December 2013

المحاضرة ٢

التحية والمقدمة

(الإصحاحات١: ١- ١٧)

وإذ نأتي إلى تمحص هذه الرسالة آية فآية، حسناً أن نتذكر من جديد الحقيقة الثمينة بأن "كل الكتاب موحى به من الله وهو نافعٌ" ١. فقد تحدث الله من خلال كلمته، وهذه تحوي بعض أهم الرسائل التي أعطاها الله للجنس البشري على الإطلاق. يحسن بنا، إذاً، أن ندرس الرسالة بروح مليئة بالصلاة ومحاكمة الذات، واضعين جانباً كل تصوراتنا وأفكارنا المسبقة وتاركين الله يقوّم أفكارنا من خلال كلمته الملهمة. أو بالحري مستبدلين أفكارنا بأفكاره هو.

إن الآيات السبع الأولى، كما لاحظنا تواً، تشكل التحية، وتتطلب التمحيص الدقيق. فها هنا بضعة حقائق نفيسة للغاية تُبلّغ إلينا بطريقة تبدو في غاية العفوية والبساطة. إن الكاتب، وهو بولس الرسول، يسمّي نفسه خادماً، وحرفياً عبداً ليسوع المسيح. لم يقصد بالطبع أن يقول أن خدمته كانت عبودية بل يقصد الطاعة الكلية الكاملة من كل قلبه الصادرة عن شخص أدرك أنه قد "اشتُريَ بثمن"، وهذا الثمن حتى هو دم المسيح الكريم.

هناك حكايةٌ تُروى عن عبدٍ أفريقي كان سيّده على وشك أن يطعنه بحربة، وإذا بمسافر بريطاني شهم يمدّ ذراعه ليقيه الضربة، فأصيب بهذا السلاح الحاد. وإذ تدفق الدم منه طالَبَ بشخص ذاك العبد، قائلاً أنه اشتراه بألمه. فوافق السيد القديم على ذلك على مضض. وإذ سار هذا الأخير مبتعداً خرّ العبد على قدمي منقذه هاتفاً: "من اشتُري بالدم هو الآن عبدُ ابن الرحمة. وسوف يخدمه بإخلاص". وأصرّ على مرافقة منقذه الكريم، وكان يسرّه أن يقوم على خدمته بكل طريقة ممكنة.

هذا ما فعله بولس، ويفعله كل من يُعتَق ويُفتَدى، إذ صار عبداً ليسوع المسيح. لقد حُرِّرنا كي نخدم، ولعلنا نهتف صارخين مع صاحب المزامير قائلين: "آهِ يَا رَبُّ. لأَنِّي عَبْدُكَ. أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ أَمَتِكَ. حَلَلْتَ قُيُودِي." (المزمور ١١٦: ١٦).

لم يكن بولس خادماً بالمعنى العام وحسب، بل كان خادماً على نحو مميز استثنائي وشخصية رفيعة الشأن. لقد كان مدعواً رسولاً؛ ولكن ليس بمعنى "دُعي ليكون رسولاً". هذا أمرٌ قد لا يسترعي الاهتمام كثيراً في الظاهر، ولكن التعبير نفسه يرد في الآية ٧ وقد يضللنا كلياً عندما نأتي إلى التمعن في الأمر.

لا حاجة لأن نفكر ببولس كأحد التلاميذ الاثني عشر. البعض يطرح مسألة نظامية تعيين مقياس، ولكن يبدو لي أن نأخذ بعين الاعتبار كثيراً اختيارَه بالقرعة كونه آخر عمل رسمي في النظام القديم. لقد كان لابد، بالنسبة لشخص كان قد رافق الرب وتلاميذه من معمودية يوحنا، أن يشغل دون غيره المكانة التي خسرها يهوذا. وهكذا يكتمل عدد الرسل الاثني عشر للحَمل الذين سيسجلون (في الأيام المجيدة لتجدد الأرض التي نسميها عموماً الألفية) متربعين على العروش الاثني عشر ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر. إن خدمة بولس هي من نوع آخر. لقد كان الرسول البارز للأمميين وعُهِد إليه "تدبير السر" الخاص. وهذا يضع رسوليته على مستوى مختلف من تلك التي للرسل الاثني عشر. لقد عرفوا المسيح خلال حياته على الأرض، وخدمتهم كانت وبشكل محدد جداً مرتبطة بملكوت الله وعائلته. أما بولس فقد عرفه لأول مرة كيسوع الرب الممجد فنادى بشكل مميز بإنجيل المجد.

لقد كان "مفروزاً لإنجيل الله". ولربما علينا أن نفكر حقاً بهذا الفرز من عدة وجهات نظر. لقد أُفرزَ لخدمته الخاصة المميزة من قَبْل ولادَته. وعلى غرار موسى، وإرميا، ويوحنا المعمدان كان قد أُفرزَ من بطن أمه (غلاطية١: ١٥). ولكن عليه أولاً أن يختبر ضعف وتفاهة الجسد. وبعدها أغدق عليه الله برحمته، وفُرزَ عن الجموع غير المسيحية ودُعيَ من قِبل النعمة الإلهية. ولكن كانت هناك أشياء أكثر من هذه. فبشكل من الأشكال كان قد تحرّر من كلِّ من شعب إسرائيل والأمميين ليكون خادماً وشاهداً على الأمور التي عاينها وسمعها. وأخيراً أُفرزَ مع برنابا لعمل محدد وهو التبشير بالإنجيل للأمميين، وذلك عندما كان في أنطاكية في بيسيديا، حيث قام الأخوة، إذعاناً للأمر الإلهي، بوضع الأيدي عليهما وإرسالهما ليعلنا بشارة الإنجيل إلى أقاصي الأرض. ولذلك فإن إنجيله يُدعى هنا "إنجيل الله". وفي الآية ٩ يُدعى "إنجيل ابنه"، وفي الآية ١٦ يُدعى "إنجيل المسيح"، رغم أن هناك احتمال أن كلمة "المسيح" هذه هنا يجب إغفالها لأنها لا تظهر في عدد من أفضل المخطوطات.

الآية ٢ اعتراضية وتطابق بين الإنجيل والأنباء السارة الموعودة في فترة العهد القديم والتي تنبأ بها الأنبياء في الكتاب المقدس. "له يشهدُ جميعُ الأنبياء أنّ كل من يؤمنُ به ينال باسمه غفرانَ الخطايا". ٢ كان تيموثاوس قد تعلم، من الطفولية، الكتب المقدسة، ويقول الرسول أن هذه "قادرة أن تحكّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع". ٣

هذا الإنجيل ليس ناموساً جديداً. وهو ليس مجموعة من التعاليم الأخلاقية أو علم الأخلاق. وليس بقانون إيمان ينبغي قبوله. وليس هو بنظام ديني عليك أن تلتزم به. وليس هو مجموعة نصائح مفيدة يُستحسن أن تتبعها. إنه رسالة مسلّمة من الله تتعلق بشخص إلهي، وهو ابن الله، يسوع المسيح ربنا. هذا الكائن الممجّد هو إنسان حقيقي، وفي آن معاً هو الله نفسه. إنه الفرع الذي نما من أصل داود، ولذلك فهو إنسان حقيقي. ولكنه أيضاً ابن الله، ذو الولادة العذرية، الذي ليس له أب بشري، وهذا الشخص تظهر أعماله مصحوبة بسلطان. لهذه الحقيقة المقدسة شهدت روح القداسة عندما أقام الأموات إلى الحياة. إن التعبير "بالقيامة من الأموات" يعني حرفياً "بإقامته للأموات". وهذا يشمل أيضاً قيامته هو نفسه بالطبع: إضافة إلى إقامته لابنة يائيرس، وابن الأرملة، ولعازر. فهذا الذي استطاع أن يسلب من الموت فريسته كان إلهاً وإنساناً في أقنوم واحد مبارك جدير بالعبادة يستحق كل التسبيح والمديح، الآن وإلى الأبد.

ومنه، هو القائم من بين الأموات، تلقى بولس نعمة (ليست فقط منّة لا يستحقها، بل أيضاً منّة مغايرة للاستحقاق أو الأهلية، لأنه كان يستحق النقيض تماماً)، كما واستلم مهمته الرسولية بدعوة إلهية، كي ينشر الإنجيل بين جميع الأمم، لإطاعة الإيمان لأجل اسم المسيح.

لذلك فإن وظيفته الرسولية امتدت إلى أولئك الذين كانوا في رومية. فحتى الآن لم يَتَسَنَّ له زيارتهم شخصياً، ولكن قلبه كان يشتاق إليهم لأنهم هم أيضاً مدعوو يسوع المسيح، ولذلك فإنه يكتب "إلى جميع الموجودين في رومية، المدعوين قديسين". لاحظوا أنهم كانوا قديسين بنفس الطريقة التي كان هو فيها رسولاً، ونقصد بذلك، بالدعوة الإلهية. فنحن لا نصبح قديسين عن طريق السلوك بقداسة، بل لأننا معيّنون قديسين فإن علينا أن نظهر القداسة.

على حسب عادته في رسائله، يتمنى بولس لهم النعمة والسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح. لأننا مخلّصون بالنعمة بالدرجة الأولى، فإننا بحاجة إلى النعمة لأجل المعونة في أوانها على الدوام. وإذ لنا سلام مع الله بدم صليبه، فإننا نحتاج إلى سلام الله لنحفظ قلوبنا في سلام وهدأة ونحن نسافر نحو الراحة الأبدية الباقية لشعب الله.

الآيات٨- ١٧ هي مقدمة الرسالة وتظهر بوضوح الأسباب التي دفعته للكتابة.

من الواضح أن عملاً إلهياً قد بدأ في رومية قبل سنوات من كتابة هذه الرسالة، فقد كان إيمان الجماعة المسيحية هناك يُحكى عنه (مضرب مثل) في كل أرجاء المعمورة، أي في أرجاء الإمبراطورية الرومانية. وليس هناك أي دليل من أي نوع يدل على أن هذا العمل كان بشكل من الأشكال نتيجة لأي نشاط رسولي. فالكتابات المقدسة والتاريخ كلاهما يلتزمان الصمت حول من أسس الكنيسة في رومية. وبالتأكيد لم يكن بطرس هو الذي أسسها. وليس هناك أدنى سبب يجعلنا ننسب ذلك له. وإن التفاخر الذي تتبجح به الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بأنها تأسست على يد بطرس الصخرة وأن أسقف رومية هو خليفة القديس بطرس ما هو إلا لغو فحسب. لا يمكننا أن نعرف أبداً إذا كان أي رسول قد زار رومية قبل اقتياد بولس نفسه إلى هناك مكبلاً بالسلاسل.

ويبدو أن ثمة سبب يتعلق بالعناية الإلهية منعه من الذهاب إلى هناك قبل ذلك. إنه يستشهد بالله (الله الذي قام بخدمته ليس خارجياً فقط بل في روحه، الإنسان الداخلي، في إنجيل ابنه) على أنه لم ينقطع عن الصلاة لأجل أولئك المؤمنين الرومانيين منذ أن سمع عنهم؛ ومع تضرعاته لأجلهم يبدو أنه طلب مرتين وبإلحاح من الله أن يعطيه الفرصة لزيارتهم إذا كانت تلك إرادة الله له في رحلة ملائمة مؤاتية. ونعرف جيداً أنه شتان ما بين ما كان يتوقعه بولس واستجابة الله لصلاته. وهذا يعطينا فكرة بسيطة عن حكمة الله ذات النفوذ في الاستجابة لكل صلواتنا. فما من إنسان كفؤ لأن يحدد ما هو مؤاتٍ أم لا. فطرق الله تختلف عن طرقنا.

كان بولس يشتاق لرؤيتهم، على رجاء أن يستخدمه الله ليمنحهم هبة روحية تفيد في تثبيتهم في الحق. لم يفكر فقط في أن يكون بركةً لهم وحسب، بل كان يتوقع أن يكونوا هم أيضاً بركة له. كانوا ليتعزّون جميعاً معاً.

لقد استعد مراراً كثيرة خلال السنوات الماضية للذهاب إلى رومية، ولكن مخططاته أخفقت. لقد كان يتوق لأن يكون له ثمرٌ هناك كما في مدن الأمميين الأخرى، إذ كان يجد نفسه محاوراً ومناظراً لكل البشر. إن الكنـز الذي عُهدَ إليه به لم يكن لمسرته الذاتية بل ليعلنه للآخرين، أكانوا يونانيين أم برابرة، مثقفين أم جهلة. وانطلاقاً من إدراكه هذا فقد كان على استعداد لأن يبشر بالإنجيل في رومية كما في أي مكان آخر.

عندما يقول في الآية ١٦: "لستُ أستحي بإنجيل المسيح"، فإني أعتقد أنه يعني بذلك أكثر مما اعتاد الناس أن يفهمونه من هذه الكلمات. لم يكن يقصد القول أنه لم يكن يستحي بأن يُدعى مسيحياً وحسب، إنه كان دائماً مستعداً ليعلن بجرأة إيمانه بالمسيح، بل أن الإنجيل، ولكونه موحىً به، كان بالنسبة له يحوي مخططاً رائعاً لفداء البشر، ترتيباً موحى به من الله لحقيقة تتجاوز كل فلسفات الأرض، وهذه كان على استعداد لأن يدافع عنها في كل مناسبة. لم يكن الأمر، كما افترض البعض، بأنه مُنعَ من زيارة رومية لأنه لم يكن يشعر لأنه أهْلٌ لإعلان إنجيل المسيح في عاصمة العالم بطريقة يعجز فيها عن الرد عليه أو الدحض المنطقي لما يقوله، الفلاسفة المثقفون الذين كانت تكتظ بهم المدينة العظيمة. لم يساوره الخوف أبداً من أن يقدروا ببراهينهم وحججهم البارعة على هزيمته في طرحه للمخطط الوحيد الأكيد للخلاص. فهو أبعد من العقل البشري، ولكنه ليس منافياً للمنطق أو مخالفاً للعقل. إنه مخطط كامل لأنه من الله.

لقد ثَبُت بالبرهان أن الإنجيل هو وسيلة الله الفعالة التي تحقق انعتاق الذين يؤمنون به، سواء كانوا من اليهود المتدينين أو اليونانيين المثقفين. لقد كان قوة الله وحكمة الله للخلاص. لقد كان يلبي كل حاجات الفكر، والضمير، وقلب الإنسان، لأن فيه برّ الله المعلن بحكمة الإيمان. أعتقد أن هذا هو المعنى الحقيقي للتعبير الصعب نوعاً ما الذي ترجم إلى "بإيمان لإيمان". ٤إنه يعني "من الإيمان إلى الإيمان". أي على مبدأ الإيمان لأولئك الذين لديهم إيمان. بمعنى آخر، إنه ليس عقيدة الخلاص بالإيمان، بل إعلان الخلاص كلياً على أساس الإيمان. هذا ما أُعلن لحبقوق منذ قرون بعيدة قبل أن يقول الله للنبي القلق المضطرب: "أما البار فبالإيمان يحيا".

هذا هو فحوى الرسالة بمجملها كما رأينا لتونا، وكذلك على نفس المنوال الرسالة إلى غلاطية والعبرانيين.

إنها تعرض لنا جوهر المخطط الإلهي. وكان هذا مصدر الراحة لملايين الناس عبر العصور. لقد كان الأساس لما سمّي باللاهوت الأوغسطيني. لقد كان المفتاح الذي فتح باب الحرية لمارتن لوثر. وصار صرخة الحرب للإصلاح. وصار المِحك لكل نظام منذ ذلك الحين في الاعتراف بأنه من الله. فإن كان هذا كله خطأ الآن فمن المحتم أن يكون خطأ كذلك على الدوام. يستحيل علينا أن نفهم الإنجيل إذا أسأنا فهم المبدأ الأساسي أو أنكرناه. التبرير بالإيمان وحده هو امتحان الأرثوذكسية. ولكن ليس من فكر لم يلهمه الروح القدس قادر على أن يناله لأنه ينحّي آدم الأول جانباً لأنه في الجسد ولا نفع فيه، وذلك بغاية أن يتمجّد آدم الثاني، رجل مشورة الله، الرب يسوع المسيح وحده. فبالإيمان نعترف بفضله لأنه أنجز العمل الذي نلنا به الخلاص والذي به تمجّد الله وحده بالكليّة، وحُفظت قداسته، وظهر برّه، وليس ذلك في موت الخاطئ بل في خلاص جميع الذين يؤمنون. إنه إنجيل جدير بأن يكون من الله، وقد أظهر سيادته وسلطانه من خلال ما أنجزه في أولئك الذين تقبلوه بإيمان.


١. ترجمة حرفية للآية (٢تيموثاوس ٣: ١٦).

٢. (أعمال١٠: ٤٣).

٣. (٢تيموثاوس٣: ١٥).

٤. (رومية ١: ١٧).

المحاضرة ٣

الحاجة إلى الإنجيل

(الإصحاحات ١: ١٨- ٣: ٢٠)

رأينا كيف أن الإنجيل يعلن بر الله. وها هو الرسول يستأنف الآن إظهار الحاجة لمثل هذا الكشف أو الإعلان، ويضع أكواماً من الأدلة فوق بعضها، والإثبات تلو الآخر، ونصاً كتابياً فوق نص آخر، وذلك كي يقيم الدليل على الحقيقة الجليلة بأن الإنسان ليس له برّ ذاتي، بل إنه بالحري، بالطبيعة والممارسة، لا يتناسب كلياً مع قداسة الله اللامتناهية الذي يقوم عرشه على البر. هذا ما يفعله بولس الرسول في القسم التالي من الرسالة (١: ١٨- ٣: ٢٠). فببراعة يحضر العالم كله إلى المحاكمة ويظهر أن الدينونة تقع على الجميع لأن الجميع أخطأوا. فالإنسان أثيم بشكل ميئوس منه ولا يستطيع أن يفعل شيئاً كي يُصلح شأنه. وإذا لم يكن لدى الله برٌّ له فإنه مقضيٌ عليه لا محالة.

في الآيات (١٨- ٣٢) من الإصحاح الأول يطرح بولس قضية الهمجيين غير المتمدنين. "لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ." وبالدرجة الأولى يأتي العالم الوثني. ويليه أولئك الذين أتاهم كشف الله. إن الهمجيين والوثنيين هم أثمة عموماً. وهم لم يعرفوا الإله الحقيقي ولذلك فإنهم "بدون إله في العالم". ولذلك فإن سلوكهم يتصف بالإثم والفحشاء.

من جهة أخرى، عُهد إلى اليهودي معرفة الله وشريعة إلهية بالبر. أُعدَّ له أن يتمجّد بهذا في حين أنه كان يسلك في الإثم والشر. لقد كان يعرف الحق (وقد ألقى به جانباً في ركن مهمل) وغرق في الإثم. ولكلا المجموعتين أُعلن غضب الله.

ليس للوثنيين عذر. وإن الوثنية وعبادة المخلوق ليست من مراحل التطور الإنساني التي ينتقل بها الإنسان من الوحل إلى الألوهية. عبادة الأوثان هي انحدار وانحطاط وليست ارتقاءً إلى الأعلى. الأمم الوثنية العظيمة كانوا يعرفون في الماضي أشياء أكثر من التي يعرفونها الآن. معرفة الله التي تأتت عن الطوفان كانت منتشرة في كل أرجاء العالم القديم. ووراء كل الأنظمة الوثنية العظيمة كان هناك التوحيد الخالص. ولكن ما أمكن للبشر أن يتحملوا هذه المعرفة العميقة لله لأنها كانت توبخهم على خطاياهم، ولذلك فإن تقبلهم لآلهة وألوهيات أقل شأناً كانت تشكل حلاً وسطاً، وبعد ذلك كانوا يصلون في نهاية الأمر إلى فقدان معرفة الإله الحقيقي كلياً. ولكن حتى اليوم تبقى الخليقة شاهداً دائماً لله. "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ". ١ . هذا الكون المنظّم بفصوله المتعاقبة والدقة الرياضية لحركات الأجرام السماوية يقدّم شهادة أو دليلاً على الفكر الإلهي. والنجوم في مساراتها تعلن قدرة الخالق العظيم:

"وإذ تسطع فإنها تنشد،
إن اليد التي صنعَتْنا إلهيةٌ هي".

وهكذا فإن "أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرَى مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ َقُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتَهُ". ٢. إن كلمة "المبروءات" (أو المصنوعات) هي في الأصل اليوناني (Poima )، ومنها تأتي كلمة (Poem ) أي قصيدة. فالخلق هو قصيدة الله الملحمية، وكل جزء منه لائق بحد ذاته ويدل على البراعة مثل كل سطر وبيت شعري في تسبيحة ملوكية مهيبة. في (أفسس٢: ١٠) نجد نفس الكلمة من جديد. "لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ- (أي قصيدته)، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا". هذه هي قصيدة الله الأعظم: ملحمة الفداء.

"كم كان عظيماً أن يخلق العالم من العدم.
والأعظم من ذلك كان الفداء".

هاتان القصيدتان الرائعتان قد أُنشدتا في (سفر الرؤية الإصحاح ٤و ٥). ففي الإصحاح الرابع نجد القديسين المتوّجين والجالسين على العروش يعبدون المسيح كخالق. وفي الإصحاح الخامس يعبدونه كفادٍ.

إذا تابعنا مناظرة بولس نلاحظ في الآيات ٢١- ٢٣ أن الأمم الهمجية لا عذر لها يبرر حالة الجهل الوحشية التي يعيشون فيها. ذلك "لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى وَالطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ وَالزَّحَّافَاتِ." لاحظوا خطوات الانحدار على مزلجة الوثنية- لقد تصور عَبَدةُ الأوثان الله في البداية على هيئة إنسانٍ مثالي، ثم شبهوه بالطيور التي تحلق باتجاه السماء، إلى جانب الحيوانات البهيمية التي تجوب الأرض بحثاً عن فريسة، وأخيراً كأفاعٍ ومختلف الحيوانات الدابة المقيتة، سواء منها الزاحفة أو التي تقتات على الحشرات. وحتى في مصر كانوا يعبدون الأفعى والخنفساء رغم أن الميثولوجيا المصرية القديمة يكمن وراءها الوحي الأصيل بإله حقيقي حيّ واحد. يا لدرجة الانحطاط الشديدة التي تتبدى عن إحدى أكثر الأمم استنارة في العصور القديمة! ولا تخلو بقية الأمم من علائم مشابهة من الانحراف والفساد.

بما أن البشر تخلوا عن الله فإنه تخلى عنهم أيضاً. وفي الآيات التالية نقرأ مرتين أن "الله أسلمهم"، أولاً للنجاسة ومن ثم لأهواء الهوان. وعندما نقرأ أن "الله أسلمهم إلى ذهن مرفوض" نفهم أن الرذائل والفظائع الوضيعة الموصوفة هنا هي النتيجة الطبيعية لتحوّلهم عن القدّوس. إن صورة الوثنية بما فيها من فحشاء تفوق الوصف ليست صورة مبالغاً فيها، ويدرك ذلك كل من له إطلاع على حياة الشعوب الوثنية عبدة الأصنام. والأمر المريع هو أن كل هذا الفساد والفحشاء تعود للظهور والآن من جديد في أرقى المجتمعات المعاصرة حيث ينكر الرجال والنساء الله. إذا حَوّل الناس حقيقة الله إلى أكذوبة وعبدوا وخدموا المخلوق دون الخالق فإن نظام الطبيعة برمته ينحرف ويتدنس. فبعيداً عن مخافة الله ليس هناك قوة أو سلطة ما تكبح الرغبات الشريرة للقلب الطبيعي أو تقوّمها. إنها جزء من نفس طبيعة الأشياء التي سيتبدى بها الجسد في أبشع مظاهره عندما يتخلى الله عن البشر ويتركهم يتبعون نزعات وميول شهواتهم الرديئة.

يا لهذه الصورة عن الجنس البشري في منأى عن الله التي نجدها في الآيات الختامية. فالخطيئة والفساد تسود في كل مكان. ولا نجد البرّ عندما ندير ظهرنا إلى الله. ولا يشعر الناس بخطاياهم أو يخزون من طرقهم المعوجة، بل نلاحظ أن "الَّذِينَ إِذْ عَرَفُوا حُكْمَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ يَسْتَوْجِبُونَ الْمَوْتَ لاَ يَفْعَلُونَهَا فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يُسَرُّونَ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ!". ٣

الصورة التي يرسمها الرسول عن الوثنية لا تزال حقيقية وإن المشهد التالي شاهد على ذلك: "فقد قال معلمٌ صيني مرةً لمبّشرٍ أن الكتاب المقدس لم يعد كتاباً قديماً جداً لأن الفصل الأول من رومية يعطي وصفاً لسلوك الإنسان الصيني، فهذا ما كان يمكن للمبشر أن يكتب بعد معرفته الكاملة بأولئك الناس. ليس في هذا الحديث خطأ غير طبيعي، بل إنه شهادةٌ يقدمها عابدُ أوثانٍ على الحق في الكتاب المقدس".

في الآيات الست عشرة الأولى من الإصحاح التالي (الثاني) نجد صنفاً آخر يبدو للعيان: إنه العالم المتحضر والمهذب. فمن المؤكد أن نجد بين المثقفين، أتباع النظريات الفلسفية المختلفة والمتنوعة، أناساً يعيشون مثل هذه الحياة البارة والذين يمكن أن يأتوا إلى حضرة الله ويعلنون مجده على أساس الصلاح الذي فيهم. بالتأكيد كان هناك أناس أقروا بأنهم كانوا ينظرون بازدراء واشمئزاز إلى الناس الغوغاء الجاهلين المنغمسين في الفسق والخلاعة الرديئة، ولكن هل كانت حياتهم الخاصة أفضل أو أنقى أو أكثر قداسةً من أولئك الذين كانوا يدينونهم بشدة مفرطة؟

جاء الآن دورهم ليُستدعوا للمثول أمام المحكمة، لكي تؤخذ أقوالهم، حيث يتهمهم الرسول بدون وجل أمام كرسي القضاء المهيب لـ "الرب البار الذي يحب البرّ". ""لِذَلِكَ أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا الإِنْسَانُ كُلُّ مَنْ يَدِينُ. لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ. لأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ تَفْعَلُ تِلْكَ الأُمُورَ بِعَيْنِهَا!". ٤إن الفلسفة لا تحمي أتباعها أو مناصريها من أهواء الجسد. إدراك الشر ليس قوة كافية بالضرورة للتغلب على الشر. والثقافة لا تطهّر القلب ولا التعليم يغيّر الطبيعة. وستقوم عدالة الله ودينونته استناداً إلى الحق وهذا سيكون ضد فاعل الإثم. هذا وأن يطري المرء على الفضيلة بينما يمارس الرذيلة، قد يجعله يستمر في علاقاته مع أصدقائه، ولكنه لن يخدع الله ذي العينين النقيتين القادرتين تماماً على مشاهدة الإثم الذي يرتكبه الإنسان.

إنه يسأل بصرامة قائلاً: "أَفَتَظُنُّ هَذَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تَدِينُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ؟ أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟" ٥ فالناس ميّالون إلى اعتبار الله غافراً وصافحاً عن الطرق التي يسلكون فيها إذا ما كان "الحكم بالدينونة على العمل السيئ الشرير لا يتم تنفيذه بسرعة"، في حين أن الله ينتظر برحمته الطويلة الأناة أن يجد الناس الفرصة لمواجهة خطاياهم والاعتراف بذنبهم وعلّهم بذلك يجدون رحمةً. ولكن، وبدلاً من ذلك، ولقسوة وجحود قلوبهم، فإن الناس، الذين لا تلمسهم النعمة الإلهية، ""يَذْخَرُونَ لأِنَفْسِهم غَضَباً فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ" ٦.

يا له من تعبير فخم: "يذّخرون" أو (يخزنون)، "غضباً في يوم الغضب"! وكم كان شديد الذكاء جواب تلك المرأة الملونة العجوز التي وُبِّخَت على حماقة إيمانها بـ "بحيرة النار والكبريت" لأنه "لا يمكن أن توجد كل تلك الكمية من الكبريت في مكان واحد" فأعلنت برزانة قائلة: "إن كل شخص يأخذ معه الكبريت الخاص به"! ها هي الحقيقة إذاً: كل متمردٍ أو عاصٍ على الله، كل خاطئ ضد النور، وكل منتهك لضميره ذاته، يحمل معه كبريته. إنه بذلك يقرر أو يصنع مصيره بنفسه.

أعتقد أن الأنسب هو أن نعتبر الآيات ٧- ١٥ معترضة، وليس فقط الآيات ١٣- ١٥. ففي هذه الآيات نجد مبادئ الدينونة التي ستجعل المعترضين يصمتون إلى الأبد، أولئك الذين يتهمون الله بعدم البر لأن البعض يتمتعون بالنور والامتيازات التي لا يحظى بها آخرون.

إن الدينونة ستكون "حسب الحق" و"حسب الأعمال". سيُدان الناس وفق النور الذي لديهم، وليس بحسب النور الذي لم يعرفوه البتة. والحياة الأبدية مقدمة لكل الذين "بالدأب المستمر يسعون بشكل حثيث إلى المجد، والشرف والفضيلة". (لاحظوا أنه ليس الخلود بل الفضيلة) والفرق بينهما شاسع رغم أن البعض يخلط بينهما أحياناً. إذا أردنا التحديد أكثر، فإننا نستطيع أن نرى أنه كان هناك ثمة عمل إلهي في النفس، ولكن أين نجد الإنسان الطبيعي الذي يعيش على هذا النحو؟ "وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ التَّحَزُّبِ وَلاَ يُطَاوِعُونَ لِلْحَقِّ بَلْ يُطَاوِعُونَ لِلإِثْمِ"، فسوف يُحكم عليهم في يوم الدينونة: "سَخَطٌ وَغَضَبٌ، شِدَّةٌ وَضِيقٌ عَلَى كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ الشَّرَّ"، سواء كان يهودياً ذي امتيازات أم يونانياً (أممياً) جاهلاً".

هذا لا يعني أن الله سوف يدين جميع الناس بدون تمييز، بل إن إشراقة النور المعطاة لهم سوف تكون المعيار الذي تقوم الدينونة على أساسه. لا أحد يمكنه أن يتذمر أو يشكو، لأنه إذا "تبع المرء الوميض" فسيجد نوراً كافياً ليرشد خطواته ويضمن خلاصه. وإن أدرك الناس، بنور الطبيعة، مسؤوليتهم نحو خالقهم، فإن الله سيتولى منحهم المزيد من النور إلى خلاص نفوسهم.

ليس لدى الله محاباة وجوه. فكلما زادت الامتيازات كبرت المسؤولية. ولكن حيث تكون الامتيازات قليلة نسبياً، فإنه لا يعتبر الجهّال أقل أهمية ويستحقون مشاعر حنو أقل مما يفعل نحو الذين تكون ظروفهم الخارجية أفضل في الظاهر.

"لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ النَّامُوسِ فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُ وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي النَّامُوسِ فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُ." ٧.ليس من مبدأ يمكن أن يكون سليماً أكثر من هذا. فالناس يُعتبرون مسؤولين عما يعرفونه، أو يمكن أن يعرفوه لو أرادوا. فلا يُدانون على جهلهم ما لم يكن الجهل هو نوع من الرفض المتعمد الإرادي للنور. "الناس يحبون العتمة أكثر من النور لأن أعمالهم شريرة".

إن الآيات الاعتراضية ٣- ١٥ تؤكد على المبدأ البسيط الذي تم وصفه بقوة للتو. الدينونة هي بحسب الأعمال. فأن تعرف الناموس وتخفق في إطاعته إنما يزيد من إدانتك. الذين يعملون وفق الناموس سوف يُبررون، إن كان لهم وجود. ولكن في موضع آخر نعلم أن الجميع ضالون مدانون، استناداً إلى وجهة النظر هذه، ""لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ" ٨. كان اليهودي يفتخر بأنه يمتلك مصادر الوحي الإلهي ويفكر بأن هذا يجعله متفوقاً على الأمميين حوله. ولكن الله لم يترك نفسه دون شاهد. ولهذه الأمم أعطى الله بآن معاً نور الضمير ونور الطبيعة. لقد أظهروا "عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم". لاحظوا أن عمل الناموس وليس الناموس هو المكتوب في قلوبهم. هذه ولادة جديدة، وهي بركة مميزة من العهد الجديد. إن كان الناموس مكتوباً هناك فإنهم يحققون برّه. ولكن عمل الناموس هو شيء مختلف تماماً. "الناموس ينشئ غضباً". إنه "مهمة الدينونة". والأمميون الذين لم يسمعوا بالشريعة السينائية لديهم حس الدينونة يقع عليهم عندما يمارسون انتهاكاً لإملاءات الضمير الذي زرعه الله في نفوسهم فهذا يشهد معهم أو ضدهم- "متهمين أو مبررين أحدهما للآخر". إنه دليل اختباري على أن المسؤولية ملقاة على عاتقهم وأن الله سيكون عادلاً في دينونتهم في ذلك اليوم الجليل عندما سيتربع يسوع المسيح الإنسان على عرش كرسي القضاء المهيب للعصور ويجلو الدوافع الخفية والعوامل الكامنة وراء السلوك. وعن هذه يقول بولس "بحسب إنجيلي". فيعلن أن المصلوب سيجلس على العرش في جلسة الحكم العظيمة الأخيرة. "لأَنَّهُ (الله) أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ" (أعمال ١٧: ٣١).

بكل هذه الأمور كتب الرسول، مظهراً إثم وانحلال الأمميين، سواء كانوا برابرة همجيين أم متمدنين جداً، ومفترضاً أن على اليهود أن يكونوا على توافق تام. لقد كانوا "بلا قيمة" ٩خارج العهد الإبراهيمي، "وأجانب أو غرباء بالنسبة لجماعة إسرائيل". فكانت دينونتهم عادلة، لأنهم كانوا أعداء الله وشعبه المختار. ولكن الأمر كان مختلفاً مع العبرانيين. لقد كانوا مختارين من قبل الله، كانوا النسل المختار الذي أعطاه الله ناموسه المقدس وأيدهم بعلامات وافرة من عنايته الخاصة. هذا ما فكروا فيه، متناسين أن امتلاكهم للعقيدة الصحيحة لا ينفع إذا كان البر العملي مهملاً أو مستخفاً به.

وفجأة نجد بولس الرسول يستدعي الصدوقيين الدنيويين المتكبرين والفريسيين الراضين عن أنفسهم إلى القضاء، ويواصل على نحو مطرد توجيه الاتهام لهم بالموازاة مع الأمميين المستخفين. الآيات ١٧- ١٩ تظهر لنا استجواب الشعب المختار.

"هُوَذَا أَنْتَ تُسَمَّى يَهُودِيّاً وَتَتَّكِلُ عَلَى النَّامُوسِ وَتَفْتَخِرُ بِاللَّهِ وَتَعْرِفُ مَشِيئَتَهُ وَتُمَيِّزُ الأُمُورَ الْمُتَخَالِفَةَ مُتَعَلِّماً مِنَ النَّامُوسِ. وَتَثِقُ أَنَّكَ قَائِدٌ لِلْعُمْيَانِ وَنُورٌ لِلَّذِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَمُهَذِّبٌ لِلأَغْبِيَاءِ وَمُعَلِّمٌ لِلأَطْفَالِ وَلَكَ صُورَةُ الْعِلْمِ وَالْحَقِّ فِي النَّامُوسِ" (٢: ١٧- ٢٠). في هذه الفقرات الدالة على البراعة يلخص بولس كل مزاعمهم. وعندما أقول (مزاعم)، فأنا لا أقصد (إدعاءات). فتلك كانت الأشياء التي كانوا يتفاخرون بها وكانت حقيقية إلى حد كبير. فقد أعلن الله نفسه لهذا الشعب دون سواه، ولكنهم كانوا مخطئين في اعتقادهم أن هذا يعفيهم من الدينونة إن لم يحفظوا عهده. كان قد قال لهم قبل زمان طويل: "إياكُمْ فقطْ عرفْتُ من جميعِ قبائِلِ الأرضِ لذلكَ أُعاقِبُكُمْ على جميعِ ذُنوبِكُمْ" (عاموس ٣: ٢)

الامتياز يزيد المسؤولية. ولكنه لا يلغيها، كما كانوا يعتقدون. إن معرفة الأقوال النبوية الإلهية وضعت اليهود تحت مقياس للدينونة لم يُوضع تحته أحد. ولذلك فكم بالحري يجب أن تكون حياتهم أكثر قداسة بكثير من غيرهم! هل كان الإسرائيليون آنذاك أناساً أكثر براً وصلاحاً من الأمم المحيطة بهم؟ على العكس، لقد أخفقوا أكثر بكثير من أولئك الذين كان لديهم نور أقل وميزات أقل.

من الواضح والمؤكد أن روح الله يستجلي حقيقة حالتهم، وذلك من خلال أسئلة أربعة كافية لتسبر أغوار قلوبهم وتعرّي خطايا حياتهم المخفية. "فَأَنْتَ إِذاً الَّذِي تُعَلِّمُ غَيْرَكَ أَلَسْتَ تُعَلِّمُ نَفْسَكَ؟" إنك موضع ثقة حتى أنك قادر على أن تعلّم الجاهل، فهل انتبهتَ إلى التعليم المعطى في الناموس؟ ليس من جواب.

""الَّذِي تَكْرِزُ أَنْ لاَ يُسْرَقَ أَتَسْرِقُ؟" في كل أرجاء العالم القديم كان اليهودي يُنظر إليه كاللص الماكر الذي يستخدم كل وسيلة ماكرة يعرفها مقرضوا المال والمرابين ليجرّد عملاءه من ثروتهم. والحق يُقال، أن الأممي، بدافع اليأس والقنوط، كان يضع نفسه طوعياً في قبضة المسترهن اليهودي، ولكنه كان يعلم أنه بذلك إنما يتعامل مع شخص ليس لديه ذرة من الشفقة أو العطف نحو مدين فقير مُعوز وخاصة عندما يكون المدين أممياً نكرةً مكروهاً ومحتَقراً. وهنا أيضاً لا يردّ اليهودي على هذا السؤال.

"الَّذِي تَقُولُ أَنْ لاَ يُزْنَى أَتَزْنِي؟" الفِسْقُ من النوع المميت لم يكن إثماً غير مألوف في إسرائيل، كما تُظهر الكتابات المقدسة ويشهد التاريخ. إن الشر هو في ذات طبيعة الإنسان. ومن القلب ينبع الزنا والفسوق، والدعارة، وكل بذاءة. من هذا المنطلق يكون اليهودي مذنباً مثله مثل جاره الأممي. وهنا أيضاً ليس من رد.

ولعل التهجم الأشد لهجة هو في السؤال الأخير. ""الَّذِي تَسْتَكْرِهُ الأَوْثَانَ أَتَسْرِقُ الْهَيَاكِلَ؟" إن الكلمة المترجمة بـ "تسرق الهياكل" تعني في الواقع "تتاجر بالهياكل". وكان هذا إثماً يرتكبه اليهودي بشكل كبير. فرغم أنه كان يمقت الأصنام، إلا أنه كان غالباً ما يأخذ دور الوسيط الذي يساهم في التخلص من تماثيل الأوثان المسروقة من المعابد على يد أناس يقومون بنهب المعابد مع أولئك المستعدون لشرائها في مناطق أخرى. بل حتى كان اليهودي يُتّهم بنهبه للمعابد بطريقة منظمة ثم بيع الأصنام. كان البائع في أفسس على علم بهذه الأمور عندما قال: "لأَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَهُمَا لَيْسَا سَارِقَيْ هَيَاكِلَ (يقول هياكل وليس كنائس) وَلاَ مُجَدِّفَيْنِ عَلَى إِلَهَتِكُمْ" (أع١٩: ٣٧). فكان هذا إذاً ذنباً محلياً، يكشف بآن معاً الشخصية المنافقة للرجل الذي يدّعي بغض الوثنية وكل أعمالها، ومع ذلك لم يكن ليرفض الاستفادة مادياً على حساب عابدي الأوثان بطريقة تخلو كلياً من النـزّاهة.

وهنا يأتي الرسول إلى الاتهام الكبير التالي: "إَنَّ اسْمَ اللهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ" (الآية ٢٤). هذا ما أعلنه أنبياؤهم أنفسهم، وهو هنا يركز على ما تؤكد عليه كتبهم المقدسة وضمائرهم.

أن يؤمنوا بالختان، علامة العهد مع إبراهيم، في حين يسلكون بطريقة شهوانية دنيوية إنما يخدعون أنفسهم بذلك. الطقوس لا تنفع إذا كانوا يتجاهلون فحوى ومعنى هذه الطقوس. وإن الأممي غير المختون، إذا سار أمام الله في البرّ، سيعتبر مختوناً، في حين أن علامة العهد على جسد اليهودي سوف تؤدي فقط إلى زيادة إدانته إذا ما كان يعيش بخلاف الناموس.

إنها لحقيقة تهمّ الله. اليهودي الحقيقي (و"اليهودي" هي اختصار مستمد من "يهوذا" ويعني "المديح") هو ليس هكذا بالولادة الطبيعية وحسب، أو بالامتثال الخارجي الظاهري للطقوس والشعائر، بل هو المختون بالقلب الذي أدان إثمه أمام الرب، والذي يسعى الآن لأن يسلك وفق إرادة الله المعلنة. "الَّذِي مَدْحُهُ (لاحظ التلاعب باللفظ على كلمة يهودي) لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللهِ" (من الآيات ٢٦-٢٩ (

في (٣: ١- ٢٠) لدينا الاتهام الكبير، وتلخيص لكل ما سبق. ليس هناك تمييز أخلاقي بين اليهودي والأممي. فالكل محرومون من البر. والجميع محتجزون للدينونة، ما لم يكن لدى الله بر ذاتي يوفره لهم.

أن يكون لليهود مزايا معينة على الأمميين أمر مسلمٌ به كدليل قائم بذاته، ومن بين هذه المزايا هو استحواذهم على الكتابات المقدسة، أقوال الله النبوية. ولكن هذه الكتابات المقدسة نفسها تجعل إثمهم أكثر وضوحاً. وحتى لو لم يكن لديهم في الحقيقة إيمان بهذه الكتابات المقدسة ومع ذلك فإن عدم إيمانهم لا يمكن أن يُبطِلَ أمانة الله. فهو سوف يفي بوعده حتى لو لجأ إلى تنحية الشعب الذي اختاره لنفسه. لابد أن يكون صادقاً رغم أن الآخرين جميعاً يظهرون العكس. وفي دينونته سيحفظ بره، كما أقرّ داود في المزمور ٥١ (الآيات١- ٤).

فهل إثم الإنسان هو فقط إعداد للطريقة التي يُظهر بها الله برّه، وهل هذا ضروري في هذه الحالة؟ إن كان الأمر كذلك، فالخطيئة إذاً هي جزء من المخطط الإلهي ولا يمكن اعتبار الإنسان عُرضةً للمحاسبة أو المساءلة. ولكن هذه الفكرة يدحضها بولس الرسول بسخط. فالله عادلٌ. وسوف يدين البشر على خطاياهم بالبر. وما كان لهذا أن يكون لو كانت الخطيئة قد سبق تعيينها وتقريرها. إن كان هذا الأمر حقيقياً فإنه سيكون للإنسان الحق لأن يعترض قائلاً: "إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟" ومن هنا فإن ما تناقله البعض بافتراء على أنه تعاليم بولس قائلين: "لِنَفْعَلِ السَّيِّآتِ لِكَيْ تَأْتِيَ الْخَيْرَاتُ" يكون صحيحاً إذاً. ولكن كل من يدافع عن هذا الرأي إنما يُظهر ضعف الحس الأخلاقي لديه. وإن إدانتهم عادلة وواجبة.

بعد ذلك نجد في الآيات ٩- ٢٠ حكم المحلّفين الإلهي على الجنس البشري برمته. فليس اليهودي بأفضل من الأممي. فالجميع سواسية تحت الخطيئة- بمعنى أنهم عبيد لها. وهذا ما يؤكده العهد القديم. وكمحامٍ محترف بارع يورد بولس الحجة تلو الأخرى ليدعم قضيته. وإن الاقتباسات في معظمها هي من المزامير، وواحدة منها من أقوال النبي اشعياء (انظر المزامير ١٤: ١-٣؛ ٥٣: ١- ٣؛ ٥: ٩؛ ١٤٠: ٣؛ ١٠: ٧؛ واشعياء ٩٥: ٧، ٨؛ والمزمور٣٦: ١). وفي هذه شهادات ما كان اليهودي قادراً على دحضها، وهي آتية من كتابه المقدس المسلم به ذاته. هناك أربعة عشر جلسة محاكمة واضحة في مرافعة الإدعاء هذه أو خلاصة الأدلة.

  1. "ما من صالح، لا، ولا واحد". فالجميع أخفق في أمر ما.
  2. "ما من أحد يفهم". فالجميع صاروا جاهلين عن عمد.
  3. "لا أحد يطلب الله". والكل يسعون وراء ذواتهم.
  4. "الجميع ضلوا سواء السبيل". لقد أداروا ظهورهم للحق عن عمد.
  5. "أصبحوا جميعاً لا نفع فيهم". فقد أنكروا الله بدل أن يمجدوه.
  6. "لا أحد يعمل الصلاح، لا، ولا واحد". فممارساتهم شريرة. ولا يتبعون الصلاح.
  7. "حنجرتهم قبر مفتوح" وذلك بسبب الفساد في داخلهم.
  8. "بألسنتهم لجأوا إلى الكذب". فالكذب والخداع يميزهم.
  9. "سمّ الأفاعي تحت شفاههم". إنه السم الذي أُدخل إلى نفس طبيعة الإنسان عن طريق "الأفعى القديمة، إبليس والشيطان" منذ البدء.
  10. "فمهم ممتلئ لعنةً ومرارةً لأنه "من فضلة القلب يتحدث الفم".
  11. "أقدامهم سريعة إلى سفك الدماء". والكراهية تنتج جريمة، ويا للأسف، كم هي كثيرة المظاهر التي تتبدى فيها الجريمة.
  12. "الدمار والبؤس في طريقهم" لأنهم نسيوا الله مصدر الحياة والبركة.
  13. "لم يعرفوا طريق السلام" لأنهم اختاروا عن قصد طرق الموت.
  14. "ليست مخافة الرب أمام أعينهم". لذلك ليس فيهم حكمة.

هل يستطيع أحد أن يستأنف قائلاً "ليس مذنباً" (أي بريئاً) إزاء كل هذه التهم؟ إن كان كذلك، فليتحدث. ولكن ما من أحد يستطيع بصدق أن يفعل ذلك. ولذلك يأتي بولس الرسول إلى الاستنتاج قائلاً: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ النَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ الَّذِينَ فِي النَّامُوسِ لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ" (الآيتان ١٩ و ٢٠).

وهوذا الله يقول من جديد، كما في أيام نوح: "نهاية كل ذي جسدٍ أن يأتي أمامي"، "الَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ". "الجسد لا ينفع شيئاً". يا لبطء إدراكنا وتعلمنا لذلك! وكم يصعب على الإنسان الطبيعي أن يتخلى عن كل إدعاء بالبر وأن يخرّ راكعاً في رمال دنيوية الذات والتوبة أمام الله، ليكتشف فقط آنذاك أن هذا هو نفس المكان الذي تنسكب فيه النعمة عليه.

لقد أُعطي الناموس لشعب معين كما رأينا. وهم وحدهم كانوا "تحت الناموس". ولم يكن الأمميون هكذا، وها قد أخبرنا بولس لتوه في (٢: ١٢- ١٤) كيف أن فشل أولئك الذين كانوا آنذاك تحت الناموس قد جعل العالم كله يقف مذنباً أمام الله. لربما يساعدنا الإيضاح التالي في فهم المسألة أكثر. كان ثمة رجل يملك مربى ماشية في البرية بحجم كبير. فقيل له أنه لا ينفع كمرعى للماشية أو أرض زراعية. ولذلك يُسَيّج اثنتي عشر أَكْراً، ويحرثها، ويمهد التربة فيها، ويسمّدها، ويبذرها، يفلحها، ويحصد القَصْعين والصبار فقط. ليس من فائدة تُرجى في أن يحاول العمل في بقية الأرض، إذ أن لها جميعاً نفس المواصفات. فيقول أنها لا تنفع لشيء في الزراعة هذا من وجهة نظر علم الزراعة. كانت إسرائيل هي الأكرات الاثني عشر لله. أعطاهم ناموسه، وأرشدهم، وأدبّهم، وحذرهم، وكبح جماحهم، وحماهم، وأرسل لهم ابنه، فرفضوه وصلبوه. واشترك الأمميون في هذا الفعل. فجميعهم تحت دينونة الله. فلا فائدة من امتحانات أخرى. ليس في الجسد شيء من الله. الإنسان فاسد للغاية. وليس هو بمذنب أثيم وحسب، بل عاجز تماماً عن استرجاع أو إصلاح حالته. لقد أثبت الناموس ذنبه. ولا يمكنه تبرئة هذا الذنب، بل يدينه فقط.

كم هي بائسة وباعثة على اليأس هذه الصورة! ولكنها الخلفية القاتمة التي سيُظهر الله عليها غنى نعمته في المسيح يسوع.


١. (رومية١: ١٩).

٢. (رومية١: ٢٠).

٣. (رومية١: ٣٢)

٤. (رومية٢: ١).

٥. (رومية٢: ٣، ٤).

٦. (رومية٢: ٥، ٦).

٧. (رومية٢: ١٢)

٨. (رومية٣: ٢٠)

٩. "بلا قيمة": الكلمة التي يستخدمها Ironside هنا هي التعبير "dogs ".

المحاضرة ٤

الإنجيل وخطايانا

(٣: ٢١- ٥: ١١)

بشعور بالارتياح الكبير ننتقل من القصة الحزينة لخطيئة الإنسان وخزيه لنتأمل في النعمة العجيبة لله كما يظهرها لنا الإنجيل، والتي فيها العلاج من الدمار الذي نتج عن السقوط. وهذا الإعلان للبشرى السارة يقع في جزأين: فيظهر أولاً الإنجيل وهو يتناول موضوع خطايانا: ثم، وعندما تتم تسوية هذه المسألة المتعلقة بخطايانا، يأتي مبدأ الخطيئة في أن الخطيئة هي في الجسد، أي في الذهن الجسداني الشهواني الذي يسيطر على الإنسان غير المخلَّص وغير المتجدد. الموضوع الأول تم بحثه في القسم (٣: ٢١- ٥: ١١)، وهذا الموضوع التالي سنناقشه الآن.

يقول كاتب الرسالة: "وأما الآن" ١ . وهذا يوحي بتغيير مقصود في موضوع الحديث. أما الآن وقد صار الإنسان مكشوفاً كلياً، فإن الله سيُعلن. أما الآن وقد ثبت بالبرهان إثم كل البشر "يظهر برّ الله". في القديم كان يرد القول: "سأُظهر برّي". وهذا البر لا يُقصد به البر المكتمل المعترف به، لأن هذا النوع من البر ما كان الإنسان قادراً على أن يحصل عليه من الله. إنه برّ "بدون الناموس"، أي أنه مستقل تماماً عن أي مبدأ بالطاعة البشرية للشريعة الأخلاقية الإلهية التي رسمها الله. إنه بر الله للإنسان الآثم، ولا يستند إلى استحقاق بشري باستحواذه.

إن برّ الله تعبير ذو معنى كبير واسع. وهنا يعني بر الله الذي يتخذ به الله موقفاً مثالياً بالنسبة للناس المذنبين يجعل الله نفسه مسؤولاً عنه. فإن خَلَصَ الناس أبداً فهذا سيكون في البر. ولكن الإنسان محروم كلياً من هذا. ولذلك لابد أن يجد طريقة يحقق فيها مطلب عرشه العادل، وفي نفس الوقت يبرر الخطأة الآثمين من كل شيء. إن طبيعته ذاتها تتطلب ألا يكون ذلك على حساب البرّ بل في انسجام كامل معه.

وهذا ما كان يجول في فكر الله منذ البدء. إنه "مشهودٌ له". أو يتضمن شهادة "من الناموس والأنبياء". فيصوره موسى بأشكال عديدة من الجمال الأخّاذ. وإن أغطية الجلد الذي أُلبِسَ لجدينا الأولين، والأضاحي المقبولة بالنيابة عن مقدميها، ورمز خيمة الإجتماع العظيم، كل هذا يدلنا على قصة البر الذي وهبه الله للخاطئ الفاجر الذي يؤمن به. الأنبياء أيضاً تناولوا نفس القصة. وتنبأوا عن مجيء البار الذي سيتوجب عليه أن يموت لكي يقرّب الأثمة إلى الله. لقد هتف داود صارخاً: "خلّصني في برك" و"انضحني بالزوفى فأطهر. اغسلني فأَبْيَضَّ أكثر من الثلج". ويقول إشعياء: "لقد أَلْبَسَنا كساء الخلاص في ثوب البر"، لأن "تأديب سلامنا عليه" ذاك الذي "جُرحَ لأجل معاصينا". ويقول إرميا: "هذا هو اسمه الذي سيُدعى به، إله برّنا". وكان الوعد لحزقيال: "سأنقذك من كل آثامك". وتنبأ الملاك جبرائيل لدانيال بإقامة "المصالحة لأجل الآثام" وتحقيق "البر الذي لا انقضاء له". ويتناول من يُدعون بـ (الأنبياء الصغار) نفس الموضوع، وكل شيء يشير مسبقاً إلى الآتي الذي به سيتم الخلاص يقيناً لجميع الذين يتوبون؛ فعبد يهوه الذي سيصبح الراعي المتألم لفداء الإنسان "لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا»" (أعمال ١٠: ٤٣).

إن بر الله هو بر "بالإيمان". وليس "بالأعمال". والإيمان هو الثقة بكلمة الله ووعده. ولذلك فقد أرسل الرسالة إلى الإنسان لكي يؤمن بها. إنه عرض البر الموثوق الذي لا يرقى إليه الشك للجميع، ولكنه فقط لكل الذين يؤمنون. هناك سؤال يتعلق بالنص الذي نقرأه هنا. فبعض المحررين يرفضون عبارة "لكل". ولكن ليس هناك شك في الحقيقة الضمنية التي يدل عليها هذا التعبير. فإن الله يقدم البر مجاناً للجميع. وهذا يشمل كل الذين يؤمنون وهم وحدهم فقط. فالجميع بحاجة لهذا البر على حد سواء، لأن الجميع أخطأوا. وليس من خلاف حول هذه النقطة. لم يصل إنسانٌ إلى الكمال. بل الجميع أعوزهم مجد الله. ولكنه لا يبحث عن أهلية الإنسان. بل يمنح بره عطية مجانية. ولذلك نقرأ: "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ"(الآية ٢٤).

أن نتبرّر يعني أن نُعلَن أبراراً. إنه حكم القاضي الصادر بحق السجين. إنه ليس حالة أو وضعاً للنفس. نحن نتبرّر لأننا نصبح أبراراً في قلبنا وحياتنا. والله يبررنا أولاً، ثم يمكّن المتبرر من السلوك في البر العملي. إننا متبررون مجاناً، أي "بلا ثمن". وبنفس المعنى تأتي الآية في (يوحنا١٥: ٢٥): "لقد أبغضوني دون سبب". لم يكن من شر أو إثم في طرق أو حياة يسوع، حتى يكرهه الناس. لقد أبغضوه بلا سبب. ولذلك فليس في الإنسان خير أو صلاح حتى يبرره الله لأجله. إنه يتبرّر مجاناً، بدون سبب، عندما يؤمن بيسوع.

ويكون هذا "بالنعمة". والنعمة ليست منّة لا نستحقها وحسب بل النعمة امتياز نحصل عليه رغم عدم استحقاقنا. إنه صلاح الله، ليس فقط نحو البشر الذين فعلوا أو يمكنهم أن يفعلوا ما يجعلهم يستحقونه، بل إنه هبة تقدم للناس الذين يستحقون عكس ذلك بالأحرى، فـ "حَيْثُ كَثُرَتِ الْخَطِيَّةُ ازْدَادَتِ النِّعْمَةُ جِدّاً".

"النعمة تسود على الخطيئة
والأرواح المفتداة تترنم بهذا النبأ السار.
فإنها عميقة لا يُعرف غورها.
ولا يدرك طولها وعرضها.
وفي مجـــدها
لتسكن روحي إلى الأبد".

إذاً حتى يظهر الله النعمة في البر على نحو لا يمكن إنكاره باعتراف جميع الخطأة المدانين، لابد أن يكون لدى الله مبدأ عادل ومرضي. فالخطيئة لا يمكن إغفالها. ويجب التكفير عنها. وهذا تحقق "بالفداء الذي بيسوع المسيح". والفداء هو شراء ما سبق أن بيْعَ. لقد خسر الإنسان حياته بسبب طرقه المعوجة. فبيْعَ تحت الدينونة. والمسيح القدوس- الإله والإنسان في أقنوم واحد ممَجدٍ، والذي لم يرتكب خطيئة أو معصية- أخذ مكان المتمرد العاصي الأثيم، ودفع الجزاء كاملاً، محرراً بذلك الخاطئ الذي يؤمن من الغضب واللعنة التي باع نفسه لهما.

"حمل على عود الصليب العقاب عني
ضامناً ومحرراً إياي أنا الخاطئ الأثيم".

وذاك الذي مات يحيا من جديد وهو نفسه الكفارة الأبدية- وبالتحديد عرش الرحمة، المكان الذي يستطيع الله أن يلاقي فيه الإنسان بدم المسيح الكفاري- المتاح لكل من يؤمن. يشير الرسول بولس بوضوح إلى عرش الرحمة المرشوش بالدم على تابوت العهد في العهد القديم. حيث داخل التابوت توجد ألواح الناموس. وفوق الكروبيم "العدل والحق" قاعدة كرسي عرش الله. وهي جاهزة، كما على الدوام، للانتقال من ذلك العرش لتحقيق غضب الله العادل على من دنّس قدسية ناموسه. ولكن رُشّ على عرش الرحمة الدم الذي يرمز إلى ذبيحة الصليب. وهكذا تم إيفاء العدل والحق. "الرحمة تفرح بالحق" لأن الله نفسه أوجد الفداء.

إلى أن تألم الرب يسوع عن الخطايا، ذاك البار الذي تألم عن الأثيم، لكي يأتي بنا إلى الله، لم تكن مسألة الخطية قد حسمت بعد حقيقةً. "إذ ما كان ممكناً لدماء الثيران والمعز أن تمحو الخطايا". ولذلك فإن قديسي العهد القديم كانوا قد خلصوا جميعاً "بالدَّيْن"، كما نقول. أما الآن وقد مات المسيح فقد تم إغلاق الحساب وتسوية الأمر، ويعلن الله بره بالنسبة للخطايا المعلقة في العصور الماضية عندما كان الناس يتحولون إليه بالإيمان. وبالتالي فإن المقصود في (الآية ٢٥) ليس خطايانا السالفة، بل هي خطايا المؤمنين في الزمن الذي سبق الصليب. وها هو الله الآن حيث أن العمل قد اكتمل- يعلن برّه. إذ أظهر كيف يمكنه أن يكون عادلاً ويبرر الخطأة الفجّار الذين يبلغون إلى الإيمان بيسوع. وهذا لا يترك مجالاً للافتخار بدور الإنسان، بل على العكس يجعل المرء يشعر بالخزي والندم لدى رؤية الثمن الباهظ الذي دفعه المخلص عن خطايانا، كما ويجعلنا نمتلئ مديحاً بهيجاً إذ نتأمل في النعمة التي عمَلَت بشكل رائع عجيب لأجلنا. إن الاستحقاق البشري يبقى خارج لب هذه القضية. فالخلاص بالنعمة بالإيمان. "إِذاً نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ". وهذا ينطبق إذاً على الأمميين الذين لا ناموس لهم كما على اليهود متعديي الناموس. فنفس الخبر السار يعم الجميع. فذاك الذي هو خالق الكل قد صفح عن الجميع، فسيبررُ المختون، ليس بالطقوس، بل بالإيمان، وأيضاً الأممي الأغرل على نفس المنوال.

هل في هذا إبطال أو تجاهل للناموس؟ لا على الإطلاق. فالناموس كان يدين من ينتهكه ويطالب بالانتقام من الفاعل. ولهذا وُلدَ المسيح، لكي يرفع سلطان الشريعة، ويخلّص أيضاً الخاطئين.

"فعلى المسيح ألقى القدير وِزْرَ الانتقام،
ذاك الذي دكّ أسافل الجحيم،
فحمله عن جماعةٍ مُصْطَفين،
وصار ملاذاً للاجئين".

في الإصحاح الرابع يتابع الرسول بولس الحديث مُظهراً، من خلال إبراهيم وداود كيف أن كل ذلك قد شهد له الناموس والأنبياء. الاستشهاد بإبراهيم مأخوذ من التوراة، كتب الناموس؛ وداود من المزامير، وهذه مرتبطة بالأنبياء.

فماذا نرى في إبراهيم إذاً؟ هل كان مبرراً أمام الله بأعماله؟ إن كان الأمر كذلك فإنه كان ليفخر بذلك، إذ أنه يكون قد استحق بجدارة التأييد والقبول من الله. ولكن ماذا يقول الكتاب المقدس؟ في (تك١٥: ٦) نقرأ: "«فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً»". هذا هو نفس المبدأ الذي ما برح بولس يركز عليه ويشرحه بوضوح.

أن تنال الخلاص بالأعمال يعني أن تضع الله في قبضتك. وسيكون الفضل في ذلك للعامل الناجح الذي خلّصك. وهذا نقيض النعمة، التي هي رحمة يفيض بها الله على "الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ". فإيمانه هو الذي يُحسب له برّاً. وعلى هذا يشهد إبراهيم. ونسمع داود يشيد بمدح وسعادة الإنسان الذي يحسب الله له براً بدون أعمال، إذ يهتف في المزمور ٣٢ قائلاً: "«طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً»". في هذا المزمور، الكلمة العبرية المستخدمة "سُتِرَتْ" تعني "كُفّر عنها". هذه هي بشرى الإنجيل. التكفير قد تم. ولذلك فإن الله لا يحسب خطيئة لمن يؤمن بابنه، بل بالحري يحسب له براً.

أطلق لوثر على المزمور ٣٢ "المزمور البولسي". فهو يعلّم من دون ريب نفس العقيدة المجيدة للتبرير بمعزل عن الاستحقاق البشري. فعدم احتساب الخطيئة مساوٍ لاحتساب البر. ونعلم عن أغسطينُس أسقف هيبو ٢ أن هذه الكلمات كانت مكتوبة على لوحة وقد وضعت عند حذاء سريره حيث كان يستطيع رؤيتها بعينيه المحتضرتين. ولآلاف مؤلفة من الناس كان لهذه الكلمات وقع جميل في النفس بالغبطة والسلام، إذ يدرك المرء من خلالها أن الآثام مغفورة والخطايا مكفرٌ عنها، كما كانت تعني فعلاً الكلمة العبرية في العهد القديم التي تُرجمت بـ "سُتِرَتْ".

هذه السعادة المُنعم عليها من الله ليست لقلةٍ مختارة فقط، بل هي مجانية للجميع. لقد حُسِبَ الإيمان لإبراهيم براً عندما كان على أرض الأمميين قبل أن يُوضع الختان كعلامة العهد على جسده. لقد كانت حقاً علامة على ما كان حقيقياً منذ ذاك الوقت، تماماً كما هو الحال في المعمودية المسيحية. فلأنه تبرّر فقد أُمر بأن يختتن. وفي العصور التي تلت اعتبار اليهود هذه العلامة على أنها أكثر أهمية من الختان، كان الناس يمجّدون للغاية المرئيات على حساب اللامنظورات.

إن إبراهيم يُدعى "أبو الختان" لأنه من خلاله بدأ هذا الطقس. ولكنه أبٌ ليس فقط لأولئك الذين في الختان بكل معنى الكلمة بل لكل من ليس لهم إيمان بالجسد، أولئك الذين أدانوا الجسد لأنه ضعيف وعديم النفع، والذين يؤمنون، مثله، بالإله الحي.

وإن الوعد له بأنه سيكون وارثاً للعالم لم يُعْطَ له "بالناموس" أي أنه لم يكن مكافأة قد نالها بجدارة، شيئاً قد ناله بالطاعة. لقد كان على أساس النعمة الجليلة. ولذلك فإن برّه مثل برنا إذا ما آمنا، هو "بر بالإيمان". وإن وارثي الموعد هم أولئك الذين يتقبلونه بنفس الإيمان، وإلا سيكون باطلاً تماماً. لقد كان وعداً غير مشروط.

لقد وعد الناموس بالبركة مقابل الطاعة وأعلن الدينونة على العصيان. لم يحافظ أحد عليه. ولذلك فإن "الناموس ينشئ غضباً". يمكنه أن يسبب لعنة. ويمكن أن يمنع البركة. إنه يزيد حدة الخطيئة إذ يعطيها صفة التعدي، جاعلاً منها انتهاكاً متعمداً للناموس المعروف. ولم يكن ليشكل وسيلة لاكتساب ما أُعطي مجاناً.

إن الوعد بالبركة عبر النسل- الذي هو المسيح- هو بالإيمان الذي يكون بالنعمة. ولذلك فهو "مؤكد مضمون" لجميع النسل، أي لمن هم من الإيمان. كل هؤلاء هم "من إيمان إبراهيم". ولذلك فهو أبٌ لجميعنا، نحن الذين نؤمن بيسوع. وهكذا تحقق الوعد كما كُتب: "«إِنِّي قَدْ جَعَلْتُكَ أَباً لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ»". وهذا يأتي كجملة معترضة. وعلى الأرجح أن الكلمات "قبلَ ذاك الذي آمن به" تأتي بعد الكلمات "هو أبٌ لجميعنا". بمعنى آخر، إن إبراهيم، ورغم أنه ليس أباً لنا بالولادة الطبيعية بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أنه أبٌ لكل الذين يؤمنون، في نظر الله. فالإيمان نفسه يميّز الجميع.

إن الله هو إله القيامة. إنه يعمل عندما تكون الطبيعة لا حول لها ولا قوة. لقد عمل هكذا مع إبراهيم وسارة. فقد كانا كلاهما قد تجاوزا الزمن القادران فيه على الإنجاب الطبيعي. وعمل هكذا أيضاً عندما أقام المسيح، النسل الحقيقي، أولاً بإحضاره إلى العالم بخلاف الطبيعة، من أم عذراء، وثانياً بإقامته من بين الأموات. لقد آمن إبراهيم بإله القيامة، ولم ينتابه الشك أبداً بالوعد الإلهي رغم أن تحقيق ذلك كان يبدو مستحيلاً. وإن الله يُسرّ بالمعجزات. فما يَعد به يصنعه. وباقتناع كامل بذلك آمن إبراهيم بالله وحسب له هذا براً. بنفس الطريقة نحن مدعوون لنؤمن بذاك الذي أقام ربنا يسوع من الموت- ذاك الذي بنعمته اللامتناهية، سُلِّم إلى الموت ليصنع فداء عن معاصينا وآثامنا، والذي، بإكماله لعمله هذا لمسّرة الله، أُقيمَ من الموت لتبريرنا. فقيامته هي الدليل على رضى الله. فقد تم استرضاء العدالة الإلهية. وحُفظت قداسة الله. وأُرسي الناموس. وبذلك أُعلن الخاطئ المؤمن مبرّراً من كل إثم. هذا ما يشهد به الإصحاح الرابع.

في الآيات الإحدى عشر الأولى من الإصحاح الخامس لدينا تلخيص رائع يصل بنا إلى هذا الجانب من الموضوع. "فإذ"، أي نظراً إلى كل ما تم إثباته بشكل واضح وأكيد، "قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ، لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". يصيغها البعض على النحو التالي: "ليكن لنا سلامٌ". ولكن هذا يُضعف قوة الفكرة بأكملها. فالسلام، هنا، ليس حالة الفكر أو القلب. بل هو وضع سائد بين شخصين كانا متخاصمين متنافرين. إن الخطيئة زعزعت العلاقة بين الخالق والمخلوق. وحدث شَرْخٌ لم يستطع الإنسان أن يصلحه. ولكن حَلّ السلام بدم المسيح على الصليب. وما عاد هناك عائق أو حاجز. فالسلام مع الله هو حالة راسخة يدخل إليها كل مؤمن. لقد تمت تسوية مسألة الخطيئة. إن كانت هناك أمتان متحاربتان فلن يكون هناك سلام. ولكن إذا تحقق السلام تزول الحرب. "إذ يقول الله ليس من سلامٍ للشرير". "ولكن المسيح صنع السلام". نعم "إنه سلامنا". نحن نؤمن بذلك، ولنا سلام مع الله.

ربما يقول أحدنا: "لنَنعَم بالسلام مع الله". ولكن القول "ليكن لنا سلام مع الله" كلام غير منطقي في ظاهره. إن لنا السلام. إنه أمرٌ مؤكد ثابت وراسخ. لقد صنعه لنا، هو بنفسه وليس نحن.

"فعلى المسيح ألقى القدير وِزْرَ الانتقام،
ذاك الذي دكّ أسافل الجحيم،
"إنه السلام الأبدي،
الأكيد كاسم الله الكائن،
إنه ثابت ككرسي عرشه،
ولن يزول إلى الأبد.
محبتي ضحلة على الدوام،
وفرحي بين مد وجزر،
ولكن السلام معه يبقى ولا يتحول،
فالكائن لا يعرف تبدلاً.
أنا أتحول، أما هو فلا يتبدل،
ولا يمكن لمسيحي أن يموت أبداً،
فالصداقة التي وُقِّعَتْ بالدم لا تتحول،
وحقّه هو، إلاّي، راسخ".

إن "سلام الله" أمرُ آخر، كما في (فيلبي ٤: ٦، ٧). فهذا يمكن اختباره. إنه النصيب الثابت الدائم لكل الذين يتعلمون أن يلقوا عليه كل همهم وهو الطويل الأناة الذي يحمل أعباءهم ويريحهم.

لكي ندرك هذا التمييز ونفهمه حقاً بالإيمان هو أمر بالغ الأهمية. إلى أن تدرك النفس أن السلام المتأتي من دم صليبه هو أبدي راسخ لا زعزعة فيه، وحتى لو كانت خبرة المرء مختلفة عن ذلك بسبب إخفاق شخصي أو نقص الإيمان الملائم، سوف لن يكون هناك يقين عند المرء بخلاصه النهائي.

ولكن معرفتي بأن هذا السلام المستند، ليس على أساس مزاجي أو شاعري، بل انعتاقي من الخطيئة الذي تم إنجازه، تجعل لدي دخولاً واعياً بالإيمان إلى هذه النعمة التي فيها أنا مقيم. أنا أقيم في النعمة؛ وليس في استحقاقي الشخصي. لقد خلصت بالنعمة. وأستمر قدماً في النعمة. وسأتمجد بالنعمة. الخلاص من البداية إلى النهاية إجمالياً هو من الله، ولهذا فهو من النعمة كلياً.

"النعمة هي أعذب صوت
قد تناهى إلى سمعنا:
عندما يثقل ضميرنا وتعبس العدالة،
فالنعمة تحررنا من الخوف.
النعمة منجم للثروة،
قد وضع لأجل الفقراء.
النعمة هي نبع العافية الجليلة،
إنها الحياة وإلى الأبد.
فلنرنم بالنعمة إذاً،
ونشيد بعظمتها العجيبة،
فالنعمة ستجلب المجد،
ومعه سوف نحكم."

هذا هو الصولجان الذهبي الذي يقلِّدُ به ملكُ المجد جميعَ الذين يتجرأون على الاقتراب منه بالإيمان.

لاحظ أن الدخول والإقامة أمامنا في هذه الآية الثانية من الإصحاح الخامس من الرسالة التي تتناولها. الدخول يعتمد على موقفنا، ليس على حالتنا. ويجب تمييز الفرق بين المفردات بانتباه. في رسالة فيلبي نقرأ كثيراً عن "حالتك". فقد كان بولس مهتماً كثيراً بهذا الأمر. ولم يكن لديه خوف أبداً من موقف أولاد الله. هذا راسخ إلى الأبد.

الوقوف أو الموقف يشير إلى الوضع الجديد الذي أوضع فيه بالنعمة مبرراً أمام عرش الله وفي المسيح القائم، وهذا لا تناله دينونة إلى الأبد. أما الحالة في وضع النفس، إنها خبرة. إن الموقف لا يتبدل أبداً. أما الحالة فتتقلب وتتغير، وهي تعتمد على المعيار الذي فيه أسير مع الله. إن موقفي دائماً مثالي لأنه يقاس بقبول المسيح. فأنا مقبول فيه. "فكما هو، كذلك نحن في هذا العالم." ولكن حالتي ستكون جيدة أو سيئة حسبما أسلك بالروح أو أسلك بحسب الجسد.

إن موقفي يعطيني الحق لأدخل بوعي وإدراك كمتعبد طاهر منقّى إلى القُدُسات وأن أدنو بجرأة إلى عرش النعمة بالصلاة. كان الإله قديماً يقول: "قفوا بعيداً واعبدوني". وما كان الدخول معروفاً في ظل عهد الشريعة. كان الله محجوباً: ولم يكن الحجاب قد انشق بعد. والآن كل شيء قد اختلف، وإننا مدعوون لأن "ندنو بقلوب نقية مليئة بيقين الإيمان، وقد نُضِحَتْ قلوبُنا من النوايا الشريرة، غُسِلَت أجسادُنا بمياه نقية".

"والآن ندنو من عرش النعمة،
لأن دمه والكاهن هناك،
ونلتمس بفرح وجه الله القدوس،
ونحن نحمل مبخرة المديح والصلاة،
فقد زال الجبل المحترق والحجاب السري
مع مخاوفنا وآثامنا.
وينتعش قلبُنا بالسلام الذي لا يزول،
فها هو الحمل في الأعالي متربعاً على العرش"

ولذلك فإننا نبتهج حقاً على رجاء مجد الله. إنه رجاء لا يرقى إليه الشك، فهو رجاء أكيد ويقين لأنه يستند إلى العمل المنجز الذي قام به مسيح الله والكاهن الجالس على يمين جلال الله في السماء. إن المجد أكيد لجميع المبررين بالإيمان، ولذلك فلهم سلام مع الله.

ولكن قبل أن نبلغ إلى المجد علينا أن نطأ على رمال البرية هذا هو مكان الامتحان. وهنا نتعلم الموارد اللامتناهية لإلهنا العجيب. وهكذا نتمكن من أن نتمجد في الضيقات التي يعجز الإنسان الطبيعي عن الابتهاج فيها. فالضيقة هي المِدْرَس المقام من الله ليفصل الحب عن القش. ففي الألم والمعاناة والحزن ندرك تفاهتنا وعبثيتنا وعظمة القوة التي عُهِدَ إليها أمرُ العناية بنا. وهذه دروس ما كنا لنتعلمها في السماء.

"اللمسة التي تشفي القلب المنكسر
لم نشعر بأسمى منها؛
ملائكته يعرفون غبطةَ قداسته،
وقديسوه الذين أنهكهم السفرُ حُبَّه".

ومن هنا فإن "الضيق ينشئ صبراً" إذا ما اقتبلناه لأنه من ربنا المحب نفسه، عالمين أنه بركة لنا ولخيرنا. فمن الصبر الطويل الأناة يفوح أريج الخبرة المسيحية، إذ تتعلم النفس كيف يمكن للمسيح أن يثبت بشكل عجيب في كل ظرف. والخبرة تزهر فتثمر رجاء، وتفطم القلب عن الدنيويات وتغمرهم بالإلهيات التي نحث الخطى نحوها.

ومن هنا فإن ""الرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا". وهنا يرد ذكر عمل الروح لأول مرة في الرسالة. لقد قرأنا عن روح القداسة في الإصحاح الأول فيما يختص بعمل المسيح والقيامة، ولكن لم نسمع ذكراً واضحاً عن عمل الروح في المؤمن إلى أن تدخل النفس في السلام من خلال إدراك عمل المسيح المنجز. وهذا أمر بالغ الأهمية. فلست أخلص من خلال ما يجري في نفسي. بل أخلص بما صنعه الرب يسوع لأجلي. أما الروح فيختمني عندما أؤمن بالإنجيل، وبسكناه فيّ تتدفق محبة الله في قلبي.

"حالما أقبلتُ بجرأة
إلى الدم الكفاري،
دخل الروح القدس إلى نفسي،
لأني وُلِدتُ من الله".

إنه لخطأ فادح أن أعتمد على إدراكي الذاتي بعمل الروح في داخلي كأساس ليقيني. فاليقين هو بكلمة الحق في الإنجيل. ولكن عندما أؤمن، أتلقى الروح القدس. وهذا ما يتناوله الإصحاح الثامن من هذه الرسالة بكثافة. وهذا يعطي دليلاً مؤيداً. "فإننا نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة."
إن الآيات ٦ – ١١ تشكل مقطعاً منفصلاً. في هذا القسم لدينا موجز لكل ما ورد سابقاً، قبل أن يستأنف الرسول حديثه في القسم التالي شارحاً الجانب الآخر من الإنجيل فيما يتعلق بخطيئتنا.

لقد كنا عاجزين، لا قوة لنا، عندما أرسل الله، بالنعمة، ابنه، الذي مات عن الخطأة الفجار الذين لم يكن فيهم أي صلاح.
وليس لهذا مثيل عند البشر. فقلة هم الذين يمكن أن يموتوا طوعياً عن إنسان فاضل بار مشهود له بذلك– ولكن أقل من ذلك بكثير هو احتمال أن يموتوا عن إنسان أثيم. قد يكون هناك بعض الناس على استعداد للموت عن إنسان صالح لطيف خيّر قد فاز بقلوبهم بسلوكه المهذب اللبق. ولكن الله "أظهرَ محبَّتَه ذاته (كما يرد في اليونانية) نحوَنا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا". وأصبح بذلك بديلاً عن العصاة الآثمين. فإن كانت المحبة قد أسلمته إلى الموت على الصليب ونحن بعد ضالين وضيعين للغاية، فإننا ندرك بما لا يرقى إليه الشك بأننا، وقد تبررنا بدمه، فإنه سوف لن يسمح بأن نأتي إلى دينونة: "فسنخلص به من الغضب".

هذا الإصحاح أطلق عليه اسم الإصحاح ذي "الأمور الخمس الأكثر"، ولدينا أولها في الآية التاسعة. فكما يقول: "الأكثر من ذلك إذاً"، وبما أننا قد تبررنا من كل تهمة بدم ابن الله، فإننا وإلى الأبد في منأى عن انتقام الله من الخطيئة.

أما الاستخدام الثاني لهذا التعبير فيأتي في الآية ١٠: "لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ فَبِالأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ". كم هم عميان أولئك الذين يرون في هذه الآية إشارة إلى الحياة الدنيوية لربنا تبارك اسمه. تلك الحياة- النقية والمقدسة– ما كانت، رغم ذلك، لتخلص خاطئاً واحداً. بل إنه بموته صنع كفارة عن خطايانا. إن محبة الله التي تبدت بشكل كامل في كلام وأقوال وأعمال يسوع، أزالت الكراهية التي تسمم قلب البشر. ولكن موت يسوع هو الذي دمّر العداوة – فعندما أُدْرِكُ أنه مات لأجلي أتصالحَ ُمع الله. والكراهية كلها إنما كانت من جانبي أنا – وما كان الله ليحتاج لأن يتصالح معي – بل أنا من كان في حاجة إلى المصالحة، وقد نلتُها بموت يسوع. وإذ أنه حدَثٌ أُنجز حقاً فإني أعلم علم اليقين بأني "أخلص بحياته". إنه يقول: "بما أني حي فستحيا أنت أيضاً". وبالطبع فإن الحديث يدور عن حياة قيامته. "فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ" (عبرانيين ٧: ٢٥). إن المسيح الحي القائم على يمين الله هو ضمان افتدائي الأبدي. إنه حيّ ليدافع عن قضيتنا، ويحامي عنا في كل المحاكم، ويوصلنا بأمان وسلام إلى بيت الآب في نهاية المطاف. إننا مكبلون إلى صرة حياته ذاته، وهذا هو فحوى الجزء الأخير من الإصحاح والذي يتعلق بالوجه الثاني من موضوع الخلاص.

وإذ نحن على يقين في الزمان والأبدية فإننا ""نَبتهجُ أَيْضاً بِاللَّهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي نِلْنَا بِهِ الآنَ الْمُصَالَحَةَ" (الآية ١١، انظر الحاشية). لسنا نحن من تلقى الكفارة بل الله. كنا في حاجة لأن نصنع كفارة عن خطايانا، ولكنا كنا عاجزين عن ذلك. فقدمها يسوع نيابة عنا بأن قدم نفسه كفارة، هو الذي لم يرتكب إثماً تجاه الله. ولذلك فالله هو من قَبِلَ الكفارة، وأما نحن الذين كنا "أعداء" و"منصرفين عنه في عقولنا بأعمالنا الشريرة" فقد نلنا المصالحة. لقد زالت العداوة. وإننا في سلام مع الله، ونفرح بذلك الذي صار نصيبنا الأبدي.

هذه هي النهاية المجيدة – للوقت الحاضر – التي ما برح الروح القدس يقودنا إليها. إن خلاصنا كامل ومنجز بالتمام وتلاشت خطايانا. إننا مبررون مجاناً بنعمة. لنا سلام مع الله ونتطلع بيقين وفرح إلى النعيم الأبدي مع ذاك الذي افتدانا.

الأمور الثلاثة الأخرى "الأشد" يرد ذكرها في القسم التالي، حيث يتم طرح مسألة الرئاستين. وسوف نلاحظها بالترتيب عندما نصل إليها.


١. (رومية٣: ٢١)

٢. أغسطينوس الذي من هيبو ( Augustine of Hippo ): كاهن ولاهوتي كاثوليكي روماني, كتب رائعته "مدينة الله" التي أثرت كثيراً في تطور المسيحية. كان أسقف هيبو في شمال افريقيا منذ عام ٣٩٦ وحتى وفاته.

المترجم.

المحاضرة ٥

الإنجيل والخطيئة الساكنة فينا

القسم ١

(الإصحاحات ٥: ١٢ – ٧: ٢٥)

لابد أن نغطي هذا الجزء من القسم العقائدي العظيم في محاضرتين بسبب المجال الواسع الذي يشغله من الإصحاح ٥: ١٢ حتى نهاية الإصحاح ٨. لذلك سوف نلقي نظرة أولاً إلى القسم الذي ينتهي بالإصحاح ٧. ففي القسم الأخير من الإصحاح ٥ لدينا الرئيسين – آدم والمسيح. في الإصحاح ٦ لدينا معلمين، الخطيئة المتجسدة والله كما أعلنه يسوع. في الإصحاح ٧ لدينا زوجين – الناموس ويسوع المقام.

إن الخاطئ المتيقظ يهتم بأمر واحد: كيف يتحرر من الدينونة التي استوجبتها خطاياه عن حق. هذا الوجه من موضوع الخلاص قد تناولناه بالحديث وأوفيناه حقه في الجزء الذي انتهينا منه للتو. هذا الموضوع لن يُطرح من جديد بعد. وإذ نمضي في الجزء التالي من الرسالة نلاحظ أن مسألة الذنب لا تظهر. في اللحظة التي يؤمن الخاطئ فيها بالإنجيل تنتهي وإلى الأبد مسئوليته كابن لآدم تحت دينونة الله. وفي هذه اللحظة عينها تبدأ مسئوليته كابن لله، فلديه طبيعة جديدة تتوق إلى ما هو إلهي. ولكنه سرعان ما يكتشف أن طبيعته الجسدية الشهوانية لم تُزَل أو تتحسن باهتدائه إلى الله، ومن هذا الواقع تنشأ خبرات تجربة عديدة. فغالباً ما يُصدم بشدة عندما يدرك أنه لا يزال يملك طبيعة قابلة لكل أنواع الرداءة. إنه مصيب في خوفه وقد يتعرض لإغواء الشك بحقيقة تجدده وتبريره أمام الله. كيف يمكن لله القدوس أن يستمر مع شخص له هكذا طبيعة؟ إن حاول أن يحارب الخطيئة في الجسد فسوف يهزم على الأرجح، ويتعلم من الخبرة المريرة ما قاله فيليب ميلانكثون، صديق لوثر، بأن "آدم القديم أقوى بكثير من فيليب الجديد الفتي".

مغبوط هو المهتدي الفتي الذي يقع خلال أزمته هذه على التعليم الكتابي الصحيح بدلاً من الوقوع في يد الدجالين الروحيين الذين سيدفعونه للتفكير لتجاهل طبيعته الجسدية وإماتة الفكر الجسدي. لأنه إن أصغى إلى نصائحهم سيقع في مستنقع الشك ويقع فريسة الحيرة من جراء الأفكار الواهمة الخداعة بالكمال الممكن للجسد، وهذا سيضعه تحت وطأة الخيال الجامح وتعذيب الذات إلى أن يصل إلى الراحة والسلام المعدّ لشعب الله. لقد حاولتُ أن أنقل خبراتي الشخصية المبكرة في هذا الاتجاه من خلال كتاب صغير بعنوان "القداسة، الخطأ والصواب"، والذي أشكر الله عليه لأني علمت أنه قد كان بركة لعدة آلاف من النفوس. إن الحقيقة التي سنتناولها الآن بالحديث هي التي حررتني وخلصتني أخيراً من البؤس وخيبات الأمل التي عانيتها في تلك السنوات الباكرة.

وإذ نتناول هذه الإصحاحات فإني أرغب ألا أثير حفيظة أحد، بل أقصد ببساطة أن أرسم هنا، بدافع البنيان، صورة الحقيقة لأجل بركة النفس.

وبادئ ذي بدء سوف نتأمل في العائلتين العظيمتين والرئيسين المركزيين المتزعمين فيهما وذلك من خلال الإصحاح ٥ الآيات ١٢ – ٢١.

في نفس اللحظة التي يتبرر فيها الإنسان بالإيمان فإنه يولد أيضاً من الله. وتبريره، كما رأينا، هو تبرئة رسمية له أمام عرش الله. وتجدده يعني دخوله إلى عائلة جديدة. فيصبح جزءاً من الخليقة الجديدة التي باكورتها المسيح الناهض من بين الأموات. كان آدم الأول رئيس النسل القديم. أما المسيح القائم، الإنسان الثاني وآدم الأخير، فهو رأس النسل الجديد. الخليقة القديمة سقطت بسقوط آدم، وكل نسله كان مشتركاً في الدمار الذي حصل له. أما الخليقة الجديدة فينهضون إلى الأبد بيقين في المسيح، وكل من تلقوا الحياة منه يشتركون في البركات والنعم المتأتية من صليبه، وتضمن حياته لهم الحياة الأبدية بما أنه جالس على يمين الله.

"ها إن الخليقة الجديدة تبتهج الآن
وتنعم في هدوء الراحة والسكينة،
وقد تباركت بخلاص يسوع الكامل،
وما عاد للحزن أو للعبودية مكان".

إن فهم هذه الحقيقة وإدراكها يسوي مسألة الضمان الأبدي للمؤمن ويشكل أساساً كتابياً لعقيدة الانعتاق من سلطان الخطية.

ولا ريب في أننا سنلاحظ أن الموضوع الذي بدأ في الآية ١٢ قد وصل إلى خاتمته في الآيات ١٨ – ٢١. وإن المقطع الاعتراضي (المؤلف من الآيات ١٣ - ١٧) ثانوي أو تفسيري. ولذلك فلعله من الأفضل أن ندرس المقطع الاعتراضي أولاً. لقد كانت الخطيئة في العالم مسيطرة على الإنسان منذ سقوط آدم وحتى من قبل إعطاء الناموس بموسى؛ ولكن لم تكن الخطيئة قد أخذت بعد صفة التعدي إلى أن أعطيت شريعة ناموسية للإنسان قد انتهكها عن عمد. ومن هنا، ولولا الناموس، لما كانت الخطيئة لتعتبر تهمة ملصقة. ولكن رغم ذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنها كانت هناك بشكل واضح وجلي، ذلك لأنه "بالخطيئة دخل الموت" وساد الموت كملك مستبد على جميع الناس من آدم حتى موسى، ولم يدّخر أحداً إلا عندما تدخل الله في حالة أنوش، الذي فُسِّر بأنه لن يَرَ الموت. وحتى عندما لم تكن هناك خطيئة مقصودة، كما في حالة الأطفال والأشخاص القادرين على تحمل المسئولية، كان الموت مخيماً، وهذا إثبات على أنهم كانوا جزءاً من النسل الساقط مركزياً والمشاركون في خطيئة آدم ويمتلكون فعلياً طبيعة آدم الساقطة. فذلك الذي خُلِقَ أصلاً على صورة الله ومثاله قد شوّه تلك الصورة بارتكابه للخطيئة وخسر بذلك الشبه الإلهي، ونقرأ في الكتاب: "َوَلَدَ  آدَمُ وَلَداً عَلَى شَبَهِهِ كَصُورَتِهِ" (تك ٥ :٣). وهذه صفة مميزة للنسل الذي هو رأسه. "ففي آدم يموت الجميع".

يتجادل اللاهوتيون حول المعنى الدقيق لكل هذا وقد يرفض العقلانيون أن يتقبلوا الفكرة كلياً، ولكن الحقيقة تبقى، "لقد تعين للناس أن يموتوا مرة"، ولولا التدخل الإلهي لكان الجميع سيرددون قول الشاعر:

"لدي موعد مع الموت،
وسوف لن أفوت موعدي".

لابد أنكم سمعتم بالنقش الذي كتب على ضريح بهذا المعنى، ذاك النقش الذي حفر على ضريح مكان رقاد جثمان أربعة أطفال في مدفن كنيسة القديس أندراوس في سكوتلاندا:

"أيها الإلحاد الوقح، فلتستحلْ شاحباً وتَمُتْ.
فتحت هذه الصخرة يرقدُ جثمان أربعة أطفال:
قل لي: هل هم ملعونون أم مخلَّصون؟
إن كانت الخطيئة تستوجب الموت، فقد خطئوا لأنهم هنا.
وإن كانت الجنة تُكتَسَب بالأعمال، فلن يتراءوا في السماء.
أما أنت أيها العقل، فيالك من فاسد.
امضِ إلى صفحة الكتاب المقدس، فتجد حل العقدة:
لقد قضوا لأن آدم أخطأ،
ويعيشون لأن يسوع مات".

ليس من تفسير آخر لمسألة الطفولة التي تعاني سوى سقوط نسل آدم.

ولكن آدم كان شخصاً، رمزاً، منه كان سيأتي، وقد أتى فعلاً، ذاك الذي جاء وحمل على عاتقه مسئولية إزالة آثار السقوط عن جميع الذين، بالإيمان به، يتلقون حياته القيامية؛ وبهذا يرتبط برٌّ كامل أبدي في ديمومته وإلهي في أصله. وشتان ما بين الخطيئة والهبة، فخطيئة آدم الوحيدة أشركت نسله في عواقب سقوطه. أما المسيح، وقد أرضى العدالة الإلهية، فإنه يقدم هبة الحياة بالنعمة لكل الذين سيؤمنون وهكذا تزداد للكثيرين. ونلاحظ في الآية ١٥ الأمر الثالث "الأكثر".

إن انتشار النعمة ليس على غرار انتشار الخطيئة – لأن خطيئة الواحد قد جلبت الدينونة العامة، جاعلة جميع النسل تحت الدينونة. أما تلقي نعمة الحياة والبر بالإيمان فتضع المتلقي في حالة التبرير من كل الأشياء بصرف النظر عن عدد الخطايا أو التعديات. لقد ساد الموت من جراء خطيئة واحدة. ولكن يخبرنا الكتاب "أكثر بكثير" أن أولئك الذين يتلقون هذه الوفرة في النعمة وعطية البر المجانية هذه الآن ينالون الغلبة على الموت بحياة يسوع المسيح، الذي غلب الموت والذي يقول: "لأني أحيا فستحيا أنت أيضاً".

هذا هو فحوى المقطع الاعتراضي. ولكن لنضع كل هذا في أذهاننا ونعود إلى الآية ١٢ ونربط بينها وبين الآيات ١٨ – ٢١. لقد دخلت الخطيئة العالم برجل واحد ومع الخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس لأن الجميع أخطأوا، إذ خرجوا جميعاً من حقوي آدم عندما سقط فوقعت كل تبعات خطيئة آدم على جميع نسله.

والآن لننظر إلى الآية ١٨: "كما أنه بخطيئة واحد" قد أتت الدينونة العامة على العالم بأسره، فكذلك بعمل بر واحد منجز على الصليب جاءت الكفارة عن الجميع – مجانية عن جميع الذين اشتركوا في نتائج خطيئة آدم، والتي هي الحياة الأبدية المتجلية في ابن الله الذي رقد في الموت تحت وطأة حكم الدينونة، ولكنه نهض منتصراً يمنح حياته القيامية ذاتها – هذه الحياة الخالية من أية شوائب للخطية. فهذه خليقة جديدة، يكتب عنها بولس بشكل كامل في (٢ كو ٥) وفي (١ كو ١٥): "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة". وهو في خليقة جديدة "كلها من الله"؛ "فالأشياء القديمة قد ولت وتجددت كل الأشياء". وهكذا نحصل على كامل قوة الموعد "لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ". إنه ليس خلاصاً كونياً عاماً، وليس الأمر هو أنه سيقيم كل الأموات وحسب، بل إن النسلين، الخليقتين، الرئاستين، هما على طرفي نقيض. المسيح هو البداية، هو الأصل، هو الرئيس البدء لخليقة الله (رؤيا ٣: ١٤). وبما أنه الإنسان القائم الجالس عن يمين الله، وقد اجتاز الموت، فإنه الآن نبع الحياة، الحياة النقية المقدسة التي لا دنس فيها، لكل الذين يؤمنون به. وبذلك فنحن الآن أمام الله في تبرير الحياة.

بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة. "والأكثر من ذلك"، فبعمل طاعة مجيد واحد حتى الموت الذي قام ذاك الذي صار الآن بداءتنا، يُجعل الكثيرون أبراراً.

إن إدخال الناموس زاد من وطأة الخطيئة. فهذا أعطى الخطيئة صفة التعدي. ولكن حيث كثرت الخطيئة (ووصلت إلى ذروتها، إذا صح القول) ازدادت النعمة "أكثر فأكثر"، وبمعنى آخر، فإن النعمة هي الأكثر انتشاراً. وإذ سادت الخطيئة كطاغية مستبد عبر قرون طويلة قبل الصليب، وآلت إلى موت كل الخاضعين لحكم ذلك المستبد، فالآن النعمة هي التي تتربع على العرش وتسود من خلال البر المنجز إلى حياة أبدية بيسوع المسيح ربنا.

يا لها من بشارة! يا له من مخطط! إنه كامل: إنه مخطط إلهي كامل كمثل الله نفسه. يا لروعة هذه الأمور الخمس "الأكثر بكثير" التي تأتي بأعاجيب النعمة.

على ضوء كل ما ذكر، هل من عجب في أن الرسول، وهو يدرك النزعة المتأصلة في القلب البشري لأن تحيل نعمة الله إلى فسق، يضع على فم القارئ هذا السؤال: "هل سنستمر في الخطيئة لكي تكثر النعمة؟" ويجيب الإصحاح ٦ على هذا الفكر التافه (وهو هكذا فعلاً) بطريقة تدل على براعة.

""حَاشَا!"، يهتف بلهجة ساخطة، " نَحْنُ الَّذِينَ مُتْنَا عَنِ الْخَطِيَّةِ كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا؟" فلماذا متنا عن الخطيئة إذاً؟ إن كنا متنا عن الخطيئة حقاً فلا ينبغي أن نهتم بالسؤال أو بجوابه. إن ما يحيرنا هو حقيقة أنه بينما نحن نكره الخطيئة فإننا نجد في أنفسنا نزعة للاستسلام لها. ولكن يقال لنا أننا متنا عنها. كيف وأين؟ الآيات التالية تقدم الإجابة.

إن نفس الحقيقة التي تشير إلى أن ارتباطنا بآدم كرأس لنسلنا يقطعه اشتراكنا مع المسيح في موته تدل على أن لنا الحق بأن نعتبر أنفسنا قد متنا، بموته هو نفسه، لسلطان الخطيئة كسيد علينا. لقد أُعْتِقَ الإسرائيليون من الدينونة بدم الحمل. وهذا يشكل جواباً على أول جانب في موضوع الخلاص. فبعبورهم البحر الأحمر ماتوا لفرعون وأعوانه. هذا يوضح الجانب الذي سنتناوله الآن. فالخطيئة لم يعد لها سلطان علينا، بينما كنا خداماً لها في الماضي. ولكن الموت غير كل ذلك. وانتهت حالة العبودية التي كنا فيها. ونحن الآن مرتبطون بالمسيح القائم وهكذا جُعلنا لله.

وهذا ما يتحدث عنه أول طقس في المسيحية ""أتَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِـ (في) يَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِـ (في) مَوْتِه؟" إن شعب إسرائيل كانوا "َجَمِيعَهُمُ اعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي السَّحَابَةِ وَفِي الْبَحْرِ". فاجتازوا عبر الموت رمزياً أو مجازياً، وكان موسى قائدهم الجديد. وانتهى سلطان فرعون عند ذلك في نظرهم (١ كو ١٠). ولذلك فإننا نحن المخلَّصين قد اعتمدنا لموت المسيح أو في موت المسيح. لقد قبلنا موته على أنه موتنا، عالمين أنه مات بدلاً عنا. وإننا نعتمد له كقائد جديد لنا.

هل هذه معمودية الروح؟ لا أعتقد ذلك. فالروح لا تعتمد للموت، بل للجسد الجديد الواحد. إنه توطّد في المسيح السري. معموديتنا بالماء هي معمودية لموت المسيح.

ويتابع الرسول حديثه في هذا الموضوع. "فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ" (الآية ٤). ففي معموديتي أقرّ بأنني قد مت عن الحياة القديمة كإنسان في آدم تحت سطوة الخطيئة. وقد انتهيت من كل ذلك. والآن دعوني أبرهن حقيقة ذلك بأن أحيا حياة إنسان قيامي– إنسان مرتبط بالمسيح من الجانب الآخر من الموت- إذ أسلك في جدة الحياة. ومن هنا فإن كل فكرة بالعيش في الخطيئة مرفوضة، وكل ما هو ضد الناموس مفنّدة. إن حياتي الجديدة هي أن أتجاوب مع الاعتراف الذي قمت به من خلال معموديتي.

عليّ أن أدرك عملياً توحدي واندماجي مع المسيح. لقد دُفِنْتُ معه بشبه موته – أي في المعمودية – وسأكون (واحداً معه) أيضاً في شبه قيامته. فلست أعيش تحت سطوة الخطيئة. فأنا أحيا لله، وهو أيضاً كذلك، ذاك الذي هو رئيسي الجديد.

ويتابع الرسول حديثه بشكل منطقي فيقول: "عَالِمِينَ هَذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ (أو، ليصير ضعيفاً) كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ. لأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ تَحرّر (أو، تَبَرَّأَ) مِنَ الْخَطِيَّةِ."(الآيات ٦، ٧).

إن إنساني العتيق ليس طبيعتي القديمة وحسب، بل إنه كل ما كُنْتُه كإنسان في الجسد، "الإنسان العتيق"، الإنسان غير المخلَّص بكل عاداته ورغباته. ذلك الإنسان قد صُلِبَ مع المسيح. عندما مات يسوع متُّ أنا أيضاً (كإنسان بحسب الجسد) لقد رآني الله على الصليب مع ابنه الحبيب المغبوط.

كم من الناس صُلبوا على الجلجثة؟ كان هناك اللصين، وكان هناك المسيح نفسه – إذاً ثلاثة. ولكن هل هؤلاء فقط الذين صُلبوا؟ يقول بولس في (غلاطية ٢: ٢٠): "مع المسيح صُلِبتُ". إذاً فقد كان هناك أيضاً؛ وهذا يجعل المصلوبين أربعاً. ويمكن لكل مؤمن أن يقول: "إن إنساننا العتيق صُلب معه (مع المسيح)".

ملايين لا تحصى من الناس رآهم الله معلقين على الصليب مع المسيح. وهذا لم يكن يعني فقط أن خطايانا قد تمت تسويتها، بل إننا نحن أيضاً كخطأة، كأولاد من نسل آدم الساقط، قد أُقصينا عن نظر الله الغاضب وانتهى موقفنا القديم إلى الأبد.

ولكننا نحن الذين صُلبنا معه نحيا الآن معه. ولذلك يتابع الرسول كلامه في (غلاطية ٢: ٢٠) قائلاً: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي." وهكذا هو الحال هنا. إن جسد الخطيئة يبطل، مثله مثل جسد فرعون، فكل سلطة مصر قد انمحقت بالنسبة لإسرائيل. لم يعد للخطيئة سيادة عليّ الآن. وفي المسيح أحيا لله. ما عدت عبداً للخطيئة. لقد أُعْتِقْتُ (تبررت) من سلطان الخطيئة.

ويُظهر الرسول هنا التأثير العملي لكل هذه الحقيقة الثمينة. لقد متنا مع المسيح. ولنا إيمان بأننا سنحيا أيضاً معه. وعندئذ – في السماء – سوف لن يكون للخطيئة سيادة علينا. ولن نخضع لسلطانها هنا باستسلامنا لها. إننا نعلم أن المسيح الناهض من بين الأموات سوف لن يموت ثانية. فقد أُبْطِل سلطان الموت إلى الأبد (حيث الخطيئة تستوجب الموت). "لأَنَّ الْمَوْتَ الَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً"، قد ماته عن الخطيئة كسيد قديم كان يسود علينا (وليس عليه – فهو لم يكن أبداً تحت نير الخطيئة بل كان دائماً خلواً منها)، والآن في القيامة يعيش لله فقط. ونحن متحدون معه، ولذلك فعلينا من الآن فصاعداً أن نحيا لله وحده. وهذا يعني تحريراً عملياً من سيادة أو سلطان الخطيئة.

بالتأكيد لم يكن في فكر الله أبداً أن يترك شعبه المفتدى بالدم تحت سلطان الطبيعة الجسدية الشهوانية، عاجزاً عن أن يسلك في حرية الناس الأحرار في المسيح. ولكن التحرر العملي لا يتم الوصول إليه بمحاربة السيد القديم، الخطيئة بالجسد، بل بالإدراك اليومي للحقيقة التي أمعنا النظر فيها الآن لتونا.

ولذلك يُطلب إلينا أن نؤمن حقاً بما يعتبره الله حقيقة وذلك في أننا قد متنا مع المسيح عن كل ادعاءات خطيئة فرعون، وأننا نسلك الآن كأحرار في جدة الحياة متحدين مع المسيح القائم. "كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتاً عَنِ الْخَطِيَّةِ وَلَكِنْ أَحْيَاءً لِلَّهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (الآية ١١). هذه الكلمة "احسبوا" هي إحدى مفاتيح الكلمات الرئيسية في الإصحاح. إنها تعني حرفياً: "اعتبروا الأمر حقيقة." يقول الله أني أعيش له وإني أعتبر أن هذا الأمر حقيقة. بما أن الإيمان يقوم على كل هذه الافتراضات الحقيقية فإني أجد أن الادعاءات بالخطيئة باطلة. ليس من طريقة أخرى للتحرر والانعتاق سوى تلك التي تبدأ بهذه الاعتبارات. قد يقول المنطق: "ولكنك لا تشعر أنك ميت"، فما علاقة المشاعر بهذا؟ إنها حقيقة تتعلق بقضاء الله. موت المسيح هو موتي. لذلك أعتبر أو أحسب نفسي قد متّ لسلطان الخطيئة.

وتأتي الآية التالية على نفس التتابع المنطقي. "إِذاً لاَ تَمْلِكَنَّ الْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ الْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ". أشعر بنزوة تتصاعد في داخلي تطالبني بالاستسلام لرغبة آثمة ما. ولكن عند تنبهي لذلك أقول في الحال: "لا، فقد مت عن ذلك. وليس لها من بعد أن تسيطر على إرادتي. فأنا للمسيح. وسأحيا له". وإن حافظت على الإيمان بذلك فإن قوة وسطوة الشهوة سوف تتحطم.

الأمر يتطلب انتباهاً ويقظة وتمييزاً مطرداً لاتحادي مع المسيح. كنت في الأيام الخوالي معتاداً على الاستسلام إلى أعضائي الجسدية كأدوات للإثم، وخاضعاً للخطيئة، أما الآن فأنا أسلم ذاتي بدون ريبة وبدون تحفظ لله لأني حييت عبر ذلك الموت الذي عبرته مع المسيح، ومن النتائج الطبيعية لذلك هو أن كل أعضائي الجسدية قد باتت له وله أن يستخدمها كأدوات لعمل البر لمجد الله الذي خلصتني نعمته. إن الكلمة المترجمة بـ "آلات" تعني حقاً "أسلحة" أو "درع" كما يرد في (الإصحاح ١٣: ٢) وفي (٢كو ٦: ٧، ١٠: ٤). إن مواهبي، وأعضائي الجسدية، وكل طاقاتي يجب أن أستخدمها الآن في الصراع كأسلحة بيد الله. فأنا جندي له تحت تصرفه دون تحفظ أو تردد.

لأنه ما من مبدأ قانوني خلصني بل النعمة المجانية وحدها، فإنه ليس للخطيئة بعد أن تسيطر على حياتي. إن المسيح القائم هو ربان خلاصي، أوامره يجب أن تضبطني وتوجهني في كل الأمور.

قد تحاول الطبيعة أن تجادلني محاولة إقناعي بالاتجاه المعاكس وتقول لي أنه طالما كنت تحت النعمة وليس الناموس فإن سلوكي ليس بذي أهمية كبيرة، وإني لذلك حر بأن ارتكب الخطيئة لأن أعمالي ليس لها علاقة بخلاصي. ولكن كإنسان متجدد مولود من جديد لا أريد أن أكون حراً لارتكاب الخطيئة. بل أريد اكتساب القوة لأحقق القداسة. إن اعتدت على الاستسلام للخطيئة، أطيع أوامرها تلقائياً فإني إنما أُظهِرُ أني لا زلتُ عبداً للخطيئة، وستكون نهاية خدمتي للخطيئة الموت. ولكن كإنسان متجدد، أرغب في إطاعة ذاك المتحد معي الآن والذي أخدمه. ولذلك يقول بولس: "فَشُكْراً لِلَّهِ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيداً لِلْخَطِيَّةِ وَلَكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا. وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ (أي من خلال صليب المسيح) صِرْتُمْ عَبِيداً لِلْبِرِّ." (الآيات ١٧، ١٨).

إنه يتحدث بطريقة رمزية مجازية موضحاً فكرته بتجسيد الخطيئة والبر لعل فكرنا الإنساني الضعيف يستطيع فهمهما، ويكرر تحذيره، أو بالحري ما قاله على شكل عقائد، يكرره الآن كأمر: "لأَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً لِلنَّجَاسَةِ وَالإِثْمِ لِلإِثْمِ (أي في الحياة القديمة قبل التوحد مع المسيح) هَكَذَا الآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيداً (رقيقاً) لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ" (الآية ١٩).

عندما كنا عبيداً للخطيئة، لم يكن البر سيدنا الأميز، وما كنا لنستطيع سوى أن ننكس رؤوسنا في خزي ونحن نفكر بثمار العلاقة الشريرة، التي ستودي بنا إلى التهلكة، جسدياً وأبدياً معاً.

أما الآن وقد تحررنا بحكم قضائي من سيادة الخطيئة وأصبحنا عبيداً لله، فإن حياتنا ستكون وافرة الثمار للقداسة وستكون النهاية حياة أبدية. إن لنا حياة أبدية الآن في متناول يدنا في الوقت الحاضر، ولكن ها هنا الآن الغاية التي في منظورنا حيث أننا في ديارنا في المشهد الذي غادرنا فيه المسيح الذي هو حياتنا.

ويختم هذا القسم بقوله المهيب والثمين: " أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا". الخطيئة بشكل ما سيد مخلص. وإن يوم حسابها أكيد. وأجرتها الموت. لاحظ أن ما لدينا الآن ليس الدينونة الإلهية بل أجرة الخطيئة. فالموت هو عاقبة الخطيئة، ولكن "بعد ذلك تأتي الدينونة". ولابد من تلقي العقاب في قفص الاتهام أمام الله. وإذ أخطأ كثيرون في رؤية هذا الأمر فإن الكثيرين اعتقدوا خطأً أن الموت الجسدي يعني انقطاع الكينونة وأنه بآن معاً أجرة وعقوبة. أما الكتاب المقدس فيخبرنا بوضوح عن الدينونة الإلهية التي تأتي بعد دفع أجرة الخطيئة.

من جهة أخرى، إن الحياة الأبدية هبة مجانية، هي هبة من الله. لا أحد يمكنه أن يكتسبها. إنها تُعطى لجميع الذين يؤمنون بالمسيح مخلصاً للخطأة. إنها لنا الآن نحن الذين نؤمن بالإنجيل وسننعم بها بتمامها في "النهاية".

يغطي الإصحاح السابع جانباً آخر من الأمور التي يصعب عملياً على المؤمن اليهودي أن يستوعبها. إنه يطرح السؤال التالي ويجيب عليه: "ما هو قانون الحياة للمؤمن المذعن؟" سيقول اليهودي بشكل طبيعي أنه "الناموس الذي أعطي في سيناء". أما جواب الرسول فهو "المسيح الناهض من بين الأموات". يا للأسف، كم من المؤمنين الأمميين قد فاتتهم هذه الحقيقة وأيضاً أولئك المنحدرين من اليهودية.

يبدو من حديث بولس أنه يضع نصبَ عينيه أخاه المسيحي من أصل يهودي، وهذا يظهر من الآية الافتتاحية في الإصحاح: "أَمْ تَجْهَلُونَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ - لأَنِّي أُكَلِّمُ الْعَارِفِينَ بِالنَّامُوسِ - أَنَّ النَّامُوسَ يَسُودُ عَلَى الإِنْسَانِ مَا دَامَ حَيّاً". ومن غير الوارد الآن إذاً أن يستخدم التعبير "الناموس" بأي معنى آخر عن ذاك الذي كان في ذهنه عندما استخدمه مراراً وتكراراً في الإصحاحات السابقة. إن الناموس، هنا، يعني ناموس موسى ولا شيء آخر. المقصود به هو ذاك الذي كان في أساس ناموس موسى، الوصايا العشر التي أعطيت على جبل سيناء. وهو يدافع هنا عن فكرة أن الناموس له سلطة على البشر إلى أن ينهي الموت سلطته أو ينهي علاقتهم به. ولكنه ما برح يبين لنا بطريقة هي أوضح ما تكون بأننا قد متنا مع المسيح؛ هل يعني هذا أن نبقى بلا ناموس؟ كلا على الإطلاق: فنحن الآن، كما يظهر في مكان آخر أيضاً (١كو ٩: ٢١) "تحت ناموس المسيح" أو "تحت الناموس"، بمعنى أننا "خاضعون بالقانون" للمسيح رئيسنا الجديد. إنه زوج ورئيس أيضاً، تماماً كما تدل عليه الآية في (أفسس ٥) بوضوح كبير.

هذه الحقيقة يوضحها الرسول بولس بشكل مقنع جداً في الآيات ٢ و ٣، وتطبيقها يشرحه في الآية ٤. فالمرأة المتزوجة من رجل تكون مرتبطة به شرعياً في تلك العلاقة حتى يحل الموت هذا الرباط. فإن تزوجت من رجل آخر بينما زوجها على قيد الحياة تصبح زانية. ولكن عندما يموت زوجها الأول تصبح حرة للزواج من آخر دون أن تقع عليها اللائمة من جراء قيامها بذلك.

وعلى نفس المنوال، فإن الموت قد أنهى علاقة المؤمن بالناموس. ليس موت الناموس بل موتنا نحن مع المسيح, الذي أنهى النظام القديم. والآن أصبحنا أحراراً ويمكننا الزواج من آخر، حتى من المسيح القائم لكي نثمر لله.

انبثق عن المثل الإيضاحي الذي أورده بولس مفهومٌ عجيبٌ ومذهلٌ إلى حد ما بأن الزوج الأول ليس الناموس على الإطلاق وإنما "إنساننا القديم". وهذا المفهوم غير منطقي كلياً وليس له ما يبرره، فكما رأينا، إن الإنسان القديم هو ذاتي كإنسان في الجسد. فأنا لم أتزوج من نفسي. وهكذا اقتراح هو قمة اللامعقول والعبثية. المؤمن اليهودي كان يوماً مرتبطاً بعهد الناموس. لقد كان هذا مقترحاً كوسيلة للإثمار لله. وما كان من هذا إلا أن أثار كل الشرور في القلب. وحلّ الموتُ العلاقة السابقة، والمرءُ الذي كان ينظر إلى الناموس للثمار صار ينظر إلى المسيح القائم، فيما القلب مشغول به، فهذا يثمر في الحياة التي تسرّ الله.

يقول بولس الرسول: "لَمَّا كُنَّا فِي الْجَسَدِ (أي: في الحالة الطبيعية كأناس غير مخلّصين) كَانَتْ أَهْوَاءُ الْخَطَايَا الَّتِي بِالنَّامُوسِ تَعْمَلُ فِي أَعْضَائِنَا لِكَيْ نُثْمِرَ لِلْمَوْتِ". وهذا يوضح بشكل كبير الحالة التي سبق ذكرها، الناموس كان الزوج، العامل الفعال الذي به كنا نرجو أن نثمر لله. ولكن بدلاً من ذلك، فقد أثمرنا للموت، فآل كلُّ كدّنا ومعاناتنا على أمل إثمار البر إلى الخيبة، وهكذا ولد الجنين ميتاً.

"وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ النَّامُوسِ إِذْ مَاتَ الَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ (العلاقة) حَتَّى نَعْبُدَ بِجِدَّةِ الرُّوحِ لاَ بِعِتْقِ الْحَرْفِ" (الآية ٦). في المثال التوضيحي يموت الزوج الأول وتصبح المرأة حرة للاقتران من آخر. وفي التطبيق لا يقول أن الناموس قد مات، بل يطرح فكرة أن الموت (الذي هو موت المسيح بالنسبة لنا) قد أنهى العلاقة التي كنا فيها. ومن هنا فليس هناك تضاد حقيقي في نهاية الأمر. ففي كلتا الحالتين انتهى الوضع السابق بالموت. كما رأينا، فإن الناموس كان موجهاً للإنسان في الجسد، وكانت هذه حالتنا السابقة، أما الآن فكل شيء قد تبدل. فما عدنا في الجسد، بل في الروح (كما سنرى في الإصحاح التالي)، وبهذا نكون في حالة جديدة لا ينطبق عليها الناموس. ومن جديد يعود السؤال القديم للبروز ثانية: إن كان كل هذا صحيح فهل نترك أنفسنا تخطئ؟ لا. هذا محال. يجب أن ندرك ببساطة أن الناموس له وظيفة معينة ولكنه ليس شريعة الحياة الجديدة. إنه يتتبع الخطيئة ويكشفها. ولربما أمكن لبولس أن يقول: "لم أعرف الخطيئة لولا الناموس". بمعنى أنه ما كان ليكتشف الطبيعة الشريرة داخله – رغم سلوكه القويم خارجياً – لو لم يقل له الناموس: "لا تشتهِ". إن طبيعة الخطيئة تمردت على هذا وأنشأت فيه كل أشكال اشتهاء مال الغير أو الرغبة التي لا يمكن إرضاؤها. لاحظوا بانتباه كيف يبرهن هذا بشكل مقنع أن الوصايا العشرة كانت على الدوام نصب عينيه أينما كان. إن القول بأننا متنا لناموس الشعائر منافٍ للمنطق على ضوء هذا التصريح. فأين الكلمة أو الوصية التي تمنع الشهوة؟ إنها في الوصايا العشر. ولذلك فإن "الناموس" يعني الأوامر الإلهية المنقوشة على ألواح الحجارة.

لولا الناموس لكانت الخطيئة ميتة، بمعنى أنها كانت خاملة وغير مدركة. لقد كانت الخطايا لم تظهر بشكل جلي إلى أن أثار الناموس هذا الموضوع.

يقول: "أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بِدُونِ النَّامُوسِ عَائِشاً قَبْلاً. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتِ الْوَصِيَّةُ عَاشَتِ الْخَطِيَّةُ فَمُتُّ أَنَا فَوُجِدَتِ الْوَصِيَّةُ الَّتِي لِلْحَيَاةِ هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ. لأَنَّ الْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِالْوَصِيَّةِ خَدَعَتْنِي بِهَا وَقَتَلَتْنِي" (الآيات ٩ - ١١). بمعنى آخر كأنه يقول: "لقد كنتُ وبمنتهى السعادة جاهلاً بحالتي الأخلاقية الحقيقية أمام الله كخاطئ إلى أن أتتني الوصية التي تمنع الشهوة تردعني بقوة. لم أكن أدرك أن الرغبة الشريرة كانت آثمة في حد ذاتها حتى ولو لم أحققها بالفعل. ولكن الناموس جعل هذا واضحاً. لقد صارعتُ لأكبح كل الرغبات المحرمة؛ ولكن الخطيئة – كمبدأ الشر في داخلي – كانت قوية عليّ لأقمعها. لقد تغلّبَتْ عليّ بالحيلة، وخدعَتْني، وهكذا فبتعدي الوصية جعلتني بشكل مدرك تحت حكم الموت". كان هذا هو الغاية المقصودة من الناموس، كما يظهر في رسالته إلى أهل غلاطية إضافة إلى رسالته هذه. "النَّامُوسُ زِيدَ بِسَبَبِ (أو نظراً لـ ) التَّعَدِّيَاتِ". والمعنى أن الناموس ساهم في إعطاء الخطيئة صفة التعدي تحديداً، وهكذا عمّق الشعور بالذنب وعدم الاستحقاق.

ولذلك يصل إلى القول مستنتجاً: "النَّامُوسُ مُقَدَّسٌ وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ". فالخطأ ليس في الناموس بل فيّ أنا.

وهنا يصل إلى السؤال: ((هل هذا الناموس المقدس هو الذي جلب لي الموت؟)) لا. أبداً، بل إن ما فعله هو أنه كشف في داخله ذاك الذي يؤدي إلى الموت – ويقصد بذلك الخطيئة، التي سلط الناموس الضوء عليها بغية إظهار بشاعتها وشناعتها، وهكذا "أعمال الموت" فيه بواسطة ما كان لديه والذي يراه صالحاً بحد ذاته. وهكذا الخطيئة، قد أُظهرت أثيمة بشكل مفرط على ضوء التشريع القانوني.

اعتبر الكثيرون أن الآيات ١٤ – ٢٥ تشير إلى الخبرة المنطقية التي يمر بها المسيحي طوال حياته. وآخرون لا يعتقدون أنها تعكس الصراع الذي يعانيه المسيحي الحقيقي على الإطلاق، ولكن من الواضح أن بولس كان يصف الصراع بين الرغبات العليا والدنيا عند الإنسان الطبيعي، وخاصة لليهودي غير المهتدي والواقع تحت الناموس. ولكن كلا الرأيين يتناقضان بشكل واضح مع النظرية المطروحة في هذا الجزء من الرسالة.

بالنسبة للتفسير الأخير، يجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا الجزء من الرسالة بأكمله يطرح سؤالاً عن تحرير المؤمن من سيادة الخطيئة، وليس تحرير غير المؤمن من خطاياه. علاوة على ذلك ليس من إنسان غير مخلّص يستطيع أن يقول بصدق: "إني ابتهج بناموس الله بحسب الإنسان الداخلي". فقط هؤلاء الذين يمتلكون الطبيعة الجديدة يستطيعون الحديث على هذا النحو. وإذ أعتبرُ أن هذه هي الخبرة العادية لشخص نال الخلاص للتو فإني سأحاولُ أن أظهر خلال متابعتنا لدراسة الإصحاحات ٧ و ٨ أن هناك تعاقب متسلسل للأفكار ينتقل من الانذهال والارتباك في الإصحاح ٧ وصولاً لإلى التفكير الذكي والسلوك بالروح في الإصحاح ٨. ولا ريب أن كل المسيحيين يعرفون شيئاً عن الحالة التي نجد وصفها في الآيات ١٤ – ٢٥ من هذا الإصحاح السابع، ولكن ما أن نصبح خارجها فلن يحتاج أحد للمرور فيها من جديد على الإطلاق. إنها ليست الصراع بين الطبيعتين وحسب. لو كانت هكذا فعلاً، لكان من الممكن للمرء أن يعود إلى نفس الخبرة غير السارة مراراً وتكراراً. إنها تبين لنا الممارسات لنفس نشطة متسرعة تحت الناموس لم تتعلم بعد طريق التحرر والانعتاق. عندما يتعلم المرء ذلك، فإنه يتحرر من الناموس إلى الأبد. سبق أن قلتُ قبلاً في البداية أن لدينا هنا أصلاً يهودي مؤمن يجاهد لينال القداسة باللجوء إلى الناموس كقاعدة لحياته ويحاول بعزم موطد أن يُجبر طبيعته القديمة لأن تكون خاضعة للناموس. في العالم المسيحي اليوم، إن المؤمن الأممي العادي يمر بنفس الخبرة؛ ذلك لأن الالتزام بالقوانين تعليم شائع منتشر في كل مكان تقريباً.

ولذلك فعندما يأتي شخص إلى الإيمان فإنه من الطبيعي أن يعتقد أن ولادة المرء من الله هي مجرد مسألة تصميم ومحاولة مستمرة لإخضاع الذات للناموس، وهكذا يصل المرء إلى حياة القداسة. والله نفسه يسمح بالتجربة كي يتعلم شعبه بالخبرة العملية أن الجسد في المؤمن ليس أفضل من الجسد في غير المؤمن. وعندما يتوقف المرء عن محاولته الشخصية يجد أن التحرر عن طريق الروح هو بالامتلاء بالمسيح القائم.

يكتب بولس بصيغة المفرد المتكلم، ولكن ليس بالضرورة أن تكون هذه الخبرة التي يصفها مطولاً هنا هي خبرته الشخصية بالذات (رغم أنه قد يكون مرّ بها)، ولكن غايته هي أن يجعل القارئ الذي قد يدخل فيها يتعامل مع الأمر بتعاطف وتفهم لذاته.

إن الناموس روحي، أي أنه من الله، وهو مقدس وفائق الطبيعة. ولكنّ جسدي شهوانيٌّ رغم أني مؤمن؛ فالجسد يسيّرني بشكل أو بآخر. في (١كو ٢، ٣) ميّزنا الإنسان الطبيعي فينا، أي الإنسان غير المخلَّص؛ فالإنسان الجسداني، هو ابن غير مخلَّص لله؛ والإنسان الروحي، هو المسيحي الذي يحيا ويسلك بالروح.

إن الإنسان الجسدي هنا هو عبد للخطيئة، أي أنه خاضع لسلطان الطبيعة الشريرة التي مات لها في المسيح، وهذه حقيقة مباركة بالفعل، ولكنه إنسان لم يدركه الإيمان بعد. وبالتالي فإنه يجد نفسه ينساق في الاتجاه المعاكس لأعمق الرغبات الكائنة في طبيعته الجديدة المغروسة بالقداسة. فيمارس أشياء لا يريدها. ويخفق في تحقيق نواياه الصالحة. يبغض الخطايا التي يرتكبها. والخير الذي يحبه لا يجد لديه قوة لإنجازه. ولكن هذا يثبت له أن هناك شيئاً ما في داخله عدا ذاته الحقيقية كابن لله. فلا تزال لديه الطبيعة الجسدانية رغم أنه وُلِدَ لله. إنه يعلم أن الناموس صالح. ويريد أن يحفظ الناموس، ويصل شيئاً فشيئاً إلى الإدراك أن من يخفق ليس ذاته المتحدة مع المسيح. إنها الخطيئة، الساكنة فيه، هي التي تمارس السيطرة عليه (الآيات ١٤ - ١٧).

وهكذا يدرك ضعف وعقم الجسد. "فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ أَيْ فِي جَسَدِي شَيْءٌ صَالِحٌ". إنه يريد أن يفعل الصلاح ولكن تعوزه القوة لإنجازه على نحو صحيح. ويتخلى مع الوقت عن محاولة إجبار الجسد على أن يتأدب وأن يخضع للناموس.

ولكن الصلاح الذي عليه أن يفعل، لا يفعله، والشر الذي لا يريده، فذاك يفعله. وهذا إنما يؤكد له الاستنتاج الذي وصل إليه لتوه: "فَالآنَ لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ". والناموس، أو مبدأ السلوك، عندئذ يكون قد اكتشفه. إنه يريد أن يفعل الصلاح ولكنه يفعل الشر. بحسب الإنسان الداخلي، فإنه يبتهج بناموس الله، ولكن هذا لا يقوده إلى القداسة التي يرجوها. عليه أن يتعلم أن يبتهج بالمسيح القائم ليحقق هدف رغباته. وهذا يبلغه لاحقاً، ولكن في هذه الأثناء يكون مشغولاً باكتشاف الطبيعتين مع اختلاف رغباتهما ونشاطاتهما. ويكتشف "ناموساً آخر"، مبدأ، في أعضائه (أي أعضاء الجسد الذي يعمل فيه الفكر الجسداني) الذي يثور على ناموس فكره المتجدد ويأسره إلى مبدأ الخطيئة الذي لا يمكن فصله عن أعضائه الجسدية طالما هو يعيش في هذه الحياة. هذا الناموس يسميه "ناموس الخطيئة والموت". ولولا هذا المبدأ أو القوة الكابحة لما كان هناك خطر منع أو إساءة استخدام أي رغبة أو نزعة إنسانية. وإذ هو على قناعة تامة تقريباً بأن الصراع يجب أن يستمر طوال وجوده الجسدي على الأرض فإنه يصرخ في كرب قائلاً: "وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟" إنه كمثل إنسان مربوط بالسلاسل إلى جثة دنسة، لأنه فاسد، وعاجز عن أن يكسر السلاسل. فهو لا يستطيع أن يجعل الجثة نظيفة وفاضلة، مهما حاول. إن صرخته هذه هي صرخة إنسان يائس يحاول جهده دون جدوى. لقد استنفذ كل الوسائل البشرية. وفي لحظة يرى رؤيا بالإيمان بالمسيح القائم. إنه وحده الذي يعتقنا من سطوة الخطية، وهو المخلص الذي دفع عقوبة الإثم عنا. ويقول: "أشكر الله بيسوع المسيح ربنا". ولقد وجد المنفذ. ليس الناموس بل المسيح في المجد هو قاعدة الحياة للمسيحيين.

ولكن الدخول الفعلي إلى هذا الموضوع يبقيه بولس للجزء التالي. وخلال ذلك يقرّ قائلاً: "إِذاً أَنَا نَفْسِي (أي الانسان الحقيقي كما يراه الله) بِذِهْنِي (أي الذهن المتجدد) أَخْدِمُ نَامُوسَ اللهِ وَلَكِنْ بِالْجَسَدِ نَامُوسَ الْخَطِيَّةِ". مثل هذه الخبرة لا يمكن أن تكون لمسيحي مثالي. الإصحاح التالي الذي سندرسه بشكل منفصل يظهر المنفذ من هذه الحالة المربكة وغير المرضية.

إن كان أحد منكم مؤمناً يعاني من الآلام المبرحة المضنية لهذا الصراع الرهيب ساعياً لإخضاع الجسد للناموس الإلهي المقدس، فدعوني أحثكم إلى قبول حكم الله على الجسد والاعتراف باستحالة جعله يسلك سلوكاً حسناً. لا تتصارعوا معه، فسوف يتغلب عليكم كل مرة. تنحوا عنه؛ توقفوا عن ذلك كلياً. وغضوا الطرف عن الذات والناموس وانظروا إلى المسيح القائم.

لقد أراد الشعب العهد القديم أن يجد طريقاً مختصرة عبر أدوم، وهذا سلوك يدفعنا إليه الجسد، ولكن أبناء عيسو خرجوا مسلحين يقطعون الطريق عليهم. كانت وصية الله أن يغيروا اتجاههم و"يدوروا حول أرض أدوم". وهكذا الحال معنا؛ فعندما نتنحى عن الانشغال بالذات نجد الانعتاق والنصر في المسيح بالروح القدس.

المحاضرة ٦

انتصار النعمة

الجزء ٢

الإصحاح ٨

لقد كان يثير شفقتي على الدوام، عند تحرير كتبنا المقدسة وتقسيم النص إلى إصحاحات وآيات، ذاك الانقطاع أو الفصل الذي يسمحون به والذي يقع بين الإصحاحين السابع والثامن. إن لدي قناعة بأن نفوساً كثيرة قد أخفقت في رؤية الترابط بسبب هذا الانقطاع. إننا معتادون على القراءة إصحاحاً إصحاحاً، بدل أن نقرأ بحسب المواضيع. والأصح أن الآيات الأربع الأولى من الإصحاح ٨ يجب أن تُضَم إلى نهاية الإصحاح ٧، ذلك لأنها تتناول موضوع الرجاء: "أشكر الله بيسوع المسيح ربنا".

هذه الآيات الافتتاحية تشكل خلاصة لكل الحقيقة التي تم كشفها قبل قليل في هذا الجزء من الرسالة ابتداءً من الإصحاح ٥: ١٢. وبالطبع ليس هناك حاجة كبيرة لأن أشير وأؤكد على ما صار معروفاً ومألوفاً لكل تلميذ مجتهد على دراسة النص الأصلي: فالجزء الأخير من الآية الأولى هو استكمال (ينتمي في الواقع إلى الآية ٤)، يُبهتُ الحقيقة العظيمة المعلنة في الكلمات الافتتاحية: "إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". هذه العبارة المهيبة الجليلة لا تتطلب وجود جملة وصفية. إنها لا تعتمد على سيرنا. إنه حقيقي بالنسبة لكل من هم في المسيح، وأن تكون فيه يعني أن تكون من الخليقة الجديدة. إن نظرة إلى الطبعة المنقحة أو أي ترجمة نقدية سوف تُظهر أن ما أُشيرُ إليه يؤيده جميع المحررين. إن المقت المتأصل عند الإنسان للنعمة الجليلة، وأنا متأكد من ذلك، هو ما أتى بهذه الكلمات الوصفية إلى النص في الطبعة الشائعة. لقد بدا أن الأمر أصعب من التصديق في أن التحرر من الدينونة كان يعتمد على كوننا في المسيح يسوع وليس على أننا نسلك بحسب الروح. ولذلك سهل عليهم نقل الكلمات من الآية الرابعة إلى الآية الأولى. ولكن في الآية الرابعة نجد السؤال المطروح هو عن الموقف.

يا له من ارتياح لا يوصف للنفس المرتبكة المضطربة التي خمدها الإحساس بتفاهتها وعدم استحقاقها، والمحزونة بسبب الإخفاقات المتكررة للارتقاء إلى قامته ذاتها التي تحل العزيمة، يا له من ارتياح يصيب نفس ذلك الإنسان عندما يتعلم أن الله يراه في المسيح يسوع، ومن هنا فإنه يكون حراً من كل دينونة. فقد يهتف قائلاً: "ولكني أشعر أني مُدان جداً". ولكن ليست هذه المسألة. إنها ليست ما أشعر به بل ما يقوله الله. إنه يراني في المسيح القائم، بعيداً عن متناول الدينونة.

السجين أمام هيئة المحكمة، يصعب عليه أن يسمع، وتكون الرؤية باهتة أمامه، ولذلك فقد يتخيل إعلان قرار إدانته في نفس اللحظة الذي يعلن فيها القاضي الحكم ببراءته التامة. ولا يُعزى ذلك للعمى أو للصمم. فحتى وإن كنا بطيئي السمع، ورؤيانا الروحية فيها خلل على الأغلب، فإن الحقيقة المباركة تبقى، وهي أن الله أعلن المؤمن حراً من الدينونة سواء ارتفع كلياً إلى مستوى الحقيقة المجيدة أم لا.
أيها المرتاب، أشح بنظرك إذاً كلياً عن ذاتك وحالتك، وإلى الأبد إلى ما وراء الصليب حيث وضعَتْه خطاياك مرة، وانظر إلى ذاتك فيه، ممجداً هناك على يمين الله. ما كان ليكون هناك لو لم تتم تسوية مسألة الخطيئة بالشكل الذي يرضي الله. إن حقيقة أنه هناك وأن الله يراك فيه هي أكمل شهادة ممكنة على تحررك من الدينونة.

"هاهو السلام يتدفق للأبد
من أفكار الله حول ابنه.
هاهو السلام قد أتى مع المعرفة
بأن كل شيء قد تم على الصليب.
السلام مع الله هو المسيح في المجد،
الله نور والله محبة،
مات يسوع ليخبر قصة
عودة الخصوم إلى الله في الأعالي".

لقد جُلِبنا إلى الله "بيسوع المسيح" ولذلك فإن مسألة الدينونة برمتها قد حُلّت وسوِّيت. وسوف لن تُطرح من جديد.

وهذا يضع النفس في حالة من الحرية تمكنها من أن تمتلئ بمرضاة الله، ليس كوسيلة للهرب من غضب الله، بل بدافع المحبة له هو الذي أتى بنا إليه في سلام. وما عجز الناموس عن إنجازه، بكل تحذيراته وتهديداته الصارمة والمهيبة (أي تحقيق حياة من القداسة، بسبب الضعف واللاموثوقية في الجسد)، يتحقق الآن في قبول الحياة الجديدة بالروح. يمكن قراءة الآية الثانية بشكل أوضح ربما على النحو التالي: "ناموس الروح (الذي هو حياة في المسيح يسوع) قد أعتقني من ناموس الخطيئة والموت". بمعنى أن ناموس الروح في الحياة بالمسيح يسوع الذي تلقيناه عند الولادة الجديدة وُضِعَ على طرف نقيض من ناموس الخطيئة والموت الذي يصارع المؤمن ضده دون جدوى، طالما ظل يصارع مستخدماً قوته الشخصية. إن النصر يأتي من خلال التحول من الذات نحو المسيح القائم. إن ناموس الروح يؤتي بالبركة لأنه يعطي القوة لمن لم يكن لديه من قبل. إنه مبدأ جديد كلياً: حياة (ليست فينا أو من ذاتنا، بل) في المسيح يسوع. هذه الحياة الجديدة تُمنح للمؤمن. وبقوة هذه الحياة الجديدة يُدعى للسير. "الله هو الذي يعمل فينا من ناحية الإرادة والفعل لأجل مسرته". كان الناموس يتطلب براً من الإنسان الذي كانت طبيعته فاسدة تماماً ومنحرفة والتي ما كانت لتؤتي إلا ثماراً فاسدة. لقد أوجد الروح القدس طبيعة جديدة في الإنسان بالمسيح، ومع هذه الحياة الجديدة ارتبطت مشاعر وعواطف ورغبات جديدة لكي يستجيب بسرور إلى إرادة الرب المتبدية في كلمته. لذلك فإن بر الناموس، والصلاح في الممارسة التي يتطلبها الناموس، ينشأ بالفعل في الإنسان الذي يسير لا بحسب الجسد، ولا تحت سلطان الطبيعة القديمة، بل بحسب الروح، أو في خضوع للروح الذي جاء ليتملكنا للمسيح.

في الآيات (٥ - ٢٧) يستأنف بولس كشف مجال واسع من الحقائق المعززة للنفس فيما يتعلق بسكنى الروح القدس الذي هو النائب الوحيد للمسيح على الأرض. في بادئ الأمر يذكرنا بأن هناك مبدآن متعاكسان تماماً يجب أخذهما بعين الاعتبار، أو بالأحرى مقياسين للحياة متضادين تماماً. فهؤلاء الذين يعيشون بحسب الجسد، أي غير المخلَّصين، تسيطر عليهم الطبيعة الجسدانية – إنهم "يهتمون بأمور الجسد". في هذه الكلمات الجامعة الموجزة تتلخص كل حياة الإنسان الطبيعي. ومقابل ذلك فإن المباركين هم أولئك الذين يعيشون بحسب الروح على نحو مميز. ويشرح بجملة معترضة أن "اهتمام الجسد هو موت"، فهذه هي النتيجة المنطقية بالتأكيد؛ ولكن "اهتمام الروح هو حياة وسلام". فمن يقتادون بالروح يُرفعون إلى مستوى ليس للموت فيه موضع ولا يُعرف فيه صراع.

هذا لا يعني أن الجسد قد تحسن أو سيتحسن أبداً. فالجسد في المسيحي الأقدم والأكثر قداسة هو شرير بشكل لا يمكن تغييره مثله مثل الجسد في أكثر الخطأة خسة وفساداً. "اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهُ أَيْضاً لاَ يَسْتَطِيعُ". (الآية ٧). وإن كل المحاولات لإصلاح أو تطهير الجسد لا جدوى منها. إن الناموس يُظهر وحسب الشر الذي لا برء منه. وهذا يفسر كون الإنسان الطبيعي لا فائدة منه. "فأولئك الذين في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله". بالطبع من المستبعد أن يكون هكذا إنسان غير قادر على التمييز بين الخطأ والصواب، أو أنه قادر على التمييز بين الخطأ والصواب، أو أنه قادر على هذا التمييز ولكن لا حول له ولا قوة إزاء فعل الصواب. هكذا قول سيكون بمثابة تصريح بأن هذا الإنسان هو مخلوق غير مسئول، بل حتى أنه ضحية لقدرية وحشية قاسية. ولكن معرفة الشر واستحسان الخير تُظهر أن الإنسان الطبيعي ينزع إلى ارتكاب الخطأ ويخفق في فعل الصواب، ذلك لأن الخطيئة تسيّره بالجسد ولها يسلم أعضاءه كأدوات للفجور كما سبق ورأينا في الإصحاح السادس. وبما أنه عاجز عن تغيير طبيعته فإنه لهذا السبب لا يستطيع أن يرضي الله في الواقع.

ولكن الأمر بعكس ذلك عند المؤمن. فما عاد في الجسد لأنه وُلِد من الله. إنه الآن في الروح، وروح الله تسكن فيه. "إن كان" لا تتضمن المعنى بأن هناك مسيحيين لا يسكنهم الروح، وليس لهم القوة "بسبب" ذلك. فالحقيقة أنك ما عدت في الجسد "بسبب" سكنى روح الله فيك، وذلك لأنك من عائلة الإنسان الأول وتحت سطوة الطبيعة القديمة. إن كان أحد خلواً من روح المسيح، سواء اعترف بأنه مؤمن أم لا، فإنه ليس منه، أو "ليس له". ليس المقصود بذلك هو مجرد توزيع للمسيح بل إن روح المسيح هو الروح القدس الذي أرسله المسيح إلى العالم والذي يسكن جميع الذين افتداهم في هذا التدبير الإلهي للنعمة. وبالطبع فإن هذا يخلق شبهاً بالمسيح في ذاك الذي تسكنه الروح على هذا النحو.

ولكن إن كان المسيح (بالروح) ساكناً فينا هكذا فهو وحده مصدر قوتنا للقداسة. سوف لن يقدم الجسد لنا أي عون. "الجسد مائت بسبب الخطيئة". فهكذا الإتيان بثمار لله. وكل شيء يجب أن يكون من الروح. "الروح حياة بسبب البر".

لا نقصد بذلك أن نتجاهل أو نستخف بقَدْرِ الجسد. فهو أيضاً اشْتُرِي بدم المسيح، ولدينا الوعد بأنه "إِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ" (الآية ١١). من غير المجدي القول، مثل البعض، بأن هذا تسريع للحاضر، في حين أفادت الآية السابقة بالعكس تماماً. "الجسد ميت بسبب الخطيئة" – وبالطبع ليس ذلك بالفعل بل من الناحية القضائية. ولذلك علينا ألا نتوقع أي شيء منه. إن الجسد القوي لا يعني بالضرورة قديساً قوياً, ولا الجسد الواهن يعني مؤمناً ضعيفاً. بل إن القوة الطبيعية قد تبدو معيقاً للنمو الروحي إذا كانت الحقيقة, التي ما برحنا نتمعن فيها, غير معروفة, في حين أن ضعف قوة الطبيعة قد يكون مدخلاً سهلاً لممارسة القداسة. ومن هنا كان الرهبان والنساك على اختلاف أنواعهم ينشدون أن ينموا في النعمة بمعاقبة الجسد وتجويعه. ولكن نعلم من (كولوسي ٢٠) أن كل هذا عقيم وعديم الجدوى فمن العبث كبح الرغبات الجسدية على هذا النحو.

ولكن الجسد للرب, والروح القدس نفسه الذي أقام يسوع من بين الأموات سوف يقيمنا نحن أيضاً في نهاية الأمر, بمنح حياة قيامية لهذه الأجساد الفانية. إن الحديث يدور حول جسد المؤمن الحي الذي يتمتع بالحياة الجديدة الآن في جسدٍ عرضةٍ للموت. فهو سيتخذ صفة الخلود لدى عودة الرب. وإذ عيننا الله لهذه فإننا لا ندين بشيء للجسد. فلسنا مدينين له لنقوم بخدمته. فإن فعلنا ذلك فهذا يعني الموت (وهذه حقيقة هامة جداً يلفت بولس انتباهنا إليها وذلك أن "الخطيئة عندما تحبل فإنها تلد موتاً"). ولكن إن أمتنا عمل الجسد بواسطة قوة الروح الساكنة فينا فإننا سنحيا حقاً. إن الجسم يُنظر إليه كأداة يتصرف من خلالها الجسد. إنه يثير الغريزة الطبيعية للانغماس في الرذيلة. إن الإنسان الذي تقوده الروح يجب أن يكون منتبهاً إلى ذلك. عليه أن يميت هذه الرغبات المحرمة. ونقرأ في (كولوسي ٣: ٥): "فَأَمِيتُوا أعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ". فبما أننا صُلبنا مع المسيح فإن لنا إيمان الآن حتى نميت من خلال دينونة الذات أعمال الجسد. "فنحن الذين نحيا قد تحررنا للموت من أجل المسيح".

أن نسلك في الجسد يعني أن نسلك ضد كل مبدأ المسيحية, "لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ". فبهذه الحياة في قوة الروح نميت أعمال الجسد ونظهر حياتنا وعلاقتنا الجديدتين. فهو ليس روح عبودية, أو إلزام, يملؤنا بالخوف والفزع, بل روح التبني والنبوة, التي بها نرفع قلوبنا غريزياً إلى الله في صرخة الطفل الواعي "يا أبا، الآب". إن التبني يختلف عن الولادة الجديدة. فنحن أولاد بالولادة ولكننا أبناء بالتبني. وبالمعنى الكامل نحن لم نتَلَقَّ التبني. فهذا كله سيتحقق, كما تظهر الآية ٢٣, لدى عودة الرب. عندما كان الأب الروماني يعترف علانية في الساحة العامة بولده كابن ووريث بحسب القانون, كانت هذه الممارسة الطقسية تدعى "التبني". فكل المولودين في عائلته كانوا أبناء. وهكذا فإننا قد ولدنا ثانية بكلمة الله, ومن هنا فإننا أولاد, كمثل كل المؤمنين منذ هابيل حتى الآن. ولكن بما أن الروح يسكن فينا فإننا متبنون كأبناء, وهذا سيتجلى بشكل كامل أمام الجميع عندما نتحول إلى صورة مخلصنا عند مجيئه الثاني.

إن نداء الطفل "يا أبا, الآب" موحية للغاية. فالكلمة الأولى الواردة هنا عبرية, والثانية يونانية. فالنسبة لأولئك الذين في المسيح, زال الحائط المتوسط. والجميع واحد فيه. ومعاً نصرخ إليه "يا أبا, الآب". لقد اعتاد ربنا نفسه استخدام التعبير المضاعف الكلمات هذا في بستان جثسيماني (انظر مرقس ١٤: ٣٦). اقترح أحدهم وكان اقتراحاً ملائماً أن "أبا" كلمة مناسبة لشفاه الطفل الرضيع, في حين أن الكلمة اليونانية التي تعني "الآب" كلمة تناسب شخصاً أكثر نضوجاً. ولكن الصغار والكبار يشتركون معاً هنا لمخاطبة الآب بالروح.

وهو نفسه يشهد مع روحنا الإنسانية بأننا أولاد الله. وأخذنا شهادته لنا المعطاة في كلمته (عبرانيين ١٠: ١٥). ولذلك فإن لنا الشهادة في داخلنا, وهو الكلمة المخبأة في قلوبنا (١ يوحنا ٥: ١٠). والآن يتخذ الروح نفسه مسكناً في داخلنا ويقودنا إلى فرح السماويات. وفي النص نرى أنه "الروح نفسه". تتطلب اللغة اليونانية هذا التأكيد لأن الكلمة "روح" هي اسم محير. وبالنسبة إلى اللغة الإنكليزية فإن هذا الترتيب يصح فيه استخدام الضمير الشخصي. إنه يتحادث بود مع أرواحنا, فينيرنا, ويرشدنا, ويوجهنا من خلال الكلمة.

"من شعر بروح العلي,
لا يخزى, ولا يرتاب أو ينكره,
بل ينادي بصوته قائلاً: أيها العالم الجاحد
تنحوا جانباً لأن هذا مكاني".

>إن "شركة الروح" أمر حقيقي رائع يعرفه ويفرح به أولئك الذين يسلكون فيه.
إن كنا أولاد الله فمن الطبيعي أن نكون أيضاً ورثة له، وهكذا نكون وارثين مع المسيح. فنشترك في كل أمجاده المكتسبة, وهكذا سوف "نتمجد معاً" في نهاية المطاف.

في الآيات ١٨ – ٢٧ يغاير الرسول بين موقفنا الحالي مع المجد العتيد. رغم أننا مسكن للروح إلا أننا مدعوين للمرور عبر الألم والمعاناة ونحن نتبع خطواته وهو الذي كان, خلال وجوده على الأرض, رجل أوجاع. ولكن كل ما يمكن أن نعاني منه هنا لا يقاس بالمجد الذي سيستعلن قريباً.
إن الخليقة كلها تنتظر مترقبة الاستعلان الكامل للوضع الحقيقي لأبناء الله, عندما تشترك هي أيضاً في تلك الحرية المجيدة. لقد جعلت عرضة للفناء, ليس بإرادتها بل بسبب إخفاق رأسها, ومع ذلك فإن هذا الوضع ليس للأبد, بل على رجاء التجديد النهائي, وفي ذلك اليوم ستعتق من "عبودية الفساد" وتُعد لتشارك في "حرية مجد أولاد الله".

لا تشترك الخليقة في حرية النعمة. سيكون لها دور في حرية المجد, في عهد الملكوت في البركة الألفية. حتى ذلك الوقت ستبقى النغمات الصغيرة مسموعة في كل أصوات الخليقة؛ أنين وتمخض آلام الولادة في الوقت الحالي, في انتظار التجديد, ونحن أنفسنا, رغم أننا قد نلنا خلاص نفوسنا ولدينا باكورة ثمار الروح (نستمتع الآن بالتذوق المبدئي لما سنكون فيه أنفسنا بكامل امتلائه قريباً), فنئن في انسجام مع الخليقة المتأوهة ونحن ننتظر بترقب التبني المعترف به عندما سنتلقى افتداء أجسادنا ونكون مثله بشكل كامل.

على هذا الرجاء قد خلصنا وبقوته نحيا. نسير بالإيمان, ليس بالمعاينة. فلو أننا رأينا لتلاشى الرجاء, لكن بهذا الرجاء ننتظر الرب بصبر.

خلال هذه الأثناء غالباً ما نتعرض للتجربة والامتحان إلى أقصى حد, ولا نعرف حتى ما سنصلي لأجله كما ينبغي, لكن الروح الساكن فينا, العارف بما في فكر الله بشكل كامل يشفع فينا بحسب مشيئة الله, ليس بكلمات مسموعة بل بأنات لا ينطق بها "لقد كنا نئن في العبودية أما الآن فنئن في النعمة", كما قال أحدهم وأحسن القول. وهذا الأنين بحد ذاته هو شهادة للأوضاع المتغيرة التي نتجت عن اتحادنا بالمسيح. إن أنات الروح متساوقة مع تنهداتنا ودموعنا, وإن فاحص القلوب العظيم يصغي ويستجيب في حكمة لا متناهية ومحبة لا تبدل فيها.
وهكذا نحفظ في سلام وسط الضيقة, ولنا ثقة في قلوبنا, "أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ" (الآية ٢٨). وهنا ندخل إلى الجزء الختامي للإصحاح والقسم العقائدي العظيم في الرسالة, ونجد تلخيصاً لكل ما مررنا عليه, وخاتمة بارعة للموضوع الذي بدأ بالعنوان "بر الله كما تبدى في الإنجيل". وهذا ينقسم إلى قسمين فرعيين:

في الآيات ٢٨ – ٣٤ لدينا: "الله معنا".

وفي الآيات ٣٥ – ٣٩ لدينا: "ما من فاصل".

هناك سلسة مجيدة من خمس ارتباطات في الآيات ٢٩, ٣٠ تصل من الأزل في الماضي إلى الأبدية في المستقبل- المعروفة مسبقاً, المقدرة مسبقاً, المدعوة, المبررة, الممجدة. كل ارتباط كان مسبوكاً في السماء ولا يمكن لأي ارتباط أن يتحطم أو ينكسر. هذا الجزء المبارك من الرسالة ليس للاهوتيين ليتجادلوا حوله بل هو للقديسين ليبتهجوا به. فما كان معروفاً مسبقاً من قبل أن نطأ هذه الأرض قد سبق وعيننا له لنصبح مشابهين تماماً لربنا المبارك – "مشابهين صورة ابن الله", من أجل أن يكون, ذاك الذي كان "الابن الوحيد" من الأزل, "بكراً بين إخوة كثيرين". ولذلك فقد دعينا بالنعمة الإلهية وتبررنا بالإيمان على أساس الافتداء المنجز. وتمجّدنا أكيدٌ بناء على معرفة الله المسبقة.

ماذا سنقول إزاء كل هذا؟ إن كان الله قد استعلن إلى هذا الحد لأجلنا – وليس ضدنا كما جعلتنا قلوبنا المضطربة وضمائرنا المثقلة نعتقد – فأي قوة يمكن أن تكون علينا؟ من يستطيع أن يقارع الإرادة الإلهية وينجح؟

بإعطائنا المسيح, أظهر لنا الله (كما قال أحد الإخوة المحبوبين) "أنه أحبنا أكثر مما أحببنا نحن خطايانا", وأنه لم يدخر "ابْنهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، فكَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟"

أعتقد أن الآتيين التاليين يجب قراءتهما على صيغة سؤال, كما في عدة ترجمات نقدية: "مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ! مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ الْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً الَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ اللهِ الَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا!"
ليس من جواب ممكن. كل صوت يصمت. كل اتهام يبطل. وقوفنا في المسيح كامل وتبريرنا لا يتغير أبداً.

وهذا ما نجده في الآيات الختامية ٣٥ – ٣٩, حيث يتحدى الرسول بلهجة انتصار أي ظرف ممكن وأي كائن في هذه الحياة أو الحياة الآتية أن يحاول فصل المؤمن عن محبة الله التي في المسيح يسوع. وما من خبرة مهما كانت قاسية أو صعبة يمكن أن تفعل ذلك. حتى ولو كنا مكشوفين كشاة إلى الذبح إلا أن الموت إنما يدخلنا إلى حضرة الرب. في كل الظروف لسنا نغلب فقط بل إننا ننتصر في المسيح.

وهكذا, وإذ بدأ هذا القسم بالقول "ما من دينونة". ينهيه بالقول "ما من فاصل": "فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا".

يا له من تحقيق مبارك وعجيب لهذا الموضوع المذهل الذي لم يسبق أن أعطي مثله لإنسان ليعرف الآخرين به! علّ نفوسنا تدخل إليه بعمق أكبر وتجد سعادة متزايدة وقوة روحية بينما نحن نتأمل به.

"ما من دينونة. تبارك الكلمة.
ما من فاصل, فنحن مع الرب إلى الأبد.
بدمه اشترانا, ومحا كل عارنا,
فنمجده بابتهاج الآن,
ذاك الحمل الذي ذبح عن الخطاة".

ج. دينهام سميث.

المحاضرة ٧

بر الله المنسجم مع طرق تدبيره

القسم ٢ : التدبيري

الإصحاحات ٩ – ١١

علاقة الله الماضية مع إسرائيل في اختيار النعمة

الأصحاح ٩

إذ حملنا طوال الطريق من البعد والعبودية والدينونة في الإصحاحات ١, ٢, ٣ إلى الحرية المجيدة والتبرير والاتحاد الأبدي بالمسيح في الأصحاح ٨، نجد الرسول بولس ينبري الآن إلى معالجة وجه آخر من الأمور بشكل إجمالي. لقد كان يعرف جيداً أن العديد من قرائه سيكونون يهوداً أتقياء ورعين قد اقتبلوا المسيح على أنه المسيا والمخلص لهم, ولكنهم كانوا يمرون بمرحلة من الحيرة الكبيرة والارتباك وقد رأوا أمتهم تقسوا بشكل واضح وتتحول إلى معارضة للإنجيل, بينما الخاطئون من الأمميين يتحولون إلى الرب. لقد كانوا يدركون أن الأنبياء تنبأوا بصنيع عظيم سيفعله الله بين الأمميين, ولكنهم كانوا معتادين على التفكير بأن هذا سيأتي بعد التجديد الكامل ومباركة إسرائيل, وفعلياً سينبع هذا منها. كان على إسرائيل أن تزهر وتبرعم وتملأ وجه الأرض بالثمار. وعلى الأمميين أن يهتدوا بنورها ويجدوا السعادة في الإذعان لها. ولكن بدا الآن أن جميع النبوءات التي استندوا إليها في توقعاتهم قد أخفقت ولم تتحقق. كيف يستطيع بولس أن يوفق بين إعلانه بالنعمة المجانية للأمميين في كل مكان في منأى عن خضوعهم للحقوق المرتبطة بالعهد القديم؟ في الإصحاحات الثلاثة التي سنتناولها الآن يجيب الرسول على هذا السؤال, وذلك ببراعة, فيظهر كيف أن بر الله منسجم مع طرق تدبيره. يمكن تقسيم هذا الجزء من الرسالة إلى ثلاثة تقسيمات فرعية: الإصحاح ٩ يعطينا فكرة عن علاقة الله الماضية مع إسرائيل في اختيار النعمة, والإصحاح ١٠ يطرح علاقة الله الحالية بإسرائيل من ناحية التأديب التدبيري, والفصل ١١ يظهر علاقة الله المستقبلية بإسرائيل في تحقيق النبوءة.

إن فتحنا كتبنا المقدسة على الإصحاح التاسع, من ستفوته ملاحظة الكلمات الجدية التي يخاطب بها بولس أنسباءه حسب الجسد؟ إنه يؤكد لهم بأنه يحبهم بعمق وأن قلبه متوجع على الدوام بسببهم. ما كان أحد ليستطيع أن يحبهم مثله. ولعلهم اعتقدوا انه ابتعد عنهم بسبب مهمته في إعلان الإنجيل للأمم, ولكن من الواضح جداً, هنا وفي بقية سفر الأعمال, أنه ورغم مبالغته في تقدير مهمته كرسول للأمم, إلى أنه كان في قلبه سعي كبير لأن يصل إلى أنسبائه وأن يشهد لهم. لقد كانت خدمته لليهود أولاً ثم لليونانيين (الأمميين).

هناك خلاف في الرأي بين أهل التقوى والدارسين فيما يتعلق بالمعنى الدقيق للآية ٣: هل كانت تقصد أنه كانت هناك أوقات رغب فيها بولس فعلاً, لو أمكنه, أن يخلص إخوته بأن يكون هو نفسه محروماً من المسيح؛ وأنه كان مستعداً للانسياق وراء ذلك؟ أم أن الأمر ببساطة هو أنه يفهم بشكل كامل شعور اليهودي الأكثر جدية, الذي بحماسته المغلوطة يمقت المسيح, لأنه هو نفسه رغب في وقت ما لو كان محروماً من المسيح تعاضداً مع أنسبائه بحسب الجسد؟ لو قبلنا الرأي الأخير لرأينا في هذه الآية ببساطة تعبيراً عن شدة وقوة مشاعره كيهودي مهتدٍ. ولكن إن قبلنا وجهة النظر السابقة فإننا سنضعه على نفس المنصة مع موسى الذي هتف صارخاً: "إن أمكن, امحني من كتابك, ودع الشعب يعيش". ولكن أياً كانت وجهة النظر التي سنتبناها, فإن إحساسنا باهتمامه العميق بشعبه يصبح أشد كثافة كلما تابعنا القراءة.

يعلن في الآيات ٤, ٥ البركات العظيمة التي تمتع بها شعب إسرائيل. فيقول أن الله اختصهم بالتبني (أي حرفياً: جعلهم في مكانة الابن), وبالمجد , وبالعهود, وبالاشتراع, وبالخدمة العبادية, والمواعيد. "َلَهُمُ الآبَاءُ وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلَهاً مُبَارَكاً إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ".

تأملوا في هذه البركات بالتسلسل:

أولاً: إعطائهم مكانة الابن, كان الله يعتبر شعب إسرائيل كابن له. وهذا يختلف عن مفهوم التبني الفردي في العهد الجديد كما نراه في الرسالة إلى أهل أفسس وكما رأيناه الآن في (رومية ٨). في الواقع إن التبني ليس فردياً هنا على الإطلاق, بل هو خاص بالشعب. أمكن لله أن يقول لإسرائيل: "من مصر دعوت ابني" وأَيضاً "وحدك عرفت من بين جميع الأمم التي على الأرض". لقد كانوا خاصته, وكان يعتبرهم هكذا.

ثانياً: المجد. لقد تجلى المجد بامتياز. ومن خلالهم سيعلن الله امتياز اسمه العظيم. لقد كانوا شهوداً له.

ثالثاً: العهود. لاحظوا أن كل العهود قد اختص الله إسرائيل بها: أي العهد الإبراهيمي, والعهد الموسوي, والعهد الداودي, والعهد الجديد. كلها أُعطيت إليهم. ويأتي المؤمنون من الأمميين تحت البركات التي للعهد الجديد, لأنه عهد النعمة الصافية. ولكن الله كان يضع إسرائيل واليهودية نصب عينيه عندما قال من خلال النبي: "سأقيم عهداً جديداً معك". وعندما أقام ربنا العشاء التذكاري, قال: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي, الذي يهرق عنكم لمغفرة الخطايا". إن دم العهد قد أهرق للتو, ولكن العهد الجديد لم يكن قد أعطي بعد, رغم أنه سيكون في نهاية الأمر مع الناس الدنيويين. في أثناء ذلك فإن الأمميين المفتدين سيأتون تحت البركات الروحية لذلك العهد, وفي الواقع جميع الآخرين بطريقة بعيدة جداً عما توقعه أنبياء العهد القديم على الإطلاق.

رابعاً: إعطاء الناموس. لقد كان موجهاً للإسرائيليين. لم يُعْطَ للأمميين, رغم أن كل البشر يصيرون مسئولين فيما يتعلق ببنوده عندما يصبح معروفاً لهم.

خامساً: خدمة العبادة. أقام الله خدمة طقسية شعائرية ذات معنى رائع وجمال مدهش فيما يتعلق بالخيمة والهيكل لشعب العهد القديم؛ ولكن ليس هناك إشارة لممارسات طقسية من أي نوع في كنيسة الله مثل هذه بل إننا في الواقع نتلقى تحذيراً ضدها في عبارات (كولوسي ٢) التي لا لبس فيها.

سادساً: المواعيد. والإشارة هنا بالطبع إلى المواعيد الكثيرة للبركة الزمنية المؤقتة في عهد المسيا في فترة الملكوت.

سابعاً: الآباء. إبراهيم واسحق ويعقوب, البطاركة, هؤلاء الذين ينتمون إلى الشعب الدنيوي. أما السماويين فليس لهم قائمة سلسلة نسب لاستشارتهم. إنهم منفصلون كلياً عن سلسلة النسب الدنيوية. لقد اختيرت الكنيسة بالمسيح قبل تأسيس العالم. ولكن في إسرائيل نرى سلسلة الآباء, رغم أننا نرى, مع المضي قدماً في الإصحاح, أنه ليس كل من كان من إسرائيل بحسب الجسد يعتبر إسرائيلياً.

لهذا الشعب جاء المسيح, مولوداً من عذراء، إنسانٌ حقيقي في جسد حقيقي من لحم ودم بروح عاقلة ونفس. ومع ذلك, ولسر شخصه, باركه الله, فوق كل شيء, وللأبد.

بالنسبة لليهودي المخلص الذي اعتمد على وعود الله لإسرائيل, سيبدو واضحاً أن هذه الوعود لم تتحقق. وإلا لماذا سيوضع شعب إسرائيل جانباً ويأتي الأمميون إلى موضع البركة؟ ويتابع الرسول كلامه ليظهر أن الله كان يسلك دائماً بحسب مبدأ النعمة. وكل الإمتيازات الخاصة التي كان شعب إسرائيل يتمتع بها كانت تعزى إلى هذا المبدأ. لقد أخرجهم الله من بين الأمم كشعب منتقى وفرزهم لنفسه. ولكن كان في ذهنه دائماً فكرة الشعب المتجدد ليكون شعب العهد. ليس كل من ولدوا من دماء إسرائيلية كانوا ينتمون إلى شعب إسرائيل, في نظر الله. فهم لم يكونوا أولاد العهد بالضرورة لأنهم من بذرة إبراهيم الطبيعية. في نعمة الاختيار قال الله لإبراهيم: "بإسحاق يدعى لك نسلٌ". لقد شاء أن يتجاوز إسماعيل, الرجل المولود بحسب الجسد, وأن يتبنى إسحاق الذي كانت ولادته عجائبية. وبهذا يوضح مبدأ أن "لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً ". يا لهذه الآية من ضربة صاعقة للمزاعم التي يدعيها أولئك الذين يتبجحون بصوت عال في أيامنا منادين بما يسمى (الأبوة العالمية لله والإخوة بين البشر). يخبرنا بولس بوضوح أن الأولاد بحسب الجسد ليسوا أولاد الله. ويؤكد لنا بهذا القول نفس الحقيقية التي سبق الرب فأعلنها لنيقوديموس: "ما لم يولد الإنسان ثانية لا يستطيع أن يرى ملكوت الله".

لقد كان إسحق ابن الموعد. قال الله: "أَنَا آتِي نَحْوَ هَذَا الْوَقْتِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ابْنٌ". لقد كان من المستحيل لهذا الوعد أن يتحقق بشكل طبيعي, ولكن الله عمل بقوة القيامة فدب الحياة في أجساد والدي إسحاق المائتة العقيمة, فصدقت الكلمة.

ومن جديد نرى في حالة أولاد إسحق ورفقة إظهاراً لنفس المبدأ في اختيار النعمة. ونعلم من الكتاب ما يلي: "لأَنَّ (الطفلين) وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ وَلاَ فَعَلاَ خَيْراً أَوْ شَرّاً لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا: «إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ»" (آيات ١١ - ١٣).

يا لمقدار الجدل الكبير، الذي لا حاجة له، الذي أثير حول هذه الآيات! في حين أنها في غاية الوضوح والبساطة إذا نظرنا إليها على ضوء علاقة الله التدبيرية. ليست المسألة هنا قضية القدرية المسبقة للسماء أو القضاء المسبق للجحيم. ففي الواقع إن مسائل الخلود لا يتم طرحها أبداً في هذا الإصحاح, رغم أنها تأتي تالية, بالطبع, كنتيجة لاستخدام أو سوء استخدام الإمتيازات التي منحها الله. ولكن النص لا يخبرنا هنا ولا في أي مكان آخر أن هدف الله وقبل ولادة الأولاد هو أن يرسل واحداً إلى السماء والآخر إلى الجحيم: أن يخلّص واحداً بالنعمة, على الرغم من كل أعماله الشريرة وأن يحكم على الآخر بالهلاك, بالرغم من كل توقه لشيء أعظم وأنبل مما وجده. إن المقطع يتعلق بموضوع الامتياز على الأرض هنا. لقد كان هدف الله أن يكون يعقوب أباً لشعب إسرائيل, وأن تخرج من خلاله البذرة الموعودة, ربنا يسوع المسيح, إلى العالم. لقد كان قد قرر مسبقاً أيضاً أن عيسو سيكون رجل براري – أبا أمة من البدو, كمثل أهل أدوم. هذا ما كان في القرار السابق للولادة: "الكبير سيخدم الصغير". ويجدر بنا أن نلاحظ أنه وقبل ولادة الطفلين, وبدون أن يكون للأمر علاقة بأيهما فعل الخير أو الشر, قد قال الله: "أحببتُ يعقوب وأبغضتُ عيسو". هذه الكلمات مقتبسة من السفر الأخير في العهد القديم. نجدها في (ملاخي ١: ٢, ٣). دعوني أقرأ لكم:

"أحبَبْتُكم قالَ الربُّ. وقلْتُم بِمَ أحبَبْتَنا. أليسَ عيسو أخاً ليعقوبَ يقولُ الربُّ. وأحبَبْتُ يعقوبَ وأبغضتُ عيسو وجعلتُ جِبالَه خراباً وميراثَه لذئابِ البرّية."

لاحظوا الموضوع المطروح: الله يلتمس من أبناء يعقوب أن يخدموه ويطيعوه, على أساس من أنه جدير بطاعتهم من ناحيتين: أولاً لأنه خلقهم, وثانياً بسبب الإمتيازات, البركات الأرضية التي منحها لهم. وبالمقارنة نجد أنه أحب يعقوب ومقت عيسو. ومن هنا فإنه أعطى يعقوب موطناً جميلاً, ومروياً وخصباً, ومبهجاً في موقعه, وأعطاهم, أيضاً, ناموساً مقدساً, وكهنة, ورعاة, وملوكاً لتوجيههم, وأنبياء لإرشادهم, ونظاماً طقسياً حافلاً ومعبراً ليقود قلوبهم في العبادة والتسبيح. كل هذه الأشياء أُنكرت على أدوم. لقد كانوا أولاد البراري. لم نقرأ أبداً أن نبياً أرسل إليهم رغم أنهم لم يُتْرَكوا في منأى عن معرفة الله. لقد تلقى عيسو تعليمه من شفاه والديه, ولكن مقابل كسرة من الخبز باع حق البكورية. وسلالته تميزوا دائماً بنفس روح الرذيلة الميالة إلى الاستقلال. تدبيرياً, أحب الله يعقوب, وأبغض عيسو. ليس هناك إشارة إلى الأفراد, "هكذا أحب العالم" ولذلك فكل ابن ليعقوب أو لعيسو كان يمكنه أن ينال الخلاص لو شاء. لكن ما من أحد يشك في أن يعقوب وسلالته استمتعوا بالامتيازات الدنيوية, والروحية أيضاً, وتلك لم يكن عيسو وأولاده قد عرفوها أبداً. أيكون الله غير عادل في هكذا تمييز بين الشعوب؟ أهو غير عادل, مثلاً, اليوم إذ يعطي شعوب شمال أوربا وأمريكا امتيازات لم يحصل عليها أبداً سكان أمريكا الوسطى وداخل أمريكا الجنوبية؟ لا, محال. إنه ذو سيادة. إنه يوزع شعوب البشر على الأرض كما يحسن في عينيه, ورغم أنه يختص أمة معينة بنعمة خاصة ويتجاوز أمة أخرى إلا أنه هذا لا يعني أبداً ألا يتحول أي فرد من أي أمة إلى الله بالتوبة, فالله لن يرفض أي كائن تحت الشمس, وفي أي ظروف, إذا رفع ناظريه إلى الله, رغم كل جهله, معترفاً إلى الله بخطاياهم ويطلب الرحمة, فقد كتب: "كل من يدعو اسم الرب يخلص".

يقتبس بولس مستشهداً بقول الله لموسى: "إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ".

ولنلاحظ أننا لا نجد الموقف الآخر المغاير السلبي. فهو لا يقول: "سأدين من أدين, وأرسل إلى الهلاك الأبدي من أرسل". ليس من فِكْرٍ كهذا في ذهن الله, الذي "لا يرغب أن يموت الخاطىء بل أن يعود إليه ويحيا". متى قيلت هذه الكلمات لموسى؟ عد إلى (سفر الخروج ٣٣: ١٩), اقرأ المقطع بأكمله ولاحظ المناسبة التي قال الله فيها هذه الكلمات. لقد كان إسرائيل قد خسر كل ادعاء بالبركة على أساس الناموس: فقد صنعوا عجلاً من ذهب وسجدوا أمامه, حتى في الوقت الذي كان فيه موسى على الجل يستلم لوْحَيّ العهد. وبهذا انتهكوا أول وصيتين قبل أن يأتوا إلى المعسكر, بعد أن كانوا قبل بضعة أيام قد أعلنوا قائلين: "سنفعل كل ما قاله الرب وسنكون طائعين" . بسبب ذلك, كان الله على وشك أن يمحوهم من على وجه الأرض, ولكن موسى, الوسيط, توسل لأجلهم في حضرة الله. بل حتى أنه عرض, كما رأينا, أن يموت بدلاً عنه, إن كان ذلك يزيل غضب الرب عليهم. ولكن انظروا الآن إلى روائع هذه النعمة الجليلة: لقد أجاز الله جودته وأرجأ حكمه على الشعب إذ ما أرضوه. ولذلك قال: "سَأَتَرَأَّفُ عَلَى مَنْ أَتَرَأَّفُ وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ". لقد صفح عن الشعب وبذلك جعلهم شاهداً رائعاً على نعمته. فلولا نعمته العظيمة هذه لما خلص أحد, لأن كل البشر فقدوا الحق بالحياة بارتكابهم الخطيئة. وإسرائيل, كشعب, كان يدين ببركته لرحمة الله وحنوه, عندما كان سيُفصل من أرض الأحياء في البر.

لذلك نجد الرسول بولس يهتف هنا قائلاً: "لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى بَلْ لِلَّهِ الَّذِي يَرْحَمُ". إنه لا يلغي إرادة الإنسان: إنه لا يقول أنه ليس من مسئولية للنجاة من البر الملقى على عاتق الإنسان؛ ولكنه يعلن أنه لولا رحمة الله العظيمة لما أمكن لإنسان أن يخلص أو يهرب من طريق وصاياه.

ثم ينتقل بولس للحديث عن فرعون, إذ أنه من الواضح أنه ما من أحد يتقبل منطقياً الحقيقة التي تم إعلانها للتو دون أن يميز حقيقة أن الله يتخلى عن البعض للدمار ويتركهم يهلكون في حمأة خطاياهم. فرعون كان أممياً, كان مضطهِداً لإسرائيل. وإليه أرسل الله خدامه يطلبون منه الخضوع. وبدافع كبريائه وتعجرفه وصفاقته ومكره قال: "من هو هذا الرب الذي علي أنا أن أطيعه؟" لقد تجرأ على تحدي القدير, فتنازل الله وقبل التحدي. فيقول:

"إِنِّي لِهَذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي وَلِكَيْ يُنَادَى بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ".

إنه لا يتحدث هنا عن غِرٍّ عاجز. لا تشير الكلمات إلى ولادة فرعون؛ إن الكلمات تشير حصرياً إلى الوضع القائم الذي أراد الله أن يعطي به درساً للأجيال التالية القادمة على حماقة مقاتلة الله. لقد اعتاد اليونانيون (الإغريق) على القول: "من ستدمره الآلهة تجعل منه أحمق أولاً". وكان هذا مبدأ يستطيع حتى الوثنيون أن يدركوه بوضوح ونجد نفس المبدأ على مر الأيام: فالإسكندر, والقيصر, ونابليون, سمح لهم بالاعتلاء حتى كادوا يصلون إلى قمة الطموح البشري, وذلك فقط لكي يقذف بهم على نحو مخز إلى أعماق هاوية اللعنة في نهاية الأمر.

وهكذا يُظهر الله رحمته على أولئك الذين يريد أن يرحمهم, ويقسو على من يشاء. إنه الحاكم الأخلاقي للكون وهو يعمل كل الأشياء حسب مشيئته. "ما من أحد يستطيع أن يصمد أمام قبضة الله, ولا أن يقول له: من أنت؟" فإن جرؤ أحد من البشر على أن يعصى الله القدير فإنه سيقع تحت قبضة غضبه الحق.

لنبدأ من الآية ١٩ ونتابع حتى نهاية الإصحاح. إن الرسول يتولى أمر الرد على اعتراض المؤمنين بالقضاء والقدر, فلسان حال هؤلاء يقول: "حسناً, إذا سلمنا بما تقول, فإن أحكام الله لا تقاوَم وما أنا إلا رجل آلي أوتوماتيكي يتحرك عندما يشاء الله, وبالطبع دون مسئولية. لماذا سيلومني على الخطأ؟ على أي أساس تتم دينونة مخلوق لا يريد ولا يفعل شيئاً إلا بحسب توجيه الله؟ ثم أن تقاوم إرادته أمر مستحيل. فأين تكمن المسئولية الأخلاقية إذاً؟"

هذه الاعتراضات على عقيدة السيادة الإلهية المطلقة نشأت منذ الأيام الأولى للمسيحية, لكن, وكما رأينا للتو, فإن الرسول وببساطة يرى الإمتيازات التي هنا على الأرض, ومن هنا تسقط هذه الاعتراضات التي لا يصبح لها أساس, إن اليهودي الذي يتمتع بالإمتيازات قد يخفق كلياً في تقدير البركات المتدفقة عليه, ولذلك يصير تحت وطأة الدينونة الإلهية؛ بينما البربري الجاهل, المحروم من كل بركات الحضارة والتنوير, فلربما يكون لديه, رغم ذلك, ضمير مختبر يرشده إلى حضرة الله. مهما يكن من أمر, إنها قمة العقوق واللا تقوى للإنسان الضئيل الهزيل أن يحاكم الله أو يدينه. فإنه هكذا كمثل الآنية الخزفية قيد الصنع على العجلة إذا ما التفتت إلى الخزاف تسأله باعتراض: "لماذا تصنعني على هذا الشكل؟" من الواضح أن من له الفكر المدبر ليصنع الأواني من الطين له الحق في أن يشكلها كما يشاء ويعدها للاستخدام الملائم الذي يجده أفضل. ومن كتلة الطين نفسها قد يصنع إناء للكرامة, ليعرض على نضد المائدة لإثارة إعجاب الناس المحتشدين, وقد يصنع إناء آخر للهوان, ليستخدمه في حجرة غسل الأطباق ويكون خلواً من الجمال والجاذبية. إذا كان الله, الخالق العظيم لكل الأشياء, قادراً على إظهار كلا غضبه وقوته, محتملاً, وبأناة كثيرة, على آنية تثير سخطه لأن لها إرادة غير موجودة عند آنية الخزاف, والتي تستجلب على نفسها الدمار, فهل من الخطأ أن يظهر غنى مجده في تعامله مع آنية رحمة أخرى كان قد سبق فأعدها مسبقاً لمجد ابنه من الأزل؟ وآنية الرحمة هذه مدعوة من الله, سواء كانت من اليهود بالولادة أم أمميين أيضاً. نلاحظ أن بولس يأتي بالمقطع تلو الآخر من العهد القديم وذلك لكي يُظهر أن هذه الأمور ليست جديدة في سبل الله وطرقه وعلاقته مع البشر, وأن الأنبياء سبق وتنبأوا عن هكذا تنحية لشعب إسرائيل والتزام بالأمميين, وذلك من قبل الله. كما حدث بالفعل. لقد شهد هوشع بأن الله قال: «سَأَدْعُو الَّذِي لَيْسَ شَعْبِي شَعْبِي وَالَّتِي لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً مَحْبُوبَةً. وَيَكُونُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فِيهِ لَسْتُمْ شَعْبِي أَنَّهُ هُنَاكَ يُدْعَوْنَ أَبْنَاءَ اللهِ الْحَيِّ». لقد فسر إسرائيل كل حق بأن يدعى شعب الله. وفي ظل التدبير الحالي, وإذ تذهب النعمة إلى الأمميين, فتتم تنحيتهم كشعب, وفي المستقبل, هذه النعمة نفسها التي تستعلن الآن للأمم سوف تستعلن لهم ثانية, وسيدعون من جديد أولاد الله الحي. تنبأ هوشع أنه رغم عدد أولاد إسرائيل الذي سيكون كرمال البحر, إلا أن قلة فقط من ذلك الحشد الكبير سوف يخلص, وذلك في يوم غضب الرب, عندما سينفذ قضاءه على الأرض. هذا النبي نفسه رأى خطيئة الشعب كمثل خطيئة مدن الأرض المنبسطة, وصرخ قائلاً: "«لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا نَسْلاً لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ»".

ما النتيجة إذاً؟ نصل ببساطة إلى القول أن الأمميين الفجار قد نالوا, بالنعمة, البر الذي بالإيمان. هم لم يسعوا وراء البر, ولكن الله بالبر سعى وراءهم وأعلن لهم إنجيله لكي يؤمنوا ويخلصوا. أما إسرائيل, الذين أعطاهم الله ناموس البر, فقد كان ذنبهم يفوق ذنب الأمميين لأنهم رفضوا أن يسلكوا وفق ذلك الناموس ولذلك فلم يدركوا ذلك البر الذي طبعه الناموس.

لماذا لم يدركوا؟ لأنهم لم يدركوا أنهم يحصلون عليه بالإيمان فقط, وأنه ما من إنسان يمكنه, بقدرته الذاتية, أن يحفظ الناموس المقدس والكامل. عندما أرسل الله ابنه إلى العالم, ذاك الذي هو تجسيد لكل الكمال, والذي فيه تحقق الناموس بالتمام, لم يعرفوه, بل تعثروا بحجر العثرة الذي هو المسيح المتواضع بينما كانوا يتوقعون ملكاً منتصراً. لم يدركوا أنهم في حاجة إلى شخص يمكنه أن يتم البر لأجلهم, لأنه كان يعوزهم الإيمان, ولذلك فقد حققوا الكتب بإدانتهم له. ولكن, ومع ذلك, فإنه كلما تقبله أحد بشكل فردي بالإيمان, فإنه يخلص النفس التي تؤمن به, رغم أن الشعب تعثر وسقط. وبحسب ما كتب: "«هَا أَنَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى»". عندما جاء في المرة الأولى, رفضه إسرائيل. ولكن "الحجر الذي رفضه البناؤون صار حجر الزاوية". وعندما يأتي ثانية سيكون كالصخرة, فيلقي الدينونة على الأمميين, في حين تكون إسرائيل تائبة ونادمة عندئذ وسترى فيه حجر رأس الزاوية.

المحاضرة ٨

علاقة الله الحالية مع إسرائيل
في التأديب التدبيري

الإصحاح ١٠

بعد أن أثبتَ, كما رأينا, وبطريقة بارعة بر الله في تنحية إسرائيل كشعب جانباً بسبب عدم الإيمان, والتزامه بالأمميين خلال نعمة التدبير الحاضرة, فإن الرسول بولس يتابع مُظهراً أن هذا الإقصاء للشعب على هذا النحو لا يعني نبذه لأفراد من شعب إسرائيل. ما عاد الله ينظر إلى هكذا شعب على ضوء علاقة العهد, ولن يكون الأمر كذلك حتى العهد الجديد في بداية الألفية؛ عندما "سيولد شعب في يوم واحد". ولكن نفس الوعود المعطاة لأي فرد من إسرائيل تنطبق أيضاً على الأفراد من الأمميين.

في الآيات الثلاث الأولى يعبر الرسول بولس عن رغبته الشديدة وصلاته لأنسباءه. إنه يتوق ويصلي لكي يخلصوا, إذ رغم أنهم من نسل إبراهيم بحسب الجسد, إلا أنهم "خراف ضالة" وفي حاجة لأن يسعى وراءهم الراعي الصالح ويجدهم مثل بقية "الخراف الأخرى" من الأمميين. ولكن الأمر الجدير بالرثاء هو أنهم, ورغم كونهم ضالين, إلا أنهم لا يدركون وضعهم الحقيقي. وإذ هم ممتلئون غيرة غير صحيحة على الله, ومميزين بالتزامهم الخارجي باليهودية كنظام ديني أسسه الله, إلا أنهم يحاولون جدياً أن يخدموا إله آباءهم, ولكن ليس بناء على المعرفة. فقد رفضوا الكشف الأكمل الذي أعطاه لهم بنفسه وبفكره وإرادته بالمسيح يسوع. "لأَنَّهُمْ إِذْ كَانُوا يَجْهَلُونَ بِرَّ اللهِ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ اللهِ".

إن التعبير "بر الله" يُستخدم هنا بشكل مختلف عن التعبير العام "البر الإلهي". لقد رأينا حتى الآن أن بر الله يستخدم بطريقتين: إنه انسجام الله مع نفسه, كما قال أحدهم مرة, ولذلك فإنه يصبح المرساة الكبرى للنفس, لأن الله كشف في الإنجيل أنه بمقدوره أن يكون عادلاً وأن يبرر هؤلاء الذين يؤمنون بالمسيح. إن مسألة الخطيئة قد تمت تسويتها باستقامة, لأن طبيعة الله تتطلب ذلك, فكان بإمكانه بالنعمة أن يتعامل مع الخطأ. الجانب الآخر هو النسب. فالله ينسب البر لكل الذين يؤمنون. ولذلك فإن المسيح, والمسيح نفسه, هو بر المؤمن. ولذلك فقد جُعِلْنا أو عُيِّنا, بر الله فيه على ما كتب في سفر النبي أرميا: "هذا اسمه الذي سيدعى به, الرب برنا".

ولكن في هذه الآيات الثلاث حيث يقول الرسول: "لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله", يبدو واضحاً أنه يقصد القول أنهم جاهلون بطبيعة الله البار. ولذلك فإنهم يحاولون أن يثبتوا براً بذاتهم. ما من أحد سيفكر بالقيام بذلك لو أنه أدرك صفة السمو في البر الإلهي. من المستحيل تماماً أن يحقق الإنسان براً بالأعمال مناسباً لإله على تلك الدرجة اللا متناهية من البر, فهذا سيجعل النفس تتراجع وتنكمش وتقر بعجزها. وعندما يصل البشر إلى هذا المستوى يكونون مستعدين لأن يُخضعوا أنفسهم لبر الله الذي أعلن في الإنجيل. عندما أعلم أنه ليس لي أي بر في ذاتي على الإطلاق, أي ليس لدي بر على مستوى يناسب بر الله البار, فعندها يجب أن أُسَرّ للإستفادة من البر الذي يعلنه هو نفسه في الإنجيل والذي يلبسني إياه عندما أؤمن بالمسيح. "لأن المسيح هو الغاية (أي موضوع التحقيق) من الناموس للبر لكل من يؤمن". الناموس يتطلب براً لا أستطيع أن أؤمنه. والمسيح حقق كل متطلبات الناموس المقدس, بل حتى مات بسبب الجزاء الذي رفضه. وقام من بين الأموات. وهو نفسه البر الذي يحتاجه الجميع.

في الآيات التي تأتي بعد ذلك, يغاير بولس بين البر الناموسي أو "البر الذي بالأعمال" وذلك "البر الذي بالإيمان"، ويستشهد بأقوال موسى الذي يصف البر الناموسي بكلمات مهيبة: "إن الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها" (انظر لاويين ١٨: ٥). هذا هو الناموس في جوهره. "افعل وعش". ولكن ما من إنسان فعل ذلك على الإطلاق وكان مؤهلاً للحياة, لأنه "إذا حفظ كل الناموس وأثم بواحدة فإنه يكون آثماً في الكل". أي أنه مخالفٌ للناموس. قد لا يكون خالف بالضرورة كل الوصايا. ولكن اللص يعتبر مخالفاً للناموس مثله مثل القاتل. وإن انتهك الإنسان الناموس, ولو لمرة واحدة, فإنه يخسر أهلية الحياة لهذا السبب.

إن البر الذي بالإيمان يستند إلى الشهادة التي أعطاها الله. ومن جديد يقتبس بولس هنا من موسى, الذي يؤكد للشعب في (تثنية ٣٠: ١٢ – ١٤) حقيقة أن الله أعطى شهادة, وتقع على الإنسان مسئولية الإيمان بها. وبالطبع هذه الشهادة كانت الوحي الذي أعطي في سيناء. ولكن الرسول يأخذ كلمات موسى, وبطريقة رائعة وبإلهام الروح, يطبقها على المسيح: "«لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ مَنْ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟» (أَيْ لِيُحْدِرَ الْمَسِيحَ) أَوْ «مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟» (أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ)". فالمسيح قد انحدر لتوه. ومات. وأقامه الله من الأموات. وعلى هذا تستند كل شهادة الإنجيل.

ولذلك يتابع حديثه قائلاً: "«اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ: أَيْ كَلِمَةُ الإِيمَانِ الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا". لقد أُعْلِن الإنجيل, وسمعوه, وهم على معرفة بما جاء فيه. والسؤال هو: هل يؤمنون به ويعترفون بالمسيح المعلن فيه رباً لهم؟ إذ في الآيات ٩ و ١٠ يلخص المسألة كلها بالكلمات التي استخدمها الله عبر القرون ليضمن اليقين لآلاف النفوس الثمينة: "لأَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ (أي حرفياً: بيسوع كرب) وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ". والقلب هو تعبير آخر للدلالة على الإنسان الحقيقي. لا يحاول الرسول هنا أن يحدد تمييزاً دقيقاً, كما يفعل بعض الكارزين, بين الإيمان من العقل, والإيمان من القلب. إنه لا يشغل فكرنا بطبيعة الإيمان. بل يحدثنا عن موضوع الإيمان بحد ذاته. نحن نؤمن بالرسالة التي أعطاها الله فيما يتعلق بالمسيح. إن كنا نؤمن, فإننا نؤمن بالقلب. وإلا فإننا لا نضع فيه ثقتنا حقاً. "فبالقلب" يؤمن الإنسان. والاعتراف هنا, بالطبع, ليس بالضرورة نفس الاعتراف الذي يقول عنه الرب: "من يعترف بي أمام الناس أعترف به أمام أبي الذي في السماء". بل إنه بالأحرى اعتراف النفس لله ذاته بأنها تتخذ من يسوع رباً لها.

بعد ذلك يورد اقتباسات من العهد القديم من سفر النبي أشعياء (٢٨: ١٦), التي تصرخ بأن "«كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى»". وبهذا يبرهن بأن عالمية الإيمان الحالي بالإنجيل لا يتناقض أبداً مع الكلمة التي أوحى بها الله ليهود العهد القديم. إن كلمة "كل" تعني العالم بأكمله. لقد وضع الأساس في الفصل ٣ إلى حقيقة أنه ليس من فارق بين اليهودي والأممي فيما يتعلق بالخطيئة. والآن يبين الجانب الآخر من عقيدة "اللا فرق". "لأَنَّ رَبّاً وَاحِداً لِلْجَمِيعِ غَنِيّاً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ". فإن يدعو باسم الرب يعني, بالطبع, أن يتضرع إلى اسمه بإيمان, فاسمه يدل على ماهيته. وكل من يدعو باسم الرب إنما يضع ثقته فيه, كما كتب: "اسم الرب برج قوي, والبار يدخل إليه وهو آمن".

لقد اعتاد اليهودي أن يفكر بذاته على أنه مختار من قبل الرب, وأن الشهادة بالإله الحقيقي الحي أُعلنت له وحده. ولذلك فإن المعترض يسأل بشكل طبيعي, ويستخدم بولس نفس الكلمات التي قد ترد على شفاهه: "َكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟" ويتبع سؤاله هذا بسؤال آخر: "وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟" ثم يلحقه بسؤال ثالث: "وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟" ولا تقف الاعتراضات عند هذا الحد, بل من جديد يقول: "وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ»". لقد كان اليهودي يؤمن بالله. فقد سمع عنه. وله أعلن الكارزون الرسالة, وهؤلاء الكارزين كانوا قد أُرسلوا من الله، ولكن من سمح لأي أحد بأن يتجاوز حدود اليهودية وأن يكرز بإنجيل السلام للأممين؟

رداً على المعترض, يذكرنا بولس بأن إسرائيل الذي كان يتمتع بكل تلك الإمتيازات لم يُبد تجاوباً كما كان يتوقع منه؛ إذ لم يطع الجميع الإنجيل. وهذا, أيضاً, تنبأ به أنبياء العهد القديم. فقد قال إشعياء في حزن: "«يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا؟»", مشيراً إلى أن الكثير من الذين سمعوا سيرفضون قبول هذه الرسالة. ولكن هنا يجيب المعارض قائلاً: "إِذاً، فأنت يا بولس تقرّ، الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ". فيجيب "نعم". "ولكن ألم يسمعوا؟ هل من شعب أعمى كلياً إلى هذا الحد وجاهل حتى أن كلمة الله لم تصل إليهم بشكل من الأشكال, وهكذا صاروا تحت المسؤولية؟" ويشهد المزمور ١٩ بأن صوت الله يُسمع في خليقته: الشمس, القمر, النجوم – كل روائع هذا الكون العجيب – تشهد لحقيقة هذا الخالق الشخصي. ولذلك يقول صاحب المزامير: "«إِلَى جَمِيعِ الأَرْضِ خَرَجَ صَوْتُهُمْ وَإِلَى أَقَاصِي الْمَسْكُونَةِ أَقْوَالُهُمْ»".

فليس جديداً على الله إذاً أن يخاطب الأمميين. الجديد بخصوص هذا الأمر هو أنه يتحدث الآن بشكل كامل, وبشكل واضح أكثر من أي وقت مضى, إنه يعلن الآن بتعابير لا لبس فيها عرضاً بالخلاص لكل الذين يؤمنون بكلمته. أو لم يعرف إسرائيل أن الله كان سيتبني شعوب الأمم؟ لا بد أنهم عرفوا, لأن موسى بنفسه قال: "«أَنَا أُغِيرُكُمْ بِمَا لَيْسَ أُمَّةً. بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُكُمْ»". وإشعياء, بجرأة لا مثيل لها يصرح قائلاً: "«وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي وَصِرْتُ ظَاهِراً لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي»". بالطبع كلمات كهذه أمكن أن تنطبق فقط على الوثنيين في عالم الأمميين. وبالنسبة لإسرائيل, ومع كل امتيازاتهم, قال الله: "«طُولَ النَّهَارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعَانِدٍ وَمُقَاوِمٍ»". ويستكمل الموضوع في الآيات الافتتاحية في الإصحاح التالي, الذي سنرى فيه, الرسول بولس يرينا كيف أن الله يقوم بالاختيار, من خارج إسرائيل, خلال التدبير الحالي. ولكننا سندرس الإصحاح بأكمله في خطبة واحدة, ولذلك سأمتنع عن تقديم المزيد من التعليق الآن, وأدّخره لأؤكد على أن لب الجزء الحالي يتركز على ما يلي: خلال التدبير الحاضر, وحيث تخرج النعمة إلى الأمم, ما وراء حدود النسل اليهودي, هذا لا يفترض بالضرورة نبذ الله كلياً للإسرائيليين, بل يدل على انتهاء الامتياز الخاص. لقد كان بإمكانهم أن يخلصوا لو شاؤوا, ولكن بنفس الشروط المعروضة على الأمميين المستَخَف بهم. إن الجدار المتوسط للانقسام قد تحطم, ولكن النعمة تعطى بيسوع المسيح لكل الذين يقرون بإثمهم ويعترفون باسمه.

المحاضرة ٩

علاقة الله المستقبلة مع إسرائيل
في تحقيق الكتابات النبوية

الإصحاح ١١

هذا الإصحاح الحادي عشر هو الأكثر تنويراً فيما يتعلق بمخطط الله التدبيري, لقد رأينا كيف أن علاقة الله الماضية مع إسرائيل أثبتت بره في تعامله مع الأمميين كما يفعل الآن, رغم أن العهد قد جُعِل للشعب الأرضي. ثم في الإصحاح ١٠ رأينا أنه رغم أن الشعب قد ألقاه الله جانباً, إلا أن هذا لا يعني حرمان الأفراد الإسرائيليين من الاهتداء إلى الله وإيجاد نفس الخلاص الذي, بجلاله, يعلنه بخدامه إلى الأمميين. في الجزء الأول من الإصحاح الحالي الذي ندرسه هنا، أي الآيات ١- ٦, نجد متابعة للموضوع المطروح في الإصحاح ١٠ ويأتي إلى نهايته. السؤال المطروح هو: "ألعل الله رفض شعبه؟" هذا محال. إن خبرات بولس الشخصية تثبت أن الحالة لم تكن هكذا, لأنه كان إسرائيلياً, من نسل إبراهيم, ومن سبط بنيامين. ومع ذلك فقد أبقاه روح الله وأتى به إلى معرفة الخلاص بالرب يسوع المسيح. وما كان صحيحاً بالنسبة له يمكن أن يكون صحيحاً لكل واحد. ما حدث هو ببساطة تحقيق كلمات النبي إيليا بمعنى أوسع منه عندما تحدث في أيام أهاب. لقد نبذ الشعب كل شهادة أرسلت إليه. فهم شعبٌ قتل الأنبياء ودنّس مذبح الله. ولكن كما في أيام إيليا, أبقى الله سبعة آلاف لنفسه، الذين لم يحنوا رقبتهم لبعل, "فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ أَيْضاً قَدْ حَصَلَتْ بَقِيَّةٌ حَسَبَ اخْتِيَارِ النِّعْمَةِ". إن الله يرفض الشعب, ولكن النعمة تخرج إلى الأفراد.

الأمر العظيم الذي على إسرائيل أن يفهمه, إذا ما خلص, هو أنهم يخلصون تماماً مثل الأمميين, وذلك بالنعمة. والنعمة, كما رأينا, هي منّة لا تُكتسب اكتساباً. نعم, يمكننا القول: إنها منّة بعكس الاستحقاق. وهذا يبطل كل فكرة بالعمل وتجعلها مستحيلة. فلو كانت المنة بالاستحقاق فإن النعمة ليست بعد نعمة. من جهة أخرى, إن كان الخلاص بالعمل فهذا لا يترك مجالاً للنعمة, لأنه سيأخذ من العمل ميزة الاستحقاقية فيه. إن مبدأي الخلاص بالنعمة والخلاص بالأعمال – متناقضين تماماً كلاهما للآخر, لا يمكن أن يكون هناك امتزاج بين الناموس والنعمة, إنهما مبدآن ينفي كل منهما الآخر.

بدءاً من الآية ٧, نجد الرسول ينبري لإظهار هدف الله الخفي فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل في المستقبل. ما كان الشعب يطلبه لم يَنَلْه, ولكن النخبة (أي أولئك المقتنعين بالخلاص بالنعمة) ينالونه. وبالنسبة للبقية فقد أعمى الله بصائرهم. ومن جديد يستشهد بولس من العهد القديم ليظهر أن هذا يتفق بشكل كامل مع الكلمة النبوية. وكما كتب إشعياء: "أَعْطَاهُمُ اللهُ رُوحَ سُبَاتٍ وَعُيُوناً حَتَّى لاَ يُبْصِرُوا وَآذَاناً حَتَّى لاَ يَسْمَعُوا". ويظهر أن هذا حقيقي إلى هذا اليوم. داود أيضاً كتب: "«لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ فَخّاً وَقَنَصاً وَعَثْرَةً وَمُجَازَاةً لَهُمْ. لِتُظْلِمْ أَعْيُنُهُمْ كَيْ لاَ يُبْصِرُوا وَلْتَحْنِ ظُهُورَهُمْ فِي كُلِّ حِينٍ»". هذه اللعنات الرهيبة تحققت عندما قام ممثلو الشعب عن عمد برفض المسيح وجلبوا دينونة على رأس ذريتهم عندما صرخوا في قاعة المحكمة عند بيلاطس: "دمه علينا وعلى أولادنا". فبرفْضِهِم المسيا, رفَضهُم الله. وأخذ الكثير من المسيحيين كأمر مسلم به أنه تخلى عنهم كشعب إلى الأبد. ولكن بولس يظهر هنا أن هذا ليس صحيحاً. فيسأل: "ألعلهم عثروا لكي يسقطوا؟" ويقصد بذلك, السقوط الكامل, السقوط بدون أمل أو إمكانية للشفاء من جديد. فيأتي جوابه "حاشا". لقد أدان الله ارتدادهم ليظهر غنى نعمته نحو الأمميين, وهذه بدورها سوف تستخدم في النهاية لتثير غيرة إسرائيل ولإعادتهم إلى آبائهم وللمسيح الذي رفضوه. هذا الشفاء سيكون وسيلة لبركة لا توصف ستحل على ذلك الجزء من العالم الذي لم يأتِ بعد إلى المعرفة الخلاصية في الإنجيل. ويصرخ بولس بحماسة مقدسة: "فَإِنْ كَانَتْ زَلَّتُهُمْ غِنىً لِلْعَالَمِ وَنُقْصَانُهُمْ غِنىً لِلأُمَمِ فَكَمْ بِالْحَرِيِّ مِلْؤُهُمْ؟". حسن أن نلاحظ استخدامه لهذه الكلمة "ملء" ونحن نأتي إلى بقية الإصحاح. إن ملء إسرائيل سيكون في هداية إسرائيل – وفي هذا تحقيق لهدف الله فيما يتعلق بهم.

لقد كان بولس رسول الأمم, ولأنه هكذا, فقد عظّم رسالته. ولكنه لن يجعل الأمميين يفكرون للحظة بأنه قد فقد اهتمامه بإسرائيل: بل سوف يرى أنهم سيتحرضون للمنافسة, وأن كثيرين سيخلصون منهم لأنهم رأوا نعمة الله تخرج إلى الأمميين. ومن جهة أخرى سوف لن يجعل الأممي يتفاخر على اليهودي بسبب من أن الأخير قد نُحّي جانباً بينما السابق يستمتع بالبركات التي كانت لليهود لو أنه كان مستعداً لتلقيها. ويتابع بولس نظريته فيستخدم مثلاً, يُظهر من خلاله, بشكل أكثر ما يكون وضوحاً وحيوية, المخطط الإلهي فيقول: "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَفْضُهُمْ هُوَ مُصَالَحَةَ الْعَالَمِ فَمَاذَا يَكُونُ اقْتِبَالُهُمْ إِلاَّ حَيَاةً مِنَ الأَمْوَاتِ". أي إن كانوا قد تاهوا من بين جميع الأمم, فإن شعباً خائباً وقلقاً, تحت لعنة إله آبائهم, تخرج رسالة النعمة إلى الأمميين, ونخبة منهم يتلقون الرسالة, ما الذي سيعنيه للعالم ككل عندما يعود إسرائيل كشعب إلى الله ويصبح شعباً مقدساً للغاية, وشاهداً له إلى كل الأمم؟

" وَإِنْ كَانَتِ الْبَاكُورَةُ مُقَدَّسَةً فَكَذَلِكَ الْعَجِينُ! وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ مُقَدَّساً فَكَذَلِكَ الأَغْصَانُ!". إن كانت البقية الباقية من إسرائيل شعباً معزولاً عن الله, فإنهم في النهاية سيكونون شعب الله المنتمي إلى جذوره. وإذا كان جذر شجرة زيتون العهد مقدساً (أي إبراهيم الذي آمن بالله وحُسب له هذا الإيمان براً), فإن الحال سيكون هكذا مع جميع أولئك المتصلين حقاً بالإيمان. لقد كانوا أغصان طبيعية في شجرة الزيتون – الإسرائيليون بالولادة، ولكن ليس بالنعمة, هم الذين قُطِعُوا. ولئلا تخفق وعود الله لإبراهيم بقوله له: "تتبارك بنسلك جميع أمم الله", فإن أغصان شجرة الزيتون البرية – الأمميين – طُعِّموا مع البقية الباقية من إسرائيل, وهكذا فإن اليهودي والأممي المؤمنين يتشاركان معاً في جذر ودسم شجرة الزيتون. ولكن الخطر المميت الآن هو أن يكتفي الأمميون بالامتيازات الخارجية وحسب, وفي حين أنهم مرتبطون بأبناء الموعد, سيخفقون في تقدير إنجيل الله لأنفسهم, وهكذا يكونون غير صادقين وإيمانهم غير حقيقي. في هذه الحالة سيتعامل الله مع الأمميين كما تعامل مع اليهود. ومن هنا نجد التحذير الرزين: "فَلاَ تَفْتَخِرْ عَلَى الأَغْصَانِ. وَإِنِ افْتَخَرْتَ فَأَنْتَ لَسْتَ تَحْمِلُ الأَصْلَ بَلِ الأَصْلُ إِيَّاكَ يَحْمِلُ!". قد يقول البعض: "حسن. ولكن الأغصان الطبيعية قُطعت, لكي أُطعم أنا, الأممي, في الشجرة". والجواب واضح صريح: "مِنْ أَجْلِ عَدَمِ الإِيمَانِ قُطِعَتْ وَأَنْتَ بِالإِيمَانِ ثَبَتّ". لذلك يأتي التحذير: "لاَ تَسْتَكْبِرْ بَلْ خَفْ! لأَنَّهُ إِنْ كَانَ اللهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى الأَغْصَانِ الطَّبِيعِيَّةِ فَلَعَلَّهُ لاَ يُشْفِقُ عَلَيْكَ أَيْضاً!".

هل ثمة حاجة لأن نتوقف لنتساءل إذا ما كان الأمميون قد قدروا الإمتيازات التي نالوها؟ هل يخْفَ على عين المراقب بعين روحية أن الأحوال في العالم المسيحي سيئة اليوم كما كانت دائماً في إسرائيل؟ ألا نرَ الارتداد عن الحق يسود في كل مكان؟ ألا نرَ علامات الأيام الأخيرة, كما وُصفت في (٢ تيموثاوس ٣) تتجلى في كل مكان حولنا؟ إن كان الأمر كذلك أفلا نجد في هذا تحذيراً إلى أنه أوشك ذاك الزمان على المجيء حين تُقطع الأغصان غير المثمرة من شجرة الزيتون وتُطعم من جديد الأغصان الطبيعية, عند عودتها في النهاية إلى الله, بشجرة الزيتون الأصلية ذاتها؟

في الطرق التدبيرية هذه نرى جودة وصلاح وحزم الله متجلياً. وهذا ما رأيناه بشكل واضح في الإصحاح التاسع: فالحزم سيكون على أولئك الذين سقطوا, الذين رفضوا الإيمان بالشهادة. أما أولئك الأمميون الجهلة غير المستحقين فالجود سيصيبهم, ولكن هذا الجود سيستمر معهم طالما ظلوا يقدرونه, وإلا فإنهم هم أيضاً سيُقطعون. من يشك أن يوم القطع قريب ووشيك, عندما تختطف الكنيسة الحقيقية لتكون مع الرب, وستحل الدينونة على العالم المسيحي غير المؤمن, وعندما سيتحول الله بالنعمة إلى إسرائيل إذا ما انصاعوا وخرجوا من حالة عدم الإيمان, فسيُطعمون في شجرتهم ذاتهم, بحسب قوة إله القيامة؟

أتذكر مقالة "لناقد نصي للكتاب المقدس", قرأتُها قبل بضعة سنوات, وفيها كان يسخر من فكرة الإلهام عند الرسول بولس بسبب جهله الواضح بإحدى المبادىء الأولية في البستنة. لقد قال: "إن بولس كان جاهلاً حقاً بأصول التطعيم إذ يتحدث عن تطعيم أغصان برية في شجرة جيدة, وهذا يدل بوضوح على أنه لا يعرف أن العادة هي أن تُطعم أغصان جيدة في الشجرة البرية". من الواضح أن الناقد المحترم لم يقرأ كلمات الرسول نفسها بعناية, التي ترد في الآية التالية, وإلا لما وقع في هذا الشرك. فبولس يقول بشكل واضح أن هذا المثال التوضيحي الذي يستعمله هو مثال بعكس ما يعرفه الناس عادة. ويقول: "لأَنَّهُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ قُطِعْتَ مِنَ الزَّيْتُونَةِ الْبَرِّيَّةِ حَسَبَ الطَّبِيعَةِ وَطُعِّمْتَ بِخِلاَفِ الطَّبِيعَةِ فِي زَيْتُونَةٍ جَيِّدَةٍ فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يُطَعَّمُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ هُمْ حَسَبَ الطَّبِيعَةِ فِي زَيْتُونَتِهِمِ الْخَاصَّةِ؟"

لا. لم يكن بولس جاهلاً بالبستنة, ولم يكن الروح القدس الذي يرشده ويلهمه فيما كتب جاهلاً. فما هو غير مألوف عند البشر هو في انسجام كامل مع المخطط الإلهي, كما هو الحال هنا.

وهكذا, فإننا نرى في الآيات ٢٥ – ٣٢ ما ينبغي أن يحدث قبل هذا التطعيم وما يجب أن يتلوه. "فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا هَذَا السِّرَّ لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ. أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّاً لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ. وَهَكَذَا سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ".

فهذه. إذاً, إحدى الأشياء السرية الخفية التي في فكر الله إلى أن يأتي الوقت المناسب لكشفها: سوف يكون مُعتّماً عليه جزئياً, ولكن, والشكر لله, سيكون ذلك جزئياً فقط, وذلك حتى يكتمل العمل الحالي لله وسط الأمميين, وهنا نجد الاستخدام الثاني لهذه الكلمة "ملء". "ملؤ الأمم" هو إكمال العمل بين الأمميين الذي يقوم به الله منذ رفض إسرائيل. هذا "الملء", كما نعرفه من نصوص كتابية أخرى, سوف يدخل عندما ينادي ربنا كنيسته لتكون معه, وهذا يتوقف مع ما جاء في (١ تسالونيكي ٤) و (١ كورنثوس ١٥). فعندئذ "سيخلص جميع إسرائيل". وتعبير "جميع إسرائيل" لا يعني كل من هو من سلالة إسرائيل, إذ قد عرفنا للتو أن "لَيْسَ جميعُ إِسْرَائِيلَ الذين هم من سلالة إِسْرَائِيلَ بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً". ولذلك فإن البقية الباقية ستكون إسرائيل الحقيقي في ذلك اليوم المجيد عندما "سَيَخْرُجُ مِنْ صِهْيَوْنَ الْمُنْقِذُ وَيَرُدُّ الْفُجُورَ عَنْ يَعْقُوبَ", لأن الله قال: " َهَذَا هُوَ الْعَهْدُ مِنْ قِبَلِي لَهُمْ مَتَى نَزَعْتُ خَطَايَاهُمْ".

ويصل بولس الرسول إلى القول بأنهم أعداء الإنجيل في الوقت الحاضر. ولكن من خلال أعدائهم ستخرج النعمة إلى الأمميين. ومع ذلك, فبحسب المخطط الإلهي, سيبقون محبوبين من أجل الآباء, لأن الله لا يتراجع أبداً عن عطاياه ودعوته. فالوعود التي قطعها للآباء البطاركة ولداود سوف تتحقق بالتأكيد. تمعن في المزمور ٨٩ بهذا المعنى. وتماماً كما أن الأمميين, الذين لم يؤمنوا بالله في الأزمنة الماضية ولكن الآن نالوا الرحمة عبر عصيان اليهود, فالحال هكذا أيضاً سيكون عندما يظهر الأمميون العصيان فتتم تنحيتهم جانباً ويحصل إسرائيل على الرحمة والمغفرة عندما يعودون إلى الله بالإيمان.

إن اليهود والأمميين يخلصون على حد سواء وبنفس المبدأ " لأَنَّ اللهَ أَغْلَقَ عَلَى الْجَمِيعِ مَعاً فِي الْعِصْيَانِ لِكَيْ يَرْحَمَ الْجَمِيعَ".

الآيات الأربع الأخيرة هي في طبيعة الذكصولوجيا (التسبيح). إن قلب الرسول بولس مليء بالعبادة والتسبيح, والعرفان والإعجاب, إذ يملأ لهيبُ المخطط الإلهي أفقَ روحه, فيهتف متهللاً: "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ".

لولا الوحي لما أمكن أن نعرف فكر الله, تماماً كما أنه ما من مخلوق كان ليمكنه أن يكون مستشاراً له. لم ينل أحد أبداً النعمة باستباق العطاء له لكي ينال البركة مكافأة له, بل إن كل شيء منه, وبه, وله, ذاك الذي له المجد إلى الأبد. أمين.

المحاضرة ١٠

البر الإلهي ينتج براً عملياً في المؤمن

القسم ٣: العملي

الإصحاحات ١٢ – ١٦

مسير المسيحي مع إخوته في الإيمان, ومع البشر في العالم
الإصحاح ١٢

نأتي الآن إلى النظر في المضمون العملي في كل هذه الحقيقة الثمينة التي كشفها روح الله أمام أعيننا المندهشة. في هذا الجزء الأخير من الرسالة نعرف التأثير الذي سيحدث في المؤمن الذي صدق, بالإيمان, لحقيقة الإنجيل. يمكن أن نقسم هذا الجزء الثالث نوعاً ما كما يلي: قسم فرعي أول: الإصحاحات (١٢: ١ – ١٥: ٧): عن إرادة الله الصالحة والمقبولة والكاملة المنكشفة لنا, قسم فرعي ثانٍ: الإصحاح (١٥: ٨ - ١٣), والذي ينقسم بدوره إلى قسمين, ويتناول ختام الموضوع وخدمته الشخصية, والقسم الفرعي الثالث: الإصحاحات (١٦: ١ -٢٤), وفيه تحيات وتحذير. وإن الآيات ٢٥ – ٢٧ تشكل تذليلاً للرسالة بأكملها.

إن أول آيتين من الإصحاح ١٢ هما مدخل إلى هذا القسم العملي من الرسالة. ويستند إلى الوحي المعطى في الإصحاحات ١ – ٨, ولذلك فإنه من الأنسب أكثر أن نعتبر الإصحاحات ٩ – ١١ مقطعاً معترضاً هاماً, يأتي هنا بسبب الحاجة الماسة لإراحة الفكر فيما يتعلق بموضوع اليهودي المؤمن في تدبير الله

الكلمات الافتتاحية مرتبطة بالضرورة بالمقطع الختامي في الإصحاح ٨: "أطلب إليكم إذاً أيها الإخوة". فكلمة "إذاً" تدل بوضوح على أنه إنما يلخص هنا موضوع الموقف المسيحي والبركة الأبدية الوارد في الإصحاح ٨. فلأنكم في المسيح محررين من كل دينونة, لأنكم سكنى الروح القدس, لأنكم أبناء بالتبني, إذ أنكم مرتبطون بالمسيح إلى الأبد, لأنكم مختارون من قبل الله, ولقد قدر لكم مسبقاً أن تصيروا على شبه صورة ابنه, لأنكم في منأى عن أي مسؤولية أو دينونة لأن المسيح مات وقام وجلس على يمين الآب, لأنه ما من تهمة يمكن أن توجه إلى المؤمن أمام الله, لأنه ما من فاصل يفصلنا عن محبة الله لأولئك الذين في المسيح يسوع – لأجل كل ذلك " َأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ". لقد قدم المسيح نفسه لأجلنا – قرباناً عنا بموته. وكما الأبكار في مصر, مفتدين بدم الحمل, فإنه ينبغي عليكم الآن أن تكونوا مكرسين له. وكما كان اللاويون بعد ذلك يُقدّمون إلى الله ليحيوا حياة قربانية بدل الأبكار, فهكذا كل مؤمن عليه أن يعرف مطالب الرب عليه, وأن يقدم, أو يسلم, جسده قرباناً حياً, مكرساً ومقبولاً لدى الله, وذلك لأجل الثمن الذي اشتُري به لأجل افتدائه. انظر (سفر العدد ٨: ١١ - ٢١) و (دانيال ٣: ٢٨). إلى أي حد نعرف عن ذلك بالتجربة؟ نحن الذين أسلمْنا يوماً أعضاءَنا لخدمة الخطيئة والشيطان, مدعوون الآن لنسلم ذواتنا كلياً لله مثل هؤلاء الأحياء من بين الموتى. وهذا سيتطلب تضحية على الدوام, ونكراناً للذات, وإدراكاً مطّرداً بالمطلب الإلهي منا.

الآية الثانية تظهر هذا المعنى بشكل أوضح. "وَلاَ تُشَاكِلُوا هَذَا الدَّهْرَ بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ".

لقد غرس صليب المسيح بين المؤمن والعالم. فأن يتكيف المرء مع طرق هذا الزمان الشرير الحاضر يعني أن يكون عاصياً لذاك الذي رفضه العالم ولكننا اعترفنا به رباً ومخلصاً. قالت فتاة شابة في إحدى المناسبات لسيدة مسيحية مكرسة: "أبيع العالم كي أحصل على خبرتك". فردت السيدة قائلة: "يا عزيزتي. هذا هو الثمن الذي دفعتُه تماماً. لقد بعتُ العالم مقابل ذلك". إن القلب المخلص يهتف بسرور وبدون تذمر قائلاً:

"خذوا العالم, ولكن أعطوني يسوع.
كل مباهج الأرض ما هي إلا سراب,
ولكن حبه يبقى إلى الأبد,
لا يتحول ولا يتبدل."

بدافع "القوة الطاغية للشعور الجديد" يصبح من الأسهل للنفس أن تقول مع بولس: "حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صلب العالم لي وأنا للعالم".
علينا ألا نفترض أن عدم التكيف مع العالم يعني بالضرورة السلوك المحرج, والغرابة في اللباس, أو القحة في التصرفات. إن العالم بمجمله يمكن تلخيصه بثلاث عبارات: شهوة الجسد, وشهوة العين, وكبرياء الحياة, أو التفاخر بالحياة. لذلك فإن عدم التكيف مع العالم يتطلب الحفاظ على الجسد وشهواته في حالة خضوع لروح الله, وإخضاع الخيال لفكر المسيح, والسير في اتضاع الروح في عالم اليوم الذي يعتمد الثقة بالذات والتبجج نهجاً له.

في (٢ كورنثوس ٣) نقرأ ما يلي " َنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ (أو نتحول) إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ."

ولذلك فإننا مطالبون هنا بتجديد فكرنا. أي بما أن الفكر ممتلىء بالمسيح والمشاعر متعلقة بالأمور التي فوق, فإننا نصبح مشابهين له ذاك الذي قد فاز بقلوبنا. وإن سرنا في طاعة المحبة فإننا نثبت قداسة إرادة الله الصالحة والمقبولة والكاملة. يتحدث الجزء الباقي من الإصحاح عن إرادة الله الحسنة فيما يتعلق بإخوتنا في الإيمان بشكل خاص. الإصحاح ١٣, يتناول موضوع إرادة الله للمؤمن بخصوص علاقته مع الحكومة المدنية الدنيوية والمجتمع بشكل عام. الإصحاح ١٤ والآيات السبع الأولى من الإصحاح ١٥ تكشف إرادة الله بالنسبة لعلاقة المؤمن مع ضعيفي الإيمان.

ونلاحظ هنا أن المؤمن يُنظر إليه كعضو في جسد المسيح, وفي حين نتحدث عن هذا الأمر كامتياز عجيب، لا يغيب عن بالنا المسؤولية الجسيمة الخطيرة الكامنة في هذه الحقيقة. وحسن أن نذكر هنا أن جسد المسيح يُنظر إليه من منظارين مختلفين متمايزين جداً. ففي رسائل أفسس وكولوسي نرى الجانب التدبيري من الجسد معانقاً المؤمنين من العنصرة وحتى عودة الرب لأجل كنيسته. ومن هذا المنظار, يكون المسيح وحده هو الرأس, وكل المرتبطين به أو المتحدين معه, الذين سيُحسبون من بين الأحياء أو الأموات بناء على حالتهم الفعلية. ولكن في (١ كورنثوس ١٢) وهنا في (روميا ١٢) يُنظر إلى الجسد على أنه متجلٍّ في الأرض, ولذلك يتحدث الرسول عن أعين, وآذان, وغيرها, كما في الجسد هنا على الأرض. الاستنتاج المنافي للعقل الذي يستنتجه البعض من هنا في أن الكنيسة في سفر أعمال الرسل وفي رسائل بولس الأولى ليست نفسها كما في رسائل السجن التي كتبها هو استنتاج خاطئ. هذه النظرية هي ادعاء فارغ يستند إلى النظرية التدبيرية الخالية من الصحة والتي تدمر كل معنى أو إحساس بالمسؤولية المسيحية لدرجة كبيرة. في كورنثوس وفي رومية, أيضاً, يرى جسد المسيح على الأرض. وبما أن هناك مجموعة أعضاء في الكنيسة يتكلمون ويسلكون بحسب الرأس في السماء, فإنه من المناسب أن نتابع استخدام تشخيص العيون, والآذان وغير ذلك. "إذا تألم عضو فإن كل الأعضاء تتألم معه". وهذا لا يمكن تطبيقه على القديسين في السماء. فإن آلامهم قد زالت وإلى الأبد. ولكن طالما أن هناك قديس متألم على الأرض, فإن كل عضو آخر في جسد المسيح يشاركه في بلواه.

أتذكر جيداً, عندما كنتُ طفلاً, أني كنتُ أنظر بإعجاب طرب إلى فوج من الاسكتلنديين وهم يسيرون عبر الشوارع في بلدي الأم, تورنتو في كندا. وقد كنت في غاية الإثارة عندما أخبروني أن ذلك الفوج كان قد حارب في معركة واترلو. ولكن خيبة أملي كانت كبيرة عندما علمت فيما بعد أنه ما من أحد من هؤلاء قد شارك في تلك المعركة العظيمة. فقد كان هناك فاصل زمني كبير بين زمن حدوث تلك المعركة واصطفاف هذا الفوج هناك. ولكنه كان نفس الفوج, إذ أن متطوعين جدد يحلّون محل الذين يقضون. وكذلك هو الحال مع جسد المسيح على الأرض. فالمؤمنون يتوفّون ويغادرون ليكونوا مع المسيح وينضموا إلى الجوقة الغير مرئية في الأعالي. وآخرون يأخذون مكانهم في الأسفل, وهكذا تستمر الكنيسة من قرن إلى قرن.

والآن وكعضو في جسد المسيح ينبغي علي أن أدرك أني لا أستطيع أن أتصرف بشكل مستقل عن الأعضاء الآخرين, ولا ينبغي أن أفكر بأني أرفع قدراً من البقية, بل علي أن أفكر برزانة واعتدال كشخص وضع الله فيه مقداراً من الإيمان، مثلي في ذلك مثل كل مسيحي آخر. وبما أن هناك أعضاء كثيرة في الجسد البشري, وليس من عضوين لهما نفس الدور أو الوظيفة, فكذلك نحن المؤمنين, ورغم كثرة عددنا, فإننا نشكل معاً جسداً واحداً في المسيح, وكلنا أعضاء في هذا الجسد, وكل منا للآخر. ولكن مواهبنا مختلفة, وعلى كل واحد منا أن يستخدم المواهب التي أُعطيت له بحسب نعمة الله. فإن كان للمؤمن موهبة النبوءة فعليه أن يتكلم بانسجام مع الإيمان, ومن كانت له موهبة الخدمة عليه أن يخدم بإذعان للرب. وإن كان معلماً فعليه أن يعلم بتواضع, وإن كان مرشداً وناصحاً فعليه أن يسعى لحض إخوته في الإيمان في محبة المسيح. وإن كان الله قد ائتمنه على مال دنيوي فعليه أن يعطي بسخاء ليسد حاجة إخوته أو لدعم العمل من أجل الإنجيل, وعليه أن يهب من ماله ببساطة وبدون تفاخر وبدون أن يلفت الانتباه إلى ذاته أو إلى مواهبه. وإن كان قد أعطي موهبة قيادة جماعة الله فليكن قسيسياً مجتهداً أو راعياً للقطيع. وإن أعطي له أن يبدي الرحمة للمحتاجين أو المساكين, فليفعل ذلك بابتهاج.

وفوق كل شيء, لتكن المحبة حقيقية بلا زيف وبدون ادعاء أو رياء, ماقتةً للشر وميالةً للخير.

كم نحن في حاجة إلى هذه التحذيرات البسيطة التي نجدها في الآية ١٠: "وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي الْكَرَامَةِ".

وفي مكان آخر يكتب: "كونوا لطفاء مع بعضكم البعض". يا للطف من فضيلة نادرة ! كم يؤثر ادعاء الحماسة للحق أو لحالة الكنيسة, في تجفيف لبن اللطف الإنساني! ومع ذلك فإن هذه إحدى أصدق الفضائل المسيحية. اعتاد الدكتور غريفيث توماس أن يحكي عن قس اسكتلندي كان يقول دائماً لرعيته في الكنيسة: "تذكروا, إن لم تكونوا في غاية اللطف, فإنكم لستم من الروحانية في شيء". ورغم ذلك نجد أناساً كثيراً ما يتخيّلون أن الروحانية واللطف أمران متناقضان متعارضان. كم ستختلف طريقة حديث المسيحيين إلى بعضهم البعض إذا ما سلكوا مع بعضهم وقد وضعوا هذه التحذيرات والنصائح نصب أعينهم.

القسم الأول من الإصحاح ١١يمكن ترجمته بشكل أفضل أن "غير متراخين في الحماسة". لا يجب أن يُؤخذ هذا القول في مجال الأعمال فقط, بل ينبغي على المرء أن يفعل كل شيء بحماسة وباتقاد روحي لأنه يخدم الرب.

ليس من الضروري أن نتناول كل آية بالتفصيل. إن التحذيرات واضحة جداً لا يمكن أن يُساء فهمها. وفي الآية ١٦, يحسن أن نشير إلى أن الرسول لا يطبع في ذهننا فقط فكرة التنازل أو الكياسة, كمثل تنازل العظماء للتعامل مع من هم أقل مقاماً, ولكن ما يقوله حقاً هو: "لا تهتموا بالأمور العالية, بل اهتموا بالأشياء المتواضعة". ولعل الآيات الخمس الأخيرة تدل على أن الرسول بولس يقولها فيما يخص العالم أكثر من المسيحيين إخوة الإيمان, ومع ذلك فمن المحزن حقاً أن نرى أن هذه التحذيرات والنصائح نفسها يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار مع تعاملاتنا مع إخوتنا في الإيمان. ليس من الممكن أن نعيش دائماً في مسالمة, حتى مع إخوتنا القديسين، فما بالك مع أناس من هذا العالم. ومن هنا جاءت الكلمة "إِنْ كَانَ مُمْكِناً فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ". وجد البعض صعوبة في فهم التعبير "أعطوا مكاناً للغضب" في الآية ١٩. من خلال فهمي لرسالة بولس أقول أن المعنى هو: "إن كان الغضب يستوجب انتقاماً فدعوه هو (الله) يقوم بذلك وليس أنتم", لأنه مكتوب "لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ".

قال سافونارولا ١ "تكمن حياة المسيحي في فعل الخير وتحمّل الشر". ليس له أن ينتقم لنفسه بيده, بل أن يسلك، بحسب الآيات ٢٠, ٢١, بثقة كاملة لأن الله سوف لن يسمح لأي محاولة أو تجربة لأن تتغلب عليه. ليس هذا الأمر طبيعياً ولكنه ممكن للإنسان الذي يسير بالروح. شكا أحد النبلاء لفرنسيس الأسيزي على لص قائلاً: "لقد سرق الوغد حذائي". فقال له فرنسيس: "إذاً فسارع إليه وأعطه جواربك أيضاً". هذه كانت روح الرب يسوع "الذي لم يردّ اللعنة للاعنية", بل كان يقابل الكراهية بالمحبة دائماً.

لا يخْفَ على أحد هذا التشابه بين هذه التحذيرات والتوصيات وتلك التعاليم التي أعطاها ربنا المبارك فيما يدعى العظة على الجبل. ومع ذلك فإن الفرق شاسع بينهما, فهناك كانت كلماته هي الامتحان القاسي للتلمذة في انتظار مجيء الملكوت العتيد أن يُعلن. أما هنا فلدينا إرشادات للسير بحسب الطبيعة الجديدة التي لدينا كأولاد الله. وذلك "لكي نكون أولاد الله في السماء". إنها تجليات لعمل الروح في أولئك الذين ينتمون إلى الخليقة الجديدة.


١.  سافونارولا: (Girolamo Savonarola ): مُصلح إيطالي: (١٤٥٢ - ١٤٩٨).

المترجم.

المحاضرة ١١

إرادة الله فيما يخص علاقة المؤمن بالحكومة والمجتمع

والمقاطع الختامية
الإصحاح ١٣ – ١٦

إن وضع المسيحي في هذا العالم, وبسبب نظام الأمور القائم, صعب لا محالة وغير سوي. إنه مواطن في عالم آخر, ويمر كغريب وسائح في أرض غريبة. ومن المفترض أن يكون ولاء قلبه للملك العادل, الذي رفضَه أهل الأرض واعتبروه مستحقاً الصليب كالمجرمين, فيجد المسيحي نفسَه مدعواً للسير بطريقة فاضلة محترسة واعية في عالم صار فيه الشيطان, المغتصب, أميراً ومعبوداً. ومع ذلك فلا ينبغي للمسيحي أن يكون فوضوياً ثائراً على السلطة الحاكمة, ولا أن يفتخر بالنظام القائم للأمور. إن دوره يجب أن يكون دائماً على النحو التالي: "علينا أن نطيع الله لا الإنسان". ومع ذلك فعليه ألا يكون في جناح المعارضة للحكومة البشرية, حتى ولو كان رؤساء هذه الحكومة من أردأ البشر. إذ نأتي إلى دراسة هذا الإصحاح الثالث عشر, يجدر بنا أن نتذكر أنه عندما كتب بولس رسالته هذه التي يطلب فيها الطاعة للسلطات أياً تكن, كان يتربع على عرش الإمبراطورية أحدُ أكثر الوحوش فساداً ورداءة على شكل بشري قد اعتلى عرشاً على الإطلاق– إنه بهيمة شهواني حسي, لم يتورع عن شق جثة أمه لكي يرى الرحم الذي أنجبه – شخص شرير, سمج وقح, أناني وخسيس لم تعرف له البشرية مثيلاً, وأعماله الوحشية ومظالمه لا يمكن وصفها. ومع ذلك فإن الله وبعنايته سمح لهذا التعس الذي يسيطر عليه الشيطان أن يعتمر تاج أعظم إمبراطورية عرفها البشر على وجه البسيطة. ويشير بولس نفسه في مكان آخر إلى هذا الإمبراطور بالوحش عندما يكتب للكارز الشاب تيموثاوس: "لقد خلصني الله من فم الأسد". رغم أن سلطات الإمبراطور كانت مقيدة إلى حد ما بالقوانين وبمجلس الشيوخ, إلا أنه لعب دوراً كبيراً في إنزال الدمار والهلاك بالكثير من المسيحيين الأوائل. كم كان إيمانهم كبيراً آنذاك حتى يطيعوا التعليم المعطى لهم بروح الله في الآيات السبع الأولى من هذا الإصحاح. وإن كان المسيحيون يطالَبون بالطاعة في ظل هكذا حكومة, فبالتأكيد ليس هناك مجال لهم للمشاركة في التحريض على الفتنة أو العصيان تحت سلطة أي حكومة. "كِسَرُ الأرض تجاهد مع كِسَرِ الأرض", وقد تقوم حكومة على حكومة أخرى, ولكن أياً كانت الحكومة التي تمتلك السلطة وفي أي زمان فإن على المسيحيين الخضوع لها. ولهم أن يُصلّوا إذا ما كانت مراسيم أو قوانين هذه الحكومة جائرة أو ظالمة, ولكن ليس لهم أنه يفوروا ضدها, ربما يكون هذا القول ثقيلاً على مسامع البعض, أعلم ذلك, ولكن إن كان أحد يشكّ بهذا الكلام فليقرأ الآن هذه الآيات الموضوعة أمامنا: "لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ" (الآية ١).

ليس المقصود هنا إرسال عقيدة الحق الإلهي للملوك, بل يقصد, ببساطة أن يقول: إن الله, الذي يعين شخصاً ما ويقيل آخر بحكمته اللامتناهية, يقيم تلك الأشكال المعينة من الحكومة أو حكام معينين ليكونوا في موقع السلطة في زمن معين. وكما يخبرنا سفر دانيال, فإنه ينصب على الشعوب أقسى الرجال في أوقات يريد فيها أن يعاقب شرهم. ولكن على أية حال, ليس من سلطة تقوم بدون سماح العناية الإلهية وتدخل الله الشخصي. وترينا الآية الثانية أن مقاومة هذه السلطة يعني مقاومة الترتيب الإلهي. ولكن من غير المناسب بالتأكيد القول أن من يقاومون ذلك يتلقون اللعنة, إن كانت "اللعنة" تعني العقاب الأبدي. إن الكلمة هنا, كما في كورنثوس ١١, تعني الدينونة ولكن ليس بمعنى الدينونة الأبدية الأخيرة بالضرورة. الحكام ليسوا مصدر قلق بالنسبة لمن يقومون بالأعمال الصالحة, بل للذين يقومون بالأعمال الشريرة. فحتى نيرون كان يحترم أولئك الذين يقدمون الطاعة للقانون. وإن سبب اضطهاده للمسيحيين كان هو الوشاية الباطلة بهم على أنهم معارضون للمؤسسات القائمة. فمن يخشى أولئك الذين هم في السلطة عليه أن يسلك في طاعة الشرائع – أن يفعل الخير, وهكذا يتبين بره وصلاحه. فأولاً وأخيراً, الحاكم هو وكيل الله أمام كل امرىء للخير. ولكن من يفعل الشر وينتهك مؤسسات المملكة والحكم, فذاك من عليه أن يخَفْ, لأن الله نفسه أودع السيفَ في يد الحاكم والله نفسُه عينَه وكيلاً في الحكومة الدنيوية لكي ينفّذ العدالة تجاه أولئك الذين يسلكون طريق الجريمة. ولذلك فإن على المسيحي أن يخضع للحكومة, ليس لكي يتجنب الإهانة فحسب, بل أيضاً لكي يحافظ في ذاته على ضمير صالح أمام الله. على المسيحيين أن يدفعوا الجزية, حتى ولو كانت المطالب غير منصفة, وعليهم أن يدفعوا جميع ضرائبهم بصدق, وبهذا يُظهر المسيحي أنه يرغب في كل الأشياء أن يكون خاضعاً للحكومة.

لا بد أن نلاحظ أن كل التعليم الذي نجده هنا يضع المسيحي في موضع الطاعة للسلطة وليس السلطة؛ ولكن إن وُلِدَ، بعناية الله, من أجل منزلة رفيعة, أو وُضِعَ في موقع السلطة, فعليه أيضاً أن يكون ملتزماً بكلمة الله كما يشرحها بولس هنا.

إن ثقل هذا الإصحاح يتركز على علاقة المسيحي للمجتمع بشكل عام, وفيما يخص مجيء الرب والتدبير الحالي الوشيك على الإنجاز حتى التمام. على المسيحي أن يكون له، ليس موقف المدين بل المعطي؛ ألا يدين لأحد بشيء؛ بل أن يدع الحب يفيض مجاناً على الجميع. إن كل مبدأ أخلاقي في اللوح الثاني للناموس, الذي يحدد علاقة الإنسان بقريبه, يمكن إيجازه في هذه الكلمات: "أحبب قريبك كنفسك". فمن يحب, لا يمكن أن يرتكب إثماً من نوع الزنى, أو القتل, أو السرقة, أو الكذب, أو اشتهاء ما للغير. من المستحيل للمحبة أن تتتبدى في أي مظهر من هذه المظاهر. "اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ". بهذه الطريقة, فإن المتطلبات الواجبة تجاه الناموس تتحقق فينا, نحن الذين نسلك, ليس بحسب الجسد, بل بحسب الروح, كما رأينا لتونا خلال دراستنا الإصحاح ٨: ١- ٤.

كل يوم ينقضي يقرّب تدبير النعمة إلى نهايته ويعجّل عودة الرب. فليس للمسيحيين, إذاً, أن يرقدوا في النوم, بل أن يكونوا في يقظة كاملة لمسؤولياتهم وامتيازاتهم, مدركين أن الخلاص الذي نترقبه – افتداء الجسد – هو وشيك الآن أكثر منه عندما آمنّا. لقد أوشكت الليلة التي يسود فيها حكم الشيطان على الأرض على النهاية. وقد بدأ أول بزوغ الفجر يظهر. فليس لهؤلاء الذين خلصوا بالنعمة أن يفعلوا أي شيء يمتّ بصلة إلى أعمال الظلمة, بل عليهم أن يلبسوا, كجنود, درعَ النور, لعمل الصلاح الذي هو من الله, فيعيشوا بلا فساد كما في وضح النهار, وليس في أي نوع من الفسوق والفجور, وليس في الخصام والحسد, بل لابسين الرب يسوع المسيح وقد اعترفوا بأنهم متحدين معهم, إذ أزال الموت بموته عملياً, وهكذا نبتعد به عن الانغماس في شهوات الجسد. إن هاتين الآيتين الختاميتين من هذا الإصحاح الثالث عشر تعبّران عن لسان حال أغسطينوس الذي من هيبو بعد السنوات التي قضاها في المحنة فقد كان يخشى أن يعترف بالمسيح علانية, حتى عندما كان مقتنعاً عقلياً بأن عليه أن يكون مسيحياً لئلا يجد نفسه عاجزاً عن ضبط طبيعته الجسدانية الشهوانية, وهكذا يشكك الآخرين بمصداقية القضية التي كان يناضل لأجلها. ولكن عندما قرأ هذه الكلمات: "لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالْمَضَاجِعِ وَالْعَهَرِ لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ", فتح الروح القدس عينيه ليرى أن قوة الانتصار ليست في ذاته, بل في حقيقة أنه كان مطابقاً ذاته مع المخلص المصلوب والقائم.

حين كان يحدق بالإيمان إلى وجه المبارك وأراه الروح القدس شيئاً من حقيقة الاتحاد بالمسيح, دخل في يقين الخلاص وأدرك النصر على الخطيئة. وعندما مرّ في طريقه صدفة وجهاً لوجه بإحدى صديقاته الجميلات ولكن السيئات من أيامه السابقة, استدار ولاذ بالفرار. فتبعته تناديه: "أغسطين, يا أغسطين, لماذا تهرب؟ إنها أنا". فأجابها وهو يسرع الخطى في طريقه: "أهرب, لأني لست أنا". وهكذا لم يستسلم للجسد.

في الإصحاح ١٤والآيات السبع الأولى من الإصحاح ١٥ يؤكد الروح القدس على مسؤوليات المؤمن نحو أخيه الضعيف في الإيمان. فعلى المؤمن أن يسلك بمحبة نحو أولئك الذين هم أقل استنارة منه.

إن ضعيفي الإيمان, أي أولئك الذين تسبب لهم ضمائرهم المتزعزعة الاضطراب في تحديد ما هو صواب أو خطأ. يجب أن يُقبلوا ويُعاملوا ضمن وصفهم هذا وألا يُدانوا بسبب تساؤلاتهم أو شكوكهم. إن المبدأ سامٍ ويدل على المحبة المسيحية الواسعة التي يجب أن تخيم على روح التشريع لئلا تسقط. ليست الاستنارة هي الأساس الذي تقبّلْنا به الإمتيازات المسيحية بل الحياة. وكل هؤلاء الذين هم أولاد الله يجب النظر إليهم على أنهم أعضاء مشاركين في الجسد طالما أنهم لا يعيشون في فساد واضح, والذين يجب أن يكونوا في حالة انسجام مع مكانهم في الشركة المسيحية الذي اشتُري بالدم. يجب عدم الخلط بين الشر والضعف. فالإنسان الشرير يجب إقصاؤه وتنحيته جانباً (انظر ١ كورنثوس ٥٠). أما الأخ الضعيف فيجب تقبّله وحمايته.

بالطبع هذا لا يعني تقبّله في الشركة التي هو بالأساس فيها. فالضعيف الإيمان هو ضمن الشركة. فلا يجب أن ينُظر إليه ببرود وأن يُدان سبب شكوكه المرتابة, بل أن يُستقبل بحفاوة, وأن يُفحص ضميره الضعيف باهتمام وعناية. قد يكون لا يزال واقعاً تحت الناموس فيما يخص الأشياء الطاهرة وغير الطاهرة, أو لديه صعوبة في تقدير الأيام المقدسة وتكريسها. في الحالة الأولى, إن الأخ القوي الذي يعتقد وبدافع الحرية في المسيح, أن له أن يأكل كل شي, لا يطرح أية أسئلة تتعلق بالطهارة الطقوسية. والأخ الضعيف يخاف الاقتراب من المدنسات بشدة حتى أنه يعيش حمية على الخضراوات أكثر من يشارك في تناول ما يُقدم للأوثان أو ما هو غير "مباح" – أي أنه طاهر بحسب ناموس اللاويين.

يجب على من هو "قوي" ألا ينظر بازدراء واستخفاف إلى أخيه كثير الشكوك والوساوس. من جهة أخرى لا يجوز للضعيف أن يتّهم من هو أقوى منه بالمراءاة والتناقض مع الذات.

وإن كانت المسألة تتعلق بالأيام وإن كان أحد المؤمنين من ذوي الضمائر الناموسية لا يزال ملتزماً بتقديس يوم السبت اليهودي, في حين يرى آخر جميع الأيام متشابهة ومكرسة لمجد الله, فعلى كل منهما أن يسلك كما لو كان في حضرة الله وأن يكون "مقتنعاً تماماً بفكره".

من أين لخادم ما أن يضبط خادماً آخر؟ كلاهما مسؤولان أمام معلم واحد, وهو يميز الأمانة واستقامة القلب, وسيؤيد خاصته. حيث يوجد إخلاص وصدق, ويرى الجميع مجد الله, على كل منهما أن يحاول السلوك كما لو كان في حضرة الله. إن المسألة هنا هي إعلان العضوية الكاملة للأفراد في شركة القديسين وهكذا يستغنون عن الكثير من الإستياءات والإمتعاضات.

إننا لا نحيا لأنفسنا. وسواء شئنا أم لا، فإننا نؤثر على الآخر بشكل مستمر بطريقة إيجابية أو سلبية. لندرك إذاً مسؤوليتنا الفردية تجاه الرب, الذي نحن له والذي علينا أن نخدمه سواء في هذه الحياة أم في الموت. "لأَنَّهُ لِهَذَا مَاتَ الْمَسِيحُ وَقَامَ (وَعَاشَ) لِكَيْ يَسُودَ عَلَى الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ". إن الكلمات "عاش" هي استكمال لا حاجة له قد حذف من كل الطبعات النقدية.

عند كرسي قضاء الله (بحسب القراءة الأفضل للنص), حيث المسيح نفسه هو الحكم, سيخرج الجميع للدينونة, وهو سيظهر ما كان منسجماً مع فكره. حتى ذلك الوقت قدر لنا أن ننتظر, مدركين أن علينا جميعاً أن نقدم حساباً عن أنفسنا أمامه. لذلك, وعلى ضوء ذلك, دعونا "لا نحاكم أيضاً بعضنا بعضاً", بل لتكن هناك إدانة ذاتية فردية, فكل واحد يجاهد لئلا يضع حجر عثرة في طريق أخيه الضعيف.

وحتى عندما يكون المرء متيقناً أن سلوكه الذاتي متوافق مع الحرية المسيحية, فعليه ألا يتباهى بالحرية أمام الضعيف لئلا "يهلك ذلك الذي مات المسيح لأجله". انظر أيضاً (١ كو ٨: ١١). هذا يدل بالطبع على سقوط شهادته. علينا أن نتّعظ من مثال القوي الذي يجسر على تجاوز إملاءات الضمير وهكذا يضع نفسه تحت دينونة, أو قد تثبط همته فيفكر بأن الآخرين متناقضين مع أنفسهم ولذلك ينساق بعيداً عن الشركة المسيحية.

وبعد كل ذلك تصبح مسائل الأكل والشرب ذات أهمية ثانوية. "لأن ملكوت الله ليس مأكلاً ومشرباً". أي أنه ليس له علاقة بالأمور الدنيوية لأنها ممالك بشرية فحسب – إلا أن الملكوت روحي بطبيعته ويتعلق بـ "البر والسلام والفرح في الروح القدس". حيث يكون المرء متمرساً بهذه الأمور (حتى ولو كان مخطئاً بالنسبة للآخرين) فإنه بذلك يخدم المسيح, ويكون مرضياً عند الله ومُزَكاً عند الناس.

كل من يفكر بشكل سليم يقدر الصدق. "فَلْنَعْكُفْ إِذاً عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ".

من الأفضل بكثير أن نمتنع عن الأشياء التي يمكن أن تقلق ضمير الأخ الضعيف من أن ننحّيه جانباً بإصرارنا على موضوع الحرية, لئلا نكون مسئولين عن سقوطه وقطع علاقة شركته مع الإخوة.

إن كان لأحد إيمان بأنه يستطيع أن يفعل، وبدون إحساس منه بالخطأ، ما قد يدينه آخرون على فعله، فليبْقَ وحده أمام الله ولا يتفاخرن بذلك بفظاظة أمام الضعيف. ولكن ليكن على يقين بأنه لا يدين نفسه عندما يقر بأنه متأكد من سلامة مسيره, لأن من يصر على نهج معين فيما ليس هو بمتأكد منه أمام الله لا يسلك بصدق بالإيمان, ولذلك فإنه يُدان (وليس "يُلعن" بالطبع – لأن هذه الكلمة إنما تشير إلى الدينونة الأبدية), لأن "كل ما ليس بالإيمان فهو خطيئة". بمعنى آخر, إذا تصرفت بعكس ما أؤمن أنه صحيح, ومع أن هذا ليس خطأ في سلوكي من الناحية الأخلاقية, فإني أخطئ تجاه الضمير وكذلك تجاه الله.

يلخص الرسول بولس كل هذه الآيات السبع الأولى من الإصحاح ١٥. على القوي أن يحمل أثقال الضعيف – فبتعاطف يدخل إلى مشاكله – وألا يصر على فكرة الحرية لكي يُرضي نفسه بل ليسعَ كل واحدٍ لخير قريبه, ساعياً نحو بنيانه، وليس لتدمير إيمانه بلا مبالاة، بفرض حريته الشخصية بعناد. إن الحرية الحقيقية تظهر بشكل جلي بالامتناع عن عثرة الضعيف.

وفي هذا كان المسيح أعظم مثال. فذاك الذي لم يخضع أبداً لأي تشريع قانوني, خضع طوعاً لكل وصايا الناموس, بل حتى إلى ما ورائه, فلم يسعَ لإرضاء نفسه (ونرى ذلك عندما دفع ضريبة الهيكل, شارحاً السبب الذي لأجله فعل ذلك وهو "لئلا نعثرهم"), وأخذ على نفسه التوبيخات من أولئك الذين وبخوا الله. إن سلوكه الخارجي كان بلا لوم كما حياته الداخلية, ومع ذلك فقد عيره الناس كما عيروا الله.

تشدد الآية ٤ على أهمية كتابات العهد القديم. "لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ". قارن هذه الآية بما جاء في (١ كورنثوس ١٠: ٦, ١١). وإن القول "كل الكتاب ليس عني بل كل الكتاب من أجلي" هو اقتباس يستحق أن نتذكره جيداً.

ويختم بولس هذا الجزء بأن يصلي لعل "إله الصبر والتعزية" يعطي القديسين أن يكونوا فكراً واحداً واهتماماً واحداً فيما بينهم, بالمسيح الذي ضرب به المثل الصالح, وذلك لكي يتحدوا في تمجيد الله أبا ربنا يسوع المسيح, فالفكر والفم سيكونان متوافقين في هذه الحالة. ولذلك يحضهم بولس لأن يقبَلوا بعضهم بعضاً كما قبلنا المسيح أيضاً لمجد الله. فإن كان المسيح قد اقتبلنا بالنعمة – سواء كنا ضعفاء أم أقوياء – وجعلنا أهلاً للمجد, فبالتأكيد يمكننا أن نكون حميمين وشبيهين بالمسيح في شركتنا مع بعضنا البعض. ومن جديد أكرر القول أن المسألة لا تتعلق بقبول دخول شخص إلى الشركة المسيحية هنا, بل هي الاعتراف بمن هم في الداخل الآن.

إن هذه الرسالة تشبه هنا إلى حد بعيد رسالة بحث في بر الله, وتأتي إلى خاتمتها في الآيات ٨– ١٣. وكل ما يأتي بعد ذلك له طبيعة الملحق أو التذييل.

ما الذي يتجلى لنا في رسالة البحث الكاملة هذه؟ "وَأَقُولُ الآن: إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ صَارَ خَادِمَ الْخِتَانِ مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ. وَأَمَّا الأُمَمُ فَمَجَّدُوا اللهَ مِنْ أَجْلِ الرَّحْمَةِ". أي أنه أظهر من خلال كل ذلك أن ربنا قد أتى في توافق كامل مع وعود العهد القديم. لقد دخل حظيرة الخراف من الباب (كما يخبرنا إنجيل يوحنا في الإصحاح ١٠), وكان الخادم الإلهي الممسوح من الله لليهود, فأتى ليؤكد المواعيد العهدية. ورغم أن الشعب رفضه, إلا أن هذا لم يلغِ خدمته بل فتح باب الرحمة على أوسعه للأمميين بشكل لم يسبق له مثيل, دون أن يتعارض ذلك مع الكتاب المقدس الذي لليهود. ومن هنا نرى بولس يورد مقطعاً تلو الآخر ليؤكد على الحقيقة التي علّمنا إياها للتو بشكل واضح للغاية, وهي أنه كان معروفاً ومقدراً مسبقاً أن يسمع الأمميون الإنجيل وأن ينالوا نفس فرصة الخلاص التي كانت متاحة لليهود. فهذه "الرحمة" تسمو بالفعل على كل ما كشف في العصور الماضية التي عرفناها منذ "إعلان السر", وهذا ما تشير إليه الآيات الأخيرة من الإصحاح التالي. ولكن وجهة نظره هنا هي أن ذلك لا يتناقض مع نبوءات الأنبياء, بل ينسجم كلياً مع ما سُر الله أن يعلنَه عن سابق تصميم. ومن هنا يختم هذا الكشف البارع للإنجيل ونتيجته فيصل إلى القول: "وَلْيَمْلأْكُمْ إِلَهُ الرَّجَاءِ كُلَّ سُرُورٍ وَسَلاَمٍ فِي الإِيمَانِ لِتَزْدَادُوا فِي الرَّجَاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُس" (الآية ١٣). الإيمان بماذا؟ ولماذا يكفي مجرد الإيمان بالحقائق العظيمة التي ذكرت في الرسالة – هذه الحقائق الكبيرة المتعلقة بإيماننا المقدس – التي تصف لنا دمار الإنسان بالخطيئة وافتدائه بالمسيح يسوع؟ عندما نؤمن بهذا نمتلىء بالفرح والسلام ونحن نتطلع بالرجاء إلى اكتمال تحقيق كل ذلك لدى عودة ربنا, في حين نسير خلال ذلك أمام الله بقوة الروح القدس الساكن فينا وهو الوحيد الذي يجعل هذه الأشياء الثمينة واقعاً بالنسبة لنا.

إن تركيز هذا الإصحاح هو على الصعيد الشخصي بشكل واضح إذ أن الرسول بولس يؤكد ثقته بالقديسين في رومية ويخبرهم عن قلقه واهتمامه بهم ونيته أن يزورهم. ومما سمعه عنهم كان مقتنعاً أنهم كانوا في حالة روحية سليمة جداً, فهم "مَشْحُونُونَ صَلاَحاً وَمَمْلُوؤُونَ كُلَّ عِلْمٍ قَادِرُونَ أَنْ يُنْذِرَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً". ولذلك لم تكن لديه فكرة للذهاب إليهم كمنظِّم، بل كان يشعر أنه كانت لديه خدمة قد أوكله الله بها وهذه ستكون لفائدتهم. إضافة إلى ذلك, فإن رومية كانت جزءاً من ذلك العالم الأممي الكبير الذي أُرسل إليه والذي يوجّه خدمته لهم بشكل خاص, " لِيَكُونَ قُرْبَانُ الأُمَمِ مَقْبُولاً مُقَدَّساً بِالرُّوحِ الْقُدُس". لم يعد إسرائيل الشعبَ الوحيدَ المفرز المعزول، بل صار الإنجيلُ للجميع على حد سواء.

لذلك كان من المتوقع أن يزورهم كلما سنحت له الفرصة, وبما أنه, كان يعتبر أن رسالته هي لأولئك الذين في آسيا الصغرى وأوربة الشرقية، وقد تحققت، لذلك فإنه كان ينوي الذهاب عما قريب نحو الغرب ليصل إلى أسبانية وهو يأمل أن يزورهم في مروره. وفي هذه الأثناء كان ذاهباً إلى أورشليم ليحمل تقدمة إعانة من القديسين في مكدونية وأخائية إلى المؤمنين المعوزين في اليهودية. وعندما يتحقق له ذلك فإنه يرجو أن يغادر متجهاً إلى أسبانيا فيزورهم في طريقه إلى هناك. يا للرحمة التي كان يكشفها له المستقبل القريب. كم كان ضعيف الإدراك بأنه سيُدعى عاجلاً ليعاني كرمى لاسم المسيح. "الإنسان يفكر ولكن الله يدبر". فقد كانت لله مخططات أخرى للرسول بولس ومن بينها الزيارة إلى رومية, ولكن مقيداً بالسلاسل.

بالطيع في الوقت الذي يجده الله ملائماً, فإن بولس سيذهب إليهم و"يَجِيء فِي مِلْءِ بَرَكَةِ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ", ولذلك يناشدهم أن يصلّوا لنجاح مهمته عند أبناء بلده ولكي يُنْقَذَ من اليهود غير المؤمنين. ولقد استُجيبت صلاتُه, ولكن بطريقة مختلفة جداً عما كان يتوقع ويا للعجب!

إن الإصحاح ١٦ هو في معظمه تحيات إلى الأخوة القديسين الذين يعرفهم, والذين يقطنون الآن في رومية, وتحيات من آخرين كانوا في رفقته. إن أول آيتين هما على شكل رسالة إطراء لفيبي وهي شماسة في الكنيسة في كنخريا, البلدة الواقعة إلى جنوب كورنثوس, في أخائية (انظر سفر الأعمال ١٨: ١٨). مما لا ريب فيه أن أكيلا وبريسكلا كانا يعرفانها (وهذان يُذكران بالاسم – بترتيب معاكس له في الآية التالية), ولكنه لا يتركها معتمدة على تذكارات أصدقائها من الماضي, بل إن هذه الرسالة تؤكد للقديسين موقفها ونشاطها الحالي في الكنيسة.

بريسكلا وأكيلا كانا بالنسبة له بمثابة أعضاء من عائلة – فثمة علاقة حميمة جداً تربطه بهما, ولا يستطيع أن ينسى الخطر الذي وضعا نفسيهما فيه من أجله. ففي منزلهما في رومية كانت إحدى الجماعات المسيحية تجتمع. وقديس آخر من أخائية كان هناك أيضاً: أبينوس, الذي كان باكورة خدمته في كورنثوس.

وإذ نستعرض اللائحة الطويلة ونلاحظ العواطف الرقيقة المؤثرة, والذكريات الغالية, ونفحة الإطراء الخفيفة, نشعر أننا منجذبون إلى هؤلاء المؤمنين الأوائل, وأننا نرغب لو نعرف عن تاريخهم وخبراتهم. إننا مهتمون لمعرفة أنه كان هناك أقارب لبولس في رومية: أندرونيكوس ويونياس, الذي يقول عنهما أنهما "كانا في المسيح قبلي", ونتساءل إلى أية درجة كان لصلواتهما لأجل قريبهما الفتى الرائع علاقة بهذه المحادثات الجديرة بالاعتبار.

في الآية ١١ يرد ذكرٌ بالاسم لنسيب آخر لبولس, هيروديون, ولكن لا نعرف إذا ما اهتدى قبله أو بعده.

هناك لمسة إنسانية مؤثرة في الآية ١٣: "سَلِّمُوا عَلَى رُوفُسَ الْمُخْتَارِ فِي الرَّبِّ وَعَلَى أُمِّهِ أُمِّي". ففي مكان ما خلال رحلاته, هذه الامرأة الكهلة المسيحية, رغم أنها لا تُذكر بالاسم, قد عاملته كأم وخادمة للمسيح مكرسة وناكرة لذاتها, وإنه يتذكر بامتنان خاص عنايتها به.

إن جميع الأسماء الواردة ذات أهمية, وسيسرنا لو نلتقي بهم جميعاً "في ذلك اليوم" ونعلم أكثر عن تكرسهم للرب وعن معاناتهم لأجل اسمه, ولكننا لا نستطيع أن نطيل النظر إلى هذه الأسماء المدونة هنا.

قبل نقل رسائل من رفقائه، يوجه بولس كلمة تحذير ضد المعلمين الكذبة، في الآيتين ١٧، ١٨: "وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ خِلاَفاً لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ. لأَنَّ مِثْلَ هَؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ وَبِالْكَلاَمِ الطَّيِّبِ وَالأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ." إن فاعلي الإثم المشار إليهم هنا هم ليسوا معلمين مسيحيين، ولو اتجه الظن إلى ذلك بالخطأ. إنه لرجال غير أتقياء، كما يخبرنا يهوذا، وقد تسللوا من الخارج. إنهم ليسوا خداماً للمسيح بل أدوات للشيطان أُدخلوا من العالم ليفسدوا ويقسموا شعب الله. ومن المخيف أن نطابق هؤلاء المعلمين بالمسيحيين الحقيقيين الذين، ومهما أخطأوا، فإنهم يحبون الرب ويشفقون على شعبه، ويرجون من الله أن يباركهم. في (فيلبي٣: ١٨، ١٩) نعلم أكثر عن هؤلاء الذين "يخدمون بطونهم"، أي الذين يعيشون فقط لأجل إرضاء الذات. "لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَاراً، وَالآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضاً بَاكِياً، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيحِ، الَّذِينَ نِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ، الَّذِينَ إِلَهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ" ١ . وهنا نجد تطابقاً مع صانعي الشقاقات السيئين في إصحاحنا هذا. فلنكن حذرين للغاية عندما نتهم خدام المسيح الحقيقيين بأن يكونوا من هذه الجماعة الآثمة، حتى وإن شعرنا أن الحقيقة تضطرنا لاتخاذ موقف ما منهم بسبب بعض الأمور التي يعملونها أو يفعلونها.

رغم أنه يحذّر القديسين في رومية من خطر الإصغاء إلى رجال من هذا النوع، نجده يدعهم يعرفون أنه قد سمع فقط أخباراً طيبة عنهم، ولكنه كان ليود لو أنهم حافظوا على سمعتهم الحسنة. ولكن للأسف، نرى أن هذه الكنيسة نفسها سرعان ما فتحت أبوابها على هذا النحو لمعلمين كذبة كان قد حذّر منهم، ومن هنا نجد أن تاج البابوية نفسها قد تم ترسيخه في رومية في القرن السابع.

إنه ببساطة يريدنا أن ننتبه إلى الشر وندرك ما هو صالح، دون أن يتملكنا الخطأ بل الحق والصواب. والحق سوف ينتصر عاجلاً عندما يسحق إلهُ السلام الشيطانَ تحت أقدام القديسين.

إن التحيات الختامية من بولس ورفقائه تُنقل في الآيات ٢١- ٢٤. وكان تيموثاوس ولوقا معهم. ونعرف الآن ولأول مرة أن ياسون كان قريباً مقرباً من بولس (انظر أعمال١٧: ٥- ٩)، حيث يرد ذكرٌ لاستقباله لبولس وإخلاصه ومحبته له عند زيارته لتسالونيكي. وسوسيباترس، وهو أيضاً قريب له، تربطه به علاقة معينة.

ويضيف ترتيوس، الكاتب الذي كان يقوم بكتابة الإملاء لبولس، تحياته. ولولا هذا المقطع لما عرفنا أبداً اسم الكاتب الفعلي للرسالة.

وهنا لدينا سؤال: هل "غايس مضيفي" الذي يذكره بولس في الآية ٢٣، هو نفس غايس الذي استقبل الأخوة المسافرين والذي امتدحه يوحنا على حسن ضيافته المسيحية، وذلك في رسالته الثالثة؟ لا نعلم، ولكنه كان رجلاً يتمتع بنفس المواصفات والروح. ولقد سمعنا عن أراستُس في مكان آخر (أعمال١٩: ٢٢، ٢تيموثاوس٤: ٢٠)، ولكن كوارتس لم يرد ذكره في أي مقطع آخر. وإن كلا الاسمين ترتيوس وكوارتس يدلان على أنهما وُلدا على الأرجح لشخصين كانا عبدين يوماً- فأسماؤهما تعني الثالث والرابع على التتالي. فغالباً ما كان العبيد يُدعَون بالأرقام فقط.

إن منح البركة في الآية ٢٤ الذي يوصلنا إلى ختام الرسالة يدلنا على أن هذه من الرسائل الأصلية لبولس. انظر ٢تسالونيكي٣: ١٧، ١٨. "النعمة" هي المفتاح السري، إذا صح التعبير، الذي يؤكد على أصالة الرسالة له. وهذه ترد بشكل بارز في (العبرانيين١٣: ٢٥) وليس من رسالة أخرى تخلو منها.

إن الآيات ٢٥- ٢٧ هي تذييل للرسالة، وفيها يربط كشفه الثمين للإنجيل بذلك "السر" الذي كان عمله الخاص هو أن يجعله معروفاً للأمميين، والذي أظهره بشكل كامل للغاية في (أفسس٣) وكتابات عديدة أخرى.

"وَلِلْقَادِرِ أَنْ يُثَبِّتَكُمْ حَسَبَ إِنْجِيلِي وَالْكِرَازَةِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ حَسَبَ إِعْلاَنِ السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ، وَلَكِنْ ظَهَرَ الآنَ وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَمِ بِالْكُتُبِ النَّبَوِيَّةِ حَسَبَ أَمْرِ الإِلَهِ الأَزَلِيِّ لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ ِللهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ".

عُهدت لبولس خدمةٌ مضاعفة- تلك المتعلقة بالإنجيل (مرتبطاً بالمسيح الممجد) وتلك المتعلقة بالكنيسة- هذا السر الذي أخفاه الله من قبل خلق العالم والذي كشفه الله الآن بالروح. انظر هذه الخدمة المضاعفة الجوانب كما تُطرح في (كولوسي١: ٢٣- ٢٩) و (أفسس٣: ١- ١٢).

"السر" لم يكن شيئاً له طبيعة الصعوبة والغموض، بل سراً مقدساً لم يعرفه أحدٌ من البشر إلى أن حان الزمان الملائم لكشفه بالروح القدس من خلال الرسول بولس، ومنه نُقل إلى كل الشعوب لإطاعة الإيمان. لم يكن مخفياً في الأسفار المقدسة وشق طريقه إلى النور في نهاية المطاف، بل نعلم أن الله كان قد أخفاه إلى أن آن الأوان الذي اختاره هو ليظهره لنا. وهذا لم يحدث إلى أن أُعطي إسرائيل كل فرصة ليقبل المسيح في كل من التجسد والقيامة. وعندما رفضوه على نحو محدد واضح أعلن الله ما في قلبه منذ الأزل- بأنه من بين كل الأمم، واليهود والأمميين، سوف يفتدي ويتخذ جماعة منتخبة ستشكل، بمعمودية الروح، جسداً واحداً مرتبطاً بالمسيح، وذلك بعلاقة حميمة ليس لها مثيل (تُشَبَّهُ في أفسس ٥ بالعلاقة بين الزوج والزوجة، أو الرأس والجسد)، وليس الآن فقط بل عبر كل العصور القادمة.

هذا السر العظيم للمسيح والكنيسة قد أُظهر الآن وعُرف من خلال الكتابات النبوية- وليس كما تُرجم هنا "بالكتب النبوية"- فالمعنى جليّ واضح وهو أنه جُعل معروفاً بالكتابات التي كتبها رجال ملهمون، وهم أنبياء العهد الجديد، على ضوء نور الإنجيل وشهادته.

هذا ليس مجرد نظرية أو نظاماً عقائدياً نتبناه في فكرنا. إنه يتطلب تطابقاً مع المسيح في رفضه، ولهذا السبب جُعل معروفاً لكل الأمم لإطاعة الإيمان. هذا الموضوع لم يُطرح في الرسالة إلى رومية، لأن الموضوع الكبير هنا، كما رأينا، هو برّ الله الذي أُعلن بالإنجيل. ولكن ترد بعض الإشارات إليه هنا بغاية الربط بين كشف الإنجيل في هذه الرسالة وإعلان السر، كما يتضح في رسائل السجن على نحو خاص. هذا لا يعني أن لدينا حقيقة جديدة ومهمة في أفسس وكولوسي، على سبيل المثال، أكثر منها في الرسالة إلى رومية والرسائل المبكرة. فهي جميعاً تشكّل جزءاً من كلٍّ، وتؤسس ذلك الهيكل في التعليم في كل مكان كما أعلن الرسول خلال سنوات خدمته الطويلة، ولكن لم يُعهد بكتابة الكل دفعة واحدة. إن "السر" الذي تحكي عنه رسالة رومية ١٦: ٢٥  هو نفسه الذي تتحدث عنه الرسائل اللاحقة، وعلى الدوام يظهر في رسائله كموضوع متكامل. ما كان هناك داع لقول ذلك لولا أن البعض حتى في يومنا هذا يحاولون فصل خدمة بولس في سفر الأعمال بشكل كامل عن تلك التي يجسدها في آخر رسائله التي كتبت بعد رفض اليهود في رومية لرسالته كما يظهر من (أعمال ٢٨). إن تذييل الرسالة إلى رومية يظهر خلاف ذلك. إن هذه الإضافة الواردة في نهاية الرسالة يُقصد بها إظهار وحدة خدمته للإنجيل وللكنيسة، من خلال صفة الجانب المزدوج فيها.

وبهذا نأتي إلى ختام دراستنا الحالية السريعة الخاطفة نوعاً ما، وكلنا ثقة بأن مراجعتنا للرسالة لم تكن بلا جدوى، بل أنها ستكون للمنفعة والبركة على نحو متزايد ونحن ننتظر ابن الله الذي سيأتي من السماء.

"ِللهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ."


١. فيلبي ٣: ١٨، ١٩

Pages