وأيضاً فئتين من المؤمنين، أولئك الذين سيموتون قبل عودة الرب وأولئك الذين سيُختطفون عندما سيحدث ذلك (يوحنا ١١: ٢٥، ٢٦).

"لنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ"، أي خيام صغيرة. لقد كان بطرس مبهوراً بنا رأى وسمع لدرجة أنه اقترح أن يكرموا الثلاثة جميعاً الذين ظهروا في مجد بأن يشيدوا لهم خياماً خاصة. لم يدرك التناقض والمفارقة في وضعه لخدام الله، وللو كانوا أعظم الخدام، على درجة واحدة مع الرب يسوع نفسه. إضافة إلى ذلك، لم يدرك الصفة العابرة المؤقتة لذلك المشهد الذي أسره. ولذلك رغب في أن يصنع ثلاثة مظال ليقدم مكان سكن دائم لكل من الثلاثة الذين كانوا يتحادثون معاً. كم كُثرٌ هم الذين، من يوم بطرس، قد فكروا بأن يقدموا شهرة وتمايزاً في المكانة لخدامه، سواء كانوا أنبياء أم قديسين أم ملائكة، ولم يعرفوا أنهم بتكريمهم لهؤلاء بتقديم هذا الشكل من الثناء والتقدير الذي يرون لأنهم يستحقون إنما يهينون المعلّم نفسه!

"لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ". كم كان من الأفضل له بكثير لو التزم الصمت! إلا أن بطرس كان ذا شخصية مفعمة بالحركة دفعته للشعور بأن عليه أن يقول شيئاً، وتكلم في مكان وزمان لا يتناسبان مع فكر الله، الذي ما كان ليريد لأحد آخر أن يشغل قلب شعبه بشكل ينتقص من المجد الذي يخص المسيح وحسب. إن ما يبدو كتقوى وتواضع غالباً ما يكون شكلاً مصقولاً من الكبرياء أو الجحود (كولوسي ٢: ١٨، ١٩).

"«هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا»". إن المسيح هو من سُرَّ الآب بأن يكرمه. إنه يريد أنّ جميع الناس يعرفونه ويطيعونه.

"لَمْ يَرَوْا أَحَداً غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ". لقد اختفى موسى وإيليا، وبقي يسوع المسيح وحده ليُعبَدَ ويُبجّل ويوقّر.

هذه الصورة الجميلة والموحية للملكوت الآتي جديرة بأن نتمحص فيها بدقة أعظم ما يمكن. تأملوا الأشخاص المختلفين هنا ولاحظوا كيف أنهم يصورون مختلف الأشخاص أو الجماعات الذين ستكون لهم مكانتهم لدى استعلان يسوع المسيح. فأولاً نرى يسوع يتجلى في مجده كمركز كل مشورة الآب. ثم لدينا الرجلان اللذان كان يتحدث إليهما عما سيكون موضوع تسبيحنا إلى الأبد، ألا وهو موته (لوقا ٩: ٣١)، الذي هو أساس كل بركتنا (رؤيا ٥: ٩). هؤلاء الرجال هم رموز، كما رأينا. كان موسى قد مات قبل زمن بعيد، ولكنه ظهر كما لو في جسده القيامي. وفي هذا يمثّلُ كل من سيموت قبل عودة المسيح، والذين سيسمعون صوته وهو نازلٌ من السماء، ويُقامون في أجساد غير منفسدة (١ كورنثوس ١٥: ٥٢). لقد اختُطِفَ إيليا إلى السماء دون أن يمر بالموت، وهكذا فهو يمثل كل "الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ" (١ تسا ٤: ١٥)، الذين لن يروا الموت أبداً، بل سيتغيرون في لحظة ويُختطفون للقاء الرب في الهواء. عند اعتلانه في المجد كل هؤلاء سيظهرون معه. إنهم يشكلون الجانب السماوي من الملكوت. سيكون هناك على الأرض قديسون في أجسادهم الطبيعية. وهذا ما يمثله الرسل الثلاثة الذين يعاينون المجد، ولكنهم هم أنفسهم لا يزالون بالجسد والدم. لقد كانوا جميعاً من بني إسرائيل، وهؤلاء سيكونون أول من يدخل الملكوت عند تأسيسه على الأرض. والأمم الذين تمزقوا وانشقوا بقوة الشيطان سوف يجدون عندئذ الانعتاق، وهكذا يدخلون إلى عهد السلام والبر. هذا ما يوحي به الحدث الذي جرى في أسفل سفح الجبل.

Pages