December 2013

الفصل ٨

ألواح خيمة الاجتماع

(اقرأ خروج ٢٦: ١٥- ٣٠)

لقد كانت رغبة الله دائماً وأبداً أن يسكن وسط شعبه. ما رأيناه حتى الآن في خيمة الاجتماع هو أن المسيح بشخصه وسيطٌ، وأن عمله، ماثلٌ أمامنا رمزياً: "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ، الشَّهَادَةُ فِي أَوْقَاتِهَا الْخَاصَّةِ" (١ تيموثاوس ٢: ٥، ٦). "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ" (١ بطرس ٣: ١٨). لسنا في حاجة إلى العذراء مريم، المباركة بين النساء، ولا إلى البابا، ولا إلى الكاهن، سواء كان رومانياً أو أنغليكانياً، ليتوسط لأجلنا. إن المؤمن يُقرَّب إلى الله، وله الجرأة ليدخل إلى قدس الأقداس بدم يسوع.

سوف نرى كيف أن درس الألواح سيعلّمنا رمزياً كيف يؤتى المؤمنون إلى الله، و"يُبنَونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلَّهِ فِي الرُّوحِ" (أفسس ٢: ٢٢). إذا نظر القارئ إلى اللوح ممثلاً له، وتابع تفاصيل ما حدث للألواح، كصورة تعكس ما حدث له عندما أتى إلى الإيمان، فإنه سيعرف كم هي عظيمة البركة التي ينالها المؤمنون.

الألواح قائمة

لقد كانت الألواح مصنوعة "مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ قَائِمَةً". وخشب السنط يرمز إلى الإنسانية. في حالة ربنا المبارك، كان ناسوته خالياً من أي شائبة أو خطيئة، وإلا لما أخذ مكاننا على الصليب. أما نحن فإننا ساقطون وخاطئون. فأنى يمكن في حالتنا أن تكون الألواح قائمة؟ بمعنى آخر، أنى لخاطئ أثيم أن يمثل قائماً أمام إله قدوس؟

كانت الألواح تبلغ عشرة أذرع ارتفاعاً وذراعاً ونصف عرضاً، وهذا يفوق الـ ١٧ قدماً ارتفاعاً وقدمين ونصف عرضاً. لقد كانت مصنوعة من خشب السنط، الخشب الخشن غير العرضة للتلف في الصحراء، البخس الثمن، ولكن الثقيل الوزن للغاية. كيف أمكن لهذه الألواح أن تصمد في الرمال المتنقلة؟ للأسف، كم من خطاة يسعون للوقوف أمام الله على الرمال المتحركة التي قوامها الأعمال الصالحة، وتقويم النفس، كما لو أن الإنسان في مقدوره أن يكون مخلصاً لذاته.

لقد كان ارتفاع الألواح عشرة أذرع. والعدد (٥) هو العدد الرامز إلى المسؤولية البشرية، فالعدد (١٠) وهو ضعف العدد (٥)، إنما هو لتأكيد فكرة المسؤولية تجاه الإنسان. هذه الأيام لا يحب الناس هذه الفكرة، ولكنها قائمة رغم ما يفكر به الإنسان: "كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا سَيُعْطِي عَنْ نَفْسِهِ حِسَاباً لِلَّهِ" (رومية ١٤: ١٢).

القواعد الفضية

إذا رجع القارئ إلى سفر الخروج (٣٠: ١١ - ١٦)، سيجد أنه عندما تم إحصاء شعب إسرائيل كان من الضروري أن يدفعوا فدية عن أرواحهم لئلا يصيبهم الطاعون. لقد أحصى الملك داود عدد الشعب مرة، ولكن لم يكن هناك ذكر لتقديم فدية. وتقول القصة: "فَجَعَلَ الرَّبُّ وَبَأً فِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الْمِيعَادِ، فَمَاتَ مِنَ الشَّعْبِ مِنْ دَانٍ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ سَبْعُونَ أَلْفَ رَجُلٍ" (٢ صموئيل ٢٤: ١٥). إن الله لا يمكن أن يعتبر الناس الخطأة بالجسد إلا عند الدينونة. فإن كان للإنسان أن يكون مقبولاً في نظر الله، فسيكون ذلك من خلال فدية مقبولة.

كان على كل الإسرائيليين من عمر العشرين وما فوق أن يقدموا نصف شاقل من الفضة. وهذا كان يعادل عشرات الجيرات في الوزن، كما لو أنه يرمز إلى تسديد حساب تعدي الوصايا العشر، "لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب ٢: ١٠). إن نصف شاقل من الفضة كانت تساوي شلناً وبنسين. ومهما كان الإسرائيلي غنياً آنذاك، فما كان يُسمح له بأن يقدم أكثر من ذلك. ومهما كان فقيراً، يجب عليه ألا يدفع أقل من ذلك. ألا يعني هذا أن البركة تأتي بنفس الطريقة على الأغنياء والفقراء، النبلاء والدهماء، وأن ذلك يكون عبر عمل المسيح الكفاري على الصليب؟

ولكن قد نسمع أحدهم يقول: إذا كان نصف شاقل من الفضة يُسمى "فضة الكفارة"، أفلا يعني ذلك نوعاً من دفع ثمن الخلاص؟ ونجد العهد الجديد يخبرنا أن الحياة الأبدية هي هبة من الله، وأننا نخلص بالإيمان، وتلك هبة من الله.

الحق يقال، إن الخلاص لا يمكن أن يُشرى بالمال، ولا بأي محاولة أو جهد يبذله الخاطئ. فهو حاصلٌ بكفارة المسيح الاسترضائية على الصليب، وهذا "ليس من الأعمال، لئلا يفتخر أحد" (أفسس ٢: ٩).

إن الفداء ما كان ليحصل لقاء فرض مبلغ زهيد تافه لا يزيد على الشلن. فذاك المبلغ الصغير ما كان سوى إقراراً من قبل المعطي عن كيفية وقوفه في حضرة الله، وحاجته إلى النعمة والمغفرة.

إن مثالاً توضيحياً قد يساعدنا على الفهم. قبل عدة سنين كنا نسعى لاستئجار قطعة من الأرض نشيد عليها خيمة للعمل التبشيري. ووقعت أعيننا على قطعة معينة. وعند الاستعلام علمنا أنها كانت تخص البلدة. فذهبنا إلى البلدية، ونحن مستعدون لدفع جنيه أو حتى ٣٠ شلناً في الأسبوع لقاء استئجار الأرض. ووجدنا موظفي البلدية متعاطفين، وبعد بعض المشاورة، قالوا: "إننا مستعدون للسماح لكم باستخدام هذه القطعة من الأرض لستة أسابيع، بدون أجر، ولكن بما أن لدينا سجل للإجراءات، فإننا سنطلب منكم شلناً لقاء ذلك". شكرنا الله على حسن حظنا، ولم يخطر في بالنا أبداً أننا كنا بذلك ندفع أجراً، بل أننا ببساطة إنما نقدم إقراراً. وهكذا كان الحال مع بني إسرائيل.

إن أنصاف الشاقل الضئيلة القيمة كانت تشكل في مجملها كمية من الفضة ذات قيمة كبيرة إذ أن كل إسرائيلي ذكر في عمر العشرين وما فوق قد دفع هذا المبلغ المفروض. وإن (خروج ٣٨: ٢٥ - ٢٨) يعلمنا أنه وصل إلى ١٠٠ وزنة، و١.٧٧٥ شاقل. إن المئة وزنة قد أنتجت مئة قاعدة من الفضة، بينما الـ١.٧٧٥ شاقل ضمنت الفضة من أجل الرزز للأعمدة، فتغشي وتربط تيجان الأعمدة.

كانت قاعدتان قد خصصتا لكل لوح، وتبلغ في مجملها خمسين لوحاً. كانت وزنة الفضة تزن ١١٤ أونصة، وكل أونصة تساوي ٥ شلنات وبالتالي فالقيمة المالية لها تعادل ٣٤٠ جنيهاً، وهذا يعني أن كل قاعدتين مخصصتين للوح الواحد ستتطلب استخدام كمية من الفضة تبلغ قيمتها ٦٨٠ جنيهاً. وبالتالي فإن القواعد المئة للألواح الخمسين كانت تبلغ في مجموعها مبلغاً قدره ٣٤.٠٠٠ جنيهاً.

هل رأى أحدٌ أو سمع عن أساس مكلف إلى هذا الحد نظراً إلى حجمه؟ نعم، في الواقع، رغم أن الرمز باهظ الثمن إلى هذا الحد، فإنه يصبح بلا قيمة تُذكَر عندما نأخذ بعين الاعتبار عمل الفداء لربنا يسوع المسيح، ابن الله، بموته على صليب العار لأجلنا ليكون الأساس الصحيح لوقوف المؤمن أمام الله ونيله البركة منه. فلا عجب إذاً أن نقرأ: "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ" (١ بطرس ١: ١٨، ١٩). إن الرمز كان باهظ الثمن على نحو مذهل، وبالتأكيد فإن المرموز إليه سيكون أعلى ثمناً بكثير. لقد كانت ألواح خيمة الاجتماع كلها قائمة على قواعد فضية غالية الثمن، فالمؤمن يقف على أساس الفداء. وبالتأكيد كانت هذه الفكرة هي أساس الترنيمة التي تقول:—

"يا لغبطتي عندما أراني الله
عظمة الجلجثة،
فتحررت قيودي، وانعتقت روحي،
وأنشدت مترنماً بالفداء.
الفداء أساس السلام.
الفداء، يا له من نعمة.
فلنسبح الله عليه كثيراً،
لذاك الذي يخلصنا على أساس الفداء."

مغزى الرّجلين

نقرأ في الكتاب: "وَلِلَّوْحِ الْوَاحِدِ رِجْلاَنِ (على الهامش: يدان) مَقْرُونَةٌ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى" (خروج ٢٦: ١٧). أليس هذا تصوير توضيحي ليد الإيمان التي تبارك؟ أليس في هذا تأكيد أن الخلاص هو ليس من الأعمال، بل بالإيمان بالذبيحة الكفارية للمسيح؟ لدينا ذكر لليدين اللتين تعملان في (عبرانيين ٦: ١٨) حيث تقول الآية: "نَحْنُ الَّذِينَ الْتَجَأْنَا لِنُمْسِكَ بِالرَّجَاءِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا".

علاوة على ذلك كانت هناك رجلان، أو يدان، تمسكان بقاعدتي الفضة، الرجل والتجويف. فرجل واحدة، أو يد، مع قاعدة لن تكون ثابتة راسخة كما لو كانت لدينا رجلان مع كل لوح مع قاعدتين، بحيث تكون قوة الشد على نحو متساوٍ، وهذا يعطي ثباتاً وتماسكاً. ولذلك ففي عمل المسيح الفدائي لدينا حقيقتان عظيمتان أساسيتان علينا قبولهما، وهما:—

  1. عمل المسيح الذي أتمه على الصليب.
  2. قيامته المجيدة التي تؤكد بلا ريب على قبول الله لعمله الفدائي.

ويمكن للإيمان أن يهتف بظفر وفرح أن المسيح "أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا..... فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رومية ٤: ٢٥؛ ٥: ١).

إن القيامة تثبت أن الكفارة قد أكملت لإرضاء الله على نحو كامل. إنها البرهان الإلهي على عمل الخلاص الذي تم على الصليب. يا له من أساس قوي يستند إليه المؤمن! إنه عمل المسيح المنجز، المخلص القائم المنتصر الحي.

ما من عجب إذاً في أن الألواح الكبيرة الثقيلة في خيمة الاجتماع كانت قائمة على نحو متين استناداً إلى هكذا أساسات مكونة من قواعد الفضة المبرومة. ولا عجب أن المؤمن يمكنه الوقوف أمام الله اعتماداً على قيمة وكفاية عمل ربنا على الصليب الذي يشهد عليه انتصار القيامة.

كان هناك لوحان إضافيان عند الزاوية مضاعفان تربطهما معاً حلقة مستقرة على أربعة قواعد من الفضة، اثنتان لكل لوح، كتأكيد على فكرة الاستقرار والثبات التي نتحدث عنها.

ولعلّ المثال التوضيحي التالي من الكتاب المقدس يساعدنا أكثر على فهم مغزى القاعدتين. كان هناك تلميذان يجدّان السير عائدين إلى عمواس من أورشليم. كانا قد وضعا رجاءهما على المسيح، وها هو قد صُلِبَ الآن، ومات، وكان هذا هو اليوم الثالث على دفنه. وكانت قد سرت شائعات بأنه قد قام، ولكن لم يكن ثمة دليل قاطع على ذلك، فوقع هذان التلميذان في شك وكآبة مريرين.

فاقترب ربنا، الذي قام من الأموات منهما. ولكن أعينهما أُمسِكَت عن معرفته. واستفسر عن سبب حزنهما. وفي شكهما وحزنهما قالا: "ونحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلَكِنْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذَلِكَ" (لوقا ٢٤: ٢١). ثم راح ذلك الغريب المجهول يفسّر لهما الكتب، طارحاً عليهما التساؤل: "أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟" (لوقا ٢٤: ٢٦)، ما جعل قلبهما يتّقد في داخلهما، وجعلهما يتمسكان به للبقاء معهما، قائلين له: "«امْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ»".

لقد نزل عند رغبتهما بكل سرور، ليكتشفا أن ذلك الغريب، الذي ألهب قلبهما بتفسيره المنقطع النظير للكتب، ولبالغ سرورهما، ما كان سوى المخلص القائم، المنتصر على الخطيئة والموت والجحيم. وزالت الغشاوة عن أعينهما وهما يعاينان المسيح القائم واقفاً أمامهما. وإننا نتساءل: هل رأيا آثار المسامير في يديه المباركتين وهو يكسر الخبز في وليمة ذلك المساء المقدسة؟

انظروا كم كان هذان التلميذان غير ثابتين أو متيقنين بمجرد معرفتهما بموت المسيح. كان لابد من المسيح القائم لإقناعهما بقيمة ذلك العمل العظيم الذي أتمه على الصليب. لقد صار لموته معنى أكبر وأكمل على ضوء قيامته، أدركاه وهما يقفان أمامه في فرح وسرور بالغ لحضوره شخصياً معهما.

وما هي إلا لحظة بعد أن كشف نفسه لهما، حتى اختفى أمام ناظريهما. ولكن لم يعد هناك شك بعد. كان اللوحان مستقران آمنان على قاعدتي الفضة. إن يدي الإيمان، مثل تينك الرجلين، كانتا تمسكان بإحكام بالأساس الضخم. وهكذا يطمئن الله قلوبنا البائسة الضعيفة الإيمان.

الألواح المبنية معاً

حتى الآن كنا نعتبر أن كل لوح يمثل فرداً. وعلى كل حال، سوف لن نستطيع الحصول على فكرة صحيحة عما كان في فكر الله إلى أن نرى بأن اللوح كان يُقصَد به أن يكون جزءاً متكاملاً من كل خيمة الاجتماع. فما كان يُراد له أن يبقى لوحاً منفرداً "قائماً". لقد عُنيَ به أن يكون في حالة تجاور مع الألواح الأخرى، البالغة عشرين لوحاً في الجانب الجنوبي، وعشرين في الشمالي، ولوحين في زوايا خيمة الاجتماع، وستة في الجانب الغربي (خروج ٢٦: ٢٢ - ٢٥)، وأربعة أعمدة مع أربع قواعد لستارة الحجاب بين المقدس والأقداس، والتي تشكل في مجملها ١٠٠ قاعدة ضرورية لأساس الخيمة.

إلام كانت ترمز جميعاً؟ لقد انتقلنا من اللوح المفرد إلى الألواح "المبنية معاً". فما مغزى ذلك؟ والجواب هو أن الله يريد له شعباً يسكن في وسطه، بقعة يطبع اسم عليها. وهذا تم تحقيقه رمزياً في خيمة الاجتماع.

عندما نأتي إلى العهد الجديد نجد المرموز إليه من هذه. لقد كانت الألواح مبنية معاً. ونقرأ القول: "فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ، مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ" (أفسس ٢: ١٩، ٢٠). وأيضاً: "الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلَّهِ فِي الرُّوحِ" (أفسس ٢: ٢٢). ومرة أخرى: "كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (١ بطرس ٢: ٥).

الله لديه مسكن هنا على الأرض مشيد من شعبه المفتدى، الذي سُرَّ أن يسكن في وسطهم. كم هي جميلة إذاً الفكرة بأن المؤمنين يخلصون لا ليبقوا منفصلين فرادى، بل ليكونوا في شركة مسيحية رائعة، تشبه بناءً شيّده الروح القدس. كم يجب أن نثمّن ونقدّر هذه الشركة المترابطة المتينة. إنه حقاً ليقوينا ويشجعنا أن يكون شعب الله مترابطاً معاً ومع الرب بالروح القدس. ومن هنا نقرأ عن الرسل الأولين أنهم "وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ" (أعمال : ٢: ٤٢).

العوارض (القضبان) الخمسة

عندما وُضِعَت الألواح في مكانها، على كل جانب من جوانب خيمة الاجتماع وضعت هناك أيضاً خمسة قضبان أفقية. كان قضيبان يحيطان بالألواح من الأسفل واثنان يحيطان بها من الأعلى، ووضع قضيب في المنتصف بطريقة غير عادية. ونقرأ "وَالْعَارِضَةُ الْوُسْطَى فِي وَسَطِ الأَلْوَاحِ تَنْفُذُ مِنَ الطَّرَفِ إِلَى الطَّرَفِ" (خروج ٢٦: ٢٨)، بمعنى أنها كانت قد وُضِعَت بعيدة عن النظر. وهذه العارضة كانت تلف الألواح وتربطها معاً بقوة ومتانة شديدة. وهذا ضمن أن يكون البناء مُحكماً.

إلام ترمز العوارض الأربع الظاهرة للعيان؟ نعتقد أنها ترمز إلى المواهب التي منحها الرب الصاعد إلى السماء لكنيسته. وإلام ترمز العارضتان في أٍسفل الألواح؟ نعتقد أن الجواب هو الكنيسة، أو أعضاء الكنيسة، "مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ" (أفسس ٢: ٢٠). ونجد ذلك بلغة مجازية رمزية: "وَسُورُ الْمَدِينَةِ (الكنيسة في الألفية) كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَسَاساً، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الْحَمَلِ الاِثْنَيْ عَشَرَ" (رؤيا ٢١: ١٤). كم نحن مدينون للرسل والأنبياء لإدخالهم المسيحية إلى هذا العالم، بعملهم في تأسيس الجماعات والكنائس، ومن خلال كتاباتهم الملهمة.

إن يوحنا الرسول، وقد أرفق بقية الرسل في قوله، كتب: "الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً" (١ يوحنا ١: ٣، ٤). يا لروعة تلك الشركة، فأولاً معرفتهم بالمسيح قرّبت الرسل كل منهم إلى الآخر، ثم بنقل المعرفة إلينا، اجتذبوا المؤمنين إلى المسيح وإلى إخوتهم في الإيمان.

حريّ بنا أن نتذكر أن هؤلاء الأنبياء كانوا أنبياء العهد الجديد، وكان لهم مكانة مرموقة في كشف فكر الله للمسيحيين في عصر الكنيسة الأولى. وهذا نجده في الإصحاح الذي لا يُنسى الذي يتحدث عن التهذيب، أو البنيان، في الكنيسة، ذاك الذي نجده في (١ كورنثوس ١٤: ٢٩ - ٣١).

ماذا كان مغزى العارضتين في أعلى الألواح؟ نعتقد أنهم كانتا ترمزان إلى تلك المواهب الرائعة للكنيسة عند الرعاة والمعلمين. فهاتان قد أُعطيتا "لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ" (أفسس ٤: ١٢). فالمبشر لا يُولَد مبشراً. وإن الله هو الذي يعطيه هذه الموهبة، فيكون مباركاً خلال خدمته للخطاة وللعالم أجمع. ويحتاج من يهتدون على يده إلى راعٍ يرعاهم في شؤون الرب. وإن الكلمتان الدالتان على الراعي (الذي يرعى الخراف) والراعي (الذي يرعى الكنيسة) لهما أصل واحد في اللغة. ثم يأتي المعلم ليكشف الأمور العميقة المتعلقة بكلمة الله، وبذلك يبني شعب الله في إيمانهم. إن الراعي (أو القس) هو مثل الممرض. ألم يكتب الرسول بولس قائلاً: "كُنَّا مُتَرَفِّقِينَ فِي وَسَطِكُمْ كَمَا تُرَبِّي الْمُرْضِعَةُ أَوْلاَدَهَا" (١ تسالونيكي ٢: ٧). إن المعلم يشبه إلى حد كبير المدرس في المدرسة.

ولكن ما مغزى العارضة الطويلة المحتجبة عن النظر، قضيب الربط، المحفور والموضوع على طول الألواح من الطرف إلى الطرف؟ ما المعنى الرمزي المتعلق بهذه العارضة؟ ما من شك في أن هذه العارضة ترمز إلى الروح القدس في قوته وتأثيره غير المنظورين. فلولا تأثير روح الله القدس، وعمله الفعال وسط المؤمنين، لما أمكن أن يكون هناك تماسك أو ترابط بينهم. وحيث تكون هذه القوة أو التأثير ضعيفاً أو غائباً، يكون هناك انفصال، وانقسامات، وتَحَزُّبات، وطوائف وشيع. ولكن حيث يكون حضور الروح القدس قوياً فعالاً، فهناك سيسلك شعب الله في السلام والوحدة. لقد تأسس جسد المسيح (أي الكنيسة) في يوم العنصرة (عيد الخمسين)، عندما حلّ الروح القدس ساكناً في كل مؤمن، ليربطهم جميعاً إلى المسيح أولاً، رأس الجسد في السماء، وليوحدهم معاً على الأرض كأعضاء لجسده الواحد. "مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ. جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ" (أفسس ٤: ٣، ٤).

الألواح المغشاة بالذهب

وأخيراً نجد التعليمات التي أُعطيت لتغشية الألواح بالذهب، ولتزويد العوارض بخواتم ذهبية، وتغشية القضبان بالذهب. وإذ ترمز الألواح إلى المؤمنين، فإن الذهب لا يمكن أن يرمز إلى اللاهوت. بل إنه يرمز إلى البر الإلهي الذي به يقف المؤمن في حضرة الله.

ليس اعتباطياً التفسير بأن خشب السنط والذهب النقي يرمزان إلى ناسوت ولاهوت ربنا، في حين أننا نرى في هذه الحال، أن الخشب والذهب يرمزان إلى المؤمنين عندما لا ترفق بهما صفة "النقي". وعلاوة على ذلك وفيما يتعلق بخشب السنط والذهب النقي كصورة للارتباط بين تابوت العهد ومائدة خبز الوجوه، فإن التعليمات بتغشية خشب السنط بالذهب النقي تأتي بعد ذلك مباشرة، في حين أننا هنا نجد أن التعليمات عن صنع الألواح من خشب السنط تبدأ في (خروج ٢٦، ١٥)، ولا نجد التعليمات المتعلقة بتغشية الألواح بالذهب إلا عندما نصل إلى الآية ٢٩. وبين هاتين النقطتين، ترد ١٤ آية إجمالياً، وفيها التعليمات المتعلقة بالقواعد الفضية (الفداء).

ألا يوحي لنا هذا بفكرة أن المؤمن يدخل إلى معرفة مغفرة الخطايا (الفضة) أولاً، وأن ذلك البر (الذهب)، الدال على التبرير بشكل واضح، يتم الدخول إليه حين الوصول إلى الفهم الكامل لمعنى موت المسيح؟ في نفس الوقت، يمكننا القول بشكل واضح، أن الخاطئ في اللحظة التي يؤمن فيها ينال مغفرة الخطايا، والتبرير، ويكون برّ الله عليه، كلها معاً وبآن معاً، وذلك بمجرد إيمانه بالرب يسوع مخلصاً. وإذ نفهم ذلك يزداد إدراكنا وتقديرنا لهذه الأمور.

أيها المؤمن الحديث الإيمان، انظر إلى هذه الألواح القائمة وشاهد رمزياً ما أرادك الله أن تعرفه وتستمتع به. لقد كانت عند ذاك تبلغ عشرة أذرع ارتفاعاً، للدلالة إلى المسؤولية نحو الله، ولكنها كانت قائمة على قواعد فضية (الفداء). وإن الرجلين، أو اليدين، اللتين تمسكان بالأساس بإحكام، أي الخلاص بالإيمان وحده، كانت مغطاة بالذهب (البر الإلهي، بنتيجة الموت الكفاري لربنا)، وهذا رمز التبرير الذي يناله المؤمن للتو بمجرد إيمانه بالرب يسوع المسيح كمخلص ورب له. ومن هنا نقرأ "بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ إِلَى كُلِّ وَعَلَى (رمزياً الألواح المغشّاة بالذهب) كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ" (رومية ٣: ٢٢). "مِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً" (١ كورنثوس ١: ٣٠).

وهنا نتذكر قصة النبيل الإنكليزي الذي اهتدى إلى الإيمان مئة بالمئة. لقد قرأ كلمة الله بمزيد من التوق. وفي أحد أيام الشتاء ووسط الثلوج في كندا، وإذ كان يمتطي جواده على رأس جنوده، طرأت إلى ذهنه الآية التي تقول: "َبِرُّكَ إِلَى الْعَلْيَاءِ يَا اللهُ الَّذِي صَنَعْتَ الْعَظَائِمَ. يَا اللهُ مَنْ مِثْلُكَ!" (مزمور ٧١: ١٩). لقد أتت الكتب بقوة كبيرة إلى روحه. فهتف صارخاً بفرح عظيم: "إذاً فأنا على ارتفاع علياء بر الله".

إن كان المسيح برّنا كمؤمنين، فهل نرفض تصديق ذلك؟ كلا، إن المؤمن الذي اهتدى البارحة هو بارٌّ في عين الله مثله مثل بولس الرسول في المجد. إن أصغر مؤمن له هبة الله بكاملها دون انتقاص، ولا فرق في ذلك بينه وبين أعظم القديسين. فابتهجوا، يا حديثي الإيمان، فإن برّ الله لكم بفضل عمل المسيح الفدائي على الصليب.

في محاكم القوانين البشرية من المستحيل أن تبرئ المذنب بدافع من العدالة الصارمة. ولكن عمل المسيح على الصليب كان بتلك الكفاية حتى أن الله يقدر على تبرير الخاطئ الفاجر، "وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً" (رومية ٤: ٥).

حقيقة أن برّ الله يحلّ على الخاطئ الذي يؤمن نجد تصويراً لها بلغة واضحة في (لوقا ١٥)، حيث نقرأ أنه عندما عاد الابن الضال إلى أبيه بأسماله البالية وبؤسه، فإن الأب هتف بفرح نابع من أعماق قلبه أن "أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ وَاجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ" (لوقا ١٥: ٢٢، ٢٣). إن برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح هو بكل تأكيد "الحلّة الأولى" لكل المؤمنين.

إن التبرير هو أن يرى الله المؤمن الماثل أمامه بلا لوم وكأنه لم يرتكب خطيئة على الإطلاق. أيها القارئ هلا ابتهجت بهذه البركة الرائعة؟ لا شيء أقل من هذا يليق بحضور الله ورضاه.

الفصل ٩

الحجاب والستارة على باب الخيمة

(اقرأ خروج ٢٦: ٣١ - ٣٧)

ونأتي الآن إلى الحجاب الذي كان يفصل قدس الأقداس عن المقدس. لقد كان يرمز إلى المسيح. لقد كان مصنوعاً من  الاسمانجوني والأرجوان والقرمز، والبوص المبروم المطرّز، وبكروبيم مزخرف عليه. ليس من داعٍ هنا لتكرار معنى هذه الألوان، لأننا قد تناولناها قبل قليل كما وجدناها في ستائر خيمة الاجتماع. ولكن لعلنا نلاحظ اختلافاً في الترتيب الذي يرد فيه ذكر هذه الأشياء، فالصباغ الأزرق هنا يأتي أولاً والبوص المبروم يُذكر في النهاية مع وصف إضافي له بأنه "صنعة حائك حاذق". فذكر  الاسمانجوني أولاً يؤكد على حقيقة أن المسيح هو الإلهي السماوي، الذي يقود شعبه في الأمور الإلهية، بينما البوص المبروم يدل على ناسوت ربنا الخالي من الخطيئة والعيب، "صنعة الحائك الحاذق"، وهذه هي كل التفاصيل والدقائق المميزة للحياة التي ستقدم للمؤمن المبجل البهجة والسرور. إن الكروبين المشغول على الحجاب يرمز إلى أن كل الإدانة قد فُوِّضَت للابن، الذي سينفذ الدينونة الحقة، وأن تلك الدينونة ستتجاوز المؤمن، لأن المسيح قد حمل على عاتقه تبعة الخطيئة بشكل كامل.

عندما تتحقق الدينونة سيبتهج كل قديسي الله. وهذا نراه عند إدانة الزانية العظيمة، ألا وهي العالم المسيحي المرتد، كما في سفر الرؤيا (١٩: ٢ - ٤). إن دخان تعذبيها سيصعد إلى أبد الآبدين، ونجد الأربعة والعشرين شيخاً، الذين يرمزون إلى القديسين الذين اشتركوا في القيامة الأولى، يخرّون ساجدين لله قائلين "آمين، هللويا". فهؤلاء، الذين هم في المجد في منأى عن كل دينونة على أساس عمل المسيح الكفاري، هم فقط الذين يستطيعون الدخول بحق إلى حضور جلالته المهيب.

كان الحجاب معلقاً على أربعة أعمدة مصنوعة من خشب السنط ومكسية بالذهب. إن العدد (٤) يرمز إلى ما هو كوني. ففي ذهن الله أن البركة ستكون لجميع الذين سيأتونه بيسوع المسيح.

كانت رزز الأعمدة من الذهب، والقواعد من فضة، وفي هذا دلالة على أن الفداء (الفضة)، والبر (الذهب)، هو الأساس الوحيد الذي يتعامل على أساسه الله مع البشر.

يخبرنا المقطع في (عبرانيين ١٠: ١٩- ٢٢) بصورة هي أجمل ما تكون عما كان الحجاب يرمز إليه: "فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ".

الكاهن العظيم وحده هو الذي كان يستطيع الدخول إلى قدس الأقداس بإجلال مهيب في يوم الكفارة العظيم. لقد كان يدخل بدم كباش وتيوس، ما كانت لتزيل الخطيئة، بل كان هذا عملاً رمزياً وحسب. وبقي الحجاب قائماً على هذا النحو. ولم يكن يُسمع وقع أي قدم في قدس الأقداس طوال السنة التالية الكاملة، إلى أن يأتي من جديد يوم الكفارة، فيعود معه نفس الطقس، ويبقى الحجاب معلقاً. "وَأَمَّا إِلَى الثَّانِي (أي قدس الأقداس) فَرَئِيسُ الْكَهَنَةِ فَقَطْ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، لَيْسَ بِلاَ دَمٍ يُقَدِّمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ جَهَالاَتِ الشَّعْبِ، مُعْلِناً الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَذَا أَنَّ طَرِيقَ الأَقْدَاسِ لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ، مَا دَامَ الْمَسْكَنُ الأَوَّلُ لَهُ إِقَامَةٌ" (عبرانيين ٩: ٧، ٨).

ولكن في المرموز، المسيح، نجد كلاً من الذبيحة والكاهن الذي يقدم الذبيحة. رغم أنه لم يكن كاهناً خلال حياته على الأرض، لأنه لم يكن من سبط لاوي، إلا أنه أنجز عمل الكاهن عندما بذل حياته على الصليب كفارة عن الخطيئة. ولابد أنها كانت لحظة من أقدس اللحظات عندما صرخ بصوت عظيم قائلاً: "قد تم"، وبذلك يعني أنه قد اكتمل عمل الكفارة العظيم المذهل، والذي كان الأمل الوحيد لفداء العالم. وكل ما في الطبيعة آنذاك قد شهد على هذه اللحظة، فالأرض اهتزت والصخور تمزقت وتدحرجت، وانتفضت قوى العالم المادي نفسها، وفوق كل شيء ووراء كل شيء كان الحجاب، الذي انشق من وسطه، من الأعلى إلى الأسفل، من طرف الله، بيد الله. يا لها من شهادة، فيوم الظلال قد ولّى، وقد جاء يوم "الخبرات العتيدة". وحده رئيس الكهنة كان يمكنه الدخول إلى قدس الأقداس، وذلك مرة واحدة فقط في السنة. أما اليوم فالمؤمنون لديهم الجرأة للدخول في أي وقت.

ستارة باب الخيمة

كانت ستارة باب الخيمة من الصباغ الأزرق، والأرجوان، والقرمز والبوص المبروم الناعم، ومطرزة. لا داعٍ للتعليق على معنى ذلك إذ قد شرحناه للتو. ولكننا نلاحظ حذفاً جديراً بالملاحظة. فقد كان هناك كروبين على الحجاب الفاصل بين قدس الأقداس والمقدس، ولكننا لا نجد كروبين مشغولاً على الستارة عند باب الخيمة. وهذا الحذف أراد الله به أن يقول أنه كان يقترب من الإنسان بمحض نعمته المطلقة. فلا نجد كروبين، يدل على العدالة والدينونة، يظهر للعيان ويروّع من يسعى وراء الله.

"لا لعنة ناموس، بل فيك نعمة جليلة،
ويا له من مجد ذاك الذي أظهره وجهك غير المحتجب.
لقد اجتذبت البائس والضعيف،
وفيك فرح السائلين والضالين."

عندما تقارب طول أناة الله من نهايتها، عندها تأخذ الدينونة مجراها، وسيعبد الشعب الله، بسبب البر في طرق دينونته. ولكن في هذه الأثناء يكون موقف الله من الإنسان موقف نعمة من أنقى ما يكون.

كانت خمسة أعمدة تدعم الستارة، وكانت الأعمدة من خشب السنط المكسي بالذهب، وكانت الرزز من الذهب، والقواعد من النحاس. لقد كان هذا الستار يرمز إلى الإنسان داخلاً إلى الله، فكان مدخل الكهنة وهم يدخلون لتأدية خدمة المقدس. والعدد (٥) يشير إلى المسؤولية وقد حملها عن البشر ربنا يسوع المسيح بذبيحة نفسه (قواعد النحاس)، وهي في انسجام كامل مع البرّ (الرزز الذهبية).

الفصل ١٠

المذبح النحاسي

(اقرأخروج ٢٧: ١ - ٨)

والآن ننتقل خطوة نحو الخارج، ونجد أنفسنا في الفناء (دار المسكن) الذي كان يطوّق خيمة الاجتماع. فعند المرور من مدخل الدار من الخارج، أول ما يصادف نظرنا هو المذبح النحاسي. لقد كان شكلاً رائعاً لافتاً للنظر. ومن الممتع أن نجري مقارنة هنا بين أبعاد تابوت العهد والمذبح النحاسي.

تابوت العهد المذبح النحاسي
طوله ٢.٥ ذراعاً طوله ٥ أذرع
عرضه ١.٥ ذراعاً عرضه ٥ أذرع
ارتفاعه ١.٥ ذراعاً ارتفاعه ٣ أذرع

سنلاحظ من هذه المقارنة أن المذبح النحاسي كان أكبر بكثير من تابوت العهد، وفي مثلي ارتفاعه. إن الله يشدد على الإنسان ضرورة الكفارة، عندما يتناول موضوع العلاقة مع الخطأة بالبركة. هل تتقد فكرة هذا الدرس بشدة في كل قلب؟

خلافاً للتابوت ومائدة خبز الوجوه، اللذان كانا مصنوعين من خشب السنط المكسي بالذهب النقي، فإن المذبح النحاسي كان مصنوعاً من خشب السنط وقد غشّي بالنحاس. إن النحاس المشوب، أو بالحري النحاس النقي، هو أكثر المعادن مقاومة للنار والانصهار. وقد كان لدى القدماء طريقة بها يقسّون النحاس لدرجة عالية، ولا يزال هذا السر غير معروف حتى اليوم. إن النحاس (سواء المشوب أو النقي) كان يرمز إلى ثورة غضب الله على الخطيئة. "«أَمَا إِلَيْكُمْ يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ تَطَلَّعُوا وَانْظُرُوا إِنْ كَانَ حُزْنٌ مِثْلُ حُزْنِي الَّذِي صُنِعَ بِي الَّذِي أَذَلَّنِي بِهِ الرَّبُّ يَوْمَ حُمُوِّ غَضَبِهِ" (مراثي إرمياء ١: ١٢). وعلى حد قول أحدهم: "الذهب هو بر الله الذي لابد منه للتقرب إلى حيث الله؛ والنحاس هو بر الله الذي به يعالج الله آثام الإنسان حيث يكون الإنسان".

المذبح النحاسي كان المكان الذي تقدم عليه الذبائح، ذبائح المحرقة وذبائح السلامة. كان من يقدم الذبيحة يضع يديه على رأس الأضحية ويقوم بذبحها، ويرش الكهنة دمها على المذبح.

إن حجم المذبح النحاسي كان لافتاً للانتباه، وكأن الله أراد أن يوضح للشعب أنه لا يمكن الاقتراب إليه إلا من خلال ذبيحة كفارية. "بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ" (عبرانيين ٩: ٢٢). وعلاوة على ذلك، فإن المذبح النحاسي كان مربع الشكل، رمزاً إلى أن بشرى الإنجيل هي لكل أرجاء الدنيا: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، وهي لليهود والأمميين، للبيض، والحمر، والبرونزيين، وسود البشرة؛ إنها للأمراء والبؤساء؛ للمتعلمين والجهلة؛ للمتدينين والملحدين الجاحدين؛ للأغنياء والفقراء؛ للشبان والكهول. لذلك كانت أوامر الرب أن "«اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا" (مرقس ١٦: ١٥).

إن القرون الأربعة على المذبح، والمصنوعة من خشب السنط والمغشاة بالنحاس، ترمز إلى قوة المذبح. وكأن الله بذلك يطمئن قلب ذاك الذي يسعى ليكون باراً أمامه. ونتذكر كيف أن يوآب، وبدافع الخوف من نتيجة خيانته للملك سليمان، قد "َهَرَبَ يُوآبُ إِلَى خَيْمَةِ الرَّبِّ وَتَمَسَّكَ بِقُرُونِ الْمَذْبَحِ" (١ ملوك ٢: ٢٨). فقد اعتقد أنه قد حصل على ملاذ آمن، ولكنه لم يأتِ بذبيحة ودم، وكان المذبح ضده، فمات.

إن القدور والرُفُوشَ وَالمَرَاكِنَ وَالمَنَاشِلَ وَالمَجَامِرَ المتعلقة بالمذبح النحاسي، كانت كلها مصنوعةً من النحاس. وهذا يُظهر بشكل رمزي أن الله لن يسمح لنا بأن نتفادى الأفكار الخاصة بقداسته، وبرّه ومطاليبه. وهذه يتم تحقيقها بما كانت ترمز إليه الذبيحة التي على المذبح.

وَصُنِعتْ للمذبح شُبَّاكَةٌ صَنْعَةَ الشَّبَكَةِ مِنْ نُحَاسٍ. وصُنِعتْ عَلَى الشَّبَكَةِ أرْبَعَ حَلَقَاتٍ مِنْ نُحَاسٍ عَلَى أرْبَعَةِ أطْرَافِهِ، وقد وُضِعَتْ على هذا النحو لكي تكون الشبكةُ في أمان وسط المذبح. وهكذا لا تستطيع الأضحية الفرار. ففي داخل المذبح تماماً كانت الأضاحي تُوضع بأمان كي تلتهمها النيران.

ونتذكر إبراهيم عندما أمره الله بأن يقدم ابنه ذبيحة على المذبح على جبل المُريّا، وفي اللحظة التي استل فيها إبراهيم السكين ليذبح ابنه، فإن الله أمسك يد إبراهيم، وأخبره أنه كان هناك كبش ممسك في الغابة بقرنيه يمكنه أن يذبحه بدلاً من اسحق. أما عندما وُضِعَ ربنا على الصليب، فما كان هناك بديل عنه، ولم يكن ثمة مفرّ من محنة الصليب.

وفي بستان الجتسماني صرخ الرب يسوع في ألم عظيم وكرب، وكانت قطرات العرق تتساقط كالدم على الأرض: "«يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ»." (متى ٢٦: ٣٩)، ولكن لم يكن أمامه مفر إذا كان لابد من الكفارة أن تتم، وهذه لا أحد غيره يمكن أن ينجزها. فهو الوحيد الذي كان بمقدوره القيام بالعمل العظيم القدير. وفي كماله أضاف يقول، "ولكن لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك". إن شبكة النحاس كانت أمراً حقيقياً واقعياً.

إن برهاناً مذهلاً على ذلك نجده في سفر العدد ١٦. فعندما تمرد قُورَحُ وداثان وأبيرام على الكهنوت، أمر موسى المتمردين بأن يأخذوا مَجَامِرَهم وأن يجْعَلُوا فِيهَا نَاراً وَيضَعُوا عَليْهَا بَخُوراً أَمَامَ باب المسكن في المحلة. وسرعان ما رد الله على افتراضاتهم بأن أحدث أمراً جديداً، فقد فَتَحَتِ الأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلعَتْ المتمردين أحياءً. وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكَلتِ المِئَتَيْنِ وَالخَمْسِينَ رَجُلاً الذِينَ قَرَّبُوا البَخُورَ. وبعد ذلك قال موسى لأَلِعَازَارَ : "اَرْفَع المَجَامِرَ مِنَ الحَرِيقِ وَاذْرِ النَّارَ هُنَاكَ فَإِنَّهُنَّ قَدْ تَقَدَّسْنَ. مَجَامِرَ هَؤُلاءِ المُخْطِئِينَ ضِدَّ نُفُوسِهِمْ فَليَعْمَلُوهَا صَفَائِحَ مَطْرُوقَةً غِشَاءً لِلمَذْبَحِ لأَنَّهُمْ قَدْ قَدَّمُوهَا أَمَامَ الرَّبِّ فَتَقَدَّسَتْ. فَتَكُونُ عَلامَةً لِبَنِي إِسْرَائِيل»" (عدد ١٦: ٣٧، ٣٨).

إن المَجَامِر التي جُعِلَتْ صَفَائِحَ مَطْرُوقَةً ووُضِعَتْ كغطاء للمذبح، كانت وإلى الأبد علامة جليلة على أن الله لا يمكن الاقتراب إليه إلا بالطريقة التي رسم لها بنفسه. إن هناك أعداداً هائلة ممن يهلكون "في مُشَاجَرَةِ قُورَحَ" (يهوذا ١: ١١). ومنهم السبتيون، والقائلون بفجر الألفية، وشهود يهوه، والعلماء المسيحيون، والناكرون لعقيدة الثالوث، وغيرهم ممن ينساقون في هذه الطريق المنحرفة التي ستودي بهم إلى التهلكة.

انظروا إلى تلك المَجَامِر التي جُعِلَتْ صَفَائِحَ مَطْرُوقَةً ووُضِعَتْ كغطاء للمذبح النحاسي، وفكروا في نهاية أولئك الذين تجرأوا على الدنو من الله بغير الطريقة التي اختارها. لا مناص من حقيقة الذبيحة الواحدة الوحيدة الكافية لتحقق مطاليب الله.

وأخيراً، إن العصي المصنوعة من خشب السنط، المغشاة بالنحاس، تذكرنا بصفة البرية التي تميز هذا الدهر. الحمد لله، إن البرية لن تدوم إلى الأبد. إن مسكن الله الآب يقبع أمام كل مؤمن داعياً إياه إلى الإيمان بالرب يسوع المسيح.

الفصل ١١

دار المسكن في خيمة الاجتماع

(اقرأ خروج ٢٧: ٩ – ١٩)

إن العدد (٥) ومضاعفاته مذهل للغاية في طريقة طباعته على دار المسكن في خيمة الاجتماع. فستائر البوص المبروم كانت تبلغ خمسة أذرع في ارتفاعها، وكان طولها إلى جهة الجنوب مئة ذراع، وكانت أعمدتها عشرون: وطولها من جهة الشمال كان مئة ذراع، وأعمدتها عشرون: وكان عرضها من جهة الغرب خمسين ذراع وأعمدها عشرة. ولذلك كان بين الأعمدة، ستائر مربعة من الكتان، تبلغ ٥ أذرع طولاً وعرضاً.

هذه الستائر الكتانية المربعة الشكل كانت ترمز إلى حياة ربنا بكل نقاوتها وقداستها. كانت الأعمدة مرتبطة بعصائب من نحاس، ورزز من الفضة وقواعد من النحاس، وهذا كان يرمز إلى حقيقة أنه لولا أنه تم إرضاء مطاليب قداسة الله على الصليب، لما كان هناك تمثيل لحياة ربنا الرائعة في شهادة العالم له: "هَذَا هُوَ الَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ. لاَ بِالْمَاءِ فَقَطْ، بَلْ بِالْمَاءِ وَالدَّمِ. وَالرُّوحُ هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ، لأَنَّ الرُّوحَ هُوَ الْحَقُّ" (١ يوحنا ٥: ٦).

إن الطول الإجمالي للستارة ذو مغزى:—

١٠٠ ذراع من جهة الشمال
١٠٠ ذراع من جهة الجنوب
٥٠ ذراع من جهة الغرب
٣٠ ذراع من جهة الشرق
فيبلغ الطول الإجمالي ٢٨٠ ذراعاً

كان هذا، إن كنتم لا زلتم تذكرون، هو طول الستائر الداخلية الجميلة، التي كانت أمام ناظري الكهنة فقط. إن الستارة المصنوعة من الكتان الناعم تؤكد لكل المحلة الشهادة بنقاء حياة ربنا. فلم يكن هناك أي تعارض أو تضارب بين حياته الخارجية، وحياته الداخلية. وعندما سُئِلَ: "«مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ»" (يوحنا ٨: ٢٥). ما الفرق بين الغطاء المصنوع من جلود التخس والستارة المصنوعة من الكتان الأبيض الناعم؟ الجواب هو أن الأولى هو ما رآه الإنسان غير المؤمن في حياته؛ أما الأخير، فهو رمز النقاوة التي أظهر نفسه بها إلى العالم. لقد رأى الإنسان أن "لا جمال يمكن أن يرغب فيه". بالتأكيد إن إنسانيته التي لا مثيل لها قد اجتذبت انتباههم. "«لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ»" (يوحنا ٧: ٤٦)، هذه كانت شهادة خُدَّامُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ، الذين كانوا قد أُرسِلُوا ليأخذوه، ولكن شهادته أعجزتهم عن ذلك، وعادوا صفر اليدين. وكان الناس "َيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ" (لوقا ٤: ٢٢). للأسف، هؤلاء الناس لم يقبلوا تلك الشهادة الرائعة.
بوابة الفناء

إن الخمسين ذراعاً من الستارة مع أعمدتها العشر كانت موزعة على النحو التالي:—

١٥ ذراعاً و٣ أعمدة
٢٠ ذراعاً و٤ أعمدة
١٥ ذراعاً و٣ أعمدة
المجموع ٥٠ ذراعاً و١٠ أعمدة

نلاحظ من جديد مضاعفات العدد (٥) التي ترد هنا بشكل عجيب مذهل. وإن الأعمدة الأربعة التي عند بوابة الفناء تلفت الانتباه، لأنها تدل رمزياً على أن مدخلها هو لكل أرجاء العالم، وليس لشعب واحد، أو لعائلة واحدة، أو للكهنة، بل إلى كل العالم حيثما يوجد الإنسان. إن ستارة بوابة دار المسكن كانت أكثر من كتان مبروم وحسب، فقد كانت "صنعة الطراز" وكان فيه اسمانجوني وقرمز وأرجوان. ولقد رأينا لتونا ما مغزى أو رمز هذه.

إن باب الفناء أو الدار هو رمز إلى المسيح الذي قال: "أنا هو الباب" (يوحنا ١٠: ٩). "أنا الطريق" (يوحنا ١٤: ٦). "يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (١ تيموثاوس ٢: ٥). "لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أعمال ٤: ١٢)." لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يوحنا ١٤: ٦). هذه الآيات خرجت على فمه نفسه. فلا الدموع، ولا الصلوات، أو الإماتات أو المشاعر أو تقديم التضحيات في ساحة المعارك، بل بالمسيح وحده، وبفضل موته الكفاري على الصليب.

إن العدد (٥) ومضاعفاته يدل على المسؤولية وقد حُمِلَت، لأن الأعمدة التي كانت تدعم ستارة الكتان الناعم كانت ترتكز على قواعد من نحاس، للإشارة إلى موت ربنا الكفاري. وإن الأزرق والأرجوان والقرمز ترمز إلى أمجاده الشخصية والوظيفية. ولم يكن من كروبين مشغول على المدخل. النعمة المطلقة المجردة كانت وحدها هناك وتشير إليها البوابة الجميلة رمزياً.

كان هناك مدخل واحد فقط للجميع؛ مدخل واحد فقط إلى المقدس يمر به الكهنة؛ ومدخل واحد فقط إلى قدس الأقداس يعبره رئيس الكهنة.

المسامير والحبال

إن كان الكتان الأبيض في ساحة الدار يرمز إلى المسيح بشكل رئيسي من ناحية شهادة حياته الخالية من كل عيب، إلا أنه من جهة أخرى يعلم المؤمن بأنه عليه أن يكون شهادة للمسيح في هذا العالم. وللأسف، إن كثيرين منا ينهارون في حياتنا اليومية، وينسون أن البر لا يُقاس بأعمال الإحسان والصدقة، بل بالأعمال التي نقوم بها نحو الآخرين بالنعمة التي وضعنا الله فيها.

بهذا المعنى الأخير يصبح للمسامير والحبال مغزى رمزي ألا وهو أننا لا نستطيع أن نشهد بقوتنا الذاتية. فكما أن الأعمدة كانت تمسك بها قوة خارجة عنها، فكذلك المؤمن يستطيع أن يُؤَيَّد بالشهادة بقوة روح قدس الله.

الفصل ١٢

ثياب المجد والبهاء

(اقرأ خروج ٢٨: ١ - ١٠)

في دراستنا حتى الآن كنا ننتقل من الداخل إلى الخارج، من تابوت العهد في قدس الأقداس إلى فناء خيمة الاجتماع. لقد خرج الله إلى الإنسان من خلال شخص ابنه الحبيب، والإنسان يدخل إلى الله بالمسيح كرئيس كهنة اعترافنا. يُطلب إلينا أن "لاَحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ" (عبرانيين ٣: ١). والآن نبدأ بدراسة كيفية دخول الإنسان إلى الله كعابد خاشع.

هنا قد يسأل المشكك قائلاً عن السبب في أنه لم يتم ذكر المذبح الذهبي في المقدس، ولم يتم ذكر المغسلة النحاسية في فناء خيمة الاجتماع. ويبدو وكأن في الأمر حذفاً. ولكن قد بينا لتونا أن هناك سبب لذلك وهو جميل جداً. فما سيستخدمه الملحد المشكك للإشارة بسرور إلى أنه خطأ في كتاب عرضة للخطأ أو غير معصوم، يمكن أن يراه الفكر الروحاني على أنه علامات واضحة من الإلهام أو الوحي في كتاب معصوم عن الخطأ.

الجواب في هذا: ما لم يكن الكاهن العظيم في مكانه بالنسبة للمؤمن، لا يمكن الدخول إلى الله. كانت المرحضة النحاسية مخصصة للكهنة حيث يغسلون فيها أيديهم وأقدامهم من النجاسة بماء المرحضة النحاسية، والغاية من ذلك هو أن يكونوا نظيفين أنقياء في خدمتهم للمقدس. وكان المذبح الذهبي قائماً حيث كان الكهنة يُصعدون بخوراً للرب، وهذا رمز العبادة والتوسط لشعب الله. ولذلك سيكون تركيزنا الآن منصباً على هارون كرمز للرب يسوع الذي هو رئيس الكهنة الحقيقي.

"ثياب مقدسة... للمجد والبهاء"

علينا أن نتناول الآن موضوع ثياب المجد والبهاء التي كان هارون يرتديها. إن المسيح يُدعى "رئيس كهنة عظيم" (عبرانيين ٤: ١٤). أما هارون فلم يُدعى هكذا على الإطلاق. إن المرموز إليه يفوق الرمز بكثير. ففي حين أن هارون هو رمز هام للمسيح، إلا أنه يقف على تضاد معه من بعض النواحي. إنه سابق لأوانه، ولكن حسنٌ أن نشير إلى أوجه التغاير بين هارون وربنا.

في الواقع، كان على الله أن يأخذ حالة هارون الحقيقية بعين الاعتبار. فقد كان إنساناً، خاطئاً وساقطاً، رغم كونه كاهناً عظيماً. ففي يوم تقديس هارون وبنيه العظيم، كان لابد أن يقدم ذبيحة خطية عن ذاته وعن أولاده. وفي هذا لا يمكن أن يكون رمزاً لربنا، لأنه لم يكن في حاجة إلى ذبيحة خطيئة. فلقد كان هو نفسه ذبيحة الخطيئة على الصليب، ولم يكن أبداً في حاجة إلى مخلص لذاته.

ومن جديد، وفي يوم الكفارة العظيم، كان هارون يدخل مرتين إلى قدس الأقداس ليرش دم ذبيحة الخطيئة على وأمام كرسي الرحمة، أولاً عن نفسه، ومن ثم عن الشعب. لم يكن دخوله الأول لأجل نفسه يرمز إلى ربنا لأنه لم يكن أبداً في حاجة لذبيحة خطيئة عن نفسه. ولكن عندما كان هارون يدخل في المرة الثانية ليقدم ذبيحة عن خطايا الشعب، فهناك كان رمزاً لربنا الذي "َلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً" (عبرانيين ٩: ١٢).

ومن جديد نجد أنه كان يتوجب على هارون وبنيه أن يغسلوا أيديهم وأقدامهم في ماء المرحضة النحاسية لإزالة النجاسة عنهم قبل أن يدخلوا إلى المقدس ليقوموا بخدمتهم. ورغم أن هارون كان يتطهر وينال المغفرة بالدم الثمين (رمزياً)، فمع ذلك كان عرضة للوقوع تحت النجاسة، وكان في حاجة إلى التطهر بالماء. ومن الواضح أنه من هذه الناحية لم يكن يرمز لربنا، بل هو في موقف مغاير له، لأنه لم يتنجس رغم اجتيازه لمواقف نجاسة.

إذا وضعنا هذه الفروقات بينهما في ذهننا، فسوف نرى أن هارون هو رمز جميل لربنا من نواحٍ عديدة.

إن التعبير رئيس الكهنة يشتمل ضمناً على الكهنة. إن شخصية ربنا كرئيس كهنة تحدد مكانة المؤمنين ونصيبهم. وإن الإصحاح ٢٨ يخصص ما لا يقل عن ٣٩ آية لوصف ثياب رئيس الكهنة في المجد والبهاء، وأربع آيات فقط مكرسة لوصف ثياب الكهنة.

ألا يعلمنا هذا درساً بالغ الأهمية؟ لكي نصل إلى فهم صحيح لمكانتنا وقسمتنا ككهنة، أي كعابدين لله، من الضروري أولاً أن نفهم شخص، ومكانة، ونصيب رئيس كهنتنا العظيم. عندما ندرك، إلى حد ما، مكانته ونصيبه، يمكننا بسهولة أكثر أن نفهم مكانتنا ونصيبنا. إنهما يستمدان صفاتهما منه.

دعونا الآن نتفحص بالتفصيل ثياب الكاهن العظيم. لقد كانت عبارة عن:

  1. صُدْرَةٌ
  2.  وَرِدَاءٌ
  3.  وَجُبَّةٌ
  4.  وَقَمِيصٌ مُخَرَّمٌ
  5.  وَعِمَامَةٌ
  6.  وَمِنْطَقَةٌ
  7. وصفيحة ٌ ن الذهب النقي وقد نُقشت عليها العبارة "قُدْسٌ لِلرَّبِّ".

وإلى هذه أُضيفت ثياب الكهنة التي كانت مؤلفة من:

  1. أقْمِصَةً
  2. ومَنَاطِقَ
  3. وقَلانِسَ
  4. سَرَاوِيلَ مِنْ كَتَّانٍ لهارون وأبنائه.

إذ نمعن النظر في المعنى الرمزي لهذه القطع من الثياب، دعونا نتذكر أن الله نفسه قد صمّم هذه الثياب، وأن الرجال حكماء القلوب الذين كرسهم الله قد ساعدوا في صناعة هذه الثياب. لقد كان بصلئيل بشكل خاص قد دُعي ليكون قائداً ومديراً لعملية الصناعة هذه. فالله "مَلأَهُ مِنْ رُوحِ اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ صَنْعَةٍ" (خروج ٣٥: ٣١). كم هي رائعة فكرة أن الله أوحى لهم بطريقة تنفيذ أو إنجاز عملية إعداد هذه الثياب التي صممها هو بنفسه. لابد أن ندرك أن ذلك يعلمنا دروساً خاصة هامة جداً.

الرداء

إن كلمة "رداء" الواردة هنا هي في الأصل كلمة عبرية صرفة تعني "يرتدي"، ومن هذا السياق اكتسبت معنى تقنياً وصارت تشير في الكتاب المقدس إلى الثوب الكهنوتي. "انْتَخَبْتُهُ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ لِي كَاهِناً لِيَصْعَدَ عَلَى مَذْبَحِي وَيُوقِدَ بَخُوراً وَيَلْبَسَ أَفُوداً أَمَامِي, وَدَفَعْتُ لِبَيْتِ أَبِيكَ جَمِيعَ وَقَائِدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ!" (١ صموئيل ٢: ٢٨).

"فَيَصْنَعُونَ الرِّدَاءَ مِنْ ذَهَبٍ وَاسْمَانْجُونِيٍّ وَارْجُوَانٍ وَقِرْمِزٍ وَبُوصٍ مَبْرُومٍ صَنْعَةَ حَائِكٍ حَاذِقٍ". هذه القائمة مدهشة نوعاً ما. ويُذكر الذهب هنا لأول مرة إضافة إلى الاسمانجوني والأرجوان والقرمز، التي رأينا أنها كانت ألوان الستارة الداخلية. لم نقرأ قبل الآن عن الذهب كجزء من أي ثوب أو ستارة. فلماذا يُذكر الذهب هنا؟

إن الذهب المتمثل في الخيط الذهبي الرفيع الذي يتلألأ على ثوب الكاهن العظيم، سيذكرنا بأن المسيح يتخذ مكانه الحق (الذهب، البر الإلهي) ككاهن عظيم لنا. وإن كهنوته العظيم يقوم على أساس قوي. وإن فهمنا لهذا يدخل ارتياحاً إلى القلب والوجدان في المعرفة بأن علاقتنا مع ربنا تقوم على أساس عمل البر المجيد الذي أتمه على الصليب لخلاصنا.

الاسمانجوني (أو الصباغ الأزرق) يرمز إلى الشخص السماوي في ناسوت ربنا. إنه لم يصبح إنساناً إلى أن ولد من العذراء مريم في بيت لحم. ومع ذلك أمكنه أن يقول عن نفسه: "لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ" (يوحنا ٣: ١٣). "الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ" (ا كو ١٥: ٤٧).

الأرجوان يرمز إلى مجد ربنا كابن الإنسان الذي يتمتع بسلطة واسعة كملك الملوك ورب الأرباب والحاكم الديان على كل العالم.

القرمز يرمز إلى مجد ربنا كملك إسرائيل ومسيح شعبه الأرضي.

البوص المبروم يرمز إلى حياة ربنا التي لا عيب فيها. وإن "صَنْعَةَ حَائِكٍ حَاذِقٍ" تدلنا على مشاعر الفرح والسرور التي تنتاب الفكر في كل تفاصيل الحياة الجميلة لهؤلاء جميعاً. ولذلك نقرأ: "لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هَذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ" (عبرانيين ٧: ٢٦).

زنار الشدّ في الرداء

هذا كان قد صُنِعَ من نفس المادة كما الرداء. ولا داعٍ لأن نكرر هنا ما سبق أن قلناه عن التعليم الرمزي الكائن وراء الألوان.

ولكن ينبغي أن نتحدث قليلاً عن الزنار نفسه. إن "زنار الشدّ" هو تعبير يُستخدم فقط بما يخص رداء الكاهن العظيم ويرمز إلى العمل المتوارث. إنه يرمز إلى الخدمة. فمثلاً، بعد عشاء الفصح قام ربنا المبارك و"أَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا" (يوحنا ١٣: ١٤، ١٥). وفي مكان آخر نقرأ: " طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ" (لوقا ١٢: ٣٧).

كم هو مؤثر أن نعرف أن الرب في الأعالي يُعنى بشعبه على الدوام. إنه يهتم بنا، ولكنه ليس خادماً لنا، لأن الخادم يعمل حسب أوامر سيده. إن دُعينا إلى وليمة الملك، وقدّم لنا كوباً من الشاي بيده، فإنه يخدمنا، ولكنه سيستغرب كثيراً إذا سمع أننا قلنا أنه كان خادماً لنا. وإن خدمة الرب لنا طوعية وهي بدافع المحبة النابعة من قلبه، وهذه يفيض بها على شعبه. إنه يخدمنا كرئيس إزاء عيوبنا ونقائصنا وضعفاتنا؛ كمحام يدافع عنا حتى عندما يُتّهم المؤمن بارتكاب خطيئة. إن "زنار الشدّ" هو رمز خدمة ربنا المبارك التي يقدمها لخاصته. فكم هو جدير بالعبادة هكذا مخلص حتى نرفع له أسمى آيات الشكر والعرفان له.

صفيحتا الكتف

هذه لا تُذكر بشكل منفصل في الآية ٤، حيث نجد تعداد المواد المختلفة المتعلقة بثياب الكاهن العظيم. وكان من الواضح أن هذه كانت جزءاً من الرداء، ومثبتة إلى الصُّدرة بقوة بضفيرتين من الذهب.

وكان هناك حجرا جزعٍ نقشت عليهما أسماء بني إسرائيل، سِتَّةً مِنْ أسْمَائِهِمْ عَلَى الْحَجَرِ الْوَاحِدِ وَأسْمَاءَ السِّتَّةِ الْبَاقِينَ عَلَى الْحَجَرِ الثَّانِي حَسَبَ مَوَالِيدِهِمْ. هذان الحجران كانا عند ذاك موضوعين في محجرين أو قاعدتين من ذهب، على كتفي الرداء، وبهذا يحمل أسماءهم أمام الرب كتذكار. ما المعنى الرمزي الذي نفهمه من ذلك في هذا التدبير؟ في الكتاب المقدس، الكتف هو مكان القوة. ونقرأ: "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ" (أشعياء ٩: ٦). إن كتفاً واحدة كافية لرئاسة الكون، ولكن عندما نجد الموضوع يتعلق بحفظ المسيح لشعبه في حضرة الله فإننا نجد ذكراً لكتفين اثنين. وبهذا يعلمنا الله أن الرب يسوع بكل قوته العظيمة قادر على أن يحفظ الجميع في حضرة الله. "الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا" (عبرانيين ٩: ٢٤).

ونجد نفس الفكرة في مثل الراعي الذي يجد الخروف الضال. وعندما نجح الراعي الصالح، الذي يرمز إلى ربنا، في إيجاد الخروف نقرأ: "وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً" (لوقا ١٥: ٥). إننا كمؤمنين موضع عناية الرب واهتمامه بالفعل.

صفيحة الصدرة للقضاء

ولكن ليس هذا كل شيء. إذا كانت صفيحتا الكتف ترمزان إلى قوة الرب التي استخدمها لأجلنا، فإن صفيحة الصدرة ترمز إلى محبته لخاصته. لقد كانت مصنوعة من نفس المواد التي في الرداء، وهذا تأكيد على الأمجاد الشخصية والوظيفية لربنا. في هذه الصدرة كانت مجموعة مكونة من أربعة صفوف من الحجارة الكريمة، ثلاثة في كل صف، وقد حُفِرَت عليها أسماء بني إسرائيل الاثني عشر. ما المعنى الخاص في كل حجرة؟ لسنا مؤهلين للإجابة على هذا السؤال. لكن لاشك أن لهذا معنى ومغزى خاص. إن النقش الكائن على الحجر كان بالغ الأناقة والدقة، ويقول خبير في الحجارة الكريم ، معبراً عن رأيه في الترتيب الذي اختير لوضع الحجارة عليه، إنه كان يفوق المهارات البشرية، وأنه يمكن أن يتم بترتيب إلهي.

كان لكل حجر كريم مميزاته الخاصة من ناحية اللون، والكثافة، وقدرتها على كسر الضوء، وما أشبه ذلك، ولذلك فإن كل حجر كانت مختلفة عن الأخرى. وهكذا الحال عند الله الذي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات في الشخصية من حيث تجاوبها مع عمل الله في المؤمنين. بالتأكيد ليس الله صانع مواد بالجملة حتى لا تتمايز عن بعضها أبداً. يُقال أنه ليس هناك ورقتا نبات متشابهتان تماماً في الطبيعة، ولا يمكن أن نرى وجهين متطابقين تماماً بكل التفاصيل. فلا شك إذاً أن الحال هو هكذا أيضاً في عالم النعمة.

إن المدينة الرمزية في (رؤيا ٢١)، والتي نرى فيها تمثيلاً للكنيسة في حقبة الألفية للمسيح، كان فيها اثنا عشر حجراً كريماً في أساسها. وإذ نطالع العهد الجديد نميز الفرق بين بولس وبطرس ويوحنا وباقي خدام المسيح. إنهم يشعون على الأرض كلٌّ منهم بصفاته الخاصة، ويعكسون حياة المسيح فيهم من خلال ظروف حياتهم الأرضية. فهل سيتوقفون عن الإشعاع "لأن نجماً يمتاز عن نجم في المجد"؟ (١ كورنثوس ١٥: ٤١). لا نعتقد ذلك.

ولكن هذا واضح للغاية. فهذه الحجارة الثمينة التي تتلألأ على صفيحة الصدرة عند رئيس الكهنة، ترمز إلى رئيس كهنتنا العظيم، الرب يسوع المسيح، يمثل ويحفظ خاصته بعواطف محبة عميقة في حضرة الله. فلسنا ضائعين وسط الحشد. ولسنا مكوّمين معاً في عمومية مبهمة غير واضحة. كل واحد منا بحد ذاته هو موضع عنايته واهتمامه ودعمه، المتمثل بكل قوة الحب الإلهي في حضور الله.

علاوة على ذلك، فإن خواتم الذهب كانت موضوعة على طرفي صفيحة الصدرة، وخاتمان كانا مثبتان على الرداء، وكانت الخواتم مربوطة إلى بعضها برباط، أو عصابة باللون الأزرق. وبهذا تكون هناك العقيق وقد وضع في محاجر، أو قواعد، من الذهب. وفي الصدرة كانت الحجارة الثمينة مستقرة في الذهب في حشوتها. ولذلك كانت صفيحتا الكتف متصلتان بالرداء كما الحال مع الصدرة. بهذا الكم الهائل من التفاصيل يؤكد الروح القدس على الحقيقة المجيدة التي يتحد بها الحب الإلهي والقوة الإلهية لطمأنينة المؤمن، وحفظه أمام الله في العطف الإلهي. لقد قال ربنا بشكل واضح صريح: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي" (يوحنا ١٠: ٢٧، ٢٨). ما كان يمكن منح الحياة الأبدية لو أنه كان من المحتمل فقدانها. لو أمكن وجود فاصل ولو بجزء من الثانية أو ثغرة بعرض شعرة بيننا وبين الحياة الأبدية، لما أمكن أن تكون أبدية. وكلمة "لن تهلك" لا تعني أنك لن تهلك للحظة، بل أنك لن تهلك أبداً.

أرجو من القارئ أن يعذر الكاتب، إذا ما أورد حادثة بسيطة متعلقة بهذا الموضوع العزيز على قلبه. فعندما كان طفلاً صغيراً سردت له والدته الورعة هذه الحكاية. فمنذ سنوات عديدة، وقف تشارلز ستانلي، وهو واعظ موهوب ذو شخصية قوية وجذابة في مظهرها، وقف ذاك ليكرز في مدينة كبيرة شمال إنكلترا. فاستعار جَدُّ الكاتب كرسياً من حانوت قريب كي يقف الواعظ عليه. وسرعان ما احتشد الناس من حوله. وابتدأ الواعظ حديثه باستخدام مثال رائع عن ضمان المؤمن في المسيح، هذا الموضوع الذي نتحدث عنه لتونا. وتحدث عن المؤمنين هكذا:

"لم يكن المسيح يضع
أحجاراً كريمة على صدره"

لقد كان يكرز في منطقة كانت تنتشر فيها عقيدة أن المؤمن يمكن أن يخلص اليوم ويفقد خلاصه في اليوم التالي، فيخلص حتى يكاد يصل إلى بوابة السماء، ومع ذلك يضل ويخسر خلاصه عند النهاية. واستخدم السيد ستانلي هذا التعبير المذهل أن "أشكر الله لأنه ليس لديه مزلاج أمام المؤمنين يفتحه اليوم ويغلقه غداً". وبإسهابه في الحديث عن هذا الموضوع في أن صدرة هارون كانت ترمز إلى محبة المسيح لخاصته التي لا تبدل فيها، وأن خواتم الذهب كانت ترمز إلى البر الإلهي، وأن الرابطة أو العصابة الزرقاء اللون ترمز إلى النعمة الإلهية، أكد على الضمان المطلق للمؤمن. وقالت لي والدتي كيف كانت تسمع إيماءات الموافقة الدافئة الصادرة عن المستمعين.

إذاً كانت الحجارة الكريمة، التي على صفيحتي الكتف أو الصدرة، منقوشة. لقد قال الله عن صهيون: "هُوَذَا عَلَى كَفَّيَّ نَقَشْتُكِ. أَسْوَارُكِ أَمَامِي دَائِماً" (أشعياء ٤٩: ١٦). والحفر أو النقش يدل على شيء ثابت باقٍ معصوم عن الخطأ ومتعذر محوه أو إزالته. كم هو مؤثر التفكير بأن تلك الحجارة المنقوشة ترمز إلينا في مكانتنا الثابتة والراسخة كمؤمنين في قلب المسيح.

"لا يعاني المخلصون أبداً،
ولا شيء يفصلهم عن الرب"

الأورِيم وَالتُّمِّيم

إن الإسمين أوريم وتميم، هي كلمات عبرية صرفة، وتعني "الأنوار"، و"الكمال". لسبب وجيه ما لا نجد تفاصيل عن كيفية وضعها في الصدرة وكيف كانت تُصنع. والتخمين بخصوص هذا الموضوع لا يفيد. لقد وُضِعَت في "صدرة القضاء"، وبذلك تكتسب الصدرة اسمها هذا من وجود الأوريم والتميم فيها. والقضاء هنا لا يعني الدينونة، بل حسن التمييز والمحاكمة. نتحدث بلغتنا الحياتية اليومية عن رجل نصفه بأنه يتمتع بملكة التمييز والمحاكمة العقلية، أي أنه قادر على تقديم الرأي السديد. الآية في (المزمور ١١٩: ٦٦) تقول: "ذَوْقاً صَالِحاً وَمَعْرِفَةً عَلِّمْنِي لأَنِّي بِوَصَايَاكَ آمَنْتُ".

ونعلم عن استخدامها من خلال نصوص كتابية أخرى. فمثلاً، عندما كان الله يعطي أوامره وتعليماته لموسى ومن خلفه، يشوع، قال: "فَيَقِفَ أَمَامَ أَلِعَازَارَ الكَاهِنِ فَيَسْأَلُ لهُ بِقَضَاءِ الأُورِيمِ أَمَامَ الرَّبِّ. حَسَبَ قَوْلِهِ يَخْرُجُونَ وَحَسَبَ قَوْلِهِ يَدْخُلُونَ هُوَ وَكُلُّ بَنِي إِسْرَائِيل مَعَهُ كُلُّ الجَمَاعَة" (عدد ٢٧: ٢١). ونقرأ أيضاً: "وَلِلاوِي قَال: «تُمِّيمُكَ وَأُورِيمُكَ لِرَجُلِكَ الصِّدِّيقِ الذِي جَرَّبْتَهُ فِي مَسَّةَ وَخَاصَمْتَهُ عِنْدَ مَاءِ مَرِيبَةَ" (تثنية ٣٣: ٨). ومن الواضح بشكل أو بآخر أنه في أوقات الشدة أو الارتباك، كانت تظهر تساؤلات عن الأوريم والتميم عند رئيس الكهنة، وكان الله نفسه يقدم الإجابة على هذه التساؤلات.

ومن هنا نرى أن هناك ثلاثة أشياء واضحة تتعلق بالصدرة، وهي:

  1. صفيحتا الكتف ترمزان إلى السلطة أو القوة.
  2. الصدرة التي تدل على المحبة.
  3. الأوريم والتميم ترمزان إلى الحكمة.

وهذا ارتباط حكيم جميل. فقد تكون لدينا المحبة دون القوة. فمثلاً، الأم لديها محبة إذ تُعنى بطفلها المحتضر ويكاد قلبها ينفطر عليه، ولكن ليس لديها القوة لتنقذ حياته. ونجد عند رجل ثري محبة وقوة، ومع ذلك تعوزه الحكمة، إذ نراه يعطي ابنه المحبوب كل ترف يمكن للمال أن يشتريه، جاعلاً إياه ينغمس في النزوات والأهواء، إلى أن يدمر حياة ابنه لنقص الحكمة لديه.

ولكن عندما تجتمع الحكمة والمحبة والقوة معاً، كما هو الحال مع ربنا المبارك في علاقته مع شعبه،فإننا نحصل على نتائج كاملة مثالية. فلنبتهجنّ دائماً في ذلك.

جُبّة الرداء

كانت جُبّة الرداء كلها من الاسمانجوني، رمزاً للشخص الإلهي في رئيس كهنتنا العظيم: "فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ" (عبرانيين ٤: ١٤). "لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا" (عبرانيين ٩: ٢٤). يا لغبطتنا إذ أن لنا ذاك ممثلاً عنا.

على هدبِ هذا الرداء كانت قد وضِعَت رُمَّانَاتٍ مِنْ اسْمَانْجُونِيٍّ وَارْجُوانٍ وَقِرْمِزٍ، وجُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً جُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً عَلَى اذْيَالِ الْجُبَّةِ حَوَالَيْهَا. وكانت الرمانات ترمز إلى الإثمار، والأجراس إلى الشهادة. وكانت الألوان على الرمانات ترمز إلى الأمجاد الشخصية والوظيفية للرب يسوع المسيح. وأما أجراس الذهب فترمز إلى البر الإلهي.

لكم يسرنا أن نرى إثمار ربنا (الرُمَّانَات) لله المساوي لشهادته له (الأجراس). أما معنا فالأمور غالباً ما لا تكون متوازنة. فسلوكنا وكلامنا غالباً ما لا يتطابقان. إن على السلوك أن يعطي قوة للكلام. وعلى الكلام أن يكون نتاجاً للسلوك، كما هو في الواقع.

لاحظ في الآية ٣٣ من هذا الأصحاح أن الرُمَّانَات تأتي أولاً في الترتيب، ثم تُذكر الأجراس. أما في الآية التالية فالأجراس يرد ذكرها أولاً ثم الرُمَّانَات. فلماذا هذا الاختلاف؟ في الحياة يجب أن يأتي الإثمار أولاً، قبل أن تكون هناك شهادة حقيقية. وإن أولئك الذين يشهدون بدون أن يمارسوا ما يعلمونه هم نحاس يطن أو صنج يرن.

أما في الحال مع ربنا المبارك فقد كان كل شيء كاملاً ومتوازناً.

في الآية التالية، وكما سبق فقلنا، نجد أن الترتيب ينعكس. فهو يتعلق بهارون داخلاً إلى المقدس، وخارجاً منه. عندما دخل ربنا إلى السماء، كان ذلك بمثابة إعلان النبأ العظيم (الأجراس) بالكفارة، وقد اكتملت لمسرة الله ورضائه الكامل، هذا النبأ الذي أعلن عن نفسه بالحجاب الذي انشق وبالقيامة المجيدة. ثم تأتي ثمار هذا الحدث (الرمانات)، التي ترمز إلى نتائج دخول ربنا إلى حضرة الله في انسكاب الروح القدس، الذي نرى نتائجه المغبوطة المباركة من يوم العنصرة ولا نزال حتى اليوم.

صفيحة الذهب النقي على العمامة

هذا الزخرف المذهل، كانت قد حُفِرَت عليه الكلمات "قدسٌ للرب"، وكان موضوعاً على خيط اسمانجوني على جبهة عمامة رئيس الكهنة. "فَتَكُونُ عَلَى جِبْهَةِ هَارُونَ. فَيَحْمِلُ هَارُونُ اثْمَ الاقْدَاسِ الَّتِي يُقَدِّسُهَا بَنُو اسْرَائِيلَ جَمِيعِ عَطَايَا أقْدَاسِهِمْ. وَتَكُونُ عَلَى جِبْهَتِهِ دَائِما لِلرِّضَا عَنْهُمْ أمَامَ الرَّبِّ" (خروج ٢٨: ٣٨). إن كل ما يقدم إلى الله يجب أن يكون مقدساً كلياً. ولكن في حالة المؤمنين، ورغم علاقتهم الأكيدة أمام الله على أساس عمل المسيح الكفاري، فللأسف هناك نقائص وعيوب لديهم. فكيف يمكن لله إذاً أن يقبل تقدمات المؤمن في العبادة؟

إن الصفيحة الذهبية المثبتة في مكانها البارز هي شهادة دائمة على حضور الله إلى البر وقد أنجز بالكامل مغطياً على كل نقائص وعيوب دنو المؤمنين إلى الله ملقياً بها جانباً بحيث لا يبقى إلا ما هو من الروح القدس، حتى ذاك الذي هو "قدسٌ للرب". يا له من رمز مبارك ويدعو إلى البهجة، مشجعاً المؤمن على المجيء إلى حضور الله المقدس بجرأة. "وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ" (عبرانيين ١٠: ٢١، ٢٢).

القميص المخرم المصنوع من البوص الناعم

إن هذا الثوب الذي هو أقرب ما يكون إلى الداخل يدل على الكمال المطلق في حياة وسلوك مخلصنا وربنا المعبود. اللافت أنه في يوم الكفارة العظيم لم يكن رئيس الكهنة يرتدي ثياب المجد والبهاء، بل هذا القميص من البوص الناعم. لقد مضى ربنا إلى الصليب، ليس بادعائه حكم الكون، ولا بكونه ملكاً على اليهود، بل بكمال حياته، ولذلك ما كان للموت سطوة عليه، فكان قادراً على أن يبذل حياته كذبيحة كفارية عن الخطيئة، لأجل بركتنا الأبدية.

ثياب بني هارون

صُنِعَت قمصان ومناطق وقلانس لبني هارون، وأيضاً "سَرَاوِيلَ مِنْ كَتَّانٍ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ. مِنَ الْحَقَوَيْنِ الَى الْفَخْذَيْنِ تَكُونُ" (الآية ٤٢). هذه كان هارون وبنيه يلبسونها. وبذلك لم يكن رمزاً للمسيح. تبارك الله، الذي لم يكن لديه عُري يحتاج لأن يستره. لقد كان مطلق الكمال. أما بالنسبة لهارون وبنيه فإن تدبير الله المدروس لأجلهم يظهر لنا أن علاقتنا تكون إنما مع إله قدوس. فلا يجب أن يكون هناك جرأة في حضرته المقدسة.

الفصل ١٣

تقديس هارون وأبنائه

(اقرأ خروج ٢٩: ١- ٣٧)

في البداية يتم تعداد المواد الضرورية لعملية التقديس. فنجد هناك ثَوْراً وَاحِداً ابْنَ بَقَرٍ، وَكَبْشَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَخُبْزَ فَطِيرٍ، وَأقْرَاصَ فَطِيرٍ مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ، وَرِقَاقَ فَطِيرٍ مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ. كل هذه المواد تشير إلى المسيح بطريقة أو بأخرى. فبسبب ماهية المسيح وما فعله، يصبح المؤمن على ما هو عليه. والكل يعتمد على المسيح.

هارون وبنيه يُغْسَلُون بالماء

ما مغزى أن يُغْسَلوا بالماء؟ كما سنرى في فصل آخر فإن الكهنة كانوا دائماً يغسلون أيديهم وأقدامهم عند المرحضة النحاسية، ولكن هذه هنا عملية استحمام، أي اغتسال كامل بطريقة شعائرية. وهذا حدث عند تقديسهم، ولمرة واحدة لم تتكرر. ومن الواضح أن (عبرانيين ١٠: ٢٢) تُشير إلى هذا التقديس للكهنة، للدلالة على أن الرمز ينطبق على المسيحيين في هذا التدبير. " لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ (أي بدم المسيح رمزياً)، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ (ورمزياً باغتسال هارون وبنيه شعائرياً)".

من الواضح أن الدم والماء هما وسيلتا تطهير، وكلاهما مرتبطان بموت المسيح، وهذا نجده في (يوحنا ١٩: ٣٤): "لَكِنَّ وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ". بينما خرج دمٌ وماء حقيقيان من جنب المسيح، فمن الواضح أن لهما معنى رمزياً، إذ نقرأ في (١ يوحنا ٥: ٦) القول: " هَذَا هُوَ الَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ. لاَ بِالْمَاءِ فَقَطْ، بَلْ بِالْمَاءِ وَالدَّمِ". وأيضاً نقرأ: "وَالَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي الأَرْضِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الرُّوحُ، وَالْمَاءُ، وَالدَّمُ. وَالثَّلاَثَةُ هُمْ فِي الْوَاحِدِ" (١ يوحنا ٥: ٨).

وإننا نعلم أن دم المسيح هو للتطهير إذ نقرأ في الكتاب: "دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يوحنا ١: ٧). لكي نتذكر هذا سنسمي هذا بالتطهير القضائي، أي إعفاء المؤمن من عقاب الخطيئة لمرة واحدة عن الكل؛ بينما التطهير بالماء هو بغاية التطهير الأخلاقي، لكون المؤمن قد أُعتق من دنس الخطيئة، واستجاب للولادة الجديدة بعمل الروح القدس.

الدم هو للتطهير القضائي.

والماء للتطهير الأخلاقي.

الدم يطهر من قصاص الخطيئة.

والماء يطهر من دنس الخطيئة.

إن الدم مرتبط بالبر وموقفنا أمام الله.

والماء مرتبط بالقداسة والحالة.

الدم مرتبط بموت المسيح الكفاري وحده.

الماء مرتبط بعمل الروح القدس.

دعونا نفكر ملياً في هذه العبارات.

والآن لكي نثبت قولنا بأن الماء مرتبط بالولادة الجديدة، والتي بدونها لا يستطيع أي منا أن يدخل ملكوت السموات، نقرأ: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يوحنا ٣: ٥، ٦)

وهنا قد يقول قارئ: ألا يعني هذا طقس المعمودية؟ بالتأكيد كلا. وفيما يلي الأسباب التي تحدونا لنقول ذلك: (١) لا يمكن أن يكون المقصود بذلك المعمودية المسيحية لسبب بسيط وهو أن ربنا عندما تكلم عن ذلك لم تكن المعمودية المسيحية معروفة آنذاك. المعمودية الوحيدة التي كانت معروفة في ذلك الوقت هي معمودية يوحنا المعمدان. أما المعمودية المسيحية فلم تُعرف إلا بعد موت المسيح، إذ أن المؤمنين اعتمدوا لموت المسيح. وكانت معمودية يوحنا "مَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ" (أعمال ١٣: ٢٤). (٢) قال ربنا بأن "نُولَد مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ". والمعمودية المسيحية تتحدث عن الموت، "فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ" (رومية ٦: ٤). الولادة هي الحياة في بدء الوجود؛ بينما الموت فيعني الدفن في نهاية الحياة. لقد قال ربنا عن الولادة الجديدة. فقال لنيقوديموس: " لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ" (يوحنا ٣: ٧). المعمودية تتحدث عن الموت. فليكن واضحاً في أذهانكم أن "الولادة مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ" لا تشير أبداً إلى المعمودية المسيحية. إنه تزييف رهيب للحقيقة أن نخلط بين ماء التجديد (الحياة) وماء المعمودية (الموت والدفن). إن ممارسة طقس المعمودية على الأطفال غير الناضجين الواعين لجعلهم أولاداً لله وورثة لملكوت الله، هو بدعة كاثوليكية بابوية غير صحيحة، قد استنبطت لوضع قوة وسلطة لا محدودة في يد كهنوت أرعن متعجرف. إن المعمودية كطقس مجرد لم تكن أبداً أمراً أساسياً لأي شخص. ولو فعلت ذلك، لكان كل الأطفال المعمدين قد كبروا ليصبحوا مسيحيين حقيقيين متجددين. ولكن للأسف، إننا ندرك أن هذا الكلام غير صحيح. يصبح الأطفال مسيحيين، فقط عندما ينضجون ويصبحون مسؤولين، فيتوبون عن خطاياهم، ويؤمنون بالرب يسوع مخلصاً لهم.

إن الآيات (أفسس ٥: ٢٥، ٢٦) تلقي ضوءاً على معنى الماء كوسيلة تطهير. فنقرأ: " حَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ". ويستخدم بطرس نفس التشبيه في (١ بطرس ١: ٢٣) مع استبدال "الماء" بـ "الزرع": "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ". ونقرأ أيضاً: "شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ" (يعقوب ١: ١٨). فالزرع فيه حياة ويعطي حياةً.

الألواح مع الأغطية وقد رُدَّت إلى الخلف لإظهار مذبح البخور، ومائدة خبز الوجوه، والمنارة الذهبية.

الألواح مع الأغطية وقد رُدَّت إلى الخلف لإظهار مذبح البخور، ومائدة خبز الوجوه، والمنارة الذهبية.
الكاهن العظيم في المقدس

ولكنك قد تتساءل: كيف يمكن للماء أن يعني الولادة الجديدة؟ ألا تذكر الآية الخلاقة التي استشهدنا بها للتو: " اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يوحنا ٣: ٦)؟ فهذه تعني أن الجسد، أي الطبيعة الشريرة التي اكتسبها كل نسل آدم، لا يمكن أن تقدم أي شيء سوى الجسد المبغض لله كلياً. أنى لله أن يرضى إذاً؟ لا بد أن تكون هناك ولادة بالروح القدس، "َالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ". وهذا يعني أنه لا بد أن تكون هناك طبيعة جديدة من أجل التطهير الأخلاقي. فكروا في ذلك، وسوف تقتنعون بحقيقة الأمر.

نورد هنا مثالاً توضيحياً قد يساعد على فهم هذه الحقيقة. تأخّر مسافر إيطالي في إحدى الأمسيات، واضطر لإيجاد مأوى يبيت فيه لليل في تلك الجبال. فوجد غايته في كوخ متواضع. كانت الغرفة التي خصصت له متسخة الأرضية للغاية. وكان المسافر على وشك أن يطلب من المرأة التي استضافته أن تنظف الأرضية، فإذا به يجد أن الأرضية موحلة. وإن إضافة ماء ساخن وصابون وفرك الأرضي سيزيد الطين بلة وتسوء الأمور أكثر. " اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ". لا يمكنك أن تغير طبيعة الأشياء بوسائل خارجية.

فماذا كان البديل عندئذ؟ كيف أمكن للمسافر أن ينظف الأرض؟ الوسيلة الوحيدة للوصول إلى ذلك هو الحصول على أرضية جديدة للغرفة من مواد غير عرضة للاتساخ. هكذا الحال مع الجسد إذ لا يمكن تحسينه، حتى عند شخص مثل نيقوديموس وهو رئيس لليهود. إن الأرضية الجديدة ضرورية، وبمعنى آخر الحاجة ماسة إلى حياة جديدة، وهذه نحصل عليها بكلمة الله العاملة في الفرد بقوة روح الله، فتؤدي بذلك إلى ولادة جديدة. "تُولَد مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ" تعني حياة جديدة بوساطة الماء (كلمة الله) وقوة الروح القدس.

كتب أوغسطس توبلادي منذ القديم:—

صخرة الدهور، قد انشقّت لأجلي،
فلأحجبنّ نفسي فيك،
وليصر الماء والدم،
اللذان سالا من جنبك،
شفاء مضاعفاً لي من الخطيئة،
فيطهرني ويقوّيني".

من الواضح أن الشاعر قد أدرك معنى التطهير القضائي بالدم، والتطهير الأخلاقي بالماء الناجمين من الحصول على حياة جديدة.

هناك نص كتابي واضح يبين الفرق بين الاغتسال الكامل، وغسل الأيدي والأرجل اليومي، كما كان الكهنة يفعلون عند المرحضة النحاسية. فعندما غسل ربنا أقدام تلاميذه بعملٍ رمزي، قال: "«الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ (أي اغتسل بالكامل حسب الكلمة louo في اللغة اليونانية) لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ (أي جزء من جسده بحسب الكلمة nipto في الأصل اليوناني) بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ...»" (يوحنا ١٣: ١٠). الاغتسال الأول هو استجابة للغسل الطقسي عند الكهنة لكل جسدهم، والذي يحدث لمرة واحدة لا تتكرر؛ أما الاغتسال الثاني، فيقصد به غسل الأيدي والأرجل في المرحضة النحاسية الذي كان يحدث مراراً وتكراراً.

من الممتع والمفيد أن نلاحظ كيف أن الحقائق تتداخل بدقة على هذا النحو في الكتاب المقدس. وعندما نتذكر أن الكُتّاب كانت تفصل بينهم قرون زمنية، وأن الكُتّاب الأوّلين ما كانوا يعرفون ما سيكتبه اللاحقون، فإننا نرى هنا دلالة على روعة الوحي في قول ذلك، وندرك أن هناك فكرٌ واحد فقط وراء كل الكتاب المقدس، ألا وهو فكر الله. إننا نرى الدم والماء يفيضان من جنب المسيح ميتاً على الصليب، وهذا يرمز إلى أنه هو منبع كل الأشياء؛ الماء للاغتسال؛ والدم، ذبيحة الخطية، الضروري لدنوهم من الله. ونجد أن الماء ضروري للولادة الجديدة في (يوحنا ٣)، وفي نفس الأصحاح ضرورة أن يُعَلّقَ ابن الإنسان على الصليب، وأن عليه أن يموت، وأن يسفك دمه الثمين. لقد رأينا في (يوحنا ١٣: ١٠) كيف أن هناك كلمتين يونانيتين بمعنى الغسل: الأولى هي الاغتسال الكامل، والثانية هي غسل جزء من الجسد، وبهذا دلالة إلى اغتسال الكهنة الكامل لمرة واحدة في يوم تقديسهم، وإلى غسلهم لجزء من جسدهم على المرحضة النحاسية. وأخيراً رأينا في (عبرانيين ١٠: ٢٢) أن "مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ (الدم)، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ". وبهذا يقدم الكتاب المقدس شهادة واضحة عن ذلك.

إن الغسل الطقسي لهارون وبنيه يستحضر إلى الذهن حقيقة أنه من الضروري جداً لجميع الذين يتقربون إلى الله أن يُولدوا من جديد، وأن يمتلكوا طبيعة تناسبه وقداسته. ويمكننا تلخيص الأمر كما يلي: هناك نتيجتان أساسيتان نجمتا عن موت المسيح، الأولى تتعلق بإثم الإنسان (الدم) والأخرى بحالته (الحياة الإلهية). ونقرأ: "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ (أي بالحياة الجديدة في الولادة الجديدة). فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً (التطهير بالدم) لِخَطَايَانَا" (١ يوحنا ٤: ٩، ١٠).

هارون يُلبس ويمسح بالدهن

يُلبس هارون أولاً ثياب المجد والبهاء، وبهذا فهو يرمز بالتأكيد إلى المسيح كممثل لشعبه في علاقتهم معه ككهنة له، وهو رئيس الكهنة العظيم بالنسبة لهم. إن زيت المسحة كان يُوضع على رأسه، وهذا رمز المسيح "إِذِ ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ وَأَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِنَ الآبِ" (أعمال ٢: ٣٣).وبهذا اتخذ مكانته أمام الله.

ثم أُلبِس أولاد هارون أقمصة البوص، والمناطق، والقلانس، لترسيخ علاقتهم بهارون كرئيس كهنة، وهذا رمز إلى كيف يكون جميع المؤمنين اليوم كهنةً في علاقتهم مع المسيح رئيس كهنتهم.

ذبيحة الخطية

بعد ذلك جيء بثور أمام باب خيمة الاجتماع. ووضع هارون وبنيه أيديهم على رأس الثور. وكان هذا رمز قبولهم الأضحية كضرورة بإزاء ذنوبهم. فكل خطايا هارون وبنيه كانت تنتقل رمزياً على هذا النحو إلى الأضحية. وذُبح الثور عندئذ. وهذا يدل على أن موته كان ضربة قاتلة له. وسيرون سكرة الموت المرتعشة عنده، ويتعلمون نوعاً ما بذلك وبالصورة جدية الخطيئة وكيف أن الموت فقط هو القصاص الذي يلائمها. كان جزء من الدم يُوضع على قرون المذبح، والبقية كانت تُصب إلى أسفل المذبح. إن الحياة هي في الدم، وهذا العمل يشهد بأن الموت وحده يمكن أن يكون ثمن الخطيئة، الموت فقط والموت الكفاري، وما كان بمقدور أحد أن ينجز ذلك سوى ابن الله.

إن شحوم الثور، أي الشَّحْم الَّذِي يُغَشِّي الْجَوْفَ وَزِيَادَةَ الْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالشَّحْمَ الَّذِي عَلَيْهِمَا، قد أُوقِد عَلَى مَذْبَحِ ذبيحة المحرقة. وهذا سيصعد كـ "رَائِحَة سُرُورٍ للرب" إذ لم يُحرق شيء على المذبح النحاسي، بل إن ما أُصعد كان دلالة قبول كامل من قبل الرب.

إن ما تبقى من الثور أي لَحْمُ الثَّوْرِ وَجِلْدُهُ وَفَرْثُهُ أُحْرِقَ بِنَارٍ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. لقد كان ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، كانت دائماً تُحرَقُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. فخَارِجَ الْمَحَلَّةِ كان مكان التوبيخ. ونقرأ: "فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ" (عبرانيين ١٣: ١١، ١٢). لقد كانت المحلة كبيرة. فقد كان حوالي ثلاثة ملايين نسمة يحيطون بخيمة الاجتماع. وبحسب التاريخ اليهودي، فإن المحلة كانت مساحة دائرية يبلغ قطرها اثنا عشرة ميلاً. فلا بد أنه كان مما يدعو إلى الخشية والرهبة عند الجموع أن يروا ذبيحة الخطية تُحمل إلى خارج المحلة لتُحرق هناك، دلالة على بغض الله الكامل للخطية، ورمزاً لموت ربنا الذي كان وحده القادر على إيفاء قضاء الله.

ثمة هضبة خضراء،
خارج أسوار المدينة،
حيث صُلبَ ربنا القدير،
ومات ليخلّص جميعنا".

لقد أُحرق لحم ذبيحة الخطية، دلالة على مفهوم عام. فالجسد هو سيء بالكلية. وقد أُحرق الروث أيضاً. وإن الروث، الذي هو فضلات الحيوان، يمثل ما هو سيء حتى عند البشر، كالانغماس في الخطية، مثل السكر والكذب والتجديف والنجاسة وما شابهها. والجميع يمكنه أن يفهم مغزى حرق الروث.

أما الجلد، الذي يكمن فيه جمال الحيوان، فقد أُحرق على نفس المنوال. وهنا نجد درساً مختلفاً. فليس فقط أسوأ ما في الإنسان يقع تحت قضاء الله على الصليب، بل حتى أفضل ما لديه. إنه درس قاسٍ نتعلمه، ولكن لابد منه.

لقد كان أيوب يتمتع ببشرة جميلة. وكان صادقاً ومستقيماً وخيّراً وكريماً وطيب القلب، ومع ذلك كان عليه أن يتعلم أن أحسن ما عنده إنما هو لا شيء في نظر الله. لقد حفظ بره الذاتي أمام أصدقائه الثلاثة بثبات. ولكن عندما وجد نفسه في حضرة الله هتف قائلاً: "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ" (أيوب ٤٢: ٥، ٦). لقد أُحرق جلد الثور.

وكان لشاول الطرسوسي بشرة جميلة بمعنى استعاري. فأمكنه أن يتفاخر قائلاً: "مَعَ أَنَّ لِي أَنْ أَتَّكِلَ عَلَى الْجَسَدِ أَيْضاً. إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ آخَرُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى الْجَسَدِ فَأَنَا بِالأَوْلَى. مِنْ جِهَةِ الْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ الْعِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ النَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ. مِنْ جِهَةِ الْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ الْكَنِيسَةِ. مِنْ جِهَةِ الْبِرِّ الَّذِي فِي النَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ" (فيلبي ٣: ٦- ٦). على ضوء ما سبق والذي كان واضحاً كسطوع الشمس تعلم التواضع في نفسه. لقد أتى الفريسي المتكبر إلى الاعتراف بحقيقة ما هو عليه في حضرة الله المقدسة. وكتب يقول: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (١ تيموثاوس ١: ١٥). وبه أظهر الله طول أناته بالكلية. لقد أُحرق جلد الثور.

حسنٌ أن نتعلم الدرس بأن الجلد وأيضاً الروث كلاهما قد أُحرقا. فأفضل ما يمكن للجسد أن يقدمه لله ليس مقبولاً أكثر من أسوأ ما فيه. "إِنَّ الْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ اللهِ" (لوقا ١٦: ١٥). وهذا درس قاسٍ لنتعلمه.

وفيما يخص الذبائح، من الجدير بالملاحظة أن هناك كلمتين في اللغة العبرية للحرق. إن الكلمة المستخدمة للإشارة إلى الحرق على المذبح النحاسي هي (gatar )، وتُستخدم للإشارة إلى إيقاد البخور ذي الرائحة العطرة، وبذلك تصعد إلى الله لمسرته. والكلمة المستخدمة لحرق ذبيحة الخطيئة خارج المحلة هي (saraph ) والتي تعني "يُتلَف باستخدام نار متقدة". إنها كلمة ذات مغزى هام، وتشير فقط إلى القصاص المستحق، إنها كلمة رهيبة ترمز إلى غضب الله المثلث التقديس وقد حلّ بدينونة كبيرة. إن الله يريد أن يعلمنا من هذه الكلمة الأخيرة شناعة الخطيئة، وبذلك معنى الجلجثة.

إزاء ذلك نجد أنه من المذهل أن هناك كلمة واحدة فقط في البرية وهي (chattath ) نُستخدم للدلالة على الخطيئة وعلى ذبيحة الخطيئة. ومن هنا نقرأ عن ربنا وقد صار متوحداً بالخطايا التي مات على الصليب كفارةً عنها حتى أمكن القول: "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢ كورنثوس ٥: ٢١). هل كان بالإمكان وصف معنى الصليب الرهيب بصورة أفضل من حقيقة أن ربنا، الذي لم يعرف خطية، قد جُعل خطيئة كان يمقتها، وهو الوحيد الذي كان يمقتها؟ لابد أن المؤمن بأعمق أواصر علاقة المحبة الإلهية إلى المسيح، ذاك الذي سلك تلك الطريق، وقام بذلك العمل الذي كلفه حياته. إن الكلمات تخذلنا وتعجز عن إيفاء الموضوع حقه.

الكبشان ومعناهما الرمزي

لقد تم تقديم كبشين كأضحية عند تقديس هارون وبنيه. كان الكبش الأول ذبيحة محرقة. وكان الثاني "كبش ملء".

وضع هارون وبنيه أيديهم على رأس الكبش الأول. وذُبح، ورش الدم على المذبح، وقُطِع الكبش إلى أجزاء، وأُحرق الكل على المذبح كذبيحة محرقة.

هذا يضعنا أمام أحد جوانب موت المسيح الذي يختلف فيه عن ذبيحة المحرقة التي درسناها للتو. ويجب فهم الفرق بين الاثنين.

كانت ذبيحة الخطيئة ترمز إلى دينونة الله الرهيبة للخطيئة. والدينونة تنزل على الذبيحة.

وكانت ذبيحة المحرقة تؤكد على تكرس وإذعان المسيح لمشيئة الله، وهذا ما دفعه لأن يبذل حياته على الصليب كفارة عن الخطيئة. وإن الرائحة الزكية الحلوة من الحرق تصعد كالبخور إلى الله.

في ذبيحة الخطيئة كانت كل نقائص وعيوب مقدم الذبيحة تنتقل رمزياً، بوضع الأيدي، إلى الأضحية، وكانت الذبيحة تحمل كل تهم وذنوب مقدمها. "الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ..." (١ بطرس ٢: ٢٤).

في المحرقة كانت كل حسنات الذبيحة تنتقل رمزياً إلى مقدم الأضحية بوضع الأيدي، فيصير مقبولاً أمام الله بقبول ذبيحته، ويكون "مقبولاً في المحبوب" (أفسس ١: ٦). ولو لم يكن الخاطئ مباركاً بها، فإن ذبيحة المسيح تلك بالروح الأبدي كانت ستبقى مرضية لدى الله. إن وضع الأيدي يدل على التوحد الكامل المكتمل.

كبش الملء

وضع هارون وبنيه أيديهم على "الكبش الآخر". وهذا ذُبِحَ، ووُضِعَ دمُه "عَلَى شَحْمَةِ أذُنِ هَارُونَ وَعَلَى شَحْمِ آذَانِ بَنِيهِ الْيُمْنَى وَعَلَى أبَاهِمِ أيْدِيهِمِ الْيُمْنَى وَعَلَى أبَاهِمِ أرْجُلِهِمِ الْيُمْنَى" (خروج ٢٩: ٢٠).

هذا الكبش الثاني يدعى "كبش ملء". وبهذا الطقس الشعائري اللافت نتعلم بالرمز أن الله يدعو المؤمنين ليكونوا مكرسين مقدسين له. فيمسح آذانهم، لكي يتلقوا وصاياه وأوامره. ويمسح أيديهم ليقدموا خدمة حسنة له. ويمسح أقدامهم ليسلكوا أمامه لمرضاته الكاملة. لقد خسرنا حياتنا بسبب الخطيئة، ونأخذ الحياة والغفران من خلال موت ربنا، فيكون لله الفضل في كل ما نحن عليه وكل ما لدينا.

كانت حياتي ضئيلة محدودة،
وكانت ذبيحتي صغيرة،
إلا أن المحبة الإلهية المذهلة،
تملكت على روحي وكل كياني.

"لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ" (٢ كورنثوس ٥: ١٤، ١٥).

النضح بالدم والدهن

أمر الله موسى عندئذ أن ياخُذ مِنَ الدَّمِ الَّذِي عَلَى الْمَذْبَحِ وَمِنْ دُهْنِ الْمَسْحَةِ وأن يَنْضِح به عَلَى هَارُونَ وَثِيَابِهِ وَعَلَى بَنِيهِ وَثِيَابِ بَنِيهِ مَعَه.ُ فَيَتَقَدَّسُ بذلك الكهنة وَثِيَابُهُم مَعَهُم

إنه بأهلية موت المسيح الكفاري (الدم)، وعمل الروح القدس (الزيت) يُعيَّن المؤمنون كهنةً. وبذلك يصبح المؤمن على علاقة بالمسيح، الذي أمّن لنا بموته مكاناً به نقترب من الله وندنو إليه، حيث أننا بقوة الروح القدس نأخذ هذه المكانة المرموقة الأثيرة. ومن ذاك، الذي مات على صليب الجلجثة، أُعطي الروح القدس نازلاً من السماء ليصل المؤمنين به في المجد.

ذبائح الرفرفة والتلويح

لقد أخذ موسى بالكتفية اليمنى شحوم كَبْش المِلْءٍ، وَرَغِيفاً وَاحِداً مِنَ الْخُبْزِ، وَقُرْصاً وَاحِداً مِنَ الْخُبْزِ بِزَيْتٍ، وَرُقَاقَةً وَاحِدَةً مِنْ سَلَّةِ الْفَطِيرِ، ووضَعَ الْجَمِيعَ فِي يَدَيْ هَارُونَ وَفِي أَيْدِي بَنِيهِ، وهذه توجب عليهم ترديدها تَرْدِيداً أَمَامَ الرَّبِّ. ثم أوقِدهَا عَلَى الْمَذْبَحِ كذبيحة ْمُحْرَقَةِ، رَائِحَةَ سُرُورٍ أَمَامَ الرَّبِّ. إن الكلمات العبرية التي تدل على التقديس، وهي mata yad ، تعني "يملأ اليدين".

إن ما يقابل ذلك في المسيحية هو القلب الممتلئ بالمسيح، وفيضان القلب الممتلئ بالمسيح، المرتفع إلى الله بالعبادة. إن شحوم الكبش إنما ترمز إلى قوة تكرس الرب لمشيئة أبيه وطاعته له حتى الموت.

إن الكتف اليمنى إنما تعزز فكرة تكرس وإذعان ربنا لمشيئة الله، حتى إلى الموت. والكتف يتضمن معنى القوة. وَرَغِيف الْخُبْزِ يشير عموماً إلى كمال حياة ربنا. والَقُرْص مِنَ الْخُبْزِ بِزَيْتٍ يوحي بأنه كما أن الزيت يدخل إلى القرص، فإنه "لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ" (يوحنا ٣: ٣٤). لقد كان ربنا ممتلئاً بروح قدس الله منذ ولادته كإنسان في هذا العالم. ومن الواضح أن الرُقَاقَة الوَاحِدَة مِنْ سَلَّةِ الْفَطِيرِ كانت مدهونة بالزيت، لأنها تُوصف هكذا في بقية نصوص الكتاب المقدس، وهي ترمز إلى ربنا وقد مُسِحَ للخدمة عند اعتماده، إذ نزل الروح القدس عليه كحمامةٍ. الكتف اليمنى تدل على ذبيحة المسيح الكفارية على الصليب، والذي كانت كل حياته مدخلاً إلى موته ذاك، فكان بذلك الذبيحة الكاملة وبمحض إرادته، وبها مجَّدَ الله وآتانا بالبركة.

لقد رأينا للتو كيف كانت تتم رفرفة الكتفية اليمنى أمام الرب، والآن نجد قَصَّ التَّرْدِيدِ وَسَاقَ الرَّفِيعَةِ الَّذِي رُدِّدَ تَرْدِيداً أَمَامَ الرَّبِّ يُخصص ليَكُونُ نَصِيباً لهارون وبنيه ليأكلوا منها. وهذا يرمز إلى دخول المؤمن إلى قوة (كتف) وأهلية موت المسيح الكفاري، والمحبة الإلهية (القص) لدى الرب والتي دفعته للمرور بمحنة الصلب لأجلنا.

إن ذبيحتي التَّرْدِيدِ والرَّفِيعَةِ قد أخذتا صفات ذبيحتي السلام والشركة. كم هو جميل أن تكون لدى المؤمنين نفس أفكار الله عن المسيح، وأن يتغذّوا على فكرة محبته الرائعة، التي نبعت من تقديم نفسه ذبيحة.

كان على هارون وبنيه أن يطبخوا لحم كبش الملء في مكان مقدس، وأن يأكلوا منه مع خبز التقديس. وقد وضع الله شرطين:

١-الكهنة المكرسون هم فقط الذين يأكلون منه.

٢-عليهم أن يأكلوا منه في يوم واحد فقط، و لا يبقى شَيْءٌ منه لليوم التالي.

وهذا يعلّمنا أن المؤمنين فقط هم المخولون بأن يكونوا في حضرة الله من خلال العبادة، وأن هذه الأمور الروحية الرائعة يتمتع بها المؤمنون بقوة الشركة الحاضرة.

وأخيراً، كان يجب تكرار طقس التكريس وتطهير المذبح لسبعة أيام متتالية، للدلالة من خلال العدد (٧) على كمال الله في حضوره خلال هذا العمل. وبالتأكيد كان على الكهنة خلال حياتهم الأرضية ألا ينسوا أبداً الدروس التي تعلموها من الذبيحة والتقديس. عسى أن نتعلم نحن المسيحيون هذه الدروس بعمق أكثر فأكثر إذ ندخل إلى حقيقتها.

الفصل ١٤

مذبح البخور الذهبي والمرحضة النحاسية

(اقرأ خروج ٣٠: ١ – ١٠؛ ١٧ - ٢١)

كما رأينا لتونا، إن وصف مذبح البخور الذهبي والمرحضة النحاسية قد تُرك عمداً إلى أن تم تكريس الكهنة الذين لهم وحدهم امتياز استخدامها، لأن لهما صلة بعمل الكهنة، ودخولهم لخدمة المقدس.

لقد رأينا كيف أن الله يخرج في المسيح كرسول اعترافنا. والآن سنرى كيف دخل المسيح ككاهن اعترافنا العظيم، وهو يقود خاصته إلى حضرة الله للعبادة.

إن الذهب النقي، الذي رأيناه في المذبح الذهبي، يرد ذكره قبل النحاس الذي في المرحضة. فالمذبح يأتي قبل المرحضة، أي الداخل قبل الخارج، وهذه هي طريقة الله أبداً. والسبب واضح في ذلك.

المذبح الذهبي يعطينا مكانة العابد

والمرحضة النحاسية تعطينا حالة العابد.

إن المكانة تأتي قبل الحالة، لأن المكانة تأتينا مما يخرج من المرحضة النحاسية، ومعنى الدم عند كرسي الرحمة، الموت الكفاري لربنا يسوع المسيح. إن البر (الدم) قد ضمن المكانة لنا، والقداسة (الماء) هي الشرط الضروري للتمتع بتلك المكانة. ومن هنا كانت المرحضة. دعونا لا نخلط بين المكانة والحالة. لأننا إن خلطنا بينهما فإننا نظلم الروح، لأن هذا هو سبب الشكوك والمخاوف.

مذبح البخور الذهبي

إن المواد التي صنعت منها هذه، أي خشب السنط المغشى بالذهب النقي، تدل كما رأينا سابقاً إلى الناسوت الحقيقي وفائق لاهوت ربنا يسوع المسيح. وإن الخواتم والعصي تذكرنا أننا لا نزال في البرية، ولم نصل بعد إلى كنعان السماوية.

لقد كان موقع مذبح البخور "قُدَّامَ الْحِجَابِ الَّذِي أمَامَ تَابُوتِ الشَّهَادَةِ. قُدَّامَ الْغِطَاءِ الَّذِي عَلَى الشَّهَادَةِ حَيْثُ أجْتَمِعُ بِكَ" (خروج ٣٠: ٦). إن الحجاب لا يزال قائماً بالرمز، وبالنسبة للمرموز فإن الحجاب ممزّق، والآن هناك مقدس واحد – كلها لها الآن صفة قدس الأقداس.

على المذبح الذهبي كان على هارون أن يوقد البخور كل صباح ومساء، رمزاً لتكريس رئيس كهنتنا، وإظهاراً لشذى المسيح وما فعله رافعاً شعبه في حضور الله. ولذلك نقرأ: "فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ" (عبرانيين ١٠: ١٩- ٢٢).

ثم أنه ما كان ليُسمح بتقديم بخور غريب على المذبح الذهبي. وما كان أحدٌ، إلا رئيس الكهنة، مؤهلاً لتقديم البخور على المذبح. لقد َأخَذَ ابْنَا هَارُونَ نَادَابُ وَأبِيهُو كُلٌّ مِنْهُمَا مِجْمَرَتَهُ وَجَعَلا فِيهِمَا نَاراً وَوَضَعَا عَلَيْهَا بَخُوراً وَقَرَّبَا أمَامَ الرَّبِّ نَاراً غَرِيبَةً لَمْ يَأمُرْهُمَا بِهَا، فدفعا حياتهما قصاصاً لهما على ذلك. "فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأكَلَتْهُمَا فَمَاتَا أمَامَ الرَّبِّ" (لاويين ١٠: ٢). وحدهم المؤمنون في الشركة يحق لهم الدخول إلى حضرة الرب، وذلك إنما بفضل تكرس ربنا لأجلهم، مؤيداً لهم في ذلك المكان الرائع، ألا وهو في حضرة الله. فما كان لذبيحة محرقة، ولا لتقدمة لحم، أو تقدمة شراب أن تتم عند مذبح البخور الذهبي. فهذه كانت تُقدم على المذبح النحاسي، مكان التكفير، بينما كان مذبح البخور الذهبي مكاناً للمتعبدين، وقد حفظهم الرب يسوع هناك لكونه مكرساً لأجلهم.

هنا نجد أن كلمة محددة بعينها مستخدمة بمعنى "يحترق" (وفي العبرية Alah ) ترد مرتين في الكتاب المقدس مرتبطة بالسُّرُج المشتعلة أمام مذبح البخور الذهبي. وهي تحمل مغزى "التعيد".

المرحضة النحاسية

لقد كانت المرحضة مصنوعة من النحاس، وتحوي ماءً فقط، حيث كان يمكن للكهنة أن يطهروا أيديهم وأقدامهم من النجاسة قبل أن يدخلوا إلى حضرة الله في المقدس.

ولا يذكر حجم وأبعاد المرحضة، إذ أنه ليس هناك حدود للقداسة التي يريد الله من شعبه أن يبديها. "«كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ»" (١ بطرس ١: ١٦). هي المعيار الذي وضعه الله.

كان على الكهنة، إذ يغتسلون كلياً طقسياً، أن يحافظوا على الطهارة عملياً ويومياً. وكانت المرحضة هي لهذا الهدف.

إن غسل الأيدي والأرجل في المرحضة النحاسية تدل على أن النجاسة، الناجمة عن العبور في هذا العالم الشرير، تتطلب التطهير. إنها ليست مسألة خطيئة فعلية ذات طبيعة مميتة، تتطلب وجود ربنا في وظيفته كمحامٍ يدافع عنا لدى الآب. فمثلاً، قد يكون المؤمن موظفاً في مكان تسود فيه الميوعة والخلاعة والحلف، وهذه قد تؤثر على المؤمن فتدخل في أسلوب حياته وحديثه وسلوكه رغم أنه يرفضها بالروح. فيذهب إلى اجتماع، وفي ذلك الجو، أو من خلال تأمل شخصي، تتحرر ذاكرته من هذه الآثار الملوثة، ويتحرر المؤمن بالروح لكي يمتلئ بأمور الرب. وهذا ما يُقصد به رمزياً بالمرحضة النحاسية. وقد نجد مسيحياً أُثقل فكره بأمور العمل، التي تكون سليمة صحيحة لا مشكلة فيها. إلا أنه يحتاج إلى أن يغسل قدميه، كما فعل الرب لتلاميذه أو كما يفعل أحد من خاصته، فيحرر فكر هذا المسيحي لكي يمتلئ بأمور الرب. تذكروا أن الغسل هو بالماء، وهذا دلالة على أنه مرتبط بالوضع الأخلاقي للنفس أمام الرب.

في العهد القديم كانت تُغسل الأيدي والأقدام؛ أما في العهد الجديد فالقدمين فقط. لماذا هذا الاختلاف؟ الجواب على ذلك بسيط. كانت أيدي الكهنة اليهود ملطخة بدم الذبائح ومن هنا كانت ملوثة نجسة؛ وأقدامهم كانت ملوثة برمال وأوساخ الصحراء والمحلة. الحمد لله، ليس هناك حاجة في المسيحية إلى غسل الأيدي، لأن ذبيحة ربنا قد أكملت ولأن المؤمن يقف في حضرة الله دونما لطخة أو وصمة. في اليهودية كانت الذبائح تقدم مراراً وتكراراً، لأن دم الثيران والكباش ما كان ليزيل الخطيئة.

"أما المسيح، الحمل الذي لا عيب فيه،
فقد أزال عنا كل آثامنا،
بذبيحة هي أسمى ما تكون،
ودم أثمن بكثير."

إن عوامل النجاسة في العالم تحيط بنا من كل جانب، حتى عندما نكون في منأى عنها. وتبقى الحاجة إلى التطهير الروحي للنفس، التي يرمز إليها غسل الأقدام. ولأجل ذلك فإن لدينا الخدمة المباركة لربنا، والتي بها قد نحظى بـ"شركة معه". وقد كان الرب مثالاً لنا في ذلك. فإن كان ربنا ومعلمنا قد غسل أقدامنا، فعلينا نحن أيضاً أن نغسل بعضنا أقدام بعض.

مرايا النساء النحاسية

يُقال أن بصلئيل "صَنَعَ الْمِرْحَضَةَ مِنْ نُحَاسٍ وَقَاعِدَتَهَا مِنْ نُحَاسٍ. مِنْ مَرَائِي الْمُتَجَنِّدَاتِ اللَّوَاتِي تَجَنَّدْنَ عِنْدَ بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ" (خروج ٣٨: ٨). إن المرايا النحاسية التي كانت دائماً أدوات للرضا الذاتي، لإظهار ما هو جسدي، كُرِّست لخدمة الرب ووُظِّفت بذلك لتكون رمزاً إلى الحاجة إلى القداسة الشخصية. "اِتْبَعُوا .... الْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ" (عبرانيين ١٢: ١٤). هل نتخلى نحن المسيحيون عن كل ما نتمسك به لنحظى بمكانتنا في هذا العالم، لنتحرر بالروح لأجل أن نحظى بحضور الله أو خدمته؟

"بحر الزجاج"

من الممتع أن نرى غاية تدبير الله في هذه الكلمات. إن المرحضة النحاسية في البرية أعطت مكاناً لـ"البحر المسبوك للهيكل". وإذ كان قائماً على اثني عشرة عجلاً مسبوكة مع خمس مراحض إلى اليمين وخمسة إلى اليسار، لابد أن منظره كان رائعاً. كان الكهنة يستخدمون المغاسل كي يَغْسِلُوا فِيهَا مَا يُقَرِّبُونَهُ مُحْرَقَةً وكان "َالْبَحْرُ لِيَغْتَسِلَ فِيهِ الْكَهَنَةُ" (أخبار الأيام الثاني ٤: ٦). وأخيراً عندما ستُختطف الكنيسة إلى المجد، ويصبح شعب الله في منأى عن أي نجاسة، نجد بحر الزجاج. "وَرَأَيْتُ كَبَحْرٍ مِنْ زُجَاجٍ مُخْتَلِطٍ بِنَارٍ، وَالْغَالِبِينَ عَلَى الْوَحْشِ وَصُورَتِهِ وَعَلَى سِمَتِهِ وَعَدَدِ اسْمِهِ وَاقِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ الزُّجَاجِيِّ، مَعَهُمْ قِيثَارَاتُ اللهِ" (رؤيا ١٥: ٢). ما عادوا في حاجة لاغتسال في المرحضة، وما عادت هناك حاجة لغسل الأقدام، وما عادوا يلاقون نجاسة، بل يقفون في بحر من زجاج، رمزاً لحالة القداسة الثابتة والمطلقة في مشهد حيث لا شيء مما ينجس يمكن أن يدخل إليهم، فيقفون ويرتلون متهللين بإجلال ترنيمة موسى وترنيمة الحمل. وما عاد هناك ما يعيق الشركة والفرح إلى الأبد. وما تبقى هو بركة وفرح لا ينطق بهما.

من المهم أن نلاحظ أن هناك تعليم معترض بين وصف المذبح الذهبي والمرحضة النحاسية فيما يتعلق بعدد بني إسرائيل، وضرورة فضة الكفارة كأساس وحيد يمكن لله من خلاله أن يتعامل مع الشعب الخاطئ، وفي هذا تأكيد على أن أساس كل بركاتنا يقوم على الذبيحة الكفارية لربنا يسوع المسيح.

الفصل ١٥

الذبائح

(اقرأ لاويين ١- ٦)

عند الكتابة عن الذبائح يحسن بنا أن نقدم بعض الملاحظات التمهيدية. فمسحاً عاماً شاملاً قد يساعد على إدراك التفاصيل.

إن الذبائح الأساسية التي كانت تقدم كانت إحدى الأنواع الخمسة التالية:—

  1. ذبيحة المحرقة.
  2. قربان التقدمة.
  3. ذبيحة السلامة.
  4. ذبيحة الخطية.
  5. ذبيحة الإثم.

وهذه بدورها يمكن تقسيمها إلى نوعين أو ثلاثة.

فمحرقات الوقود رَائِحَةِ سُرُورٍ كانت تُوقد على نار المذبح النحاسي. وأول ثلاثة أنواع من الذبائح التي ذكرناها يندرج تحت هذه الفئة.

وذبائح التقدمة كانت تُحرق "خارج المحلة". وآخر نوعين من الذبائح التي ذكرناها هما في هذه الزمرة.

لقد كانت محرقات الوقود رَائِحَةِ سُرُورٍ تدل على سرور الله من إذعان الرب بملء إرادته ليقوم بالكفارة على الصليب.

كانت محرقات الوقود رَائِحَةِ سُرُورٍ ترمز إلى القضاء الرهيب الذي كان سيوقعه الله على الخطيئة عندما وُضِعَ حِمْلُ الخطية على ربنا المتألم القدوس.

سنلقي الضوء فيما يلي على فحوى القرابين والذبائح المقدمة لنظهر الفروقات فيما بينها مع بعض التفصيل.

ذبيحة المحرقة

مِنَ الْبَقَرِ: ذَكَراً صَحِيحاً.

مِنَ الْغَنَمِ (الضَّانِ أوِ الْمَعْزِ): ذَكَراً صَحِيحاً.

مِنَ الطَّيْرِ: مِنَ الْيَمَامِ أوْ مِنْ أفْرَاخِ الْحَمَامِ.

قربان التقدمة

دقيق، أو زيت، أو لُبان، أو أقْرَاص مِنْ دَقِيقٍ فَطِير مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ. أو تكون دَقِيقاً مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ فَطِيراً. أو فَفَرِيكاً مَشْوِيّاً بِالنَّارِ، جَرِيشا سَوِيقاً، وقد جُعِلَُ عَلَيْهَا زَيْتاً وَوُضَِعُ عَلَيْهَا لُبَانٌ.

ذبيحة السلامة

هي مِنَ الْبَقَرِ ذَكَراً أوْ أنْثَى يكون َصَحِيحاً ، أو مِنَ الْغَنَمِ ذَكَراً أوْ أنْثَى يكون َصَحِيحاً.

ذبيحة الخطية

هي عن الْكَاهِنُ الْمَمْسُوحُ.

تكون ثَوْراً ابْنَ بَقَرٍ صَحِيحاً.

عن كُل الجَمَاعَةِ.

ثَوْراً صَحِيحاً.

عن الحاكم أو الرئيس.

تَيْساً مِنَ الْمَعْزِ ذَكَراً صَحِيحاً.

عن أحَدٍ مِنْ عَامَّةِ الأرْضِ.

عَنْزاً مِنَ الْمَعْزِ أنْثَى صَحِيحَةً.

مِنَ الضَّانِ أنْثَى صَحِيحَةً.

ذبيحة الإثم

أنْثَى مِنَ الأغْنَامِ نَعْجَةً أوْ عَنْزاً مِنَ الْمَعْزِ أو يَمَامَتَيْنِ أوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ. أو عُشْرَ اللايفَةِ مِنْ دَقِيقٍ.

فِي أقْدَاسِ الرَّبِّ .

كَبْشاً صَحِيحاً مِنَ الْغَنَمِ، وتعويضاً، يَزِيدُ عَلَيْهِ خُمْسَهُ.

عَملُ وَاحِدَة مِنْ مَنَاهِي الرَّبِّ.

كَبْشاً صَحِيحاً مِنَ الْغَنَمِ، وتعويضاً، يَزِيدُ عَلَيْهِ خُمْسَهُ.

ستلاحظون أن الثور يأتي في مرتبة أعلى من الثور الفتي في الذبائح، وأن الذكر أعلى مقاماً من الأنثى، وأن أدنى ما يمكن أن يُقدَّمَ كذبيحة هي زوجي يَمَام أوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ، أو حتى دقيقاً مطحوناً. ونلاحظ أنه كلما كان الشخص أرفع مقاماً عند الله، كانت امتيازاته أكبر، وكانت خطاياه تُعتبر أفظع في نظر الله. وهذا ما تعبّر عنه الآية: "كُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيراً يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ" (لوقا ١٢: ٤٨).

نلاحظ أن هناك ترتيب أو هرمية واضحة. فيبدأ الله بذبيحة المحرقة، التي هي أسمى أنواع الذبائح. والخاطئ بخبرته يبدأ ذبيحة الإثم. وكما بدأ الله بتابوت العهد، وقدس الأقداس، كما رأينا للتو، فإنه بدأ من أعلى قمة مجده، وليس من حاجة الخاطئ، رغم أن مجده يشتمل ضمناً على سد حاجة الخاطئ، فهكذا هنا أيضاً نجد أن الله يبدأ بذبيحة المحرقة، وهي أرفع جانب في موت المسيح، الذي كان موتاً كفارياً حتى من هذا الجانب.

كما أن الموشور ينشر الضوء إلى ألوانه السبعة المذهلة، التي تشكل مزيجاً يعطي الكمال من الأضواء الصافية، هكذا الحال أيضاً في موت المسيح في جوانبه المتعددة، المجتمعة معاً في ذهننا، فتجعلنا نفهم بشكل أكمل وأعمق معنى موت المسيح.

إن الكتاب المقدس لا يفسح مجالاً لمذهب التوحيد المنكر للتثليث، وللنقد النصي، وللحركة العصرية الرامية إلى تكييف العقائد المسيحية على ضوء العلم والفلسفة، للتنكر لأساسيات الإيمان المسيحي. إن الذبائح، ونضح الدم، وموت الأضحية، والحرق، والرماد- كلها تؤكد وبقوة على أن موت المسيح كان كفارياً، بدلياً، تعويضياً. إن جرّدناه من هذه المعاني أو انتقصنا منها، فإننا بذلك نجعل من موت المسيح أمراً لا معنى أو قيمة له. وإن صورنا موت المسيح على أنه استشهاد، أو كمثال أعلى عن الجنس البشري، فإننا بذلك إنما نغش نسلاً ساقطاً تحت الخطيئة ومحكوماً عليه بالموت وذلك بخداع لا يقل عن انخداع المسافر بالسراب في الصحراء، فيموت عطشاً ويأساً. إن ادّعينا أن الجانب الكفاري من موت المسيح غير موجود في الكتاب المقدس، فهذا خداع ماكرٌ، كأن تقول عن الأبيض أسود، والأسود أبيض، وبذلك تخدع الجهلاء فقط.

الفصل ١٦

ذبيحة المحرقة

(اقرأ لاويين ١)

هذه هي الذبيحة التي تمثل تصويراً لموت المسيح في أعلى جوانبه. إن الكلمة العبرية Olah ، والمترجمة "محرقة"، تعني "ما يصعد" أو يرتفع إلى الأعلى. إنها ذبيحة طوعية اختيارية، تمثل المسيح رمزياً لأنه ذاك الذي قدم نفسه طوعياً لله كذبيحة كفارية عن الخطيئة. ويجب أن نلاحظ بعناية أن الكفارة مرتبطة بها. لقد كانت تُوقد على المذبح النحاسي، ومنها جاء اسم المذبح "مذبح المحرقة" (خروج ٣٠: ٢٨؛ ٤٠، ١٠). ونقرأ: "بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ»" (عبرانيين ١٠: ٦، ٧). وهذا سيؤدي به إلى الصليب للتكفير عن الخطيئة مع إبقاء مجد الله دون انتقاص.

وضع الأيدي

كان وضع الأيدي يشير إلى التطابق بين الذبيحة ومن يقدمها. فكان ينطبق عليه القول: "فترضى عليه للتكفير عنه". فوضع الأيدي، والحالة هذه، كان في غاية الأهمية وذي مغزى كبيراً. لقد كان يعني انتقال كل حسنات الأضحية رمزياً إلى من يقدمها، وبهذا يقف مقبولاً كلياً أمام يدي الله. وهكذا ينال المقدم حظوةً عند الله.
موت المسيح في جانبه هذا كان قد لمّح إليه الرسول بولس عندما كتب "لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ" (أفسس ١: ٦). فالمحبوب هو المسيح، وجميل منا أن نتأمل في السبب الذي تم اختيار هذه الكلمة "المحبوب". إنها المرة الأولى التي يُلقَّب فيها الرب هكذا. لو قال الكتاب المقدس أننا كنا مقبولين في المسيح، لكان هذا صحيحاً ولكن بالكاد يكون قولاً كافياً، لأن روح الله يؤكد على دفء طبيعة القبول الرائعة التي يقف فيها ربنا المبارك أمام الله ممثلاً لنا. ولذلك فإن روح الله يستخدم كلمة "المحبوب"، ويمكننا أن نرنم بفرح قائلين:—

"إننا أحباء الرب،
بما لا قياس له،
لأننا أعزاء،
بمقدار محبة الآب للابن"

في هذا الجانب من موت المسيح نعرف كم كان مقبولاً وعطراً ذلك الموت الكفاري لربنا بالنسبة لذاك الذي أرسله. إن كل ما كان يُحرق على مذبح المحرقة كان يتصاعد "كرائحة سرور لله".

اختلاف أهمية الحيوانات المقدمة كذبيحة

مِنَ الْبَقَرِ: ذَكَراً صَحِيحاً.

مِنَ الْغَنَمِ (الضَّانِ أوِ الْمَعْزِ): ذَكَراً صَحِيحاً.

مِنَ الطَّيْرِ: مِنَ الْيَمَامِ أوْ مِنْ أفْرَاخِ الْحَمَامِ.

إن الثور أكثر قيمة وأهمية من الغنم أو الماعز؛ والغنم أو الماعز أكثر قيمة وأهمية من مِنَ الْيَمَامِ أوْ مِنْ أفْرَاخِ الْحَمَامِ. هذا يضعنا أمام اختلاف درجات تذوق المؤمن لموت المسيح. ولكن الحمد لله، فإن ذبيحة أفراخ الحمام كانت مقبولة على نفس الدرجة مع ذبيحة الثور. إننا مقبولون، ليس بحسب درجة اقتبالنا لموت المسيح، بل لتذوق الله الكامل لموت المسيح. ما من أحد منا يمكن أن يرتفع إلى ذلك المستوى، إلا أن الله يقبلنا على أساس فكره في موت ابنه. وهذا مصدر تعزية وفرح كبير لنا، وسيعطينا ثقة لنسبح الله ونمدحه على عطيته التي لا يحدها وصف.

إن الثور الصحيح كان أعلى شكل من الذبيحة. وبالنسبة لمقدم الذبيحة فإنه يرمز إلى مقاربة عالية لموت المسيح. كان على مقدّم الذبيحة أن ينحر الثور. وعندها كان الكاهن يرش الدم حول المذبح. وبدون رش الدم ما كان يمكن صنع كفارة عن الخطيئة. فكانت المحرقة تُسلخ بعد ذلك وتقطع إلى أجزاء، رمزاً لتقبل الله بالتفاصيل لكل ما قام به المسيح ببذل حياته على الصليب. وكانت توقد النار على المذبح، ويوضع عليه الخشب ليُحرَق.
ثم كان الكهنة يقومون بتقطيع الأجزاء وفصلها: فالرأس والشحم توضع على المذبح، والأحشاء تُغسل بالماء، وتُتلف بالحرق على المذبح. إن الأحشاء والأرجل كانت تُغسل بالماء رمزاً للمسيح في ينابيع وجوده الداخلية (الأحشاء) وبكل دقائق وفعالية سيره (الأقدام). ولعله حسنٌ القول الذي أبداه أحدهم أن "بالنسبة للغسل بالماء، كان هذا يجعل الذبيحة رمزاً لجوهر المسيح الذي هو نقي". وكان يجب حرق كل الذبيحة على المذبح.

إن مفتاح فهم هذا الرمز الجميل لموت المسيح يتمثل بفكرتين أساسيتين: الأولى، الكلمة المستخدمة بمعنى "حرق" ترمز إلى إصعاد العطور إلى الله الناجم عن تكرس ربنا الكامل والرائع في تسليمه ذاته للموت تنفيذاً لإرادة الله. إنها كلمة تُستخدم في حرق البخور، وصعود الرائحة العطرة. والفكرة الثانية، هي فكرة قبول مقدم الذبيحة. لو لم يكن هناك خاطئ قد خلص بذبيحة ربنا، لما أمكن لموته أن يمجّد الله. إن تكرس المسيح وإذعانه لمشيئة الله كان في هذا لمسرة قلب الله.

إن تقدمة خروف أو معزاة "صحيحة" يوحي بإدراك حيوي أقل لموت المسيح، ولكنه ثمين ومقبول لدى الله، ثمين لأنه يعرف تماماً قيمة تلك الذبيحة الكاملة لربنا على الصليب. ولكن بما أن الذبيحة محرقة، كان على الحيوان المقدم أن يكون ذكراً، وفي هذا رمز لوقار وبركة هذا التمثيل لعمل المسيح.

ولكن مقدم الذبيحة قد يكون فقيراً. فالثور، أو النعجة أو المعزى قد تكون أكثر مما يستطيع تقديمه. فجعل الله تدبيراً لذلك. إذ سمح له أن يأتي بزوجي يمام أو فرخي حمام. إن النعمة ستتقبل وتقدر أدنى إدراك لموت المسيح، الذي لن ينقص ولو بذرة واحدة القبول الذي يناله مقدم الذبيحة، لأن ذلك يعتمد، ليس على اقتبال المقدم، بل على القيمة الكبيرة التي يعطيها الله لتلك الذبيحة العجيبة.
وكانت حوصلة الطائر وريشه تُلقى بعيداً، رمزاً إلى أن العابد قد يخلط بين أفكاره البسيطة وغير المقبولة عن موت المسيح وما هو جدير ومقبول. وفي حالة الثور، أو الغنم أو الماعز، كانت كلها تُحرق على المذبح، ولكن في هذه الحالة فإن الحوصلة والريش كانت تُلقى جانباً إلى الجهة الشرقية من المذبح في مكان الرماد، لإظهار أن الأفكار التافهة عن المسيح يجب أن تتلاشى.

كانت الطيور تُشقّ إلى نصفين، ولكن دون أن يُفصلا عن بعضهما بشكل كامل، وهذا، من جديد، رمز فقر الإدراك، كما لو أن العابد أمكنه أن يسير كل تلك المسافة على الطريق الصحيح، ولكن ليس لديه قوة الفهم ليكمل الطريق بأكمله.

كم هي مؤثرةٌ نعمة الله التي تُسكب في هذه الحالة. وكم يسر النفس أن تُخاطَب بنفس الكلمات التي كان مقدم الثور أو النعجة أو المعزى يتلقاها: "مُحْرَقَةً وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ".

كان يجب حرق رأس الثور على المذبح، في حين يُعصر الدم على جانب المذبح. ليس إلا الدم يمكن أن يفي بالغرض. ورغم فقرنا فإن لدينا هذه الذبيحة الرائعة، وهذا يشجعنا على أن نرغب في أن نزداد فهماً روحياً لإدراك هذا الجانب الرائع من موت المسيح.

الفصل ١٧

قربان التقدمة

(اقرأ لاويين ٢)

الكلمة العبرية المستخدمة في هذه الحالة هي Minchah ، والتي تعني "تقدمة" ببساطة، للإشارة إلى قربان التقدمة. إن قوام هذه التقدمة لم يكن فيه "لحم" أبداً بمعنى لحم الحيوانات. لقد كانت مؤلفة دائماً من أشياء مخبوزة في التنور، مثل الأقراص والرقائق، وأحياناً جريش سويق.

التقدمة تظهر لنا جمال ناسوت ربنا، الذي كان ساراً لله الآب. ومن هنا فتحت له السماء أبوابها، وتركز الانتباه عليه لأنه كان الشخص الذي سُرّ به الله. رغم أن ربنا كان إنساناً كاملاً وقد أرضى الله وسره على هذه الأرض، فلا يجب أن ننسى أنه كان "إِلَهاً مُبَارَكاً إِلَى الأَبَدِ" (رومية ٩: ٥).

إذ نرى أنه ما من سفك دم مرتبط بهذه الذبيحة، فمن الواضح أنها تصور موت المسيح الذي جاء كذروة لحياة شخص عاش على الأرض وكان كلياً لمجد الله، والتي تُوجت بموته. إن قربان التقدمة يمثل رمزياً موت المسيح، ولكن ليس في كفايته الكفارية، بل كما ورد في الآيات (فيلبي ٢: ٥ - ١١)، التي نجد فيها حضاً على أن يكون لدينا نفس الفكر الذي للمسيح يسوع، الذي رغم مساواته لله، لأنه كان إلهاً، تنازل إلى مستوى الإنسان، وأخذ صورة عبد، وأطاع حتى الموت، موت الصليب. إن موت ربنا قد جمع كل ما كان عليه في الحياة، والذي كان بمجمله مكرساً لله لأجل مسرته وسرورنا.

كان ينبغي أن يكون قربان التقدمة من الدقيق بدون خمير وزيت يصب عليها. الدقيق كان يرمز إلى حياة ربنا الجميلة. فكما أن الدقيق ناعم وليس فيه جريش، كذلك أيضاً كانت حياة ربنا كاملة بكل أجزاءها. أما الزيت الذي يُضاف إليها فيرمز إلى أن الرب يسوع، كإنسان مستقل على الأرض، قد أخذ الروح القدس على أكمل وجه. واللبان الذي كان يُضاف إلى هذه التقدمة يشير إلى الحياة الرائعة التي عاشها المسيح والتي كانت رائحة طيب زكية لله. فكل كلمة، وكل وطأة قدم خطاها كانت موسيقى عذبة على مسمع الله.

إن قبضة يد من هذا الدقيق، مع الزيت واللبان اللذان وضعا عليه، كان يحرقها الكاهن على المذبح كتذكار، "مُحْرَقَةً وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ". لا شيء يفصل حياة المسيح عن موته. وما كان ليمكننا نحن المسيحيون بأي شكل أن نقارب حياته، لو لم يكفر موته عن خطايانا، كما سنرى في ذبيحة الخطية، وأعطانا قبولاً كما رأينا في المحرقة.

إن بقية قربان التقدمة كان يخص هارون وبنيه، ولكنه تذكار جميل عما يعطيه الله لمسرة شعبه، ذاك الذي يرضي قلبه أيضاً.

لقد كان قربان التقدمة يُصنع بأحد ثلاث طرق: —

  1. مخبوزاً في تنور.
  2. مخبوزاً على الصاج.<
  3. مخبوزاً على طاجن.<

ويبدو أن هذا يشير إلى الشدات المختلفة التي عاناها المسيح في تجاربه ومحنه التي خضع لها في الحياة والموت، والتي كان كاملاً فيها جميعاً. التنور يشير إلى ما هو خارج نطاق الرؤية، وقد يرمز إلى المعاناة الخفية في الفكر والروح التي مرّ بها الرب، والتي لا يعرفها إلا الآب وحده. ونقرأ عن ربنا أنه "انزعج في نفسه" عند قبر لعازر. لا يمكن لأي أحد منا وقد تبلدت أحاسيسنا بالخطيئة أن يدرك المعاناة التي مرّ بها ربنا بالروح وهو يلاقي الألم والحزن في هذا العالم. لقد كان فعلاً "رجل أوجاع": "نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ" (أشعياء ٥٣: ٢، ٣).

الصاج كان يرمز إلى الآلام الأكثر علانية لربنا في هذا العالم. لقد قال لتلاميذه بأنه ينبغي أن "يَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ" (متى ١٦: ٢١). يكفي أن نقرأ الأناجيل الأربعة لندرك ما عاناه في طريق شهادته.

أما الطاجن فلعله يرمز إلى ما هو أكثر شدة، بما في ذلك حتى الصليب نفسه. لقد كان الرب يسوع كاملاً في كل شيء. وقد لاحظنا ذلك واضحاً في تجربة البرية لأربعين يوماً، عندما قدم الشيطان له إغواءً ثلاثي الجوانب، كانت لترضي شهوات الجسد، والعين، وكبرياء الحياة. إلا أنه خرج منها سالماً لم يُصَب بأذى، ولم تمسه أدنى ذرة من الشر، ولم يخفق البتة. رغم أن تلاميذه لم يفهموا ذلك تماماً، ورغم التجارب المؤلمة التي احتملها، إلا أن الصليب كان أكثر التجارب قسوة. وفي كل الأمور كان الرب يسوع كاملاً.

إن التفاصيل التي ورد ذكرها تبين هذه الأفكار على نحو جليّ. فإنها تتحدث عن: —

  1. أقْرَاص مِنْ دَقِيقٍ فَطِير مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ.
  2. رِقَاقاً فَطِيراً مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ.<

وفي كلتا الحالتين كان فقد كانت فطيراً، إذ ما من شر أو إثمٍ عمله الرب في حياته. وفي كلتا الحالتين كان يجب أن تكونا من الدقيق، وهذا أيضاً تأكيد جديد على الكمال المطلق في حياة الرب.

"مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ" ماذا يمكن أن يعني ذلك؟ إنها تدل على أن حياة ربنا البشرية كانت مملوءة بروح قدس الله. الزيت هو رمز الروح القدس. بالروح القدس وُلِدَ ربنا من العذراء مريم. ومنذ ولادته أمكن أن نقول " أَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكلاَمِ اللَّهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ" (يوحنا ٣: ٣٤).

"مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ" ترمز إلى اليوم الذي تعمّد فيه ربنا، وبدأ في رسالته العلنية خدمةً لله والإنسان. "فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ فَرَأَى رُوحَ اللَّهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ" (متى ٣: ١٦). إن الكلمة العبرية (Messiah ) أي "المسيا"، والمقابل اليوناني لهل وهي "المسيح" تعني "الممسوح" : "يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ" (أعمال ١٠: ٣٨).

كان هناك شيئان لا يُسمح بوجودهما في الذبائح أو التقدمات للرب، وهما: الخمير والعسل. فالخمير كان يرمز إلى الشر. وبالتالي فمزج أمر الله المقدسة مع الشر أمر بغيض يمقته الله. وهذا ما كانت عليه الحال مع ابْنَي عَالِي: حُفْنِي وَفِينَحَاسُ. فهذان الرجلان كانا "كَاهِنَين للرَّبِّ" في الوظيفة، وفي الممارسة يوصفان بالقول "َكَانَ بَنُو عَالِي بَنِي بَلِيَّعَالَ، لَمْ يَعْرِفُوا الرَّبَّ" (١ صموئيل ٢: ١٢). وتلا ذلك أعظم انهيار في تاريخ شعب اسرائيل. فقد سقط عالي ميتاً، وقُتلَ ابناه في المعركة، واستولى الفلسطينيون على تابوت الله.

إن العسل يرمز إلى ما هو بهيج وسار بالطبيعة، كالمشاعر الطبيعية وأواصر الصداقة وما شابه ذلك. إن للطبيعة مكانتها ولكن ليس في الأمور الإلهية. وأن يكون الإنسان "بلا حنوّ" (٢ تيموثاوس ٣: ٣) هو علامة على الأزمنة الأخيرة والخطيرة. عندما يتم الاستهزاء بعلاقات الحياة، ويعيش الرجال والنساء فقط لإشباع رغبات وشهوات الجسد، فبالتأكيد تكون الأيام الأخيرة قد دنت.

ولكن عند الحديث عما يخص أمور الرب يقول الكتاب المقدس: "إذاً نَحْنُ مِنَ الآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَداً حَسَبَ الْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لَكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ" (٢ كورنثوس ٥: ١٦).

ولدينا في الكتاب القدس مثالاً توضيحياً على ذلك. فعندما صرخ موسى طالباً متطوعين للانتقام للخزي الذي أُلحقَ باسم الرب من فعل عبادة العجل الذهبي، تجاوب معه بنو لاوي. فقال موسى لهم: " «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إلَهُ اسْرَائِيلَ: ضَعُوا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ عَلَى فَخِْذِهِ وَمُرُّوا وَارْجِعُوا مِنْ بَابٍ إلَى بَابٍ فِي الْمَحَلَّةِ وَاقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ أخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ»" (خروج ٣٢: ٢٧). هنا لدينا مثال عن كيف يأتي الولاء لله قبل الولاء للطبيعة (للقربى). ما كان للعسل أن يفرض نفسه في وقت الشدة حيث الارتداد عن الإيمان، حين استوجب على البشر أن يقفوا أمام الله بما يناسب إجلاله وقداسته.

ولنأخذ مثالاً بسيطاً. إن الأب والابن يكونان عضوين في جماعة. خارج الجماعة هما أبٌ وابنٌ؛ ولكنهما في الجماعة إخوة في المسيح. لا ينبغي على الترتيبات البشرية والعواطف والعلاقات الطبيعية أن تفرض نفسها على الأمور الإلهية.

من جهة أخرى، يجب ألا تخلو التقدمة من "ملح العهد". فيجب توافر هذا العنصر لكي يعدّل ما يؤدي إلى التعفن الأخلاقي، حتى ولو كنا تربة خصبة لعمل النعمة المطهّرة لله الذي يعمل في قلوبنا بالكلمة، أو كنا نطبق عملياً مفاعيل موت المسيح على ضمائرنا وقلوبنا. إن أعمال النعمة تلك قد لا توافقنا دائماً، ولكن تأثيرها يكون بحسب عهد الله بالبركة لخاصته. "وَلَكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ" (عبرانيين ١٢: ١١).

الفريك المشوي بالنار

كانت تقدمة القربان من بواكير الثمار المقربة إلى الله، أو الفريك المشوي بالنار، أو حتى جريشاً سويقاً، ملتوتاً بزيت ولبان. وهذا كله يرمز إلى المسيح. ما كان يمكن الحصول على حصاد روحي إلا من خلال المسيح. وهنا نستحضر النص الكتابي المعروف: "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ" (يوحنا ١٢: ٢٤). وأيضاً: "الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ" (١ كورنثوس ١٥: ٢٠).

كيف للفريك المشوي أن يرمز إلى المسيح؟ لاحظ أن سنابل الفريك كانت خضراء، ومع ذلك فقد كانت سنابل مكتملة، أي ناضجة. ألا يذكرنا هذا بندب النبي الرائع وهو يقول: "أَقُولُ: يَا إِلَهِي لاَ تَقْبِضْنِي فِي نِصْفِ أَيَّامِي. إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ سِنُوكَ" (المزمور ١٠٢: ٢٤). ففي عمر الثالثة والثلاثين تقريباً فقد ربنا الحياة. ورغم أنه كان في ناسوته شاباً فتياً (في تقدير البشر)، إلا أنه تميز بالنضج الكامل. رغم أن السنابل كانت خضراء إلا أنها كانت مثمرة. لقد امتدت رسالته العلنية قرابة ثلاث سنوات ونصف فقط، ومع ذلك فقد كانت علامة راسخة تلك التي طبع بها تاريخ العالم.

وإضافة إلى ذلك، فإن هذه السنابل الخضراء، الناضجة، كانت تُشوى بالنار. ألا يشير هذا بشكل مؤثر جداً إلى أن حياة المسيح الكاملة قد وضعت على الصليب؟ كان الزيت يُوضع على الفريك المشوي بالنار، ومع الزيت واللبان. إنما كانت التقدمة إضافة إلى المحرقة التي يُشار إليها في (أفسس ٥: ٢)، حيث نقرأ: "اسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً". هذه التقدمة الذكرانية كانت تُوقد على المذبح "مُحْرَقَةً وَقُودَ لِلرَّبِّ".

Pages