November 2014

محاضرة ٤

الإنجيل كما كُرِزَ به لليهود والأمميين

(غل ٢:‏ ١-‏ ١٠)

"ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذاً مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً. وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ بِالاِنْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً. لَكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ. وَلَكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَساً لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا -‏ اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ. وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ، مَهْمَا كَانُوا، لاَ فَرْقَ عِنْدِي:‏ اللهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ -‏ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ. بَلْ بِالْعَكْسِ، إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ. فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ. فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا، الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ. غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهَذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ".

في هذا الأصحاح وهو الثاني من رسالة غلاطية، يخبرنا بولس عن زيارةٍ ثانية إلى أورشليم، وهي في غاية الأهمية، ويخبرنا سفر أعمال الرسل (ص ١٥) عنها. "ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذاً مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً". كان هذا بعد أن جاء أشخاصٌ معيّنون من طرف يعقوب إلى أنطاكية، حيث كان الرسول يعملُ جاهداً، وأكّدوا على الأمور التي أتى بولس على ذكرها في هذه الرسالة:‏ بأن على المؤمنين من الأمميين أن يخضعوا للشعائر والطقوس اليهودية، وأن عليهم أن يختتنوا، وأن يحفظوا ناموس موسى، وإلا فلن يخلصوا. عندما احتك بولس بهؤلاء، انتظر إلى أن يأتيه وحيٌّ معينٌ يطلب منه أن يذهب إلى أورشليم. فيقول:‏ "صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ". لم يذهب لوحده؛ بل أخذ برنابا معه.

كان برنابا قد جاء من أورشليم ليجده في طرسوس، ولكي يقنعه بأن يذهب إلى أنطاكية ويساعد في خدمة الكرازة هناك. في البداية كان برنابا هو القائد، وكان بولس يتبعه. ولكن مع مرور الوقت تبادل الرسولان الأدوار، فتراجع برنابا من الواجهة وقفز بولس إلى الأمام. مع برنابا كانت الحال أن:‏ "يجب أن يزداد هو، وأما أنا فأنقص". ونقرأ في مكان آخر عنه أنه:‏ "كَانَ رَجُلاً صَالِحاً وَمُمْتَلِئاً مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالإِيمَانِ" (أع ١١:‏ ٢٤). مثل هكذا رجل يمكن أن يتقبل رؤية أحد ما آخر يُكَرَّم بينما هو يُنحّى. وهكذا قفز برنابا إلى الخلف وتقدم بولس إلى الواجهة. ثم يقول بولس:‏ "آخِذاً مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً". لماذا يذكر هذا؟ ذلك لأنها كانت حالة اختبار. فهؤلاء الأخوة المزيفون الذين انحدروا إلى غلاطية كانوا يصرُّون على أنه كان يحدث في أورشليم واليهودية أن ما من أحد يمكن أن يتغاضى عن فكرة أن يخلص أممي ما لم يقبل علامة العهد الإبراهيمي ويُختتن. ولكن بولس يقول:‏ "أَخَذْتُ مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً". وكان هذا أمميّاً لم يكن قد خضع لهذا الطقس أو الشريعة، ولم يقترح بولس أن يفعل ذلك، ولذلك فقد أخذه إلى أورشليم، لأنها كانت مركز قيادة الشرائع.

"صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ بِالاِنْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً". عندما نرجع إلى (أع ١٥) نجد أن بولس قد دعا جميع الرسل الذين صادف وجودهم في أورشليم، يعقوب، صفا، ويوحنا، مع شيوخ الكنيسة هناك، وأخبره بقصة كرازته، ونشاطاته. ذكر لهم الخطوط العامة لفحوى رسالة الإنجيل التي كان يحملها إلى الأمميين. وإذا استمعوا إليه فقد قبلوه كواحد منهم في إعلان نفس الإنجيل الذي كانوا يكرزون به، رغم أن ذلك الإنجيل كان أكمل وأغنى من ذاك الذي حصلوا عليه، إذ كانت هناك بعض أشياء محددة أُعلنت لبولس ولم تُكشف لهم.

قبل عدة سنوات، اضطر الله ليعطي بطرس إعلاناً خاصاً لكي يدخل إلى ذلك السر العجيب، أعني به أن اليهود والأمميين عندما يخلصون يصبحون جسداً واحداً في المسيح. إن بطرس لا يستخدم أبداً التعبير "الجسد" إلا أنه يطرح نفس الفكرة. إن البركة لليهود والأمميين كانت على أساس النعمة وكشف الله ذلك له على سطح البيت في يافا، ولكنه فعل ذلك "بِالاِنْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ". عندما رأى ملاءة نازلةً عليه، "وَكَانَ فِيهَا كُلُّ دَوَابِّ الأَرْضِ وَالْوُحُوشِ وَالزَّحَّافَاتِ وَطُيُورِ السَّمَاءِ". وصوت من السماء قال له:‏ "«قُمْ يَا بُطْرُسُ اذْبَحْ وَكُلْ»". إلا أن بولس، كيهودي صالح، قال:‏ "«كَلاَّ يَا رَبُّ لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئاً دَنِساً أَوْ نَجِساً»". فقال له الله:‏ "«مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!»" (أع ١٠:‏ ١٢-‏ ١٥). وبذلك كان يشير إلى تقديس الأمميين. هذا ما أهّل بطرس للخدمة في بيت كورنيليوس، حيث كرز بالمسيح وفتح باب الملكوت أمام الأمميين، كما فعل قبل فترة عندما استخدمه الله ليفتح هذا الباب لليهود في أورشليم. تحدث بولس وبرنابا إلى الأخوة بحرية، موضحين ما فعله الله، وبعد كثير من الجدال والنقاش، نسب ما فعله باسم الله للنعمة، واحتكم يعقوب للكتاب المقدس لاتخاذ قرار في المسألة المتعلقة بالأمميين. لقد كانوا على توافق سار بهيج. فبولس، كما لاحظنا، كان لديه كشف أكمل وأوضح مما أُعطي لبطرس، ولكن كان ذلك نفس الإنجيل بالأساس، ولكي يُظهر أنه ليست هناك مثل هكذا فكرة في ذهنهم بأن يُخضعوا الأمميين إلى شرائع وطقوس تشريعية، نجده يقول:‏ "لَكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ". ياله من جواب عظيم بالنسبة لسكان اليهودية الذين كانوا يضللون هؤلاء الغلاطيين ويبعدهم عن بساطة نعمة الله كانوا يقولون لهم:‏ "الرجل غير المختتن لا يمكن اعتباره عضواً في عائلة الله". بينما بولس يقول:‏ "لقد أخذت تيطس معي، وناقشت الأمر مع الشيوخ في أورشليم، ولم يطلبوا أبداً إخضاع تيطس للختان، لقد قُبِلَ مسيحياً كما هو". ياله من جواب لأولئك الذين كانوا ينتقدونه ويضللون الذين اهتدوا على يده.

"وَلَكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَساً لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا -‏ اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ". من يقصد بكلامه هذا؟ إنه يشير بذلك إلى أولئك الذين خرجوا من اليهودية والذين تسللوا خفية إلى جماعة المسيحيين في غلاطية. فيقول بولس:‏ "لم نخضع لهم ولو حتى بدافع السلام، لأننا بذلك إنما نستل منكم إرثكم في المسيح الذي اشْتُرِيَ بالدم. وهكذا فبسبب محبتنا لكم وإدراكنا لقيمة نعمة الله، فقد رفضنا أن نذعن لهؤلاء الرجال رغم حرصنا على أساس المحبة المسيحية. لم نخضع لهم أبداً".

ومن ثم في الآيات القليلة التالية (٦-‏ ١٠) يخبرنا قصة قصيرة عن ترتيب قام به إبان وجوده في أورشليم يتعلق بتقسيم العمل على نحو متكامل، هذا الترتيب الذي جعل حياة الشركة المسيحية كاملة وفي انسجام بهيج. "أما عن أولئك الذين كانوا معتبرين في الظاهر، (أياً كانوا، فلا فرق بالنسبة لي:‏ إن الله لا يهتم بشخص أي إنسان) فلم يشيروا علي بشيء خلال الاجتماع". كما ترون، لقد أمكنه أن يتحدث على هذا النحو لأنه تلقى إعلانه مباشرة من السماء فالمسيح القائم والممجد هو الذي ظهر له على طريق دمشق، والرب المبارك نفسه هو الذي كان قد علمه خلال تلك الأشهر التي أمضاها في العربية، حيث انكفأ واعتكف ليتفكرَّ في الأمور ويحصل على فهم أوضح للرسالة الرائعة التي كان عليه أن ينقلها إلى العالم الأمميّ. لذلك ورغم أنه قد احتك مع الرسل والشيوخ الذين كانوا قد خدموا سنوات قبل أن يعرف المسيح، لم يقف أمامهم في خشية. لعلهم كانوا قادة متميزين، لكن الله لا يعتمد على شخص الإنسان، فكانوا عبارة عن أخوة في المسيح، كان عليهم أن يتعلموا على يد الله، وهذا ما فعله. ولم يسألهم أن يمنحوه أي سلطة أو أن يعطوه أي كشف خاص للحقيقة التي كان عليه أن يعلنها للأمميين، ومع ذلك فقد كان مسروراً لأن يجلس معهم ويحاورهم على أساس مشترك وأن يسرد عليهم الأمور على نحو أخوي، وقالوا:‏ "بالتأكيد إننا ندرك حقيقة أن الله قد أقامك لخدمة أو رسالة خاصة، ولنا معك في ذلك شركة و زمالة".

"بَلْ بِالْعَكْسِ، إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ". لاحِظْ أن بولس يقول "إنجيل الغرلة"، وذلك من الكلمة اليونانية التي تعني "الإنجيل الذي للغرلة". فالمعنى أنهم رأوا أن الله قد منحه كشفاً خاصاً، وفهماً خاصاً للإنجيل فيما يخص الأمميين. لقد أهّله الرب عن طريق تدريب مبكر، ثم عن طريق إنارته بعد اهتدائه، ليقوم بعملٍ بين الأمميين لم يكونوا هم مؤهلين أو معدين للقيام به. من جهة أخرى، أهَّلَ اللهُ بطرسَ ليقوم بعمل البشارة وسط اليهود واستخدمه بطريقة لافتة للانتباه في يوم العنصرة، وعبر السنين منذ أن وضع الله ختمه مفوضاً بطرس بالعمل الكرازي لبني إسرائيل. وهكذا تبادلوا الحديث وقالوا:‏ "من الواضح يا بولس أن الله قد اختصك بنقل الرسالة إلى الأمميين كما بطرس إلى اليهود". فيقول:‏ "فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ".

"وإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا، الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ (ومن الواضح أنهم كانوا القادة)، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ". أليس من المستغرب أن يرى الناس في هذه الكلمات الفكرة المذهلة التي يعرضها الرسول بولس هنا فيقول بأنهم قد تكلموا معاً فوجودوا أن هناك إنجيلين هنا؟ ألا وهما الإنجيل الذي كان بطرس وبقية الرسل الذين اختارهم الرب يكرزون به، وهو إنجيل الختان، وذلك الإنجيل الذي كان بولس وبرنابا يناديان به، وهو إنجيل الغرلة (الأمميين). وهكذا كانوا سيمضون في الكرازة بالإنجيل الأول لليهود، وكان بولس وبرنابا ليكرزون بإنجيل آخر مختلف كلياً للأمميين. ياللجهل بالمخطط الإلهي عند أولئك الذين يظنون ذلك أو يصلون إلى هذا الاستنتاج. لقد كان بولس قد أخبرهم لتوه:‏ "إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»" (١:‏ ٨). لقد كان بطرس بين الغلاطيين، يعظهم بنفس الإنجيل الذي كان يكرز به في كل مكان آخر. أفكان ملعوناً (أناثيما)؟ إن الملائكة سيعلنون الإنجيل الأبدي في ذلك اليوم الموعود. فهل سيكونون تحت اللعنة؟ بالتأكيد لا. في الواقع ليس هناك إلا إنجيل واحد، رغم أنه يأخذ أشكالاً مختلفة في أوقات مختلفة. إنجيل بطرس كان يتحدث عن خلاص كامل مجاني أبدي بموت وقيامة وحياة ربنا يسوع المسيح التي لا تتبدل، وإنجيل بولس كان يتمحور حول نفس الموضوع تماماً. دعونا نعود قليلاً ونرى شيئاً يتعلق بإنجيل بطرس ونقارنه بذاك الذي لبولس.

في يوم العنصرة نسمع بطرس يعظ. فيقول عن ربنا يسوع المسيح أن داود قد شهد له. "سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً. فَيَسُوعُ هَذَا أَقَامَهُ اللهُ وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذَلِكَ. وَإِذِ ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ وَأَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِنَ الآبِ سَكَبَ هَذَا الَّذِي أَنْتُمُ الآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ. ... لْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ رَبّاً وَمَسِيحاً" (أع ٢:‏ ٣١-‏ ٣٣، ٣٦). هل يبدو أن في هذا ما يخالف الإنجيل الذي كان بولس الرسول يكرز به؟ طبعاً لا. إنها نفس الرسالة عن المخلص المصلوب، والمقام، والمرفوع الممجد.

ما كان تأثير هذا الوعظ؟ تذكروا أن هذا كان هو الإنجيل الذي كرز به بطرس. لقد هتف الناس:‏ "أيها الأخوة، ما الذي علينا أن نفعله؟" لم يصرخوا مثل السجان في فيليبي أن:‏ "«يَا سَيِّدَيَّ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟" (أع ١٦:‏ ٣٠)، بل "أيها الرجال الأخوة، ما الذي علينا أن نفعله؟" لكأنهم كانوا يقولون:‏ "يا بطرس إننا ما برحنا منذ سنين ننتظر مجيء المسيّا، وكنا نؤمن أنه هو الذي سيرفع خطايانا ويؤتينا بركة أبدية، وندرك الآن مما تقوله أنه قد جاء وقد صلب وأنه صعد إلى يمين الله. فما الذي ينبغي علينا أن نفعله؟ أليس من أمل لدينا؟ أميئوس منا؟ لقد رفضنا مسيّا الذي كنا ننتظره، فما الذي ينبغي علينا أن نفعله؟" فيقول بطرس:‏ "«تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. لأَنَّ الْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ الَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ الرَّبُّ إِلَهُنَا»" (أع ٢:‏ ٣٨، ٣٩). إن بولس يقول:‏ "إذا آمنتم بالرسالة التي كرزت بها إليكم بأن هناك مغفرة للخطايا، وأن لكم خلاص فلا تحتاجون لأن تقعوا تحت الدينونة عندما تخضع الأمم لها. إنما عليكم أن تتوبوا". وماذا تعنيه التوبة؟ إنها تغيير كامل في الموقف. بمعنى آخر، غيّروا فكركم، غيروا موقفكم، واعتمدوا، مقرّين بأنكم تقتبلون المخلص الذي كان الشعب قد رفضه، وإذ تفعلون ذلك، فإنكم تقفون على أرضية جديدةكلياً. يالها من رسالة ملائمة لأولئك المؤمنين اليهود! في ذلك اليوم ثلاثة آلاف منهم أخذوا قرارهم، وبمعموديتهم فصلوا أنفسهم عن الشعب الذي رفض المسيح، وانتقلوا إلى جانب يسوع، وعُرفوا بأنهم صاروا من بين أولاد الله.

دعونا نصغي إلى بطرس يقول من جديد:‏ "فَتُوبُوا وَارْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ الْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ. وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ. .... إِلَيْكُمْ أَوَّلاً إِذْ أَقَامَ اللهُ فَتَاهُ يَسُوعَ أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ" (أع ٣:‏ ١٩-‏ ٢١، ٢٦). بماذا يكرز بطرس هنا؟ إنه نفس الإنجيل الذي كان بولس قد كرز به فيما بعد. إنه يقول لهم أن بني إسرائيل قد رفضوا المسيح ولذلك فإنهم تحت الدينونة. ويالها من دينونة رهيبة قد وقع تحتها ذلك الشعب! ولكن، على حدّ قوله، إن كنت تريد أن تتحرر من تلك الدينونة، تُبْ، وغيِّر موقفك، وانعطف ثانية، واقبل المسيح الذي رفضه الشعب، وهكذا تكون على استعداد لاستقباله عندما يعود ثانية. لم يكن بولس قد أعطاهم بعدُ إعلان الاختطاف، ولكنه يقول لهم أنه عندما يظهر المسيح سيكونون على استعداد لاستقباله كأفراد، مع أن الشعب ينبغي عليه أن يعرف قوة دينونته. "فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِذَاكَ وَقَفَ هَذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحاً. هَذَا هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي احْتَقَرْتُمُوهُ أَيُّهَا الْبَنَّاؤُونَ الَّذِي صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع ٤:‏ ١٠-‏ ١٢). هل في هذا ما يخالف إنجيل بولس؟ لا، بل إنه نفسه تماماً، ولكن بطرس يقدمه للشعب اليهودي، الذين كان لديهم التعليم منذ قرون، بطريقة تجعلهم يفهمون على نحو كامل.

والآن تسمعون نفس الشخص يكرز في بيت كورنيليوس (أعمال ١٠). إنه يروي حكاية حياة وموت وقيامة يسوع. "يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ. وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. الَّذِي أَيْضاً قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. هَذَا أَقَامَهُ اللهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَأَعْطَى أَنْ يَصِيرَ ظَاهِراً لَيْسَ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ بَلْ لِشُهُودٍ سَبَقَ اللهُ فَانْتَخَبَهُمْ. لَنَا نَحْنُ الَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ الأَمْوَاتِ. وَأَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ لِلشَّعْبِ وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعَيَّنُ مِنَ اللهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ. لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أع ١٠:‏ ٣٨-‏ ٤٣). هل هذا إنجيل مختلف عما يجب أن نكرز به اليوم؟ هل هو إنجيل مختلف عن ذاك الذي أعلنه الرسول بولس؟ بالتأكيد لا. إنه نفس الإنجيل، إنجيل نعمة الله والخلاص فقط بالعمل الذي أتمه ربنا يسوع المسيح.

دعونا الآن ننعطف إلى رسالة بطرس التي يوجهها إلى المهتدين من اليهود، ألا وهي إنجيل الختان:‏ "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ" (١ بطرس ١:‏ ١٨-‏ ٢٠). هذا هو الإنجيل الذي كرز به بطرس للمختونين. قارنوا به وبين الإنجيل الذي كرز به بولس لليهود و الأمميين:‏ "وَنَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِالْمَوْعِدِ الَّذِي صَارَ لآبَائِنَا إِنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ هَذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَيْضاً فِي الْمَزْمُورِ الثَّانِي:‏ أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. إِنَّهُ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ غَيْرَ عَتِيدٍ أَنْ يَعُودَ أَيْضاً إِلَى فَسَادٍ فَهَكَذَا قَالَ:‏ إِنِّي سَأُعْطِيكُمْ مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ. وَلِذَلِكَ قَالَ أَيْضاً فِي مَزْمُورٍ آخَرَ:‏ لَنْ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً. لأَنَّ دَاوُدَ بَعْدَ مَا خَدَمَ جِيلَهُ بِمَشُورَةِ اللهِ رَقَدَ وَانْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ وَرَأَى فَسَاداً. وَأَمَّا الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فَلَمْ يَرَ فَسَاداً. فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ أَنَّهُ بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ الْخَطَايَا وَبِهَذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى" (أع ١٣:‏ ٣٢-‏ ٣٩). هل في هذا خلاف عما كان بطرس يكرز به؟ ليس من خلاف بينهما، إنما هو كشف أكثر اكتمالاً. لا نعرف أبداً أن بطرس قد كرز بالتبرير بل إنما بالصفح والغفران. بولس هو من أضاف التبرير. فعندما يغفر الله بيسوع القائم والممجد، لا يغفر فقط بل إنما يبرر من الإثم. من غير الممكن أن يحدث أن قاضياً دنيوياً يمكن بآن معاً أن يغفر وأن يبرر رجلاً. تخيلوا رجلاً متهماً بجريمة يحاكم عليها في المحكمة، وبعد تقديم الإثبات أو الدليل القاطع على جريمته يعلن القاضي أنه غير مذنب ويطلق سراحه. ومن الطريف أن يقول له أحد ما وهو يغادر مبنى المحكمة:‏ "أريد أن أهنئك، لقد كان جميلاً من القاضي أن يغفر لك".

"هو لم يغفر لي. هو لم يسامحني. أنا مبرّرٌ. ليس من شيءٍ ليُغفَر لي من أجله".

لا يمكنك أن تبرر رجلاً إن كان قد قام بعمل شرير، ولكن يمكنك أن تغفر له. أما الله فهو لا يغفر فحسب بل يبرّر الفجّار، لأنه يربط المؤمن بالمسيح وقد جعلنا "مقبولين في المحبوب" (أفسس ١:‏ ٦). إننا نقف أمام الله مبرأين من كل تهمة وكأننا لم نرتكب إثماً أبداً. إن كلتا الرسالتين واحدة في المحتوى. ولكن رسالة بولس أكثر اكتمالاً نوعاً ما من تلك التي لبطرس. فالأول كانت لديه رسالة وقد كيّفها بشكل خاص لليهود والثاني للأمميين، وهكذا تمايز عملهما عن بعض بشكل واضح. لدينا ما يشبه ذلك في حقل العمل التبشيري اليوم. فرؤساء المجالس يجتمعون ويقول أحدهم:‏ "لنفترض أن مجموعة ما منكم تعمل في هذه المنطقة ومجموعة أخرى تعمل في تلك. فهل تقولون أن هناك أربعة أو خمسة أناجيل مختلفة؟" لا، أبداً على الإطلاق. إنه نفس الإنجيل. فقد يذهب أحدهم إلى نيجيريا، والآخر إلى أوغندا، وآخر إلى تنزانيا، وآخرون إلى أصقاع أخرى، إلا أن لهم جميعاً نفس الرسالة المجيدة. وهي بسيطة واحدة وسهلة، ما لم يحاول المرء أن يقرأ تفاصيل وأشياء لم يكن الرسل يفكرون بها أو تخطر ببالهم أو يقصدونها. لم تتح لبولس أو بطرس أبداً فرصة دراسة المناهج الحديثة لبعض المتطرفين القائلين بالتدبير الإلهي، وهكذا لم تخطر لهم الأفكار التي يحاول بعض الناس دسّها إلى المسيحية اليوم.

الآية ١٠ ممتعة:‏ "غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهَذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ". إني أتساءل ألم يبتسم بولس عندما سمع ذلك. لقد قالوا:‏ "اذهب أنت إلى الأمميين يابولس ولكن لا تنسى أن هناك الكثير من القديسين الفقراء في اليهودية، ورغم أنك لا تكرز وسطهم، فأرسل لنا  برزمة أو مبلغاً من حين إلى آخر". لقد فعل، وبذلك أظهر أنهم كانوا جسداً واحداً وروحاً واحدة، كما أنهم دُعيوا برجاء واحد لدعوتهم.

محاضرة ٥

ارتداد بطرس في أنطاكية

 (غل ٢:‏ ١١-‏ ٢١)

"وَلَكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً. لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفاً مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ. وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضاً، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ! لَكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ:‏ «إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيّاً لاَ يَهُودِيّاً، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟» نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً، إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا. فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً خُطَاةً، أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا!   فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضاً هَذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّياً. لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلَّهِ. مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذاً مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ".

هذا المقطع يوحي بعدد من الاعتبارات الشيّقة. فبادىء ذي بدء، ننذهل إذ نجد بولس وبطرس وكلاهما رجلان موحى لهما من الله، وكلاهما مفوضان من الرب يسوع المسيح ليذهبوا إلى العالم ويعلنوا إنجيله، وكلاهما رسلٌ، ننذهل إذ نجدهما الآن يختلفان بحدة أحدهما عن الآخر. وهذا سيفترض بالتأكيد أن الرسول بطرس الذي هو على ضلال، ليس الصخرة التي تُبنى عليها الكنيسة. فيا لها من صخرة متزعزعة إن كان كذلك، فها هنا نفس الرجل الذي أعطاه الآب ذلك الإعلان الرائع بأن المسيح هو ابن الله الحي، فالمفارقة هي أنه يسلك في أنطاكية بطريقة تثير الشك بإنجيل نعمة الله. إن كان بطرس هو أول بابا فهو بابا غير معصوم وعرضة للخطأ. إلا أننا نجده نفسه يقول أنه لم يكن يتمتع بهكذا مكانة، إذ يخبرنا في الإصحاح الخامس من رسالته الأولى بأنه كان مثله مثل بقية رفاقه الشيوخ في كنيسة الله وليس في موضع سلطة أو ترأس على سلطة الكنيسة المشيخية والشيوخ في كنيسة الله. إضافة إلى ذلك فإن قراءة الكتاب المقدس تظهر لنا الأهمية الكبرى لأن نكون منتبهين إلى ألا نساوم بأي شكل على حقيقة الله الثمينة.

وقد رأينا لتوِّنا كم كانت تلك الحقيقة هامة في عيني الرسول بولس عندما أمكنه أن يدعو بدينونة ملائمة مستحقة على الرجل، أو حتى على الملاك، الذي يبشر بأي إنجيل آخر يختلف عن الإعلان الإلهي الذي نُقل إليه. ونعلم أن ذلك الموقف لم يكن بسبب تعكر مزاجه الذي جعله يكتب على هذا النحو، بل لأنه أدرك كم هو مهمٌ أن يحفظ "الإيمان الذي سُلِّم (لمرةٍ) للقديسين" (يهوذا ٣). هذا ما يشرح موقفه هنا بالنسبة لبطرس، أخيه الرسول. لقد تم الاتفاق، كما رأينا، في المجمع الكبير في أورشليم أن يذهب بطرس إلى اليهود وأن ينطلق بولس إلى الأمميين، وإذ أجريت مقارنة بين رسالتيهما وجد المجتمعون أنهما تتناقضان مع بعضهما، وأن كلتاهما تُعلِّم وتقول بأن الخلاص كان بالإيمان وحده بالرب يسوع المسيح، وأنهما كلتاهما كانتا تدركان عبث أو لا جدوى أعمال الناموس كوسيلة لتحقيق البر عند الإنسان الخاطئ.

كان بولس وبرنابا قد توجها إلى أنطاكية وعملا فيها قبل وقت طويل في حين أن بطرس كان قد جاء من أجل الزيارة، وأنطاكية هذه مدينة أممية كان فيها كنيسة كبيرة قوامها بشكل أساسي مؤمنون أمميون. أعتقد أن بطرس قد لاقى ترحاباً كبيراً بذراعين مفتوحتين، ولا بد أنه كان أمراً مفرحاً لبولس الرسول أن يرحّب ببطرس وأن يكون شريكاً له في الكرازة بكلمة الله لأولئك الناس في أنطاكية. في البداية أمضيا وقتاً سعيداً تماماً. فكانا يذهبان معاً ويجولان معاً على بيوت المؤمنين ويجالسونهم على نفس الموائد مع المسيحيين الأمميين. كان بطرس فيما مضى صارماً جداً كيهودي حتى أنه ما كان ليفكر أبداً بأن يدخل بيت أي أممي أو يخالطه أو يقيم معه أي رفقة أو صحبة. وكم كان أمراً ساراً أن ترى هؤلاء المؤمنين المختلفين، الذين كان بعضهم يهودي الأصل والآخر أممي، أعضاء الآن في الجسد الواحد، ألا وهو جسد المسيح، ويتمتعون بالرفقة معاً ليس فقط إلى طاولة الرب، بل أيضاً في منازلهم. فعندما يتحدث بولس عن تناول الطعام مع الأمميين أفترض أنه يشير إلى جلوسه إلى موائدهم حيث كانوا يستمتعون بالرفقة المسيحية الجميلة ويتبادلان أطراف الحديث في أمور الله في حين يتمتعون بالأمور الحسنة التي قدمها الرب لهم. ولكن لسوء الحظ حدث شيء أعاق وأعطب تلك الشركة المقدسة.

فقد انحدر بعض الأخوة من أورشليم، الذين كانوا من الفريسيين المتزمتين ورغم أنهم دعوا أنفسهم مسيحيين (ولعلهم كانوا كذلك) إلا أنهم ما كانوا قد تحرروا أبداً من الشرائع أو الناموسية وأدرك بطرس أن سمعته كانت على المحك. فإن وجدوه يأكل مع مؤمنين أمميين وعادوا إلى أورشليم وأخبروا عن ذلك، فهذا قد يؤثر على موقفه وموقعه هناك، ولذلك، وبدافع الحرص والحصافة، حسبما ظنَّ، انسحب من بينهم وما عاد يشاركهم الطعام، فلو اختار أن لا يأكل مع أمميين، فهل كان من الممكن أن يقول أحد أن موقفه هذا خطأ؟ وإذا أخذ بالاعتبار آراء هؤلاء الأخوة المجحفة أفلا يكون بذلك قد أبدى قدراً من الكياسة المسيحية؟ لقد كان يشعر بحرية القيام بهذه الأعمال ما لم تزعج هؤلاء الآخرين. أما بولس فقد كان يرى ما هو أعمق من ذلك. لقد رأى أن حريتنا في المسيح متوقفة فعلياً على السؤال فيما إذا كان على المرء أن يجلس إلى مائدة الطعام مع هؤلاء الذين خرجوا من أمميتهم إلى اسم ربنا يسوع المسيح، وهنا يكمن الجدال أو نقطة الخلاف.

يقول بولس:‏ "لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً". ليس هناك خنوع أو تبعية في موقف بولس هنا وليس هناك تمييز لبطرس كرئيس للكنيسة. لقد كان بولس يدرك أن سلطة إلهية قد عُهدت إليه وأنه كانت له الحرية في أن يشك في تصرف بطرس نفسه رغم أنه كان أحد الاثني عشر الأساسيين. "لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ (الذي كان متزعماً في أورشليم) كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفاً مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ". نقرأ في العهد القديم:‏ "خَشْيَةُ الإِنْسَانِ تَضَعُ شَرَكاً". وهنا نتعجب بانذهال إذ نجد الرسول بولس، وبعد سنوات من العنصرة خائفاً من وجه الإنسان. لطالما قيل أن بطرس كان قبل العنصرة جباناً، ولكن عندما تلقى معمودية العنصرة تغير كل شيء. لقد وقف أمام الناس في أورشليم وجاهر بالحقيقة بجرأة قائلاً:‏ "لقد قتلتم أمير الحياة"، فذاك الذي كان قد أنكر الرب بسبب خوفه من الناس نجده الآن يقول بجرأة وصراحة أن:‏ "وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ" (أع ٣:‏ ١٤). لقد وصل البعض إلى الاستنتاج بأنه إذا تلقى إنسان معمودية العنصرة فإنه لن يكون جباناً أبداً، وأيضاً أن كل الخطيئة الفطرية تحترق عندئذ بنار الله المنقية المطهرة. ولكننا لا نجد مثل هذه في كلمة الله. صحيح أنه تحت تأثير معمودية العنصرة لم يَخشَ بطرس من وجه إنسان، ولكنه الآن بدأ بالزلل. إن حقيقة حصول المرء على بركة روحية كبيرة في أي وقت لا تشكل أبداً ضمانة بأنه سوف لن يخاف من جديد.

والآن نجد بطرس منزعجاً بنفس التهجم الذي جعله يعاني مشقة من قبل، خائفاً مما سيقوله الآخرون عنه، وعندما رأى هؤلاء المشرعين نسي كل شيء عن العنصرة وكل ما يتعلق بالبركة التي أتت وكل الإعلان الرائع الذي كُشف له عندما نزلت الملاءة من السماء وسمع الرب يقول:‏ "«مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!»" (أع ١٠:‏ ١٥). لقد نسيَ كيف أنه هو نفسه قد وقف في بيت كورنيليوس وقال:‏ "أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ كَيْفَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى رَجُلٍ يَهُودِيٍّ أَنْ يَلْتَصِقَ بِأَحَدٍ أَجْنَبِيٍّ أَوْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَرَانِي اللهُ أَنْ لاَ أَقُولَ عَنْ إِنْسَانٍ مَا إِنَّهُ دَنِسٌ أَوْ نَجِسٌ" (أع ١٠:‏ ٢٨). ونسيَ أنه هو من وقف في مجمع أورشليم أمام الجميع، وبعد سرده لما حدث خلال زيارة كورنيليوس، هتف قائلاً:‏ "لَكِنْ بِنِعْمَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ نُؤْمِنُ (نحن اليهود بالطبيعة) أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضاً" (أع ١٥:‏ ١١). لقد كان هذا إعلاناً رائعاً. لعلنا كنا نتوقعه أن يقول:‏ "إننا نؤمن أنه بنعمة الرب يسوع المسيح سيخلصون، مثلنا تماماً"، أي "هؤلاء الأمميون قد يخلصون بالنعمة كما أننا نحن اليهود نخلص بالنعمة". ولكن لا. لقد كان لديه إعلان رائع عن المعنى الحقيقي للعنصرة وهذا التدبير المجيد لنعمة الله. ما الذي جعله ينسى كل هذا؟ إنها النظرات العابسة المقطبة التي تبدت عن أولئك الرجال الذين من أورشليم. لقد كانوا قد سمعوا أنه كان يمارس حرية ما كانوا يؤمنون بها، وجاؤوا ليراقبوه. ففكر أنه لا ينبغي عليه أن يدخل إلى بيت الأمميين ليأكل معهم في الفترة التي يكون فيها أولئك الرجال في الجوار. وهكذا وبدون أن يفكر في أن هذا سيزعج أولئك المسيحيين الأمميين البسطاء الذين كانوا قد عرفوا الرب منذ برهة قصيرة وحسب، ولكي يُرضي هؤلاء المشرعين الذين من أورشليم انسحب من مجالس الأمميين ومن تلك الرفقة الحميمة التي كان يعيشها معهم. لم يكن وحده من اتخذ هذا الموقف بل تبعه آخرون أيضاً متأثرون به. "رَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضاً". لقد بدا وكأنه ستكون هناك كنيستان في أنطاكية عما قريب، إحداهما لليهود والأخرى للأمميين، وكأن حجاب الحائط المتوسط لم يتمزق.

"رَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضاً" ما أثار سخط بولس هو رفيقه الحميم، وشريكه في العمل الرسولي، والرجل الذي فهم جيداً من البداية العمل الذي ينبغي عليه أن يقوم به، أعني به برنابا:‏ "حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ". كم من معانٍ مؤثرة تحمل هذه الكلمات! فبرنابا الذي كان يعرفه حق المعرفة، برنابا الذي كان قد رأى كم أن الله القدير قد عمل من خلاله وسط الأمميين والذي عرف أن كل ذلك النظام التشريعي الناموسي القديم قد سقط إلى غير رجعة، برنابا هذا قد انقاد إلى ريائهم.

"الرياء" كلمة مناسبة نوعاً ما. إني أتساءل عن السبب الذي لم يترجم فيه المترجمون الكلمة اليونانية الأصلية كما هي كما اعتادوا أن يفعلوا في أماكن أخرى في الكتاب المقدس. لعلهم لم يفضلوا استخدام الكلمة الأخرى المرتبطة بشخص مثل برنابا. إن الكلمة هي "النفاق":‏ "لقد صار اليهود الآخرون منافقين مثله، وذلك على قدر ما كان برنابا يسايرهم في نفاقهم. أعتقد ان بطرس كان ليقول:‏ "إننا نقوم بذلك لمجد الله"، ولكن لم يكن الحال هكذا أبدا ً، لقد كان نفاقاً صريحاً وبكل معنى الكلمة في نظر الله. لقد كان بولس يدرك ماهية الأمر، فقال:‏ "لَكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ...". لم يكن ذلك لقاءً سرياً، ولم يكن هناك اغتياب. فما كان ينبغي عليه ان يقوله كان يقوله بصراحة وعلانية، ولم يبدُ أنه كان يراعي مشاعر بطرس. علينا أن نتذكر دائماً القول:‏ "إنْذَاراً تُنْذِرُ صَاحِبَكَ وَلا تَحْمِلْ لأجْلِهِ خَطِيَّةً" (لاويين ١٩:‏ ١٧). وبعد بضعة سنوات من ذلك كتب (بولس) إلى تلميذه تيموثاوس:‏ "اَلَّذِينَ يُخْطِئُونَ وَبِّخْهُمْ أَمَامَ الْجَمِيعِ لِكَيْ يَكُونَ عِنْدَ الْبَاقِينَ خَوْفٌ" (١ تيموثاوس ٥:‏ ٢٠). هناك أشياء كثيرة ما كان يمكن الاستهانة بها. ما كان من الممكن أن يجلس بولس مع بطرس في ركن ناءٍ وأن يسويا المسألة بهدوء، إذا كانت فضيحة عامة علنية، واستدعت طرح مسألة حرية الأمميين في المسيح ولذلك كان يجب تسوية المسألة علانية. قد يتخيل المرء مشاعر بطرس، وهو رجل الله النبيل، ومع ذلك فقد وقع في هذا الشرك. في البداية أجفل وهوينظر إلى بولس، وأتخيل بعد ذلك أنه أدرك، وبرأس مطأطأ وقد احمر وجهه خجلاً، كم كان مذنباً ومخطئاً عندما سعى إلى إرضاء هؤلاء التشريعيين الذين كانوا ليَسلبون الكنيسة من إنجيل النعمة الرائع. "«إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيّاً لاَ يَهُودِيّاً، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟»" لقد تحدث بشكل واضح مباشر وصريح. وأعتقد أن أولئك اليهود قد رفعوا أبصارهم وقالوا:‏ "ما هذا؟ لقد كان يعيش وفق أسلوب الأمميين أليس كذلك؟" نعم، لا بد وأنهم عرفوا ذلك، إذ كان له الحق في أن يفعل ذلك. لقد أعطى الله كل الناس هذه الحرية وكان بطرس يمارسها، لكنه الآن كان يجر نفسه إلى العبودية. كان بطرس قد قال:‏ " إننا نعلم نحن اليهود أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، ولكن علينا أن نخلص بالنعمة كما الأمميين، فلماذا نصر إذاً على أن نضع هؤلاء الأمميين تحت نير الشكلية والشعائر اليهودية؟"

ويتابع بولس كلامه قائلاً:‏ "نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً، إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا". لقد تخلينا عن كل ثقتنا وحرصنا على حفظ الناموس كوسيلة للخلاص عندما اهتدينا إلى المسيح، والآن، يا بطرس هل تريد أن تقول بتصرفك للأخوة الأمميين:‏ "عليكم أن تخضعوا لعبودية حفظ الناموس، التي منها أُعتقنا لكي تتبرروا حقاً؟" لقد كانت مناسبة جليلة، إذ كان هناك سؤال هام على المحك، وعالجه بولس بطريقته الجريئة التي اعتدنا عليها.

أتراك تحاول، مثل آخرين كثيرين جداً، أن تفعل كل ما بوسعك لكي تنال خلاص الله؟ أصغِ إذاً إلى ما يقوله (بولس):‏ "بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا"

"إن سال دمعي إلى الأبد،
و لم تعرف حماستي الكلل،
فهذه لا تكفّر عن الخطيئة،
بل أنت من يخلّص، أنت وحدك".

منذ بضعة سنوات، بعد أن أصغى إلي رجل وأنا أكرز عند ناصية شارعٍ قال لي:‏ "إني أكره هذه الفكرة بأنه بموتِ وبِرِّ شخص آخر أخلص أنا. لا أريد أن أكون مديناً لأي كان من أجل خلاصي. فلست أجيء إلى الله مستجدياً متسولاً، بل إني أومن أنه إن كان الإنسان يحيا وفق العظة على الجبل ويحفظ الوصايا العشر فإن الله يكتفي منه بهذا القدر ولا يطلب منه المزيد".

فسألته:‏ "يا صديقي، هل عشت حسب الموعظة على الجبل وهل حفظت الوصايا العشر؟".

"ليس تماماً. إلا أني أسعى ما بوسعي".

فأجبته:‏ "ولكنّ "مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب ٢:‏ ١٠). و"مَكْتُوبٌ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»" (غل ٣:‏ ١٠). ولأنك لم تثابر أو تثبت فإنك تحت اللعنة".

هذا كل ما يستطيع الناموس أن يفعله من أجل أي خاطئ بائس. يستطيع فقط أن يدين، لأنه يتطلب براً كاملاً من بشر خاطئين، براً لا يستطيع أي إنسان خاطئ أن يقدمه على الإطلاق. ولذلك فعندما أرانا الله من خلال كلمته أن البشر مجردون من البر، نجده يقول:‏ "لدي برٌّ للخطاة الآثمين، ولكن عليهم أن يتقبلوه بالإيمان"، ويخبرنا الحكاية العجيبة عن موت وقيامة ربنا يسوع المسيح-‏ "الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا" (رومية ٤:‏ ٢٥). وإن كنا قد آمنا به فهل سنعود إلى أعمال الناموس؟

يقول بولس:‏ "فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً خُطَاةً، أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا!". لقد كان موسى وسيط الناموس وكان ليستخدمه الله لتصبح الخطيئة تبدو خاطئة بشكل مفرط. هل هذا هو ما يفعله المسيح كلياً؟ الأمر ببساطة هو أن مثاله المجيد كان ليُظهر لي كم هي عميقة خطيئتي، ومدى خطورة حالتي الضالة، فهل أستطيع أن أخلص نفسي بجهودي الذاتية؟ بالتأكيد لا. كان ذلك ليجعل المسيح خادماً للخطيئة، ولكن المسيح هو خادم للبر لكل الذين يؤمنون. أعتقد أن الآية ١٧، وربما الآية ١٨ أيضاً توصلنا إلى الاستنتاج بأن ما يقوله بولس لبطرس هو التالي:‏ "إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضاً هَذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّياً". ليس لدينا علامات اقتباس في النص اليوناني الأصلي القديم، ولذلك لا نعرف بالضبط أي كلمات قالها بولس لبطرس، ولكننا نرجح أنه ختم حديثه بإلقاء اللوم على بطرس باستخدام هذه الجملة.

"لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلَّهِ". ماالذي يقصده بذلك؟ إنه يقصد أن يقول أن الناموس كان يحكم علي بالموت، إلا أن المسيح أخذ مكاني وصار بديلاً عني. فمتُّ فيه. "لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلَّهِ". والآن أنتمي إلى خليقة جديدة كلياً. ويالروعة تلك الخليقة الجديدة! لقد سقطت الخليقة القديمة في رئيس نسلها، آدم، والخليقة الجديدة تثبت إلى الأبد في رئيسها الرب يسوع المسيح. إننا لا نحاول أن نعمل لأجل خلاصنا، إننا نخلص بالعمل الذي أنجزه هو نفسه. يمكننا أن ننظر إلى ذلك الصليب الذي عُلق عليه، الضحية النازفة بدلاً منّا، ويمكننا أن نقول بإيمان:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ". لكأن حياتي قد أُخذت، لقد أخذ مكاني:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا". بما أني توحدت به في موته على الصليب أرتبط به الآن في حياة القيامة، إذ أعطاني أن أكون مشاركاً في حياته الأبدية المجيدة الخاصة. "فَأَحْيَا لاَ أَنَا". ليس الأمر أني أنا العتيق أعود إلى الحياة من جديد، "بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ". فهو، الممجد، هو حياتي الحقيقية، وتلك "الحياة التي أحياها الآن بالجسد، خبرتي هنا على الأرض كمسيحي في الجسد، "أحياها"-‏ ليس بأن أضع نفسي تحت قوانين ونظم وأن أحاول أن أحفظ ناموس الوصايا العشر بل-‏ "بإِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". بما أنني ممتلئ به، فستكون حياتي على الشكل الذي يستحسنه.

"ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". أود لو أن كل واحد منّا يستطيع أن يقول هذه الكلمات في قلبه. أتستطيعون أن تقولوها في قلوبكم؟ إنها ليست "ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّ العالم، وبذل نفسَه لأجل العالم"، بل "ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". وحدهم أولئك الذين يضعون عليه رجاء إيمانهم يستطيعون أن يتكلموا على هذا النحو. أتستطيع أن تقولها من قلبك؟ إن لم تكن قد قلتها من قبل، يمكننك اليوم أن ترفع بصرك إلى وجهه وأن تقولها لأول مرةٍ وهكذا يختم بولس هذا القسم بقوله:‏ "لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ (أو سوف لن أُبْطِلَ نِعْمَةَ اللهِ). لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذاً مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ". ولكن بما أن البر لا يمكن إيجاده بالناموسية، أو المحاولات الذاتية، فإن المسيح قد بذلَ ذاته بالنعمة من أجل الخطأة المحتاجين، وهو نفسه برّ كل من يضعون عليه إيمانهم.

محاضرة ٦

"مَنْ رَقَاكُمْ؟"

(غل ٣:‏ ١-‏ ٩)

"أيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوباً! أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هَذَا فَقَطْ:‏ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟ أَهَكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟ أَهَذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثاً؟ إِنْ كَانَ عَبَثاً! فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ، وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ، أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟ كَمَا «آمَنَ إبراهيم بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً». اعْلَمُوا إِذاً أَنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إبراهيم. وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إبراهيم أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ». إِذاً الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إبراهيم الْمُؤْمِنِ".

نأتي الآن إلى القسم العقائدي بامتياز في هذه الرسالة. في الآية ١ من هذا الإصحاح يستخدم بولس لغة غير مألوفة. ما يقصد أن يقوله هو التالي:‏ "كيف حدث أنكم تبدون كمن وقع تحت تأثير نوع من الرُّقية حتى فقدتم فهمكم للحقيقة وأصبحت قلوبكم وأذهانكم مغشاة بالخطأ". إن الغلط يؤثر على الناس على ذلك النحو. من الممكن تماماً للمرء أن يهتدي حقاً وأن يبدأ بمعرفة واضحة محددة لنعمة الرب يسوع التي تخلص، ومن ثم، وبسبب إخفاقه في متابعة دراسة الكلمة والتعبد لها، يصبح تحت تأثير نظام مزيف ما، وفكرة في التعليم غير كتابية. وغالباً عندما يقع الناس تحت هكذا تأثير تجد أنه من غير الممكن تقريباً أن تحررهم. يبدو أنهم تحت تأثير رقية.

بالطبع لا يقول الرسول بولس أن امرئ لديه القوة على أن يرقي آخر، بل إنما يستخدم ذلك كمثال توضيحي. فيقول:‏ "أولئك الرجال الذين انحدروا من أورشليم ويعلّمونكم بأنكم لا يمكن أن تخلصوا ما لم تختتنوا وتحفظوا ناموس موسى، قد أثّروا عليكم حتى أنكم صرتم مثل أناس وقعوا تحت تأثير السحر وتحت تأثير رُقية. إنكم لا تستطيعون أن تعقلوا الأمور، أو أن تتحققوا مما هو صحيح وما هو خاطئ". لم يكن الواقع تماماً هو أنهم قد "استسلموا لوهمٍ قوي". عندما يقدم الله الحقيقة للناس ويتنحون عنها عن عمد، يصبحون بذلك عرضة لتحمل مخاطر وتبعات طاعة التعليم الزائف، ولكن هناك شيء آخر في ذهنه هنا فعلى جميع الأحوال، لم يكن هؤلاء الناس مسيحيين حقيقيين، بل مسيحيين حقيقيين يسلكون كأناس تحت تأثير رُقيةٍ.

"أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوباً؟" عندما يدرك المرء الحقيقة المباركة بأن الرب يسوع قد صُلِبَ من أجلنا، فهذا بحدّ ذاته يجب أن يعني تحريرنا إلى الأبد من هكذا خطأ مثل ذاك الذي وقع فيه هؤلاء الناس. إن كان المسيح قد بذل نفسه عني حقاً فذلك لأنه كان من غير الممكن بالنسبة لي أن أفعل ولو أمراً واحداً لأخلص نفسي. ولأنني لم أستطع أن أهيء نفسي لحضور الله، ولأني لم استطع أن أطهر قلبي من الخطيئة، ولأنه ما من عمل بر لي يمكن أن يؤهلني لأن أكون مع الرب، كان لا بد له أن ينزل من السماء وأن يبذل نفسه عني على الصليب. أنّى لي أن افكر إذاً بأن أتَّكل على أساس الاستحقاق البشري كوسيلة لضمان الخلاص، أو أن أصون نفسي في حالة من الخلاص أمام الله؟ لقد كنتُ أستحق الموت ولكن يسوع المسيح أخذ مكاني وسوّى المسألة لأجلي. لقد حقق كل مطالب البر الإلهي، وبه أخلص إلى الأبد. فهل أعود إلى الناموس لأكمل العمل الذي قام به؟ حاشى، وكلا.

يشير الرسول بولس الآن إلى بداية حياتهم المسيحية ويقول:‏ "أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هَذَا فَقَطْ:‏ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟" في الأصحاح السابق كان قد أظهر كيف يتبرر الإنسان أمام الله بالإيمان وحده، وأعلن أن الناموس قد أخذ أهمية أكبر من خلال الإدراك حقيقة أن عقوبة مخالفته قد تم دفعها بصليب ربنا يسوع المسيح، أكثر من أن تكون بجهود بائسة للإنسان للحفاظ عليه كوسيلة للخلاص. والآن يضيف إلى التبرير بالإيمان حقيقة اقتبال الروح القدس. فيقول:‏ "ارجعوا إلى خبرتكم المسيحية الذاتية. لقد أخذتم الروح القدس عندما آمنتم بالرب يسوع، عندما قبلتم رسالة الإنجيل كما قدمتُها لكم (يشير بذلك إلى خدمته بينهم). لقد أعطاكم الله الروح القدس، ليس على أساس أهلية أو استحقاق من قبلكم، ولا بفضل أي صلاح كان يمكنكم القيام به، وبالتأكيد ليس بسبب حفظ الناموس أو ممارسات طقسية، لأنكم كنتم أمميين غير مختونين. ومع ذلك عندما آمنتم بالرب يسوع، منحكم الله الروح القدس". والآن يقول:‏ تمعنوا في المسألة؛ هل اقتبلتم الروح بأعمال الناموس؟ بالتأكيد لا. كيف إذاً؟ "بخبر الإيمان".

"أَهَكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟" بمعنى آخر، إن جاء الروح القدس ليسكن فيكم في الحالة التي أنتم عليها عندما جئتم إلى المسيح، أتعتقدون أنكم في حاجة لتكملوا الأعمال باستخدام الجهود الشخصية الذاتية تحت القوانين التشريعية والنواميس؟ أنتم الذين تعرفون محبة الرب يسوع المسيح قد اقتبلتم الروح القدس. قد يقول البعض منكم:‏ "أتمنى لو كنت على يقين من ذلك". ولكن الكتاب المقدس يقول بشكل محدد:‏ "إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ" (أفسس ١:‏ ١٣). لقد ولدتم بالروح القدس. قد تتساءلون:‏ "هل تقصد أنني عندما ولدت من جديد، أن ذلك كان اقتبالاً للروح القدس؟" إن الكتاب المقدس يميز بين الولادة الجديدة بالروح واقتبال الروح القدس ولكن ليس من حاجة بالضرورة لوجود أي فاصل زمني بين ولادتنا الجديدة واقتبال الروح القدس. إن الولادة الجديدة هي عمل الروح القدس. وهذا الروح نفسه هو الذي يقوم بالعمل؛ فيأتي ليسكن في الإنسان الذي يولد من جديد. إن الولادة الجديدة هي خلق جديد، والروح القدس هو الخالق. إن الولادة الجديدة هي عمل الله، ولكن الروح القدس هو الله. هناك فرق بين أن تكون مولوداً من الله وأن يكون روح قدس الله ساكناً فيك. في التدابير الماضية كان الناس يُولدون من الله ومع ذلك ما كان يسكن فيهم روح قدسه. ولكن مع مجيء تدبير نعمة الله، عندما يولد الناس من جديد، فإن الروح القدس نفسه يأتي ويسكن فيهم. في حالة هؤلاء الغلاطيين، لو لم يصادق (الروح القدس) على العمل الذي قام به بولس، لو لم يصادق على موقفهم في اقتبال الرب يسوع المسيح، لما كان أبداً ليأتي ويسكن فيهم كما كانت عليه حالهم. لو كان ضرورياً لهم أن يخضعوا للطقوس والشعائر الموسوية، لكان سيوضح لهم المسألة ويقول:‏ "لا يمكنني أن آتي وأسكن فيكم إلى أن تتم تسوية هذه الامور، إلى أن تخضعوا للتشريعات والقوانين"، ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا القبيل. لقد آمنوا، وأخذوا مكانهم أمام الله كخطأة ضالين، وانعطفوا إليه في توبة، وقبلوا المسيح بالإيمان مخلصاً لهم، وأمكن للروح القدس أن يقول:‏ "الآن أستطيع أن أسكن فيهم وقد تطهروا من خطاياهم بدم المسيح الزكي، وسأجعل من أجسادهم هياكل لي". ألا ترون كم أن هذا النقاش واضح خلال لقاءات التعليم عند أولئك الناس؟

"أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟". ذكّرهم بما مروا به في تلك الأيام الاولى. لقد كان يعني كثيراً لأولئك الناس في مثل ظروفهم أن يخرجوا من نير الوثنية ويتخذوا موقفاً يخالف أصدقاءهم وأقرباءهم، وأن يقبلوا الرب يسوع المسيح مخلصاً لهم، وأن يعلنوا أن الأصنام التي كانوا يعبدونها يوماً لم تكن سوى صور بكماء وعاجزة أن تخلصهم. أن يتخلوا عن كل ما كانوا يشاركون به لسنوات كثيرة كان يعني الكثير، وعرّضهم للمعاناة والاضطهاد المرير و سوء الفهم المميت من جانب إخوتهم البشر ومع ذلك فكُرمى ليسوع اتخذوا تلك الخطوة بسرورٍ، ولأجل يسوع تحملوا التوبيخ، وعُذّب الكثيرون منهم، حتى الموت، وأولئك الذين كانوا لا يزالون أحياء كانوا يحسبون أنه لسرور بالغ أن يشاركوا المسيح في الرفض الذي تلقاه. إلا انهم وقعوا تحت سطوة نظام فاسد يعلّم بأنه لم يكن هناك خلاص إلى أن يخضعوا لما فرضه عليهم أولئك المشرعون المتهودون.

"أَهَذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثاً؟"، أكان عبثاً كل ما عانوه من أجل المسيح؟ أكان مجرد اعتراف؟ إن لم يكن كذلك فكيف بدا وكأنهم قد فقدوا يقينهم؟ ومن ثم يضيف "إِنْ كَانَ عَبَثاً!". لا يمكنه أن يصدق أن ذلك كان عبثاً، إذ يعود بنظره إلى الوراء ويتذكر المشقات التي مروا بها، والفرح الذي أتى إليهم عندما اعترفوا باقتبالهم المسيح، والمحبة التي كانت تضطرم بها قلوبهم أحدهم نحو الآخر، ونحوه كخادم لله والمخلص نفسه. إنه يقول:‏ "إني أتذكرٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ العذابات التي كنتم على استعداد لاحتمالها من أجل الإنجيل؛ لا يمكنني أن أصدق أنكم لم تهتدوا، وأن ذلك لم يكن حقيقياً لقد ضُلِّلتم، وغشي الضباب أعينكم، وأود لو أمكنني بنعمة الله أن أحرركم". لم يكن يحمل أية ضغينة نحوهم أو نحو أولئك الرجال الذين انحدروا من أورشليم، ولكنه كان يمقت التعليم العقائدي الذي جلبوه معهم. يجد بعض الناس صعوبة في التمييز بين بُغض التعاليم الخاطئة والمحبة للناس الذين يقعون تحت تأثيرها. عندما نشهد على حقيقة الله ونحذّر الناس من التعليم الخاطئ. فهذا لا يعني ولو للحظة أن يكون لدينا أية مشاعر من البغضاء نحو أولئك المضللين الذين ينشرون تلك التعاليم الخاطئة، إننا نحب هكذا أناس لأن المسيح مات عنهم، ونصلي لكي يعودوا عن غيّهم وأن يأتوا إلى معرفة نور الحق.

ثم يذكّرهم الرسول بولس أنه عندما جاء إلى وسطهم ليكرز بإنجيل نعمة الله كانت هناك علامات مذهلة وتجليات تلت ذلك. هم أنفسهم رأوه وبرنابا يصنعون المعجزات. وبعض من تلك الجموع كانت لديهم مواهب مشابهة. تلك الأدلة العجائبية كانت ترافق الشهادة. "الَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ، وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ، أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟" أعتقد أنه كان يريدهم الآن أن يقارنوا بين خدمة هؤلاء المعلمين الكذبة الذين بينهم وبين خدمته وبرنابا عندما نقل إليهم بساطة وامتلاء إنجيل المسيح ويدرك الفرق بينهما. هل كان هناك ثمة براهين عجائبية عند أولئك المعلمين الكذبة؟ هل أُيدت شهادتهم بقوة عجائبية؟ أبداً على الإطلاق. ولكن عندما مضى بولس يكرز بالمسيح وإياه مصلوباً، فإن الله نفسه وضع ختم موافقته على تلك الشهادة بإعطائه لهما القوة على صنع المعجزات. يقول الناس:‏ "لماذا لا نجد نفس الحال اليوم؟" فحتى اليوم نجد آيات عجائبية ترافق الكرازة بالحق، وهذه لا نجدها عندما يظهر خطأ في التعاليم. عندما يُكرز بإنجيل نعمة الله، فإن الرجال والنساء الذين يؤمنون به يتحررون من خطاياهم، ويعمل الروح القدس فيخلق فيهم حياة جديدة، طبيعة جديدة، ويحررهم. السِّكيرُ يصغي إلى الإنجيل ويؤمن به ويرى أنه قد تحرر من عبودية الملذات. والفاسق الخليع الذي يقصف ويعربد في فحشائه كخنزير في الوحل يلمح الرب يسوع، فيتحرك قلبه إذ يتفكر في قداسة ونقاء المخلص، فينحني في توبة أمام الله مشمئزاً من نفسه ومن خطيئته، ويغدو نقياً طاهراً وصالحاً. والكاذب والأفّاك الذي لم يستطع أن يقول الصدق لسنوات يسمع إنجيل نعمة الله ويعشق ذاك الذي هو الحق، ويتعلم مذ ذاك فصاعداً أن يقول الكلمات المحقة الصادقة. وذلك النزق الذي كان يشكل رعباً لعائلته حتى أن زوجته تنكمش من الخوف منه، ويخافه أولاده عندما يدخل إلى المنزل، تخضعه النعمة الإلهية، ويصبح الأسد حملاً. تلك إنما عجائب كانت تجري عبر الأجيال حيث كان يُكرز بإنجيل نعمة الله. أما التعليم الخاطئ فلا يأتي بهكذا ثمار. إنما يعطي الناس مفاهيم فكرية معينة يتفاخرون بها ولكنها لا تجعل النجس نظيفاً ولا تحرر من النجاسة والفجور. بل إن مجد الإنجيل هو الذي يجعل الناس يؤمنون حقاً بأنهم يصبحون خلائق جديدة في المسيح يسوع. لم تكن هناك هكذا علامات وآيات وعجائب ترافق هذه الكرازة الناموسية التشريعية. وهكذا يعود إلى إبراهيم. كان هؤلاء المعلمون الكذبة يقولون:‏ " لقد دعا الله إبراهيم وأخرجه من بين الأمميين وأعطاه عهد الختان، ولذلك فما لم يتبع هؤلاء الغلاطيون هذا الطريق لا يمكنهم أن يخلصوا". "كَمَا «آمَنَ إبراهيم بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً»". لقد كان إبراهيم أممياً كمثل هؤلاء الغلاطيين وكشف الله الحق له. نقرأ في الآية ٨:‏ "سَبَقَ (الله) فَبَشَّرَ إبراهيم أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ»". وآمن إبراهيم بذلك وبرره الله بالإيمان. متى كرز الله له بالإنجيل؟ لقد أخرجه من خيمته في إحدى الليالي  وقال له:‏ "انْظُرْ إلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ" (تكوين ١٥:‏ ٥).

فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع أن أعدها، إنها ذات عدد لا حصر له". ثم أمره أن يعد الرمل والتراب تحت قدميه فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع فعل ذلك". فقال الله:‏ "هكذا يكون نسلك. وبنسلك تتبارك كل أمم الأرض". لقد أعطى الله إبراهيم الوعد بنسل هائل العدد، يكون لا حصر له كنجوم السماء، وكرمل البحر، وتراب الأرض، وأيضاً البذرة (النسل الفرد) ألا وهو الرب يسوع المسيح نفسه، ابن إبراهيم، إذ به كل أمم الارض سوف تتبارك. لقد كان إبراهيم رجلاً عجوزاً لا أولاد له، ولكن، "لاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِياً مَجْداً لِلَّهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضاً" (رومية ٤:‏ ٢٠، ٢١). وعندما رأى الله هذا الإيمان في إبراهيم برّره. لم يكن عهد الختان قد أُعطي له بعد، إلا أنه تبرر بالإيمان. ماذا نستنتج من ذلك؟ إن كان الله يستطيع أن يبرر أممياً بالإيمان، أفلا يستطيع أن يبرر عشرة ملايين بالإيمان؟ إن كان إبراهيم هو أبو كل المؤمنين بمعنى روحي، فلسنا في حاجة نحن الأمميين إذاً أن نخشى اتباع نفس خطواته.

وهكذا يتتابع فحوى النص بالآية:‏ "اعْلَمُوا إِذاً أَنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إبراهيم". أترون؟ إبراهيم له نسل روحي وأيضاً نسل طبيعي. فأولئك الذين وُلدوا من نسل إبراهيم بحسب الجسد ليسوا أولاد إبراهيم ما لم يولدوا من جديد؛ يجب أن يكون لديهم إيمان إبراهيم لكي يكونوا أبناء له. لكن في كل أرجاء العالم حيث انطلقت الرسالة، وحيث كان الناس، يهوداً كانوا أم أمميين، يضعون رجاء إيمانهم على نسل ابراهيم ذاك، ألا وهو ربنا يسوع المسيح، ويقتبلونه مخلصاً ورباً، يقول الله:‏ "احسبوه ابناً لإبراهيم". وهكذا فإن لإبراهيم عدداً كبيراً من النسل الروحي. عبر كل القرون، إن ملايين وملايين الناس الذين آمنوا بالله كما فعل ووضعوا رجائهم على المخلص الذي آمنوا به سيشتركون في بركاته، وسيكونون مع إبراهيم إلى الأبد.

"والْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ (ليس بالإيمان والأعمال، وليس بالإيمان والطقوس، وليس بالإيمان والممارسات الأسرارية)، سَبَقَ فَبَشَّرَ إبراهيم أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ»". إن الإنجيل هو بشرى الله الحسنة المتعلقة بابنه. لقد تلقى إبراهيم تلك البشرى الحسنة، وإن تلقيتموها أنتم وأنا وآمنا بها فإننا نرتبط به، ونكون كلنا أبناء إبراهيم.

"إِذاً الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إبراهيم الْمُؤْمِنِ". علام تستندون في خلاصكم؟ لقد تلقيت رسائل من أناس كانوا ساخطين لأني قلت بأن الخلاص هو بالإيمان وحده. إن الأمر يجعل المرئ يبدأ أحياناً باكتشاف أنه بعد كل كرازتنا بالإنجيل فإن كثيراً من الناس الذين أقروا باعتراف مسيحي، لم يتعلموا بعد أن الخلاص هو بشكل مطلق من النعمة بالإيمان. نكاد ننسى أن هناك مئات من الناس الذين لا يؤمنون بهذه الأمور. ومع ذلك فأنّى للمرء أن يعترف بإيمانه بهذا الكتاب، ومع ذلك يصر على أن الخلاص يعتمد على جهود بشرية؟ في رسالة رومية نقرأ:‏ "إِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً وَإِلاَّ فَالْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلا" (رومية ١١:‏ ٦). ألا ترون كيف أن روح قدس الله يحسم الجدل فيما إذا كان الخلاص بالنعمة تماماً أو بالأعمال تماماً؟ لا يمكن أن يكون بمزيج من الاثنين قد يقول أحدهم:‏ "ولكن ألا تتذكر القصة القديمة التي تحكي عن كارزين كانا في قارب ويتجادلان فيما إذا كان الخلاص بالنعمة أو بالأعمال، بالإيمان أو بالأعمال؟ وكان النوتيُّ يستمع إليهما، وعندما عجزا عن الوصول إلى حل للمشكلة، قال له أحدهما:‏ "لقد سمعت حوارنا فما رأيك في المسألة؟"

فقال:‏ "حسناً. لقد كنت أفكر في المسألة على هذا النحو-‏ لدي مجذافان، سأسمي الأول إيمان، وهذا الآخر سأسميه الأعمال. إن استخدمت هذا المجذاف فقط فإن القارب سيدور ويدور ولن أصل إلى أي مكان. وإن استخدمتُ ذاك الآخر لوحده فإنه سيدور ويدور أيضاً ولن أصل إلى أي مكان. ولكن إن استخدمتُ كلا المجذافين أستطيع أن أعبر النهر".

ويقول الناس أن هذا مثال توضيحي جميل عن حقيقة أن الخلاص بالإيمان والأعمال. لكان الأمر صحيحاً لو أننا كنا سنذهب إلى السماء بقارب، ولكن ليس الأمر هكذا. إننا نعبر بنعمة ربنا يسوع المسيح اللا محدودة، وكمثل تلك النعجة الضالة التي شردت ووجدها الراعي يحملنا المخلص إلى ديارنا في المجد، فليست مسألة أعمال نقوم بها أو طريق نشقه إلى هناك. وهكذا نعود إلى ما يقوله الكتاب المقدس:‏ "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس ٢:‏ ٨، ٩). إن كان علي أن أقوم ولو بفعل صغير كمثل أن أرفع إصبعي الصغير لكيما أخلص نفسي لكنت سأتبختر مختالاً في الشوارع الذهبية وأنا أقول:‏ "المجد لله ولي، إذ بجهودنا المشتركة المتحدة خلُصتُ". كلا. الأمر لا يتطلب أعمالاً مني ولا جهوداً مني وهكذا سيكون ليسوع كل المجد.

"لقد دفع يسوع كل الحساب،
وله أدين بكل شيء.
لقد فقدت الخطيئةُ صبغتَها القرمزية،
إذ قد غسلها الرب فصارت ناصعة كبياض الثلج".

أأنتم في ارتباك وحيرة ويعوزكم يقين الخلاص؟ لعلكم قد صليتم وقرأتم كتابكم المقدس، وذهبتم إلى الكنيسة، واعتمدتم وشاركتم في الأسرار، وحاولتم أن تقوموا بواجباتكم الدينية، ولكن ليس لديكم الشعور بالسلام والراحة ولا تعلمون إذا ما كانت نفوسكم قد خلُصت. ابتعدوا عن الذات والانهماك بالذات وثبتوا أعينكم على مسيح الله المبارك وضعوا رجاء قلبكم فيه وكونوا على يقين "أن كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يَهْلِك بَلْ تَكُون لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا ٣:‏ ١٦).

محاضرة ٧

مفتدون من لعنة الناموس

(غل ٣:‏ ١٠-‏ ١٨)

"لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ». وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ «الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا». وَلَكِنَّ النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ، بَلِ «الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا». اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ». لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ، أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ «لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْداً قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ». وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي «إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ». لاَ يَقُولُ «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَ«فِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ. وَإِنَّمَا أَقُولُ هَذَا:‏ إِنَّ النَّامُوسَ الَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، لاَ يَنْسَخُ عَهْداً قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ فَلَمْ تَكُنْ أَيْضاً مِنْ مَوْعِدٍ. وَلَكِنَّ اللهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ".

من الطبيعي أن يتساءل المرء:‏ "ما الذي نقصده عندما نتحدث عن لعنة الناموس؟" هل هي لعنة بالنسبة لله أن يعطي لشعب اسرائيل الوصايا العشر، المعيار الأخلاقي الأكثر رقياً الذي أمكن لأي بشر أن يتلقوه أو أن يُعطى لهم، إلى أن جاء ربنا يسوع المسيح وأعلن العظة على الجبل؟ هل هذه لعنة؟ بالتأكيد لا. لقد كانت بركة كبيرة لإسرائيل أن يحظى بهكذا تعليم، يظهر لهم كيف يحيون وكيف يتأدبون، وقد حفظهم من كمٍّ هائل من الخطايا التي كانت ترتكبها الأمم الوثنية حولهم. ومع ذلك لدينا هذا التعبير في الكتاب المقدس:‏ "لعنة الناموس"، ونقرأ "لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»".

عندما أعطى لله ذلك الناموس، أعلن بركة على كل من يحفظونه، وصرّح بأنهم سينالون الحياة بذلك. "«إِنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»" (رومية ١٠:‏ ٥)، ولكنه قال، من جهة أخرى، وكما استشهد هنا، "«مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»". فكل من يميز الإرادة الإلهية في ذلك الناموس فيما يتعلق بحياة الإنسان هنا على الأرض ومع ذلك يخفق في الارتقاء إلى مستواه يصبح تحت لعنته. ومن هناك اليوم أمكنه أن يحفظ هذا الناموس؟ أعرف أناساً يقولون:‏ "إن بذلنا كل ما في وسعنا، أفلن يكون هذا كافياً؟" ينفي الكتاب المقدس هكذا فكرة. ونقرأ قي رسالة يعقوب:‏ "مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب ٢:‏ ١٠). إننا نعرف كم هذا الأمر حقيقي وصحيح فيما يتعلق بناموس البشر. لنفترض أنني كمواطن في الولايات المتحدة لم أخالف أياً من قوانين بلادي إلا واحدة، فبانتهاكي لذلك لقانون الوحيد أصبح خارجاً عن القانون، وبالتالي فأنا سأخضع لقصاص مخالفة القانون. عندما نتحدث عن أناس تحت "لعنة الناموس"، فإننا نعني أنهم خاضعون لعقوبة انتهاك القانون، والقصاص هو الموت، روحياً وأبدياً. "الروح التي تخطئ تموت" (حزقيال ١٨:‏ ٢٠). لذلك حسنٌ القول بأن الناموس هو "خدمة الموت" و"خدمة الدينونة" (٢كورنثوس ٣:‏ ٧،٩)، لأن كل من هم تحت الناموس، ولكن أخفقوا في حفظه هم تحت الدينونة، ومحكوم عليهم بالموت، ولذلك فهم تحت اللعنة. ولكن ربنا يسوع المسيح قد مات ليحررنا من لعنة الناموس.

ألا نستطيع أن نحرر أنفسنا؟ رغم أننا قد أهلكناها في الماضي، أفلا نستطيع أن نقرر أننا من هذه اللحظة فصاعداً سوف "نقلب صفحة جديدة"، وأن نكون حريصين جداً على أن نحفظ كل مبدأ في ناموس الله الأخلاقي؟ في الدرجة الأولى، لم نكن نستطيع أن نفعل ذلك. فمن غير الممكن لأناس ذوي طبيعة ساقطة أن يحفظوا على نحو كامل ناموس الله المقدس. لنأخذ تلك الوصية على سبيل المثال:‏ "لا تَشْتَه". لا يمكنكم أن تحفظوا أنفسكم من الاشتهاء رغم أنكم تعرفون أن الاشتهاء خطأ. إنك تنظر إلى شيء يمتلكه جارك، ويقول قلبك لا إرادياً:‏ "ألا ليت ذاك الشيء كان لي". وبإعادة التفكير تقول:‏ "إنه أمر لا يستحق. إني مسرور حقاً من أجل جاري". ولكن مع ذلك، ألم تشتهِ؟ يقول الرسول بولس أنه طالما أن الوصايا الأخرى تتعلق بحياته فهو بلا لوم خارجياً أو ظاهرياً. لقد كان يحيا بدون الناموس إلى أن جاءت الوصية التي تقول "لا تشتهِ". "وَلَكِنَّ الْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِالْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ" (رومية ٧:‏ ٧، ٨). وهكذا أماته الناموس الذي لم يستطع أن يحفظه. لكن لنفترض أنك تستطيع أن تحفظه من هذا اليوم إلى اليوم الأخير من حياتك فهل ستُمحى وتُلغى كل أفعال السوء التي عملتها في الماضي؟ أبداً على الإطلاق. إن إخفاقك في الماضي سيبقى في سجل الله. "اللَّهُ يَطْلُبُ مَا قَدْ مَضَى" (الجامعة ٣:‏ ١٥).

"وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ «الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا»". لاحظوا:‏ لا أحد يتبرر بناموس الله. ما من أحد إطلاقاً تبرر بالناموس عند الله. ولن يتبرر أحد أبداً بناموس الله. في رومية ٣ نقرأ:‏ "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ النَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ الَّذِينَ فِي النَّامُوسِ لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ" (رومية ٣:‏ ١٩، ٢٠). بمعنى آخر إن الله لم يُعْطِ الناموسٍَ ليخلص الإنسان، بل أعطى الناموس للإنسان ليختبره، وليظهر حالة الإنسان الحقيقية. وهذا يشرح مقطعاً يحير البعض:‏ "قَدْ زِيدَ الناموسُ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ" (غلاطية ٣:‏ ١٩). لقد أُعطي في الحقيقية لكي يمنح الخطيئة صفة التعدي المحددة.

كنت أتمشى في المنتزه في ذلك اليوم وفجأة نظرت إلى الأسفل ورأيت قرب قدمي لافتة تقول:‏ "ابتعد عن الأعشاب". لقد كنت على العشب، ولكن في اللحظة التي رأيت فيها العلامة هرعت للانتقال إلى الممر. لو تابعت سيري على العشب بعد رؤية اللافتة لكنت متعدياً. قبل ذلك لم أكن متعدٍ، لأني لم أعرف أني كنت أعمل الخطأ. رأيت أناساً آخرين يسيرون على العشب، ولم يدركوا أن هناك أقساماً محددة لا يُسمح فيها بذلك. لم أعرف أن ذلك كان ممنوعاً في ذلك المكان المحدد. إلى أن جاء الناموس كانت الخطية في العالم، وكان الناس يخطأون في الطريق الذي يختارونه، ولكن "حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ" (رومية ٤:‏ ١٥). لقد وضع الله ناموسه ليقول:‏ "ابتعدوا عن الأعشاب". فإن ساروا الآن على العشب يكونون متعدِّين. إذا عصى الناس الله فإنهم يتعدون. تتبدى الخطيئة في قلب الإنسان من حقيقة أن الناس يعصونه عمداً وطواعية وبكامل إرادتهم. من غير الممكن أن تتبرر بالناموس، لأن التبرير يعني أن تكون خلواً من أي تهمة أو ذنب. الناموس يكشف التهمة، الناموس يجرّمني بالذنب، والناموس يدينني بسبب ذلك الإثم.

لقد كُتب في الأنبياء:‏ "البار بالإيمان يحيا" (حبقوق ٢:‏ ٤)، ولذلك فقد صار معروفاً حتى في زمن العهد القديم أن على الناس أن يتبرروا، ليس بجهود بشرية بل بالإيمان. هذه الكلمات نجد أنها مقتبسة ثلاث مرات في العهد الجديد. في الرسالة إلى رومية يقول الرسول (بولس):‏ "لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ:‏ لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ. منْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ لإِيمَانٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ «أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا»" (رومية ١:‏ ١٦، ١٧). وفي الرسالة إلى العبرانيين نجد بولس يقتبس نفس الكلمات:‏ "الْبَارُّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا" (عب ١٠:‏ ٣٨). ونجد نفس القول في رسالة غلاطية. لقد كان ذلك القول حقاً أن هذه الرسائل الثلاث تبسطها أو تعرضها الكلمات الثلاث:‏ "الْبَارُّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا".

كيف يصبح الناس أبراراً أمام الله؟ كما نوَّهنا للتو، تجيب رسالة رومية على هذا السؤال وتشرح الكلمة الأولى، "البار". إنها تخبرنا من هم الأبرار، أولئك الذين يؤمنون بالرب يسوع المسيح، ولكن إن كان التبرير بالإيمان كيف يُحفظ المرء أمام الله في تلك الحالة؟ أوليس بأعمال يقوم بها؟ تجيب رسالة غلاطية على ذلك وتركز على الكلمتين التاليتين:‏ "بالإيمان يحيا". وما هي تلك القوة التي تثبت وتؤازر وتقوي وتمكّن الأبرار من السير مع الله في هذا العالم، فيحيون حياة غير دُنيوية، تماماً كما "سَارَ أخْنُوخُ مَعَ اللهِ وَلَمْ يُوجَدْ لأنَّ اللهَ أخَذَهُ" (تكوين ٥:‏ ٢٤)؟ ومن جديد نجد الجواب يأتينا في الرسالة إلى العبرانيين حيث يتم عرض الكلمتين الأخيرتين من القول "البار بالإيمان يحيا". لقد استغرق الأمر ثلاثة رسائل في العهد الجديد لبسط نص واحد من العهد القديم مؤلف من ثلاث كلمات:‏ "البار بالإيمان يحيا". وهذا يعطينا فكرة عن مدى غنى وامتلاء كلمة الله.

ولكن إن كان "البار بالإيمان يحيا" فلا يمكن للبشر إذاً أن يتبرروا بأي جهود أو محاولات يقومون بها، لأن الآية ١٢ تقول:‏ "النَّامُوسُ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ، بَلِ «الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»". لم يقل الناموس:‏ "الإنسان الذي يؤمن يحيا"، بل:‏ "الإنسان الذي يفعلها سيحيا". لعل القول الأخير يبدو لنا الأمر الصحيح. فإن فعل الإنسان الصواب فإنه لا بد أن يحيا. المشكلة هي أن الإنسان لا يفعل الأمر الصواب. ونقرأ:‏ "الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رومية ٣:‏ ٢٣). إن انتُهِكت إحدى الوصايا العشر فذلك الإنسان يخسر كل حق أو مطلب له بالحياة. لنفترض أن رجلاً سقط من جرف أو شفا حفرة ومدّ يده وهو يقع هابطاً وأمسك بسلسلة مثبتة إلى أصل شجرة باقية في الجرف وتعلق هناك بالسلسلة. إن للسلسلة عشر حلقات. فكم يلزم لقطع السلسلة وإيقاع الرجل إلى الهاوية في الأسفل؟ واحدة فقط. إن الناموس هو مثل تلك السلسلة. فعندما تخطئ لأول مرة تكسر الحلقة وتسقط إلى الأسفل وتصبح في موضع دينونة إن لم تخلص. لا يمكنك أن تُعد نفسك لحضور الله بأية أعمال بر يمكن أن تقوم بها. يقول الناموس:‏ "الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا"، ولكن الناس أخفقوا في ذلك، ولذلك حُكمَ عليهم بالموت.

والآن انظروا إلى رسالة المصالحة المجيدة:‏ "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ". كيف فعل ذلك؟ "إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»". فها هنا رجل لم ينتهك أبداً ناموس الله، ها هنا ابن الله القدوس الابدي، مسّرة قلب الآب من الأزل وإلى الأبد، الذي جاء إلى العالم، وصار إنساناً، وذلك لأجل الهدف الواضح المحدد ألا وهو افتداء أولئك الذين كانوا تحت لعنة الناموس. لقد قال هو نفسه:‏ "كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى ٢٠:‏ ٢٨). ولكن إن كان هو نفسه قد انتهك ذلك الناموس، فهو خاضع لضرورة دفع القصاص ولا يمكنه أن يفتدينا أبداً، ولكن كم كان حريصاً كلمةُ الله في أن يظهر لنا أنه لم يأتِ تحت ذلك القصاص. لقد كان قدوساً في الطبيعة من اللحظة التي جاء بها إلى العالم. لقد قال الملاك لمريم، أمه:‏ "الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ" (لوقا ١:‏ ٣٥). لقد كانت حياته نقية على نحو مطلق وهويعيش هنا على الأرض. لقد عظمَّ الناموس وجعله مبجلاً وجديراً بالاحترام من خلال حياة التكرس لإرادة الله التي عاشها. "مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ" (عب ٤:‏ ١٥). بِلاَ خَطِيَّةٍ، رغم أنه تعرض للتجربة. وأخيراً فإن الله "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢ كورنثوس ٥:‏ ١٥). لم يكن لدى الله أي شيء ضده، ومع ذلك أخذ مكاننا طواعية، ومضى إلى الصليب، ودفع هناك قصاصاً كان علينا نحن أن ندفعه. إن كان علي أن أدفع الثمن، فإن الأبدية كلها لن تكفي لذلك. أما هو الأبدي، معلقاً على الصليب، فقد تحمّل إلى النهاية تبعات أي ادعاء يطالبني به الناموس الذي انتهكتُه، فإن اقتبلتُه الآن، وآمنتُ به مخلصاً لي، فماذا تكون النتيجة؟ إني أتحرر من لعنة الناموس.

"محرراً من الناموس، يا لفرحتي!
نزف يسوع دماً، وهناك المغفرة
ملعوناً تحت الناموس ومجروحاً بالسقوط،
افتداني المسيح مرة وإلى الأبد.
والآن أُعتِقنا-‏ وما من دينونة.
فيسوع يقدم خلاصاً كاملاً:‏
اسمعوا صوته العذب يقول:‏ "تعالوا إلي.
تعالوا وهو يخلصنا مرة وإلى الأبد".

هل دخلت نفسك في مثل هكذا حالة؟

إن كنت أنسى فلن أنسَ، بعد أن جاهدت مطولاً لأصنع براً ذاتياً، لن أنسَ الفرحة التي غمرتني عندما اِقْتُدْتُ للنظر بالإيمان إلى ذاك الصليب القائم هناك، الصليب الذي غدا فارغاً الآن.

"رأيت أحداً معلقاً على الخشبة،
في رؤى نفسي،
وذاك التفتَ إلي بعينين حانيتين،
إذ تسللتُ دانياً إلى صليبه".

لقد عرفت أنه كان هناك من أجلي وعني. ذاك الذي كان بلا خطيئة، كان يتألم هناك عني، أنا الخاطئ الأثيم، ورفعت بصري إليه. وأمكنني أن أقول له بإيمان:‏ "أيها الرب يسوع، أنا خطيئتك، أنا فجورك. إنك بلا خطيئة ذاتية، وإنما تحتمل تبعات خطاياي". وإذ نظرت من جديد، كان ذلك الصليب فارغاً ووضع جسد ربي في القبر. "أُسلِم لأجل معاصينا" و وُرِيَ عن الأنظار المدفونة. ولكنني نظرت من جديد وكان ذاك القبر فارغاً، ونهض قائماً في انتصار، "أُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا" (رومية ٤:‏ ٢٥). والآن لم أنظر إلى الصليب بل إلى عرش الله، وبالإيمان رأيته (المسيح) جالساً هناك، إنسان ممجد إلى يمين الله، وهو نفس الإنسان الذي وقف صامتاً في قاعة محكمة بيلاطس ولم ينطقْ بكلمة ليبرّئ نفسه. إذ ما كان ليمكنني أن أتطهر ما لم يمت من أجلي.

من ليرغب في أن يصنع براً ذاتياً له في حين أنه يستطيع أن ينال واحداً أفضل من ذلك بكثير بالإيمان بالرب يسوع المسيح؟ "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»". والآن وبسبب ذلك يمكن لبركة ابراهيم أن تأتي إلى الأمميين في المسيح يسوع. يمكننا أن نتلقى وعد الروح بالإيمان. "لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ". ما هي "بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ"؟ قبل زمان طويل قال الله:‏ "فيك وفِي نسلكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ أُمَمِ الأرض". ولكن توالت السنين والقرون وبقيت شعوب الأمميين خارجاً. لقد كانوا خارج الحظيرة، غرباء عن عهد الموعد، ولم يعرفوا شيئاً من بركة إبراهيم أو ما وعدَ به الله بنسله. أما الآن فقد مات المسيح، ليس من أجل اليهود وحسب، بل من أجل الأمميين أيضاً، وبفضل ما قام به تذهب الرسالة إلى العالم بأكمله بأن الله يمكن أن يخلّص كل من يؤمن بالرب يسوع، ويصبح جميعُ المؤمنين أبناءً لإبراهيم بالإيمان ويُختَمونَ بروح قدس الله. إن بَرَكَة إبراهيم هي التبرير بالإيمان لكل من يؤمن، كما "«آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً»" (رومية ٤:‏ ٣). يلفت بولس انتباهنا إلى حقيقة أن الله عندما قال لإبراهيم:‏ "في نسلك تتباركُ جميعُ الأمم"، لم يكن يشير فقط إلى تلك الأمة التي ستخرج من نسله، بل إلى شخص وحيد معين، إذ كان في مخطط الله السرمدي أن يُولَدَ المسيح من نسل إبراهيم.

"أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ «لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْداً قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ»". عندما يبرم الناس عقوداً أو يقطعون عهوداً فمن المفروض أن يلتزموا بها. لقد أقام الله عهداً بنعمة غير مشروطة مع إبراهيم قبل سنين طويلة. وفيما بعد جاء الناموس، فهل أبطلَ ذلكَ العهد بالنعمة النقية المقام مع إبراهيم؟ "وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي «إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ». لاَ يَقُولُ «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَ«فِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ". فمن خلال الرب يسوع، إذاً، تذهب بركة العهد لكل خاطئ أثيم بائس يؤمن به. "وَإِنَّمَا أَقُولُ هَذَا:‏ إِنَّ النَّامُوسَ الَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، لاَ يَنْسَخُ عَهْداً قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ". لم يكن الله متسرعاً أو متراخياً عندما أعطاه عهد النعمة هذا غير المشروط. لم يقل:‏ "إن فعلت كذا وكذا وإن لم تفعل أشياء معينة، فإن العالم برمته سيكون مباركاً بنسلك". بل قال وعلى نحو غير مشروط:‏ "بك وبنسلك تتبارك جميع أمم الأرض" فهي ليست أبداً مسألة جهود بشرية وليست مسألة شيء يمكننا أن نكتسبه.

عندما يناقش الرسول بولس هذا الموضوع نفسه في رومية ٤ يقول في الآيات الافتتاحية:‏ "فَمَاذَا نَقُولُ إِنَّ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَدْ وَجَدَ حَسَبَ الْجَسَدِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ تَبَرَّرَ بِالأَعْمَالِ فَلَهُ فَخْرٌ -‏ وَلَكِنْ لَيْسَ لَدَى اللهِ. لأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً». أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ" (رومية ٤:‏ ١-‏ ٤). ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أنك إذا ماكان عليك أن تفعل شيئاً ما لتكسب خلاصك فإنك لن تَخلص بالنعمة. لنفرض أنك تعمل ستة أيام لصالح مستخدم (رب عمل)، وفي نهاية ذلك الوقت يأتي إليك بموقف شامخ متكبر ويسلّمك مغلفاً ويقول:‏ "لقد كنتَ تعمل بشكل جيد خلال الأيام الست الأخيرة، وها هنا هدية صغيرة لك، أريد أن أعطيك هذه كعلامة أو تذكار عن نعمتي". فتنظر إلى المغلف وتجد أنه يحتوي على أجرك، وتقول:‏ "يا سيدي لست أفهم. هذه ليست تقدمة أو هدية. فقد استحقيت وكسبت هذا المبلغ". ولكن الرجل يقول:‏ "أريدك أن تشعر بأنه تقدير لجهودك". فتجيب قائلاً:‏ "لا. أنت تدين لي بذلك. أنت مدين لي بذلك. لأني كسبت هذا المال". إن كنتُ أستطيع أن أفعل شيئاً لخلاص نفسي فإني سأجعل الله مديناً لي بذلك، إلا أن كل ما يعمله الله من أجلي، إنما يعمله بنعمة صافية نقية. ولذلك نقرأ:‏ "وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً" (رومية ٤:‏ ٥). ورغم أن الناموس قد جاء بعد أربعمئة وثلاثين سنة من الوعد بالنعمة لكل الأمم من خلال نسل إبراهيم إلا أنه لم يغير هدف الله. لقد أُعطي فقط لزيادة إحساس الإنسان بعوزه ولجعله يدرك إثمه وعجزه ولكي يقوده لأن يرمي بذاته على نعمة الله غير المحدودة.

"لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ فَلَمْ تَكُنْ أَيْضاً مِنْ مَوْعِدٍ. وَلَكِنَّ اللهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ". إن كان يأتي بجهود ذاتية فليس هو مسألة وعد على الإطلاق. ولكن الله أعطاه لابراهيم بالوعد و"لأَنَّ الْمَوْعِدَ"، كما يقول بطرس، "هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ الَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ الرَّبُّ إِلَهُنَا" (أع ٢:‏ ٣٩). لعلك، عزيزي القارئ، كنت تجاهد لسنين لتعدَّ نفسك لحضور الله، لقد كنت تحاول جاهداً أن تصنع براً ذاتياً، "وتحاول أن تكون مسيحياً". أرجو منك أن تكف عن ذلك وأن تتوقف عن المحاولة. لا يمكنك أن تصبح مسيحياً بالمحاولة أو بأي شيء آخر حتى لو استطعت أن تصبح أمير ويلز. أنت ما أنت بالولادة. أنت ما أنت كخاطئ بولادة طبيعية، وأنت تصبح ابناً لله بولادة ثانية جديدة، من خلال الإيمان بالرب يسوع المسيح. وإن بركة إبراهيم هي لك عندما تقتبلها بالإيمان.

محاضرة ٨

النَّامُوسُ مُؤَدِّبُنَا إِلَى الْمَسِيحِ

(غل ٣:‏ ١٩-‏ ٢٩)

"فَلِمَاذَا النَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّباً بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ. وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلَكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ. فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدَّ مَوَاعِيدِ اللهِ؟ حَاشَا! لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ. لَكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. وَلَكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ. إِذاً قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ. وَلَكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ. لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إبراهيم، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ".

لقد كنا نتأمل في دراستنا بالجزء الأول من هذا الإصحاح بعلاقة الناموس، الناموس الذي أعُطي على جبل سيناء، وصولاً إلى وعد النعمة غير المشروط الذي قطعه الله لإبراهيم قبل ٤٣٠ سنة، ورأينا أن الناموس الذي جاء فيما بعد لم يكن ليزيد أو يُنقص من العهد الذي كان قد أُقيم. وهذا يقودنا بشكل طبيعي إلى السؤال الوارد في الآية ١٩:‏ "فلماذا الناموس؟" إن كان الناموس لم يُزد أي شيء إلى ما أعطاه الله بالوعد لإبراهيم وبالتأكيد ما كان ليمكن أن يأخذ شيئاً منه فماذا كان هدفه؟ ولماذا أعطاه الله أصلاً؟ يجيب الرسول بولس قائلاً:‏ "قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّباً بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ". أعتقد أننا قد نفهم أفضل إن قرأنا:‏ "قد زيد نظراً للتعديات"، لكي يحمل الناس على رؤية صفة التعدي المعينة، وهكذا يعمق في كل نفس إحساساً بالإثم وبالعوز. إننا على أهبة الاستعداد جميعاً لأن نبرر لأنفسنا، وأن نقول أننا ما كنا لنرتكب خطأ لو أننا نعرف بشكل أفضل. لطالما نسمع الناس يقولون:‏ "إني أبذل اقصى ما أعرف، وأسعى لأن أقوم بأفضل ما بوسعي". ولكن هل وُجد أي رجل أو امرأة يمكن لهم بصدق أن ينطقوا بهكذا كلمات؟ هل حاولتم دائماً أن تفعلوا كل ما بوسعكم حسب معرفتكم؟ هل فعلتم دائماً أفضل ما أمكنكم؟ إن كنتم صادقين أمام الله، فإنكم تعلمون أنكم لستم كذلك. وأيضاً وأيضاً نجد أننا جميعاً قد أخطأنا بحق نور الحق والمعرفة، وكنا نعرف أكثر بكثير مما فعلنا. وهكذا فشلنا في تمجيد الله، وإذ نذهب بعكس إرادته المعلنة فإننا نثبت بالتجربة أننا لسنا خطأة وحسب بل متعدِّين أيضاً.

في كلا اللغتين الأصليتين للعهد القديم والعهد الجديد هناك كلمة تستخدم من أجل خطيئة والتي تعني حرفياً "يَضِّلُ المَعْلَم". أتذكّر هذا التعبير مرّ معي عندما كنت أعمل وسط هنود لاغونا في نيو مكسيكو. في أحد الأيام قال لي مترجمي، وهو هندي لامع متقد الذكاء:‏ "سأمضي النهار في الصيد. هل ترغب في مرافقتي؟"

لست صياداً، ولكنني ذهبت معه بغاية التمرين. كانت لديه بندقية جديدة دقيقة، وكان يتوق لأن يستخدمها. لقد أبدى دليلاً على براعته الفائقة بذلك السلاح. إذ وقف على أحد جانبي وادٍ، قال لي:‏ "أترى ذلك المخلوق الذي يتحرك بعيداً هناك؟"

لم أستطع أن أراه في البداية، ولكن إذ أشار نحوه، رأيتُ شيئاً كمثل كتلة متحركة على الجدار المقابل لنا.

فقال:‏ "انتظر لحظة". وسدد بندقيته، وما هي إلا برهة حتى رأيت ذلك المخلوق الذي بدا مثل كتلة صغيرة يثب في الهواء ويسقط أرضاً ميتاً. لقد كان رامياً بارعاً بالبندقية، ولكن عندما وصلنا إلى المنزل قال لي:‏ "أريد أن أريك ما أستطيع أن أفعله بأسلحتنا القديمة، إذ أني قد احتفظت بالقوس والسهم. فهذا له معنى رمزي جداً لشعبنا ولذلك أردت أن أحتفظ به".

وهكذا مضينا إلى الحقل، ونصب الصياد الهندي غصناً صغيراً جداً من شجرة صفصاف، ومثّل مشهداً يشبه نوعاً ما تلك المشاهد الموصوفة في رواية "إيفانهو" للسير سكوت. وضع السهم إلى القوس وشده إلى النهاية وقال:‏ "الآن سأفلع الغصن إلى شطرين". وأطلق العنان لسهمه فمرَّ السهم إلى يمين الغصن ولكن لم يمسه. فقال:‏ "آه، لقد خطئت".

وقتها لم أسأله لماذا استخدم ذلك التعبير.

ثم قال:‏ "لم آخذ الريح بعين الاعتبار، كما كان يجب أن أفعل". وأعد سهماً آخر إلى وتر القوس، وأطلقه، فشق ذلك الغصنَ إلى قسمين. ما كنت لأصدق أن شخصاً يمكن أن يفعل ذلك الأمر.

قال:‏ "هه. لم أخطئ هذه المرة".

فقلت له:‏ "لماذا استخدمت هذا التعبير "خطيئة"؟ لم تكن تفعل أي شيء خطأ عندما لم تصب الغصن. فلماذا قلت:‏ "لقد خطئت" ثم عندما لم تصبه قلت:‏ "لم أخطئ هذه المرة؟".

فقال:‏ "آه. لقد كنت أفكر بالغُوَيْك (ألا وهي لغة هنود لاغونا) وأتحدث بالإنكليزية. ففي لغتنا إن كلمة "أخطئ" تعني "أن أخطئ المرمى"." هذا ما يعنيه التعبير الوارد في الكتاب المقدس أن:‏"الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ الله" (رومية ٣:‏ ٢٣). ولكن في الناموس لدينا شيء أكثر من ذلك. فالله قد وضع معياراً للبر. والناموس بأوامره العشر المحددة، "لاتشتَهْ" يعرِّف الناس بما يطلبه الله منهم. والآن إن أخطأ إنسان، وهو يعرف إرادة الله المعلنة، إن أخفق في طاعة ذلك الناموس، فمن الواضح أنه ليس خاطئ وحسب بل متعدٍّ أيضاً. لقد انتهك أمراً إلهياً محدداً بالتأكيد، لقد تجاوز الحد، و"تصِير الْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدّاً بِالْوَصِيَّة" (رومية ٧:‏ ١٣). كان هذا أحد الأسباب التي جعلت الله يعطي الناموس-‏ ألا وهو أن يصير لدى الناس إحساس أعمق بخطورة اتباع إرادتهم الذاتية التي هي جوهر الخطيئة، والتمرد على الله. عندما أعطى الله الناموس، أعطاه بيد وسيط، ونضح موسى كتابَ العهد وأيضاً الشعبَ بدم العهد، شاهداً بذلك على حقيقة أنه إذا أخفق الإنسان بحفظ البنود المتعلقة به من العهد لا بد أن يموت، ولكنه يرمز أيضاً إلى أن الله سوف يؤمّن مخلصاً، فادياً.

"أَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلَكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ". وجود فريقين متضادين يوحي بفكرة الحاجة إلى وسيط ولكن عندما أعطى الله وعده لإبراهيم فقد كان هناك واحد فقط. لقد أعطى الله الكلمة، ولم يكن هناك شيء ليفعله إبراهيم من طرفه إلا أن يتلقاها. هو لم يعاهد الله بأنه سيفعل كذا وكذا من أجل أن يتحقق وعد الله، بل الله تحدث مباشرة إليه وتعاهد معه عندما قال:‏ "«فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ»" (غل ٣:‏ ٨). وهنا يُطرح السؤال:‏ هل الناموس ضد وعود الله بإدخال شروط معينة لم تكن في الوعد الأصلي؟ هل يجعل الناموس الوعود من طرف واحد فقط؟ حاشى لله. لكن مبدأ معيناً وُضع في الناموس أوضح أن "«الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»" (الآية ١٢). وإن وجد أي إنسان يفعل تلك الأشياء على نحو كامل لأمكنه أن يحظَ بالحياة على أساس الناموس. ولكن الناموس قال للإنسان:‏ "النفس التي تخطئ تموت" (حزقيال ١٨:‏ ١٤) ولم يوجد إنسان على الإطلاق أمكنه أن يحفظه. "لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ".

قال لي رجلٌ جنتلمان في إحدى الليالي في كاليفورنيا:‏ لا تروق لي فكرة أن أخلص عن طريق شخص آخر. لم أرد طوال حياتي أبداً أن أشعر بأني مدين لأي أحد على أي شيء. لا أريد إحساناً أو محبة من أحد، وعندما نأتي إلى الأمور الروحية فإني لا أريد أن أخلص بفضل حسنات شخص آخر بحسب ما قلت الليلة، إن حفظت الناموس على نحو كامل سأحيا ولن أكون مديناً لأحد. أهذا صحيح؟"

قلت:‏ "حسناً نعم. هذا صحيح".

فقال:‏ "سأبدأ إذاً معولاً على ذلك".

قلت:‏ "كم عمرك؟"

أجاب:‏ "حوالي الأربعين".

قلت:‏ "لنفترض أنك جئت إلى سن الوعي والقدرة على الفهم والإدراك وأنت في حوالي الثانية عشرة من عمرك. هذا يعني أنك متأخر حوالي ثلاثين سنة على البدء، والكتاب المقدس يقول:‏ "«مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»" (الآية ١٠). ولذلك، ولأن الناموس لا يمكن أن يعطي الحياة، فإنك لن تستطيع أن تكسب أي شيء على هذا الأساس". فمضى وكان مستاءً.

"لَكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ". إن كان الله قد قرر أن يعتبر الجميع تحت الخطيئة، فهل يجب على جميع الناس أن يعتبروا ضالين؟ لا. لَكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، "لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ". إن الله يريد من كل الناس أن يدركوا إثمهم وخطيئتهم لكي يدرك الجميع عوزهم وحاجتهم ويأتوا إليه فينهلون من نعمته، إنه يضع جميع البشر على مستو واحد. تقول رسالة رومية:‏ "لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رومية ٣:‏ ٢٢، ٢٣). يتخيل الناس أن هناك فروقاً كثيرة جداً. ويقول أحدهم:‏ "هل تقصد أن تقول أنه ما من فرق بين رجل خلوق وفاسد شرير بائس في الحمأة؟" بالطبع هناك فروق كثيرة، ليس فقط من ناحية المعيار الذي يأخذه المجتمع بالاعتبار بل أيضاً بالنسبة إلى سعادتهم الذاتية وتقديرهم لاقربائهم. ولكن عندما نأتي إلى موضوع البر نجد القول:‏ "لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا". لعل الجميع لم يخطئوا بنفس الطريقة، ولعلهم لم يرتكبوا نفس التعديات والانتهاكات بالضبط، ولكن "الجميع أخطأوا"، والجميع انتهكوا ناموس الله.

قال شاب مرةً لابنة عمه:‏ "لا أحب تلك الفكرة في أنه ليس هناك من فرق، إنها فكرة بغيضة بالنسبة لي. هل تريدين أن تقولي لي بأن محاولتي طوال عمري أن أحيا حياة مهذبة لائقة ومحترمة، لا تجعل الله يرى أن هناك فارقاً بيني وبين أناس يعيشون حياة الخطيئة والإثم؟"

فقالت له:‏ "لنفترض أني كنت أنا وأنت نسير في الشارع معاً، ومررنا على مكان مهم، متحف مثلاً، كنّا نتشوق لرؤيته. وذهبنا إلى الكوة واستعلمنا عن أجرة الدخول، وقيل لنا أنها بدولار. فنظرت إلى جزداني وقلت:‏ "آه. لقد تركت نقودي في المنزل. وليس لدي الآن سوى ٢٥ سنتاً". ونظرت أنت إلى نقودك ووجدت أن معك ٧٠ سنتاً فقط. فأي منّا سيدخل أولاً؟"

فقال:‏ "حسناً. في مثل هكذا ظروف لن يدخل أي منّا إلى المتحف".

-‏ "سوف لن يكون هناك فرق، ومع ذلك سيكون لديك نقود أكثر مني بكثير، ولكن بما انه ليس لدينا ما يكفي للدخول، فلن يكون هناك فرق".

إن الله يطلب براً مطلقاً من الخطأة قبل أن يدخلوا إلى السماء. "لَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً" (رؤيا ٢١:‏ ٢٧). لعل لديك ما يعادل ٩٥ سنتاً من البر بينما ليس لدي ٥ سنتات منه، ولكن لا يستطيع أي منا أن يدخل ما لم يكن لديه مئة سنت، وليس هناك من فرق. "لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ" (رومية ٣:‏ ١٠). تذكروا أن الله قال ذلك، وليس كارز أو مبشِّر غيور أو جديّ، بل (إنما الله نفسه بالروح القدس). وقد أُعطي الناموس ليُظهر تلك الحقيقة بوضوح. ولكن إن اتخذ الناس موقف الفجور أمام الله، إن اتخذوا موقف الخطأة الضالين، المثقلين بخطاياهم وذنوبهم، فماذا يكون عليه الأمر عندئذٍ؟ "لَكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ". بمعنى آخر، عندما يأتي الناس إلى إدراك حقيقة أنه لا يمكنهم أن يحصلوا على الحياة الأبدية اعتماداً على أية جهود ذاتية ويكونون على استعداد أن يتلقوها كهبة مجانية (من الله)، ففي تلك اللحظة تكون لهم. "الَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ" (يوحنا ٣:‏ ٣٦). "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:‏ إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥:‏ ٢٤).

أما الآن فالرسول بولس يرينا استخداماً آخر للناموس. يقول بولس في الآية ٢٣:‏ "وَلَكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ"، أي "قبل الإيمان"، لأنه قد عُرِفَ بشكل واضح ومحدد أن الله كان يبرر الناس بمجرد الإيمان بابنه المبارك، "كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ"-‏ إنه يتحدث الآن عن نفسه كيهودي (سابقاً)-‏ مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ". لم يكن لدى الأمميين في ذلك الوقت ناموس، بل اليهود هم الذين كان لديهم الناموس. فقد أعطى الله ذلك الناموس لليهود، وكان ينظر إليهم كأطفال قاصرين تحت القوانين والتشريعات. "إِذاً قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ". هذه الكلمة المترجمة هنا بـ "مُؤَدِّب" قد ترجمها الإنكليز إلى لغتهم بـ "مدرِّس" أو "معلم مدرسة". ولكن الكلمة الأصلية لا تحمل هذا المعنى. بل إنها تعني "مرشد للأطفال" أو "موجّه للأطفال"، وكانت الأسر اليونانية العريقة تُطلقُ هذا الاسم على العبد الذي كانت تُوكل إليه مهمة العناية بطفل قاصر. فكان عليه الانتباه إلى أخلاق الطفل، وحمايته من الاحتكاك بمن ليس أهلاً لرفقته، وأن يأخذه يوماً فيوماً من المنزل إلى حجرة الدرس. وهناك يتركه في عهدة المعلم أو الناظر، وفي نهاية النهار يعود فيأخذه إلى البيت من جديد. يقول بولس هنا، وعلى نحو جميل، على ما أعتقد:‏ "كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ". أي أن الله لم يترك شعبَه بلا دستور أخلاقي إلى أن جاء المسيح فنرى فيه أروع دستور أخلاقي قد عرفه العالم على الإطلاق، وكان الناموس قد قدم خدمة في أنه حمى الشعب وحفظه من الكثير من الفجور والخلاعة والإثم والفحشاء والفساد التي كانت متفشية في حياة الوثنيين حولهم. فطالما عاش الناس في طاعة، بأي مقياس، لذلك الناموس، فبذلك كانوا يحفظون أنفسهم من الكثير من الإثم والشر.

"كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا"، ربما ليس لأجل أن يأتي بنا إلى المسيح، بل "كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إلى مجيء المسيح". "النَّامُوسُ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يوحنا ١:‏ ١٧). أما الآن وقد جاء المسيح فقد أتينا إلى باب حجرة الدرس للنعمة وتعلَّمْنا الحقيقة المباركة التي تقول بالتبرير بالإيمان فقط فيه، ذاك الذي أقامه الله كفَّارةً عن خطايانا. لم نعدْ تحت مؤدبٍ.

نعلم هنا أننا لسنا محررين فقط من الناموس كوسيلة لمحاولة ضمان التبرير، بل أيضاً محررين من ذلك الناموس كوسيلة للتقديس، لأن لنا مقاماً أرفع بكثير في المسيح القائم من بين الأموات، ولنا أن نمتلئ به. وإذ نحن منشغلون به، يعلّمنا الله بالنعمة أن "نُنْكِرَ الْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْعَالَمِ الْحَاضِرِ" (تيطس ٢:‏ ١٢). لنفترض مثلاً أنني كمسيحي ولحظ عاثر لم أسمع أبداً بالوصايا العشر، ولنفترض أني لم أعرف بها أبداً، ولكن من ناحية أخرى عرفت قصة الإنجيل الرائعة وعُهِدَ إلي ببعض الأسفار من العهد الجديد تُظهر كيف ينبغي على المسيحي أن يحيا. إن سرت في طاعتي لهذا الإعلان، أعيش على مستوى أعلى وأكثر قداسة من ذاك الذي كانت لديه الوصايا العشر فقط. إن كل من لديه التعليم الرائع الذي أتى من شفاه الرب يسوع المسيح، والكشف العجيب في الرسائل التي تُظهر ما ينبغي على المسيحي أن يكونه، لديه هذا المعيار الجديد للقداسة، والذي ليس هو الناموس المُعطى على جبل سيناء بل المسيح القائم الجالس عن يمين الله، وإذ أسلك في الطاعة له ستكون حياتي بارةً، وهكذا، "بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ". ثم يضيف (بولس) قائلاً:‏ "إَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ"، الذي منه نتلقى الحياة. لمن يهب الله الحياة الأبدية؟ لجميع الذين يتكلون على ابنه المبارك. "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ" (١ يوحنا ٥:‏ ١٢). ومن هنا نفهم تأكيد ربنا يسوع بقوله:‏ "«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ:‏ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ»" (يوحنا ٣:‏ ٣). لا بد أن يكون هناك منح للحياة الإلهية. وهذا يجعلنا أعضاء في عائلة الله-‏ علاقة جديدة ورائعة.

"لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ". على الأرجح أنه كانت لديه فكرتان في فكره هنا. فظاهرياً نحن نلبس المسيح باعتمادنا. هذا الطقس يشير إلى أننا باعتراف قد اقتبلنا الرب يسوع المسيح. لكني أعتقد أيضاً أنه كان يرى أيضاً معمودية الروح القدس، وبتلك نصبح فعلياً أعضاء في المسيح، وبمعنى أعمق وأكمل، نلبس المسيح. والآن كأعضاء في هذه الخليقة الجديدة، "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ". فما عاد للفروقات القومية أي وجود (في المسيح). وفي هذا الترابط (بين المؤمنين) "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". إنه لا يتجاهل التمايزات الطبيعية. بالطبع نبقى محتفظين بمكاننا الطبيعي في المجتمع، ونبقى خداماً أو سادة، نبقى ذكوراً أو إناثاً، أما بالنسبة لمكاننا في الخليقة الجديدة، فإن الله لا يأخذ أي من هذه الفروقات بالاعتبار. فكل من يؤمن بالرب يسوع المسيح يصير واحداً فيه، "لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ" (أفسس ٥:‏ ٣٠). كم نحتاج إلى تذكر ذلك!

"فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إبراهيم، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ". أن تكونوا "في المسيح" وأن تكونوا "للمسيح"، تأتي بنفس المعنى تماماً "لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". "فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ (أي تنتمون إليه أو تخصّونه) فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إبراهيم، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ" لأنكم أنتم أيضاً قد آمنتم بالله مثل إبراهيم (إذ أن إبراهيم "آمَنَ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً"-‏ رومية ٤:‏ ٣)، وبالتالي إيمانُكم يُحسَبُ بِرّاً لكم. وهكذا يُعتبَرُ كُلُّ مؤمن من نسل إبراهيم الروحي. فهناك النسل الطبيعي والنسل الروحي لإبراهيم. "إِذاً الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إبراهيم الْمُؤْمِنِ" (غل ٣:‏ ٩). آملُ أن يكون واضحاً لنا الفرق بين الناموس والنعمة.

قبل بضعة سنوات خلت أخذت معي إلى أوكلاند، في كاليفورنيا، هندياً من قبيلة نافاهو. وفي أمسية يوم أحد مضى إلى اجتماع شبيبتنا. كانوا يتحدثون عن هذه الرسالة إلى غلاطية، وعن الناموس والنعمة، ولكن لم تكن الأمور واضحة جداً بالنسبة لهم، وفي خاتمة المطاف التفت أحدهم إلى الهندي وقال:‏ "أتساءل إذا ما كان صديقنا الهندي لديه شيء ليقوله بخصوص ذلك".

هبّ صاحبنا واقفاً على قدميه وقال:‏ "حسناً يا أصدقائي. لقد كنت أصغي بانتباه شديد، لأني هنا لكي أتعلم كل ما في وسعي لأستفيد مما أتعلمه عندما أعود إلى أُناسي. لست أفهم عما تتحدثون عنه، ولا أعتقد أنكم أنتم أيضاً تفهمون. ولكن فيما يتعلق بالناموس والنعمة الوارد ذكرهما، فدعوني أرى إذا ما كنت أستطيع أن أوضحها لكم. أعتقد أن الأمر هو كما يلي. عندما أحضرني السيد آيرونسايد من موطني انطلقنا في أطول رحلة قمت بها بالسكة الحديدية. ترجّلنا في بارستاو، ورأيت هناك أجمل محطة قطار على الإطلاق وفوقها فندق. تجولتُ في المكان ورأيت في ركن لافتة تقول:‏ "لا تبصق هنا". نظرت إلى تلك اللافتة ثم نظرت إلى الأرض في الأسفل ورأيت أن كثيرين كانوا قد بصقوا هناك، وقبل أن أفكّر بما أفعل وجدتُني أبصق. أليس هذا الأمر غريباً عندما أرى هذه اللافتة التي تقول "لا تبصق هنا"؟ وأتيت إلى أوكلاند وذهبت إلى منزل السيدة التي دعتني إلى العشاء اليوم، ووجدْتُني في أجمل منزل قد رأيتُه في حياتي على الإطلاق. ذاك الأثاث الجميل والسجاد الذي وجدتني كارهاً لأن أطأ عليه. غصتُ في كرسي مريح، وقالت السيدة:‏ "هلا جلسْتَ هنا الآن يا جون ريثما أخرج وأرى إذا ما كانت الخادمة قد أعدَّت العشاء". نظرتُ حولي إلى اللوحات الجميلة وإلى البيانو الكبير، وتجولتُ  في كل تلك الغرف. لقد كنتُ أبحثُ عن لافتة. اللافتة التي كنت أبحث عنها كان يجب أن تقول:‏ "لا تبصق هنا". جلتُ بنظري على تينك قاعتي الاستقبال الجميلتين، ولم أجد مثل هكذا لافتة. أعتقد أنه من المغث جداً أن يأتي إلى هذا المنزل الجميل أناسٌ يبصقون في أرجائه-‏ وللأسف بأنهم لم يلصقوا لافتة فيه. فنظرتُ إلى ذلك السجاد ولكني لم أجد أن أحداً قد بصق هناك. حيث كانت اللافتة تقول "لا تبصق هنا" بصق أناسٌ كثيرون، وأما هنا وحيث لا توجد أية لافتة فلم يبصق أحد. لقد فهمت الآن.تلك اللافتة هي الناموس، أما في ذلك البيت فهناك النعمة. إنهم يحبون منزلهم الجميل ويريدون أن يحافظوا عليه نظيفاً. أعتقد أن ذلك يوضح موضوع الناموس والنعمة". قال صاحبنا ذلك ثم عاود الجلوس.

محاضرة ٩

تبنّي الأولاد

(غل ٤:‏ ١-‏ ٧)

"وَإِنَّمَا أَقُولُ:‏ مَا دَامَ الْوَارِثُ قَاصِراً لاَ يَفْرِقُ شَيْئاً عَنِ الْعَبْدِ، مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ الْجَمِيعِ. بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ إِلَى الْوَقْتِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ. هَكَذَا نَحْنُ أَيْضاً:‏ لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ. ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً:‏ «يَا أَبَا الآبُ». إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ابْناً، وَإِنْ كُنْتَ ابْناً فَوَارِثٌ لِلَّهِ بِالْمَسِيحِ".

          في هذا الجزء من الرسالة يقوم الرسول بولس بإيضاح ممتع جداً، إذا فهمناه بشكل كامل، فهذا سيساعد للغاية في تمكيننا من رؤية المكانة النسبية لمؤمني العهد القديم وتلك التي للمؤمنين في هذا التدبير الحالي المجيد لنعمة الله. علينا أن نتذكر أنه كان ضرورياً في كل الحقبات التدبيرية أن يولد الناس من جديد ليصبحوا أبناء الله، والولادة الجديدة كانت دائماً، على الأقل من ناحية الراشدين، بالإيمان بالإعلان الإلهي. نعلم من (يعقوب ١:‏ ١٨) أنه:‏ "شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ". ما هو حقيقي بالنسبة لنا في هذا الدهر كان حقيقياً للمؤمنين في كل الأدهار. فكل واحد وُلد بكلمة الحق بالطبع، في حالة الأطفال الذين لم يصلوا إلى سن الوعي أو البلوغ، يتصرف الله بجلال مجده وقوته، فيولدهم بقوته الإلهية بمعزل عن الإيمان الشخصي بالكلمة عندما يكونون صغاراً جداً على معرفتها. قال يسوع:‏ "هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ". ولكن من الضروري تماماً للأطفال أن يولدوا من جديد كما الكبار الراشدين، لأن "المولود من الجسد هو جسد، والمولود من الروح هو روح". يجب أن يكون هناك ولادة جديدة عند كل إنسان يدخل ملكوت الله.ولكن هناك فروقات تدبيرية كبيرة واضحة في الكتاب المقدس ففي عصور العهد القديم كان جميع المؤمنين أولاداً لله، ولكن ما كانوا يعتبرون أبناءه تماماً. في هذا الدهر الأمر مختلف فكل أولاد الله هم أيضاً أبناءه. هل تسألون عن الفرق؟ حسناً، إن الفرق قد لا نأخذه حالياً بعين الاعتبار، ولكن عندما كتب بولس الرسالة إلى غلاطية كان كل قراءه سيفهمون الأمر بشكل واضح جداً. ففي ذلك العصر، ما كان الأطفال القاصرون يُعترف بهم كورثة لآبائهم إلى أن يبلغوا السن، فيأخذهم إلى المحكمة، ويجيب على أسئلة هيئة المحكمة، وكان يُعلن أبوته لهم رسمياً هناك. ومنذ ذلك الحين فصاعداً لا يعودون يعتبرون أطفالاً قاصرين، بل يعتبرون ورثة. المؤمنون في العهد القديم، كما يرينا بولس كانوا في مكانة الأولاد. أما المؤمنون في العهد الجديد، فمنذ مجيء الروح القدس في العنصرة، يعترف بهم الله كأبناء له بالتبني. والروح القدس نفسه هو روح تبني. عندما نقتبله بالإيمان، في لحظة اهتداءنا نعين كأبناء وورثة لله. هذا ما تؤكده الآيات (رومية ٨:‏ ١٤-‏ ١٧):‏ "لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ. إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ:‏ «يَا أَبَا الآبُ!». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضاً يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ".

إن الجدال المنطقي الذي يسوقه الرسول بولس بتوجيه إلهي في هذه الآيات السبعة الأولى من الإصحاح ٤ من رسالة غلاطية مذهل جداً وجميل في طريقة العرض المرتبة للفكرة. فيقول:‏ "وَإِنَّمَا أَقُولُ:‏ مَا دَامَ الْوَارِثُ قَاصِراً لاَ يَفْرِقُ شَيْئاً عَنِ الْعَبْدِ، مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ الْجَمِيعِ". والعبد هنا تعني الرقيق، "مع كونه صاحب الجميع". لنأخذ على سبيل المثال طفلاً صغيراً في المنزل قبل أن يصل إلى سن البلوغ قد يكون وارثاً بالفعل لثروة طائلة، ولكن ليس مسموحاً له أن يتصرف بها على هواه، ولا أن يمتلك ميراثه على نحو كامل. يجب أن يحافظ عليه في حالة خضوع للتعليم والتدريب. وإن مكانته في المنزل لا تختلف عملياً عن مكانة الخادم. وبالواقع عليه أن يكون هو نفسه خاضعاً للخادم، كما تقول الآية ٢؛ فهو تحت إمرة حرس وقهرمان، أو مدرسين خصوصيين إلى أن يحين الوقت الذي يكون والده قد حدده. هذا واضح تماماً ولا يحتاج على عقل واسع المعرفة ليفهمه. ثم لنلاحظ التطبيق. يرينا الرسول بولس أن إسرائيل شعب الله الأرضي، كانوا في هذه الحالة من سن القصور. ويطابق الرسول بولس مع هؤلاء كيهودي ويقول:‏ "هَكَذَا نَحْنُ أَيْضاً:‏ لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ (مبادئ أو عناصر) الْعَالَمِ". أي كانوا تحت الناموس، والناموس يخاطبُ الإنسانَ بالجسد. لقد أُعطي (الناموس) من قبل الله لإجباره على ممارسة واجباته ومسؤولياته. لم يكن لديه قوة في حد ذاته ليؤتي بحياة جديدة، رغم أنه كان بإمكانه أن يُرشد أولاد الله وأن يريهم الطريق التي يجب أن يسلكوها عبر العالم. لقد كانت عبودية تكاد لا تُحتمل حقاً بالنسبة لأولئك الذين لم يدخلوا إلى الجانب الروحي منه. أما الآن وإذ جاء الدهر الجديد، دهر النعمة فإن تغيراً رائعاً قد طرأ. ونقرأ:‏ "وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ". "ملء الزمان" كان، بالطبع اكتمال الفترات النبوية التي وردت في العهد القديم. وهنا يفكر المرء بشكل خاص بالنبوءة العظيمة عن الأسابيع السبعين في دانيال. عندما آن الأوان أخيراً لمجيء ذلك المسيا كما كان مقدراً له، وأوفى الله بوعده بأن أرسل ابنه إلى العالم ليولد من امرأة، وتلك المرأة كانت إسرائيلية تحت الناموس.

          والآن لاحظوا أمراً هنا. إننا نلتقي بمسيحيين معينين معترفين اليوم الذين ينكرون ما يسمى نبوة المسيح الأبدية. فيقولون أنه لم يكن ابناً سرمدياً. ويقرون بأنه كان الكلمة كما جاء في (يوحنا ١:‏ ١)، إلا أنهم يقولون أنه قد صار الابن عندما ولد على الأرض. ولكن الآية٤ تدحض أي تعليم كهذا. "أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ". لقد كان الابن قبل أن ينزل من أعالي المجد إلى رحم العذراء. لقد كان الابن الذي جاء بالنعمة ليصبح إنساناً وهكذا يخلصنا. هذه الحقيقة نفسها تُعززها الآيات في ١ يوحنا ٤:‏ ٩، ١٠:‏ "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا:‏ أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ:‏ لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا". ليس أوضح من تينك التصريحين المحددين في هذه الآيات. لقد أرسل الله ابناً، أرسله إلى العالم، أرسله من السماء، تماماً كما تقول الآية في يوحنا ٣:‏ ١٦:‏ "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". إننا نهين الرب يسوع المسيح إن أنكرنا بنوته السرمدية الأبدية. فلو لم يكن الابن السرمدي، فإن الله لا يكون الآب السرمدي. قد يتساءل أحدهم قائلاً:‏ "ألم يكن للآب حضن إلى أن ولد المسيح في بيت لحم؟". لقد أتى من حضن الآب لكي يولد في هذا العالم، لأجل أن يكون قريبنا الفادي.

          لقد وُلد تحت الناموس. واتخذ موقفاً أمام الله هنا على الارض كإسرائيلي، خاضع لناموس الله. ولقد حفظ ذلك الناموس على نحو كامل. فهو الخلو من الخطيئة، ما كان ليمكن أن يأتي لعنة الناموس بسبب إخفاق ذاتي من طرفه. ولذلك فقد كان قاصراً أن يمضي إلى الصليب وأن يسلم ذاته حتى الموت لكي يحمل لعنة الناموس المنتهك، ولكي يفدي أولئك الذين تحت الناموس، وذلك، على حد قول الرسول بولس، "لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ". لقد احتمل كل التبعات المفروضة على شعبه وأتى بهم إلى مكان فيه الحرية الكاملة حيث أمكن لله أن يعتبرهم أبناء له علانيةً، وليسوا بعد أولاداً في مكانة الخادم، بل ورثة لله، ورثة مشاركين ليسوع المسيح. والشهادة على هذا كانت إعطاء الروح القدس. ولذلك نقرأ في الآية ٦:‏ "بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً:‏ «يَا أَبَا الآبُ»". هذا ينطبق على جميع المؤمنين، لأننا في حاجة لأن نتذكر أنه منذ إدخال التدبير الجديد بكل امتلائه، يسكن الروح القدس كل مؤمن، وهكذا يُختم ويُمسح. "من ليس لديه روح المسيح، فهو ليس له". ولذلك فليس من إنسان في العالم اليوم يعتبر مسيحياً حقيقياً لا يسكن فيه روح قدس الله. فلدينا روح الابن، ولأنه يسكن في قلوبنا فإننا نرفع ابصارنا الآن بمحبة عبادته إلى وجه الله ونصرخ " يا أبا الأب". وإن كلمة "أبّا" (Abba ) هي الكلمة العبرية المقابلة "أب أو بابا". وفي الأصل اليوناني هي كلمة "Pateer "، وهكذا لدينا اليهود والأمميين متحدون بالنعمة ويخاطبون الله كأعضاء في عائلة واحدة، كأولاد بالولادة وأبناء له بالتبني، ويصرخون "يا أبا الآب".

          ويأتي الرسول بولس بشكل طبيعي إلى الاستنتاج بأنه:‏ "إِذاً لَسْتَ بَعْدُ عَبْداً بَلِ ابْناً، وَإِنْ كُنْتَ ابْناً فَوَارِثٌ لِلَّهِ بِالْمَسِيحِ". الحالة القديمة التي كانت سائدة طوال قرون قبل مجيء المسيح إلى العالم وموته عن خطايانا على الصليب، وقيامته ثانيا لتبريرنا، وصعوده إلى السماء، وإرساله الروح القدس باتحاده مع الآب، تلك الحالة زالت وانتهت. فما عاد المؤمنون في مكانة الخدام، بل بتلقيهم الروح القدس صاروا أبناء لله، وبذلك ورثة لكل مقتنياته بالمسيح يسوع ربنا.

          في هذا السياق من الممتع أن نلاحظ أن الرب يسوع، بعد قيامته من بين الأموات، قال لمريم:‏ "اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ:‏ إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ" (يوحنا ٢٠:‏ ١٧). وبهذا حقق النبوءة التي كُتبت قبل زمان بعيد:‏ "سأُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي" (مز ٢٢:‏ ٢٢). رغم أن الروح القدس ما كان قد أتى بعد، إلا أن الرب يستبق المجد الكامل للتدبير الجديد بأن يعتبر جميع المفتدين إخوة له، ولذلك فإنه يتكلم قائلاً "أبي وأبيكم إلهي وإلهكم". لاحظ أنه لا يقول:‏ "أبانا وإلهنا". وكان لديه سبب وجيه لذلك فالله كان بمعنى فريد. لقد كان أباه منذ الأزل. وهذا لا ينطبق علينا. إنه أبانا عندما نقتبل المسيح بالإيمان كمخلص لنا. ومن هنا، وبالنسبة إلى التعبير الآخر، "إلهي"، نجد أنه مكتوبٌ:‏ "في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". فإن الله كان إلهه بمعنى آخر عن كونه إلهنا. إنه إلهنا لأنه خالقنا. فنحن مجرد مخلوقات، بينما هو نفسه خلق جميع الأشياء. وهكذا وفي حين لا يمكن أن يكون لدينا نفس العلاقة تماماً، إلا أن نفس الأقنوم الذي هو أبوه وإلهه هو الآن أبونا وإلهنا، لأننا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع . ألا ليت قلوبنا تدرك أكثر عظمة هذا الأمر، وإذ ندرك شيئاً من وقار هذه المكانة الرائعة التي أعطانا الله إياها، لعلنا نطلب النعمة لنعيش هكذا في هذا العالم بحيث نمجد اسمه.

          تذكروا، هناك معنى محدد فيه اِئْتَمَننا على كرامة اسمه لقد قال لإسرائيل القديم:‏ "لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً" وهذا لم يكن يشير إلى ما نسميه الحلف أو التجديف بل كانوا يدعون باسم الرب وكانوا مسؤولين عن تبجيل اسمه. وبدلاً من ذلك، يقول الرسول بولس عنهم:‏ "وبسببكم يُجدَّفُ على اسم الله بين الأمم". أي أن الأمميين قد رأوا الكثير من الشر والفساد في سلوك شعب الله الأرضي حتى قالوا:‏ "إن كان هؤلاء الناس مثل إلههم، فلا بد أن يكون إذاً أبعد ما يكون عن القداسة". فيا إخوتي هل نسلك بتأدب لكيما الناس "يروا أعمالنا الصالحة، ويمجدوا أبانا الذي في السماء؟" هل يقولون إذ يرون نعمة الله في حياتنا:‏ "ياللمحبة والقداسة التي لا بد أن تكون عند ذلك الإله الذي ينتمي إليه هؤلاء الناس والذين يقرون بأنهم أبناءه!" إن لأمر كأننا نسلك بالطاعة لكلمته طالما نبجل النعمة التي خلصتنا ووضعتنا في هذه المكانة المباركة كأبناء وورثة.

محاضرة ١٠

أَرْكَانِ الْعَالَمِ

(غل ٤:‏ ٨-‏ ٢٠)

"لَكِنْ حِينَئِذٍ إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اللهَ اسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِالطَّبِيعَةِ آلِهَةً. وَأَمَّا الآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ اللهَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللهِ، فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟ أَتَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ؟ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً! أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضاً كَمَا أَنْتُمْ. لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئاً. وَلَكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ. وَتَجْرِبَتِي الَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا، بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللهِ قَبِلْتُمُونِي، كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَمَاذَا كَانَ إِذاً تَطْوِيبُكُمْ؟ لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي. أَفَقَدْ صِرْتُ إِذاً عَدُوّاً لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ؟ يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَناً، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ. حَسَنَةٌ هِيَ الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ، وَلَيْسَ حِينَ حُضُورِي عِنْدَكُمْ فَقَطْ. يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ. وَلَكِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِراً عِنْدَكُمُ الآنَ وَأُغَيِّرَ صَوْتِي، لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ!"

"لَكِنْ حِينَئِذٍ إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اللهَ اسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِالطَّبِيعَةِ آلِهَةً". لقد رأينا في هذه الرسالة أن الغلاطيين، الذين كانوا قد أُخرجوا من عتمة الوثنية إلى نور وحرية الإنجيل عن طريق خدمة الرسول بولس، قد وقعوا-‏ إن أمكنني القول-‏  تحت سحر معلمين متهودين معينين كانوا يحملونهم على الخضوع إلى ناموس موسى، قائلين لهم أنهم ما لم يختتنوا ويحفظوا ناموس موسى لا يمكن أن يخلصوا، فبينما كانوا قد بدأوا بالإيمان، صار لزاماً عليهم أن يكملوا خلاصهم بأعمالهم الذاتية، فيستحقون الأهلية بطاعة أوامر الناموس. كان الرسول بولس قد أظهر لهم أن الناموس كان بمقدوره أن يدين وحسب، أن يقتل وحسب لا أن يبرر ويعطي الحياة ولا أن يقدس، وأن تقديسنا بالإيمان هو أمر حقيقي كما هو حال تبريرنا.

والآن يقنعهم بالحجة والمنطق، محاولاً أن يُظهر حماقة سلوكهم في تخليهم عن المسيحية بكل حريتها ونورها من أجل الضوء المنتقص والعبودية التي في اليهودية. فيقول:‏ "ما بالكم؟ لقد كنتم وثنيين عندما أتيت إليكم. لقد كنتم مستعبدين للعادات الوثنية، وكنتم تخدمون أولئك لذين تعتبرونهم آلهة وليسوا هم هكذا، وكنتم تعبدون الأصنام، وتعلمون أنه في تلك الأيام كانت الكاهنة الوثنية تضللكم. وأماكن معينة ماكنتم تستطيعون الذهاب إليها، وأشياء ما كنتم تستطيعون أن تلمسوها. كانت هناك أنوع مختلفة من التقدمات كان عليكم أن تحضروها، وكان هناك تعويذات ضد الأرواح الشريرة، وتمائم، وطلاسم. كنتم عبيداً لعادات دنيوية في أيام وثنيتكم تلك. إن ما يذهلني ويحيرني هو استعدادكم للدخول في عبودية أخرى بعد أن عرفتم واختبرتم حرية النعمة".

"وَأَمَّا الآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ اللهَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللهِ، فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟" لاحظوا هذه العبارة:‏ "إِذْ عَرَفْتُمُ اللهَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللهِ". هناك جانبان لهذا القول. غالباً ما نقول للناس:‏ "هل تعرفون يسوع؟" ولكن يتطلب الأمر أشياء أخرى لندرك بأن يسوع يعرفكم لتكونوا قادرين على القول:‏ "الحمد لله، هو يعرفني. وكن يعرف عن خطيئتي وقد أحبني وسلم ذاته لأجلي". ونقول أحياناً:‏ "هل وجدت يسوع؟" بالطبع إن كلمة الله يقول:‏ "اطلبوا تجدوا". ويطلب منا الرب أن "ادعوه فهو قريب"، ولكنها حقيقة أكثر روعة هي أنه هو من يبحث عنا ويسعى إلينا ويطلبنا. لقد سمعنا قصة الصبي الصغير الذي كان عامل مسيحي قد بادره بالحديث قائلاً له:‏ "يابني، هل وجدت يسوع؟" فرفع صاحبنا الصغير بصره إليه بنظرة حيرة وقلق وقال له:‏ "لماذا يا سيدي. فأنا لم أكن أعرف أنه كن ضالاً. بل أنا من كان ضائعاً، وهو وجدني". هذه هي المسألة.

"كنت ضائعاً، إلا أن يسوع وجدني
وجد الخروف الذي ضلّ الطريق.
ألقى بذراعيه الحانيتين وأحاط بي،
وأعادني إلى سبيله".

لقد عرفني مطولاً قبل أن أعرفه. وهو يعرفني الآن مذ آمنت بالمسيح، كابن له، ويقول بولس:‏ "أليس من العار أنكم بعد أن عرفتم الله، أو عرفتم عن الله، وبعد أن أتيتم إلى هذه العلاقة المباركة معه كأب لكم، إن كنتم تعرفون حقاً معنى أن تكونوا قد ولدتم من جديد، أوليس من الغريب أيضاً أنكم انتقلتم الآن إلى نظام تشريعي يشابه ذاك الذي تحررتم منه عندما أتيتم أولاً إلى المعرفة التي تُخلِّص، إلى معرفة الرب يسوع المسيح؟" "فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟" قد يسأل أحدهم:‏ "ولكن ما الذي تقصده؟ لقد كانوا ينعطفون نحو الناموس، إلى التقيد بالأعياد اليهودية والسبوت اليهودية، والطقوس اليهودية. ولكنهم لم يعرفوا هذه الأشياء في أيام وثنيتهم. لماذا يقول:‏ "كيف ترجعون ايضاً؟" لقد كان المبدأ هو نفسه تماماً. لماذا يتبع الوثنيون طقوسهم والشكليات المتعلقة بهم؟ لأنهم يأملون أن ينالوا الاستحسان والجدارة وأن يخلصوا أنفسهم. ولماذا كان اليهود يمارسون كل شعائرهم وطقوسهم؟ ذلك لكي يرضوا الله بتلك الطريقة، وهكذا ينالون لجدارة وأخيراً يخلصون نفوسهم. فالمبدأ هو نفسه تماماً سواء كنت تحاول أن تخلص نفسك بتقديم ابنك ذاته قرباناً أو أعز شيء تملكه على مذبح وثني، أو كنت تحفظ السبت-‏ اليوم السابع، كما يفعل بعض الناس اليوم، ويرجون بذلك أن يخلصوا أنفسهم، أو كنت تلتزم بأيام الأعياد الوثنية وترجو أن تسر الآلهة الوثنية بهذا الشكل. لقد تحققت الاحتفالات اليهودية في المسيح، وسوف لن نرجع إليها، على رجاء أن نرضي الله بالالتزام بها. لقد كان لها دورٌ يوماً. وكان على رجال الإيمان أن يتقيدوا بها طاعة لكلمة الله. ولكن لم يعد لهذه دور بعد، لأنَّ "غَايَةَ النَّامُوسِ هِيَ:‏ الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ" (رومية ١٠:‏ ٤). كل تلك الطقوس كانت مجرد رموز أو ظلال للأشياء التي ستأتي. وبما أن الحق قد أتى. فلماذا نعود إلى الرموز، لن ننشغل بالرمز طالما أن لدينا المرموز إليه. سوف لن ننشغل بالصور في حين أن لدينا الواقع الحقيقي. إن مبدأ العالم، بالطبع، هو أن نحاول نيل الخلاص بالأعمال التي نقوم بها ذاتياً.

هناك ديانتان وحسب في العالم، ديانة حقيقية وأخرى زائفة. كل أشكال الديانة الزائفة تتشابه مع بعضها، وهي جميعاً تقول:‏ "آتي بشيء في يدي". والفرق الوحيد هو ماهية هذا الشيء. أما الديانة الحقيقية الإعلان الذي من السماء، فيقود الإنسان إلى أن يرنم قائلاً:‏ "لم آتي بشيء معي". تقول المسيحية:‏ "لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ -‏خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (تيطس ٣:‏ ٥). نرى المسيحيين اليوم قد التجئوا إلى الرموز والصور كوسيلة تساعدهم روحياً، ولكنهم بذلك إنما يرجعون إلى أركان العالم. لو سألت وثنياً:‏ "هل هذا الصنم إلهك؟". لكان سيقول لك:‏ "نعم". ولكن الوثني الذكي سيجيب قائلاً:‏ "لا. لست أعتبر هذا الصنم إلهي تماماً. بل إنه يمثل إلهي. إنه يساعدني على الدخول في صلة حميميّة مع إلهي". وإننا نرى نفس الشيء تماماً في العالم المسيحي حيث تمتلئ بعض الكنائس بالصور. هي ليست صور الإله مارس، وجوبيتر، وفينوس، وإيزيس، أو زيريس، بل صور مشابهة-‏ صور للقديس يوسف، والقديس برنابا، والقديس بولس، والرسل الاثني عشر، والعذراء مريم المباركة، بل وحتى المسيح، وتشعل الشموع أمامهم وينحني الناس أمامهم. فإن سألنا:‏ "لماذا لا تعبدون الله؟ لماذا تعبدون هذه الصور؟" لأجابوا:‏ "إننا لا نعبدها؛ بل نبجلها، وهي عبارة عن وسائل مساعدة للعبادة. فهذه الصور تساعد في تحريض أرواحنا وتساعدنا على العبادة".

سمعت يوماً قساً بروتستانتياً يتحدث إلى مجموعة من القسوس فقال:‏ "أجد أنه من المفيد جداً أن يكون أمامي صورة جميلة جداً للمسيح المتوج بإكليل الشوك". وذكر لوحة لفنان معين وقال:‏ "لدي تلك اللوحة ذات الإطار، وعندما أريد أن آتي إلى الرب أود أن أزيل من فكري كل شيء آخر وأن أجلس وأتأمل في تلك الصورة لبرهة، فأبدأ بالإدراك أكثر فأكثر لما فعله الله من أجلي. وهذا يشد قلبي إلى العبادة والتوقير". "كَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟". ليس من رسام على وجه الأرض يمكنه أن يرسم مسيحي. عليك أن تذهب إلى الكتاب المقدس لتحصل على تلك الصورة. إن أردتم أن تُحرضوا روحياً وأن تدخلوا في روح تعبدية، فانكبوا على كتابكم المقدس واقرأوا الأصحاح ٥٣ من أشعياء، أو السرد الوارد في الأناجيل عما أنجزه المسيح، وإذ أنتم منشغلين بحقيقة الله، سينسكب قلبكم في العبادة. لستم بحاجة إلى صور لتساعدكم في العبادة. فما هذه إلا "أركان ضعيفة فقيرة" للعالم. في تدبير النعمة لربنا يسوع المسيح علينا أن نعبد "بالروح والحق".

ولذلك يقول الرسول بولس:‏ "يؤسفني أن أراكم قد رجعتم على هذه الأشياء"-‏  "إنكم تَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ". أي أنهم كانوا يرجعون على السبوت اليهودية وأيام الأعياد، والاحتفالات الأخرى، والسنة اليهودية السبتية، وسنة اليوبيل. ولكن، كما ترون، هذه الأشياء لا تخصنا ولا تنطبق علينا اليوم. لماذا؟ لأن يوم السبت اليهودي قد وجد تحقيقه فيه ذاك الذي قال:‏ "تعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (متى ١١:‏ ٢٨). "تبقى بقية (من يحفظون السبت الحقيقي) من شعب الله" لقد وجدنا سبتنا في المسيح، ولذلك فإنا نقدس اليوم الأول في الأسبوع، يوم قيامته، لا لكي نستحق الأهليةً بل لأنه يسرنا أن يكون لدينا امتياز أن نأتي معاً كجماعة من المؤمنين المتعبدين وأن نستفيد من فرصة الكرازة بإنجيل نعمة الله. ذلك السبت-‏ اليوم السابع كان ذكرى تحرر إسرائيل من مصر. وهذا لا ينطبق علينا، ووجدنا تحقيقه في المسيح. قد يسأل أحدهم:‏ "هل أنت على تمام اليقين بأن السبت الناموسي هو ضمن الرموز؟". نعم، لنفتح الكتاب المقدس على الآية (كولوسي ٢:‏ ١٦، ١٧):‏ "فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أحَدٌ فِي أكْلٍ أوْ شُرْبٍ، أوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أوْ هِلاَلٍ أوْ سَبْتٍ، الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ". ألا ترون؟-‏ لقد كان سبت العهد القديم، استراحة يوم من أصل سبعة أيام. والآن لدي يسوع، ولدي استراحة سبعة أيام من أصل سبعة أيام. لدي استراحة فيه على الدوام، وقد تحررت من سبت الناموس.

ثم كانت هناك الأشهر المقدسة، كان هناك الشهر الذي كانوا يقيمون فيه عيد الفصح وعيد البواكير (عيد الحصاد). ثم الشهر السابع، والذي فيه كان يوم الكفارة العظيم وعيد المظال. ولكن دلالات كل تلك الاشهر والأعياد تحققت في المسيح. فهو الفصح الحقيقي:‏ "إنّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ" (١ كو ٥:‏ ٧، ٨). إن عيد الحصاد قد وجد تحقيقه في قيامة المسيح، وهو الذي قال:‏ "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ" (يوحنا ١٢:‏ ٢٤). لقد وقع المسيح إلى الأرض بالموت، وصار الآن باكورة أولئك الذين رقدوا، وإننا نعبده بعرفان بالجميل على كل ما يعنيه هذا لنا. لقد وجد يوم الكفارة العظيم تحقيقه أيضاً على الصليب. فكان الرب يسوع المسيح هو الأضحية المقدمة قرباناً والتي صنع دمه الثمين كفارة مصالحة للنفس.نقرأ في الكتاب:‏ "لأنَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ فَأنَا أعْطَيْتُكُمْ إيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ لأنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ" (لاويين ١٧:‏ ١١). هذا كله تحقق في يسوع. وهو التحقيق الحقيقي لعيد المظال، العيد الذي يحملنا على انتظار عودته ثانية عندما سيأتينا بالبر الأبدي. لقد أُعطيت جميعها لتشير مسبقاً إلى مجيء ابن الله المبارك وعمله الرائع العجيب.

"إنكم تَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ". لقد دفع كثيرون من الإسرائيليين في العادة السيئة بأن يستشيروا منجمين وآخرين وهكذا عُرفوا كمراقبين للأوقات، ولكن هذا كان مخالفاً لفكر الله بشكل واضح، ويربطه بالشياطين. ليس للمسيحيين أية علاقة بأي شيء من هذا القبيل ثم كانوا يراقبون ويلتزمون بالسنوات المقدسة. فكانت هناك السنة السبتية وكل سابع سنة كان يجب أن تُخصص أو تكرس كسبت للرب. لا يمكنك أن تنتقي أشياء معينة من الناموس وأن تحفظها وحدها وحسب. إن كنت ملزماً بحفظ يوم السبت السابع، فإنك ملزم بأن تحفظ سنة السبت السابعة أيضاً. ولكن بولس يقول بأننا كمسيحيين قد تحرررنا من كل ذلك. لقد كانت مجرد عبودية وقد تحررنا منها.

"أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً!". لقد شك فعلاً فيما إذا كانوا قد اهتدوا حقاً. لقد تذكر كيف أنهم قد اعترفوا بخطاياهم والفرحة التي كانت تغمرهم. والآن يقول لهم:‏ "ألم يكن ذلك حقيقياً؟" قد يشعر الإنسان في أغلب الأحيان. فالبعض يبدأون بداية جيدة ويبدو ظاهرياً أنهم مسيحيون حقيقيون، ولكن سرعان ما تجد أنهم يؤخذون بأمر غير كتابي، وتتساءل فيما إذا كان ذلك كله خطأً. إن خلُص الناس، فإن الروح القدس يختمهم. إنه روح الحق وهو يأتي ليرشدهم إلى الحق الكامل. الحمدلله، فأحياناً يتعافون، ومن ثم نعرف بأنهم كانوا حقيقيين. ولكن إن لم يتعافوا فإننا نقرأ:‏ "مِنَّا خَرَجُوا، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لَكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا" (١ يوحنا ٢:‏ ١٩).

والآن يتوجه مباشرة إلى أولئك المهتدين على يده، وبأجمل أسلوب مليء بالحب والحنان يقول:‏ "أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضاً كَمَا أَنْتُمْ. لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئاً". ما الذي يقصده بذلك؟ إنه يقول لهم عملياً:‏ "كان هناك وقت في حياتي كنت فيه أتقيد بكل هذه الأمور التي تدخلون فيها الآن. وذلك عندما كان كل رجائي بالسماء يستند على أن أصنع براً بذاتي. وكنت دقيقاً في إتباع الشكليات بكل هذه الأشياء التي تتبنونها الآن. لقد تقيدت واحتفلت بعيد الفصح، وحفظت عيد الحصاد، وطقوس يوم التكفير، وحفظت عيد المظال. لقد قمت بكل تلك الأشياء التي تعنون بالقيام بها الآن. وكنت حريصاً منتبهاً إلى أمور اللحوم والمشروبات، وكنت أرى بعض الأطعمة بخسة وليس لي علاقة بها، ولكني أتيت إليكم كواحد منكم. أنتم لم تعرفوا شيئاً عن الناموس، وأنا جئت إليكم كإنسان تحرر كلياً من ناموس موسى، وأعتقد تماماً منه. أتمنى لو أنكم توافوا إلى حيث أنا. كونوا معي الآن كما أنا. فأنا لست تحت الناموس بل تحت النعمة. وأريدكم أن تكونوا تحت النعمة لا تحت الناموس". أمام الله. كانوا فعلياً هكذا، بالطبع، إن كانوا قد خلصوا حقاً، ولكنه كان ليرغب أن يكونوا هكذا بالروح.

ويقول لنا في مكان آخر كيف كان موقفه:‏ "اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ. فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ -‏ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ لِلَّهِ بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ (إذ أني لستُ بدون ناموس الله، بل تحت الناموس للمسيح) -‏ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ" (١ كو ٩:‏ ٢٠، ٢١).

دعوني أوضح موقع بولس. لنعتبر أن هذه المنضدة تشير إليه. إنه يقف في الوسط بين الطرفين. فإلى اليمين هناك أولئك الذين تحت الناموس، أي اليهود؛ وإلى اليسار هناك تحت الناموس ليس لديهم الناموس، أي الأمميين الذين لم يعرفوا شيئاً عن ناموس موسى. والآن يقول:‏ "أنا لست أنتمي إلى أي من الفريقين لأني خلصت بالنعمة، ولكني أقف هنا بين الطرفين، وإذ قد تجددت فإني خاضع للمسيح، لكي أصل إلى اليهودي فإني أُمضي إلى هناك حيث يكون، وإني على استعداد أن أجالسه وأشاركه نوع الطعام الذي يأكله، وأن أذهب معه إلى مجمعه، لكي تسمح لي الفرصة لأكرز له بالإنجيل. وسأستخدم ناموس موسى لأريه خطيئته، والأنبياء لأريه المخلص. ثم أذهب إلى الأمميين، ولكني لا أكرز بناموس موسى لهم". كان ليقول:‏ "عندما أتيت بينكم اتخذت مكاني كإنسان ليس تحت الناموس، بل في حرية النعمة، وكرزت بالمسيح لكم كمخلص لكل الذين يؤمنون. أود لو تقدِّرون ذلك لكيما تقفوا معي. إنكم تتركوني وتذهبون إلى المكان الذي أخرجني منه الله قبل أن خلّصني. ألا ترون الخطأ الذي ترتكبونه؟ إنكم تتخلون عن النعمة من أجل الناموس".

"وَلَكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ. وَتَجْرِبَتِي الَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا، بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللهِ قَبِلْتُمُونِي، كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ". لقد كان يسعى لأن يلامس قلوبهم بتذكيرهم بالأيام الأولى التي جاء فيها إلى أنطاكيّةَ في بيسيديّةَ، إيقونيَّةَ، ولِسْترَةَ، ودَربَةَ، وكرز بالكلمة بينهم. كل هذه كانتمدن غلاطية. هل جاء في موكب أبهةٍ عظيم ومراسم و وتشريفات وألبسة فاخرة فخمة، وشموع وصور؟ لا. ليس شيء من هذا القبيل. لم يأتي ككاهن عظيم ومقتدر أو كشخص يعلن أن لديه سلطة عليهم، بل كإنسان متواضع يكرز بالمسيح وإياه مصلوباً. "تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ".

لقد استخدم الله بولس ليشفي العديد من المرضى، ولكنه لم يشف نفسه، ولم يطلب من أحد إلا الله أن يشفيه. لقد صلّى إلى الله ثلاث مرات لكي يُعتقه من المرض، لكن الله قال له:‏ "سوف لن أحررك ولكن-‏ تكفيك نعمتي". ويجيب بولس قائلاً:‏ "فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ" (٢ كو ١٢:‏ ٩). لقد كان مريضاً لسنين وهو يكرز بالإنجيل. كان ليأتي وسط الناس ضعيفاً ومتعباً ومرهقاً، وعندما لا يكون هناك ما يكفي من المال ليَعول نفسه كان يذهب إلى العمل ويصنع الخيام لكي يكسب نقوداً ليقتات، ومن ثم كان يذهب ليلاً ويبحث عن أناس ليكرز لهم بالمسيح. لقد استودع الإنجيل عند أولئك الغلاطيين بخدمته التي تميزت نكران الذات واستعداده لأن يتألم. وإذ كانوا (وهم الوثنيون البؤساء في تلك الأيام) ينظرون إليه كانوا يتعجبون من أنه كان ولا بد يحبهم كثيراً، وكانوا يعجبون برسالته ويؤمنون بها ويخلصون.  والآن هو يقول:‏ "لقد أضعتم كل ذلك. وما عدتم تهتمون بي أبداً. لقد سرتم خلف أولئك المعلمين الكذبة، وخسرتم الفرح الذي كان لكم:‏" "فَمَاذَا كَانَ إِذاً تَطْوِيبُكُمْ؟ لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي". أعتقد أن الألم الذي احتمله كان له علاقة بعينيه. فعلى الأرجح أنه كان لديه مرض أو علة ما في عينيه جعلت إمكانية القراءة أو رؤية الجمهور صعبة بالنسبة له، وجعلت حضوره خجولاً عندما كان يقف على المنضدة. ومن الممكن أنهم قالوا:‏ "يا لبولس المسكين! لو أمكننا أن نقدم له أعيننا لفعلنا ذلك مسرورين". هذا ما كانوا يشعرون به لفترة ما. "أَفَقَدْ صِرْتُ إِذاً عَدُوّاً لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ؟" هؤلاء المعلمون الأشرار هم الذين أزعجوهم.

"يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَناً، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ". بمعنى آخر، لقد جعلوا منكم فريسة بتعاليمهم المزيفة الكاذبة، محاولين أن يؤثروا عليكم على نحو معاكس لكي تحتشدوا حولهم، لأنهم يريدون أن يقيموا لهم حزباً صغيراً خاصاً بهم. إنهم لا يسعون إلى خيركم، بل يحاولون أن يمدوا تأثيرهم. "حَسَنَةٌ هِيَ الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ، وَلَيْسَ حِينَ حُضُورِي عِنْدَكُمْ فَقَطْ". أي حسنٌ للإنسان أن يكون غيوراً فيما هو حق، حسنٌ أن يمضي وراء الناس بالحقيقة وأن يأتي بهم إلى النور، وأولئك الذين يبدأون في الحقيقة عليهم أن يستمروا فيها.

والآن يقول في بلواه وألمه العميق:‏ "يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ". بمعنى آخر، أتذكر عندما خلصتم، لقد مررت بنفس آلام مخاض الولادة في روحي، والآن أمر بها من جديد لأني في حالة قلق عليكم. "كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِراً عِنْدَكُمُ الآنَ وَأُغَيِّرَ صَوْتِي، لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ!". أي "أكتب لكم أشياء قاسية شديدة اللهجة، ولكني كنت أود لو أتكلم بحنوٍّ ومحبة إليكم لو كنت معكم. ولكني لست مطمئناً إلى حالتكم". الدين الزائف لا يمكن أبداً أن يعطي يقيناً، ولكن الإنجيل المجيد المبارك لنعمة الله يفعل ذلك. إنه يضمن لنا بشكل كامل الخلاص المكتمل والنهائي إذا ما آمنا بالله. فمن سيتنحى إذاً عمداً عن الحرية التي لنا في المسيح يسوع إلى عبودية نظام زائف؟

محاضرة ١١

رمزٌ إلهي

(غل ٤:‏ ٢١-‏ ٣١)

"قُولُوا لِي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ، أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ؟ فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإبراهيم ابْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ. لَكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ، وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ. وَكُلُّ ذَلِكَ رَمْزٌ، لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا الْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، الَّذِي هُوَ هَاجَرُ. لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلَكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا. وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا، الَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعاً، فَهِيَ حُرَّةٌ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «افْرَحِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. اهْتِفِي وَاصْرُخِي أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ، فَإِنَّ أَوْلاَدَ الْمُوحِشَةِ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ». وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ. وَلَكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ، هَكَذَا الآنَ أَيْضاً. لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ». إِذاً أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ".

"قُولُوا لِي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ، أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ؟"

لقد لاحظنا للتو أنه بينما كان الغلاطيون شعب أممي خلصوا بالنعمة، فإنه قد وقعوا تحت تأثير معلمين متهودين معينين كانوا يحاولون أن يضعوهم تحت الناموس. لقد قالوا:‏ "«إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا»" (أع ١٥:‏ ١). وهكذا في هذه الرسالة تناول بولس مسألة الناموس والنعمة الهامة جداً وراح يبسطها، موضحاً إياها، ومبيناً أن الخلاص ليس بأعمال الناموس بل كلياً بسماع الإيمان.

لا شك أن هؤلاء المعلمين المتهودين الذين انسلوا إلى داخل الجماعة المسيحية كانوا يستشهدون بالعهد القديم خلال حديثهم إلى المؤمنين، وكان يمكنهم أن يقدموا نصاً كتابياً تلو الآخر يبدو فيه دليل على أن الناموس كان الامتحان الأهم والأعظم وأن الله كان قد قال:‏ "«إِنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»" (رومية ١٠:‏ ٥) و"«مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»" (غل ٣:‏ ١٠). وهكذا كانوا يسعون للتأثير على هؤلاء المؤمنين من ناحية إعطاء أهمية لمحاولة استرضاء الله، ونيل حظوة في عينيه عن طريق المساعي البشرية.

والآن يقول:‏ "إنكم ترغبون أن تكونوا تحت الناموس؛ أليس كذلك؟ أتريدون أن تضعوا أنفسكم تحت ناموس موسى؟ لماذا لا تسمعون الناموس؟ لماذا لا تقرأون بعناية كتب الناموس وترون ما قاله الله تماماً؟" إنه يستخدم الكلمة "الناموس" هنا بشكلين مختلفين. ففي المثال الأول يشير إلى ناموس موسى، وهو الناموس الذي أُعطي على جبل سيناء مع ما رافقه من قوانين وتشريعات وتنظيمات ومحاكمات كانت مرتبطة به، أما في المثال الثاني فيشير إلى كتب الناموس. "قُولُوا لِي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ (أي العهد القانوني)، أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ (أي كتب الناموس التي يخبرنا فيها الله عن العهود)؟" ثم ينتقل بهم إلى سفر التكوين ويقول:‏ "فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإبراهيم ابْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ". نحن نعرف هذه القصة. فزوجة إبراهيم كانت ساره، وكان الله قد وعد بأن يكون إبراهيموساره والذين لابنه سيكون بشيراً بالنسل الآتي الذي ستتبارك به كل الأمم، ولكن السنون انقضت وبدا وكأنه لن يكون هناك تحقيق لذلك الوعد. وأخيراً، وإذا فقد الأمل، اقترحت ساره نفسها أن ينزلا إلى العادة المتدنية عند الناس في الأمم المحيطة بهم، وأن يتخذ إبراهيم لنفسه زوجة أخرى، ليس لكي تشغل تماماً مكانة زوجة، بل كإمرأة يأتي بها إلى المنزل كمحظية. ووافق إبراهيم بحماقة على ذلك وأخذ هاجر. ونتيجة ذلك الاقتران وُلد ابن و دُعي اسماعيل، وكان إبراهيم يرجو بشدة أن يصير هذا الولد الموعود الذي منه سيأتي المسيا إلى العالم. ولكن الله قال:‏ "لا. ليس هذا هو الموعود. قلت لك ينبغي أن يأتيك طفل من ساره، وليس هذا هو النسل الموعود". فالتمس إبراهيم من الله أن:‏ "«لَيْتَ اسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أمَامَكَ!»" (تك ١٧:‏ ١٨). إلا أن الله قال له:‏ "يمكن أن يكون له ميراث معين، ولكن لا يمكن أن يكون طفل الوعد. وفي الوقت المناسب فإن ساره نفسها ستنجب طفلاً وفي ذلك الطفل سيكون عهدي راسخاً محكماً".

ويرينا بولس الآن أن هذه الأحداث كان لها معنى رمزي. إنه لا يقصد القول أن تلك الأحداث لم تجرِ فعلياً كما هو مكتوب. بل حدثت بالفعل. يقول الكتاب المقدس في ١ كورنثوس ١٠:‏ ١١، مشيراً إلى مدونات العهد القديم:‏ "فَهَذِهِ الأُمُورُ جَمِيعُهَا أَصَابَتْهُمْ مِثَالاً وَكُتِبَتْ لِإِنْذَارِنَا نَحْنُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ". لاحظ القول:‏ "هَذِهِ الأُمُورُ جَمِيعُهَا أَصَابَتْهُمْ". بعض الناس يقولون أنها لم تحدث، وأنها كانت مجرد أساطير، أو فلوكلور شعبي. أو شيء من هذا القبيل. ولكن الروح القدس يقول:‏ "كل هذه الأمور قد حدثت". وهكذا فما تقرأه بالكلمة فيما يتعلق بشخصيات العهد القديم المختلفة، والشعوب، والمدن، وهلم جر، كل هذه نقتبلها كحقائق تاريخية خلال المئة سنة الأخيرة، عندما صرخ صوت علم الآثار بشكل واضح وعالي، لم يكتشف ولو شيء واحد يدحض أي شيء مكتوب في الكتاب المقدس، في حين أن آلاف المكتشفات قد ساعدت على الشهادة على صحة مدونات الكتاب المقدس. ليس من داع إلى المصادقة، بالطبع، فيما يخص الإيمان، لأننا نؤمن بما قاله الله. ولكن هذه المكتشفات الهامة قد ساعدت كثيراً على إسكات أفواه الشكوكين الذين ما كانوا يصدقون أقوال الكتاب المقدس. فإبراهيم عاش وساره عاشت، وهاجر كانت شخصية حقيقية وكذلك الأمر الابنان. من اسماعيل جاء العرب، ومن اسحق جاء العبرانيون. منذ البدء لم يتعايش البلدان، ولم يكن هذان الشعبان على علاقة ودية. ولعل هذا ما يفسر المشكلة في فلسطين اليوم. لم ييستطيعوا أن يتعايشوا منذ البداية، ولا يمكنهم ذلك الآن. إلا أن الرسول بولس يشرع بتبيان أن هاتين الوالدتين وابنيهما كان لهم مغزى رمزي.

"لَكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ (وبهذا يتحدث عن كل المولودين حسب الجسد)، وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ (فاسحق كان ابن الموعد)". لقد كان من غير الممكن تماماً من وجهة نظر طبيعية أن يصبح إبراهيم وساره أبوين في الوقت الذي وُلد فيه اسحق. لقد كان تجلياً إلهياً، معجزةً، كان اسحق ابن الموعد، وبالتالي ابن النعمة. يخبرنا الرسول بولس أن هذه الأمور هي رمز. لقد استخدم الجميع الرموز بكلمة الله لكي نتلقى دروساً أخلاقيةً روحيةً ورمزيةً هامة من هذه الأحداث، وهنا نجد روح الله نفسه يكشف إحداها لنا.

"وَكُلُّ ذَلِكَ رَمْزٌ، لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا الْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، الَّذِي هُوَ هَاجَرُ. لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلَكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا. وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا، الَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعاً، فَهِيَ حُرَّةٌ". هاتان المرأتان تمثلان العهدين، فسار تمثل العهد الإبراهيمي، وهاجر تمثل العهد الموسوي. ما الفرق الذي كان بين هذين العهدين؟ إن العهد الإبراهيمي كان عهد النعمة المطلقة فعندما قال الله لإبراهيم:‏ "بك وبنسلك تتبارك جميع أمم الأرض". لم يضع عليه اي شروط من أي نوع. لقد كان وعداً إلهياً.قال الله:‏ "سوف أفعل ذلك. أنا لا أطلب شيئاً منك يا إبراهيم. بل فقط أخبرك بما سأفعل" هذه النعمة. فالنعمة لا تجعل شروطاً أو بنوداً مع الناس. فالنعمة لا تطلب أن نفعل أي شيء لكي نستحق الأهلية أو الجدارة. كثير من الناس يتحدثون عن الخلاص بالنعمة ولايبدو أن لديهم ادنى إدراك لمفهوم النعمة. إنهم يعتقدون أن الله يعطيهم النعمة التي تجعلهم يفعلون اشياء بها يستحقون الخلاص. ولكن هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. إذ نقرأ:‏ "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ" (رو ٣:‏ ٢٤)، وتلك الكلمة "مجاناً" تعني حرفياً "بدون مقابل". إن نفس الكلمة تترجم ب "بدون سبب" في مكان آخر من الكتاب المقدس.فقيلت مع الرب يسوع المسيح في أن الكتاب المقدس قد أُكمل فيما يتعلق به:‏ "إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ" (يوحنا ١٥:‏ ٢٥). لم يفعل يسوع أي شيء يستحق تلك المعاملة السيئة التي عامله بها الناس وأنت وأنا لا نستطيع أن نفعل أي شيء لنستحق المعاملة الجيدة التي يقدمها الله لنا. لقد عالم الناس يسوع بشكل شيء بدون سبب. ونحن الذين نخلص يعاملنا الله بشكل جيد مجاناً. وبلا سبب. آمل أن تفهموا هذه الحقيقة الرائعة، وأن تهتز روحكم طرباً من جراء ذلك. ما أروع أن نخلص بالنعمة! إن أحد الأسباب التي يخلص لأجلها الإنسان بالنعمة هو أن "العطاء أعظم غبطة من الأخذ"، وبالتأكيد فإنه يحظى بأكبر مقدار من الغبطة.

قبل سنوات، بنت سيدة مترفة كنيسة جميلة في نيويورك. وفي يوم التكريس جاء وكيلها من بين الجمهور وصعد إلى المنصة وسلم صك الملكية للأسقف البروتستانتي في نيويورك. وبموجب الصك قدم الأسقف مبلغ دولار للوكيل، وبفضل هذا الدولار الذي كان تعبيراً عن الشكر انتقلت الملكية إلى الكنيسة الأسقفية البروتستانتية. لعلك تقول يالها من تقدمة رائعة! "نعم. إنها كذلك بمعنى من المعاني، لأن دفع مبلغ الدولار كان مجرد التزام أو عرف قانوني. ولكن في نهاية الأمر، وبالمعنى الكتابي الكامل لم تكن تلك تقدمة، لأنها كلفت دولاراً.ولذلك فإن الصك قدكتب ليس كصك تقدمة بل كصك بيع فقد بيع المبنى إلى الكنيسة الأسقفية البروتستانتية لقاء دولار.إن كان عليك أن تفعل ولو أمراًً واحداً لكي تخلص ولو أن ترفع يدك، أو تقف على قدميك، أو قول كلمة واحدة، فلن يكون الامر تقدمة. يمكنك أن تقول في هذه الحالة:‏ "لقد فعلت كذا وكذا، وبهذه الطريقة نلت خلاصي". ولكن هذه الغبطة التي لا تقدر بثمن هي مجانية تماماً. "فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً وَإِلاَّ فَالْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلاً" (رو ١١:‏ ٦). هذا ما يقوله روح الله لنا بالكلمة.

وهكذا نرى عهد النعمة متمثلاً في ساره.فقد قال الله لساره:‏ "ستلدين ابناً، وذلك الولد سيكون وسيلة بركة للعالم بأسره". لقد كان يبدو أن ذلك الأمر من غير الممكن أن يتحقق، ولكن في زمن الله الخيِّر تحققت كلمته، فأخيراً ومن خلال اسحق جاء ربنا يسوع المسيح الذي أتى بالبركة إلى كل البشر. من جهة أخرى كانت هاجر جارية، وهي تمثل عهد الناموس، العهد الموسوي، الذي أُقيم على جبل سيناء، إذ قال الله هناك:‏ "الإنسان الذي يفعل هذه يحيا بها"، ولكن لم يوجد إنسان قط أمكنه أن يحفظ ذلك بشكل كامل، ولذلك وعلى أساس الناموس ما كان أحد ابداً لينال الحياة. وأصبحت ساره، التي ترمز إلى النعمة أماً لطفل الموعد. في حين أن هاجر التي كانت ترمز إلى الناموس قد أصبحت أماً لطفل الجسد.إن الناموس يخص الجسد وحسب،في حين أن المؤمن هو ابن الموعد وقد وُلد بقوة إليهة. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ" (يوحنا ٣:‏ ٣). فما السر في أن الناس على استعداد كبير ليتبنوا الناموسية التشريعية ويخشون النعمة؟ إن السبب هو أن الناموسية التشريعية تروق للفكر الطبيعي.

أذكر أني مررت على مجموعة ترجمات ماكس مولر للأدب الشرقي المقدس، الموضوعة في ٣٨ مجلد ضخم. لقد اطلعت عليها لأحصل على بعض الفهم حول أنظمة الأديان المختلفة في المشرق، وجدت أنه رغم اختلافها في عشرة آلاف أمرٍ، إلا أنها كلها كانت تتفق على أمر واحد، ألا وهي أن الخلاص يمكن أن يُنال بالسعي الذاتي، والفرق الوحيد كان في ماهية هذه المساعي. جميعها كانت تُعلِّم أن الخلاص بالأعمال، وكل دين ما عدا ذلك الموحى به من السماء يفرض على الناس أن يفعلوا أشياء أو يدفعوا أشياء لكي يكسبوا رضى الله. وهذا يروق للإنسان الطبيعي. إنه يشعر بشكل بديهي أن الله يساعد أولئك الذين يساعدون أنفسهم، وأنه إذا ما قام بأفضل ما بوسعه، فلا بد أن الله عندئذ سيكون مهتماً لأن يفعل شيئاً من أجله ولكن أفضل ما يمكن أن نقدمه هو عديم القيمة تماماً:‏ "وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا" (أشعياء ٦٤:‏ ٦). وكلما أسرعنا في معرفة انه ليس لنا صلاح في ذاتنا، وأنه ليس لدينا أي شيء نقدمه لله به نكسب خلاصنا، وكلما كان ذلك أفضل بالنسبة لنا.وعندما نتعلم ذلك، نكون على استعداد لأن نخلص بالنعمة وحدها. إننا نأتي إلى الله كخطاة بؤساء معزين عاجزين، ومن خلال العمل الذي أنجزه الرب يسوع المسيح من أجل خلاصنا فإننا نحن المؤمنين به نصبح أولاد الموعد.

لقد كانت هاجر تمثل أورشليم التي كانت على الارض لأن أورشليم في ذلك الوقت كانت مركز الدين الشريعي الناموسي. أما ساره فتمثل أورشليم العلوية، "االتي هي أمنا جميعاً"، أو حرفياً "أمنا". إن الناموس هوالنظام الأرضي، وهو يخص أناساً أرضيين، وضع لأجل أناس بحسب الجسد، في حين أن النعمة هي نظام سماوي يفيد  أولاد الموعد. واورشليم العلوية هي أمنا لماذا؟ لأن المسيح هو في العلاء فوق. لقد صعد المسيح إلى هناك، وإذ صنع بنفسه تطهيراً للخطايا، فقد اتخذ مجلسه على يمين جلال الله في السماوات وهو يجلس ممجداً هناك، أميراً ومخلصاً، ومن ذلك العرش تتدفق النعمة نازلة على الخطأة.

"تتدفق النعمة كنهر،
ملايين هناك قد تزودوا من ماءه؛
ولايزال ينبع نقياً كما دائماً،
من جنب المخلص المجروح:‏
لن يهلك أحدٌ، بل الكل مسيحياً لأن
المسيح مات عنهم".

هل آمنت بهذا المخلص؟هل اقتبلت تلك النعمة؟ أيمكنك أن تقول:‏ "نعم، أنا مواطن في السماء؛ أورشليم العلوية هي أمي"؟ حتى إبراهيم كان يبحث عن تلك المدينة السماوية. لقد وعده الله بميراث على الأرض، ويوماً ما سيمتلك أولاده ذاك الإرث. إنهم يحاولون أن يحصلوا عليه الآن بحسب الجسد، ويمرون بأوقات عصيبة جداً. يوماً ما وبحسب الموعد، سيمتلكونه، وعندها يكون بركة للجميع. سيكون ذلك بعد أن تنفتح أعينهم لرؤية الرب يسوع المسيح كمسيا الذي ينتظرونه. أناس كثيرون مهتمون ومنزعجون بشأن فلسطين أنا مهتم جداً بما يجري هناك. وارى ان ما يحدث هو ماتحدثت عنه الكلمة. أما السبب في سبي اليهود من تلك الارض قبل ١٩٠٠ سنة كان هو أنهم "لم يعرفوا وقت افتقادهم"، وعندما جاء مخلصهم رفضوه. قالوا:‏ "«لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرُ»". وعندما سألهم بيلاطس:‏ "ماذا أفعل بيسوع الذي يُدعى المسيح؟"، قالوا:‏ "«خُذْهُ! خُذْهُ اصْلِبْهُ!»" (يوحنا ١٩:‏ ١٥)، "«دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا»" (متى ٢٧:‏ ٢٥). يالفظاعة تلك اللعنة التي دفعوا ثمنها عبر قرون. فذلك لم يمنع أذى الاضطهاد عن اليهود بل كان دليلاً على الدينونة الإلهية. سوف لن يكون لهم المخلص، وسيقبعون تحت كعب حذاء قيصر الحديدي منذ ذلك الحين. وهاهم الآن يحاولون العودة إلى فلسطين. هل غيروا موقفهم او افكارهم؟ هل عادوا إلى الله واعترفوا بخطيئة صلب رب المجد؟ لا. إذاً أنىّ لهم أن يتوقعوا بركة إذ يرجعون إلى تلك الأرض؟ لا عجب ان هناك مشكلة إذاً. مشكلة ستستمر وتزداد إلى أن تأتي أيام الضيقة العظيمة المظلمة والمخيفة. ليسوا إلا أولاد هاجر، ولكن يوماً ما وعندما تختطف الكنيسة لتكون مع الرب، يلتفت الله من جديد إلى شعب اسرائيل، فإن بقية منهم ستخلص. "فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ" (زكريا ١٢:‏ ١٠). وعندما يعترفون به كمخلص ورب، هو الذي كانوا قد رفضوه مرة، سيطهرهم من خطاياهم سيعيدهم إلى دياره. سوف يأتي بهم إلى البركة والغبطة. ويدمر من يعاديهم، وسيكونون هم أنفسهم وسيلة بركة للأرض كلها. ذاك هو البرنامج الإلهي الذي وضعه كلمة الله.

إني لأود أن أحث أي صديق يهودي على أن يبحث ويسبر أغوار كتابه المقدس. أفلا تعودون إلى كتابكم المقدس وتقرأون الإصحاح ٥٣ من سفر اشعياء، والمزمور ٢٢، والمزمور ٦٩ والإصحاحات الثلاثة الأخيرة من سفر زكريا، ثم إن كان لديكم عهد جديد، اقرأوا الرسالة على العبرانيين وإنجيل متى، وانظروا إذا كان روح الله لن يريكم السبب الأساسي لما يعانيه الشعب اليهودي اليوم؟ إن كل ما عانوه من مشاكل كان بسبب سعيهم وراء البركة ليس بحسب الروح فحسب بل بحسب الجسد، وهكذا رفضوا النسل الموعود عندما جاء. وأنتم أيها الأمميون إن كنتم تبحثون عن الخلاص من خلال عضوية الكنيسة، أو التقيد بالطقوس، أو الإحسان والمحبة، أو صالح الأعمال، أو الصلوات، أو أعمال العقاب الذاتي، أفلا تستطيعون أن تروا أنكم أنتم أيضاً تسعون وراء البركة بحسب الجسد في حين أن الله ليمنحكم إياها على أساس النعمة وحسب؟ ألا ليتكم تستطيعون أن تصبحوا أولاد ساره، أولاد عهد النعمة، الذين يمكنهم أن يقولوا:‏ "الحمد لله، فإن أورشليم العلوية هي أمنا". "فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ"، على حد قول الرسول بولس، "هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (فيلمون ٣:‏ ٢٠). ونعلم أن إبراهيم" كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ" (عب ١١:‏ ١٠). إن إبراهيم في السماء وكل أولاده الروحيين الذين ماتوا في الماضي هم معه هناك. يخبرنا الرب يسوع عن الفقير المتسول، ابن إبراهيم، الذي مات وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. إن كل المفتدين الذين توفوا هم في نفس الفردوس المجيد حيث إبراهيم، وفي المستقبل وعندما يأتي يسوع، سننضم كلنا إلى ذلك الحشد السعيد.

وعندئذ، ليس الآن وحسب بل خلال الألفية، كم سيكون عدد أولاد الله! ولذلك فإن الرسول بولس يقتبس من أشعياء ٥٤:‏ ١ ويقول:‏ "تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَمْخَضْ لأَنَّ بَنِي الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي ذَاتِ الْبَعْلِ قَالَ الرَّبُّ". يا له من نص كتابي عجيب! لاحظوا أولاً الشخصية التي يتحدث عنها. إن الإصحاح الذي يسبق ذلك هو أشعياء ٥٣. وهناك نجد النبوءة الكاملة والتامة عن مجيء الرب يسوع إلى العالم، ومعاناته وموته وقيامته، التي نجدها في كل مكان في الكتاب المقدس. إن أشعياء يبدو كأنه يراه يتألم وينزف ويموت على الصليب. ويقول:‏ "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (أشعياء ٥٣:‏ ٥، ٦). وينهي النبي ذلك الأصحاح بالكلمات الرائعة:‏ "وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (الآية ١٢). ثم تأتي الكلمة التالية مباشرة، في الأصحاح ٥٤، وهي "ترنمي". هناك الكثير مما يجعلك تترنّم:‏ "فَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ. فترنّمي...". بماذا سنترنم؟ بالنعمة التي لا نظير لها والتي أظهرها الله في المسيح. لقد ترجم بولس تلك الكلمة "ابتهجي" بالكلمة "ترنمي". لماذا؟ لأن يسوع قد مات، وسُوِّيَتْ مسألةُ الخطية، والآن بمقدور الله أن يترك النعمة المجانية تتدفق إلى الخطأة البائسين. لقد كانت النعمة في الماضي كمثل امرأة مهجورة متروكة ولوحدها وكانت تتوق لأن تصبح أمَّ أولاد، لكنها كانت تبكي وتنتحب وحيدةً. ومن جهة أخرى هناك الناموسية التشريعية التي ترمز إليها امرأة أخرى وهذه لها آلاف الأولاد، أناس يعترفون بأنهم مخلّصون بمساعي بشرية، مخلصون بحسناتهم وفضائلهم الذاتية. نعم إن الناموسية هي أمّ رائعة، لها عائلة كبيرة، والنعمة البائسة لا يبدو أن لها أولاد على الإطلاق. أما الآن فها هو الإنجيل ينتشر، وماذا يحدث؟ إن النعمة المرأة المتروكة، المهملة، تصبح أم أولاد أكثر من الناموسية. "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «افْرَحِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. اهْتِفِي وَاصْرُخِي أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ، فَإِنَّ أَوْلاَدَ الْمُوحِشَةِ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ»". وهكذا فالنعمة لها ملايين لا تحصى من الأولاد الآن، وسيكون هناك ملايين أُخر في الدهر المجيد العتيد.

"ملايين قد وصلوا إلى ذاك الشاطئ السعيد،
انتهت محاولاتهم وكدحهم،
ولايزال هناك متسع لملايين آخرين.
فهلا ذهبت إلى هناك؟"

"وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ". هل أنت متأكد أن هذا ينطبق عليك؟ هل آمنت بوعد الله؟ لقد وعد بخلاص كامل مجاني أبدي لكل من يؤمن بابنه. ونحن الذين آمنا قد صرنا أولاد الموعد. أما أولاد الناموسية فلا يمكنهم أن يفهموا ذلك. ما من أحد يبغض النعمة بقدر الإنسان الذي يحاول أن يخلّص نفسه بجهوده الذاتية.

"وَلَكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ، هَكَذَا الآنَ أَيْضاً". خلال الدهور المظلمة، ولأكثر من ألف سنة، كانت عقائد النعمة ضائعة وغير مقبولة في الكنيسة، وكثيرون كانوا يحاولون أن يخلّصوا أنفسهم من خلال أعمال كفّارة عن الخطيئة، ورحلات مرهقة، وبآلاف وآلاف الصلوات التي يرددونها مراراً وتكراراً، وبتقديم الأموال من ثرواتهم يهبونها للكنائس ويبنون أديرةً. لقد كان عدد أولاد الناموسية كبيراً جداً، وفتح الله أعين مارتن لوثر، وجون كنوكس، وجون كالفن، ووليم فاريل، وجمهرة من أناس آخرين، واكتشفوا أنه بينما كان يحاول الناس أن يخلصوا أنفسهم بمساعي بشرية، كانت إرادة الله أن يخلص الخطأة البائسين بالنعمة. تمسك لوثر بالنص الذي يقول:‏ "البار بالإيمان يحيا"، وبدأت الحقيقة تنتشر بكل أرجاء ألمانيا وأوروبا ثم انتشرت في بريطانيا، وسرعان ما اندلع اضطهاد قاسٍ وراح الناس يصرخون:‏ "اقتلوهم، أولئك الناس الذين يؤمنون أن الخلاص بالنعمة، فمن لا يؤمنون بأنه يمكنهم الخلاص بأعمال التكفير والفضائل البشرية، احرقوهم، أميتوهم جوعاً، اقتلوهم بالرصاص، افصلوا رؤوسهم، افعلوا كل ما يمكنكم لتخلِّصوا العالم منهم". إنهم لا يتخلصون منهم بتلك الطرق اليوم، إلا أن العالم لا يزال يبغض ويمقت الناس الذين يخلصون بالنعمة. إذا أتيتم إلى مجتمع حيث الناس لا يزالون يستمرون في موقف الاعتداد بالنفس بفضل برّهم الذاتي، ويتخيلون أنهم سيذهبون إلى السماء من خلال حضور الكنيسة، لأنهم اعتمدوا وهم أطفال صغار، ونالوا التثبيت وهم في الثانية عشر من العمر، وقدموا بعضاً من أموالهم، والتزموا بواجباتهم الدينية، وسألتموهم:‏ "هل نلتم الخلاص؟" فسيكون جوابهم أن:‏ "لا يمكن لأحد أبداً أن يعرف إلى أن نأتي إلى كرسي الدينونة، ولكني أحاول أن أكون كذلك". فتقولون:‏ "حسناً. يمكنكم أن تكونوا متأكدين". وتخبرونهم أن الخلاص بالنعمة، فيهتفون صارخين:‏ "ماذا تقصد؟ ماهذا التعصب البغيض!" وحالاً سيبدأون باضطهادكم. إن أولاد الجسد لا يمكنهم أن يحتملوا أو يطيقوا أولاد الروح.

"لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ»"، يقول الله:‏ "إن أولادي هم أولاد الموعد. أولادي هم أولئك الذين يخلصون بالنعمة" هل عرفتم غبطة وسعادة واقعية هذه الحقيقة في أنفسهم؟

ويختم الرسول بولس الحديث قائلاً:‏ "إِذاً أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ". بمعنى آخر، ليس لنا علاقة بالعهد الناموسي التشريعي بل إننا أولاد عهد النعمة.

"النعمة هي أعذب صوت،
قد بلغت أسماعنا أبداً.
عندما ثقل ضميرنا وعبست العدالة،
النعمة هي من أزال مخاوفنا".

محاضرة ١٢

السقوط مِنَ النِّعْمَةِ

(غل ٥:‏ ١-‏ ٦)

"فَاثْبُتُوا إِذاً فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ. هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ:‏ إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئاً! لَكِنْ أَشْهَدُ أَيْضاً لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ النَّامُوسِ. قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ. فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرٍّ. لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ".

في الإصحاح الخامس والسادس لدينا القسم الثالث من الرسالة، وهو القسم العملي. إنه يرينا ما يحدث في حياتنا إذا ما ثبتنا في الحقيقة المباركة بأن الخلاص هو كلياً بالنعمة بالإيمان بالمسيح يسوع، ولذلك يبدأ على هذا النحو:‏ "اثبتوا إذاً". لماذا؟ بسبب العمل الذي أنجزه المسيح والذي من خلاله كل من يؤمن ليس فقط يتحرر من الدينونة الناجمة عن خطاياه، وليس فقط يتحرر من قصاص انتهاك الناموس، بل يتحرر من الناموس نفسه ويدخل في ناموس المسيح. فالمؤمن يسلك الآن في مكان لم يكن معروفاً قبلاً أبداً. إنه في الأسفل هنا في هذا العالم، نعم هذا صحيح، ولكنه ليس بدون ناموس، ليس تحت الناموس، بل هو خاضع للرب يسوع المسيح، وهكذا يؤتى به إلى الحرية المجيدة-‏ الحرية، بالطبع، في ألا يفعل إرادة الإنسان الطبيعي، وألا يطيع إملاءات الجسد، بل الحرية التي تمجد الله، وتُحلّي عقائد المسيح بحياة مقدسة منتصرة إذ يعبر هذا العالم. هذه هي الحرية التي أتى بنا المسيح إليها، والآن أن نعود إلى نظام تشريعي ما كمثل ذاك الذي في اليهودية أو ذلك المنتشر في العالم المسيحي اليوم يعني أن نصبح "مُرْتَبِكُين أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ".

خلال القرون التي كان اليهود فيها تحت الناموس، ما من أحد منهم وجد الخلاص بممارسة الناموس الطقسي أو إطاعة الناموس المُعطى على جبل سيناء، لأن الجميع أخفقوا وهذا جعلهم جميعاً تحت الدينونة. لكن المسيح جاء بنا إلى الحرية. فكم هي حماقة منّا إذاً أن نعود تحت الناموس الذي يولّد العبودية وحسب. أمكن لبولس أن يقول:‏ "لقد كنت في تلك العبودية مرةً، ولكني تحررتُ منها، وأنتم أيها الوثنيون لم تعرفوا أبداً تلك العبودية، ولكنكم تعرفون شيئاً من الحرية التي في المسيح. أستعودون الآن إلى تلك العبودية التي أعتق الله كل يهودي يخلّصه منها؟ إنها لحماقة أن تتخذوا خطوة كهذه. ولكن إن أردتم أن تفعلوا ذلك فمن الأفضل لكم أن تذهبوا إلى نهاية المطاف، لأنه لا يمكنكم أن تتخذوا أوامر معينة وتقولون:‏ "سأطيع تلك الأشياء" لأن الله يقول:‏ "«مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»" (غل ٣:‏ ١٠).

"هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ:‏ إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئاً!". هذا يعني، إذا اعتمدوا على طقس الختان من أجل خلاص نفوسهم فإنهم يتجاهلون المسيح. إنه يقول أنه إذا ضل أحدهم لوهلة وقَبِلَ تعليمَ هؤلاء المهودين، يخسر المسيح، بل إنه كان اعتمادهم على هذه الأشياء، فإنهم يستخفون بالمسيح. "لَكِنْ أَشْهَدُ أَيْضاً لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ النَّامُوسِ". إذا اتخذتم الخطوة الأولى، فاذهبوا إلى نهاية الطريق، لأن الناموس هو واحد. لا يمكنكم أن تأخذوا منه ما يسرّكم وترفضون الباقي. "قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ". بالطبع إن المعنى الحقيقي هو أنه إذا كان أحد يسعى وراء التدبير بالناموس، فإنه يطلب أن يكون مستقيماً في عيني الرب على أساس جهوده البشرية الذاتية. إنك تقول:‏ "حسناً. لقد أمر الله شعبه أن يقوم بها". نعم، في العهد القديم، ولكننا نقرأ أن:‏ "الناموس كان مؤدبنا (معلم طفولتنا) إلى المسيح". أما الآن وقد جاء المسيح فما عدنا تحت مؤدبٍ. إن عدتم للناموس فإنكم تضعون المسيح جانباً. لا يمكنكم أن تربطوا بين مبدأي الناموس والنعمة.

في رومية نعلم أنه إن كان الخلاص "بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً وَإِلاَّ فَالْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلاً" (رو ١١:‏ ٦). يجب أن يكون الأمر على أحد الشكلين، إما أن تنال خلاصك بجهودك الذاتية، أو تقبله كعطية أو هبة مجانية من الله. إن آمنتَ بالمسيح مخلصاً لك تكون قد اقتبلته عطيةً. وإن فعلتَ أي شيء لتستحقه، أو عملتَ من أجله، أو اتبعته، فسوف لن يكون عطيةً. ولذلك نقرأ:‏ "أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً" (رو ٤:‏ ٤، ٥). ولذلك، وإن عدت إلى الناموس بعد أن عرفت المسيح، فإنك تنحّي مخلصك جانباً عن عمدٍ. "وتسقط من النعمة".

هذا تعبير يجده كثيرون مهماً جداً. جاء رجل إلى صديق لي، وهو قسٌ ميثودي، وقال:‏ "إني أفهم أنكم أنتم الميثوديين تؤمنون بالسقوط من النعمة، أهذا صحيح؟"

فقال:‏ "أفهم أنكم أنتم المشيخيون تؤمنون بسرقة الخيول".

  • "كلا. لسنا كذلك".
  • "حسناً. أفلا تؤمنون بأنه يمكن لرجل أن يسرق خيولاً؟"
  • "نعم، لكننا لن نفعل ذلك".
  • "حسناً. إننا نؤمن أنه من الممكن للناس لأن يسقطوا من النعمة ولكننا لا نؤمن بفعل ذلك".

ولكن ما الذي تقصده بالقول "السقوط من النعمة"؟ هنا لدينا تعبير من الكتاب المقدس:‏ "سقطتم من النعمة". في الواقع كان من الأفضل أن تُترجم على الشكل التالي:‏ "لقد سقطتم بعيدين عن النعمة"-‏ لقد تنحيتم عن النعمة. هل يعني هذا أنه إذا ما كان إنسان مرة مسيحياً ولكن سقط في نوع ما من الخطيئة أنه يفقد خلاصه ولا يعود مسيحياً؟ إن كانتْ تعني ذلك يكفُّ عن أن يكون مسيحياً كل يوم. لأنه ما من إنسان في اي مكان لا يرتكب خطيئة من نوع ما كل يوم، خطايا الفكر، أو القول، أو الفعل. لكن السقوط من النعمة لا يعني الغوص في الخطيئة، والغوص في الفجور أو أي أعمال شريرة أخرى، بل يعني تحول عن المعيار المسيحي الكامل والواضح والسامي بأن الخلاص هو بالنعمة فقط نزولاً إلى المستوى المتدني في محاولة أن يحافظ المرء على خلاصه بجهود بشرية. ولذلك فإن رجلاً يقول:‏ "لقد خلصت بالنعمة. ولكن استمراري الآن يعتمد على مساعي الذايتة"، يكون قد سقط من النعمة. هذا هو معنى العبارة "يسقط من النعمة".

لا يهمني ما تتخيلون أن تفعلوه لكي تبقوا مخلصين. فأياً كان الأمر إنكم تضعون أنفسكم على أساس شرعي إذا ما كنتم، وبعد إيمانكم بالرب يسوع المسيح، تفكرون أن خلاصكم يصير مضموناً أكثر بالمعمودية وبالمشاركة في عشاء الرب، وبتقديم الأموال، وبالانضمام إلى الكنيسة. إن فعلتم هذه الأشياء لكي تساعدكم على خلاص نفوسكم، فإنكم بذلك تسقطون من النعمة. إنكم تخفقون في إدراك أن الخلاص هو بالنعمة وحدها، بعطية الله ومنّته التي لستم مضطرين لعمل شيء لأجل استحقاقها. قد يسأل سائل:‏ "ألا تعتقد بضرورة القيام بهذه الأشياء؟" في الواقع، نعم. ولكن ليس لكي أخلّص نفسي، بل بدافع المحبة للمسيح.

"سوف لن أَسْعَ لأستحق،
ذلك العمل الذي قام به الرب،
بل سأعمل كمثل أي خادم،
بدافع الحب لابن الله العزيز".

إن الطاعة المسيحية لا تقوم على أساس الناموس بل الحب للمسيح.

إنها نعمة الله العاملة في النفس هي التي تجعل المؤمن يبتهج في القداسة، وفي البر، وفي طاعة مشيئة الله، لأن الفرح الحقيقي يوجد في خدمة الرب يسوع المسيح. أذكر إنساناً عاش حياة حافلة بالخطيئة. بعد اهتدائه قال له أحد أصدقائه القدامى:‏ "يا بيل، إني أشفق عليك أنت الرجل الذي عاش مغامراً محلّقاً في الأعالي إلى ذاك الحد، والآن قد ركنْتَ، وتذهب إلى الكنيسة أو تبقى في المنزل وتقرأ الكتاب المقدس وتصلي. فلم تَعُدْ تمضي أوقات طيبة كما في السابق".

فقال الرجل:‏ "ولكن يا بوب. إنك تفهم. فأنا أستطيع أن أشرب (أسكر) في أي وقت أشاء. واذهب إلى المسرح أنما شئت. وأرفض عندما أريد. وألعب الورق وأقامر في أي وقت أرغب".

فقال صديقه:‏ "أحقاً يا بيل؟ لم أكن أعتقد ذلك. لقد ظننت أنه عليك أن تتخلى عن كل هذه الأشياء لكي تكون مسيحياً".

قال بيل:‏ "لا يا بوب. لقد أخذ الرب كل رغباتي (أي "أريد") عندما خلص نفسي، وجعلني خليقة جديدة في المسيح يسوع".

إننا لا نضع شروطاً على الرب ونقول له:‏ "إن كنت ستخلصني فلن أفعل كذا، بل سأفعل كذا". بل إننا نأتي إليه وأيدينا فارغة ونقول:‏ "يارب، لا أستطيع أن أفعل أي شيء لأخلص نفسي. لك أن تفعل ذلك بنعمتك المجانية الخاصة. وإلا فإني خاسر ضالٌ إلى الأبد". والآن إن كنا، كمسيحيين، ننزل إلى مستوى أدنى من ذلك المستوى الرفيع ونبقى نحاول أن نجعل من أنفسنا مقبولين لدى الله ببعض المساعي والجهود البشرية فإننا بذلك نسقط من النعمة. نعم إننا نؤمن حقاً أنه من الممكن أن نسقط من النعمة، ونؤمن أيضاً أن حوالي ثلاثة أرباع العالم المسيحي قد سقطوا من النعمة. لا أقصد القول أنهم لن يذهبوا إلى السماء بل أقصد أن كثير من المسيحيين الحقيقيين انحطوا إلى مستوى متدن للغاية. إنهم منشغلون جداً بمساعيهم الذاتية الخاصة بدلاً من الانشغال بعمل ربنا يسوع المسيح المنجز المجيد.

"فإننا بالروح". إن كل شيء بالنسبة للمؤمن هو بالروح. الروح القدس جاء ليسكن فينا، والله يعمل عمله فينا بالروح. ولذلك فبدلاً من الجهود البشرية، وبدلاً من محاولة أن نفعل شيئاً لكي ننال حظوة إلهية، فإننا نسلم ذواتنا لروح قدس الله لكي يعمل فينا ومن خلالنا لمجد ربنا يسوع المسيح. "فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرٍّ". ما هو رجاء البر؟ إنه المجيء الثاني لربنا يسوع المسيح واحتشادنا معاً للقاءه. لقد جُعلنا الآن بر الله في المسيح، ومع ذلك ففي كل يوم نندب إخفاقاتنا. إننا لا نرتقي إلى القمم التي نرغب بها. وفي كل ليلة نركع أمام الله ونعترف بخطايانا. إلا أننا نتوق بأمل سعيد إلى الوقت الذي يأتي فيه يسوع ثانية ويحول أجساد مذلّتنا هذه، وعندها سنكون مثله تماماً.

"سريعاً أجتاز الصحراء الموحشة،
قريباً سأودع الألم،
لا حزن أو قلق بعد اليوم.
لا خطيئة ثانية أبداً أبداً"

"إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ" (١ يوحنا ٣:‏ ٢).

"لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّة". سواء كان الإنسان يهودياً أم أممياً فلا فرق بينهما، سواء كان حافظاً للناموس متصلباً أو عابد أوثان، فليس من فرق. "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رو ٣:‏ ٢٣). عندما يضع الناس رجاء إيمانهم على الرب يسوع المسيح فإن الروح القدس يأتي ويسكن فيهم، ونقول أنهم "في المسيح" و"إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (رو ٨:‏ ١). ذلك لأننا وإلى الأبد مرتبطون بابنه، الرب يسوع المسيح. إن أعمالنا البشرية وطقوسنا الدينية لا تفيد من ناحية تبرير النفس. ما الذي ينفع إذاً؟ "الإيمان العامل في المحبة". وإذ نسلك في صحبة الرب يسوع المسيح، وإذ أن قلوبنا مأخوذة به، والإيمان يجعل المسيح حقيقياً "وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى" (عب ١١:‏ ١). سوف نجد الثقة بالأشياء التي نرجوها، والاقتناع الأكيد بحقيقة الأشياء التي لم ترها أعيننا قط. بالإيمان نعلم أن يسوع حي وبالإيمان نعلم أن مسألة الخطيئة قد سُويت، وأننا في المسيح. وإذ نمضي بإيمانٍ ناظرين إليه، ومستمدين منه موارد جديدة من النعمة يوماً فيوماً، يعمل الإيمان بالمحبة. والمحبة هي تحقيق الناموس، ولذلك لسنا في حاجة لأن نكون تحت الناموس لكي نحيا على نحو قويم صحيح. إن الأمر الطبيعي الوحيد الآن للمسيحيين هو أن يسعوا ليعيشوا لمجد ربنا يسوع المسيح.

دخل طبيب إلى غرفة حيث كنت أزور عائلة كانت لديهم طفلة عزيزة مريضة جداً. لقد كانت قُرّة عين والدتها. وقال الطبيب:‏ "والآن يا سيدة كذا، هناك شيء أود أن أقترحه. بسبب حالة الفتاة الصغيرة أود ألا يُعنى أي أحد غيرك بها. وإن اهتمامك بها وبالطفلة سيعني الكثير الكثير لها. فهي في حالة عصبية شديدة". هل تعتقدون أن تلك الأم قد وجدت في هذا ناموساً تصعب إطاعته؟ إن قلبها الأمومي قادها لأن تجيب على الفور قائلة:‏ "نعم أيها الطبيب، سأحرص على ألا يعتني بها أي أحد غيري. وسأفعل كل ما بوسعي من أجلها". أكانت تلك ناموسية؟ لا بل كانت "إيماناً عاملاً بالمحبة". وهكذا الحال عند المسيحيين. إن كل طاعتنا تنبع من تكرس القلب للرب يسوع المسيح. إننا نُسّرُ بفعل الصلاح، ونُسَرُ بمساعدة الآخرين، ونسر بالكرازة بكلمته، وبخدمة أولئك الذين هم في حاجة أو محنة أو كرب، نسر بما يسميه يسوع نفسه "الأعمال الصالحة". ذلك لأننا نحب المسيح ونريد أن نعمل تلك الأشياء التي يستحسنها. وكل ما عدا ذلك هو "سقوط من النعمة".

محاضرة ١٣

الإيمان العامل بالمحبة

(غل ٥:‏ ٧-‏ ١٥)

"كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَناً. فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ؟ هَذِهِ الْمُطَاوَعَةُ لَيْسَتْ مِنَ الَّذِي دَعَاكُمْ. خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ. وَلَكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي الرَّبِّ أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئاً آخَرَ. وَلَكِنَّ الَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ الدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ. وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ؟ إِذاً عَثْرَةُ الصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ. يَا لَيْتَ الَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضاً! فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ:‏ «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً".

يتابع بولس حديثه فيرينا أن الحرية المسيحية ليست إذناً أو حرية لنعيش بحسب الجسد، بل إنها حرية لنمجد الله. لاحظ كيف يسكب قلبه أمامهم، إذ يفكر في ارتداهم. يقول:‏ "كنتم تسعون حسناً". أي أنه ينظر إلى الماضي إلى تلك السنوات الأولى ويذكّرهم بتكرّسهم وفرحهم الأول، وكم كانوا مثابرين وكم كانوا يسعون إلى تمجيد الرب. لكن شهادتهم تشوهت، وحبهم الأول ضاع، وما عادوا مخلصين إلى ذاك الحد، وخداماً فاعلين للرب يسوع المسيح كما كانوا قبلاً. لقد ضلّلتهم التعاليم الخاطئة.

"كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَناً. فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ؟" ما الذي جعلهم ينحرفون عن الطريق القويم؟ كان ذلك بسب قبولهم فكرة أنهم، ورغم أنهم تبرروا بالإيمان، كان ليمكنهم، بحسب اعتقادهم، بالناموس فقط أن يتقدسوا، وهذا خطأ شائع اليوم. يعتقد كثيرون أنه في حين أن الناموس لا يمكن أن يبرر، فمع ذلك، فعندما يتبرر المرء، فإن طاعة الناموس هي التي تقدس. ولكن الناموس أعجز ما يكون عن التقديس كما عن التبرير. ولا يفيد أن نحاول وضع الطبيعة القديمة تحت الناموس. إن لديك طبيعتان، القديمة، الجسدانية، والجديدة، الروحية. تلك الطبيعة القديمة مظلمة جداً، والجديدة مشرقة للغاية. الطبيعة القديمة فاسدة، والجديدة صالحة. فليس من المفيد أن تقول للطبيعة القديمة "عليك طاعة الناموس"، لأن الفكر الجسداني لا يخضع لناموس الله، من جهة أخرى، لست في حاجة لتقول ذلك للطبيعة الجديدة لأنها تبتهج بناموس الله. ولذلك فإن تقديسنا ليس من الناموس. ولقد عجز الغلاطيون عن إدراك هذه الحقيقة.

وهكذا يقول بولس في الآية ٨:‏ "هَذِهِ الْمُطَاوَعَةُ لَيْسَتْ مِنَ الَّذِي دَعَاكُمْ". إن الكلمة المترجمة بـ "مطاوعة" كان من الأفضل ترجمتها بـ "إمكانية الإقناع". هذه القابلية للإقتناع، وهذا الاستعداد من جهتك لتقتنع بتعاليم هؤلاء المعلمين الكذبة، "لَيْسَتْ مِنَ الَّذِي دَعَاكُمْ". إن الناس يغيرون وجهات نظرهم الدينية بسهولة كما يغيرون مواقفهم السياسية. ففي يوم يكونون على رأي معين، ثم على رأي آخر في اليوم التالي. إنهم يبدأون على نحو معين سليم، ثم يأتي أول معلم كاذب مضلل فيلفت انتباههم، وإذا ما استند إلى استشهادات كتابية يقولون:‏ "يبدو الأمر معقولاً. وهو يستند إلى الكتاب المقدس في ذلك". وهكذا ينتقلون من معلم إلى آخر ولا يستقرون على رأي أو أمر أينما ذهبوا، يقول الرسول بولس أن هذا الاستعداد للاقتناع برأي معلمين من البشر هو ليس من الله. إن كنت تسلك مع الله فإنك ستصغي إلى صوته وتسمع كلمته، وتُحفظ من سهولة الاقتناع الزائدة.

"خمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ". هكذا تقول الآية ٩. هذه الجملة نفسها نجدها في ١ كو ٥:‏ ٦، حيث يحذّر بولس القديسين من التسامح والتساهل في اللا أخلاقيات في وسطهم. لقد كان بينهم إنسان فاسد. كان يعيش في الخطيئة، وبدوا عاجزين عن معالجة أمره، كما تفعل بعض الكنائس اليوم الذين لم تكن لديهم حالة تأديب منذ سنوات، بل هناك تسامح وتساهل في كل أنواع الشرور. إنهم لا يجرأون على أن ينبروا لمعالجة تلك المسائل. هؤلاء الكورنثيون كانوا يتفاخرون بحقيقة أنهم ذووا أفق واسع في التفكير بما يكفي ليغفلوا عن الزنى وسفاح القربى الذي يرتكبه هذا الإنسان، فيقول بولس لهم:‏ "إن كنتم ستفعلون ذلك، فعليكم مواجهة حقيقة أن "خمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ". وآخرون ينظرون إلى المشيئة فيقولون:‏ "إذا كانت كنيسة الله لا تتخذ موقفاً ضد هذه الأشياء، فلماذا سنبالي نحن؟"

هنا في غلاطية، لا يتحدث الرسول بولس عن الفساد في الحياة بل عن عقيدة مزيفة غير صحيحة، ويقول أنه إذا لم يعالجوها على ضوء كلمة الله فسيجدون أنها أيضاً مثل الخميرة "خميرة صغيرة تخمر العجين كله"، وسيأتي الوقت عندما سيضلون كلياً معنى نعمة الله. من الجدير بالانتباه أن نلاحظ أن الخميرة في كلمة الله هي دائماً صورة للشر كثيرون من الناس لا يرونها هكذا. إنهم يتحدثون عن "خميرة الإنجيل" في متى حيث يقول الرب يسوع:‏ "«يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ»" (متى ١٣:‏ ٣٣). إن فكرتهم هي أن الأكيال الثلاثة من الدقيق تمثل العالم، وأن المرأة هي الكنيسة التي تضع الخمير، ألا وهو الإنجيل في العالم، وفي المستقبل سيهتدي العالم بأكمله. إننا في تلك الحالة منذ حوالي ٢٠٠٠ سنة، وبدلاً من أن يكون العالم قد اهتدى، نجد أن الكنيسة المعترفة تتراجع عن اهتدائها.

فكروا في استصدار مرسوم لمحو اسم الله من كل النصوص التي كتبت على جدران أي كنيسة في ألمانيا-‏ ألمانيا موطن الإصلاح. ألمانيا حيث قاد لوثر الناس بعيداً عن طلمة الفساد-‏ وفكروا في ذلك البلد الذي يحاول أن يمسح اسم الله اليوم، إننا لا نعمل على اهتداء العالم بسرعة كافية. فكروا في روسيا حيث تم التعريف بالإنجيل منذ أكثر من ١٥٠٠ سنة، ونجد اليوم كل المحاولات المبذولة لتدمير الشهادة التي بقيت في تلك الأرض. إن الأمر يستغرق ألفية تلو الألفية ليخلص العالم بشهادتنا، إذا ما خلص، ولكن ذلك ليس برنامجنا. إذ نقرأ:‏ "مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟ (لوقا ١٨:‏ ٨). "كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً فِي أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ" (لوقا ١٧:‏ ٢٧). لقد كان الفساد والشر يملآن العالم في أيام نوح، وهكذا اليوم يملأ الفساد والشر العالمَ. "كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيُزوِّجُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ الْفُلْكَ وَجَاءَ الطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ" (لوقا ١٧:‏ ٢٧). إننا نرى نفس الأشياء تحدث اليوم، ففي يوم ما سيذهب شعب الله، ليس في فلك، بل سيُختطفون لملاقاة الرب في الهواء، وثم سيأتي طوفان الدينونة المريع فينسكب على هذا العالم البائس. إن المثل لا يعني أن الإنجيل سيستمر إلى أن يهتدي العالم بمجمله. بل يعني العكس تماماً. أكيال الدقيق الثلاثة كانت تمثل تقدمة الدقيق، وتقدمة الدقيق كانت طعام شعب الله وكان يرمز إلى المسيح، مخلصنا المبارك والمقدس. لم يكن هناك خميرة في تقدمة الدقيق، لأن ذلك كان رمز الشر. الخمير هو التعليم المغلوط الذي يفسد الحقيقة. لقد أشار يسوع إلى ثلاث أنواع من الخمير فقال:‏ "«انْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ هِيرُودُسَ وخَمِير الْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ الصُّدُّوقيين". خمير هيرودس كان الفساد والشر السياسي، وخمير الفريسيين كان البر الذاتي والنفاق، وخمير الصدوقيين كان المادية، كان يمكن القول على أي من هذه على أنها "خميرة صغيرة تخمر العجين كله". إن الأمر الذي يوقف عملها هو أن نعرّضها لتأثير النار، وعندما نتمحص هذه الأشياء على ضوء إنجيل المسيح فلا يعود لها أي فعل أو أثر.

ولكن رغم أن بولس يحذر هؤلاء الغلاطيين إلا أنه لا يتخلى عنهم. إنه يشعر بأنهم سيخرجون من الأمر على نحو سليم، لأنه يعرف كم كانوا صادقين في البداية. "وَلَكِنَّنِي أَثِقُ بِكُمْ فِي الرَّبِّ أَنَّكُمْ لاَ تَفْتَكِرُونَ شَيْئاً آخَرَ. وَلَكِنَّ الَّذِي يُزْعِجُكُمْ سَيَحْمِلُ الدَّيْنُونَةَ أَيَّ مَنْ كَانَ". يا له من قول رزين مهيب! لقد قال الله:‏ "لاَ تَضِلُّوا! اللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً" (غل ٦:‏ ٧). ونعلم أن:‏ "لَيْسَ عِنْدَ اللهِ مُحَابَاةٌ" (رومية ٢:‏ ١١). كم ينبغي لهذا أن يحفظ قلوبنا عندما نرى رجالاً في مراكز مرموقة اليوم وهم مذنبون مدانون بجرائم شائنة شنيعة بحق المدنية. إننا نرتعد إذ نرى مدى عجز الأمم في مكافحة هكذا رجال ومبادئهم الشريرة. عجيب أن طغاة الأرض لا يزالون يتحدون الله. ولكنه سوف يطبق قبضته على كل هذه الأشياء يوماً ما، والدينونة آتية لا محالة طالما أن هناك إلهاً في السماء. لأن الله قد قال، فيما يتعلق بنسل ابراهيم:‏ "لِيَكُنْ لاعِنُوكَ مَلْعُونِينَ وَمُبَارِكُوكَ مُبَارَكِينَ»" (تك ٢٧:‏ ٢٩). الإنسان الذي سيعامل نسل ابراهيم بقساوة وفظاظة هو تحت لعنة الله. ستقع تلك الدينونة يوماً ما. يمكننا أن نكون على يقين من ذلك. ليس من مهرب من ذلك، لأن الله أصدر حكماً قضائياً بذلك. قد يعبث الناس مع الله لبرهة وقد يشكّون لأنه يبدو ذا صبر طويل، ولكن اليونانيين اعتادوا أن يقولوا:‏ "إن طواحين الآلهة تطحن على مهل، إلا أنها تطحن إلى ذرات بالغة الصغر". في كل جانب من جوانب الحياة تبقى الحقيقة في أن الله هو إله دينونةٍ، و"بِهِ تُوزَنُ الأَعْمَالُ" (١ صموئيل ٢:‏ ٣).

ثم يقول بولس:‏ "وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ"-‏ لنفترض أني كرزتُ بكل هذه الأمور التشريعية الناموسية، فهل تظنون أني كنتُ سأُضطهدُ كما أنا الآن؟ بالتأكيد لا. ولكن إن فعلتُ ذلك لما كنتُ مخلصاً لرسالتي العظيمة الموكلة إليّ. "فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ؟ إِذاً عَثْرَةُ (عار) الصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ". ما الذي يقصده بقوله:‏ "عَثَرةُ الصليب"؟ لقد كانت نهاية مخزية وخيمة للإنسان أن يموت مرغماً على الصليب. لقد كان الصليب كمثل المشنقة اليوم. قال سيسيرو:‏ "الصليب، إنه مخزٌ جداً، حتى أنه ينبغي ألا يذكر في المجتمع الرفيع". كما أن الشخص الذي لديه قريب قد ارتكب جريمة قتل وشنق من جراء ذلك، فإنه لن يرغب في أن يتحدث عن هذا الأمر، هكذا كان الناس يشعرون بخصوص الصليب في تلك الأيام. ومع ذلك فإن ابن الله مات على الصليب. آه يالعاره! فالقدوس، الخالق السرمدي، الذي أتى بكل الأشياء إلى الوجود، قد مضى إلى ذلك الصليب ومات عن خطايانا. يقول بولس عملياً:‏ إنكم تعتبرون ذلك الصليب بلا قيمة إن أدخلتم أية وسيلة خلاص ظاهرة أخرى بدلاً من موت يسوع الذي خلصنا به الرب من الخطايا" ثم يصرخ قائلاً:‏ "يَا لَيْتَ الَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضاً!" أو حرفياً:‏ "أود لو يَقطع أولئك الذين يزعجونكم أنفسهم". هؤلاء الرجال الذين يحرِّفون إنجيل المسيح.

في الآية ١٣ يعود إلى موضوع الحرية:‏ "فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ"-‏ لقد تحررتم وما عدتم عبيداً، بل إنكم أحرار-‏ "لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ". لا تقولوا :‏ "حسناً. الآن قد خلصت بالنعمة ولذلك فأنا حرٌ أن أفعل ما يحلو لي". لا بل قولوا لقد خلصت بالنعمة ولذلك أنا حر لأمجد الله، إله كل نعمة! لدي الحرية لأحيا لله، لدي الحرية لأُعظِّم وأُبَجِّل المسيح الذي مات عني، ولدي الحرية لأن أسلك في المحبة نحو جميع إخوتي. إنها حرية مجيدة، حرية القداسة، حرية البر. "بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً". إذ قد دُعينا إلى هذه الحرية فلنكن مستعدين لأن نكون خداماً. إن ربنا المبارك يضرب لنا مثلاً فقد أخذ ذلك الدور على الأرض:‏ "فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ" (يوحنا ١٣:‏ ١٤). بالمحبة نُسَرُّ بأن نخدم. انظروا إلى تلك الأمّ التي تُعنى بطفلتها الصغيرة. إن عليها أن تقوم بأشياء كثيرة لا يُسَرُّ قلبُها بها بشكل طبيعي. فهل خدمتها عبودية إذ تُعنى بابنتها الطفلة؟ لا. إنها تُسَرُّ بأن تقوم بما يمليه عليها الحب، وهكذا في علاقتنا مع بعضنا البعض، كم سنكون مسرورين إن كانت لنا الفرصة بأن نخدم إخوتنا المؤمنين. "بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً".

"لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ". لكأنه يقول:‏ "إنكُّم تتحدثون عن الناموس، وتصرُّون على أنه على المؤمنين أن يأتوا تحت الناموس. لماذا لا تتوقفون من أجل أن تفكروا بما يعلمه الناموس حقاً؟ "لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ:‏ «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ»". إن الإنسان الذي يحب سوف لن يخالف أي وصية. إن كنت أحب الله كما ينبغي، فلن أُخطئ تجاهه. انظروا إلى يوسف، الذي تعرض لإغواء شديد، لعله كان أكبر مما يتعرض له كثيرون، ومع ذلك فقد كان رده على المغوية أن:‏ "أنىّ لي أن أفعل هذا الشر العظيم وأن أُخطئ نحو الله؟" لقد أحب الله وهذا ما حفظه في ساعة الإغواء والتجربة. وعندما نأتي إلى تعاملنا مع رفاقنا وأصحابنا، إن كنا نحب قريبنا كأنفسنا، فإننا لن نخالف الوصايا. فلن نكذب أحدنا على الآخر، ولن نشهد زوراً، ولن يزني أحد، ولن يكون هناك انتهاك لناموس الله، وسوف لن نقتل. لن يسيء أحد إلى الآخر إن كنا نسلك في المحبة. "لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ:‏ «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ»". إن الروح القدس الذي يسكن في كل مؤمن هو روح محبة، وإن الطبيعة الجديدة هي طبيعة قد غرسها الله بنفسه، فالله محبة وبذلك فمن الطبيعي للطبيعة الجديدة أن تحب. عندما تجد مؤمناً يسلك بطريقة لا محبة فيها، ولا يكون لطيفاً في تعامله، فإن في مقدورك أن تتيقن أن تلك هي الطبيعة القديمة وليست الطبيعة الجديدة، وهي التي تتسلط عليه في تلك اللحظة. ليتنا نسلك في المحبة لكي يتمجد المسيح في جميع طرقنا! لقد قيل عن المسيحيين الأوائل، حتى على لسان الوثنيين أنفسهم،:‏ "انظروا كيف يحبون بعضهم بعضاً!" هل يمكن أن تقول هذا عنّا دائماً؟ أم يجب أن نقول:‏ "انظروا كيف يتشاجرون. انظروا كيف يخزون أحدهم الآخر". ياللعيب، إن قيلت هكذا أشياء عنّا. "لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ:‏ «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ»".

والآن من جهة أخرى، إن أخفق أحد في ذلك:‏ "فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً". إن كنتم تسيئون إلى سمعة بعضكم البعض، وتنتقدون بعضكم، وتتشاجرون، فانتبهوا، لأن النتيجة الطبيعية هي أنكم سوف تفنون بعضكم بعضاً. أتعلمون لماذا آلت إلى دمارٍ تلك الشهاداتُ الكثيرة التي كانت يوماً ما لامعة في عيني الله؟ ذلك بسبب روحٍ نزاعةٍ إلى الخلاف، والانتقادت والنميمة، تتسلل إلى وسط شعب الله، والله لا يمكنه أن يبارك ذلك. إن كنتم أنتم وأنا نرتكب هكذا إثمٍ، فعلينا أن نأتي إلى حضرة الله ونتفحص طرقنا أمامه. نعم ولنلتمس منه أن يسبر قلوبنا، ونعترف وندين كل أمرٍ فيه خطيئة أمام ناظريه لكيما نكون مساعدين وليس معوقين في خدمته.

"فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً". قد يقول أحدهم:‏ "حسناً. لطالما كرهت نفسي إذا ما قلت أي شيء فظٍ، وأعتزم ألا أعيد الكرّة". المشكلة هي أنك لم تسلم لسانك إلى الرب يسوع المسيح. إنكم تذكرون الكلمة أن "قَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ" (رو ١٢:‏ ١). إن عدداً كبيراً من الناس قد قدموا كل جزء من أجسادهم تقريباً ما عدا لسانهم. لقد حفظوا لسانهم لأنفسهم، ويسمحون له أن يتحرك بالقيل والقال إلى أن يتسببوا تدريجياً في إحداث الكثير من الألم والحزن وسط شعب الله. أفلا تقولون:‏ "يارب. لساني هذا قد أعطيتنيه كي أمجدك. لطالما استخدمته لأجد عيوباً عند الآخرين، ولأسيء لسمعة أخٍ أو أختٍ، وأن أقول أشياء بدون لطفٍ وبدون لباقة بخصوص الآخرين. فيارب يسوع، إني أقدمه لك، فهذا اللسان قد ابتعته بدمك. ساعدني على أن أستخدمه من الآن فصاعداً فقط لتمجيدك. وباستخدامه في تمجيدك فإني سأستخدمه لأبارك وأساعد الآخرين بدلاً من أن أحزنهم وأعوقهم".

 لعلك لم تأتِ أبداً إلى يسوع، على الأرجح أنك تقول:‏ "هل هناك من قوة كمثل التي تتحدث عنها يمكنها أن ترفع شخصاً فوق حياة الخطيئة، وتمكّنه من أن يحيا هكذا؟" نعم. هناك طريقة. تعال إلى الرب يسوع المسيح، وآمن به، واقتبله مخلصاً لك، وتوِّجْه رباً على حياتك، وستجد أن كل شيء سيكون مختلفاً، كل شيء سيكون جديداً. ستجد فرحاً، وسروراً، ما كنت لتجدهما في كل الطرق المعوجة لهذا العالم البائس، إنه يقول:‏ "هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي" (رؤيا ٣:‏ ٢٠). افتح باب قلبك على مصراعيه اليوم وقل:‏

"تعال، يارب، وادخل،
واجعل قلبي مسكناً لك.
تعال، وطهّر روحي من الخطيئة،
واسكن معي وحدي"

سيكون في غاية السرور إذ يدخل إلى قلبك، ويأخذ زمام أمورك، وكل شيء سيغدو جديداً على ضوء حضوره.

Pages