November 2014

الأصحاح ١٠:‏١-‏٤٥

إذ اجتاز يسوع وتلاميذه عبر بيرية شرق الأردن، جاؤوا إلى مخاضة بَيْتِ عَبْرَةَ وعبروا إلى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ على طريق أورشليم، حيث كان عليه أن يُتمَّ رسالته بالموت كذبيحة تقدمة عظيمة عن الخطيئة على صليب العار.

"وَقَامَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ أَيْضاً وَكَعَادَتِهِ كَانَ أَيْضاً يُعَلِّمُهُمْ. فَتَقَدَّمَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَسَأَلُوهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟» لِيُجَرِّبُوهُ. فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟» فَقَالُوا: «مُوسَى أَذِنَ أَنْ يُكْتَبَ كِتَابُ طَلاَقٍ فَتُطَلَّقُ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ كَتَبَ لَكُمْ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَلَكِنْ مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللَّهُ. مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إِنْسَانٌ». ثُمَّ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا. وَإِنْ طَلَّقَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي»" (١٠: ١- ١٢).

رغم أن يسوع كان غائباً عن اليهودية لبعض الوقت، إلا أن شهرته سبقتْه إليه، ولجأت إليه جموعٌ من الناس على أهبة الاستعداد لسماع ما كان ليقوله. وبحسب عادته، استغل الفرصة ليعلّمهم.

جاء إليه بعضٌ من طائفة الفريسيين وسألوه عن موضوع الطلاق. قالوا: "«هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟»" لم يكن هذا الاستفسار عن نية حسنة. ما كانوا يبحثون عن تعليم يتعلق بهذه المسألة، بل فرصة ليتهموه رسمياً. ولو أمكنهم لكانوا يودون أن يُظهروه كمعلّم خطر غير موثوق وهرطوقي منشق يعطي تعاليم مخالفة لناموس موسى.

فأحبط مسعاهم بأن سألهم: "«بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟»". فأجابوا أن موسى سمح بإصدار كتاب طلاق يُدفع للمرأة غير المرغوبة وغير المحبوبة من قِبَلِ زوجها فتُطلّق.

فقال يسوع أن هذا قد أُجيزَ بسبب قساوة قلب الرجال، لئلا تُضطر المرأة غير المرغوبة من زوجها لأن تتحمل المزيد من المعاملات المهينة أكثر من الطلاق. ولكن لم يكن هذا أسمى ما في فكر الله بخصوص علاقة الزواج.

فمن بَدْءِ الْخَلِيقَةِ خَلَقَ الله الإنسان لتكون امرأة واحدة لرجلٍ واحد، وذلك عندما خلق والدينا الأولين ذكراً وأنثى، وقال: "مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاِثْنَانِ- (اثنان وليس ثلاثة أو أكثر)- جَسَداً وَاحِداً". لذلك عندما يرتبط اثنان برباط الزوجية لا يعودان شخصين منفصلين، لهما الحرية في أن يمضيا أو يبقيا بحسب رغبتهما، بل يصيران جسداً واحداً.

وأضاف يسوع قائلاً: "فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إِنْسَانٌ". قد يضع البشر قوانين تنتهك هذا الترتيب الإلهي، ولكن ما من قانون أو مرسوم بشري يمكن أن يُبطل كلمةَ الله. الزواج هو شركة في الحياة. ويقول يسوع في موضع آخر أنه إن خالف متعاقدان شروط الاتفاق وحطم أحدهما قيد الاتفاق، بلجوئه إلى حياة التعايش أو المعاشرة (مع طرف آخر)، فإن الطرف البريء يكون حراً أو مطلقاً (متى ١٩: ٩). ولكن باستثناء هذا الخرق أو النقض لعهد الزواج لا يجوز حلُّ الرباط الزوجي إلا بالموت، كما أوضح لتلاميذه وهم في البيت من جديد، في معزل عن الجموع. أن يطلّقَ رجلٌ امرأته ويتزوج بأخرى هو زنى، وأن تُطلّق امرأةٌ زوجَها وتتزوج بآخر تصبح زانيةً.

في القسم التالي يعبّر يسوع عن اهتمامه المحب بالأطفال الصغار.

"وَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَوْلاَداً لِكَيْ يَلْمِسَهُمْ. وَأَمَّا التَّلاَمِيذُ فَانْتَهَرُوا الَّذِينَ قَدَّمُوهُمْ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذَلِكَ اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ: «دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللَّهِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللَّهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ». فَاحْتَضَنَهُمْ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَبَارَكَهُمْ" (١٠: ١٣- ١٦).

 "قَدَّمُوا إِلَيْهِ أَوْلاَداً .... وَأَمَّا التَّلاَمِيذُ فَانْتَهَرُوا الَّذِينَ قَدَّمُوهُمْ". الآباء الذين شعروا أن الرب سيهتم بأولادهم الصغار أتوا بهم إليه لكيما يضع يديه عليهم بالبركة. وإذ لم يفهم التلاميذ قلب الرب يسوع المسيح، فإنهم حاولوا أن يكبحوا الأهل لئلا ينزعج يسوع من الأولاد. لقد اعتبروا أن في هذا إقحامُ عبءٍ على معلمهم، وكأن انشغاله بالأولاد هو دون مستواه. ولكن يسوع هو صديق الأطفال، كما أوضح في الحال.

"دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللَّهِ". لقد استاء المخلص من موقف التلاميذ، ودعا الأهل ليأتوا بأولادهم، مؤكداً لهم أن الصغار هم أعضاء نموذجيون في الملكوت، بفضل إيمانهم المطلق به. الأطفال هم مهتدون متجددون مثاليون. عندما يصيرون في سن مناسبة ليفهموا قصة الرب يسوع، يصيرون في عمر ملائم لأن يأتوا إليه بثقة إيمانية. إنهم يدخلون إلى ملكوت الله في وقت يرفض فيه من هم أكبر منهم سناً وأوفر منهم حكمةً، بحسب المقاييس البشرية، أن يفعلوا المثل. عندما قال ربنا عن هؤلاء الصغار أن "لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللَّهِ"، فإنه لم يكن يعني أن يقول أنهم ليسوا في حاجة إلى أن يتجددوا ليدخلوا حقاً ذلك الملكوت. فهم ينحدرون من نسل ضال ساقط، وهم أولاد الغضب بالطبيعة. ولكن إيمانهم البسيط يجعلهم مؤهلين للملكوت، وفي ذلك هم مثال لنا جميعاً.

"مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللَّهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ". فقط عندما نُظهر هكذا إيمان طفولي ندخل إلى ملكوت الله.

"فَاحْتَضَنَهُمْ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَبَارَكَهُمْ". هكذا يتأكد الأهل حتى في يومنا الحاضر أنه، ولو لم يُرَ بالعين البشرية، فإنه يأخذ أولادنا بيديه المحبتين ويمنحهم بركته عندما نأتي بهم إليه بإيمان.

هداية الأولاد:

هناك كثيرون اليوم، هم مثل هؤلاء التلاميذ في ذلك الوقت، يتخيلون أن الأولاد الصغار هم أصغر من أن يأتوا إلى الرب يسوع المسيح. ولكن كلماته أوضح من أن يُساء فهمها. إنه يدعو الأولاد لأن يأتوا إليه، ويشجع الأهل على إحضارهم. في موضع آخر يتحدث عن "هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي" (متى ١٨: ٦)، ويحذّر بشدة من أن يضع أحدٌ حجر عثرة أمام أقدامهم غير الخبيرة. ومن هنا فإننا محقون عندما نرنم قائلين: "هناك صديق للأولاد الصغار". إنه صديقهم، ويُسرّ بمحبتهم وإيمانهم به، ويعتبرهم أصدقاء له. إنها لحقيقة معروفة أن العدد الأكبر ممن هم اليوم مسيحيون حقيقيون جدّيون قد أتوا إلى المخلص قبل بلوغهم الثانية عشرة من العمر.

الحادث الذي تلا ذلك والذي يشد انتباهنا كان من الملائم جداً وصفه بأنه "الرفض الكبير".

"وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إِلَى الطَّرِيقِ رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ. أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلِبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ وَقَالَ لَهُ: «يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ». فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِيناً لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ" (١٠: ١٧- ٢٢).

خلافاً لجميع الذين سألوا يسوع لكيما يوقعوه في فخ مستندين إلى كلماته بالذات بطريقة أو بأخرى، يبدو هذا الشاب، ولو بالحد الأدنى، جاداً بقوة. نعلم من الإنجيل أنه جاء راكضاً، ثم سقط على ركبتيه أمام يسوع، دلالة التبعية والولاء ليسوع وهو يسأله: "«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟»".

فرد عليه يسوع مستنداً إلى أسلوبه في المحاججة. وسأله أولاً لماذا استخدم العبارة "الصالح" في حديثه إليه. إذ يقول الكتاب المقدس أنه "لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (مز ١٤: ٣). فلماذا يخاطب يسوع بالصالح، إذاً، ما لم يكن قد ميّز فيه ابن الله، لأن الله وحده صالحٌ؟ لم يجب الشاب على هذا السؤال.

ثم تلا يسوع الوصايا الست التي تُظهر مسؤوليتنا نحو القريب، بما فيها تلك التي تدعونا لنكرم والدينا، الذين، كما رأينا، يمثلون الله أمام الأولاد في البيت. لقد قال الناموس: "تَحْفَظُونَ فَرَائِضِي وَأحْكَامِي الَّتِي إذَا فَعَلَهَا الْإنْسَانُ يَحْيَا بِهَا" (لاويين ١٨: ٥).

فأجاب الشاب بدون لحظة تردد: "يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي".

لقد كان هذا الشاب، ظاهرياً، بلا لوم، كمثل شاول الطرسوسي قبل اهتدائه، لأنه كان يلامس بر الناموس. ما لم يدركه هو أن كل البر البشري ما هو إلا كَثَوْبِ عِدَّةٍ في نظر الله، وذلك بسبب فساد القلب.

لكي يختبره يسوع ويكشف الشر المحتجب في قلبه قال له: "يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ". إنها دعوة لاقتبال المسيح كمخلص والاعتراف به رباً. لكن ذاك (الشاب) الذي بدا في غاية الجدية في بادئ الأمر، لم يستطع اقتناص الفرصة المتاحة أمامه؛ فذاك الذي ادعى محبة القريب كنفسه لم يكن مستعداً لأن يتخلى عن ثروته لخير الآخرين، ولم يكن مستعداً لأن يسلِّم زمام حياته ليسوع. ولذلك مضى حزيناً لأن ثروته العظيمة وقفت حائلاً بينه وبين الولاء للمسيح. هل تاب أبداً؟ لا نعلم. من الكتاب المقدس نعلم فقط أنه ذهب مغْتَمَّاً، لأنه انصرف عن نور الحياة.

"فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ!» فَتَحَيَّرَ التَّلاَمِيذُ مِنْ كَلاَمِهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضاً وَقَالَ لَهُمْ: «يَا بَنِيَّ مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! مُرُورُ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ!» فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللَّهِ»" (١٠: ٢٣- ٢٧).

يمكننا أن نستشعر مدى الألم الذي اعتصر قلب الرب وهو يقول للتلاميذ مستغرقاً في التفكير: "«مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ!»".

لقد اندهشوا لسماع ذلك، إذ لا شك أنهم فكروا، كما يفعل الكثيرون اليوم، بأن الفقراء هم أكثر أهلية لدخول الملكوت من الأغنياء. ولكن يسوع أوضح أن الخطر هو في أن يضع الإنسان ثقته بثروته التي تمنع المرء من أن يتخذ مكانه الصحيح أمام الله كخاطئ بائس يمكنه أن يخلص بالنعمة وحسب.

إن مرور الجمل من ثقب الإبرة لهو أسهل من دخول غني ملكوت الله. وحدهم أولئك الذين يبكّتون أنفسهم ويأتون إلى الله، معترفين بحالتهم الضالة وفقرهم الروحي، يجدون مدخلاً إلى هناك.

وسأل التلاميذ مذهولين مبهوتين: "فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟"

فأجابهم يسوع قائلاً أن كل شيء مستطاع عند الله. حتى الأغنياء يمكن الإتيان بهم إلى مكان لا تعود فيه الثروة هي موضع ثقتهم بل الله الحي.

"وَﭐبْتَدَأَ بُطْرُسُ يَقُولُ لَهُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَال: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بُيُوتاً وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَداً وَحُقُولاً مَعَ اضْطِهَادَاتٍ وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. وَلَكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ»" (١٠: ٢٨- ٣١).

من الطبيعي أن يخطر على بالنا السؤال حول ما دفع بطرس ليقول ما قال. هل كان قلقاً بخصوص مستقبله ورفاقه التلاميذ إذا ما تمنع الأغنياء عن الهرع نحو يسوع ومساعدته في تأسيس الملكوت المسياني المرتقب؟ لربما كان هذا سبباً. لقد قال: "هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ". لكأن كلماته تدل ضمنياً على تساؤله إذا ما كانوا جازفوا جميعاً سعياً وراء أمل سراب.

رد يسوع عليه بكلمات مطمئنة رغم أنه ما كان في ذلك الوقت يقوّم بشكل كامل أفكار أتباعه الدنيوية الزمانية بما يخص طبيعة الملكوت الآتي. لقد أعطى وعداً قاطعاً بأنه ما من أحد سيخسر، بل بالحري سيكسب من جراء مشاركته درب الرفض. فقال: "لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بُيُوتاً وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَداً وَحُقُولاً مَعَ اضْطِهَادَاتٍ وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ". ولكنه نبههم إلى حقيقة أن كثيرين من الأولين سيصيرون أخيرين، والأخيرين أولين. وهذا يعني أنه ليس كل من أعطى وعداً بأن يكون تابعاً وفياً مخلصاً سيتابع طريق نكران الذات كرمى لاسم المسيح، كما وأن البعض الذين يبدون متخلفين في مسيرهم والذين كان تكرسهم موضع شك سوف يبرهنون على أنهم صادقون (في إيمانهم) وناكرون لأنفسهم في ساعة التجربة.

إتباع المسيح يعني أن نشترك في كأس آلامه، وأن نقع ضحية سوء فهم، بل وحتى أن نكون عرضة للكراهية ويُفترى علينا في عالم شرير. إن من يسلك هذا الطريق يجد فرحاً في الشركة مع ذلك الملك المنبوذ وفي الصلة الوثيقة مع شركائه في الألم، هذا الفرح الذي لم يعرفه الدنيويون؛ كما ويتطلع برجاء راسخ إلى دخول الحياة الأبدية في الدهر الآتي. المؤمنون جميعاً لهم الآن حياة أبدية مقيمة فيهم ولكن في جسد فاسد. وفي الدهر الآتي سندخل إلى الحياة بكامل ملئها عندما يتم افتداء الجسد والروح على نحو كامل من عبودية الفساد.

"وَكَانُوا فِي الطَّرِيقِ صَاعِدِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَقَدَّمُهُمْ يَسُوعُ وَكَانُوا يَتَحَيَّرُونَ. وَفِيمَا هُمْ يَتْبَعُونَ كَانُوا يَخَافُونَ. فَأَخَذَ الاِثْنَيْ عَشَرَ أَيْضاً وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ عَمَّا سَيَحْدُثُ لَهُ: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ»" (١٠: ٣٢- ٣٤).

بينما كانت الجماعة الصغيرة تسير نحو أورشليم كان هناك شيء في سيماء ومحيا يسوع جعل التلاميذ يخافون ويضطربون. ويخبرنا لوقا (٩: ٥١) أن يسوع "ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ". لقد كان يعرف تماماً ما ينتظره هناك، ومضى قُدُماً دونما وجل وبتصميم معقود العزم تبدّى بشكل واضح في سيماءه، وجعل الاثني عشر يشعرون بالقلق وعدم الارتياح. هل ستتبدد كل أحلامهم بملكوتٍ مجيدٍ عتيدٍ فيه سيُعلِن يسوع نفسَه كمسيا ويحرر بني إسرائيل من نير الرومان؟ هل تركوا، في نهاية المطاف، كل شيء كانوا يمتلكونه وغامروا بكل شيء على رجاء لا أساس له؟

حاول يسوع أن يجعلهم يفهمون ما سيحدث له، ولكنهم كانوا لا يزالون يخفقون في استيعاب كلماته، وكانت تتملكهم بهوسٍ فكرةُ أن الملكوت على وشك أن يتأسس.

قال أنهم عندما يصلون إلى أورشليم فإن ابن الإنسان سوف يُسلم إلى القادة الدينيين، الذين كانوا دائماً وأبداً خصوماً له، وكانوا ليحكمون عليه بالموت، ويسلّمونه إلى قادتهم الأمميين الذين سيهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَى وجهه المبارك وفي النهاية يَقْتُلُونَهُ. ولكنه أعطاهم من جديد الوعد بأنه "فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ". ما يلي ذلك يُظهر مدى هشاشة فهم التلاميذ للأمور التي تكلم عنها.

"وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبْدِي قَائِلَيْنِ: «يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ لَنَا كُلَّ مَا طَلَبْنَا». فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ لَكُمَا؟» فَقَالاَ لَهُ: «أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟» فَقَالاَ لَهُ: «نَسْتَطِيعُ». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَمَّا الْكَأْسُ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا فَتَشْرَبَانِهَا وَبَالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ»" (١٠: ٣٥- ٤٠).

التواضع هو أحد أجمل الورود التي تتفتح في حديقة القلب المتجدد. جميعنا ننزع إلى الكبرياء والخيلاء بالطبيعة. عندما تتملكنا روح المسيح، نظهرُ التواضع والاعتدال اللذين طالما كانا يميزان ربنا المبارك. حيث تسود روح التواضع هذه، تسهل مسامحتنا لأولئك الذين يسيئون إلينا. يبدو هذا بالنسبة لكثيرين خنوعاً صاغراً، ولكن العكس هو الصحيح. تتجلى العظمة في استعداد المرء على نكران ذاته وخدمة الآخرين لأجل المسيح الذي لم يأتِ ليُخدَمَ بل ليخدِمَ ويبذل نفسه فديةً عن الجميع. ليس في وسعنا أن نشارك في عمله الكفاري والفدائي، ولكن يمكننا بل وعلينا أن نتبع مثال حياته في الخدمة المتأنية لبركةِ عالَمٍ بائسٍ محتاجٍ.

عندما التمس يعقوب ويوحنا مراكز مرموقة في الملكوت الآتي، أظهرا كم كان فهمهم ضعيفاً لطبيعته الحقيقية. لم يكن توبيخ الرب لهما بدافع الغضب بل بدافع المحبة لكي يتعلّما المعنى الحقيقي للمشاركة في آلامه ليكون لهما نصيب في المجد العتيد.

"«يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ لَنَا كُلَّ مَا طَلَبْنَا»". هذا الالتماس كان يستند إلى الأنانية والطموح الدنيوي. بينما كان التلميذان وبلا شك غير مدركين تماماً لحالة قلبهم الحقيقية، أظهر ذلك أيضاً كم كان ضعيفاً فهمُهم لفكر معلّمهم.

"«مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ لَكُمَا؟»". لقد أراد الرب يسوع أن يعبّرا علناً عما يجول في خاطرهما. لذلك سألهما أن يفصحا عن مرادهما.

"«أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ»". لقد كانا يرغبان أن ينالا المراكز المرموقة في الملكوت الآتي. لم يدركا كم كان الرب يسوع المسيح يبغض هكذا مطامح.

إدراك المناصب والمسؤولية في الملكوت: صحيح تماماً أن ربنا سوف يمنح تكريماً وتقديراً خاصاً لأتباع محددين له عندما يعود لتأسيس ملكوته. لقد أوضح ذلك في أقوال عديدة (متى ١٩: ٢٨؛ لوقا ١٩: ١٧). ولكن أولئك الذين سيتبوءون أعلى المراكز آنذاك هم أولئك الذين ارتضوا أن يأخذوا المناصب الوضيعة في غياب الملك والذين كانوا على استعداد لأن يتألموا دون تذمر لأجله.

"لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ". كان يسوع ليريد لهما أن يدركا ضآلة فهمهما لما سيجري عن قريب. فسألهما: "أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟" لقد كان يشير إلى كأس الرفض والمحاكمة والإدانة التي سترفع إلى شفتيه ليشربها، وإلى معمودية الموت التي سيقتبلها على الصليب.

وإذ لم يعرفا ما يقولان، أعلن يعقوب ويوحنا قائلين: "«نَسْتَطِيعُ»". لقد كان ولاؤهما وإخلاصهما واضحاً، ولكن كان غائباً عن ذهنهما الفهم الكامل لطبيعة ذاك الكأس والمعمودية. فرد يسوع قائلاً أنهما، بل ريب، سيشربان كأسه ويصْطَبِغَانِ بَالصِّبْغَةِ الَّتِي يصْطَبِغُ بِهَا (إذ أن كل من يتبعه عليهم أن يتذوقوا كأس الرفض والنبذ من قِبَلِ العالم ويُسلمون دائماً إلى الموت من أجله)، وأما أن يجلسا عن يمينه وعن يساره فلم يكن له أن يمنحهما بل كان ذلك من نصيب من أُعِدَّ لهم هذا الشرف. ما من إنسان يمكنه أن يختار موقعه في الملكوت عندما سيعتلن بقوة ومجد. فكلٌ سيأخذ المكان الذي يستحقه عندئذ بحسب الحياة والخدمة التي مارسها على الأرض.

"وَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ ابْتَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ أَجْلِ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هَكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيماً يَكُونُ لَكُمْ خَادِماً وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلاً يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْداً. لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ»" (١٠: ٤١- ٤٥).

"لَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ ابْتَدَأُوا يَغْتَاظُونَ". كان لدى التلاميذ الآخرين أيضاً رغبة في الشهرة والبروز، فكانوا ساخطين على يعقوب ويوحنا اللذين التمسا الحصول على أعلى المناصب سابقين إياهم إلى ذلك.

"عُظَمَاءهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ". كان من الصعب جداً على التلاميذ أن يفصلوا بين فكرة الملكوت والمناصب المرموقة البارزة لهم. إلا أن الملكوت الذي فيه يكون يسوع المسيح رباً هو ملكوت محبة، حيث على الجميع أن يسعوا لبركة الآخرين، وتأخذ الخدمة المتواضعة مكان التسلط المتغطرس. ليست ممالك العالم هكذا. فهناك العظيم يطغي على أولئك الأقل منه.

"لاَ يَكُونُ هَكَذَا فِيكُمْ". في ملكوت الله يسود القانون المعاكس تماماً. أولئك الذين يُعتبرون عظماء في السماء هم أولئك الذين يعملون جاهدين لبركة إخوتهم البشر.

"مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيماً يَكُونُ لَكُمْ خَادِماً". ربنا نفسه هو المثال البارز هنا. فذاك الذي كان رب الجميع أصبح خادماً للكل لكي يأتي الناس إلى الله. وإننا مدعوون للسير في إثر خطواته.

"ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ". لقد ترك المجد إلى جوار الآب، وجاء إلى هذا العالم، وصار إنساناً لكي يموت. لم يطلب ولو مرة واحدة على الإطلاق تقديراً أو اعترافاً بخدماته. لقد كان ليرضى أن يُهان ويُنْبذ لكي يحقق الهدف من رسالته في الفداء. فهل نجرؤ، نحن الذين ندين بكل شيء إلى الأبد إلى تواضعه، على أن نتوق إلى مجدٍ دنيوي وأن نسعى إلى الحصول على استحسان إخوتنا البشر أكثر من استحسان الله؟

الجزء ٣: الأصحاحات ١٠:‏٤٦ - ‏١٦:‏٢٠
اكتمال رسالة الرب
القسم (١) -١٠:‏٤٦-‏ ١٣:‏٣٧

الجزء ٣ – الأصحاح ١٠:‏٤٦-‏٥٢

الملك المرفوض

"وَجَاءُوا إِلَى أَرِيحَا. وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحَا مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٍ غَفِيرٍ كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ الأَعْمَى ابْنُ تِيمَاوُسَ جَالِساً عَلَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ ابْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!» فَانْتَهَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَسْكُتَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: «يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي». فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى. فَنَادَوُا الأَعْمَى قَائِلِينَ لَهُ: «ثِقْ. قُمْ. هُوَذَا يُنَادِيكَ». فَطَرَحَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ لَهُ الأَعْمَى: «يَا سَيِّدِي أَنْ أُبْصِرَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ" (١٠: ٤٦- ٥٢).

"كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ الأَعْمَى ابْنُ تِيمَاوُسَ جَالِساً عَلَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي". بالنسبة لهذا المتسول البائس الفاقد البصر، كان مجيء الرب يسوع في ذلك اليوم ليعني انفتاح عينيه جسدياً وروحياً. "ابْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!»". لم ينتظر أن يدعوه يسوع أولاً، بل "لَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ"، صرخ في الحال طالباً المعونة التي كان في أمسّ الحاجة إليها. ولا بد أن هكذا إيمان قد راق لقلب الرب.

حاول كثيرون من الذين كانوا في الحشد الذي تبع يسوع وهو يجتاز المدينة أن يُسكتوا المتسول الأعمى، ولكن إيمانه كان أكبر من أن يثنيه اعتراضهم، واستمر يصرخ: "«يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي»". إذ كان على يقين في نفسه أن يسوع كان في الحقيقة المسيا المُتنبّأ عنه، الذي هو من نسل داود، فقد عرف أن يسوع كان يستطيع أن يفتح عينيه إن أمكنه أن يسترعي انتباهه.

إن إيماناً مثل ذاك الذي لبَارْتِيمَاوُس لا يمكن أن يخيب لدى السؤال. لقد وقف يسوع وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى المتسول. ولا بد أن فرحة كبيرة قد غمرت قلب ذلك البائس عندما قالوا له: "«ثِقْ. قُمْ. هُوَذَا يُنَادِيكَ»".

وإذ طَرَحَ رِدَاءَهُ الخارجي عنه، َقَامَ على عجل وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ، مُقاداً بشخص لطيف ما في الحشد.

فسأل الرب بحنو: "«مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟»" لقد كان يعرف تماماً رغبة قلب بَارْتِيمَاوُس، ولكنه رغب منه أن يبدي اعترافاً علنياً بحاجته. فقال بَارْتِيمَاوُس: "«يَا سَيِّدِي أَنْ أُبْصِرَ»".

"فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ". لقد كُوفِئَ إيمانُه في الحال. لقد منحه يسوع سؤله وأعطاه يقيناً إضافياً قائلاً: "إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ". في غمرة حماسته وامتنانه تبعَ بَارْتِيمَاوُس يسوع في الطريق، رغم أنه ما من دليل على أنه قد دُعِيَ ليكرّس كل وقته للشهادة للمسيح.

يا لها من شهادة كان ليقدمها عن الحنو والقوة الشافية لذاك الذي هتف له بابن داود.

الأصحاح ١١

من الممتع والشيق والمفيد أن نلاحظ كيف أن الأحداث البارزة المتعددة في حياة ربنا قد تنبّأ بها تماماً الأنبياء، وهم رجال أتقياء موحى لهم من الله (٢ بطرس ١: ٢١)، الذين عاشوا قبل مئات السنين من بدء تحقق أقوالهم النبوئية. زكريا كان أحد الأنبياء بعد النفي الذي تحدث عن آلام المسيح والمجد الذي سيلي ذلك (١ بطرس ١: ١١ قارنها مع ٥: ١). لقد صوّر ملك اسرائيل البار الذي يدخل عاصمته الأرضية في حالة وضيعة، راكباً على حمارٍ (زكريا ٩: ٩). ولكن بين هذه الآية والآية التي تليها مباشرة هناك ما يدل على انقضاء فترة طويلة من النبذ والرفض له من قِبَلِ شعبه المختار. كان يفترض تعاقب قرون قبل أن يبدأ تحقيق الكلمات التي تقول: "يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِلأُمَمِ وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ". ذات يوم سيأتي كل شيء إلى تحقق في الوقت الذي يعيّنه الله.

وحده الروح القدس كان ليرى مسبقاً الصلبَ كخطوة تالية مباشرة لذاك الحدث الذي يُدعى غالباً "دخول الظفر". في الواقع، لم يكن ذاك الشعب هو الذي هتف له رسمياً على أنه الملك الموعود في يوم أحد سعف النخيل التاريخي ذاك. لقد استاء الرؤساء بحنق شديد من المبايعة والتكريم الملكي الذي قدّمه الناس له (في ذلك اليوم) وأطلقوا صوت اعتراضهم على غير هوادة. ولكن هذا الترحيب الذي لقيه يسوع من قبل "الصغار" كان كمثل كأس ماء بارد لروحه بعد البغضاء المريرة التي تعرض لها. كان قد شكر الله على أن هذه "الأشياء الصغيرة"- أي أسرار الملكوت- كانت محتجبة عن الحكماء ومكشوفة للأطفال (متى ١١: ٢٥). هذا ما أكده الاستقبال الذي قُدّم له وهو يدخل مدينة أورشليم (ممتطياً جحشاً).

"وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: «ﭐذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا فَلِلْوَقْتِ وَأَنْتُمَا دَاخِلاَنِ إِلَيْهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ. وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَفْعَلاَنِ هَذَا؟ فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُ إِلَى هُنَا». فَمَضَيَا وَوَجَدَا الْجَحْشَ مَرْبُوطاً عِنْدَ الْبَابِ خَارِجاً عَلَى الطَّرِيقِ فَحَلاَّهُ. فَقَالَ لَهُمَا قَوْمٌ مِنَ الْقِيَامِ هُنَاكَ: «مَاذَا تَفْعَلاَنِ تَحُلاَّنِ الْجَحْشَ؟» فَقَالاَ لَهُمْ كَمَا أَوْصَى يَسُوعُ. فَتَرَكُوهُمَا. فَأَتَيَا بِالْجَحْشِ إِلَى يَسُوعَ وَأَلْقَيَا عَلَيْهِ ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَثِيرُونَ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَاناً مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. وَﭐلَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!». فَدَخَلَ يَسُوعُ أُورُشَلِيمَ وَالْهَيْكَلَ وَلَمَّا نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذْ كَانَ الْوَقْتُ قَدْ أَمْسَى خَرَجَ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ" (١: ١- ١١).

لقد اختتم آخر رحلة له في بيرية، وصعد يسوع وتلاميذه في الطريق المتعرج من أريحا إلى بيت عنيا على منحدر جبل الزيتون. ومن هنا استعد لدخول المدينة حيث أطلق الرب (يهوه) اسمه، وهو عارفٌ تماماً أن الصليب كان في انتظاره. ولكنه إنما لهذه الغاية قد جاء إلى العالم. وكان ذلك قرب عيد الفصح في ربيع عام ٣٠ ميلادية. وكان عمره حوالي الثلاث والثلاثين سنة وستة أشهر- أي شاب نضرٌ نسبياً، قُدّر له أن يقضي وهو في منتصف العمر (مزمور ٣:٢٤).

"لَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ". كانت المدينة المقدسة تظهر بوضوح من جبل الزيتون عندما يدور المرء حول الانحناء الذي بين بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا. هنا مكث يسوع وتريث إلى أن يأتوه بالجحش الذي كان سيمتطيه داخلاً إلى المدينة كما جاء في النبوءة.

"جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ". ما كان ليَهمُّ يسوعَ إذا ما كان هذا الجحش غير مروَّض. فهو الخالق وقد جاء إلى هذا العالم كإنسان، ولكونه هكذا فإن كل المخلوقات الأدنى ستخضع له (مزمور ٨: ٦- ٨). وحده الإنسان، الذي خلق على صورة الله، هو الذي تمرّد ضده. أما بقية المخلوقات فقد عرفوه مالكاً شرعياً لهم (أشعياء ١: ٣).

"الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ". هكذا كان يفترض في التلاميذ أن يجيبوا إن سألهم أحد عما إذا كان لهم الحق في فك الجحش. من الواضح أن صاحب الدابة كان يعرف يسوع ويدرك الأقوال السابقة التي تشير إليه.

"وَجَدَا الْجَحْشَ مَرْبُوطاً عِنْدَ الْبَابِ خَارِجاً عَلَى الطَّرِيقِ فَحَلاَّهُ". وجد كثير من المفسرين القدماء في هذا إشارة إلى الإنسان ذاته، وقد وصل إلى مفترق طرق عليه أن يأخذ قراره عنده. لم يجد المرسَلان صعوبةً في إيجاد الجحش. كان كل شيء كما ذكر يسوع تماماً.

"متأكدين منهما"، تساءل القوم هناك فيما إذا كان يحق للتلاميذ أن يأخذوا الجحش كما كان يسوع قد توقع. من الواضح أن هؤلاء لم يكونوا مالكي الدابة، بل مجرد عابري سبيل خشوا أن يقوم التلميذان بأي فعل غير مناسب. "كَمَا أَوْصَى يَسُوعُ". لم يكن هناك أي اعتراض عندما أوضح التلميذان المرسلان الأمر كما أوصى الرب.

"أَتَيَا بِالْجَحْشِ إِلَى يَسُوعَ وَأَلْقَيَا عَلَيْهِ ثِيَابَهُمَا". مرتجلين شكلاً من السرج بثيابهم المتدلية المتهدلة، أعدوا الجحش ليحمل يسوع إلى المدينة.

"كَثِيرُونَ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ....وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَاناً مِنَ الشَّجَرِ". في غمرة حماستهم التقوية حاولت تلك الجموع المتواضعة تقديم ترحيب ملكي فخم للملك.

"«أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!". بإرشاد إلهي رنموا كلمات المزمور ١١٨: ٢٦، مدركين انطباقها على المسيا الموعود لبني إسرائيل. "أُوصَنَّا" تعني "خلّص الآن"، أو "نلتمس أن تحررنا"، رداً على "«لِيَحْيَ الْمَلِكُ!»". وهذه تحية إجلال اعتيادية توجه إلى السلطة الملكية (أخبار الأيام الثاني ٢٣: ١١).

"مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ". لدقيقة كاد يُعترف بيسوع كوريث شرعي لعرش داود (لوقا ١: ٣٢). ولكن لم يكن الأوان قد حان له بعد ليرتقي ذلك العرش. سوف يعيد بناء خيمة الاجتماع لداود الملقاة أرضاً ولكن ليس قبل أن يعود في المجد (أعمال ١٥: ١٦؛ عاموس ٩: ١١، ١٢).

"فَدَخَلَ يَسُوعُ ....الْهَيْكَلَ"، كما تنبأ ملاخي (٣: ١). ظاهرياً، اكتفى يسوع بإلقاء نظرة على الهيكل في هذا اليوم الأول من أسبوعه الأخير؛ رغم أنه ليس من السهل التأكد من ذلك. ولكن على الأرجح أن الأحداث المدونة في متى ٢١: ١٢، ١٣ قد جرت في زيارته الثانية للمدينة. "لَمَّا نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذْ كَانَ الْوَقْتُ قَدْ أَمْسَى خَرَجَ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ". لقد فرض يسوع على نفسه ومن تلقاء ذاته ألا يمضي ليلة في المدينة المقدسة خلال أسبوع الآلام. لقد كان يعرف مسبقاً أنه سيتألم خَارِجَ الْبَابِ (عب ١٣: ١٢، ١٣). لم يكن له مكان في "مدينة الملك العظيم" (متى ٥: ٣٥). لقد وجد ملتجأ بين الفقراء والمتضعين، ومع أولئك الذين كانوا ينتظرون تعزية اسرائيل.

"وَفِي الْغَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئاً. فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئاً إلاَّ وَرَقاً لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ التِّينِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَراً بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ». وَكَانَ تَلاَمِيذُهُ يَسْمَعُونَ" (١١: ١٢- ١٤).

في اليوم التالي وإذ كان يسوع وتلاميذه ذاهبين من بيت عنيا إلى أورشليم، كان يسوع جائعاً. بما أنه كان إنساناً بالتمام والكمال فقد كان عرضة لكل الأحوال المعصومة التي يعيشها البشر. شجرة تين مورقة على جانب الطريق تبدو وكأنها لتقدم تصوراً عن وليمة تين، ولكن عندما جاء يسوع إليها لم يجد فيها سوى الأوراق، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ التِّينِ.

فقال يسوع: "«لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَراً بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ»"- أو أبد الدهر. شجرة التين هذه كانت رمزاً لإسرائيل كشعب، وحالتها غير المثمرة كانت تمثل صورةً عن حالة الشعب- تديّنٌ كثير ولكن لا ثمار لله. ولذلك بقي عقيماً غير مثمر طوال كل تلك القرون منذ رفضه للمسيح.

"وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ. وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَجْتَازُ الْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ». وَسَمِعَ الْكَتَبَةُ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ فَطَلَبُوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ لأَنَّهُمْ خَافُوهُ إِذْ بُهِتَ الْجَمْعُ كُلُّهُ مِنْ تَعْلِيمِهِ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ خَرَجَ إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ. وَفِي الصَّبَاحِ إِذْ كَانُوا مُجْتَازِينَ رَأَوُا التِّينَةَ قَدْ يَبِسَتْ مِنَ الأُصُولِ فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «يَا سَيِّدِي انْظُرْ التِّينَةُ الَّتِي لَعَنْتَهَا قَدْ يَبِسَتْ!»" (١١: ١٥- ٢١).

هذه هي المرة الثانية التي يطهر فيها يسوع الهيكل من أولئك الذين يتاجرون بالإلهيات. في (يوحنا ٢: ١٣- ١٦) نقرأ عن أول مناسبة، وذلك بعد برهة قصيرة من بدء خدمته العلنية. ولكن أولئك المسيئين استغلوا فرصة غيابه ليعيدوا الوضع إلى سابق عهده. ما من شك أن أصل بيع الحمام والحيوانات في ساحات الهيكل من البدء كانت غايته مجرد تأمين الطعام لزوار أورشليم الذين كانوا يأتون من أماكن بعيدة ليشاركوا في الأعياد السنوية. ونفس الحال ينطبق على الصّرّافين. فقد كانوا هناك لتسهيل حصول الغرباء على النقود التي كانت تُستخدم في فلسطين، بدل العملات التي كانت في البلدان الأخرى. ولكن ما بدأ بهدف بريء تطور إلى نظام ربح ابتزازي يستفيد منه هؤلاء القائمون عليه. أما أولئك الذين كانوا يأتون من الشتات لعبادة إله آبائهم فكانوا يتعرضون لسرقة مدخراتهم بشكل منظم- وذلك باسم الرب.

تعامل يسوع بقسوة مع هؤلاء التجار الجشعين المخادعين، فَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ، وطرد بَاعَة الْحَمَامِ وحملان الذبائح وبقية الماشية.

يمكن للمرء أن يتخيله وقد وقف أمام سواد الناس المنذهلين والمنذعرين، وعيناه المقدستان تلتمعان بالسخط المبرر الحق وهو يقول: "«أَلَيْسَ مَكْتُوباً: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ»".

من الطبيعي أن هذا الموقف أثار حقد مناوئيه الفاسدين، وخاصة أولئك الذين كانوا يدعمون ويستفيدون من الاتجار بالأشياء المقدسة؛ وهؤلاء الكتبة ورؤساء الكهنة كانوا يشكلون عصبة تهدف بشكل واضح إلى إلقاء القبض على يسوع وإهلاكه. ولكنهم ما كانوا ليتجرأوا على أن يفعلوا ذلك أمام الملأ بعد، لأن الناس كانوا متأثرين بتعاليم وأعمال يسوع وميالين إلى التفكير فيه على أنه المسيا الموعود. ولذلك، فقد سُمِحَ له بأن يستمر في إلقاء تعليمه في ذلك اليوم في ساحات الهيكل دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض أو التدخل.

وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ غادر وتلاميذه المدينة من جديد، ورجعوا إلى بستان الزيتون، على الأرجح إلى بيت عنيا. وفي الصباح، وإذ رجعوا إلى المدينة لاحظوا شجرة التين غير المثمرة وقد يبست من أصولها. وعندما استرعى بطرس الانتباه إليها استغل يسوع الموقف ليشدد على قوة الإيمان.

"فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِيَكُنْ لَكُمْ إِيمَانٌ بِاللَّهِ. لأَنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ قَالَ لِهَذَا الْجَبَلِ انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ وَلاَ يَشُكُّ فِي قَلْبِهِ بَلْ يُؤْمِنُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ يَكُونُ فَمَهْمَا قَالَ يَكُونُ لَهُ. لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ فَيَكُونَ لَكُمْ. وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ فَاغْفِرُوا إِنْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ لِكَيْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ زَلاَّتِكُمْ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا أَنْتُمْ لاَ يَغْفِرْ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَيْضاً زَلاَّتِكُمْ»" (١١: ٢٢- ٢٦).

الإيمان من الائتمان أو الثقة. هكذا ثقة يجب أن تكون بالله، وليس بأي وسيلة بشرية. يمكننا أن نملك إيماناً به فقط ونحن نتكل على كلمته ونثق بها. في إجابته على سؤال معلم مدرسة الأحد: "ما هو الإيمان؟"، كان الطفل الصغير مصيباً عندما قال: "من فضلك، يا أستاذ، أعتقد أنه الإيمان بالله وعدم طرح أية أسئلة".

عندما يتحدث الله فإن لنا أن نثق بكلمته. ولذلك، إن أوضح أن إرادته هي أن ينقل جبلاً من مكان راسخ وأن يلقي به في البحر، فإن الإيمان الحقيقي يجعلنا نثق بقدرته على الفعل، وسنجرؤ على أن نأمر الجبل أن يختفي. مما لا شك فيه أن الرب في ذهنه، وراء الهيئة الطبيعية للجبال، جبال المصاعب، كتلك التي واجهها زَرُبَّابِلُ في فلسطين عندما لاقت البقية العائدة هكذا معارضة قوية عنيفة في أيام إعادة بناء الهيكل (زكريا ٤: ٧). لا شيء مستحيل عند الله، ومن هو في حياة شركة مع الله يمكنه أن يسلك بإيمان وهو على يقين بأن مطلبه سوف يتحقق.

"لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ فَيَكُونَ لَكُمْ". الإيمان لا يستند إلى ظاهر الأمور. ولكن علينا أن نتذكر أن هذه الكلمات تنطبق فقط عندما نبتهج في الرب، وهكذا تكون رغبات قلبنا بحسب إرادته المقدسة (مز ٣٧: ٤).

إن لحالة النفس علاقة كبيرة بالإمكانية في صلاة الإيمان. ومن هنا جاء التعليم كمثل ذاك الوارد في الآيتين ٢٥، ٢٦ عن المغفرة. لم يعِد الله أبداً بأنه يستجيب لصلاة القلب غير الغافر. هذا الموقف تجاه الآخرين يسد سبيل الصلاة تماماً فلا تبقى ممكنة أية استجابة. في حكمه العائلي يغفر الله لنا كما نغفر نحن لإخوتنا. ليست هذه مغفرة نحو خاطئ بل مغفرة القديس (المسيحي المؤمن) الذي أخفق. ما لم نغفر، فإن أبانا السماوي لا يغفر لنا عندما نأتي إليه مقرين بخطايانا من يوم لآخر.

هذا التعليم عن الصلاة أعطاه الرب يسوع للجماعة الصغيرة وهم يسيرون متجهين نحو المدينة. حالما دخلوها، فعندها مباشرة تقريباً اعترض الكتبة ورؤساء الكهنة الساخطين على يسوع من جراء ما كان قد فعله في اليوم السابق.

"وَجَاءُوا أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي فِي الْهَيْكَلِ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ وَقَالُوا لَهُ: «بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا وَمَنْ أَعْطَاكَ هَذَا السُّلْطَانَ حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً. أَجِيبُونِي فَأَقُولَ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟ أَجِيبُونِي». فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا مِنَ النَّاسِ». فَخَافُوا الشَّعْبَ. لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ نَبِيٌّ. فَأَجَابُوا وَقَالُوا لِيَسُوعَ: «لاَ نَعْلَمُ». فَاَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»" (١١: ٢٧- ٣٣).

في هذا اليوم لاقى يسوع معارضة بأشكال شتى من قِبَل القادة الدينيين، ولكن في كل مرة كان يفحمهم بأجوبته.

فاعترضوا أولاً متسائلين عن مصدر سلطانه في تطهير الهيكل بالطريقة التي قام بها. ولكنه رفض الإجابة، وبدلاً من ذلك طرح عليهم السؤال: "مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟" الإجابة الصحيحة على هذا السؤال ستكون هي الإجابة على سؤالهم. فإن أقروا أن يوحنا قد أرسله الله يؤكدون بذلك ادعاءات وتصاريح يسوع، لأن يوحنا كان قد أعلن أنه الموعود الذي كان سيعمّد بالروح القدس والنار- وهذا ما لا يستطيع أحد سوى المسيا أن يفعله.

هؤلاء الناموسيون التشريعيون الماكرون كانوا يتجادلون فيما بينهم حول الجواب الذي يجب أن يقدموه. فإن قالوا أن يوحنا كان مُرسلاً من الله إلى بني اسرائيل فسيواجهون السؤال أن: "لِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟" وإن أنكروا تفويضه الإلهي فإنهم كانوا يخافون الشعب الذين كان يؤمن بقوة أن يوحنا كان نبياً. ولذلك تملصوا من السؤال الحقيقي بأن أجابوا: "«لاَ نَعْلَمُ»". وهنا أجاب يسوع قائلاً: "«وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»".

لقد كان دائماً على أهبة الاستعداد ليساعد المستفسرين الصادقين. ولكن هؤلاء الرجال هنا كانوا معارضين مرائين لشهادته، وكانوا مصممين على ألا يصدقوه عندما كانت أعماله تشهد على مسيانيته وتعلن أنه عبد يهوه الذي كتب عنه أشعياء والذي طالما انتظره شعب إسرائيل.

الأصحاح ١٢

هنا يرِدُ مَثَلُ الكرْم. هذا المثل يصور بطريقة حيوية نابضة بالحياة للغاية طرق تعامل الله مع اسرائيل وكيفية تجاوبهم معه وجحودهم طوال القرون الماضية، وكيف أن هذا التواصل كان على وشك أن يبلغ ذروته في رفض الوريث وموته، الذي ستليه قيامته المجيدة.

"وَﭐبْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ بِأَمْثَالٍ: «إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ وَحَفَرَ حَوْضَ مَعْصَرَةٍ وَبَنَى بُرْجاً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ فِي الْوَقْتِ عَبْداً لِيَأْخُذَ مِنَ الْكَرَّامِينَ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ فَأَخَذُوهُ وَجَلَدُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضاً عَبْداً آخَرَ فَرَجَمُوهُ وَشَجُّوهُ وَأَرْسَلُوهُ مُهَاناً. ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضاً آخَرَ فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ آخَرِينَ كَثِيرِينَ فَجَلَدُوا مِنْهُمْ بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً. فَإِذْ كَانَ لَهُ أَيْضاً ابْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ أَرْسَلَهُ أَيْضاً إِلَيْهِمْ أَخِيراً قَائِلاً: إِنَّهُمْ يَهَابُونَ ابْنِي. وَلَكِنَّ أُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا الْمِيرَاثُ! فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ. فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ يَأْتِي وَيُهْلِكُ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ إِلَى آخَرِينَ. أَمَا قَرَأْتُمْ هَذَا الْمَكْتُوبَ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا!» فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَكِنَّهُمْ خَافُوا مِنَ الْجَمْعِ لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا" (١٢: ١- ١٢).

إن كرْم سيد المضيفين هو بيت إسرائيل، كما نعلم من أشعياء ٥: ٧. فبعد أن أقامهم الله في أرض كنعان كان يُعنى بهم ويرعاهم بطريقة عجيبة، ووضعهم تحت رعاية أولئك الذين كان يفترض فيهم أن يسهروا على نفوسهم ويسعون على تهذيبهم وصقلهم روحياً لكي يجنوا ثمار وافرة له. إلا أن المزارعين أو الكرّامين ما كانوا يفكرون إلا بمصالحهم الأنانية الخاصة وأخفقوا في أن يقدموا للرب الحب والوقار اللائقين به. عندما كان يرسل أنبياءه إليهم كانوا يردونهم فارغين أو يبدون لا مبالاة مريعة نحوهم، أو يضطهدونهم حتى الموت لتجرؤهم على توبيخهم على شرهم. لقد كان هذا موقفهم طوال القرون. والآن أرسل الله ابنه الذي كان بنفسه الاختبار الأخير على محبة وولاء إسرائيل. عندما رآه القادة والرؤساء قاوموا إعلانه بازدراء وسعوا إلى هلاكه، قائلين: "هَذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا الْمِيرَاثُ!".

الآية ٨ نبوية وتحققت بعد بضعة أيام لاحقة. "فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ". هذا ما كان يسوع قد أخبرهم به عن رفضهم له وموته قبل أن يحدث.

ثم يوجه لهم السؤال: "فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟" وكان الجواب واضحاً: "يَأْتِي وَيُهْلِكُ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ إِلَى آخَرِينَ". كان يجب تنحية إسرائيل جانباً في حين تتدفق النعمة نحو الأمميين.

كان هذا ليتم بحسب ما كُتِبَ في المزمور ١١٨: ٢٢: "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ". ولذلك فهو لم يتحدث فقط عن الموت بل عن القيامة أيضاً، لأن باكورة الراقدين يسوع قد جُعِلَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. "مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا".

لقد أثار المثل وتطبيقه عند الرؤساء مزيداً من الاستياء. لقد أدركوا أنه كان يتحدث عنهم، ولكن في تلك الآونة ما كانوا ليجرؤون على أن يقيموا دعوى عليه علانية لأنهم كانوا يخشون رد فعل الشعب عموماً.

"ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْماً مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللَّهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ نُعْطِي أَمْ لاَ نُعْطِي؟» فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ ايتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ». فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ" (١٢: ١٣- ١٧).

لقد كانت مسألة مال الجزية مطروحة ومثارة في كل أرجاء فلسطين. دفع هذه الجزية كان دلالة اعتراف ضمني بسلطة روما، وكان هذا أمراً بغيضاً للغاية بالنسبة لليهود ذوي المشاعر القوية نحو الشعب. لقد كان الْهِيرُودُسِيِّونَ وغيرهم يدافعون عن هذا الاعتراف بالحكومة الإمبراطورية طمعاً في الحظوة والامتياز الذي كانوا يرجون الحصول عليه من خلال تبعيتهم وخنوعهم.

لم تكن الرغبة في معرفة خطأ أو صوابية المسألة هي ما دفع ممثلي كلتا المدرستين الفكريتين المتضادتين لطرح السؤال على يسوع: "أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟" رغم أسلوب التملق في مخاطبتهم له كانوا ينصبون له فخاً، راجين أن يوقعوه في شرك لكي يقول ما يعطيهم فرصةً إما لاتهامه أمام حكامهم الرومان كمحرض على الفتنة والعصيان، أو لجعله يبدو أمام اليهود الميالين بشدة إلى الانفصال عن الرومان على أنه ليس متعاطفاً معهم في تطلعهم إلى الانعتاق من نير الرومان.

لقد رأى ما في قلوبهم وعرف بالضبط السبب الذي حدا بهم إلى المجيء إليه. وكان جوابه أن: "«لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ إيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ»".

عندما أعطوه إحدى العملات المعدنية، سألهم: "«لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟»" فأجابوا: "«لِقَيْصَرَ»". فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: "«أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ»". وهكذا وقعوا في الحفرة التي حفروها له، وانذهلوا من جوابه، وأُفحموا.

ولكن آخرين كانوا ينتظرون أن يسألوه حول مسألة أخرى، كما نجد في بضعة الآيات التالية.

"وَجَاءَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ وَسَأَلُوهُ قَائلِين: «يَا مُعَلِّمُ كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاَداً أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ امْرَأَتَهُ وَيُقِيمَ نَسْلاً لأَخِيهِ. فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. أَخَذَ الأَوَّلُ امْرَأَةً وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ نَسْلاً. فَأَخَذَهَا الثَّانِي وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ هُوَ أَيْضاً نَسْلاً. وَهَكَذَا الثَّالِثُ. فَأَخَذَهَا السَّبْعَةُ وَلَمْ يَتْرُكُوا نَسْلاً. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضاً. فَفِي الْقِيَامَةِ مَتَى قَامُوا لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ»" (١٢: ١٨- ٢٣).

هذه المرة كانت الجماعة من الصدوقيين الذين كانوا يسعون لأن يربكوا يسوع. لقد كانوا يمثلون طائفة من ذوي المذهب المادي الذين كانوا ينكرون القيامة ووجود الملائكة والأرواح. لا يمكننا أن نتكهن فيما إذا كانت القصة التي رووها له حقيقية أم لا. يبدو على الأرجح أنها بعيدة الاحتمال، ولعلها قصة مختلقة متخيلة قد وُضِعت لأجل السخرية من عقيدة القيامة.

بالنسبة لهم القصة تدور حول امرأة معينة قد صارت زوجة على التتالي لسبعة أخوة، وقضت بعدهم جميعاً. بحسب عادة اليهود، إن كان رجل قد توفي دون أن يترك وريثاً فإن على أخي المتوفّى أن يتزوج من هذه الأرملة. والابن الأول الذي يأتي من هذا القران كان ليرث كل ممتلكات الزوج السابق المتوفى. في القصة التي يسردونها، يتم تطبيق الناموس إلى أقصى حد. فالأخوة السبعة يقضون الواحد تلو الآخر مخلفين الأرملة بدون أولاد.

والآن جاء دور ما كان أصحاب الفتوى الماكرون هؤلاء يعتبرونه بوضوح دحضاً قاطعاً لمعقولية فكرة قيامة الموتى. فيسألون، كما هو مدون في الآية ٢٣، "فَفِي الْقِيَامَةِ مَتَى قَامُوا لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ".

لم يكن يسوع قلقاً أو مشوشاً إذ سرعان ما أدرك السفسطة التي لديهم. لقد قال لهم أنهم جميعاً على ضلال، وذلك لسببين: جهلهم بالكتابات المقدسة نفسها التي يقرون بأنهم حافظون لقدسيتها، وأيضاً قوة، أو قدرة الله. لقد كان هؤلاء الصدوقيون يعترفون بالتوراة فقط، أي بالكتب الموسوية. ولذلك فقد استشهد يسوع من سفر الخروج لكي يظهر حماقة موقفهم.

"فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَلَيْسَ لِهَذَا تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللَّهِ؟ لأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ مُوسَى فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ كَيْفَ كَلَّمَهُ اللَّهُ قَائِلاً: أَنَا إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذاً تَضِلُّونَ كَثِيراً»" (١٢: ٢٤- ٢٧).

لقد كانوا ينكرون إمكانية القيامة، لأنهم كانوا يعلّمون أن نفس الإنسان تموت مع الجسد. وشرح يسوع أن أولئك الأموات بالجسد هم أحياء لله، وأنه عندما يقوم الأموات فإنهم لا يأخذون نفس الأوضاع والأحوال التي كانوا فيها على الأرض. فلا يستأنفون الحالة الزوجية، بل يكونون مثل الملائكة في السماء: أي بدون جنس. فلن يبقى هناك تمايز بين الرجل والمرأة في تلك الحياة الجديدة.

لجأ ربنا إلى ذكر سببين هامين لقبول حقيقة قيامة الموتى. فقد ورد ذكرها في الكتاب المقدس، كلمة الله الموحى بها، وتستند إلى قوة الله الكلي القدرة. عندما يتكلم الله، فليس للإنسان أن يفكر، بل أن يقبل إعلانه بإجلال لائق. السؤال عن كيفية حصول أي شيء لأنه يتناقض مع قدرة المخلوقات المحدودة هو تناسٍ لحقيقة أن كل قدرة هي لله، والذي ليس من مستحيل عنده (لوقا ١٨: ٢٧).

"يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ". الملائكة كائنات لا جنس لها وليس لها قدرة على التناسل وتكاثر نوعها. في القيامة ينطبق نفس الحال على البشر. في حالة الأبدية التي تلي القيامة من الموت، لن يكون هناك مكان للزواج. كل إنسان سيكون فرداً منفصلاً مستقلاً عرضة لبركة أبدية أو عقاب لا نهاية له، ولكن العلاقات البشرية كما نعهدها هنا ستنتهي.

"كَلَّمَهُ اللَّهُ قَائِلاً: أَنَا إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ". فهو لم يقل: "أنا كنتُ إلههم"، بل "أنا إلههم". لقد تحدث عنهم كأشخاص محددين يرتبطون معه بعلاقة بالنعمة رغم أن أجسادهم كان قد مضى زمن بعيد على موتها. في زمنه سيقومون ويُعترف بهم خاصةً له.

"لَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ". إن تلاشى هؤلاء أو غيّبهم أو بددهم الموت، فلا يكون إلهاً لهم من بعد. ولكن الحقيقة هي أنه "إِلَهُ أَحْيَاءٍ" إذ "الجميع يحيون له". رغم أنهم أموات من ناحية الجسد ومحتجبون عن أعين البشر، إلا أنه، وهو إله أرواح كل ذي جسد (عدد ١٦: ٢٢)، يرى ويعرف كل واحد في حالته الراهنة بين الموت والقيامة.

لقد كانت ضربة قاضية لمذهب المادية المتشدد عندهم، ولم يجدوا كلمات يردون بها عليه.

لا يعلّم الكتاب المقدس فقط بقاء الروح بعد موت الجسد (متى ١٠: ٢٨)، بل أيضاً، وبالحرف، القيامةَ بالجسد إلى الحياة، أو القيامة إلى الدينونة (يوحنا ٥: ٢٨، ٢٩). وهذا لا يعني إعادة تجسد بشكل ما آخر، كما في بعض الاعتقادات الصوفية الباطنية الشرقية وأتباعها الغربيين المضللين، بل قيامة فعلية من الموت لنفس الشخص الذي يموت. ربنا نفسه خرج من القبر في نفس جسده الذي كان قد عُلّق على الصليب، وهو حاملٌ لا يزال علامات آلامه (يوحنا ٢٠: ٢٠، ٢٧). على نفس المنوال سيعامل الموتُ أجسادَ كل البشر، حتى أولئك الذين تحللوا إلى عناصرهم الكيميائية منذ زمن بعيد، ذلك لأن إلهنا هو إله القيامة. فذاك الذي خلق هذه الأجساد بكل قدراتها المدهشة العجيبة يمكنه أن يعيد تركيبها وتجميعها ويصنعها من جديد عندما يحين أوان اختطاف المخلّصين لملاقاة الرب (١ تسالونيكي ٤: ١٣- ١٧)، وبعدها يأتي دور الأشرار ليقوموا ويقفوا أمام العرش الأبيض العظيم للدينونة (رؤيا ٢٠: ١١- ١٤). بالتأكيد، ما من شيء يمكن أن يكون له كبير أثر يجعلنا نشعر بالجلالة والمهابة ونحن في هذا العالم أكثر من معرفتنا بأن هذه الحياة ما هي إلا توطئة لما سيأتي، ليُعاش إلى الأبد في فرح السماء أو يُحتمل وسط الأشياء المرعبة الرهيبة المحزنة والكئيبة في الجحيم. لقد صوّر يسوع بأمانة كلا جانبي الحياة وراء القبر بشكل واضح لا يمكن لأحد معه أن يفترض أو ينخدع بالأمل الكاذب بالخلود السعيد إن عاش ومات في الخطيئة. لقد أراد لكل الناس أن يتذكروا أن هناك قيامتين، ويليهما مصيران. ومن هنا تأتي أهمية اقتبال المسيح الآن لنضمن السعادة والهناء في الآخرة.

التالي الذي طرح سؤالاً على يسوع كان رجلاً ذا شخصية مختلفة عن أولئك المحاججين الكثيري الأسئلة الماكرين الذين سبقوه.

"فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَناً سَأَلَهُ: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ». فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ: «جَيِّداً يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ لأَنَّهُ اللَّهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ وَمِنْ كُلِّ الْفَهْمِ وَمِنْ كُلِّ النَّفْسِ وَمِنْ كُلِّ الْقُدْرَةِ وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ». فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْلٍ قَالَ لَهُ: «لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ!" (١٢: ٢٨- ٣٤).

 "فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ". يبدو أنه رجل صادقٌ. لقد تأثر بصدقِ يسوع المسيح ووضوح إجاباته على أسئلة الآخرين. فجاء يسأل: "أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟" بالطبع هو لم يقصد الأولى في الترتيب بل الأولى في الأهمية.

"فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: .... الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ". بهذه الكلمات المقتبسة من تثنية ٦: ٤، ٥ لخّص ربنا كل الوصايا المتعلقة بواجب الإنسان نحو الله. فمن يحب الله للغاية سوف لن يخزيه في أي أمر. "وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ". هذه الآية هي من لاويين ١٩: ١٨. إنها تلخّص كل الوصايا والتعاليم الأخلاقية المتعلقة بواجب الإنسان نحو باقي الناس. فمن يحب قريبه لن يخطئ نحوه في أي أمر مهما تناهى في الصغر.

"جَيِّداً يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ". لقد تأثر الكاتب (الناسخ) بشدة، وأعلن في الحال تقديره الصادق للجواب الذي أعطاه الرب يسوع. وأكد وحدة الألوهية. كل اليهود الذين تعلموا من الكتاب المقدس يؤمنون بهذا كحقيقة أساسية. وتابع يقول: "مَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ .... وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ". لقد أبدى الكاتب فطنة روحية حقيقية. لم يكن أي من الشعائر القربانية الطقسية الناموسية بذي قيمة في نظر الله إن كانت تعوزه المحبة. أن تحب الله وتحب القريب من كل القلب هو ما يسر الله فوق كل شيء.

"«لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ»". مع ذلك، ورغم تقديره لروحانية تعليم الرب يسوع المسيح، إلا أن هذا الكاتب لم يكن قد دخل إلى الملكوت بعد. لقد كان، وكأنه على الباب. أن يدخل يعني أن يقتبل المسيح- أي أن يؤمن به مخلصاً ورباً له.

في المثل الذي يلي ذلك نجد يسوع نفسه هو الذي يطرح السؤال ويدحض خصومه.

"ثُمَّ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ: «كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ابْنُهُ؟» وَكَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَﭐلْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. ﭐلَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هَؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ»" (١٢: ٣٥- ٤٠).

لقد كان من بديهيات المعرفة العامة في إسرائيل، يعلّمها الكتبة والربانيون، أن المسيا سيكون ابن داود، بحسب الوعد الذي أعطاه الله إلى الملك صاحب المزامير في ألا يطلب رجلاً يجلس على عرشه (١ ملوك ٢: ٤؛ مزمور ١٣٢: ١١). صحيحٌ أن هذا الوعد كان يستند إلى نسل داود السالك بالطاعة لكلمة الرب، ولكنّ وعداً غير مشروط قُطِعَ أيضاً، كما يتبين من المزمور ٨٩: ١- ٤، ٣٤- ٣٧. من الواضح، إذاً، أن المعلمين في اسرائيل كانوا على صواب في إعلانهم أن المسيح، أي المسيا، (الممسوح) كان ابن داود. ولكن كانت هناك نصوص كتابية أخرى تشير إلى أنه سيكون أيضاً ابن الله، وهذه كانوا يتجاهلونها. ولذلك واجههم يسوع بلفت انتباههم إلى المزمور ١١٠، ومطالباً إياهم بتفسير: "كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ (يهوه) لِرَبِّي (أدوناي): اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ". وينبري لتفسير هذا المقطع بأن يقول أن المسيا هو من تحدث داود عنه، والذي أقر بأنه ربُّه، شخص إلهي كان ليجلس على عرش الأبدية- إلى يمين جلال الله في العلاء. فكيف كان يمكن لهكذا شخص أن يكون ابن داود؟ إننا نعرف الجواب. أما هم فما كانوا يعرفون، وما كانوا ليجرؤون على محاولة تقديم تفسير. لقد كان يسوع ابن داود من ناحية ناسوته، وابن الله من ناحية لاهوته، ولأنه قد حُمِلَ به في أحشاء العذراء من دون زرع رجل. إن سر التجسد كله يكمن في هذا الاقتباس من المزمور.

وفي هذا السياق تأتي الكلمات: "كَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ". بل يبدو أنهم كانوا يستمتعون أيضاً برؤية هزيمة وارتباك الكتبة الذين كانت حياتهم تتناقض للغاية مع مهنتهم.

واستغل يسوع هذه الفرصة ليشير إلى ذلك وليحذّر عامة الناس من التأثير الشرير لقادة الدين هؤلاء.

"تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ". لقد كانوا يحبون أن يكونوا بارزين وموضع تمجيد وثناء وإعجاب على تقواهم الظاهرة. ملابسهم ذاتها كانت تميزهم عن غيرهم كفئة خاصة من المفترض أن تكون موضع تقدير واعتراف لتميزهم عن غيرهم. لقد كانوا يَظهرون مرتدين ملابس طويلة وكانوا يُسرون بأن يكونوا موضع إطراء عامة الشعب. لقد كانوا يحبون ﭐلْمَجَالِسَ الأُولَى في المجامع، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. فهل كان هناك من يخفق في أن يدرك، في كل هذا النفوذ الإكليريكي والإدعاء، وجوب تمييز وتقدير هؤلاء على نحو خاص بسبب منصبهم، أياً كانت الحياة التي يعيشونها؟

ذلك أنهم كانوا جشعين يشتهون ما للغير ويلتهمون بيوت الأرامل- إذ يقرضون المال مقابل رهن للأرامل المعوزات ويصادرون ممتلكاتهن حين تعجز تلك الضحايا البائسات عن إيفاء التزاماتهن في حينها. ومع ذلك فقد كانوا يقومون بكل شيء بشكل قانوني، كأن يرفعوا عنهم تهمة الاحتيال، وكانوا يغطون سلوك الابتزاز عندهم بأن يقيموا صلوات طويلة في الأماكن العامة، مدّعين بذلك مظهر التقوى الشديدة.

ولكن سيأتي يوم حساب عندما تتضح كل خفايا القلب، وينال المراؤون المنافقون كمثل هؤلاء العقاب العادل الذي يستحقون.

من اللافت للانتباه جداً والأمر ذي المغزى أن يسوع، بعد شجبه وتحذيره من أولئك الذين يصنعون ثروات من دون وجه حق، يمتدح سخاء أرملة فقيرة، على الأرجح أنها كانت إحدى هؤلاء الضحايا المسلوبين، كما أشار.

"وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاساً فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيراً. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا كُلَّ مَعِيشَتِهَا»" (١٢: ٤١- ٤٤).

"جَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ". إنه يفعل ذلك في هدوء وسكينة. إنه يلاحظ كل ما يُدفع لأجل استمرارية الشهادة لله وتخفيف البؤس البشري. من الواضح أن صندوقاً للتبرعات كان قد وُضِعَ عند أو قرب أحد المداخل المؤدية إلى باحات الهيكل حيث كان المؤمنون يلقون فيه هباتهم لأجل الحفاظ على عبادة الرب وخدمته.

تطلع يسوع وَنَظَرَ "كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاساً فِي الْخِزَانَةِ". لقد رأى المبالغ التي كانت تُوضع في الصندوق والطريقة التي كان يتم بها ذلك. مما لا شك فيه أن كثيرين كانوا يتبرعون بتباهٍ وبشكلٍ لافتٍ للأنظار، وهم يتوقون لينالوا الإعجاب من الآخرين على كرمهم وسخائهم العظيم.

وجاءت أرملة فقيرة إلى هناك، وإذ مرت بجوار الصندوق، ألقت فيه "فَلْسَيْنِ قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ"، لعلهما كل ما كانت قد كسبته ذلك اليوم بالعمل الشاق في خدمة عائلة غنية ما.

إن طريقة السماء في احتساب القيم تختلف كلياً عن طريقة الأرض في ذلك. نحن معتادون على أن نحكم بحسب الكمية أو المقدار المقدّم. أما الرب فيقدّر قيمة التقدمة بالمقدار الذي تركه المرء. ولذلك شهد يسوع: "أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ". وشرع يشرح لهم كيف وصل إلى ذلك الاستنتاج المذهل للغاية. فالأغنياء ألقوا مالاً من وفرتهم. فبعد إلقاء تبرعاتهم في الخزينة بقي لديهم مبالغ كبيرة يستخدمونها كما يشاؤون. وأما الأرملة فلم تترك شيئاً لنفسها. فقد تبرعت بكُلّ مَعِيشَتِهَا: أي كل ما كسبته طوال يومها. هكذا هي طريقة السماء في تقدير العطايا المقدمة لعمل الرب.

الأصحاح ١٣

هذا الأصحاح يجب أن يُقرأ ويدرس بعناية متصلاً مع متى ٢٤ ولوقا ٢١. هذه الأصحاحات الثلاثة تعطيناً تقريراً عن حديث ربنا على جبل الزيتون والذي فيه يتتبع نبوياً الأحوال التي كانت ستسود في فلسطين ووسط شعوب الأمميين بعد رفضه وقيامته، بما في ذلك دمار أورشليم على يد تيطس، وصولاً إلى ذروة الأحداث: المجيء الثاني لابن الإنسان وتأسيس ملكوت الله على الأرض بقوة ومجد متجليين. وعبثاً نبحث عن أي ذكر للكنيسة في الدهر الحالي. عندما نطق يسوع بهذه الكلمات لم يكن قد أُعلن شيءٌ بعد عن جسد المسيح. فهذا السر لم يُعرف إلا بعد أن أُعطي باستنارة خاصة لبولس الرسول وبه إلى الآخرين بعد وقت من بدء دهر النعمة الحالي.

ولذلك ففي قراءتنا لهذا الخطاب النبوي العظيم يحسن بنا أن نميز الطابع اليهودي الكامل فيه. ففي حين يكشف ما كان سراً حتى الآن، ليس فيه إشارة إلى أصل، أو مسير أو مصير الكنيسة، الشعب المقدس المرتبط الآن بالمسيح القائم بالروح القدس.

في حين أن كثير من أولئك الذين سمعوا هذا الخطاب كانوا مندمجين بتلك الكنيسة بفضل معمودية الروح القدس في يوم الخمسين (العنصرة) وما تلا، إلا أنه ينظر إلى الجميع على أنهم البقية اليهودية التي تنتظر تحقيق النبوءة التي في العهد القديم: تأسيس ملكوت المسيا، عندما سيرجع عبد يهوه الذي كان مرفوضاً في الماضي ويحكم جميع الأمم بِقَضِيب حَدِيدٍ من برّ صلب لا ينثني، بحسب الإعلان الذي ورد في المزمور الثاني. فالنخبة الذين هم نصب العين هم أوائل القديسين، من اليهود والأمميين المهتدين في الأيام الأخيرة- الأسبوع السبعين من دانيال ٩- الذين سيتجمعون من كل مكان ليرحبوا بالملك الذي يفترضون أن يؤسس ملكوته على جبل صهيون. أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار في ذهننا يجنبنا الكثير من التشويش والخلط.

مناسبة هذا الحديث تأتي أمامنا:

"وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْهَيْكَلِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَا مُعَلِّمُ انْظُرْ مَا هَذِهِ الْحِجَارَةُ وَهَذِهِ الأَبْنِيَةُ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «أَتَنْظُرُ هَذِهِ الأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لاَ يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ». وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ تُجَاهَ الْهَيْكَلِ سَأَلَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ عَلَى انْفِرَادٍ: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هَذَا وَمَا هِيَ الْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَتِمُّ جَمِيعُ هَذَا؟»" (١٣: ١- ٤).

بينما كان يسوع وأتباعه يغادرون المدينة مساء ذلك اليوم الذي جادل فيه يسوع رؤساء الدين غير المؤمنين به فيما يخص مسائل عديدة، شعر التلاميذ بافتخار يمكن الصفح عنه بكونهم يهود، وذلك من خلال لفت انتباهه إلى عظمة أبنية الهيكل والأماكن المجاورة. ولا شك أنهم كانوا يظنون أن يسوع سيستولي على كل هذه، وسيقطنون هذه الأبنية معه لأنهم مرتبطون به ومشاركون في إدارة شؤون الملكوت. ولكنه أعلن، لدهشتهم، أنه لن يبقى حجر على حجر في كل هذه الأبنية العظيمة، إذ لا بد أن تُدمّر كلها.

إذ توقفوا لوهلة خلال سيرهم في الطريق، جلس يسوع عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ ينظر تُجَاهَ الْهَيْكَلِ، وسأله أربعة من تلاميذه- بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ- على انفراد أن يخبرهم عن موعد حصول هذه الأمور، وعن العلامة التي ستدل على وشوك تحقيق ما يقوله.

"فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَابْتَدَأَ يَقُول: «ﭐنْظُرُوا! لاَ يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ. وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَبِأَخْبَارِ حُرُوبٍ فَلاَ تَرْتَاعُوا لأَنَّهَا لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ وَتَكُونُ زَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَاضْطِرَابَاتٌ. هَذِهِ مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ" (١٣: ٥- ٨).

في هذه الآيات يضع الرب الخطوط الرئيسية لسير الأحداث في الدهر الحاضر، ويتحدث عن السمات العامة التي ستسود خلال غيابه. سوف لن يكون هناك تحسن في الأخلاق أو شؤون الأمم. لقد رُفِضَ أميرُ السلام. وبالتالي لن يكون هناك سلام دائم إلى أن يعود ليملك ويزيل كل رجس ودنس.

مسحاء كذبة كثيرون تم التنبؤ بأنهم سيأتون، وتحققت نبوءات كثيرة من هذه، ولكن الخروف الحقيقي في القطيع لن يعرف صوت هؤلاء الغرباء. حروب وإشاعات حروب لا بد أن تحصل، لأن الوحيد الذي كان ليمكنه أن يخلص الأمم من هذه الكوارث والنكبات قد رُفِضَ بازدراء وصُلِبَ. من الواضح أن يسوع قد توقع مسبقاً متنبئاً هذه كلها، ولذلك رسم بالضبط صورة حالة الأشياء التي نرى الآن أنها قد تلت صعوده إلى السماء عندما رفضه العالم.

منذ مغادرته لهذه الأرض، فإن ما ورد في الآية ٨ صار مضرب مثل. فقامت أمة على أمة، ومملكة ضد مملكة. واضطرابات عظيمة ملأت قلب الناس بالخوف، في حين أن مجاعات وقلاقل مؤلمة أخرى جعلت هذا العالم عالماً من الحزن والأسى. إلا أن الشكل الأسوأ للمعاناة لا يزال في المستقبل. فهذه الأمور هي مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ، وإن استمرت حوالي عشرين قرناً.

والأنكى من كل ذلك هو المخاطر التي سيكون الناس معرضين لها عندما يحين أوان النهاية، عندما سيقع قضاء الله ودينوناته الأخيرة على الأرض. ولكن حتى في ذلك الزمان في وقت ضيق يعقوب وعهد التجربة والمحنة التي ستصيب كل العالم لاختبار أولئك الساكنين في الأرض، فإن رسالة الإنجيل سوف تُعلن وسوف تستمر إلى انقضاء الدهر.

"فَانْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ وَتُجْلَدُونَ فِي مَجَامِعَ وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ. فَمَتَى سَاقُوكُمْ لِيُسَلِّمُوكُمْ فَلاَ تَعْتَنُوا مِنْ قَبْلُ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ وَلاَ تَهْتَمُّوا بَلْ مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَبِذَلِكَ تَكَلَّمُوا لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ. وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ وَالأَبُ وَلَدَهُ وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ. وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ" (١٣: ٩- ١٣).

القديسون المتألمون المشار إليهم هنا هم بوضوح أبناء إسرائيل أولئك الذين سيكونون شهود الله الأخيرين بعد الكنيسة، كما نعرفها، وقد اختُطفوا إلى السماء، ويكون الأسبوع السبعون من دانيال ٩ قد بدأ. ثم سيقيم الله حشداً من الحكماء ليشهدوا ويعلنوا إنجيل الملكوت بين جميع الأمم. هؤلاء سيصب الشيطان جام حقده عليهم وسيتعرضون لعذابات مخيفة واضطهاد لا طاقة لهم عليه. ومع ذلك، فلا بد لإعلان الإنجيل إلى كل الأمم إلى أن تأتي النهاية.

قد نطبّق نحن أبناء هذا الدهر الحاضر هذه الكلمات على أنفسنا عندما نجد أنفسنا في ظروف مماثلة، ولكن يجب أن نرى التطبيق الفعلي الحقيقي لها.

بينما تصف الآيات ١١- ١٣ زمن الاضطهاد هذا، إلا أنها أيضاً تقدم تعزية وتشجيعاً لأولئك الذين سيعانون الاعتقال والسجن في تلك الأيام القاتمة. فالروح القدس سيمكّنهم من أن يجيبوا أولئك الذين يتهمونهم ظلماً بطريقة يعجز معها مناوئوهم ومجادلوهم من الرد عليهم أو مقاومتهم. قد يبدو هذا المقطع وكأنه يوحي بأن هذه الكلمات يمكن أن تنطبق فقط على زمن النعمة التدبيري الحالي حيث يسكن الروح القدس كل المؤمنين، إلا أن علينا أن نتذكر أنه حتى عندما يأتي عمله الحالي في الكنيسة إلى نهايته، ولا يعود يسكن شخصياً في القديسين كما هو الحال الآن، فإنه كلي الوجود أبداً وسيكون مع أولئك الذين يهتدون إلى المسيح في تلك الأيام القاتمة كما كان مع قديسي العهد القديم قبل العنصرة (الخمسين).

خيانة المرء أقرباءه، حتى الأولاد العاقّين الذين يسيئون معاملة والديهم الأتقياء، أو العكس، سوف يتطلب صبراً كثيراً وطول أناة من جهة أولئك الذين سيكونون شهداء للملك القادم في وقت الشدة ذاك. مُبْغَضِينَ من قِبَل كل الخانعين لقوة إبليس الذي يعمل في الحكومات الملحدة في تلك الأيام الأخيرة، فإن أولئك الذين يعترفون بالمسيح كملك حق على الأرض سوف يُمتحنون إلى الحد الأقصى، ولكن "الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ". هذا لا يعني أن الخلاص في ساعة الشدة تلك سيعتمد على إيمان الفرد، بل إن ذلك الصبر إلى النهاية هو الدليل أبداً على الصدق. الاعتراف وحسب سينهار عندئذ، كما الآن، ولكن حيث يكون المرء قد تجدد حقاً، فإنه ينال قوةً للاستمرار في طريق التكرس للرب أياً كانت المحن التي يتوجب عليه احتمالها.

من الواضح من الأصحاح التاسع من سفر دانيال أن الأسبوع الأخير سيتألف من قسمين. الفترة كلها تُدعى "زَمَانُ ضِيقٍ" (دانيال ١٢: ١)، و"وَقْتُ ضِيقٍ عَلَى يَعْقُوبَ" (إرميا ٣٠: ٧). ولكن السنوات الثلاث ونصف الأخيرة، التي تبدأ بالاستعلان الكامل لإِنْسَان الْخَطِيَّةِ، هي التي تُعرف بـ " الضِيقة العَظِيمة". وهذه  ستبدأ بإِقَامَةِ رِجْسِ الْمُخَرَّبِ التي تم التنبؤ عنها في دانيال ١٢: ١١.

"فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ الْخَرَابِ» الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ قَائِمَةً حَيْثُ لاَ يَنْبَغِي - لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ - فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ وَﭐلَّذِي عَلَى السَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ إِلَى الْبَيْتِ وَلاَ يَدْخُلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً وَﭐلَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى الْوَرَاءِ لِيَأْخُذَ ثَوْبَهُ. وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ. لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ. وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلْكَ الأَيَّامَ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلَكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ قَصَّرَ الأَيَّامَ. حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُوَذَا هُنَاكَ فَلاَ تُصَدِّقُوا. لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ لِكَيْ يُضِلُّوا - لَوْ أَمْكَنَ - الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً. فَانْظُرُوا أَنْتُمْ. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ" (١٣: ١٤- ٢٣).

يجب أن نميز بين "الرِّجْس الْمُخَرّب" التي يرد الحديث عنها في (دانيال ١١: ٣١) والتي تشير إلى صورة جوبيتر التي علقها في الهيكل أنطيوخوس إبيفانيس في الماضي السحيق، و"رِجْسِ الْمُخَرَّبِ" الوارد ذكرها في (دانيال ١٢: ١١)، والتي تشير إلى الدمار الذي سيحدث. رِجْسَةَ الْخَرَابِ هذه الأخيرة هي التي كان ربنا يتحدث عنها. سواء كانت تصويراً حرفياً للوحش (رؤيا ١٣: ١٤، ١٥) الذي سيقيمه النبي الكذاب، الوحش شِبْه الخَرُوف (أي المسيح الدجال) في الأيام الأخيرة، أو كانت هذه الصورة بحد ذاتها رمزاً لجماعة غامضة تسلك لأجل مصلحة الرئيس المجدِّف لإمبراطورية العالم الآتي، لا يمكننا أن نحدد بشكل قاطع. ولكن على ضوء كلام الرب فإن القلة الباقية التي تكون على قيد الحياة في ساعة التجربة تلك ستكون قادرة على الفهم وسيعرفون أن قوة الشرير يمكن أن تدوم فقط ١٢٦٠ يوماً بعد ذلك، وعند انقضاء ذلك الزمان سيشيد الملكوت. ومن هنا فإن الضيقة العظيمة ستدوم طوال ثلاث سنوات ونصف بعد استعلان رِجْسَةَ الْخَرَابِ هذه. وهذا سيكون الأوان الذي سيصب فيه الله جام غضبه على العالم المسيحي المرتد واليهودية المرتدة. وبالنسبة للمسيحيين، لقد أُعطيوا الوعد بأن غضب الله لن يصيبهم. إننا نترقب ربنا يسوع لكي يُنْقِذُنَا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي (١ تسالونيكي ١: ١٠).

إن التعاليم المعطاة لنا في الآيات ١٤- ١٨ تنطبق بشكل خاص على القلة الباقية من اليهود في فلسطين خلال فترة حكم الوحش والمسيح الدجال. وكما في أيام تيطس، فإن التحذير قد أعطي لتجنب المدينة والهرب إلى البرية حيث ينجون من غضب الشيطان الذي سيستعلن بالمسيح الدجال.

كان دانيال قد تنبّأ عن "زَمَان ضِيقٍ لَمْ يَكُنْ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ". ويستخدم يسوع هنا لغة مشابهة قائلاً: "لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ" (١٣: ١٩).

ستكون الكارثة، التي ستقع على الأمم، فاجعة جداً لدرجة أنه إن "لَمْ يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلْكَ الأَيَّامَ لَن يَخْلُصْ جَسَدٌ". ولكنه يخبرنا أنه لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ- أي البقية التقية من بني إسرائيل وأولئك الذين سينجون من بين الأمم- سوف يقَصّر الأَيَّامَ.

ستمضي ثلاث سنوات ونصف في حوالي ١٢٧٨ يوماً تقريباً. ولكن سطوة الوحش ستكون محدودة ومحصورة في ١٢٦٠ يوماً. فالأيام الـ ١٨ من "التقصير" سوف تسمح بخلاص الكثيرين من الهلاك الفعلي.

على ضوء القوة التدميرية للقنبلة الذرية يمكننا أن نرى كيف يمكن أخذ كلمات يسوع هذه حرفياً.

ففي ذلك الوقت الرهيب من المخادعة وتقسي القلب سيضلل كثيرون على يد مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، وكذلك على يد المسيح الدجال في أورشليم. ولكن النخبة الذين سيختارهم الله سيكونون في منأى عن تأثيرهم المخادع المضلل. ولهؤلاء يقول يسوع: "فَانْظُرُوا أَنْتُمْ. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ".

من المؤكد أن هذه النبوءة عن الضيقة العظيمة لا تشير إلى أي حدث قد تحقق، كمثل دمار أورشليم، أو اضطهاد الكنيسة على يد روما الوثنية أو روما البابوية، لأن الآيات التالية تخبرنا عما سيحدث تماماً عندما تأتي فترة الغضب والدينونة هذه إلى الانقضاء.

"«وَأَمَّا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ الضِّيقِ فَالشَّمْسُ تُظْلِمُ وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ وَنُجُومُ السَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ وَالْقُوَّاتُ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاءِ" (١٣: ٢٤- ٢٧).

لاحظوا أن كل هذه الإشارات البشيرية والعودة الفعلية لابن الإنسان ستكون مباشرة "بَعْدَ ذَلِكَ الضِّيقِ". ومن هنا ندرك أن هذه الحالة لم تحدث بعد، لأن المجيء الثاني للرب لا يزال في المستقبل. ولا أحد سوى الله يعرف متى يكون ذلك. ولكنه لا يزال أمراً يترقبه شعب الله، وليس شيئاً ينظرون إليه إلى الوراء أو في الماضي.

مجيئه إلى الأرض سترافقه اضطرابات طبيعية عنيفة عظيمة، حيث سيهتز كل شيء ويتمايل كمثل رجل سكّير يترنح، وحوادث فائقة للطبيعة ستجري وسط الأجرام السماوية. إن عبارة "الْقُوَّاتُ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ" هي الأبلغ تعبيراً إن اعتبرنا العصر الذري الذي دخلنا فيه، إذ أن "اليورانيوم" هو عنصر أخذ اسمه من الكلمة اليونانية التي تعني "سماء".

لاحظوا الفرق بين هذه المرحلة من المجيء الثاني وتلك التي يصورها الأصحاح (١ تسالونيكي ٤). فهنا يأتي ابن الإنسان إلى الأرض بقوة ومجد عظيمين. أما هناك فالرب ينزل من السماء، ولكنه يدعو قديسيه للقائه في الهواء. هنا يرسل ملائكته ليجمع مُخْتَارِيهِ (أي القلة التقية الباقية من بني إسرائيل والأمم الذين سيكونون في انتظاره في ذلك اليوم) مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاءِ. وهناك مختاروه المقدسون، أي قديسوا العصور الماضية والكنيسة، جسد المسيح، سيُختطفون لملاقاته في الهواء، لكي يعودوا معه في مجد عندما يتحقق ما ورد في هذا المقطع من مرقس.

"فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقاً تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ. اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ. وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الاِبْنُ إلاَّ الآبُ. ﭐُنْظُرُوا! اسْهَرُوا وَصَلُّوا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ" (١٣: ٢٨- ٣٣).

في هذا الجزء تُستخدم شجرة التين كرمز إلى يَهُوذَا، أو الشعب اليهودي. إنها تشير إلى بني إسرائيل. عندما تُخرج شجرة التين ورقها يعرف المرء أن الصيف قد اقترب. ولذلك عندما يقترب حدوث هذه الأمور- عندما يحاول اليهود أن يتميزوا كشعب من جديد ويبدأ حدوث تلك العلامات الموصوفة، فالكل سيعرف أن التحقيق، مجيء الملك، قد حان. سيبقى جيل من اليهود غير المؤمنين حتى ذلك الوقت. ولن تهلكهم محاولات الشيطان.

ومهما هزأ غير المؤمنين، فإن كلمة الله سوف تثبت. السماء والأرض قد تزولان، أما كلامه فلا يزول أبداً.

عبثاً نحاول أن نضع مخططاً كرونولوجيّاً (بالترتيب الزمني) لكي نحدد زمن مجيئه. فهذا سر لم يُكشف حتى للملائكة، وكإنسان على الأرض اختار ابن الإنسان ألا يعرف. إنه حق وامتياز خاص بالآب أن يحدد الزمن، كما أعلن يسوع أيضاً في (أعمال ١: ٧). يا لبطء البشر في قبول هذه الحقيقة، وكم يتخبطون ويتحامقون في محاولة حساب وقت عودته!

إن لنا أن ننتبه إلى كلماته، وأن نسهر ونترقب ونصلي، منتظرين تحقيق وعوده.

"كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ تَرَكَ بَيْتَهُ وَأَعْطَى عَبِيدَهُ السُّلْطَانَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ وَأَوْصَى الْبَوَّابَ أَنْ يَسْهَرَ. ﭐِسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ أَمَسَاءً أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ أَمْ صَبَاحاً. لِئَلاَّ يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَاماً! وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: اسْهَرُوا»" (١٣: ٣٤- ٣٧).

كمثل رجل سافر بعد أن أعطى تعليماته إلى خدامه تتعلق بواجباتهم في غيابه ولكن لم يحدد لهم يوم أو ساعة عودته، هكذا يسوع ربنا صعد إلى السماء، معلناً أنه عندما يحين الأوان سيأتي من جديد ولكن دون أن يحدد لهم الوقت. في هذه الأثناء نكون نحن هنا لخدمته، هو الذي حدد "لِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ" وَأَوْصَى الْبَوَّابَ أَنْ يَسْهَرَ.

بسبب عدم المعرفة الأكيدة بموعد رجوعه إلى الأرض، على جميع خدامه أن يكونوا على أهبة الاستعداد، منتظرين وساهرين في ترقب لئلا يأتي فجأة ويجدهم نياماً. وللجميع تأتي الكلمة التحذيرية أن " اسْهَرُوا".

القسم (٢)- الأصحاحات ١٤ و١٥

الأصحاح ١٤

الذبيحة الأسمى

تتسارع الأحداث الآن إلى النهاية، حيث سيموت ربنا المبارك على الصليب كتقدمة كفارية عظيمة عن الخطية. في متى رأيناه ذبيحة فصحية، مستعيداً الَّذِين لَمْ يخْطَفْهُم (مز ٦٩: ٤). وهنا يسلم ذاته للموت لكي يوفي كل التبعات الناجمة عن الخطيئة في نظر الله، فيكون بذلك، ليس فصحاً حقيقياً وحسب، بل أيضاً العنصر المميِّز المتأصّل في قلب الإنسان الساقط، العداء نحو الله المتبدي في أفعال التمرد ضده. إن الخطوات المؤدية مباشرة إلى الصليب جليلة مهيبة بشدة ومنورة بعمق للغاية.

نلاحظ العداء المطَّرد أبداً عند رؤساء الكهنة والكتبة في الآيات ١ و ٢.

"وَكَانَ الْفِصْحُ وَأَيَّامُ الْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: «لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ»" (١٤: ١، ٢).

هؤلاء المراءون الماكرون الذين كانوا يخدمون الشيطان في بزّة السماء كانوا أكثر براعة ومكراً من أن يجازفوا باعتقال يسوع علانية في يوم العيد، إذ سيكون هناك الكثير من عامة الشعب في أورشليم سيتوجب عليهم مواجهتهم في ذلك الوقت. ولذلك تآمروا سراً منتظرين الساعة المناسبة لينفذوا خططهم الشائنة.

في هذه الأثناء شاءت مجموعة صغيرة من الذين أحبوه أن يكرّموه بطريقة خاصة. كان المنزل في بيت عنيا، حيث تعيش مريم ومرتا ولعازر، أحد أجمل الأماكن في الأرض المحببة على قلب ربنا المبارك. لقد كان أحد الأماكن التي كان الرب فيها موضع ترحيب على الدوام والتي كانت تُفهم فيه رسالته على أفضل وجه. ولعل مريم دخلت إلى فكره أكثر من الباقين لأنها كانت تتعلم عند قدميه ما خفي على أختها الأكثر انشغالاً منها بأعباء المنزل والضيافة، بل حتى كانت في ذلك أفضل من لعازر. أمام هؤلاء الثلاثة كان الرب يسوع يسمح لانفعالاته بأن تظهر وتتدفق أكثر من الآخرين. ونقرأ أن يسوع كان "يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ" (يوحنا ١١: ٥)، ومن الواضح جداً أنهم كانوا يقدّرون تلك المحبة ويبادلونه إياها، إذ عندما كان الأخ مريضاً، فكرت الأختان أنه كان يكفي أن يبعثا رسولاً إلى يسوع ليقول له: "هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ" (يوحنا ١١: ٣).

أعرف أن البعض يسلّم بوجود امرأتين في قصتين مختلفتين عن دهن الرب يسوع بالطيب في بيت عنيا، ولكن يبدو لي أن هذا محال تماماً نظراً إلى حقيقة أن نفس الحوار قد دار عملياً في كلتا الروايتين. في كلتا الحادثتين يعترض التلاميذ على تَلَف الطِّيبِ على أساس أنه كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ. وفي كل حالة منهما، يدافع الرب عن المرأة فيما بدا لهما تلفاً ويعبّر عن تقديره الشخصي لهذا العمل الذي قامت به المرأة. أرى شخصياً أن هذه الكلمات تبرهن حصرياً على أن هذه المرأة هي مريم التي من بيت عنيا، أخت مرتا ولعازر، وقد مسحت الرب بالطيب، وليس من سواها.

من اللافت والممتع أن نلاحظ كيف أن الروح القدس يتحدث عن بيت عنيا على أنها " قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا". لا بد أن كثير من الناس المهمين كانوا يسكنون تلك الضاحية القريبة جداً من أورشليم، وكان ليمكن للمرء أن يربط بينها وبينهم بشكل طبيعي أكثر منه بهذه العائلة الهادئة المتواضعة. ولكن بالنسبة لله، كانت هذه "قريتهم"، لأنهم أحبوا ابنه وآمنوا به. لعل في هذا مجرد إشارة ولو بسيطة إلى الطريقة التي ينظر فيها الرب إلى مدننا وقرانا اليوم، مقدراً إياها، ليس لأنها أماكن إقامة أولئك العظماء في نظر العالم- ذوي الأسماء اللامعة في السياسة والعلوم والأعمال- بل لأنها أماكن سكن بعض قديسيه الذين يعتبرون من "الْهَادِئِينَ فِي الأَرْضِ" (مز ٣٥: ٢٠)، فقراء هذا العالم، الأغنياء في الإيمان (يعقوب ٢: ٥)، الَمَجْهُولِونَ للناس، ولكن المَعْرُوفُونَ عند الله (٢ كور ٦: ٩).

"وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ الْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: «لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هَذَا؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هَذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: «ﭐتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً. لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْراً. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَاراً لَهَا»" (١١٤: ٣- ٩).

"فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ". لا نعرف شيئاً عن هذا الرجل، ولكن الافتراض هو أنه كان أبرص وأن يسوع طهّره. افترض البعض أنه كان زوج مرتا، وآخرون افترضوا أنه كان والد الثلاثة الذين كانوا أصدقاء مقربين ليسوع. الـ "امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ" هي مريم، الذي نقرأ عن عملها هذا الدال على التكرس في يوحنا ١٢. فما كانت لتعتبر أن أي شيء غالٍ على يسوع، ولذلك سكبت على رأسه، وأيضاً على قدميه (كما يقول يوحنا) الطِيب نَارِدِين وهو متكيء إلى المائدة. لقد كانت تقدمة جميلة لذاك الذي كانت ترى فيه المسيا الموعود.

سأل البعض: "لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هَذَا؟" ونعرف، من رواية يوحنا، أن يهوذا كان أصل اللغط والتذمر والاستياء. وهذا يدل على مدى ضعف فهمه هو والباقين للأحداث الوشيكة الحصول، رغم أن يسوع قد تنبأ عنها مراراً وتكراراً. لقد سَبَقَتْ مريم وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِه لِلتَّكْفِينِ (الآية ٨).

"كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هَذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ". الدينار الروماني كان عملة نقدية من الفضة قيمته أقل من الـ ٢٥ سنتاً حالياً، ولكن كان لها قيمة شرائية أكبر منها بكثير، فقد كانت الأجر اليومي العادي للعامل الكادح في ذلك الزمان. وبالتالي، بحسب تقديرات يهوذا، كانت قارورة الطيب تعادل أجور سنة كاملة، مع حذف أيام السبوت وأيام الأعياد الخاصة. لقد بدا هذا تبذيراً أُنْفِقَ بدون حساب على يسوع، ولكن المحبة الحقيقية لا تعرف حدوداً لما تُسر بأن تقدم أو تفعل للمحبوب. الاقتراح بأن ثمن الطيب كان يمكن تقديمه صدقةً لا يعني، بالضرورة، أن يهوذا كان ليهتم بالفقراء. نعلم أن ذلك كان لأنه كان سَارِقاً وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ (يوحنا ١٢: ٦).

" ﭐتْرُكُوهَا! .... قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً". لقد كان يسوع دائماً يقدّر كل دلالة على المحبة الحقيقية، وأعطى قيمة كبيرة لفعل المحبة المتفانية الذي قامت به مريم. ما من شيء يضيع إذا قُدِّمَ ليسوع ربنا. إنه يستحق أفضل ما لدينا. فعل التكرس العبادي الذي تبديه مريم كان خير مثال على ما نقرأه في نشيد الأنشاد (١: ١٢). فقد عرفت في يسوع ملك إسرائيل الحقيقي.

"الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ ..... وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ". من الملائم والواجب أبداً أن نخدم المحتاجين، الذين يمكن أن نجدهم دائماً إن رغبنا في مساعدتهم. هذه الخدمة مطلوبة وواجبة في كل حين. ولكن يسوع كان على وشك أن يغادرهم، وبدا أن مريم أدركت ذلك.

"عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا". ليس من إطراء أعظم من هذا. في مقدور الجميع أن يفعلوا أشياء عظيمة للمسيح، ولكن حسنٌ أن يفعل كل واحد ما يستطيع كما لو كان يفعل ذلك للرب نفسه.

"حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ .... يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَاراً لَهَا". لم تفكر مريم ذلك اليوم بأن تعبيرها عن محبتها للملك المرفوض سيجعل اسمها معروفاً في كل أرجاء العالم؛ وهذا ما حصل فعلاً لأن قصتها قد روتها ثلاثة أناجيل ونُقلت إلى كل صقعٍ في الأرض يُكرز فيه بالمسيح.

في هؤلاء الأصدقاء الثلاثة ليسوع نجد مواصفات يجب أن يتميز بها كل من يؤمن به. ففي مرتا نجد الخدمة، والتي تبلغ ذروتها عندما تكون خالية من الهم والقلق ويُقام بها كما للرب نفسه. وفي مريم نجد التلمذة والتعبد. لقد كانت تُسر بأن تأخذ دور التلميذ عند أقدام يسوع وأن تسكب أفضل ما عندها عليه. ولعازر الذي كان يجلس معه إلى المائدة (يوحنا ١٢: ٢)، يتميز بالشركة أو الصداقة (الصحبة). مغبوطٌ من تجتمع فيه كل هذه الصفات!

إن الخيانة، والمحاكمة الهازئة، والحكم بالموت على ربنا المبارك تشكل معاً أكبر إخفاق للعدالة في كل التاريخ. ومع ذلك فإن كل شيء كان معروفاً مسبقاً عند الله، وكل شيء كان متوافقاً مع الكلمة النبوية الأكيدة. أولئك الذين اشتركوا في تلك الجريمة الشائنة كانوا جميعاً يلعبون الدور الذي تم التنبّؤ عنه منذ القدم، رغم أنهم ما كانوا يعرفون ذلك. ليس الأمر أنه قُدِّرَ لهم مسبقاً أن يسلكوا كما فعلوا. فقد كانت لديهم الحرية الأخلاقية ليفعلوا ما يشاؤون، بمعنى من المعاني، ذلك لأنهم تصرفوا على ذلك النحو عن عمد بمحض إرادتهم. ولكنهم كانوا عبيد الشيطان، العدو الرئيسي لله والإنسان، الذي قادهم لأن يفعلوا ما كان الله نفسه قد أعلن أنه سيُصنع. هناك فرق بين معرفته السابقة وتقديره (بقضاء وقَدَر) حدوث الأمور- هذا الفرق قد ميزه بطرس عندما أعلن، في يوم العنصرة (الخمسين) قائلاً (عن المسيح): "أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ" (أع ٢: ٢٣). كل مناوئيه في تلك الدراما التاريخية المريعة كان مسؤولاً شخصياً عن سلوكه نحو المخلص القدوس، حتى وإن كان قد جاء بطرقهم إلى الصليب حيث قدّم نفسه كفّارة استرضائية عن خطايانا.

"ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ وَاحِداً مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ" (١٤: ١٠، ١١).

"يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ وَاحِداً مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ". لقد كان أمين الصُّنْدُوق لجماعة الرسل (يوحنا ١٢: ٦)، وموضع ثقة الآخرين، ولكنه لم يكن متجدداً أبداً في قلبه وحياته (يوحنا ٦: ٧٠). إذ كان معدوداً ابناً لله (أع ١: ١٧) فإنه كان حقاً ابن الهلاك (يوحنا ١٧: ١٢)، مقدراً له، بسبب خطاياه الخاصة به، مصير الأبدية الضالة في العقاب الأبدي. لقد كان هذا "مَكَانه" (أع ١: ٢٥). رغم أنه كان له امتياز كبير، إلا أنه كان خيراً له لو لم يُولد (متى ٢٦: ٢٤). من الواضح أنه كان الوحيد من بين الاثني عشر الذي لم يكن جليلياً. الاسخريوطي تعني "رجل من قَرْيُوتَ"، وهي مدينة في يَهُوذَا.

"وَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً". الجشع، محبة المال، هو أصل كل الشرور (١ تيموثاوس ٦: ١٠). لقد دُفع يهوذا لخيانة معلمه وتسليمه إلى أولئك الذين كانوا يسعون لقتله.

لقد قال سمعان عن الرب يسوع المسيح عندما أخذ الطفل الإلهي بين ذراعيه عند تقديمه إلى الهيكل ما يخطر في قلب كثيرين (لوقا ٢: ٣٥). يسوع المسيح هو مِحكّ كل القلوب. كل شيء يعتمد على موقفنا نحوه. يهوذا، الذي رافقه لحوالي ثلاث سنوات، خانه بدناءة على نحو مخزٍ. وبطرس، الصادق في قلبه، امتلأ بروح الجبن، وأنكر أي صلة له به. في حين أن بيلاطس، المقتنع ببراءته، استسلم بضعف لأولئك الذين كانوا يصرخون طالبين قتله، وحكم عليه بالصلب. هؤلاء جميعاً يمثلون البشر، ويظهرون الطرق المختلفة التي لا يزال الناس يسلكون بها نحو مسيح الله.

"وَفِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْفِصْحَ قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: «ﭐذْهَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اتْبَعَاهُ. وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ فَهُوَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً. هُنَاكَ أَعِدَّا لَنَا». فَخَرَجَ تِلْمِيذَاهُ وَأَتَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. فَأَعَدَّا الْفِصْحَ" (١٤: ١٢- ١٦).

عندما جاء اليوم الذي كان يجب تقريب حمل الفصح فيه سأل التلاميذ عن المكان الذي سيأكلون فيه الفصح مع معلمهم. لكونهم زائرون في أورشليم فلم يكن لهم منزل خاص بهم يقيمون فيه شعائر هذا العيد المقدس. ولكن جرت العادة أن يقدم العديد من العائلات غرفة للضيوف يستطيع الغرباء عن أورشليم أن يستخدموها بحرية ليحتفلوا بالعيد بحسب التعاليم الناموسية المتعلقة بهذه الخدمة.

كان يسوع قد توقع مسبقاً كل ذلك، وأرسل اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ إلى المدينة مع تعليمات محددة بأن يبحثوا عن رجل معين ينبغي أن يلاقيهم، وهو يحمل جَرَّةَ مَاءٍ. لقد كان في هذا تحديد أدق بكثير مما نتصور، إذ عادة ما تحمل النساء الماء في جرار خزفية أو أكواز على رؤوسهن أو أكتافهن. فرؤية رجل يفعل ذلك سيكون بلا ريب أمراً غريباً. عندما سيقابلهما الرجل، عليهما أن يتبعاه إلى أي منزل يدخله، وكان عليهما أن يقولا لصاحب ذلك البيت: "إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟" وسيريهما المضيف في الحال حجرة علوية كبيرة مفروشة ومعدة وفيها سيعدّان وليمة الفصح.

وإذ اتبع التلميذان التعليمات المعطاة، مضى الاثنان إلى المدينة ووجدا كل شيء تماماً كما قال يسوع، فَأَعَدَّا الْفِصْحَ.

"وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ. وَفِيمَا هُمْ مُتَّكِئُونَ يَأْكُلُونَ قَالَ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي!» فَابْتَدَأُوا يَحْزَنُونَ وَيَقُولُونَ لَهُ وَاحِداً فَوَاحِداً: «هَلْ أَنَا؟» وَآخَرُ: «هَلْ أَنَا؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ. إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!»" (١٤: ١٧- ٢١).

في المساء، الذي كان في بداية الرابع عشر من نيسان (نفس اليوم الذي كان يسوع سيموت فيه لأنه المرموز إليه بالحمل الفصحي)، جاء مع تلاميذه الاثني عشر، بمن فيهم يهوذا الخائن، وجلس أو اتكأ معهم جميعاً إلى المائدة التي وضعوا عليها مختلف الأطباق كما حدد الناموس، إضافة إلى كؤوس معينة من الخمر الذي كان شيئاً مألوفاً معتاداً.

وإذ راحوا يحتفلون بالعيد بصمت وإجلال تكلم يسوع فقال: "ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي".

أجفل التلاميذ لسماعهم ما كان من الممكن أبداً أن يعقل أو يصدق، وسأله الأحد عشر بقلوب صادقة: "هَلْ أَنَا؟" وطرح يهوذا المنافق نفس السؤال. فأجاب يسوع وَقَالَ لَهُمْ: "هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ". ثم أضاف قائلاً ما يعتقد المرء أنه كان ليمس أقسى القلوب، عندما أعلن: "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!".

ماذا كان شعور يهوذا وهو يسمع هذه الكلمات؟ لا نعلم، ولا فائدة من التفكير في ذلك. ولكن بعد قليل، وكما يخبرنا يوحنا، التفت يسوع إليه وقال له: "«مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ»" (يوحنا ١٣: ٢٧)، فنهض وخرج في الحال تحت جنح الظلام.

يبدو واضحاً أنه بعد خروج يهوذا مباشرة تأسس عشاء الرب.

"وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَدِي». ثُمَّ أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ»" (١٤: ٢٢- ٢٥).

إذ يوشك عيد الفصح، التذكار السنوي لتحرير بني إسرائيل من عبودية مصر، على أن ينتهي، يدشّن يسوع عيداً آخر ليكون تذكاراً طوال العصر المسيحي ابتداء من موته والفداء الذي أُنجز بفضل ذلك.

فقد أخذ إحدى أرغفة الفصح المسطحة الفطير، وبعد الشكر، كسره وأعطاه للتلاميذ ليشارك الجميع في تناوله، قائلاً: "«خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَدِي»". بالتأكيد لم يخطر في ذهن أحد منهم آنذاك ولو لوهلة أنه يحيل الخبز إلى جسده الفعلي. ورغم أنهم لم يفهموا كل ما عناه بذلك الفعل البسيط، إلا أنهم على الأقل عرفوا أنه يرمز بالخبز إلى جسده.

ثم أخذ الكأس الذي كان من ثمر الكرمة، عصارة العنب، وبعد الشكر على ذلك أيضاً، مرره على الأحد عشر، وشرب الجميع منه. وشرح معنى ذلك بقوله: "هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ". وأضاف قائلاً: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ". لم يستطيعوا فهم معنى هذا القول آنذاك، ولكن كل شيء سيصبح واضحاً فيما بعد.

الكلمة اليونانية المستخدمة هنا بمعنى "عهد" تعني أيضاً "وعد وميثاق". لقد كانوا يعرفون أن الله قد وعد أن يقيم عهداً جديداً مع إسرائيل ويهوذا- عهداً من النعمة الخالصة. العهد الأول في سيناء كان قد تم تصديقه برش الدم. الكأس التي اشترك التلاميذ في الشرب منه كان يرمز إلى الدم الذي كان ليُختمَ به العهد الجديد.

عندما انتهى كل شيء غادرت الجماعة الصغيرة العلية واتخذوا سبيلهم إلى جَثْسَيْمَانِي.

"ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ الْخِرَافُ. وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ». وَهَكَذَا قَالَ أَيْضاً الْجَمِيعُ. وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ اسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «ﭐجْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ». ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! امْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا»" (١٤: ٢٦- ٣٤).

"ثُمَّ سَبَّحُوا". على الأرجح أن هذا التسبيح هو ما كان يعرف آنذاك باسم "التهليلة الصغرى" المؤلفة من المزامير ١١٣- ١١٨. لنفكر في يسوع، والصليب على مقربة، بل وحتى منظور ليسوع، وهو يؤمُّ التسابيح مع الجماعة الصغيرة.

وبينما هم يسيرون في تؤدة على طول الطريق من البيت الذي تناولوا فيه الفصح، خارجين من بوابة المدينة عبر الجسر إلى جبل الزيتون، حذّر يسوع التلاميذ من الارتداد القادم. فهو، الراعي، سيُضرب، كما تنبّأ زكريا (١٣: ٧). وأما هم، خِرَافُ قطيعه، فسوف يتبددون، لأنهم سيترددون ويرتبكون من جراء ما سيصيبه.

إلا أنه أعطاهم من جديد الوعد بقيامته، وذكّرهم أنه بعدئذ سيسبقهم إلى الجليل ليلقاهم هناك.

إذ كان واثقاً من نفسه ويجهل ضعفه، أعلن بطرس قائلاً: "وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ (ترددوا) فَأَنَا لاَ أَشُكُّ". فقال له يسوع أنه وقبل أن يصيح الديك مرتين سوف ينكر ثلاث مرات أية معرفة بذاك الذي كان يعترف به معلماً له. في أناجيل أخرى يرد القول أن "قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ". ليس من تناقض في هذا. فصياح الديك كان في وقت محدد- الساعة الثالثة صباحاً. من هنا نعلم أنه كان يشير أيضاً إلى صياح ديك معين مرتين.

وإذ كان لا يزال منفعلاً قال بطرس باحتدام: "وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ". وأكد العشرة الآخرون نفس الأمر.

وأخيراً وصلوا إلى ضَيْعَة جَثْسَيْمَانِي، البستان الذي كان يسوع غالباً ما يذهب إليه ليصلي ويتواصل مع أبيه. فترك ثمانية تلاميذ قرب المدخل وأمرهم أن يمكثوا هناك بينما ذهب هو إلى الصلاة. ولكنه الآن أخذ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا مَعَهُ إلى البستان، وإذ نظروا رأوا تغيراً كبيراً يطرأ عليه. فهدوء نفسه المعتاد استحال إلى اضطراب في الروح، فأدركوا أنه كان يمر بمحنة شديدة. ولكنهم لم يستطيعوا أن يفهموا حتى عندما أعلن لهم قائلاً: "نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ". لقد طلب إليهم أن يبقوا في مكانهم وأن يسهروا في حين أنه توغل في بستان الزيتون.

"ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. وَقَالَ: «يَا أَبَا الآبُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ فَأَجِزْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ». ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَاماً فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «يَا سِمْعَانُ أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى قَائِلاً ذَلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. ثُمَّ رَجَعَ وَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُمْ: «نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. قُومُوا لِنَذْهَبَ. هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ»" (١٤: ٣٥- ٤٢).

في استباق لشرب كأس الغضب الذي ملأتْه خطايانا صلى يسوع وهو في كرب أن تجوز عنه تلك الكأس في تلك الساعة. لقد انقبضت النفس المقدسة من رهبة وخشية أنه جُعِل خطيئة على عود الصليب. لم يكن الموت، بل الغضب الإلهي ضد الخطيئة، إلصاق كل تعدياتنا به هو ما ملأ نفسه بالرعب. لم يكن هناك صراع إرادات. لقد كان في حالة خضوع تام (لله) في كل الأشياء وهو يصلي قائلاً: "يَا أَبَا الآبُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ فَأَجِزْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ".

في هذا الامتحان، وهو الامتحان الأصعب والأهم لخضوعه لإرادة الآب، أثبت أنه، كما دائماً، الابن المطيع الذي يقوم بكل تلك الأشياء التي ترضي أبيه. ولكنه ما كان ليمكن أن يكون ذلك الإنسان القدوس لو كان فكر بالصليب وكأس الدينونة المر على الخطيئة برباطة جأش. فالأكثر قداسة هو من يتحمل أكثر تبعات حمله لخطيئة الآخرين.

 إذ رجع إلى الثلاثة وجدهم نياماً. وفي حديثه إلى بطرس الذي كان قد أبدى كل تأكيدات الولاء تلك، وبّخه بلطف، سائلاً إياه: "أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟" ثم طلب منهم جميعاً أن يسهروا ويصلوا لئلا يدخلوا في تجربة، إذ بينما الرُّوحُ نَشِيطٌ، أو مستعدٌ، كان الْجَسَدُ ضَعِيفاً.

ومن جديد عاد إلى الظلمة وصلى كما في السابق، ورجع أيضاً للمرة الثانية إلى الثلاثة لوحدهم ليجدهم نياماً من جديد. وفي المرة الثالثة صلى وجاء إليهم من جديد، وكانت المحنة قد زالت عنه، وإذ نظر بحزن إلى التلاميذ قال: "نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا!". ثم أضاف: "يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ". ثم قال لهم أن ينهضوا لأن الَّذِي يُسَلِّمُه قَدِ اقْتَرَبَ.

وفي الحال ظهر جمعٌ غفيرٌ يشقون طريقهم بين أشجار البستان يبحثون عنه.

"وَلِلْوَقْتِ فِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ أَقْبَلَ يَهُوذَا وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ. وَكَانَ مُسَلِّمُهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: «ﭐلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ وَامْضُوا بِهِ بِحِرْصٍ». فَجَاءَ لِلْوَقْتِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَائِلاً: «يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ. فَاسْتَلَّ وَاحِدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ السَّيْفَ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ مَعَكُمْ فِي الْهَيْكَلِ أُعَلِّمُ وَلَمْ تُمْسِكُونِي! وَلَكِنْ لِكَيْ تُكْمَلَ الْكُتُبُ». فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا. وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِساً إِزَاراً عَلَى عُرْيِهِ فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَاناً" (١٤: ٤٣- ٥٢).

إن السلوك الشائن ليهوذا في تسليمه يسوع إلى القادة في إسرائيل يملؤنا بالسخط لأن شخصاً كان يتمتع بحظوة أمكنه أن يتصرف على ذلك النحو الرديء. ولكن ذلك لم يكن سوى مثال عما هو في قلوبنا دون كبح من النعمة الإلهية. لقد احتمل يسوع ذلك السلوك بوقار هادئ وبدون أي غضب أو ضغينة نحو ذاك الذي كان يعامله بذلك الشكل السيئ للغاية.

وإذ جاء يهوذا وهو يقود الجمع إلى مكان اللقاء الذي كان يعرفه جيداً، قال لهم بأنه سيدلهم على من يسعون وراءه بأن يحييه بقبلة. وإذ اقترب من المكان الذي كان ينتظرهم فيه يسوع بهدوء، وثب يهوذا متقدماً نحو يسوع وقال: "يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي"، أي "يا معلّم يا معلّم"، وقبّله تكراراً، كما يشير النص الأصلي.

وهنا وضع الجنود أيديهم على يسوع وقيدوه لكي يأخذوه بعيداً معهم. لدى رؤية معلمه يتعرض للخيانة هكذا ويُعامل بهذا الشكل السيئ، ثارت ثائرة بطرس، وراح يشرط من حوله بسيفه، ولكن لم ينجح إلا في قطع أذن مالكوس، عبد رئيس الكهنة- هذا الفعل الذي قد يكلف بطرس حياته فيما بعد. ونعلم أن يسوع، في موضع آخر من الكتاب، (لوقا ٢٢: ٥١)، قد مد يده وشفى الرجل الجريح.

والتفت يسوع نحو الحشد المسلّح وسألهم: "كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي؟" وذكّرهم أنه كان يعلّم علانيةً في الهيكل. فلماذا لم يقبضوا عليه في إحدى تلك المناسبات؟ ولكن كل شيء كان بسماح من الله لكي تتحقق النبوءات في الكتاب المقدس.

إذ استشعر التلاميذ بخطورة الموقف لاذوا بالفرار جميعاً وقد أصابهم الذعر، وتركوا يسوع وحده مع معتقليه.

وكان هناك شاب لا يُذكر اسمه تبع الجموع عن كثب، وكان مئتزرا بقطعة قماش قد لفّها على جسده. وإذ حاول البعض من الحشد أن يمسكوا به أيضاً، فرَّ هارباً، تاركاً الإزار، ومختفياً وهو عارٍ بين أشجار البستان. من كان هذا الشاب؟ أكان يوحنا مرقس نفسه، كاتب هذا الإنجيل؟ اعتقد كثيرون ذلك لأن مرقس هو الوحيد الذي يذكر هذه الحادثة ودون أن يحدد هوية هذا الشاب. سوف لن نستطيع معرفة ذلك بشكل مؤكد إلى أن نقف عند كرسي الدينونة أمام المسيح.

"فَمَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ. وَكَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَاخِلِ دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَكَانَ جَالِساً بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ" (١٤: ٥٣، ٥٤).

تلاشى الذعر الأول، وتلميذان على الأقل- يوحنا وبطرس- رجعا فتبعا الحشد إلى بيت رئيس الكهنة، حيث كان أمام يسوع أول جلسة استماع، إذا صح تسميتها هكذا. مرقس الإنجيلي لا يذكر يوحنا الذي كان من أقارب عائلة قيافا، والذي تجرأ على دخول البيت. أما بطرس فقد تبع الجمع عن بُعد إلى أن صاروا داخل القصر أو في الرواق.

"مَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ". القبض على الرب يسوع المسيح ليلاً، وجره إلى دار رئيس الكهنة قبل الفجر كان غير قانوني، ولكن هؤلاء الرجال، الذين هم في العادة دقيقون للغاية في إتباع تقاليد الشيوخ، أمكنهم أن يتناسوا هكذا تفاصيل لرغبتهم في التخلص من يسوع المسيح.

"كَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ .... وَكَانَ جَالِساً بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ". امتعاض بطرس المهذب كان قد بدأ قبل أشهر، عندما تجرأ على لوم الرب يسوع (متى ١٦: ٢٢). لعله بدأ يشعر بالرفعة والتعظيم بسبب إطراء يسوع الشديد لهم قبل قليل (متى ١٦: ١٧، ١٨). منذ ذلك الوقت وصاعداً نرى دليلاً تلو الآخر على خذلانه وإخفاقه. والآن، ذاك الذي تبجح بأنه لن يتخلى عن ربه تبعهم على مبعدة، وجلس مع حفنة الأشرار.

ومع ذلك، فقد كانت محبته للرب هي التي أعادته ودفعته لإتباع الحشد، ولو من بعيد، لكيما يرى نهاية المسألة التي كانت بعكس آماله وتوقعاته.

"وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ فَلَمْ يَجِدُوا لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً قَائِلِينَ: «نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هَذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ». وَلاَ بِهَذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ. فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ فِي الْوَسَطِ وَسَأَلَ يَسُوعَ قَائِلاً: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَؤُلاَءِ عَلَيْكَ؟» أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتاً وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً وَقَالَ لَهُ: «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ». فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟» فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ. فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: «تَنَبَّأْ». وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ" (١٤: ٥٥- ٦٥).

عبثاً حاول الرؤساء إيجاد دليل على أية مكيدة عند يسوع. ورغم أنه كان لديهم شهود كاذبون يشهدون زوراً وبدون ضمير لاتهامه، إلا أن شهادتهم كانت متناقضة جداً لدرجة أنه ما كان يمكن استخدامها لتكذيبه وإضعاف الثقة به.

وأخيراً سأل قيافا يسوع معترضاً عن السبب في أنه لم يردّ أو يحاول أن يبرر نفسه من تلك التهم الزائفة، ولكن لم يلقَ جواباً.

وبارتباك، ولكن بتصميم على إيجاد سببٍ ما يدينون به أسيرهم، سأل رئيس الكهنة: "«أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟»" فأجاب يسوع على هذا السؤال قائلاً في منتهى الهدوء: "أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ". ودلّ هذا ضمناً على أنه كان ابن الإنسان الذي تحدث عنه دانيال ٧، الذي سيتلقى الملكوت من الْقَدِيم الأَيَّامِ.

ممتلئاً سخطاً، وقد أصابه الذعر، على ما يبدو، نسي قيافا الناموس الذي كان يحظر على رئيس الكهنة أن يشق ثوبه، ومزّق رداءه وهو يعلن أنه ما من حاجة إلى مزيد من الشهود، لأن الجميع سمعوا التجديف الذي نطقته شفتا يسوع. فما الذي يستحقه مثل هكذا شخص؟ لقد حكموا عليه بالموت بالإجماع.

تلا ذلك مشهدٌ مخزٍ كان ليلحق العار بأي محكمة يكون فيها السجين مداناً للغاية. لقد بصق البعض على سيمائه المقدسة. وآخرون عصبوا عينيه، ثم، وهم يلطمونه بإهانة براحة يدهم، راحوا يصرخون به هازئين: "«تَنَبَّأْ»"، وهم يطلبون منه أن يحدد اسم أولئك الذين كانوا يسيئون معاملته. ولكن فمه المقدس لم ينبس ببنت شفة.

في هذه الأثناء، كان بطرس يواجه اختباره العظيم وفشل فيه، كما حذّره يسوع مسبقاً قبل ساعات فقط من ذلك.

"وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» وَخَرَجَ خَارِجاً إِلَى الدِّهْلِيزِ فَصَاحَ الدِّيكُ. فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضاً وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: «إِنَّ هَذَا مِنْهُمْ!» فَأَنْكَرَ أَيْضاً. وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: «حَقّاً أَنْتَ مِنْهُمْ لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ». فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى" (١٤: ٦٦- ٧٢).

 "كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ". مكانه الحق كان يجب أن يكون وسط الجماعة مع الرب، ولكن الخوف أبعده عن أن يطابق نفسه بالمخلص علانيةً في ساعة الامتحان تلك.

"أَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ". كانت هذه إحدى الجواري أو الخادمات التي اتهمته على هذا النحو. من الواضح أنها رأته وسط جماعة الرب يسوع في مناسبة ما سابقة.

"فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!»". لقد كان هذا إنكاراً كاملاً لأي معرفة له بالرب يسوع المسيح، وخرج هذا النكران من شفاه ذاك الذي أبدى إعلانات تأكيدية عظيمة بالإخلاص والولاء.

"فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضاً وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: «إِنَّ هَذَا مِنْهُمْ!»". إذ عرفته جارية أخرى، دلت الآخرين عليه في الحال على أنه أحد أتباع يسوع.

"فَأَنْكَرَ أَيْضاً". وها هي المرة الثانية التي ينكر فيها التلميذ الخائف كل معرفة له بالمسيح. ثم اتهمه الآخرون، وقد قادهم أحد أقارب مالكوس، الذي قطع بطرس أذنه وهو يشرط بالسيف (يوحنا ١٨: ٢٦)، بأنه واحدٌ من الجماعة التي كانت تُعرف بأنها جماعة تلاميذ المسيح.

"فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!»". بدافع الخوف والذعر، ارتد بطرس إلى لغة أيامه قبل اهتدائه وحلف بأغلظ الأيمان بأنه لم يعرف الرب يسوع المسيح على الإطلاق. يا للدركات التي يمكن للمؤمن أن يسقط إليها إذا ما قطع الشركة مع الرب.

"فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ". صياح الديك (للمرة الثانية في ذلك الصباح الباكر) قد أعاد بطرس إلى رشده، وتذكر بحزنٍ كلمات الرب يسوع، الذي كان قد نبهه مسبقاً إلى هذا الإخفاق.

الفرق بين الارتداد وفتور الإيمان:

لاحظ أن الفرق قد أُظهر بشكل واضح في الروايات المتعلقة بيهوذا وسمعان بطرس. الارتداد هو رفض كامل للحق، وبالتالي لذاك الذي جاء ليعلنه والذي هو نفسه الطريق والحق والحياة. قد يقر المرء بالإيمان بالمسيح ويبدي التزاماً خارجياً ظاهرياً لتعليمه دون أن يولد من جديد. وفي ساعة التجربة المريرة، إذ قد يرتد المرء، فإنه يتبرأ كلياً من كل ما كان قد أقر بأنه يؤمن به سابقاً. هذا معنى أن يصبح المرء مرتداً، ولأجل هكذا شخص ليس من وعد بالتجديد أو الاستعادة. فتور الإيمان، من جهة أخرى، هو ضعف في خبرة المرء الروحية يودي به في ساعة التجربة والامتحان إلى أن يفقد القدرة على الصمود والثبات، وهكذا يأتي الإخفاق فيشوه شهادة المرء. إلا أن الرب يقول أنه مقترن بالعاصي، وسوف يسترجعه في نهاية الأمر (إرميا ٣: ١٤). كان بطرس فاتر الإيمان. ورغم أنه وقع في خطيئة فاحشة ثقيلة الوطأة، إلا أنه أدرك سريعاً حالته المأساوية البائسة وعاد إلى الرب الذي كان قد أنكره في توبة عميقة.

نأتي الآن إلى المحنة الكبيرة التي لم يتعرض فكر ربنا لمثلها منذ بداية إقامته المؤقتة هنا على الأرض، والتي نقلته في الواقع من المجد الذي كان له مع الآب قبل إنشاء العالم إلى هذه الدنيا حيث كانت الخطيئة قد شوهت الخليقة الجميلة قبل زمن طويل.

هناك تفاصيل واردة في الأناجيل الأخرى غفل عنها هذا الإنجيل. ونجد المشهد يتحرك سريعاً من مجلس رؤساء اليهود إلى قاعة محكمة بيلاطس ثم إلى الصليب. ليس من ذكر لبلاط هيرودس، ولا للأمور الأخرى التي قاد روح الله بقية الكُتَّاب إلى أن يتوسعوا فيها.

الأصحاح ١٥

"وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ: «أََنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَ وَقَاَلَ لَهُ: «أَنْتَ تَقُولُ». وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيراً. فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضاً قَائِلاً: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ انْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ!» فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضاً بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ. وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيراً وَاحِداً مَنْ طَلَبُوهُ" (١٥: ١- ٦).

في وقت باكر من الصباح دعا رئيسُ الكهنة السنهدريمَ إلى الاجتماع، وبموافقتهم أُوثِقَ يسوع واقتيد كمجرم خطير، وحالما صار بيلاطس مستعداً لعقد محكمة أسلموه له لكي يُحاكَم بحسب القانون الروماني ويُعدَم كزعيم عصيان مسلح، لأنهم عرفوا أن تهمة التجديف الملفقة لن يكون لها معنى أو أهمية بالنسبة للوالي الحاكم الذي يتصرف بالنيابة عن الحكومة الإمبراطورية.

ماكراً، أنانياً، قاسياً بوحشية عادمة الشفقة، كان بيلاطس سياسياً محنكاً لم يكن ليأخذ بالاعتبار حقوق أي إنسان إن كان ذلك سيشكل إحراجاً له. إذ كان مقتنعاً كلياً براءة يسوع والكراهية وراء الاتهام الذي وجهه له رؤساء إسرائيل، جبن بيلاطس أمام التهديد المتمثل في قولهم له: "إِنْ أَطْلَقْتَ هَذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرَ" (يوحنا ١٩: ١٢). وإذ خشي أن يقدّم أعداؤه السياسيون صورةً سيئة عنه أمام الإمبراطور، اختار أن يضحّي بالرب يسوع، الذي كان في نظره مجرد حِرَفيّ جليلي بسيط، قد صار معلّماً، وذلك لكي يُبقي على الحظوة التي له في روما. وبنتيجة ذلك، غرق اسمُه في وحل العار عبر القرون والأجيال، كما تمثل في كلمات دستور الإيمان: "تألم على عهد بيلاطس البنطي".

إذ أعلن الرؤساء أن يسوع قد قال أنه الملك الشرعي لليهود وأنه جمع حوله زمرة من الساخطين بهدفٍ معلنٍ صراحةً هو تحرير بني إسرائيل من نير الرومان، طرح بيلاطس السؤال مباشرة على السجين: "«أََنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟»" فأجاب يسوع: "«أَنْتَ تَقُولُ»"، أي كأنه يقول: "أنت قلت ما هو عين الصواب". فمن ناحية القول أنه ملك اليهود، فقد كان حقاً كذلك، رغم أن الوقت لم يكن قد أتى بعد ليعتلي عرش داود.

باتقاد وحماس أطلق رؤساء الكهنة الاتهام تلو الآخر ضد يسوع، وهو لم يَرُدّ على أي منها.

متعجباً من هدوء وسكون هذا الإنسان المتواضع الذي وقف بخنوع وصبر أمامه، سأله بيلاطس: "أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟" ثم أضاف قائلاً: "انْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ!". ولكن يسوع، وكما سبق أشعياء وتنبّأ، "لم يفتح فاه".

احتار بيلاطس في أمره. لقد أدرك القلق أو الاهتمام المزعوم المرائي عند الكهنة والكتبة على كرامة وشرف الإمبراطورية، وأدرك أنهم إنما كانت تحركهم روح الحسد من هذا الإنسان الذي أسر مخيلة كثيرين من عامة الشعب. في الواقع، ما من شك في أن بيلاطس كان قد سمع من الأقاويل والأخبار عن معجزات يسوع. فعملاؤه كانوا في كل مكان في كل أرجاء الأرض. وكان يعرف جيداً سبب كراهية رؤساء إسرائيل للناصري.

إذ بحث عن طريقة ليحرر يسوع دون إغضاب هؤلاء الكهنة المتعجرفين، تذكّر بيلاطس أنه منذ بعض الوقت، أعطتْه روما صلاحية إطلاق سراح أحد السجناء السياسيين في عيد الفصح، لكي يسترضي اليهود، تاركاً الخيار لهم. ففكر في متمرّد حقيقي كان يتبعُه البعضُ قبل فترة، ولكنه كان الآن ينتظر عقوبة الإعدام، فقرر بيلاطس أن يعرض على الشعب أن يختاروا بين هذا المجرم ويسوع.

"وَكَانَ الْمُسَمَّى بَارَابَاسَ مُوثَقاً مَعَ رُفَقَائِهِ فِي الْفِتْنَةِ الَّذِينَ فِي الْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً. فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِماً يَفْعَلُ لَهُمْ. فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ قَائِلاً: «أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟». لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً. فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ بِالْحَرِيِّ بَارَابَاسَ" (١٥: ٧- ١١).

الاسم "بَارَابَاسَ" يعني "ابن الآب". وبعض المخطوطات القديمة تسمّيه يسوع بَارَابَاسَ. ولقد أصبح رمزاً لضد المسيح. لقد كان معروفاً جيداً كقائد لثورة ضد الحكم الروماني على فلسطين وكان قد شارك في عصيان مسلح وفيه أُدين بالقتل. من الواضح أنه كان بطلاً في نظر عامة الناس، لأنهم بدأوا في الحال يصرخون راجين بيلاطس أن يتبع العادة المتبعة المشار إليها قبل قليل وأن يعطيهم حرية إعتاق من يشاؤون من السجناء أو الأسرى.

ووافق بيلاطس على ذلك، ولكن على أمل أن يجنّبه هذا أي مسؤولية تجاه يسوع. ولذلك سأل: "أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟" لقد استخدم هذا اللقب بتهكم ساخر، وكأنه يرى في يسوع متمرداً على روما، إذ كان يعرف في قلبه السبب الحقيقي وراء بغضهم ليسوع.

"فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْجَمْعَ" الذين كانوا سهلي الانقياد في مشهد من الاهتياج، وحرضوهم على المطالبة ببراباس، وهذا ما فعلوه.

"فَأَجَابَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً وَقَالَ لَهُمْ: «فَمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِالَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ الْيَهُودِ؟» فَصَرَخُوا أَيْضاً: «ﭐصْلِبْهُ!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟» فَازْدَادُوا جِدّاً صُرَاخاً: «ﭐصْلِبْهُ!» فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ وَأَسْلَمَ يَسُوعَ بَعْدَ مَا جَلَدَهُ لِيُصْلَبَ" (١٥: ١٢- ١٥).

"فَمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِالَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ الْيَهُودِ؟" كما أشرنا قبل قليل، كان بيلاطس مقتنعاً بأن الحسد وحسب عند رؤساء الكهنة هو الذي قادهم إلى اتهام الرب يسوع أمامه. وعبثاً حاول أن يتجنب أي مسؤولية في هذه المسألة، بل طرح السؤال عليهم بطريقة يجعلهم يشعرون بها أن القرار النهائي يعود إليهم.

"فَصَرَخُوا أَيْضاً: «ﭐصْلِبْهُ!»". بسبب كشفه لنفاقهم وريائهم، طالب رؤساء الدين الخسيسين بموتٍ قاسٍ لذاك الذي طالما كان يوبّخهم.

"«وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟»" لقد كان القاضي الروماني هذا يعرف أن يسوع لم يخالف أي قانون من قوانين الإمبراطورية ولذلك لم يكن ليستحق الموت، ولكن بيلاطس كان أيضاً خائفاً من اليهود خشية أن يأخذوا موقفاً سلبياً منه. طالب الغوغاءُ، بتحريض من الكهنة، بصلب ذاك الذي لم يستطيعوا أن يثبتوا أي شر عنده.

"أَطْلَقَ (بيلاطس) لَهُمْ بَارَابَاسَ وَأَسْلَمَ يَسُوعَ بَعْدَ مَا جَلَدَهُ لِيُصْلَبَ". ذاك الشخص الذي كان يفترض فيه حفظ حق البريء كان مهتماً أكثر باسترضاء اليهود أكثر من حماية المسيح. ولذلك، فبيلاطس الذي كان قبل هنيهة قد أعلن أن يسوع إنسان بار (متى ٢٧: ٢٤) أصدر الحكم عليه بأن يموت صلباً.

لو كان بيلاطس قاضياً ذا ضمير لكان رفض أن يقر بالتهم التي لا دليل عليها التي ادّعاها خصوم المسيح، وكان ليطلق سراحه، ولكن الله هو المتحكّم بالأمور وقد استخدمه أداة ليحقق بها كلمته بخصوص الطريقة التي سيموت بها المسيح.

"فَمَضَى بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ. وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُواناً وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ وَﭐبْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «ﭐلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. وَبَعْدَمَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ نَزَعُوا عَنْهُ الأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ. فَسَخَّرُوا رَجُلاً مُجْتَازاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ وَهُوَ سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ" (١٥: ١٦- ٢١).

          بعد سلوك بيلاطس الرعديد في إذعانه وخنوعه لرؤساء الكهنة وإدانة يسوع، اقتيد الرب من ساحة المحكمة إلى الفناء الخارجي الذي يُدعى دار الولاية، حيث أخضعوا المتألم الصابر إلى فصلٍ من السخرية الوقحة الفظة والتعذيب.

كانوا قد سمعوا التهمة الموجّهة إلى يسوع بأنه أعلن نفسه ملكاً؛ ولذلك، وبمرح رديء راحوا يتظاهرون بالاعتراف به هكذا، فألبسوه رداء أرجوانياً كعلامة على الاعتراف الظاهر به ملكاً. وجعلوا على جبينه المقدس إكليلاً صُنِع من الشوك البري الذي كان منتشراً جداً في البراري والريف. وكانوا يحيّونه، منحنين أمامه في إذلال ساخر هازئ، قائلين: "«ﭐلسَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!»". بالنسبة لهؤلاء الجنود، كان ذلك نوعاً من الدعابة أو المزاح المضحك. ورغم الأعمال الوحشية التي أغدقوها على يسوع، إلا أنهم لا يحملون ولو نصف وزر شعبه خاصته الذين طالبوا بصلبه.

إذ أرضوا رغبتهم السادية ابتغاء للمتعة في آلام الأسير (يسوع)، نزعوا عنه الرداء، ووضعوا ثوبه عليه، وراحوا يدفعونه خارجاً إلى مكان الصلب.

ووُضِعَ صليبٌ ثقيل على كتفه ليحمله إلى الجلجثة، أو الجمجمة. يقول التقليد أنه قد وقع تحت وطأة ثقل الصليب، ولكن لا يقول الكتاب المقدس شيئاً عن ذلك، نعلم فقط أن سمعان، الْقَيْرَوَانِيُّ، وهو فلاح عابر سبيل، تم التعريف به هنا على أنه أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، وفي موضع آخر يُدعى باسمه فقط، سمعان الْقَيْرَوَانِيُّ، قد أُجبرَ على أن يحمل الصليب ليريح المُدان المحكوم عليه. قال المسيحيون الأوائل أن هذا القيرواني وأبناءه قد صاروا من الأتباع المخلصين ليسوع فيما تلا من الأيام. والبعض يطابق بين أحد هؤلاء الأبناء مع روفس الوارد ذكره في (رومية ١٦: ١٣).

الجزء التالي من الأصحاح يأتي بنا إلى تل الجمجمة. الجمجمة، الجلجثة، أي موضع الجمجمة- يا للذكريات المقدسة التي تتحلق حول هذه الكلمات! لم تكن هذه الكلمات تعني شيئاً قبل صلب ربنا سوى إشارة إلى مكان خارج أسوار أورشليم يتم فيه إعدام المجرمين- الجناة الذين ينتهكون قوانين روما العظيمة. ولكن، ولأكثر من تسعة عشر قرناً من رفع ابن الإنسان (على الصليب)، صار الاسم "الجلجثة"، أو مترادفاته في اللغات الأخرى، يحرّك قلب الملايين لأنه رمز حب أقوى من الموت، لم تقوَ أنهار الدينونة الكثيرة أن تُطفئه.

من اللحظة التي انحدر فيها من لدن الآب إلى الزريبة في بيت لحم، كان الصليب نصب عيني ربنا المبارك. فلقد صار إنساناً لكي يغدو ذبيحة استرضائية عن خطايانا (١ يوحنا ٢: ٢). ولقد أحسن أحد كُتاب الترانيم حين قال:

"طريقُه، الذي كان خلواً من أية راحة في الدنيا،
قاده إلى الصليب وحسب".

فهناك تمت تسوية مسألة الخطيئة إلى الأبد، عندما جُعِلَ، ذاك لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خطيئةً (أي صار تقدمةً عن الخطيئة) وذلك "لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢ كورنثوس ٥: ٢١).

نلاحظ برهبة ومهابة أن ابن الله بقي معلقاً على صليب العار ذاك لست ساعات مريعة. هذه الساعات الست تُقسم إلى مرحلتين. أولاً من الساعة الثالثة إلى السادسة- أي كما نقول من الساعة التاسعة صباحاً إلى منتصف النهار، حيث كانت الشمس لا تزال مشرقة، وأمكن للجميع أن يروا ما كان يجري. خلال هذه الساعات الثلاث كان يسوع المسيح يتألم على أيدي الناس. ما أزال الخطيئة ليس ما أنزله الناس به من عقاب أو عذاب (عبرانيين ٩: ٢٦). سيُدان الناس على كل الحقد والبغضاء ما لم تدفعهم التوبة إلى التحول إلى الخلاص بذاك الذي صلبوه (أعمال ٢: ٢٣؛ المزمور ٦٩: ٢٠- ٢٨).

ومن الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة انتشرت العتمة في كل أرجاء الدنيا. وما أمكن لعين بشر أن ترى وسط ذلك الظلام. عندها جُعلت روح المسيا تقدمةً كفارية عن الخطية. ما أطلقت عليه إليزابيث باريت براونينغ تسمية "صرخة عمانوئيل اليتيمة"، أي تلك الصرخة: "«إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟» (اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟)"، عند ربطها بالمزمور ٢٢، الذي منه استُمدت،  تدل على التخلي في الروح الذي مرّ فيه الرب يسوع المسيح عندما صار حامل الخطية العظيم. فعندها تعامل معه الله، القاضي العادل البار، ككفيل يقف بديلاً عن الخاطئ. وبفضل ما احتمله هناك، جُعلت الكفارة للمعصية، والآن أمكن لله أن "يكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ" (رومية ٣: ٢٦). ألا فليجعل الله قلوبَنا حساسة رقيقة أبداً، وأرواحنا تتأثر بعمق ونحن نتأمل من جديد موت المخلص في الجلجثة.

"وَجَاءُوا بِهِ إِلَى مَوْضِعِ «جُلْجُثَةَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ مَوْضِعُ «جُمْجُمَةٍ». وَأَعْطَوْهُ خَمْراً مَمْزُوجَةً بِمُرٍّ لِيَشْرَبَ فَلَمْ يَقْبَلْ. وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟ وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ. وَكَانَ عُنْوَانُ عِلَّتِهِ مَكْتُوباً «مَلِكُ الْيَهُودِ». وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ». وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: «آهِ يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ! خَلِّصْ نَفْسَكَ وَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!» وَكَذَلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ الْكَتَبَةِ قَالُوا: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا. لِيَنْزِلِ الآنَ الْمَسِيحُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الصَّلِيبِ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ». وَاللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ. وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟» (اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا: «هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا». فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلأَ إِسْفِنْجَةً خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلاً: «ﭐتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!». فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَﭐنْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هَكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ قَالَ: «حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ!»" (١٥: ٢٢- ٣٩).

"مَوْضِعُ «جُمْجُمَةٍ»". يعتقد الكثيرون اليوم أن هذه تشير إلى تلة على هيئة جمجمة تقع خارج أورشليم، قرب بوابة دمشق، التي تُعرف الآن باسم "جلجلة غوردون". ويفهم آخرون من هذه الكلمات مجرد إشارة إلى مكان تنفيذ أحكام الإعدام.

"خَمْراً مَمْزُوجَةً بِمُرٍّ". كان هذا شراباً مخدِّراً، مُعَداً ليسكّن ألم أولئك الذين يموتون صلباً. لكن الرب يسوع أبى أن يشرب منها. إنه ما كان ليقبل أي شيء يمكن أن يمنع دخوله كليةً إلى كل ما كان يشتمل عليه الصليب.

"اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا". بهذا كانوا يحققون بدون معرفة منهم نبوءة داود، التي أُطلقت قبل أكثر من ألف سنة، والتي دونها المزمور ٢٢: ١٨. كانت ثياب المجرمين تُعتبر جزءاً من علاوة أو أجر إضافي يناله الجنود الذين يؤدون وظيفتهم عند الصلب.

"وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ". هذا يُحتسب بالنسبة إلى التوقيت الروماني، من شروق الشمس، أو ما نعتبره الساعة السادسة.

"كَانَ عُنْوَانُ عِلَّتِهِ مَكْتُوباً «مَلِكُ الْيَهُودِ»". لقد كان من المعتاد أن يُثَبّتَ إعلانٌ فوق رأس من سيُصلب يدل على نوع الجرم أو الذنب الذي ارتكبه. من سخرية القدر أن بيلاطس لقّب يسوع بلقب ملك اليهود، كونه إنساناً يموت تمرداً على سلطة الرومان.

"صَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ". كان هذان مدانين فعلياً بجرائم ضد شريعة الأرض. لا يخبرنا مرقس عن الحوار الذي يدور بينهما وعن ذاك الذي يعترف بإثمه ويستصرخ يسوع أن يخلصه. نجد تدويناً لهذا في (لوقا ٢٣: ٣٩- ٤٣).

"«أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ»". كان أشعياء قد كتب هذا عن (يسوع) قبل سبعة قرون. والآن تتحقق كلماتُه حرفياً (أشعياء ٥٣: ١٢).

"كَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ". بدون إشفاق على ألمه وحزنه وكربه، راح الغوغاء الساخرون يحرّفون كلماته ويرددونها في وجهه، موبّخين إياه ساخرين ومطالبين إياه بأن يُظهرَ قوتَه بأن ينزل من على الصليب إن كان فعلاً الممسوح من الله. لم يدركوا أن خطاياهم، وليست المسامير التي دُقّت في يديه وقدميه، هي التي علّقتْه على عود الصليب.

"خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا". عندما نطق رؤساء الكهنة بهذه الكلمات ساخرين كانوا يعلنون حقيقة عظيمة. إن كان سيخلّص الآخرين فلن يستطيع أن يخلّص نفسه.

"لِيَنْزِلِ الآنَ الْمَسِيحُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الصَّلِيبِ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ". في سخرية للقدر قاسية كانوا يخاطبونه بنفس الألقاب التي كانت فعلاً ألقابه الشرعية الحقة، ولكن لم يبدر منه أي تجاوب. أن ينزل عن الصليب كان يعني الهلاك الأبدي لكل جنسنا الساقط.

"لَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ". مع حلول تلك الظلمة الفائقة الطبيعة على كل الأرض، لا بد أن إحساساً رهيباً بالخوف قد أصاب نفوس ذلك الجمع السفيه. في تلك الساعات الثلاث قُرّبَ كأسُ الدينونة إلى شفتي المخلّص وأُفرغ حتى الثّفل، لكي نشرب نحن كأس الخلاص (المزمور ١١٦: ١٣).

"«إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟»" هذه الكلمات بالآرامية، ونجدها في الآية الأولى من المزمور ٢٢. إنها تدلنا، كما لا يمكن لغيرها أن تفعل، على معنى أن يأخذ يسوع المسيح مكان الخاطئ ويحتمل في نفسه الإحساس بالتخلي الإلهي، الذي سيختبره الخطأة غير التائبين.

"«هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا»"، أي النبي إيليا. كانت هذه كلمات شخص لم يفهم اللغة الآرامية وظن أن بقوله "إِلُوِي" إنما ينادي إيليا النبي.

"فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلأَ إِسْفِنْجَةً خَلاًّ". نعلم من (يوحنا ١٩: ٢٨، ٢٩)، أن ذلك كان رداً على قول يسوع "«أَنَا عَطْشَانُ»"، وذلك مع تلاشي الظلمة. لقد تداعت إلى فكره نبوءةٌ ما كانت قد تحققت بعد (مزمور ٦٩: ٢١)، وإزاء صراخه، مُلِئت إسفنجة بخلّ وقُرِّبَتْ إلى شفاهه الظمأى.

الكأسان:

لقد رفض الرب يسوع المسيح كأس الخمر الممزوج بالمرّ، ولكنه شرب من كأس الخلّ. لقد كانت الأولى بغاية إفقاده الحس. وما كان ليرضى بذلك. أما الأخرى فكانت ترمز إلى حموضة ومرارة موقف الإنسان نحوه. وهذه قبلها دون تذمر.

"صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ". لم يَمُتْ يسوع من الإنهاك. لقد فارق الروح عندما اكتمل كل شيء (متى ٢٧: ٥٠).

"ﭐنْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ". يد الله هي التي شقت ذلك الحجاب إلى شطرين، رمزاً إلى أن الطريق إلى الأقداس قد صار مفتوحاً الآن (عبرانيين ١٠: ١٩، ٢٠). ما عاد الله بحاجة بعد لأن يبقى محتجباً في الظلام الدامس (٢ كورنثوس ٦: ١). لقد أمكنه أن يخرج إلى النور، وصار بمقدور الإنسان أن يدخل إليه بكل ثمن دم المسيح الذي يطهّر ( ١ يوحنا ١: ٧).

"«حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ!»". مقتنعاً بما رأى وسمع، أعلن قائد المئة، المسؤول عن تنفيذ الصلب، إيمانه الشخصي بفوق طبيعية حامل الآلام القدوس الذي مات لتوه على ذلك الصليب.

إن صلب ربنا يسوع كان أكثر من مجرد استشهاد في سبيل الحق، مع أنه كان كذلك أيضاً. إن الشاهد شهيد. ولكن الصليب كان بغاية إظهار بغض الله للخطيئة ومحبته غير المحدودة للجنس البشري الضال. علينا ألا نفكر بالجلجثة وكأنها مجرد موضع موت إنسان بريء عن أناس آثمين. لقد كانت تشير إلى الله وقد قدّم نفسه في شخص ابنه ليتحمل الدينونة التي كان الناموس يعتبرها شرعاً قصاصاً للخطية. فهناك "المُساءُ إليه حرّرَ المسيء أو المذنب".

"وَكَانَتْ أَيْضاً نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ الصَّغِيرِ وَيُوسِي وَسَالُومَةُ ﭐللَّوَاتِي أَيْضاً تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ إِذْ كَانَ الاِسْتِعْدَادُ - أَيْ مَا قَبْلَ السَّبْتِ - جَاءَ يُوسُفُ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ مُشِيرٌ شَرِيفٌ وَكَانَ هُوَ أَيْضاً مُنْتَظِراً مَلَكُوتَ اللَّهِ فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: «هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟» وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ. فَاشْتَرَى كَتَّاناً فَأَنْزَلَهُ وَكَفَّنَهُ بِالْكَتَّانِ وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتاً فِي صَخْرَةٍ وَدَحْرَجَ حَجَراً عَلَى بَابِ الْقَبْرِ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يُوسِي تَنْظُرَانِ أَيْنَ وُضِعَ" (١٥: ٤٠- ٤٧).

هناك أمرٌ يثير الشفقة على نحو محزن في هذه الجماعة الصغيرة من النسوة المؤمنات اللواتي كن يحببن الرب يسوع المسيح، واللواتي رحن ينظرن إلى ما يجري مذهولات ومتحيرات، بلا شك، ولو على مبعدة، وهم يرون ذاك الذي آمنوا أنه المسيا الذي ينتظره إسرائيل، الملك الممسوح من الله، يموت على صليب الخزي.

يذكر مرقس امرأتين تحملان الاسم مريم: مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي- أي يعقوب ويهوذا، وهما اثنان من الرسل. إنه لا يذكر مريم أم ربنا. ولكننا نعلم، من إنجيل يوحنا، أنها كانت واقفة عند الصليب إلى أن أوكل ابنُها المحتضر إلى الرسول يوحنا الحبيب أمرَ العناية بها.

وكانت سالومة وبقية النسوة ضمن تلك الجماعة التي كانت قد جاءت من الجليل لكي يكونوا قربه ويسمعوا العظات والرسائل الثمينة التي كان يقولها. ما الأفكار التي كانت تراود خاطرهن وهن يرونه في الظاهر عاجزاً لا حول له ولا قوة في قبضة أعدائه؟ هل تذكّرن ما كان تلاميذه قد نسوه: بأنه كان قد وعد بأنه سيقوم من الموت في اليوم الثالث؟ يبدو أنهن لم يتذكرن ذلك، إذ نجد فيما بعد أن قيامته كانت بالنسبة لهن كما بالنسبة لكل أصدقائه أمراً عجيباً مذهلاً.

لقد كتب أشعياء قبل سبعمئة سنة أنه سيُوضع مع الأغنياء عند موته. ولذلك فعندما أسلم حياته فعلياً، يُوسُفُ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ، وهو عضو في مجلس إسرائيل الأعلى، وأحد التلاميذ سراً، والذي كان ينتظر ملكوت الله، خرج الآن إلى العَلَن، مُبدياً انتماءه إلى المسيح المنبوذ بذهابه بجرأة إلى بيلاطس وطلبه جسد المخلّص المصلوب.

كان أولئك الذين يُحكم عليهم بالموت على ذلك النحو يبقون مطولاً معلقين على الصليب، ليس فقط لساعات بل حتى لأيام، إلى أن يريحهم الموت من آلامهم. ولذلك بالكاد أمكن لبيلاطس أن يصدّق أن يسوع كان قد مات. فاستدعى (بيلاطس) قائد المئة الذي كان مسؤولاً عن تنفيذ الإعدام وسأله إذا ما كان يسوع قد مات. عندما أكدوا له صحة ما سمعه أمر بإعطاء جسده إلى يوسف، الذي اشترى كتاناً وأنزل الجسد عن الصليب بوقار وإجلال، وبحسب عادات اليهود في الدفن، لفّه بالكتان ووضع الجسد الكريم في قبر جديد، وهو ضريح كان منحوتاً في صخرة قرب مكان الصلب. وبعد أن دحرج حجراً ضخماً على مدخل الضريح مضى في حال سبيله.

وقفت مريم المجدلية ومريم الأخرى على مبعدة ترقبان ما يجري، وتنظران أين وُضِعَ. لقد كانتا تفكران، كما نعلم، أن تعودا إلى القبر حالما ينقضي يوم السبت، وأن تضمخا، كما يليق، الجسد الذي كان قد وُضِعَ على عجل في القبر، ولكن ما كان لهذا أن يحدث؛ فالله كان على وشك أن يُظهر قوته ويعبّر عن تأييده للعمل الذي قام به ابنه الحبيب بإقامته له من القبر في انتصار.

القسم (٣)

الأصحاح ١٦

القيامة: المسيح لا يزال يخدم

لم تكن ليلة الموت المظلمة نهاية خدمة ربنا المبارك. فبالنسبة له، قاد "طريقُ الحياة" من القبر صعوداً إلى المجد، إلى يمين الآب، حيث المسرات إلى الأبد. روحه لم تبقَ في الجحيم- العالم غير المنظور، ولا رأى جسدُه الكريم فساداً في القبر (مز ١٦). كان أشعياء قد أعلن بروح النبوءة قائلاً: "إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ" (أشعياء ٥٣: ١٠). ولذلك فإن من سُلِّمَ إلى الموت باختياره لأجل آثامنا أقيمَ بفضل تبريرنا (رومية ٤: ٢٥). هذه هي الترجمة الأصح، وليس كما قيل أحياناً أنه أُقيم لأجل تبريرنا، بل بالحري لأن موته قد لبى كل استحقاقات عدالة الله ضدنا؛ ولذلك فقد كانت قيامته هي الإعلان الإلهي عن تبريرنا من كل شيء.

كما رأينا حتى الآن، كان يسوع قد أخبر مسبقاً مراراً وتكراراً عن قيامته التي كانت ستحدث بعد ثلاثة أيام؛ ولكن تلاميذه كانوا بطيئين عن السمع وأخفقوا في فهم معنى وفحوى كلماته. لذلك فقد كانت القيامة غير متوقعة، وأخذ الأمر وقتاً لتصديق هكذا حقيقة مدهشة رائعة. ظهور ذاك الذي مات حياً من جديد، بأوضح ما يكون، وحده أقنعهم بالحقيقة. وظل البعض يشك في المسألة حتى النهاية، كما سيُظهر هذا الأصحاح.

عدة نساء أتقياء كن آخراً عند الصليب وأولاً عند القبر في صباح الفصح العجيب ذاك.

"وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: «مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟» فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً. وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابّاً جَالِساً عَنِ الْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ فَانْدَهَشْنَ. فَقَالَ لَهُنَّ: «لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. لَكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ». فَخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ" (١٦: ١- ٨).

السبت الأخير للناموس الذي ما عاد الله يعرفه أبداً قد شارف على الانقضاء. خلال يوم الراحة ذاك من العهد القديم، لم يعرف أحد على وجه الأرض إن كان الفداء قد أُنجز أم لا. لقد لاحظه اليهود، رغم أن أيديهم كانت ملطخة بدم عبد يهوه، الذي أصروا على موته، وبذلك حققوا، بدون معرفة منهم، ما ورد في نصوصهم الكتابية أنفسهم. والآن طلع فجر اليوم الأول من أسبوع جديد في زمن جديد. ومع شروق أول أشعة النور عبر السماء، تركت ثلاث نساء بقلوب محطمة منكسرة- مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصَّغِيرِ، وَسَالُومَةُ- منازلهن واتخذن سبيلهن نحو البستان حيث كان القبر الجديد الذي أعدّه يوسف والذي وُضِع فيه جسد يسوع، ولُفَّ بكتان، والذي كُنَّ قد اعتزمْنَ أن يضمّخْنه ويدْهنّه بالحنوط على عادة اليهود.

إذ ارتفعت الشمس في صفحة السماء أكثر، أمكنهن رؤية القبر، وهنا فكرن في الحجر الضخم الذي كان قد دُحرج لإغلاق مدخل القبر. لقد كان هذه الحجر يشبه إلى حد بعيد حجر رحى نُحت من شق صغير في حجر الجير على منحدر بحيث يمكن أن يُدحرج إلى الثلم ليسد مكان الباب في الضريح، ولكن إبعاده أو دحرجته ارتجاعياً وإلى الأعلى من جديد كان سيأخذ جهداً ويتطلب قوة كبيرة جداً.

وبينما كانت النسوة تسرن في الطريق رحن يتساءلن فيما بينهن كيف سيستطعن الدخول إلى التجويف الصخري للقبر حيث كان الجسد موضوعاً. فسألن: "«مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟»". لم يكن هناك أحد من التلاميذ ليقوم بهذه الخدمة لهن. لقد كانوا (التلاميذ) ينوحون على موت يسوع ومن الواضح أنهم كانوا يفكّرون أنه ما من شيء الآن ليغير مجرى الأحداث نحو الأفضل.

ولكن مع اقتراب النسوة أكثر اندهشن لرؤية الحجر وقد دُحرج وأن المدخل مكشوف تماماً. ونعلم من أناجيل أخرى أن أول ما خطر في ذهنهن هو أن القبر قد نهبه أعداء يسوع وأنهم سرقوا جسده وحملوه بعيداً.

ولكن ما إن دخلن القبر حتى رَأَيْنَ "شَابّاً جَالِساً عَنِ الْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ". لقد ملأ حضورُه النساءَ بخوف غريب. ولم يفهمن لأول وهلة أن هذه الشاب كان حاضراً عند خلق الكون، "عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعاً وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ" (أيوب ٣٨: ٧). لقد كان شاباً سرمدياً لأنه لم يكن ينتمي إلى الأرض بل من الخلائق السماوية.

وطمأنهن في الحال، طالباً منهن ألا يخفن. وأضاف قائلاً: "أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ".

بعيون منذهلة مندهشة نظرت النسوة إلى القبر الفارغ حيث لم يبقى سوى الكفن. وأوصاهن الملاك أن يمضين في طريقهن وأن يخبرن تلاميذه، وبطرس، أن يسوع كان يسبقهم إلى الجليل إلى مكان اللقاء ذاك الذي كان قد أخبرهم عنه قبل صلبه. وهناك سيُظهر ذاته لهم.

هناك شيء مؤثر على نحو غريب مميز في هاتين الكلمتين "وبطرس". لا بد أن (بطرس) كان قد قضى فترة دفن الرب في حزن وكرب في الروح إذ كان يفكر ملياً في نكرانه له. ما كان ليشعر أنه يستحق بعد أن يُدعى تلميذاً له. ولكن الرسالة الخاصة أن "وبطرس"، كانت التوكيد من يسوع على أنه كان يحبه وأنه كان لا يزال يعتبره واحداً من خاصته.

سرعان ما غادرت النسوة المكان وهرعن إلى المدينة، وهن خائفات أن يخبرن أحداً عما رأينه أو سمعنه. من الواضح أن إحداهن قد التفتت إلى الوراء، وإذ تخلّفت عنهن في البستان، فإن يسوع نفسه ظهر لها. كانت هذه إحدى النساء الثلاث اللواتي أحببن أكثر لأن خلاصها كان عظيماً.

"وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِراً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. فَذَهَبَتْ هَذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ وَقَدْ نَظَرَتْهُ لَمْ يُصَدِّقُوا" (١٦: ٩- ١١).

"ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ". يبدو أنه ما من دليل كتابي على أن مريم هذه كانت امرأة خليعة أو غير أخلاقية، كما افترض كثيرون. لقد كان يُنظر إلى اسم مريم المجدلية عبر العصور وكأنه مرادف للمومس. ذلك أن كثيرين حاولوا أن يطابقوا بين مريم المجدلية وتلك المرأة في المدينة، التي جاءت إلى بيت الفريسي، كما ورد في رواية لوقا ٧، وغسلت قدمي يسوع بدموع توبتها. ولكن لا يبدو هناك أي إثبات على أن المرأتين هما نفس الشخص. ما يخبرنا النص هنا (في إنجيل مرقس) هو أن يسوع كان قد أَخْرَجَ مِنْ مريم سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. ولكن ليس من الضرورة أن تكون المرأة التي فيها شياطين امرأة غير محترمة. وليس من الضروري أن نفترض أن تملك الشيطان لنفسٍ يعني عدم العفة.

لقد أظهر يسوع ذاته لمريم بطريقة أزالت كل شكوكها؛ وهرعت لتخبر تلاميذه، الذين كانوا ينوحون ويبكون على موت ربهم، فقالت لهم أنه قام حقاً من بين الأموات.

ولكن بما أنهم ما كانوا بعد قادرين على تصديق القصة، ورغم أنها أكدت لهم بثقة أنها رأته وتحدثت إليه، فإنهم لم يصدقوا أن ذاك الذي مات هو حي من جديد. لا يذكر مرقس زيارة يوحنا وبطرس إلى القبر، وتأييدهم وتعزيزهم لصدق رواية مريم. إلا أنه يخبرنا بكلمات قليلة عن الحادثة التي يسهب لوقا في وصفها- ألا وهي لقاء يسوع مع تلميذي عمواس.

"وَبَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لاِثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَهُمَا يَمْشِيَانِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. َذَهَبَ هَذَانِ وَأَخْبَرَا الْبَاقِينَ فَلَمْ يُصَدِّقُوا وَلاَ هَذَيْنِ" (١٦: ١٢- ١٣).

استناداً إلى الكلمات "ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى"، توصّل البعض إلى استنتاج خاطئ بأن يسوع، بعد القيامة، ما عاد يمتلك الجسد ذاته الذي صُلبَ فيه. إلا أن نصوصاً كتابية أخرى تخالف هذه الفكرة تماماً. فأعينهما هي التي كانت متعبة، كما يقول لوقا، وليس الأمر أنه اتخذ جسداً مختلفاً آخر.

بعد ظهوره لهما وهما جالسين معه إلى وليمة الطعام، عادا إلى أورشليم وأخبرا الأحد عشر أنهما رأياه. ومن جديد نعلم أن الآخرين "لَمْ يُصَدِّقُوا وَلاَ هَذَيْنِ". لقد كان يصعب إقناعهم بأن يسوع قد غلب الموت.

آخر ظهور يذكره مرقس جرى في تلك الغرفة نفسها التي كانوا يتناولون فيها طعام العشاء.

"أَخِيراً ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ. وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ. وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ». ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَ مَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ. وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَةِ. آمِينَ" (١٦: ١٤- ٢٠).

"ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ" ١. لا نستطيع أن نجزم فيما إذا كانت هذه نفس المناسبة التي ذكرها لوقا (٢٤: ٣٦- ٤٣) ويوحنا (٢٠: ١٩). وعلى الأرجح جداً أن الحادثة كانت إما في أول مساء، عندما كان توما غائباً، أو في المساء الثاني، عندما كان (توما) هناك. وبما أن البعض كان لا يزال غير مؤمن، فإن الرب "وَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ" في أنهم لم يقبلوا شهادة النساء، وكلوبا ورفيقه، الذين أكدوا ما كان يسوع نفسه قد قال لهم بأنه سيحدث. من المهم أن نضع عدم إيمانهم نصب أعيننا عندما نأتي إلى التمعن فيما قاله لهم فيما بعد. من الملائم أكثر أن تكون هذه الواقعة قد حدثت في المناسبة الأبكر أكثر من التالية، إذ في الوقت الذي اقتنع فيه توما كان لا بد أن تكون جميع الشكوك قد ذهبت من الجميع.

إن التفويض العظيم لم يُعْطَ مرةً واحدة، بل في عدة مناسبات، وفي كل مرة كانت هناك فروقات ذات أهمية بالغة. هنا يحدد برنامجه للكرازة بالإنجيل للعالم بأسره بتعابير واضحة لا لبس فيها. "اكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا". توجب عليهم أن ينقلوا البشرى السارة عن الفداء الذي أُكمل، ليس فقط إلى إسرائيل الذين كانت رسالة الملكوت مقتصرة عليهم بشكل كبير خلال خدمة الرب على الأرض (متى ١٠: ٦)، بل "إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ". وكان يجب إزالة كل عائق لكي يتدفق نهر النعمة إلى الجميع.

"مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ". إن من استقبل الرسالة بإيمان كان عليه أن يشهد على ذلك بأن يعتمد، وبذا يعلن نفسه تلميذاً له علانية. لم يكن هناك ثمة قيمة خلاصية في الطقس بحد ذاته، بل كان مجرد تعبير عن الخضوع للمسيح. وأولئك الذين رفضوا الإيمان سوف يُدانون. لاحظوا أنه لم يقل أن من لا يعتمد سوف يُدان.

 "هَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ". هذه الآيات هي ما يسميه بولس "عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ" (٢ كورنثوس ١٢: ١٢). هذه القدرات على اجتراح المعجزات أُعطِيَتْ للرسل المعتمَدين للتصديق على أنهم ممثلون عن المسيح (أعمال ٤: ٣٠- ٣٣؛ ٥: ١٢). ولكن لم يُظهرها أحدٌ ممن لم يؤمنوا، وقد رأينا أن "البعض قد شكّوا" حتى بين الاثني عشر. من الخطأ أن نعتقد أن العلامات تتبع أولئك الذين آمنوا بالرسل أو المرسلين. ليس الحال هكذا. بالنسبة للبعض، أولئك الذين أصبحوا بأنفسهم شهوداً علانية، كانت هكذا علامات تُمنح لهم فعلاً (١ كور ١٢: ٧- ١١)، ولكن كان هذا بحسب مشيئة الله المطلقة.

"ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ". لا يخبرنا مرقس كم من الوقت قد انقضى بين إعطاء هذا التفويض والصعود، ولكن الروايات الأخرى (في الأناجيل) تشير إلى أن هذه الفترة كانت حوالي أربعين يوماً. وفي الوقت المحدد استُقبلَ الإنسانُ المسيح يسوع فوق في السماء بمجد (١ تيموثاوس ٣: ١٦)، حيث يشارك عرش الآب الآن (عبرانيين ١: ٣).

"فَخَرَجُوا .... وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ". في الواقع إن كل ما عمله خدامه لأجله كان قد تم بواسطته لأنه يعمل فيهم ومن خلالهم بقوة روح قدسه. ونعلم من الإنجيل أنهم "خَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ". نعرف من سفر أعمال الرسل أنهم كانوا بطيئين في القيام بذلك. لقد مضى بعض الوقت إلى أن استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من الميول اليهودية والتحيّز لليهود لكي يتجهوا إلى كل العالم ويعرّفوا الأمميين ببشرى الإنجيل السارة. ولكن مع مرور الوقت دخلوا أكثر وبشكل أكمل إلى فكر الرب وهكذا حملوا البشارة إلى كل مكان كما أمرهم.

هذا العمل في تبشير العالم لا يزال مستمراً، ولن يكتمل إلى يسمع كل الناس في كل مكان رسالة نعمة الله وقد خرجت إلى العالم الضال. إن الاهتمام بالإرساليات التبشيرية ليس مادة اختيارية في جامعة كلية الله للنعمة. إنها مادة يجب على كل تلميذ فيها أن يدرسها كمادة أساسية اختصاصية. نحن الذين خلصنا مؤتمنون من قِبَلِ ربنا القائم على الامتياز المجيد بأن ننقل الإنجيل إلى العالم بأسره. ولهذا السبب بالذات قد أُبقينا في هذا العالم. وبالنسبة لخلاصنا، فإنه أكيد ومضمون لنا من الله كما في اللحظة الأولى التي آمنا فيها بالمسيح. لعله كان يمكن أن نؤخذ إلى موطننا السماوي فوراً. ولكن الله بحكمته اللا متناهية أبقانا هنا على الأرض لكي نكون شهوداً على نعمته المخلِّّصة ولكي يأتي آخرون كثيرون بواسطتنا إلى مشاركتنا النعمة التي لنا في المسيح. لو كانت الكنيسة مخلصة للتفويض الموكل إليها، لكان جسد المسيح قد أُكمل منذ زمن  بعيد ولكانت عودة الرب قد تحققت، إلا أنه كان يؤجل، على ما يبدو، وذلك لاهتمامه بخلاص الناس (٢ بطرس ٣: ٩).

لم أسهب في المسألة الحاسمة المتعلقة بموثوقية وصحة نسبة الجزء الأخير من هذا الأصحاح، الآيات ٩ إلى ٢٠. فهذه لا ترد في مخطوطتين أقدم ما تكونان، ولكنها تحمل توقيع الوحي، ويشهد سفر أعمال الرسل وتاريخ الإرساليات على موثوقيتها، ولذلك لا أرى سبباً للافتراض أنها ليست جزءاً من الكتاب المقدس الموحى به من الله الذي لتعليمنا وبركتنا.

لا يتابع مرقس الحديث ليصف الصعود، بل ينهي إنجيله بالرب القائم كخادم لا يزال يعمل مع أتباعه وهم يسيرون في إطاعة كلمته.


١. - في ترجمة أدق، نقلاً عن اليونانية: "وهم متكئون إلى المائدة": (ἀνακεῖμαι). [فريق الترجمة].

القسم (٣) - ٨:‏١٠ - ٩:‏٨

أصحاح ٨:‏١٠-‏٣٨

الإعلان عن المجد الآتي

"وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ. فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ. فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ: «لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هَذَا الْجِيلُ آيَةً!» ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَدَخَلَ أَيْضاً السَّفِينَةَ وَمَضَى إِلَى الْعَبْرِ" (٨: ١٠- ١٣).

إذ عاد إلى الشاطئ الغربي من البحيرة، في نواحي دَلْمَانُوثَةَ، أو ماجدان، التقى يسوع ببعض الفريسيين الذين لديهم اعتراضات تافهة على ما يقوم به، الذين كانوا يتجاهلون كل الأعمال العجيبة المدهشة التي قام بها، والذين جاؤوا الآن يطلبون آيةً من السماء تصادق على مسيانيته.

نعلم من الإنجيل أنه تنهّد في روحه، وقد حزن في أعمق أعماقه إذ وجد هذا الجحود والمقاومة المتعمدة الموطّدة من جهة أولئك الذين كان يجب أن يقودوا عامة الشعب في طريق الإذعان لله وإطاعة كلمته. لماذا يطلبون آيةً؟ لقد كان هذا إنما دليل على حالة قلوبهم. لقد أعلن أنه لن تُعطَ أية علامة إلى ذلك الجيل الفاسد. لقد كانوا متمسكين بموقف العدائية نحوه وهو الذي أرسله الله ليفتدي إسرائيل.

تاركاً إياهم لجحودهم وقسوة قلوبهم غادر الرب من جديد إلى الجانب الآخر من البحيرة، أي إلى منطقة بيت صيدا جوليا. إذ كانت هناك مدينتان لهما نفس الاسم "بيت صيدا"، الأولى على الشاطئ الغربي من بحر الجليل والأخرى على الجانب الشمالي.

"وَنَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ إلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ. وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «ﭐنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ. فَفَكَّرُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لَيْسَ عِنْدَنَا خُبْزٌ». فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ أَنْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ خُبْزٌ؟ أَلاَ تَشْعُرُونَ بَعْدُ وَلاَ تَفْهَمُونَ؟ أَحَتَّى الآنَ قُلُوبُكُمْ غَلِيظَةٌ؟ أَلَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَذْكُرُونَ؟ حِينَ كَسَّرْتُ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ لِلْخَمْسَةِ الآلاَفِ كَمْ قُفَّةً مَمْلُوَّةً كِسَراً رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا لَهُ: «ﭐثْنَتَيْ عَشْرَةَ». «وَحِينَ السَّبْعَةِ لِلأَرْبَعَةِ الآلاَفِ كَمْ سَلَّ كِسَرٍ مَمْلُوّاً رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا: «سَبْعَةً». فَقَالَ لَهُمْ: «كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟»" (٨: ١٤- ٢١).

من الواضح أن التلاميذ وفي عجلتهم لمغادرة دَلْمَانُوثَةَ لم ينتبهوا إلى التزود من جديد بالخبز- تلك الأرغفة المنبسطة المميزة لتلك الديار، والتي كان حملها أمراً في غاية السهولة خلال الترحال. كان واضحاً وجود بعض الفهم بأنه يمكنهم الحصول على كل ما يمكن أن يحتاجونه عندما ينزلون من السفينة. واستغل الرب الفرصة لينبههم، عندما أدرك ارتباكهم وحيرتهم، ويحذّرهم من خمير الفريسيين ومن خمير هيرودس. أما وقد وبّخهم ضميرهم بسبب إهمالهم وعدم انتباههم لإعداد المؤونة المناسبة لحاجات الجماعة، قفز التلاميذ إلى الاستنتاج بأن هذا تحذير لئلا يشتروا الخبز من الطرفين اللذان يذكرهما الرب. ولكن الرب أوضح لهم أنه باستخدامه لكلمة "خمير" إنما كان يشير إلى العقائد أو المبادئ في هذين النظامين الدينيين والسياسيين، لكونهما فاسدين، ويعملان فساداً في كل من يتشرب هذه العقائد. خمير الفريسيين كان المراءاة والبر الذاتي. وخمير هيرودس كان الاحتيال السياسي والانهماك في شؤون الدنيا.

ليريح فكر التلاميذ من جهة الطعام المناسب لأجسادهم ذكّرهم يسوع بإطعامه العجائبي للخمسة آلاف في إحدى المناسبات والآلاف الأربعة في المناسبة الأخرى. ففي كل حالة لم يكن هناك فقط وفرة للجميع بل إن سلالاً كثيرة من الكِسر حُفِظتْ لتستخدم في المستقبل. فلماذا يهتم المرء إذاً أو يقلق بخصوص ما يأكل في الغد طالما أن خالق كل شيء كان معهم؟ كم كان التلاميذ الاثني عشر يشعرون بالخجل من شكوكهم ومخاوفهم، عندما سألهم يسوع: "«كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟»".

عندما وصلوا بيت صيدا جوليا شهدوا دليلاً آخر على قدرة معلّمهم.

"وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَعْمَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ فَأَخَذَ بِيَدِ الأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ الْقَرْيَةِ وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ هَلْ أَبْصَرَ شَيْئاً؟ َتَطَلَّعَ وَقَالَ: «أُبْصِرُ النَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ». ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضاً عَلَى عَيْنَيْهِ وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحاً وَأَبْصَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيّاً. فَأَرْسَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ قَائِلاً: «لاَ تَدْخُلِ الْقَرْيَةَ وَلاَ تَقُلْ لأَحَدٍ فِي الْقَرْيَةِ»" (٨: ٢٢- ٢٦).

هذه الأعجوبة كانت ذات طابع استثنائي. حتى الآن، وكما نرى في رواية الإنجيل، هذه هي الحادثة الوحيدة التي كان الشفاء فيها جزئياً في البداية وليس فورياً.

جاء رجل أعمى إلى يسوع، كان أصدقاءه قد أحضروه، وطلبوا إليه أن يلمس العينين المغلقتين ليمنح البصر لهذا البائس المبتلي. وبدلاً من أن يفعل ذلك في حضور كل الناس أخذ يسوع الأعمى بيده وأخرجه إلى خارج المدينة. وكأنه بذلك قد شعر أن الكثيرين في الحشد كانوا مجرد فضوليين، فأراد أن يأخذ الرجل على حدى وأن يقدم خدمة له وحده. ثم وضع يديه عليه وسأله إن كان يستطيع أن يرى. فقال الرجل: "«أُبْصِرُ النَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ»". لقد استعاد البصر جزئياً. أمكنه أن يرى أشياء مختلفة ولكن ما كان يستطيع تمييز الناس عن الأشجار إلا من كونهم يسيرون. من جديد وضع الرب يديه على عيني الرجل وطلب منه أن يتطلع. والآن تم شفاؤه بشكل كامل، ورأى جميع الناس بوضوح.

لا نعلم لمَ لم يكن الشفاء فورياً، ربما بسبب انعدام الإيمان الكامل عند الرجل الأعمى أو أصدقائه. أما وقد أنجز يسوعُ العملَ، فإنه صرف الرجل الذي صار سعيداً الآن، طالباً منه ألا يعود إلى القرية وألا يخبر أحداً بشفائه.

ويتحول انتباهنا بعد ذلك إلى اعتراف بطرس الهام وإخفاقه لاحقاً.

"ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قَائِلاً لَهُمْ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابُوا: «يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ وَآخَرُونَ إِيلِيَّا وَآخَرُونَ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». فَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ الْمَسِيحُ!» فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ. وَﭐبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. وَقَالَ الْقَوْلَ عَلاَنِيَةً فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلاَمِيذَهُ فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: «ﭐذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ». وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هَذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ»" (٨: ٢٧- ٣٨).

"«مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟»" لقد طرح هذا السؤال على التلاميذ لكي يتوصلوا إلى اعتراف محدد من جهتهم بمسيانيته وبنوته لله. وإذ كانوا يتجولون من مكان لآخر، سمعوا أناساً كثيرين يجادلون يسوع،  ولا شك أنهم تفكروا في قلوبهم في الأشياء التي قيلت.

"فَأَجَابُوا: «يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ وَآخَرُونَ إِيلِيَّا وَآخَرُونَ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ»". نعلم أن هيرودس، الذي نخسه ضميره الشاعر بالإثم، كان يشعر بالتأكيد أن يسوع هو يوحنا وقد قام من بين الأموات. آخرون كانوا يشاطرونه نفس الرأي. وكان البعض يظن، وقد تذكروا الإعلان النبوي المدون في ملاخي ٤: ٥، أنه لا بد أن يكون إيليا الموعود؛ في حين أن فئة أخرى رأوا فيه ببساطة نبياً جديداً ظهر فجأة في إسرائيل.

"«وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟»". لا يكفي أن نعرف آراء الآخرين في يسوع، سواء كانت خطأ أم صواب. سؤال ربنا كان يقصد به التأكيد على مسؤولية الأفراد في أن يعرفوه بأنفسهم. كان جواب بطرس بنتيجة اقتناع عميق يستند على إعلان إلهي بقوله: "«أَنْتَ الْمَسِيحُ!»". الاعتراف الذي هو أكمل ما يكون والموجود في متى ١٦: ١٦ هو إعلان هذا التلميذ إيمانه بيسوع على أنه مسيا إسرائيل وابن الله. إنه كلاهما. وفي الواقع، ما كان ليمكن أن يكون المسيا (المسيح) لو لم يكن ابن الله، لأن المسيح كان الابن المعطى والطفل المولود، كما تنبأ أشعياء ٩: ٦. له يقول الآب: "أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" (مز ٢: ٧).

"فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ". لا يذكر مرقس إطراء الرب لبطرس، أو كلماته النبوئية عن بناء كنيسته على صخرة ألوهيته، ولا عن إعطائه مفاتيح السماء، هذه التي استخدمها بطرس في يوم الخمسين وفي منزل كورنيليوس للسماح لليهود والأمميين بالدخول إلى الملكوت في مظهره الحالي.كل ما نعلم به هنا هو أنه في الوقت الحاضر ذاك ما كان لهم أن يبدأوا العمل على تعريف العالم به في شخصيته الحقيقية. هذا كان يجب إرجاؤه إلى ما بعد موته وقيامته وصعوده إلى يمين الله في السماء.

"ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً ..... وَيُقْتَلَ وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ". لقد كان ربنا يعرف تماماً ما ينتظره، وأخبر تلاميذه بأوضح تعابير بترتيب الأحداث التي ستصير. لقد جاء إلى العالم كي يموت. وبينما سيُظهر موتُه بغض الإنسان الشديد لله، إلا أنه أيضاً سيكون أسمى تعبير عن محبة الله للإنسان. هذا كان سيليه قيامة يسوع بالجسد المادي نفسه، وفي هذا دليل على أن الفداء قد أُكمل، وهكذا يتبرر المؤمن من كل الأشياء. يجب أن تُؤخذ المعرفة السابقة التي عند يسوع بالاعتبار من ثلاث نواحٍ، جميعها متناغمة مع بعضها البعض. فبالدرجة الأولى، رغم أنه صار إنساناً، فهو لم ينقطع عن أن يبقى إلهاً، ولذلك فقد كان يعرف من البدء كل الأشياء التي سيمر بها. ثم كإنسان كان تلميذاً للكلمة. لقد كان يعرف الكتابات المقدسة وجاء لتحقيقها. ولذلك فقد استند في تنبؤاته على الكتاب المقدس. وأخيراً، كان نبياً يتحدث بتوجيه مباشر من الروح القدس.

"فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ". هذا التلميذ الذي اعترف قبل وهلة بيسوع على أنه المسيح، ابن الله الحي، يتجرأ الآن وينتهر (يسوع) وكأنه إنسانٌ مثبط الهمة ويتحدث من منطلق شخص محطم ومخيب بسبب المعارضة المستمرة من قِبَلِ خصومه.

"ﭐذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ". سرعان ما أدرك الرب حماقة بطرس، رغم أن كلماته كانت ذات مغزى وتميّزَ فيها صوت العدو (الشيطان)، يحاول تنحيته عن الصليب، حيث كان ينبغي أن يموت كذبيحة أسمى عن الخطيئة. لقد أسكت توبيخُه الحاد ذلك الرسول المضطرب المتحامق، ولكن لا بطرس ولا الآخرين دخلوا حقيقةً إلى الكشف المعطى لهم.

ضرورة موت المسيح:

ما كان ليمكن بأي طريقة أخرى سوى موت ربنا القرباني يستطيع بها أن يصنع كفارة عن الخطيئة. الكلمة التي تُرجمت هكذا في العهد القديم تشتمل على معاني التسكين، والاسترضاء، والبدلية، والفداء، والتهدئة، والمصالحة. إنها أبعد بكثير من "كفارة" التي قبلها كثيرون كمعنى حقيقي. في العهد الجديد، الكلمة العبرية التي تُرجمت إلى هذه المعاني المختلفة يُستعاضُ عنها بكلمة يونانية تعني "كفارة استرضائية". كل هذه المعاني المختلفة يشتمل عليها الموت البدلي ليسوع على الصليب. ولكن بدون القيامة تصبح كل هذه المفردات لا معنى لها.

"فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي". رجل يحمل الصليب هو رجلٌ ماضٍ إلى الموت. التلميذ الحقيقي ليسوع هو التلميذ المستعد لرفض متطلبات الذات الخاصة والمستعد لأن "يموت كل يوم" لأجل معلمه (١ كورنثوس ١٥: ٣١). أن ينكر المرء ذاته هو أكثر من نكران النفس أو اللا أنانية. إنه يعني التنحية الكاملة لحياة الذات، لكيما يُرى المسيح وحده (غلاطية ٢: ٢٠).

"فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا". تابعُ يسوع المعترفُ به والمهتم بمصلحته الشخصية على أتمها كما يقول الناس، والذي يحيا ليرضي رغباته الطبيعية سيكتشف عند كرسي المسيح للدينونة أن حياته لم تُحسب لله، وأنها ضائعة خاسرة حقاً. من جهة أخرى قال يسوع: "مَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا". حياةٌ بُذلت لأجل المسيح هي حياة مخلصة محفوظة لذلك اليوم عندما ستتم، بشكلٍ مُجْزٍ، مكافأةُ كل ما عُمِلَ لأجل مجد الله وإعلان إنجيله. "لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟" (أو يخسر حياته). أي أن المكسب الحالي المؤقت سيصير إلى لا شيء إذا ما تبددت النفس، الحياة الحقة، في أشياء لا تنفع. إن الحياة الوحيدة التي تعتبر وتنفع هي تلك التي يعيشها المرء إلى الأبدية.

"مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟". هذا السؤال يُستخدم عموماً وكأنه يعني: "ما الذي يأخذه الإنسان مقابل نفسه؟" ولكن العكس هو الصحيح. فالنفس ضائعة ضالة، وماذا يعطي الإنسانُ لكي يردها إلى طريق الصواب؟ حالته كلها ستكون بلا طائل. لا يمكنه أن يسترد الحياة التي بددها بسبب الخطيئة والأنانية.

بعد ذلك أعلن يسوع بجلال أنه سيستحي في يوم الحساب الأخير من كل من يستحي به الآن. كل شيء للأبدية يعتمد على موقفنا نحو الرب يسوع المسيح. أن نعترف به علانيةً أمام الناس يعني الحياة الأبدية والخلاص. وأن ننكره أو نستحي به يعني الدينونة الأبدية والهلاك المقيم.

المسيح هو محك كل القلوب. فكمثل موقفنا نحوه سيكون موقف الله نحونا عندما يأتي يوم الجزاء. لكي يخلّصَ نفوسَنا ويجعلنا كلياً له، وضع ربنا يسوع حياته. لقد أحب الكنيسةَ وبذل نفسَه عنها (أفسس ٥: ٢٥). لم يكن يعتبر أي تضحيةٍ غاليةً إن كانت في سبيل أن يفتدينا ويجعلنا خاصته بها. وبالتأكيد، إذاً، علينا أن نكون على استعداد لأن نمضي حتى إلى الموت لكي نبرهن على محبتنا له. لقد كان موتُه كفارياً. وبه نتبرر عندما نؤمن به (أعمال ١٣: ٣٩). لقد أُزيلت خطايانا إلى الأبد بدمه الثمين. وما كنا لنستطيع أبداً أن نكون مشاركين في الكفارة الاسترضائية، بل إننا مدعوون لأن ننكر أنفسنا وأن نضع حياتنا، إن اقتضت الحاجة، لنثبت إيماننا به ومحبتنا لعالمٍ قدّم (يسوع) ذاتَه لأجله ( ٢ يوحنا ٤: ١٠، ١١). إن كان المسيح مات عن الجميع، فالله رأى الجميع أمواتاً آنذاك، لكيما يحيا أولئك الذين يؤمنون به من الآن فصاعداً، لا لأنفسهم بل لذاك الذي مات وقام ثانيةً (٢ كور ٥: ١٤، ١٥).

أخبر يسوع تلاميذه مراراً وتكراراً عن موته الوشيك وقيامته؛ ولكنهم بدوا عاجزين تماماً عن استيعاب معنى كلماته. إلا أنه لأجل هذا الهدف جاء إلى العالم واتخذ طبيعة بشرية في اتحاد مع طبيعته الإلهية.

وكان الصليب نصب عينيه طوال حياته. فصار إنساناً لكي يموت كفادٍ من أقربائنا يفكنا (لاويين ٢٥: ٤٨) ليأتي بنا إلى الحياة والحرية (الانعتاق). قرأت منذ زمنٍ عظة عن "تهور يسوع"، وفيها ندب الكارز (الواعظ)، الذي يبدي في نفس الوقت إعجاباً شديداً بجدية هدفه، الاندفاع المتهور المحزن الذي دفعه للذهاب إلى أورشليم في المرة الأخيرة، وبهذا يرمي نفسه، حرفياً، في فم الخطر ومواجهاً في المحكمة معارضة ومقاومة رؤساء إسرائيل، الذين كانوا عازمين على إهلاكه. واقترح هذا المجدف غير الواعي أنه كم كان أفضل للعالم وبكثير لو بقي يسوع هادئاً مستكيناً في الجليل، فلعله كان ليؤسس مدرسة للمعلمين في كفرناحوم، ولربما كتب العديد من الكتب، وبها كان سيغني الأدب الديني للعالم، ولكان مات في خاتمة المطاف بعد عمرٍ مديد، مُكرَّماً ومحبوباً من قِبَلِ عدد لا يحصى من التلاميذ، الذين كان ليمكن ائتمانهم ليحملوا تعليمه إلى أقاصي الأرض. إن المرء ليرتعد وهو يسمع هذه الترهات الفاسدة الفظيعة.

القسم ٤:‏٩:‏٩-‏١٠:‏٤٥

الأصحاح ٩:‏٩-‏٥٠

طريق التلمذة

"وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَداً بِمَا أَبْصَرُوا إلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَحَفِظُوا الْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ: «مَا هُوَ الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ؟» فَسَأَلُوهُ قَائِلِين: «لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْذَلَ. لَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضاً قَدْ أَتَى وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ»" (٩: ٩- ١٣).

بينما كانت الجماعة الصغيرة نازلة من الجبل، الذي كان جبل حرمون على الأرجح حيث أمضوا الليل، أوصاهم الرب يسوع بشكل مباشر وصريح جداً ألا يقولوا أي شيء البتة فيما يتعلق بما رأوه إلى أن يكون، هو نفسه، ابن الإنسان، قد أُقيم من بين الأموات. وكان لا يزال هذا، بالنسبة لهم، لغزاً غامضاً، فمع أن الرب كان قد تحدث في عدة مناسبات سابقة عن موته وقيامته في اليوم الثالث، لكن يبدو أنهم لم يفهموا. وإذ كانوا نازلين من الجبل كانوا يتساءلون عما يمكن أن تعنيه عبارة "الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ". من الواضح أنهم كانوا متيقنين في قلوبهم أن يسوع هو المسيا. ولكن طُرح سؤال يتعلق بنبوءة ملاخي التي قالت أن إيليا سيُرسَلُ قبل يوم الرب العظيم والمخيف. إذ كانوا على اطلاع على الكتاب المقدس، كان الكتبة يعلّمون الشعب ألا يبحثوا عن المسيا أولاً بل عن إيليا، ومن هنا سأل التلاميذُ المسيحَ: "«لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟»" فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: "«إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْذَلَ". ولَكِنّه أعلن قائلاً: "إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضاً قَدْ أَتَى وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ»". ففهموا عندها أنه يشير إلى يوحنا المعمدان. فقد كانت خدمة يوحنا (المعمدان) مشابهة لخدمة إيليا. لقد جاء يشجب الخطيئة ويدعو الناس إلى التوبة، فيكونون بذلك في حالة تسمح لهم باقتبال المسيا عندما يظهر. وفي مكان آخر (من الكتاب المقدس) نعلم أن يسوع قال: "إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا فَهَذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ" (متى ١١: ١٤). لم يقتبل الجميعُ يوحنا المعمدان، ولم تُحدث كرازتُه الأثر المرجو على كل الشعب كما كان مفترضاً بسبب عدم إيمانهم. وكان البعض ليفترض أنه لا يزال هناك تحقيق آخر أبعد لنبوءة ملاخي، وأنه في فترة الضيقة العظيمة، بعد اختطاف الكنيسة، سيأتي خادم آخر يشبه إيليا يقيمه الله ليُعِدَّ البقية المتبقية من إسرائيل ليستقبلوا الممسوح. وقد يكون هذا الأمر صحيحاً.

"وَلَمَّا جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. وَلِلْوَقْتِ كُلُّ الْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. فَسَأَلَ الْكَتَبَةَ: «بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟»" (٩: ١٤- ١٦).

إذ وصلوا إلى السهل، لفت انتباهَ يسوع في الحال الجمعُ الكبير المحتشد حول التلاميذ التسعة الذين لم يكونوا معه ليلاً في الجبل. كان بعض الكتبة يحاوروهم، ومن الواضح أن الجدال كان يدور حول قضايا معينة تتعلق باحتمال مسيانية يسوع. عندما رآه الجمع، التفتوا إليه، ويخبرنا الإنجيل أنهم انذهلوا للغاية، وأسرعوا إليه، وسلموا عليه. لا نعرف بالتأكيد ما الذي جعلهم ينذهلون، ولكن الاقتراح هو أن وجهه كان لا يزال يشرق بنور المجد، مثلما كان موسى العهد القديم عندما نزل من الجبل بعد قضاء أربعين يوماً مع الله. وإذ التفت إلى الكتبة سألهم: "«بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟»"

"فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ وَقَال: «يَا مُعَلِّمُ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ابْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». فَأجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!». فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ. فَسَأَلَ أَبَاهُ: «كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هَذَا؟» فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. وَكَثِيراً مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لَكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو الْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي». فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ الْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلاً لَهُ: «أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضاً!» فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيداً وَخَرَجَ فَصَارَ كَمَيْتٍ حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ مَاتَ. فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ فَقَامَ. وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتاً سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ»" (٩: ١٧- ٢٩).

رَفَعَ رجلٌ من بين الجموع صوتَه ملتمساً العون لأجل ابنه المبتلي الذي كان به روح شرير. لقد كان قلب الأب البائس ممزقاً من الألم والحزن وهو يحكي عن الحالة المؤلمة التي كان الغلام المسكين يرزح تحتها. الروح الشريرة التي كانت تستحوذ عليه كان "يدْرَكهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ". ورغبة منه في شفاء ابنه، أتى به والده إلى التلاميذ، متوسلاً إليهم أن يحرروا الصبي من تلك الروح، ولكنهم لم يستطيعوا أن يطردوا الروح الشريرة منه.

لقد كان يسوع قد شجّع التلاميذ على أن يفعلوا مثل هذه الأمور، وحدث خلال تجوالهم بين قرى الجليل أن نجحوا في إخراج الشياطين، ولكنهم بدوا عاجزين تماماً في هذه الحالة. فالتفت إليهم يسوع ووبّخهم قائلاً: "«أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟".

ثم التفت إلى الأب وقال: "قَدِّمُوهُ إِلَيَّ". فجيءَ بالغلام إلى يسوع، وعندما نظر إلى الفتى، فإن الروح الشريرة التي كانت فيه سرعان ما "صَرَعَهُ (الرُّوحُ) فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ"- كما الحال مع من يقع في نوبة صرع. نظر المخلص إلى الغلام في رفق وحنو، ثم التفت إلى والده وسأله: "«كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هَذَا؟»" فَقَالَ الأبُ: "مُنْذُ صِبَاهُ. وَكَثِيراً مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ". وإذ نظر الأبُ إلى يسوع، قدّم إليه التماساً يثير الشفقة قائلاً: "إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا". من الواضح أن إيمانه لم يكن كاملاً. لقد كان يؤمن في قلبه أن في مقدور يسوع أن يساعدَ، ولكنه لم يكن على يقين بأن يسوع سيرحب بالقيام بذلك.

"إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ". يغير يسوع اتجاه الأمور كلياً. فـ "إن" الشرطية تتعلق بالمستمع الذي يطلب المساعدة. فإن كان هناك إيمان حقيقي "كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ".

"أُومِنُ يَا سَيِّدُ فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي". بدموع سالت من عينيه أكّد الأب القلق المتلهف إيمانه؛ وإذ يدرك ضعف إيمانه، صرخ لأجل ثقة متزايدة، عسى يسوع يتولى هذه المسألة لأجله.

"اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضاً". بنبرة صوت تدل على سلطانٍ أمر (يسوع) الشيطانَ أن يطلق سراح ضحيته وألا يسيطر عليه ثانيةً.

"فَصَارَ كَمَيْتٍ"- لقد كان التشنج عنيفاً عندما انسحب الشرير- ذلك الشيطان الحقود- لدرجة أن الفتى وقع على الأرض كمائتٍ، حتى ظن كثيرون أنه قد قضى فعلاً. إلا أنه تبين أن ذلك كان آخر عمل يفعله الشيطان إزاء ذلك الفتى، وبه تحرّر من تأثيره المميت.

"فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ فَقَامَ". إذ مدَّ يسوعُ يدَه أمسك بذاك الغلام الفاقد الوعي، وبذلك أعاد الوعي والقوة إليه، ولفرحة الأب فإن الابن قام واقفاً على قدميه، وقد شُفِيَ، وبكامل قواه العقلية.

وإذ ترك الجمع ودخل يسوع مع تلاميذه إلى البيت، وعلى الأرجح أن ذاك كان بيت بطرس، وعندما كان التلاميذ لوحدهم مع يسوع، سألوه على انفراد: "«لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟»" فَأجاب يسوع قَائلاًْ: "«هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ»". بعض المخطوطات حُذِفَتْ منها الكلمة الأخيرة، ولكن يبدو مع ذلك أن لهذه تأثير كبير. النقطة الأهم التي أراد المخلص التركيز عليها هي: ما من أحد له قدرة على الأرواح النجسة إن لم يكن على علاقة قوية حميمة مع الله.

"وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ وَاجْتَازُوا الْجَلِيلَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ" (٩: ٣٠- ٣٢).

إذ غادروا كفرناحوم حيث جرى هذا الحدث، انتقلوا إلى أماكن أخرى في الجليل، والرب يحاول ما وسعه ليتحاشى الدعاية والشعبية وسط عامة الناس. وفيما هم سائرون في الطريق، استمر يبسط لهم حقائق الملكوت، ومن جديد أخبرهم عن أية مِيتةٍ كان على وشك أن يموتها، فقال: "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ". إن المرء ليعتقد أنه ما من لغة أوضح من هذه التي استخدمها الرب، حتى أنه ما من أحد يسمعها إلا وسيفهم ما عنى به الرب وأراده أن يكون واضحاً. ولكننا نعلم من الآية ٣٢ أنهم "لَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ"، أي شعروا بضرورة التحفظ والتكتم خشية أن يُظهروا جهلَهم بحقيقةٍ لطالما تحدّث عنها الرب أمامهم، ولكن يبدو أنهم لم يفهموها. لا بد أن السبب هو أن أفكارهم كانت متركّزة على المجد العتيد حتى أنهم ما كانوا يظنون أنه من المعقول أن يتم رفض وموت ذاك الذين كانوا يعتقدون أنه المسيا.

"وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: «بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِي مَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟» فَسَكَتُوا لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ. فَجَلَسَ وَنَادَى الاِثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ». فَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ قَبِلَ وَاحِداً مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هَذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي». فَأَجَابَه يُوحَنَّا قَائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا». فَقَالَ يَسُوعُ: «لاَ تَمْنَعُوهُ لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً. لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ" (٩: ٣٣- ٤١).

إذ عادوا إلى كفرناحوم سأل يسوعُ تلاميذَه: "«بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِي مَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟»" لم يدركوا أنه كان عالماً بأفكارهم. ما كان في حاجة لأن يسمع كلامهم ليعرف ما كان في قلوبهم.

"سَكَتُوا لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ". إذ أخفقوا في معرفة طبيعة ملكوت الله، ظنوا أنه مكان يتحقق فيه التقدم والترقية الدنيوية وراحوا يتجادلون فيما بينهم حول الميزات الشخصية لهم وأرجحية البروز والشهرة عندما سيتأسس الملكوت فعلياً.

"«إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ»". من يرغب أن يكون موضع تبجيل وتقدير أكثر في ملكوت الله هو الذي لا يسعى إلى أن ينال ذلك لنفسه، بل يضع نفسَه لأجل بركة الآخرين.

"فَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ". كان في مقدور الأولاد أن يؤمنوا بالرب يسوع. فنعمته ذاتها ولطفه كانت تجتذبهم إليه. وهكذا تقدم الطفل الصغير عند طلبه وأخذ مكانه بشكل عجيب وسط تلاميذه المندهشين.

"مَنْ قَبِلَ وَاحِداً مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هَذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي". كان الصغير ممثلاً عنه أو بمثابة مبعوث من قِبَلِهِ مطلق الصلاحية، ذلك أن ملكوته هو ملكوت المحبة والتواضع. وعندما يُقْبَل، فإن الآب الذي أرسله يُقْبَلُ أيضاً. ففي قلب الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ يحب الله أن يسكن (أشعياء ٦٦: ١، ٢).

"هُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا فَمَنَعْنَاهُ". من الواضح أنه وبغاية التأكيد على ولائهم للمسيح رغم التوبيخ الضمني، تكلم يوحنا وأخبر كيف أنهم منعوا رجلاً من أن يطرد الأرواح الشريرة لأنه لم يكن من جماعتهم. هذا الموقف مألوف عند الكثيرين اليوم الذين يفكرون في الانتماء الطائفي أكثر من القيام بعمل الرب. جميعنا عرضة لزيادة تقدير أهمية جماعتنا الخاصة وللتقليل من قدر الآخرين الذين لا نراهم على مستوانا. ولكن الاختبار الأبرز والأهم هو موقف القلب نحو المسيح. إن الله لا يتعامل مع طرف ويلغي الأطراف الأخرى. إن حضوره، بالروح، ليس محصوراً على مجموعة خاصة ما من المؤمنين، مهما كانوا راسخين في الإيمان. إنه يرى الجميع أبناء له يؤمنون بابنه، وهو يملك كل شيء منه في كل واحد منهم، أياً كان رفقاؤهم، رغم أننا مسؤولون من جهتنا على أن ننفصل عن كل ما هو شر معروف.

"لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً". إن حقيقة أن يتصرف إنسان ما باسم يسوع المسيح تدل بذاتها على إيمانه به. فحيث يتم الاعتراف باسمه، سيكون موضع محبة وتكريم بأي شكل من الأشكال.

"لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا". من السهل جداً أن نكون متعصبين بالروح. لقد بيّن يسوع حقيقةً عظيمةً يجب ألا ننساها أبداً، وذلك عندما قال: "مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا". وفي مناسبة أخرى قال: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ" (متى ١٢: ٣٠). هذا القول إيجابي، وأما هنا فيتحدث على نحو سلبي. فإن لم يقف شخصٌ ضده فإنه يكون فرداً من فريقه. هذا أمر ينساه معظمنا. ولكن الرب يسوع لا يرفض أي شخص يسعى لأن يعرفه وأن يعمل مشيئته.

"مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ". لاحظوا هذه العبارة: "لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ". ليس السؤال هو فيما إذا كان المرء ينتمي إلى مجموعة معينة، أو فيما إذا كان يتبع طرقنا، أو يرفع نفس شعارنا؛ بل السؤال هو هل ينتمي ذلك الشخص للمسيح؟ إن كان كذلك، فكل ما نعمله من أجل هكذا شخص إنما لا يضيع أجره.

بعد ذلك شرع يسوع يعطي تعاليمَ جليلةً للغاية عن أهمية الإخلاص والصدق والأمانة في طريق التلمذة.

"وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً»" (٩: ٤٢- ٥٠).

إن تعثير أي من الصغار الذين يؤمنون بيسوع هو في نظره إساءة شائنة شنيعة. لقد أعلن قائلاً: "خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ". كم هو أمرٌ فظيع رهيب أن يتعمَّدَ أحدهم أن يؤذي أو يضلل طفلاً صغيراً أو من نقول عنهم "الصغار" بمعنى روحي أي "الصِّغَار الْمُؤْمِنِينَ". إن مسؤولية جسيمة تقع على عاتق أولئك الذين يقرّون بأنهم يعرفون المسيح، تتمثل في أن يقوموا بكل ما في وسعهم ليساعدوا أولئك الصغار لا أن يعيقوهم. إن حاول أحدٌ أن يؤذيهم بأي شكل من الأشكال يجب أن نجعله يضع نصبَ عينيه الكلمات المهيبة الجليلة التي ترد في الآيات التالية.

إن كانت اليد ستعثّر فلتُقطعْ، لأنه أفضل للمرء أن يدخل إلى الحياة مبتور اليد من أن يكون له يدان ويدخل الجحيم، أي جهنم، حيث الدينونة الأبدية: "إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ". لاحظوا كيف يكرر الرب هذه العبارة. رغم أنه كان أكثر من  وطأ الأرض حنواً ورأفةً، إلا أنه يقول الكثير عن فظاعة العقاب الأبدي لمن لا يتوب في النهاية أكثر من أي شخص يرد تعليمه في الكتاب المقدس.

"إِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا". إن كانت الرِّجْلُ ستقود المرء إلى دروب الخطيئة، فمن الأفضل له أن يكون بلا أرجل ويدخل الحياة على أن يكون برجلين ويدخل نار جهنم. وإن أعثرت العينُ المرءَ- وكم من خطايا تدخل من العين- فعلينا اقتلاعها. فمن الأفضل أن ندخل ملكوت الله بعين واحدة من أن نحظى بعينين ونُلقى في نار جهنم. إن التعبير "حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ" على الأرجح قد استند إلى ما كان مرئياً في أسفل وَادِي ابْنِ هِنُّومَ، حيث كانت تُلقى كل نفايات المدينة والنيران الدائمة الاشتعال كانت تُحفظ متّقدةً وحيث كانت تُرمى جُثث الحيوانات الميتة، وحيث كان المارّةُ يرون الديدان القارضة والنار التي لا تنطفئ. إنها صورة مريعة مرعبة للدينونة التي تنتظر معاندي المسيح.

بعض المخطوطات القديمة حُذف منها جزء من الآية ٤٩، فبقيت الكلمات: "لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ". الفكرة واضحة، على كل حال، حتى ولو لم يكن ما تبقى من الآية يستند إلى أفضل موثوقية. كُلّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. قال الله فيما يخص الذبائح: "كُلُّ قُرْبَانٍ مِنْ تَقَادِمِكَ بِالْمِلْحِ تُمَلِّحُهُ وَلا تُخْلِ تَقْدِمَتَكَ مِنْ مِلْحِ عَهْدِ إلَهِكَ" (لاويين ٢: ١٣). الملح يحفظ من الفساد، ويبدو أن الرب يؤكد هنا على قوة البر الحافظة والتي وحدها تعتق المرء من الدينونة التي تستحقها الخطيئة حقاً. كان يسوع قد تحدث لتوه عن تلاميذه على أنهم ملح الأرض، ومن هذه الناحية يضيف قائلاً: "اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟" الملح الذي لا يحفظ لا فائدة منه. وكذلك الأمر المؤمن المعترف الذي لا يتميز بالبرّ ليس من شهادة يقدّمها لله. لقد قال الرب: "لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ"- أي ليكن البرّ في حياتكم وسلوككم فاعلاً لتمجيد الله؛ وبدلاً من أن يسعى المرء لمصلحته الخاصة، عليه أن يسعى لخير الآخرين، وهكذا يسالم كل واحد الآخر.

Pages