December 2013

الفصل ١٨

ذبيحة السلامة

(اقرأ لاويين ٣: ١ – ١٧؛ ٧: ١ - ٣٤)

ينبغي أن نلاحظ أن ذبيحة السلامة لم تكن تقدمةً بغية طلب صنع السلام، بل كانت ذبيحة يُحتفل بها في حالة السلام الذي يكون قد تحقق. وعلى حد قول أحدهم: "إنها ذبيحة ترمز إلى شركة القديسين، بناء على أهلية الذبيحة أمام الله، حيث يكون الكاهن قد قدمها بالنيابة عنا، عن بعضنا البعض، وعن كل جسد القديسين ككهنة لله". كان يجب رش دم الذبيحة فعلياً على المذبح. على أساس الدم المرشوش وحده تقوم شركة القديسين فيما يتعلق بموت المسيح. إن المؤمن يأخذ أولاً ذبيحة الخطيئة، ثم، وإذ يتحرر بالضمير، يمكنه أن يدخل بفرح إلى فكر الله فيما يخص الذبيحة الرائعة لابنه المبارك، كما تتبدى رمزياً في ذبيحة السلامة.

كان الذكور والإناث مقبولين في هذه الذبيحة، لأن جانب هذه الذبيحة لم يكن كلياً لله كما في المحرقة، حيث كان الذكر فقط المقبول كتقدمة. وكان زوجا يمام أو فرخا حمام مقبولين. وهذا سيفترض مسبقاً إحساساً قوياً نوعاً ما لدى مقدم الذبيحة لكي يقرب ذبيحة السلامة.

يظهر المقطع في (لاويين ٧: ١٢، ١٣) أن الذبيحة يمكن أن تأخذ شكل الشكر، أو النذر، أو تقدمة اختيارية. وهذا يؤيد تفسيرنا بأن هذه الذبيحة هي ليست مسألة سلام يُطلب أو يُسعى إليه، بل هي تعبير عن الشكر لله لأجل السلام المنجز والذي يتمتع به المؤمن.

كان مقدم الذبيحة يضع يديه على رأس الذبيحة، رمز قبول المؤمن في المسيح واتحاده معه. لقد كان الدم يُرش على المذبح وما حوله. كانت شحوم الأضحية، التي تشير إلى القوة والسلطة الداخلية، تُحرق على المذبح، وتعلمنا أنه لا يمكن أن يكون هناك شركة بمنأى عن موت المسيح.

(لاويين ٧: ١٢، ١٣) تظهر أن هذه الذبيحة عندما كانت تقدم كذبيحة شكر، كان يرافقها قربان تقدمة، وبهذا نستدل على أن كل جانب من جوانب موت المسيح مرتبط بالجوانب الأخرى. كان من غير الممكن، خاصة مع شخص كالرب يسوع وعمله الذي قام به، أن يحل جانب ما من موته محل جانب آخر، لقد كانت كل الأمور متكاملة وكاملة بما يليق بقداسته. إن الآراء والأفكار المتعلقة بموت المسيح تقودنا إلى التأمل في حياته العجيبة الرائعة؛ وهذا التأمل يقودنا بدوره إلى التأمل العبادي بموته.

وعن قربان التقدمة نقرأ: "مَعَ أقْرَاصِ خُبْزٍ خَمِيرٍ يُقَرِّبُ قُرْبَانَهُ عَلَى ذَبِيحَةِ شُكْرِ سَلامَتِهِ" (لاويين ٧: ١٣). هناك مناسبة وحيدة أخرى يتم فيها ذكر الخمير بما يتعلق بالتقدمات للرب. وهذه هي قربان التقدمة الجديد (لاويين ٢٣: ١٧). وما عدا هذين الاستثناءين، إضافة إلى (عاموس ٤: ٥)، فإن تقدمة خبز الفطير يتم التشديد عليها دائماً.

حسنٌ أن نأتي على بعض الشرح هنا، رغم أن في ذلك استباقاً، إذ سنشرح ذلك لاحقاً بالتفصيل عندما نتحدث عن أعياد الرب (لاويين ٢٣).

في (لاويين ٧: ١٣) نقرأ أن الخبز الخمير كان يقدم مع ذبيحة الشكر. وهذا ما يقدمه المقرّب لله على هذا الشكل من الشكر. إن الآية السابقة تؤكد على الخبز الفطير والأقراص الفطير. هل من تناقض هنا؟

الفكرة بعيدة. في حالة الخبز الفطير والرقائق الفطير، كلاهما رمز لربنا المبارك، ولذلك توجب أن تكون فطير لترمز إلى تحرر المسيح الكامل من الخطيئة بالفكر، والقول، والفعل. ولكن إذا كانت المسألة تتعلق بذبيحة الشكر التي نقدمها، فإن وجود الخمير ما هو إلا اعتراف منا بأن في تقدمتنا قد يكون هناك بعض الجهل، والرضى عن الذات، والكبرياء، ونقص التوقير، بل وحتى روح المنافسة. إنه لمن المؤلم أن نسمع أشياء ناقصة أو خاطئة وغير صحيحة تُقال في تقدمة الشكر، أو أن نرى أخاً يقف خلال التسبيح والعبادة ويده في جيبه، أو يجلس بطريقة تدل على التكاسل واللامبالاة. فلو كانوا في حضرة ملك أرضي، أو حاكم، كانوا سيهتمون أكثر وكانوا سيقدمون الوقار الواجب في كل الأمور.

بالتأكيد إن روح الله تزيل الخمير من التقدمة عندما تقرب إلى الله. ومن المشجع أن نعرف بأنه مهما كان فشلنا في أن نقدم لله ما يليق به من مديح وشكران، فإن الله يسرّ باقترابنا منه ولو على هذا الشكل.

ونقرأ أن مقدم ذبيحة السلامة "يَدَاهُ تَأتِيَانِ بِوَقَائِدِ الرَّبِّ" (لاويين ٧: ٣٠)، وهذا يفترض وجوب أن يبذل الفرد جهداً ليكون حاضراً في هكذا مناسبة ليكون في شركة مع الله، وهذا ما نفهمه من ذبيحة ربنا المبارك على الصليب.

كان على المقرّب أن يأتي بالشحم والصدر، "أمَّا الصَّدْرُ فَلِكَيْ يُرَدِّدَهُ تَرْدِيداً أمَامَ الرَّبِّ". كان الشحم يحرق على المذبح، والصدر كان يخصص لهارون وبنيه. وهكذا الحال بالنسبة للساق اليمنى التي كانت ساق الرفيعة للرب، وتصبح نصيب الكاهن الذي يقدم الذبيحة.

ماذا نتعلم من الصدر، تقدمة الترديد، والساق، تقدمة الرفيعة؟ من الجميل أن نلاحظ أن ما يُقدم إلى الله، الصدر بالترديد (لاويين ٧: ٣٠) هو رمز للمشاعر المقدسة التي لدى ربنا، والتي دعته إلى الموت لأجلنا، وجعلته مقبولاً ومرضياً لأبيه بسرور لا حد له، وأيضاً شركة القديسين: حصة الله الكاملة وحصتنا. إن ساق الرفيعة تشير إلى قوة الذبيحة، كيف أن الذبيحة العظيم التي هي ربنا يسوع وضعتنا ولمرة واحدة وإلى الأبد في حضرة الله بفضل كامل لا شائبة فيه. الساق اليمنى كانت من نصيب الكاهن الذي يقدم دم ذبيحة السلامة (لاويين ٧: ٣٣)، وهذا يدل على فرحنا في الشركة ونحن نفكر بموت المسيح.

هذا نراه في ذلك اللقاء الرائع عندما يجتمع القديسون ليتذكروا الرب في موته. فيحصل الرب على نصيبه، والآب على نصيبه، وسيُمتَدح ابنه، ونحصل على نصيبنا، وكم سيكون من نصيب رائع. إن الرغيف الواحد يرمز إلى الشركة التي تحتضن كنيسة الله بكاملها. وتصعد إلى الأعلى، عذوبة المحبة الرائعة لربنا التي أخذته إلى الصليب؛ وتقدمة الرفيعة تُصعد إلى الأعلى، عذوبة قوة تلك الذبيحة التي تقدر أن تحفظنا من قوة الظلام وتحولنا إلى ملكوت ابنه بدافع محبته.

وأخيراً في حالة ذبيحة النذر أو النافلة من تقدمة القربان، كان ينبغي أن يتم تناول الطعام من ذبيحة السلامة في نفس اليوم، وإذا ما بقيت إلى اليوم الثالث، فعندئذ كان يجب أن تُحرق بالنار. وكل من يأكل منها في اليوم الثالث إنما كان يرتكب بذلك أمراً بغيضاً بالنسبة للرب، وسيتحمل قصاص ذنبه.

يعلمنا هذا أن علينا أن نتخذ مكاننا في عبادة الرب بسلطة وقوة الشركة الحاضرة. إنه لأمر خطير أن نعترف بالدخول إلى حضرة المسيح إن لم يكن بشركة الروح.

هذا يتم التركيز عليه أيضاً عند انتهاء سفر اللاويين بتحذير مهيب، بأنه إذا أكلت نفسٌ من تقدمة ذبيحة السلامة وفيها نجاسةٌ، فإن تلك النفس ستُفصل عن الشعب. ونجد مثالاً على ذلك عندما نقرأ عن مؤمني كورنثوس الذين حوّلوا عشاء الرب المقدس إلى مناسبة لتناول الطعام والشراب بإفراط. ونقرأ: "مِنْ أَجْلِ هَذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ" (١ كورنثوس ١١: ٣٠). وهذا يعني أن كثيرين قد مُنعوا من المشاركة في عشاء الرب. وفي بعض الحالات التي كان فيها إفراط مات عديدون تحت يد قضاء الله. إن كانوا مؤهلين فذلك بنعمة الله وذبيحة المسيح الكفارية؛ وهم غير مؤهلين للشهادة للمسيح على الأرض، وكانوا يُنَحّون جانباً بدافع التأديب، ولكن كان ذلك كله "لئلا يُدانوا مع العالم". كم كان يؤكد الله على القداسة الشخصية من جهة أولئك الذين عليهم التعامل مع الرب في الأمور المقدسة.

الفصل ١٩

ذبيحة الخطية

(اقرأ لاويين ٤)

في الواقع، إن ذبيحتي الخطيئة والإثم كانتا كلتاهما محرقتين، ولكن لكل منهما ميزاتها الخاصة، كما سنرى.

في تلك الذبائح التي كنا ندرسها، التقدمات ذات رائحة سرور، لدينا ذبائح يقدمها شخص بالشركة يقترب من الله. إن ذبائح الخطية والإثم ترمز إلى اقتراب الخاطئ من الله، أو في حالة ذبيحة الإثم، اقتراب ذاك الذي أخطأ تجاه قريبه. لقد كانت تقدمات رائحة السرور تُحرق على المذبح النحاسي.

وكانت ذبائح الخطية تُحرق "خارج المحلة".

إن دم ذبيحة الخطيئة في يوم الكفارة العظيم هو الذي كان رئيس الكهنة يحمله إلى قدس الأقداس، ويرشه على وأمام كرسي الرحمة. وهذا وحده كان كافياً ليظهر كم كانت هذه الذبيحة هامة ومهيبة.

كانت ذبيحة الخطية مطلوبة لأجل الخطايا المرتكبة عن جهل المخالفة لوصايا الرب. كان المقرّب يُعتبر مذنباً سواء كان يعرف بخطيئته أم لا. وفي الواقع إن "خطيئة الجهل" كانت تفترض عدم معرفة المذنب. وكان تقديم الذبيحة يتطلب ويفترض استنارة لاحقة أو تالية.

كم هو صحيح أن ما من أحد منا يدرك حقاً جدية الخطيئة، التي لا حد لها، والتي يعتبرنا الله مذنبين بسببها، بينما نحن غير عارفين بها. ألا يدلنا هذا على أية درجة قد أغشت الخطيئة الرؤية لدينا، وسخّفت حساسياتنا الأخلاقية؟

أوليس أمراً سعيداً أن نعرف أننا إذا ما خلطنا في داخلنا بين الصالح والطالح، فإن الله لا يفعل ذلك؟ على ضوء معرفته بماهية الخطيئة، تمت معالجة الخطيئة على نحو كامل على صليب الجلجثة. كم نشعر براحة ضمير ونحن نقرأ القول: "دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يوحنا ١: ٧).

إن ذبيحة الخطيئة كما يتم تعدادها في (لاويين ٤) هي كما يلي: —

  1. عن الكاهن الممسوح.
  2. عن كُل الجَمَاعَةِ.
  3. عن الحاكم أو الرئيس.
  4. عن أحَدٍ مِنْ عَامَّةِ الأرْضِ.

إن تمحصاً في الفروقات بين هذه الخطايا، سيرينا أنه كلما زاد الامتياز، كلما ازدادت المسؤولية، وكلما عظمت الخطيئة. وفي حالة "الكاهن الممسوح" أو "كل جماعة شعب إسرائيل"، فإن المذنب، يجب أن يقدم ثوراً ابن بقر صحيحاً في كلتا الحالتين، وهذا كان يجب أن يُحرق خارج المحلة. وفي جميع الأحوال كان الشعب بأكمله يتأثر بذلك، لأن الكاهن الممسوح كان يمثل كل الجماعة.

إن أخطأ الحاكم، كان يكفي أن يقدم تيساً من المعز، وفي هذه الحالة يجب أن تكون الأضحية أنثى.

ولذلك نرى أن ذلك الامتياز، والمكانة، والاقتراب من الله، يجعل أي خطيئة، ولو عن جهل، تقف حائلاً بين الإنسان والله وتكون جديتها بحسب مقدار عظمة الامتياز والمكانة التي يتمتع بها الخاطئ.

فعلى سبيل المثال، إذا خالف إنسان عادي قانوناً ما من قوانين الأرض، فإن الانتهاك سيكون أكثر خطورة وجدية، لأن القاضي من المفروض أن يعرف قوانين الأرض. ومن المعروف أنه في المحاكم البشرية يغرّم الناس بسبب انتهاكات إذا كانوا قد ارتكبوها عن جهل بشكل أو بآخر. إن القانون يفترض مسبقاً أن الناس يجب أن يكونوا على معرفة بشرائعهم وقوانينهم. يجدر بالمؤمنين أن يدرسوا الكتاب المقدس، لئلا يرتكبوا الخطيئة عن جهل.

إن أخطأ كاهن ممسوح "بحسب خطيئة الشعب" كان يُطلب إليه أن يأتي بثور فتي إلى باب خيمة الاجتماع، وأن يضع يده على رأس الأضحية، وأن يذبحها أمام الرب. ثم كان الكاهن يأخذ الدم، ويغمس إصبعه به ويرشه سبع مرات أمام الرب أمام حجاب المقدس، ويضع بعض الدم على قرون مذبح البخور العَطِر.

إن كان الكاهن يقوم بكل ذلك أما كان ليشعر بخطورة مخالفته لوصايا الرب؟ سوف يدرك كيف أنه بمركزه ككاهن ممسوح قد جلب خزياً كبيراً لاسم الرب.

كان الدم يُسكب في أسفل مذبح المحرقة. وكان الدم يرمز إلى الحياة. وما من شيء أقل من سفك الدم، أي الحياة المستسلمة لدينونة الله، يمكن أن يكفي لإرضاء مطاليب الله. إن الخطيئة أمر خطير، وهذا الطقس سوف يوضحها بشكل جلي للغاية عندما يرتكب الكاهن الممسوح الخطيئة.

كانت الشحوم تُزال بعد ذلك وتُحرق المحرقة، إظهاراً لحقيقة أنه حتى في هذا التمثيل الأكثر مهابة لموت المسيح، كان هناك في الذبيحة ما فيه إرضاء كبير لله، ألا وهو إذعان المسيح الكامل لمشيئة الرب، ذلك التكرس العميق الداخلي لدى المسيح الذي قاده إلى هكذا ميتة، وهذا كله كان مقبولاً لدى الله إلى أقصى الحدود.

والآن يأتي دور الجزء الأكثر وقاراً وإجلالاً في رتبة الذبيحة. فجلد الثور، ولحمه، ورأسه، ورجليه وأحشائه، وروثه كان على الكاهن أن يحملها إلى خارج المحلة إلى مكان نظيف، حيث كان يُلقى بالرماد، وهناك كان يحرقها كلها بالنار على الخشب. لابد أن ذهن الكاهن كان سيشعر بمدى عمق وجدية كل ما يجري. لقد كانت المحلة مكاناً كبيراً. وكان فيها حوالي ستة آلاف رجل، إضافة إلى كبار السن وصغاره، نساء وأطفالاً، كانوا يخيمون حول خيمة الاجتماع. لابد أن تلك كانت شهادة مهيبة عما كان موقف الله من الخطيئة. كانت المسافة تبلغ ستة أو سبعة أميال بين خيمة الاجتماع و"خارج المحلة" حيث كان الرماد يُلقى.

يخبرنا الكتاب المقدس نفسه عن المعنى الرمزي لذلك. ونقرأ "فإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ" (عبرانيين ١٣: ٢٢، ١٢). بالموت تحت وطأة غضب الله بسبب خطايانا، وإطلاقه لصرخة الألم تلك التي لم يكن لها نظير: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" أتمّ ربنا الرمز الذي تشير إليه ذبيحة الخطية بكل معناها الرهيب. ولابد أن تنحني نفوسنا أمام الله في عبادة عميقة وشكر خالص لأنه حقق كل مطاليب العدالة الإلهية ضدنا، وخلصنا من الجحيم الأبدي.

لقد تم تعداد أجزاء ذبيحة الخطيئة المختلفة، وفي هذا دعوة لنا لنتأمل في الأمر بعمق أكثر.

"جلد الثور"، الذي كان يشكل مظهر الجمال عنده، يأتي ذكره أولاً. وإذ يُحرق فهذا رمز إلى أن مجد الإنسان في الجسد، ذاك الذي يبدي الناس إعجابهم به ويمجدونه، هو أمر مقيت لدى الله: "طُمُوحُ الْعَيْنَيْنِ وَانْتِفَاخُ الْقَلْبِ نُورُ الأَشْرَارِ خَطِيَّةٌ" (أمثال ٢١: ٤).

"كل لحمه" يرمز إلى الخطيئة على العموم.

"مع رأسه" يرمز بوضوح إلى أن كل فكرة عند الإنسان ما هي إلا شرٌّ في عيني الله القدوس. "وَرَأى الرَّبُّ أنَّ شَرَّ الإنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأرْضِ وَأنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أفْكَارِ قَلْبِهِ إنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ" (تكوين ٦: ٥).

و"أكارعه" ترمز إلى أن كل نشاط عند الإنسان الطبيعي هو خطيئة. فمن أين تأتي الخطيئة؟ تأتي من الطبيعة، والطبيعة لا يمكن أن تعبر إلا عن ذاتها. "الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (رومية ٣: ١٢).

"وأحشاؤه" ترمز إلى ما كان محتجباً ومخفياً وسرياً. إن كل حركة يختلج بها القلب والإرادة الطبيعيان هي ضد الله. قد يبدو الخارج جميلاً في الظاهر، ولكن ماذا عن الداخل؟ إننا "ننقّي خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً!" (متى ٢٣: ٢٥).

"وفرثه" يرمز إلى ما هو فاسد وشرير خارجياً. وحتى الناس الخطاة يدينون هذه الأشياء الفاضحة الوضيعة التي يذنب البشر بها.

هذا الوصف ينقلنا إلى الدينونة الجارفة التي لا تُقاوم للإنسان في الجسد كما توجزها الآية غي (رومية ٣) حيث الحلق واللسان والشفتان والفم والقدمان هي كلها أعضاء شر. لقد أدلى أشعياء بشهادته أن "مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ" (أشعياء ١: ٦). وأيضاً: "قَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا وَقَدْ ذَبُلْنَا كَوَرَقَةٍ وَآثَامُنَا كَرِيحٍ تَحْمِلُنَا" (أشعياء ٦٤: ٦).

في هذه التفاصيل نجد الإحساس الأكثر مهابة لماهية الخطيئة، والمحنة التي لا توصف، التي توجب على الرب يسوع، ابن الله، أن يواجهها ليفي حاجتنا الرهيبة.

"لقد عبر خلال عتمة فيضان الموت الهائج،

ليضمن لنا سلاماً"

تابوت العهد في المقدس، مع الكروبين
مذبح المحرقة
المرحضة النحاسية

الفصل ٢٠

ذبيحة الإثم

(اقرأ لاويين ٥: ١ – ١٩؛ ٦: ١ - ٧)

ونأتي الآن إلى ذبيحة الإثم، وهذه تتعلق بشكل رئيسي بأفعال علنية محددة، بعضها تم عن جهل وبعضها الآخر عن معرفة. فإن وُضِعَ الإنسان تحت القسم، وأخفق في إظهار دليل حقيقي عما رآه أو سمعه عن ذنب شخص آخر، فإنه يكون أثيماً، وكان هذا يستوجب تقديم ذبيحة إثم. وإن لمس إنسانٌ شيئاً نجساً، ولو كان مخفياً عن نظره، فإنه كان يُعتبر نجساً ومذنباً. وإن لمس أحدهم نجاسة إنسان ما، ولو كانت محتجبة عنه، عندما علم بها، فإنه كان مذنباً. وإن أقسم إنسانٌ على أن يفعل خيراً أو شراً، ولم يره عندما علم بذلك، فإنه كان مذنباً أيضاً.

في تلك الحالة كانت هناك حاجة إلى ذبيحة الإثم. وكانت أنْثَى مِنَ الأغْنَامِ، وإذا كان المقدِّمُ فقيراً يعجز عن أن يقدم نَعْجَةً أوْ عَنْزاً مِنَ الْمَعْزِ، كان يُسْمَحُ له بأن يقدم يَمَامَتَيْنِ أوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ بدلاً من ذلك.

من اللافت للانتباه أن نلاحظ أنه عندما كان يتم تقديم عصفورين، كان يُنظر إلى الأول كذبيحة خطية، والآخر كمحرقة، وهذا يظهر أن موت المسيح بكل جوانبه هو لبركة المؤمن. وفي الحالة التي أمامنا هنا يأتي ذكر ذبيحة الخطية أولاً، ثم المحرقة، وهذا بحسب الترتيب الذي يدرك فيه الخاطئ قيمة موت المسيح. فأولاً ذبيحة الخطية ترمز إلى "التطهر"؛ ثم ذبيحة المحرقة، رمزاً إلى "القبول".

بعد ذلك يأتي وصف التدبير المؤثر للغاية والفائق العادة. فإن كان الإنسان فقيراً بحيث يعجز أن يقدم يَمَامَتَيْنِ أوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ، كان يُسمح له بأن بقدم عُشْرَ اللايفَةِ مِنْ دَقِيقٍ، حفنة من ذاك الذي كان يوقده الكاهن على المذبح ليكفّر عن الخطيئة المحددة المرتكبة، والبقية تكون للكاهن كتقدمة قربانية.

هنا ذبيحة الخطية تكون بدون دم. ما رمز ذلك؟ هناك أمر أكيد. نعلم من جهة الله أن كل شيء قد وضعه الله لبركة الخاطئ يستند إلى دم المسيح الزكي، وليس إلى أي شيء آخر.

وتفسير ذلك بسيط ولكن واضح. لقد كانت مسألة فقر المقرب الشديد، رمز الشخص ذي الإحساس الضعيف والمبهم بالخطيئة، والطريقة التي يمكن بها معالجتها.

نعتقد أن نفوساً كثيرة يجتذبها الرب بمعرفة بسيطة أو حتى بدون معرفة بالمعنى الحقيقي لموت الرب، ومع ذلك فإنهم يضعون عليه رجاء إيمانهم بطريقة غامضة وطفولية وينالون البركة والسعادة، ومن هكذا رمز نتشجع على الاعتقاد بأن حالة كهذه يقابلها موت المسيح.

في زمن العهد القديم كان هناك قديسون في الله، الذين لم يعرفوا المسيح، ولا المعنى الكامل لموت المسيح الذي كان يتبدى لهم بصورة ضبابية مبهمة من خلال الذبائح، ومع ذلك فقد تباركوا بالذبيحة التي كان من المزمع أن تقام فيما بعد. ونجد تغايراً بين مؤمني العهد القديم ومؤمني هذا الدهر فيما يلي: "الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ بِرِّهِ مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ". أي أن خطايا مؤمني العهد القديم قد غُفرت بفضل البر الذي حققه المسيح بموته الكفاري. والآن نقرأ عن مؤمني العهد الجديد: "لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ" (رومية ٣: ٢٥، ٢٦).

ونكرر نفس كلمات الكتاب المقدس مؤكدين أنه "بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!" (عبرانيين ٩: ٢٢).

الحمد لله لأجل هذا التبرير الكريم الذي جعله رمزياً لأولئك الذين لديهم فهم غامض وضعيف، أو أولئك الذين يجهلون الإنجيل الذي نعرفه، ومع ذلك فإن لديهم روحاً تتوق إلى الله وتتطلع إليه للخلاص، ويجدونه، ولو كان غير معروف بالنسبة لهم، وذلك في ذبيحة المسيح الكفارية على خشبة الصليب.

إن بقية الأمثلة في هذا الإصحاح، أي "الخطيئة في أقداس الرب"، أو مخالفة أي من وصايا الرب، ولو عن جهل، إنما تستحضر عنصراً جديداً، وهو التعويض.

كان يجب الإتيان بكبش كذبيحة إثم. والمال، المكافئ للاحتيال المرتكب، كان يُضاف إليه خمسه. وحيث كانت هناك عملية احتيال، كان التعويض اختباراً ضرورياً للتوبة، وأي محاولة للمراوغة، كانت ستجعل الكاهن غير قادر على تقديم ذبيحة الإثم، لأن الذبيحة والتعويض كانا يتماشيان معاً.

في (لاويين ٦: ١ - ٧)، حيث كانت الخطايا خرقاً واضحاً للعهود مع القريب، كان التعويض يأتي أولاً، ثم تأتي الذبيحة. في حالة خرق العهد هذه كان من الضروري والأساسي تصحيح العلاقة مع الشخص الذي ارتكبت الخطيئة تجاهه، وهذه مسألة صحيحة سليمة وملحة في عيني الله، قبل أن يتبرر المرء أمام الله نفسه.

الفصل ٢١

يوم الكفارة العظيم

(اقرأ لاويين ١٦)

كان الاحتفال بيوم الكفارة العظيم يتم سنوياً في اليوم العاشر من الشهر السابع. لقد كان قد رُتِّبَ رمزياً ليجعل شعب إسرائيل بأكمله في علاقة مع الله على أساس الفداء. لم يكن لهذا الاحتفال تأثير أساسي حيوي، إذ أن دم الثيران والتيوس ما كان ليزيل الخطيئة. لقد كان يتم الاحتفال به مراراً وتكراراً إلى أن جاء الوقت عندما "دَخَلَ (المسيح) مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً" (عبرانيين ٩: ١٢).
ما كان للحجاب أبداً أن ينشق في ظل المرموز. أما الآن، تبارك الله، فيمكن لأن المسيح قد مات: —

"انشق الحجاب، ودنت أرواحنا
إلى عرش النعمة.
وتبدّت فضائل الرب،
لتملأ المقدس"

إن التعطل الباكر الذي أصاب الكهنوت في حالة بني هارون، ناداب وأبيهو، اللذين قدما ناراً غريبة بخلاف وصايا الله، عندما نزلت النار من لدن الله والتهمتهما، وماتا أمام الرب، وكان لهذا رد فعل خاص سنراه الآن.

في (لاويين ١٦: ٢) نقرأ أنه بسبب هذا التعطل، أمر الله هارون بأن يذهب في كل الأوقات إلى المقدس عبر الحجاب أمام كرسي الرحمة لئلا يموت. إن تعليمات واضحة للغاية أُعطيت له حول الزمان والطريقة التي كان عليه أن يدخل فيها، وذلك في يوم الكفارة العظيم فقط: "إِلَى الثَّانِي [أي قدس الأقداس] فَرَئِيسُ الْكَهَنَةِ فَقَطْ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، لَيْسَ بِلاَ دَمٍ يُقَدِّمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ جَهَالاَتِ الشَّعْبِ، مُعْلِناً الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَذَا أَنَّ طَرِيقَ الأَقْدَاسِ لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ، مَا دَامَ الْمَسْكَنُ الأَوَّلُ لَهُ إِقَامَةٌ" (عبرانيين ٩: ٧، ٨).

بينما ترمز هذه الرتب الشعائرية المهيبة بشكل عام إلى حقيقة الكفارة والحاجة إليها، فسيكون لهذه اكتمالٌ خاص مع شعب إسرائيل فيما بعد. وهذا سنراه عندما ندرس أعياد الرب في فصل لاحق.

ما عاد يُسمح لهارون أن يرتدي ثياب المجد والبهاء في هذه المناسبة. بارتدائه لقميص الكتان الداخلي، رمزاً للقداسة، واغتساله بماء نظيف، رمز أهليته الأخلاقية، إنما كان هارون يتخذ مركزه المهيب في يوم الدينونة العظيم.

لقد أُمِرَ بأن يقدم عن نفسه ثوراً فتياً كذبيحة خطية وكبش كمحرقة. هذا الثور يُقدم كذبيحة خطية عن نفسه وعن بيته. وبهذا فإنه لا يمثل رمزاً، بل نقيضاً لربنا المبارك. فهارون وبيته كانوا يحتاجون لذبيحة خطيئة لأنهم كانوا خطاة بينما لم يكن المسيح بحاجة لذبيحة خطية، ولا أن يقدم محرقة عن نفسه، فقد كان هو الذبيحة الكاملة الذي مجّد الله على الصليب.

لقد أخذ هارون تيسين كذبيحة خطية، وكبشاً كمحرقة عن جماعة بني إسرائيل. ثم أخذ التَّيْسَيْنِ وَأوقِفهُمَا أمَامَ الرَّبِّ لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. وأُلْقى هَارُونُ عَلَى التَّيْسَيْنِ قُرْعَتَيْنِ: قُرْعَةً لِلرَّبِّ وَقُرْعَةً لِعَزَازِيلَ. وفي هذه اللحظة يأمر الله هَارُون أن يقدمَ ثَوْرَ الْخَطِيَّةِ الَّذِي لَهُ وَيُكَفِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ بَيْتِهِ وَيَذْبَحُ ثَوْرَ الْخَطِيَّةِ الَّذِي لَه، وَيَأخُذُ مِلْءَ الْمَجْمَرَةِ جَمْرَ نَارٍ عَنِ الْمَذْبَحِ مِنْ أمَامِ الرَّبِّ وَمِلْءَ رَاحَتَيْهِ بَخُوراً عَطِراً دَقِيقاً وَيَدْخُلُ بِهِمَا إلَى دَاخِلِ الْحِجَابِ، وَيَجْعَلُ الْبَخُورَ عَلَى النَّارِ أمَامَ الرَّبِّ فَتُغَشِّي سَحَابَةُ الْبَخُورِ الْغِطَاءَ الَّذِي عَلَى الشَّهَادَةِ فَلا يَمُوتُ.

"لا يَمُوتُ" تُظهر كم كان الدخول إلى حضرة الله أمراً جليلاً مهيباً. فلا شيء سوى عمل المسيح الكفاري يمكن أن يعطينا الحق بأن نكون في حضور الله. إنه لعزاء لنا أن نتحول عن ذاتنا إلى المسيح، وأن نجد فيه برنا في حضور الله.

ثم أخذ هارون دم الثور، ورشه بإصبعه على كرسي الرحمة من جهة الشرق، وأمام كرسي الرحمة سبع مرات.

بعد ذلك قتل التيس المقدم كذبيحة خطية عن الشعب، وفعل بدم التيس ما كان قد فعله بدم الثور، ورش دمه على كرسي الرحمة. وبهذا أقام كفارة للمقدس، وعن نجاسة بني إسرائيل، وخيمة الاجتماع التي كانت في وسط نجاستهم. لم يكن أحد يصاحبه في هذه الخدمة التي أداها. ثم خرج وتابع إلى المذبح النحاسي، وأخذ دم الثور ودم التيس، ورشهما سبع مرات على المذبح وطهّره من النجاسة. وهكذا عاماً بعد عام سيتذكر بنو إسرائيل قداسة الله وضرورة الذبيحة الكافية والمرضية.

ويمكننا أن نرى بوضوح الارتباط بين العرش والمذبح، فالمذبح فيه تحقيق لمطاليب العرش. ففي أعلى مستوى حقق دم المسيح كل مطلب لله إلى درجة الرضى الكامل. بل حتى مجده حيث كانت الخطيئة تجلب الخزي، ومجده أكثر مما يمكن لأي شيء آخر أن يفعل.

لنتذكر دائماً أن المؤمن يستطيع أن يمضي إلى حيث كان يمكن للدم أن يصل. لم يكن للدم أن يؤخذ أبعد من ذلك. لقد وصل إلى حضرة الله، وحوّل العرش ذي البر الذي لا ينثني (والذي يبقى كما هو إلى الأبد) إلى كرسي رحمة "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ" (١ بطرس ٣: ١٨).

لقد كان الدم يُرش مرة على كرسي الرحمة، وسبع مرات أمامه؛ المرة الواحدة لأن الله، الكامل الأهلية، وحده يستطيع أن يقدر على نحو كامل كفاءة عمل المسيح الكفاري الرائع الثمين على الصليب؛ وسبع مرات لأجلنا، نحن الذين نحتاج لأن نتيقّن مراراً وتكراراً من هذه الأشياء. إذ إننا لا نفهم بلحظة واحدة المعنى الكامل لدم المسيح الزكي. ومع مرور الوقت نأتي إلى إدراك كامل ومتنامٍ لذاك العمل إلى أن نجد أنفسنا في حضرة الرب عندما سيكون تسبيحنا له أبدياً. "وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ، الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ. الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ" (رؤيا ١: ٥، ٦). الشكر لله على أننا نقف أمامه بمقياس تقديره لعمل المسيح على الصليب وليس تقديرنا نحن.

والآن ماذا عن التيسين اللذين كان هارون قد أُمِرَ بتقديمهما عن الشعب؟ لقد رأينا كيف أن التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب قد ذُبِحَ، ولكن التيس الحي يُرى متوحداً بالتيس المذبوح، الذي رش دمه على كرسي الرحمة. ونستشهد بآيتين لإيضاح ذلك: "وَيُقَرِّبُ هَارُونُ التَّيْسَ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ لِلرَّبِّ وَيَعْمَلُهُ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ. وَأمَّا التَّيْسُ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ لِعَزَازِيلَ فَيُوقَفُ حَيّا أمَامَ الرَّبِّ لِيُكَفِّرَ عَنْهُ لِيُرْسِلَهُ إلَى عَزَازِيلَ إلَى الْبَرِّيَّةِ" (لاويين ١٦: ٩، ١٠). إن التيسين متطابقان متماثلان، وهذا فيه درس بليغ.

على رأس التيس الحي، وفي ضوء ما كان يرمز إليه موت التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب، كان رئيس الكهنة يضع يديه، ويعترف بآثام بني إسرائيل، وكل التعديات التي ارتكبوها، واضعاً إياها بتلك الطريقة الرمزية على رأس التيس، ثم كان يرسله بيد من يلاقيه إلى البرية. بهذه الطريقة المذهلة جداً كان يكمن رمز إلى كيفية إزالة الخطية كلياً والتكفير عنها، بحيث لا ترى من بعد. وهذا يذكرنا بالكتاب المقدس حيث يعالج الله الخطيئة كلياً. إذ نقرأ "كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا" (مزمور ١ز٣: ١٢). "يَعُودُ يَرْحَمُنَا يَدُوسُ آثَامَنَا وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ" (ميخا ٧: ١٩). "طَرَحْتَ وَرَاءَ ظَهْرِكَ كُلَّ خَطَايَايَ" (أشعياء ٣٨: ١٧). "«لَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ»" (عبرانيين ١٠: ١٧).

بينما نرى في كل هذا عزاءً وتوكيداً للمؤمن، بحق، إلا أن التيس الذي يُطلق إلى البرية وهو حامل خطايا الشعب المعترف على رأسه، كان يرمز على نحو محدد إلى ما سيحدث لشعب إسرائيل فيما بعد. فنتيجة التوبة التي نشأت عن عمل روح النعمة والتضرعات التي انسكبت لأجل الشعب العبري، ففي ذلك اليوم عندما سينظرون إلى الذي طعنوه (انظر زكريا ١٢: ١٠)، فعندها سيعيدون عيد يوم الكفارة العظيم لأنهم لم يحفظوه طوال تاريخهم، وسيقرؤون في هذا الطقس المذهل، وإذ يكون المسيح هو مفتاح كل ذلك، سيقرؤون عندئذ كيف تمت إزالة الخطيئة فعلياً. فكما اختفى التيس الذي أطلق في البرية وما عاد يُرى من جديد، هكذا دم ذبيحة الخطية، وأيضاً الدم الزكي للمسيح الذي احتقروه ورذلوه، سيرون أن فيه فعالية كفاية أمام الرب لينالوا الفداء الكامل المكتمل أمام الله و"«لَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ»" (عبرانيين ١٠: ١٧)، وهذا سيكون ضمان الرب لهم بحسب عهد النعمة الذي عقده مع إسرائيل.

عندما خرج هارون من المقدس أُرسِلَ التَّيْسُ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ لِعَزَازِيلَ إلَى الْبَرِّيَّةِ. وعندما سيعود المسيح من جديد إلى الأرض، ستكون بقية من الشعب الإسرائيلي التي تكون قد تطهرت من خلال الضيقة العظيمة، وتابَت، وسوف يقتبلون المسيح. خلال هذه الأثناء يكون المسيح محتجباً، ويكون لشعبه في هذا الدهر نصيبُهم فيه. ١ "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ" (أفسس ١: ٣).

بعد أن أرْسل هارون التيس الحي بِيَدِ مَنْ يُلاقِيهِ إلَى الْبَرِّيَّةِ، دخل إلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَخلَع ثِيَابَ الْكَتَّانِ الَّتِي كان يلبسها وَرحَض جَسَدَهُ بِمَاءٍ فِي مَكَانٍ مُقَدَّسٍ ثُمَّ لبسَ ثِيَابَ المجد والبهاء، وخرج وعملَ مُحْرَقَتَهُ وَمُحْرَقَةَ الشَّعْبِ. وإذن ثور هارون والتيس، الذي خرجت عليه القرعة للرب، الذي يكون قد ذُبح تواً كانت ستُحمل إلى خارج المحلة وتحرق هناك بالنار: الجلد، واللحم، والروث، وهذا رمز دينونة الله القاسية للخطيئة عند الصليب. ولكن حتى في ذلك الرمز المهيب كان يجب حرق الشحوم على مذبح المحرقة وكان في هذا مسرة لقلب الله في الفداء المبارك الذي صنعه ابنه عن الخطيئة.

وكان في هذا اكتمال لطقوس يوم الكفارة العظيم، وهذا رمز جميل يشير إلى موت ربنا يسوع المسيح الكفاري.

كلمات أساسية مفاتيح في الرسالة إلى العبرانيين

على ضوء ما درسناه حتى الآن، يجدر بنا أن نلاحظ الكلمات الأساسية التي تشكل مفاتيح لفهم الرسالة إلى العبرانيين، وهذه الكلمات المفاتيح قد استخدمت لإظهار التغاير بين مجد المسيح الكامل المكتمل، الذي هو المرموز، والرموز العقيمة غير المجدية.

"أعظم" هي إحدى النقاط الأساسية: —

فالمسيح ".... أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ" ؛ "رَجَاءٍ أَفْضَلَ" ؛ "عهد أفضل"؛ " مواعيد أفضل" ؛ "وعود أفضل" ؛ "ذبائح أفضل" ؛ "وطناً أفضل"؛ "مالاً ... أفضل"؛ "قيامة أفضل". يقول النحويون أن كلمة "أفضل" هي في صيغة "مقارنة" (بين شيئين)، ولكن لم تُستخدم أبداً على هذه الكثافة وبمعنى "التفضيل".

"مرة" أو "واحد" هي نقطة أساسية أخرى: —

"قُدِّمَ المسيحُ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ" ؛ "مَرَّةً وَاحِدَةً" ؛ "ذبيحة واحدة عن الخطايا" ؛ "تقدمة واحدة" – وذلك لقاء التتابع الذي لا نهاية له لتقديم الذبائح تحت الناموس، الذي ما كان ليزيل الخطيئة.

"لا يكون أيضاً" هي نقطة أساسية أخرى: —

"لاَ يَكُونُ لَهُمْ أَيْضاً ضَمِيرُ خَطَايَا" ؛ "لاَ تَبْقَى بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ الْخَطَايَا" – وهذه طريقة أخرى لإظهار الأهلية الكاملة للعمل الذي أتمه المسيح على الصليب.

"أبدي" هي نقطة أساسية أخرى: —

"خلاص أبدي" ؛ "دينونة أبدية" ؛ "فداء أبدي" ؛ "روح أبدية" ؛ "ميراث أبدي". وإلى هذه يُضاف "كهنوت لا يزول".

"وَأُولَئِكَ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً كَثِيرِينَ لأَنَّ الْمَوْتَ مَنَعَهُمْ مِنَ الْبَقَاءِ، وَأَمَّا هَذَا فَلأَنَّهُ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ، لَهُ كَهَنُوتٌ لاَ يَزُولُ" (عبرانيين ٧: ٢٣، ٢٤).

وفي هذا مغايرة بين ثبات وديمومة وكمال الأمور الإلهية ووقتية والنقص المميزين للطقوس الدنيوية. إن الجوهر المجيد، ألا وهو المرموز إليه العظيم، ربنا يسوع، قد جاء، وتلاشت الظلال. ومن هنا نرى فقر وتعامي الطقسية الحالية، التي تحاول نسخ الرموز في الوقت الذي صار فيه معناها جميعاً معروفاً. فكلما زادت الطقسية كلما نقصت الحياة الروحية. إن المسيح هو المفتاح لفهم معنى هذه الرموز. فكيف يستطيع أي كان، والذي يعرف المرموز إليه حقاً، أن يعود إلى رموز لم تكن لتسرّ الله (عبرانيين ١٠: ٦).


١. تقول بدعة السبتيين أن هذا التيس الذي نجا هو الشيطان، وأن المسيح سيزيل من المقدس السماوي خطايا شعبه ويلقيها على الشيطان. وهذا سيُطرد إلى غير رجعة ويدمّر مع الخطايا والخطاة. ولكن هذا التعليم مغلوط وفيه تجديف ويتناقض مع كلمات انتصار الرب بقوله عن الخلاص أنه "قد تم". ليس للشيطان إذاً أي دور في عملية الكفارة. إن الكلمة العبرية المستخدمة للإشارة إلى التيس الذي يُطلق هي Azazel ، وتعني تيساً للنجاة. وهذه الكلمة ترد أربع مرات في (لاويين ١٦)، ولا تشير في أي مكان من الكتاب المقدس أبداً إلى الشيطان ولا بأي شكل من الأشكال.

الفصل ٢٢

تطهير المجذوم

(اقرأ لا ويين ١٣، ١٤)

الجذام مرض مخيف في طبيعته. إن كل الأمراض هي نتيجة الخطيئة، ولكن مرض الجذام غير القابل للشفاء، والذي يشوه ضحاياه على ذلك النحو، مبتدئاً بمفصل، ثم ينتقل لينهش الأصابع في اليدين والقدمين، وبعدها يهتري الأنف، ويتساقط الشعر، إلى أن يصبح المسكين المصاب على هيئة يُرثى لها، كل ذلك يجعل من مرض الجذام علامة فاجعة للخطيئة بطبيعته المستديمة المشوهة النجسة والمعدية، لدرجة أن المُصاب يُعزل عن الجميع.

ورد ذكر الجذام لأول مرة في الكتاب المقدس عندما قال الرب لموسى أن يضع يده في صدره، وعندما أخرجها من عبّه "إذَا يَدُهُ بَرْصَاءُ مِثْلَ الثَّلْجِ" (خروج ٤: ٦)، وكأنه بذلك يؤكد للشعب حقيقة ما يتفوّه به النبي. "مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ" (أشعياء ١: ٦).

يقدم لنا (لاويين ١٣) تشخيصاً دقيقاً جداً لهذا الداء، وذلك كي يحدد الكاهن فيما إذا كان الإنسان مصاباً بالجذام أم لا. فبقعة واحدة مصابة مع بعض الأعراض كانت لتحدد إذا ما كان المرء مجذوماً. إن بقعة واحدة تكشف حالة المرض الداخلية، كما أن الخطيئة تأتي من طبيعة خاطئة. يا لصلاح الله كيف أنه يعطينا هذا التمثيل الحيوي لماهية الخطيئة في حضرته. إن لطخة واحدة يمكن أن تكشف عن الإصابة بالمرض، ولكن من جهة أخرى إذا كان الجسد كله يراه الكاهن مصاباً بالبرص من الرأس إلى أخمص القدمين ، "وَرَأى الْكَاهِنُ وَإذَا الْبَرَصُ قَدْ غَطَّى كُلَّ جِسْمِهِ يَحْكُمُ بِطَهَارَةِ الْمَضْرُوبِ. كُلُّهُ قَدِ ابْيَضَّ. انَّهُ طَاهِرٌ" (لاويين ١٣: ١٣). وهذا يعني أنه عندما يكون الخاطئ في كامل حالة الخطيئة، فعندئذ يمكن أن ينال رحمة من لدُنِ الله، ويتبارك. وهنا نتذكر حالة أيوب من العهد القديم وبولس من العهد الجديد ضمن هذا السياق.

لقد كان أيوب رجلاً رائعاً، مستقيماً باراً، وكاملاً في سلوكه، وكريماً، وموضع احترام الجميع كباراً وصغاراً، وعندها اختبره الشيطان، وسمح الله بتجريده من الثروة والعائلة في يوم واحد، وأن يعذّب بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِه، وأن يعذِّبَه ويُغضبه أصدقاؤُه الثلاثة الميالون إلى الانتقاد اللاذع، متهمين إياه بالنفاق، وهذا ما لم يكن عليه. وعندما تكلم الله إليه أخيراً، فوجِئَ بمدى تقديره أمام الله. "اِسْمَعِ الآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ" (أيوب ٤٢: ٤- ٦).

ولنأخذ مثال شاول الطرسوسي. كم كان رائعاً كإنسان في الجسد. لقد كان مخلصاً أكثر من أي إنسان على الأرض. وفيما يخص البر بالناموس فقد كان بلا لوم. ولكن في أحد الأيام تراءى المسيح له. فرأى نوراً يفوق ضياء الشمس الساطعة. ووقع أرضاً، وعلم في لحظة أن من كان يقاومه، ويسوق أتباعه المتواضعين بقسوة إلى السجون، ويعرضهم إلى الموت، لم يكن سوى ابن الله، المخلص المجيد، القائم والمنتصر والجالس عن يمين الله. فأخذ قلمه وكتب: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (١ تيموثاوس ١: ١٥). لقد كان الجذام يغطي كل جسده. لقد كان طاهراً.

لابد أن نكون منتبهين هنا. فالجسد، أي الطبيعة الشريرة الساقطة التي وُلدنا بها، هي جسد دائماً وأبداً. وليس لها شفاء من ذلك. "إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا" (١ يوحنا ١: ٨)، رغم أنه يقول في  الآية التي تسبقها "َدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ".

إن الرمز لا يمكن أن يتعدى فهم الخاطئ لإثمه بالكامل، وإذ له تلك الحالة أمام الله، إذ ينظر إليه الله على أنه طاهر، فإننا نعرف تماماً وبشكل جيد أنه بذبيحة المسيح الكفارية فقط تأتي البركة لأي إنسان كان.

عندما كان يُعلَن شخصٌ ما مجذوماً كم كانت حالته تثير الشفقة! ونقرأ "وَالأبْرَصُ الَّذِي فِيهِ الضَّرْبَةُ تَكُونُ ثِيَابُهُ مَشْقُوقَةً وَرَأسُهُ يَكُونُ مَكْشُوفا وَيُغَطِّي شَارِبَيْهِ وَيُنَادِي: نَجِسٌ نَجِسٌ. كُلَّ الأيَّامِ الَّتِي تَكُونُ الضَّرْبَةُ فِيهِ يَكُونُ نَجِساً. انَّهُ نَجِسٌ. يُقِيمُ وَحْدَهُ. خَارِجَ الْمَحَلَّةِ يَكُونُ مَقَامُهُ" (لاويين ١٣: ٤٥، ٤٦).

لم يكن المجذوم يقيم وحده وحسب، بل كان يُعزَل عن الناس أيضاً. أليس في هذا رمز إلى الخطيئة التي تعزل النفس عن الشركة مع الله؟ قد تكون لدى المؤمن خطيئة من ذلك النوع الذي يحرمه من شركة القديسين على الأرض، كما في حالة ذلك الرجل المتهم بسفاح القربى في (١ كورنثوس ٥). فهناك "داخل" و"خارج" جماعة الله، الذي هو مكان القداسة، حيث يُدان الشر ويعالج، عندما يحدث، كما أن هناك داخل وخارج المحلة بالنسبة للإسرائيليين.

في (لاويين ١٤) نقرأ عن بيت ابتُلي بالجذام. وعندما ثبت ذلك توجب إفراغ البيت وهدّه وأخذ الرمال والتراب الناجمة عن ذلك إلى مكان غير نظيف. وكانت تُستخدم بقية الحجارة والجص، ولكن إذا أصاب البلاء البيت ثانية، فإنه "برصٌ مُفسِدٌ" ليس له شفاء، وهذا يستوجب ردم البيت، ونقل الحجارة، وأخشاب البناء، والجص، وكل شيء إلى مكان غير نظيف.

ألا نلاحظ مثل هؤلاء في وقتنا الحاضر؟ خذ مثلاً هذه الهيئات التي تقول أنها تعترف بالمسيح، والتي تخطيء في عقائدها المتعلقة بشخص ربنا وموته الكفاري، أليس لديهم "بَرصٌ مُفسِدٌ" في وسطهم؟ وانظر أيضاً تلك البدع مثل أخوة المسيح (الناكرون لعقيدة الثالوث)، والسبتيين، والقائلين بفجر الألفية، وشهود يهوه، وحركة العلماء المسيحيين، وغيرهم، أليسوا هم أيضاً على نفس الحال، بيوتٌ مبتلية بالجذام؟

إنها تعاليم مليئة بالتجديف وهي غير مسيحية في الحقيقة. إنها "بَرصٌ مُفسِدٌ".

إن تطهير الشخص الذي يُشفى من الجذام فيه الكثير من التعليم الرمزي. فكان الكاهن يأمر أنْ يُؤْخَذَ لِلْمُتَطَهِّرِ عُصْفُورَانِ حَيَّانِ طَاهِرَانِ وَخَشَبُ أرْزٍ وَقِرْمِزٌ وَزُوفَا. وَيَأمُرُ الْكَاهِنُ أنْ يُذْبَحَ الْعُصْفُورُ الْوَاحِدُ فِي إنَاءِ خَزَفٍ عَلَى مَاءٍ حَيٍّ. أمَّا الْعُصْفُورُ الْحَيُّ فَيَأخُذُهُ مَعَ خَشَبِ الأرْزِ وَالْقِرْمِزِ وَالزُّوفَا وَيَغْمِسُهَا مَعَ الْعُصْفُورِ الْحَيِّ فِي دَمِ الْعُصْفُورِ الْمَذْبُوحِ عَلَى الْمَاءِ الْحَيِّ، وَيَنْضِحُ عَلَى الْمُتَطَهِّرِ مِنَ الْبَرَصِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَيُطَهِّرُهُ ثُمَّ يُطْلِقُ الْعُصْفُورَ الْحَيَّ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ.

دعونا نتوقف هنا. كم هي مؤثرة هذه الرموز! إن العصفور المذبوح هو رمزٌ لربنا، الذي مات ليطهرنا بدمه الثمين. لقد ذُبِحَ الْعُصْفُورُ الْوَاحِدُ فِي إنَاءِ خَزَفٍ. وإن ربنا الذي كان إلهاً من إله، الله الابن السرمدي، صار إنساناً وبذلك صار في "إنَاءِ خَزَفٍ". "هَيَّأْتَ لِي جَسَداً" (عبرانيين ١٠: ٥). لقد ذُبِحَ الْعُصْفُورِ عَلَى "الْمَاءِ الْحَيِّ". الماء هو رمزٌ لكلمة الله التي طبّقها الروح القدس، والماء الحي يرمز إلى الروح القدس في الفعل. "ا لْمَسِيحِ، ... بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عبرانيين ٩: ١٤).

وبالنسبة للعصفور الحي فقد كان متوحداً بالعصفور المذبوح، نظراً لأنه كان منغمساً في دمه. وإن إطلاق الْعُصْفُورَ الْحَيَّ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ، سمح له بالطيران إلى السماء، حيث كان، وهذا يرينا كيف أن ربنا المبارك قد خضع للموت من أجل خطايانا، وقام من بين الأموات ظافراً، وصعد إلى المجد، دليل النصر الذي حققه. يا لها من شهادة! فكما أن العصفور الذي اصطبغ جناحه بالدم طار إلى السماء، كذلك نقرأ عن المسيح أنه "َلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً" (عبرانيين ٩: ١٢). ليس فقط العصفور الحي هو الذي غُمس بدم العصفور المذبوح بل أيضاً خَشَب الأرْزِ وَالْقِرْمِز وَالزُّوفَا. إن خَشَب الأرْزِ وَالْقِرْمِز يرمزان إلى الإنسان بكل عظمته. ونجد سليمان يقول عن الأشجار: "مِنَ الأَرْزِ الَّذِي فِي لُبْنَانَ إِلَى الزُّوفَا النَّابِتِ فِي الْحَائِطِ. وَتَكَلَّمَ عَنِ الْبَهَائِمِ وَعَنِ الطَّيْرِ وَعَنِ الدَّبِيبِ وَعَنِ السَّمَكِ" (ا ملوك ٤: ٣٣). إن انحدار ربنا الوديع منخفض الجناح من عرش الله إلى المذود في بيت لحم، وإلى صليب الجلجثة، يجعل كل عظمة الإنسان مجرد تراب. ألا نجد في ترنيمة اسحق وات انغماس الأرز والقرمز في الدم؟

"عندما نُعاين الصليب العجيب،
الذي مات عليه أمير المجد،
نشعر أن أثمن ما لدينا هو سدى،
ونخزى من كل كبريائنا".

وبالنسبة للزوفا، وإذ يمثل ما هو وضيع في الطبيعة، فإن كثيرين يظنون أن على البؤساء أن يتباركوا بسبب قدرهم التعيس في هذه الحياة، لكن الزوفا المغموس بالدم يطرح تلك الفكرة جانباً. إننا جميعاً خطأة. إن كل هذا يوجزه ما قاله الملك إدوارد السابع وهو يحتضر، فقد سأل بريبنداري كارليل، مؤسس جيش الكنيسة، كيف كان المتسولون عنده. وقبل أن يتسنى لبريبنداري أن يجيب، استأنف الملك حديثه قائلاً: "لاحظ يا كارليل، إن أولئك المتسولين (الزوفا) والملوك (الأرز والقرمز) كلاهما على حد سواء بحاجة لنفس المخلّص". يا له من درس تعلّمه ملك في مثل منزلته الرفيعة تلك.

وبعد ذلك نأتي إلى التفاصيل المعقدة المتعلقة بالتطهير، والتي تخبرنا بوضوح أنه لا يكفي القيام بعمل للخاطئ من الخارج، بل من الداخل أيضاً، وذلك لإزالة كل النجاسة العملية. إن القداسة أمر مطلوب بإصرار. ليكن هذا واضحاً تماماً. إن موت ربنا وسفك دمه على الصليب، هو الذي يعطي الخاطئ الذي يؤمن، حقاً أمام الله- حقاً لم ينجم عن أعمال، بل عن نعمة الله إجمالاً، على الأساس الحق القائم على أن موت ربنا الكفاري قد سوّى مسألة الخطيئة برمّتها للخاطئ المؤمن. ولكن لابد له، بالمقابل، من ملاءمة أخلاقية، أو انسجام، ليكون في حضرة الله.

ليس هناك دمٌ فقط، بل ماءٌ أيضاً- الدم يرمز إلى التطهير القضائي، معطياً للمؤمن الحق في المثول إلى حضرة الله، والماء هو الفعل التطهيري لكلمة الله، التي تعطي الملاءمة. فالموقف المبرر أولاً ثم الملاءمة الأخلاقية. إن أميراً من هذا العالم قد يحق له الظهور في بلاط الملك، ولكنه لن يحلم بالحضور أبداً ما لم يكن في لباس ملكي. لقد كان المتطهر يُعلن نظيفاً، ولكن كان يتوجب عليه أن يغسل ثيابَه، وهذا رمز وقوع الإنسان تحت تأثير نعمة الله بإقلاعه عن العادات التي لا تتناسب ودنوه من الله. كان على المجذوم أن يَغْسِل ثِيَابَهُ وَيَحْلِقُ كُلَّ شَعْرِهِ، دلالة إلى شيء أساسي جداً وهو أنه غير ملائم للمثول أمام الله. ولسبع أيام كان عليه أن يُقِيم خَارِجَ خَيْمَتِهِ سَبْعَةَ أيَّامٍ. وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ يَحْلِقُ كُلَّ شَعْرِهِ. رَأسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَحَوَاجِبَ عَيْنَيْهِ وَجَمِيعَ شَعْرِهِ يَحْلِقُ. وَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ جَسَدَهُ بِمَاءٍ فَيَطْهُرُ.  لاحظوا كيف أن الله يطبع القداسة في فكر، وكلام، وسلوك شعبه المحبوب.

فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ كان المتطهّر يَأخُذُ خَرُوفَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَنَعْجَةً وَاحِدَةً حَوْلِيَّةً صَحِيحَةً وَثَلاثَةَ أعْشَارِ دَقِيقٍ تَقْدِمَةً مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ وَلُجَّ زَيْتٍ. وأول ما كان يجب القيام به هو أن يذبح الْكَاهِنُ الْخَرُوفَ الْوَاحِدَ وَيُقَرِّبُهُ ذَبِيحَةَ إثْمٍ مَعَ لُجِّ الزَّيْتِ. يُرَدِّدُهُمَا تَرْدِيدا أمَامَ الرَّبِّ. وَيَأخُذُ الْكَاهِنُ مِنْ دَمِ ذَبِيحَةِ الْإثْمِ وَيَجْعَلُ الْكَاهِنُ عَلَى شَحْمَةِ أذُنِ الْمُتَطَهِّرِ الْيُمْنَى وَعَلَى إبْهَامِ يَدِهِ الْيُمْنَى وَعَلَى إبْهَامِ رِجْلِهِ الْيُمْنَى.  وفي هذا كانت هناك رمزية: أولاً، أنه لا يمكن الاقتراب من الله إلا على أساس ذبيحة المسيح الكفارية، وثانياً، أن المحبة المذهلة المنبعثة من تلك الذبيحة (المسيح) لا تتطلب من إلا تكريس حياتنا له، هو الذي أحبنا وبذل ذاته لأجلنا. "لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ" (٢ كورنثوس ٥: ١٤، ١٥). وإذاً ليس فقط يجب أن يكون لدينا تجاوب، بل إقرارٌ أيضاً بصحة وشرعية ما يطالبنا الله به.

والآن نفهم السبب في الداعي للُجّ الزَيْتٍ. فبعض الزيت كان يُسكبُ في راحة يد الكاهن وبه كان يدهنُ شَحْمَة أذُنِ الْمُتَطَهِّرِ الْيُمْنَى وإبْهَام يَدِهِ الْيُمْنَى وإبْهَام رِجْلِهِ الْيُمْنَى. هذه الأعضاء التي كانت قد لُطّخت بالدم. فالزيتُ كان يُوضَع إذاً فوق الدم. والأذن هي التي تتلقى أصوات الاتصال من الله والآخرين، واليد والقدم ترفعانها. إن الزيت هو رمز الروح القدس، وفقط بقوة وسلطان روح قدس الله يستطيع المؤمن أن يستجيب إلى الله بالطريقة التي تناسب هكذا محبة ونعمة إلهيتين. وَكان الْفَاضِلُ مِنَ الزَّيْتِ الَّذِي فِي كَفِّ الْكَاهِنِ يَجْعَلُهُ عَلَى رَأسِ الْمُتَطَهِّرِ، وهذه صورة عن الإنسان وقد أُعلن بالكلية للرَّبِّ.

"الحب  مذهلٌ، ومقدس للغاية،
حتى يتطلب مني روحي وحياتي وكل كياني"

بعد ذلك كانت تُقدّمُ ذبيحة الخطيئة، يليها محرقةٌ وتقدمة قربانٍ، أشبه ما يكون استحضاراً أمام النفس للجوانب المختلفة لموت المسيح، لإظهار ما كان ضرورياً لتلبية حاجتنا الشديدة.

الفصل ٢٣

(اقرأ عدد ١٩)

يرد ذكرها في سفر العدد في نهاية خبرة البرية لبني إسرائيل، وقد كان لها مغزى خاص. وسنرى أن في ذلك تدبيراً لإزالة النجاسة في الشعب المرتبط بعلاقة مع إله قدوس. سوف يتعلم المؤمنون من هذا درساً، في أن يكونوا يقظين ومتنبهين في سلوكنا كمسيحيين، وفي العلاقات التي نكونها.

كان على بني اسرائيل أن يجلبوا لأَلِعَازَارَ الكَاهِنِ بَقَرَةً حَمْرَاءَ صَحِيحَةً لا عَيْبَ فِيهَا وَلمْ يَعْلُ عَليْهَا نِيرٌ. وكان يجب أن تُخْرَجُ إِلى خَارِجِ المَحَلةِ وَتُذْبَحُ قُدَّامَهُ. وَيَأْخُذُ أَلِعَازَارُ الكَاهِنُ مِنْ دَمِهَا بِإِصْبِعِهِ وَيَنْضِحُ مِنْ دَمِهَا إِلى جِهَةِ وَجْهِ خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وذلك أمام كل الشعب. وتوجب أن َتُحْرَقُ البَقَرَةُ أَمَامَ عَيْنَي أَلِعَازَارَ وأن يُحْرَقُ جِلدُهَا وَلحْمُهَا وَدَمُهَا مَعَ فَرْثِهَا. وأن َيَأْخُذ الكَاهِنُ خَشَبَ أَرْزٍ وَزُوفَا وَقِرْمِزاً وَيَطْرَحُهُنَّ فِي وَسَطِ حَرِيقِ البَقَرَةِ. وَيَجْمَعُ رَجُلٌ طَاهِرٌ رَمَادَ البَقَرَةِ وَيَضَعُهُ خَارِجَ المَحَلةِ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ فَتَكُونُ لِجَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيل فِي "حِفْظٍ مَاءَ نَجَاسَةٍ. إِنَّهَا ذَبِيحَةُ خَطِيَّةٍ" (عدد ١٩: ٩).

إن المغزى من وراء كل ذلك واضح. فلا يمكن أن تكون هناك قداسة بمعزل عن عمل المسيح الفدائي، عندما أظهر الله على الجلجثة بغضه الشديد للخطيئة في إدانته الكاملة للخطيئة، وذلك بتركه لحامل الخطيئة، ابنه الوحيد المحبوب، على الصليب ليحمل كل الغضب الذي تستحقه الخطيئة. إن حرق البقرة بكل أجزائها، سواء كان الجلد، جمال الحيوان، أو الروث، فداحة الخطيئة – وبالنسبة للإنسان، أفضل ما لديه وأسوأ ما لديه – هذا يرمز إلى قضاء الله الذي لا مفر منه والذي سيقع على شخص البديل. لقد كان ربنا بلا عيب أو شائبة. فهو "لم يعرف خطيئة". "ولم يرتكب إثماً". و"لم تكن فيه خطيئة". هذا ما يشهد به الكتاب المقدس عنه. لم يكن تحت نير أو عبودية. لقد كان خلواً تماماً من الخطيئة وقصاصها، وإلا لما أمكنه أن يبذل حياته لأجلنا.

إن الكاهن بإلقائه خَشَبَ أَرْزٍ وَزُوفَا وَقِرْمِزاً فِي وَسَطِ حَرِيقِ البَقَرَةِ إنما يُظهرُ أن كل فخر ومجد البشر يجب أن يتلاشى، فالزوفا يشير إلى دناءة وخسة الإنسان، وعلى كل شيء في الإنسان أن يسقط أمام قداسة الله.

عندما كان الإنسان يتنجس بلمسه جسد ميت، فإن نجاسته تبقى عليه لسبعة أيام. وفي اليوم الثالث كان عليه أن "يتطهر" وذلك بأن يأخذ ماءً جارياً (حياً) مع رماد البقرة في إناء وينضحه على كل ما حوله هناك، ويكرر ذلك في اليوم السابع. وفِي اليَوْمِ السَّابِعِ، وإذ يتطهر النجس، فإنه يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَرْحَضُ بِمَاءٍ فَيَكُونُ طَاهِراً فِي المَسَاءِ.

معنى ذلك أنه عندما يكون المؤمن نجساً بسماحه للخطيئة والعثرة في حياته، فحتى يتطهر لابد أن يكون هناك إحساس بقداسة الله كما يرمز إليه ذبح وحرق البقرة الحمراء. هل يؤكد رمز البقرة الحمراء هذا المعنى؟ يشير الرماد إلى دينونة الخطيئة وقد أُنزِلَت. إن تذكار ذلك، وتطبيق الكلمة في قوة التطهير التي لروح قدس الله، يُرمز إليها بـ "الماء الحي" وقد مُزِج بالرماد (تذكار ما عاناه الرب يسوع على الصليب)، تلك التي لها تأثير تطهيري ومبكّت على قلب المؤمن.

ليس هذا فقط، بل إن غسل الثياب واغتسال الشخص يرمز إلى قيام الشخص النجس بالتخلي عن طرق عيشه، وحتى أفكاره، وإلى ضرورة الطهارة الشخصية في موقفه الأخلاقي أمام الله.

هذا لا يشير إلى تطهر الخاطئ بالدم، بل تطهر القديس بماء الكلمة بأن يملأ قلبه بالإحساس المهيب بالخطيئة التي تُرى رمزياً في حرق الذبيحة، وفي الرماد، بحيث أن المؤمن يوبّخه قلبه حقاً في حضرة الله.

قارن ما قيل عن اليوم الثالث بما قيل عن اليوم السابع. لابد أن يكون هناك وقت أمام القديس الذي يخطئ لكي يستعيد الشركة مع الله. فمثلاً، إذا ما أُمسِك كارزٌ أو واعظ في خطيئة ما، وعاد إلى رشده، فمن عير المناسب له أن يُشهر علانية كخادم، بل يجب أن يأخذ وقتاً ليستعيد وضعه السابق.

لعله يمكننا أن نجد مثالاً عن ذلك في حالة الرسول بطرس. فبعد سقوطه، وإنكاره للمسيح بأعظم الأيمان واللعنات، نظر إليه الرب بتلك النظرة التي امتزج فيها الحزن والمحبة التي تغفر، وهذا ما دفعه لأن يخرج ويبكي بكاء مراً. ولكن كانت هناك حاجة لشيء آخر. لقد رأى ربنا بطرس لوحده بعد قيامته من بين الأموات. ولكنه مع ذلك امتحنه إلى أقصى الحدود، إلى أن كشف بطرس عن مكنونات قلبه في حضور الرب وقال: "«يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ»" (يوحنا ٢١: ١٧).  وهنا أوصاه الرب أن: "«ارْعَ غَنَمِي»"، ومن هنا نجد أنه هو من كان ينطق بلسان الجماعة في يوم العنصرة.

يحسن بنا أن نتأمل في حادثة رماد البقرة الحمراء هذه، التي تعلمنا أن الخطيئة أمرٌ نجسٌ، وكم هو ضروري أن نحفظ أنفسنا في حالةٍ تناسبُ حضورَ الله المقدس. إنها تُظهر أيضاً أن القديس قد لا يرتكب دائماً النجاسة بإرادته، بل من ملامسته للنجاسة، وهذا قد يكون بدون انتباه منه. فيصير نجساً ويحتاج إلى "ماء التطهير". لعله يجب إدانة الخطيئة في الجماعة، وإذ نستمع إلى هذه القصة، ندرك أهمية التطهير. إنها تخبرنا عن الرماد الذي مُزِجَ مع ماء حي هو "ماء حفظ". فكم من الضروري، والحالة هذه إذاً، أن ننفصل أو أن نحفظ أنفسنا في منأى عن الشر، وأن نبقى في سعادة القلب الناجمة عن حياة الشركة مع الله.

الفصل ٢٤

أربعة رموز تاريخية عظيمة لموت المسيح

(اقرأ ١ بطرس ١: ١٨- ٢٠؛ ١ كورنثوس ١٠: ١- ١٢؛ رومية ٨: ١- ٤؛ يشوع ٣، ٤ ؛ أفسس ١: ٣- ٧)

هناك أربعة رموز ليست مرتبطة جوهرياً بخيمة الاجتماع، ولكنها تقدم دروساً مذهلة تتعلق ببني إسرائيل، الذين كانوا يتحلقون حول خيمة الاجتماع خلال رحلتهم إلى كنعان، ارتأينا أن نضعها في هذا الفصل هنا.

هناك أربعة رموز تاريخية تشير إلى موت المسيح، استخدمت للتوضيح خلال رحلة بني إسرائيل من مصر إلى كنعان. وهذه الرموز هي:—

  1. الفصح (أو عبور الرب)
  2. عبور البحر الأحمر
  3. رفع الحية النحاسية
  4. عبور الأردن إلى كنعان

ويمكن وصف هذه الرموز باختصار شديد كما يلي:—

  1. الفصح (عبور الرب): كان يرمز إلى كيفية إرضاء مطاليب الله فيما يتعلق بالخطيئة، بحيث يستطيع فداء شعبه متبررين.
  2. عبور البحر الأحمر: يرمز إلى انعتاق المؤمنين من سلطان إبليس (فرعون)، ومن عبودية العالم (مصر).
  3. رفع الحية النحاسية: يظهر كيف أن المؤمن يتحرر من عبودية الجسد بدخوله إلى الحياة الإلهية المقدسة، وسكنى الروح القدس.
  4. عبور الأردن إلى كنعان: يظهر كيف أن المؤمن يتبارك "بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ" (أفسس ١: ٣).

هذه خلاصة والآن نأتي إلى التوسع في التفاصيل.

 الفصح (عبور الرب)

يجب أن نلاحظ بشكل خاص منذ البداية أن الفصح هو الرمز الوحيد من بين الأربعة الذي كان فيه سفك دم. إن الرموز الثلاثة الأخرى تتفرع عن هذا الرمز الضخم، وتشير إلى الأساس العظيم الذي تقوم عليه بركاتنا، وحتى عمل ربنا يسوع المسيح الكفاري على الجلجثة.

إذ بعد كل شيء، كيف يمكن أن يقوم الله بأي عمل آخر ما لم تتم تلبية مطالبه العادلة أولاً؟ وفوق ذلك، إن كل أعمال الله اللاحقة جميعها في مباركة شعبه تقوم على أساس هذه البداية العظيمة الرائعة.

لقد كان الله على وشك أن يستمع لصرخات أنين بني إسرائيل المضطهدين (في مصر). ولكن لكي يفعل ذلك، لابد أن يكون باراً عادلاً. لقد كان بنو إسرائيل على نفس درجة المصريين في الخطايا. فبأي حق يؤيد الله بني إسرائيل ضد المصريين؟ لقد كان المصريون شعباً استعبدوا بني إسرائيل، وعندما طلب الله أن يُسمح لهم بأن يعبدوه في الصحراء، رفض فرعون، ولذلك نزل الله العادل البار إلى مصر باستياء غاضب. فإن كان فرعون لن يسمح لبني إسرائيل بالذهاب، فهو نفسه سيخرجهم من مصر "بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ رَفِيعَةٍ وَمَخَاوِفَ عَظِيمَةٍ وَآيَاتٍ وَعَجَائِبَ" (تثنية ٢٦: ٨). ومن جهة أخرى كان الله قادراً على فداء شعبه، فقط بعد أن يرضوا مطاليب عدالته. إن النقطة المهمة التي يجب أن نفهمها في قصة الفصح هي أن مسألة السكنى مع الله هي القضية العظيمة الوحيدة والحيوية. أما بقية المسائل فتأتي لاحقاً، ولكن يجب إرساء هذه المسألة الأهم أولاً.

والآن نأتي إلى لب الموضوع بجملتين. إن الله أبقى ذاته خارجاً كقاضٍ عادل أتى بمخلص كريم بار. بالتأكيد كان كل ذلك رمزياً، ولكن كم كان الرمز غنياً نظراً إلى عظمة المرموز إليه.

كان يجب نحر حمل صحيح، وأن يوضع دمه في حوض، وبحزمة من الزوفا كان الدم يُنضح على عتبة باب البيت وأعمدته، حيث كان يقطن الإسرائيليون، وكان يهوه قد تعهد بأنه سيعبر عندما يرى الدم، ومن هنا جاءت الكلمة العبور (أو الفصح). ولكنها تدل رمزياً إلى دم المسيح الزكي، الذي يطهر من كل الخطايا. ولذلك نقرأ في العهد الجديد: "لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا" (١ كو ٥: ٧). "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ" (١ بطرس ١: ١٨، ١٩).

كتبنا في الفصول السابقة عن العبور (الفصح)، وسنكتفي بهذا القدر عنه.

عبور البحر الأحمر

عندما أُرضيت مطاليب عدالة الله، وهذا حدث بتدبير منه، كانت لا تزال هناك الحالة المؤسفة الباعثة على الأسى لبني إسرائيل. فقد كانوا عبيداً في قبضة فرعون القاسية يصنعون "الآجر بدون تبن" في أرض مصر؛ فهل كان الله ليترك شعباً مفتدى في تلك الحالة البائسة؟ لقد تلا ذلك العمل (عبور الفصح) الذي حدث أولاً، عملٌ آخر. فقد كانت الحاجة ماسة إلى التحرر من فرعون ومصر. فرعون هو رمز لإبليس، ولذلك نقرأ "فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً (المسيح) كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ" (عبرانيين ٢: ١٤، ١٥). لقد كانت مصر ترمز إلى العالم. "وَصَعِدَ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ الْجِلْجَالِ إِلَى بُوكِيمَ وَقَالَ: قَدْ أَصْعَدْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ وَأَتَيْتُ بِكُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَقْسَمْتُ لآِبَائِكُمْ، وَقُلْتُ: لاَ أَنْكُثُ عَهْدِي مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ" (قضاة ٢: ١). إن المؤمن هو في هذا العالم ولكنه ليس من العالم. ونجد الرب يسوع خلال صلاته إلى الله الآب التي لا تُنسى يذكر مرتين أنهم "لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ" (يوحنا ١٧: ١٤، ١٦). يا له من تحرر وانعتاق رائع.

تقدم لنا الآيات في (١ كورنثوس ١٠: ١ - ٤) صورة كتابية جميلة عن المعنى الرمزي لعبور البحر الأحمر. فقد عبر بنو إسرائيل البحر الأحمر، إذ كان موتاً للمصريين، ولكن كان للإسرائيليين طريق الحرية من مصر وعبودية فرعون. لابد أنها كانت محنة كبيرة بالنسبة لبني إسرائيل عندما هدد المصريون، المدججون بالسلاح، بأن يبيدوهم بعد أن حاصروهم أمام فم الحيروث بين مجدل والبحر. لقد كانت الحالة ميئوساً منها، وفجأة ينشق البحر أمامهم إلى نصفين، وصارت يابسةٌ فيه بقوة جبارة من ريح شرقية أرسلها الله لنجاتهم، فعبروا بأمان إلى الجانب الآخر.
إن (١ كو ١٠: ٢) تخبرنا كيف أن جميع بني إسرائيل "اعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي السَّحَابَةِ وَفِي الْبَحْرِ"، وكأن َالْمَاء الذي كان مثل سُور لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِم، والسحابة التي فوقه، شكلت ما يشبه النفق ليمروا عبره.يا له من تحرير! ما عاد من فرعون هناك، وما عادت مصر هناك، وعلى الجانب الآخر من البحر الأحمر صاروا تحت قيادة موسى وقد أعطاهم الله نبع ماء عذب، فاض من الصخرة التي ضربها ليشربوا، وكان يرسل لهم المنّ يومياً ليأكلوا. إن هذه القصة تدلنا بشكل أكيد على أن الصخرة التي تبعتهم كانت المسيح، ومن هنا قالوا عن الماء المتدفق من الصخرة التي ضُربت ماء الصخرة.

إن عبور الفصح يستحضر إلى ذهننا، كما رأينا الآن، فكرة موت المسيح عنا. وعبور البحر الأحمر هو تطابق بيننا وبين ذلك الموت. لقد اعتمد بنو إسرائيل لموسى. والمؤمنون يعتمدون لموت المسيح، ويدفنون معه بالمعمودية، وهم الآن مؤمِنون مُعتَقُون من سلطان إبليس، ومن العالم في نظامه البعيد عن الله، وقد كرسوا أنفسهم للمسيح بالروح والنفس والجسد.

"من مصر جئنا،
حيث كان الموت والظلام يسودان،
وها إننا نسعى إلى مسكن جديد أفضل،
حيث نحظى بالراحة،
هليلويا،
ها إننا في الطريق نحو الرب"

رفع الحية النحاسية

عندما قاربت رحلة بني إسرائيل في البرية على الانتهاء، طرأ حادثٌ عجيب. لقد ضَاقَتْ نَفْسُ الشَّعْبِ فِي الطَّرِيقِ، وراحوا يتذمرون على الله وموسى، قائلين: "«لِمَاذَا أَصْعَدْتُمَانَا مِنْ مِصْرَ لِنَمُوتَ فِي البَرِّيَّةِ! لأَنَّهُ لا خُبْزَ وَلا مَاءَ وَقَدْ كَرِهَتْ أَنْفُسُنَا الطَّعَامَ السَّخِيفَ (أي المن)»" (عدد ٢١: ٥). لقد تذمروا على صلاح الله وجوده، رغم تدبيره لأمورهم في إعطائهم الماء من صخرةٍ صمّاء و"طعام الملائكة" (مزمور ٧٨: ٢٥).

ولذلك "أرْسَل الرَّبُّ عَلى الشَّعْبِ الحَيَّاتِ المُحْرِقَةَ فَلدَغَتِ الشَّعْبَ فَمَاتَ قَوْمٌ كَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيل" (عدد ٢١: ٦). ما الدرس الذي نتعلمه من هذه الحادثة؟ إنه درس ضروري لابد منه. إن الخطيئة تنبع من طبيعة خاطئة. ما الذي يُجنى من الشوك سوى الشوك؟ قال الرب: "مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَباً أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟" (متى ٧: ١٦).

علّم الفصح (عبور الرب) درساً عن قضاء الرب. وعبور الأردن علّم التحرر من مصر (العالم) وفرعون (إبليس). ورفع الحية النحاسية لقّن درساً عن كيفية الانعتاق من الذات الخاطئة. وإنه درسٌ عميق وعملي.

ماذا كان العلاج؟ أمر الله موسى أن يصنع حيةً من نحاس، فمن نظر إليها كان ليعيش. هل نجد انعكاساً لهذا النور في العهد الجديد؟ بالتأكيد نعم. إذ نقرأ: "«وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا ٣: ١٤، ١٥). إن الحية النحاسية ما هي إلا رمز للمسيح ربنا الذي رُفِعَ على عود الصليب لكي ينال الخطأةُ الحياة.

ثمة نتيجتان نجمتا عن موت المسيح، كما نرى في (١ يوحنا ٤: ٩، ١٠). إذ نقرأ: "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِه. فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا". لم نَنَلْ غفران الخطايا وحسب، بل الحياة الأبدية أيضاً التي مُنِحَتْ لكل مؤمن.

ونقرأ: "صَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلى الرَّايَةِ فَكَانَ مَتَى لدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَاناً وَنَظَرَ إِلى حَيَّةِ النُّحَاسِ يَحْيَا" (عدد ٢١: ٩). وبنفس الطريق، إن كل من ينظر إلى المسيح، الذي رُفع على الصليب لأجل آثامنا، يحيا. ولا ننسَ أن الحسد الخاطئ يأتي بالخطيئة وحسب، وسوف لن يجد له مكاناً في السماء. كما تقول هذه الترنيمة للأطفال: —

"هنالك مدينة ساطعة بالضياء،
أبوابها موصدةٌ في وجه الخطيئة؛
ولا يمكن لذلك الدنس،
لا يمكن لذلك الدنس،
أن يدخل إليها أبداً".

إن الموضوع الأهم عند الرسول يوحنا هو الحياة. نعم، الحياة. وإن إنجيله قائم على أساس ذلك الرمز ألا وهو الحية النحاسية المرفوعة.

إن الآيات في (رومية ٨: ٣، ٤) تستخلص نفس النتيجة، ولكن على خلفية أخرى. فنقرأ: "لأَنَّهُ مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ فِي مَا كَانَ ضَعِيفاً بِالْجَسَدِ فَاللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ، لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ النَّامُوسِ فِينَا نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ". فالحية النحاسية كانت على شبه الحية المحرقة التي لدغت الشعب، وكان الرب يسوع على شبه جسد الخطيئة. هو لم يكن ذا جسد خاطئ، وإلا لما أمكنه أن يكون مخلصنا. وليس فقط أن الخطيئة قد كُفِّرَ عنها، بل إن الخطيئة قد أُدينت بجسد ربنا يسوع المسيح. فلم تُعالج الثمرة (الخطايا) وحسب، بل أيضاً الجذر (الطبيعة الخاطئة). إن الخطايا تُفغر، أما الطبيعة الخاطئة فلا. ما سيصيب الجسد من جراء الخطيئة هو الموت وحسب.

الخطأ الفادح الذي يرتكبه العالم المسيحي اليوم هو محاولة صقل الإنسان في الجسد. إن شذّبنا أو اعتنينا بالشوك، فقد نحصل على شوك أكبر وأشد حدة، ولكننا لا ننتج بذلك إلا شوكاً. على المؤمن أن يدرك ذلك، وأن يطلب نعمة كي "يسلك بالروح". يتحدث الرسول بولس عن "جدة الحياة" (رومية ٦: ٤). ويتحدث يوحنا الرسول عن "الحياة الأبدية" (يوحنا ٣: ١٥).

إن فهمنا التعليم المستخلص من درس الحية النحاسية مرةً، فإننا سنعرف أنه ما من شيء في الجسد هو لله، وأننا لا يمكن أن نحسّنه، بل إننا في حاجة إلى أن نجتاز بالموت في جسدنا على هذا النحو. وإنه لقولٌ حسنٌ أن الطبيعتين لا يمكن تحسينهما. فالجسد فاسدٌ جداً لا يمكن إصلاحه. والطبيعة الجديدة صالحة جداً فلا يمكن تحسينها.

أي منظر كان لابن الله المرفوع. وأي درس نتعلمه من أنه ليس فقط أن الخطيئة كُفِّرَ عنها بل أيضاً أن الطبيعة الخاطئة قد أُدينَتْ على الصليب، وأيضاً في أن الرب إذا شاء أن يرضى عن شعب، فإن عليهم أن تكون لهم حياة لا خطيئة فيها، وسيعطى الروح القدس لهم كقوة تساعدهم في تلك الحياة الجديدة، وذلك كي "يسلكوا بالروح" (غلاطية ٥: ٢٥).

عبور الأردن
(اقرأ يشوع ٣، ٤ وأفسس ١: ٣ - ٥)

عبور الأردن كان يعني نهاية البرية والدخول إلى كنعان، الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. وكان هذا يعني الصراع لأجل امتلاك الأرض وطرد خصومهم.

نحن المسيحيون لا نزال في حالة مرحلة البرية حتى الآن نظراً إلى ظروفنا الأرضية. وعلينا أنه نواجه تجارب وصعوبات من كل الأنواع. ولكننا بالروح ممتلئين بالأمور السماوية المباركة، وفي أذهاننا تركنا مرحلة البرية ونجد أنفسنا أمام ما تتطلبه مرحلة كنعان بالمعنى الروحي.

وإننا مباركون بكل بركة روحية في السماويات في المسيح. إننا مختارون لنكون قديسين وبلا عيب أمام أبي ربنا يسوع المسيح. لقد نلنا التبني بيسوع المسيح. وها هنا دنيا من الأفكار والمشاعر خارج هذا العالم في الزمان والإحساس. وكما قال أحدهم: "إننا نُدخَل إلى حياةٍ هي على الجانب الآخر من الموت بقوة روح الله، لكوننا نموت ونُقام في المسيح، ويجب أن يكون هناك تذكار لذلك الموت الذي به تحررنا من ذاك الذي على هذا الجانب منه، من بقايا الإنسان كما هو الآن، ومن الخليقة الساقطة التي ينتمي إليها".

لا يمكن أن تكون كنعان رمزاً للسماء، لأنه كان هناك صراع شديد للاستيلاء على الأرض، بينما لن يكون هناك صراع في السماء. ونجد ارتباطاً بين هذا وما جاء في رسالة أفسس: "إِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أفسس ٦: ١٢). إننا مدعوون لنلبس درع الله الكامل لكي نستطيع الصمود، ولكيلا نتخلى عن نصيبنا الرائع الذي يخصنا.

بالرمز، عندما عبر بنو إسرائيل الأردن، نهر الموت، فإن أول حركة قاموا بها كانت من جانب الكهنة الذين حملوا تابوت العهد. وكان يجب الإبقاء على مسافة ٢٠٠٠ ذراعاً بينه وبين الشعب. وما كانوا قد عبروا ذلك الطريق من قبل.

َعِنْدَ انْغِمَاسِ أَرْجُلِ الْكَهَنَةِ حَامِلِي التَّابُوتِ فِي ضَفَّةِ الْمِيَاهِ، وَقَفَتِ الْمِيَاهُ الْمُنْحَدِرَةُ مِنْ فَوْقُ وَقَامَتْ نَدّاً وَاحِداً بَعِيداً جِدّاً عَنْ «أَدَامَ» الْمَدِينَةِ الَّتِي إِلَى جَانِبِ صَرْتَانَ، وَالْمُنْحَدِرَةُ إِلَى البحر الميت انْقَطَعَتْ تَمَاماً، وَعَبَرَ الشَّعْبُ.

حاول كثيرون أن يفسروا هذه المعجزة على أنها ناجمة عن انهيار التربة عند النبع أدى إلى حجز المياه. ولكن لا يُعقل ذلك. فقد كان الأردن في ذلك الوقت من الحصاد تفيض مياهه فوق ضفافه. ولم تحدث المعجزة إلا عندما غمس الكهنة أقدامهم في ضفة النهر.

لاحظ أن تابوت العهد كان يجب أن يسير في المقدمة. كان على ربنا أن يموت. لقد احتمل الريح العاتية، وعبر خلال العاصفة، وغاص إلى لجج المياه العميقة. وحده مضى إلى الموت، وذلك لئلا نجد مياهاً في نهر الموت عندما نأتي إليه، بل نعبر بدون أن تبتل أقدامنا.

"لقد اجتاز عبر فيضان الموت المعتم الهائج،
كي يضمن لنا الراحة والسلام"

يا له من انتصار هو ذاك الذي لنا!

حالما انغمست أقدام الكهنة في ضفة النهر، توقف فيضان المياه. وما إن عبروا جميعاً ووطئت أقدام الكهنة اليابسة حتى عادت المياه.

وأعطيت لهم تعليماتٌ أن يختاروا مِنَ الشَّعْبِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، رَجُلاً وَاحِداً مِنْ كُلِّ سِبْطٍ، كي يحْمِلُوا مِنْ وَسَطِ الأُرْدُنِّ مِنْ مَوْقِفِ أَرْجُلِ الْكَهَنَةِ رَاسِخَةً، حيث كانوا يحملون تابوت العهد، اثْنَيْ عَشَرَ حَجَراً، وَيعَبِّرُوهَا مَعَهم ويضَعُوهَا فِي الْمَبِيتِ الَّذِي يبِيتُونَ فِيه تلك الليلة.
هذا يدلنا رمزياً على أنه وإن كنا في السماويات بالروح، نتذوق هذه الأشياء التي ستكون لنا بامتلاء في السماء نفسها، عندما تصير لنا أجساد ممجدة، ونكون مع الرب ومثله، فإن الله سوف لن يسمح لنا بأن ننسى أين هو أساس بركتنا.

أذكر أني صعدتُ إلى قمة ناطحة سحاب في نيويورك قبل سنوات. عندما وصلنا إلى ذلك الارتفاع الشاهق، قلتُ لأصدقائي وأنا أنظر من فوق الشرفة، "لم أشعر يوماً بضرورة أساس متين كما أشعر اليوم". فردوا قائلين: "إن أساس هذا البناء مؤلف من أربعة طوابق تحت مستوى الشارع، مدعمٌ بالفولاذ الصلب، ومتين للغاية".

وهكذا هو الحال عندما نرتفع إلى مستويات الخبرة المسيحية على الجانب الآخر، وسوف لن يسمح لنا روح الله بأن ننسى الموت الكفاري التعويضي لربنا، الذي هو الأساس الذي قامت عليه كل بركتنا.

ألا نجد محاكاة رائعة لذلك عندما نقرأ الوصف عن أورشليم السماوية، رمز الكنيسة في الألفية؟ "«هَلُمَّ فَأُرِيَكَ الْعَرُوسَ امْرَأَةَ الْحَمَلِ»". وفي ذلك المكان البهي الرائع الجمال، كما نقرأ، "أَنَّ الرَّبَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ وَالْحَمَلُ هَيْكَلُهَا"، و"َالْحَمَلُ سِرَاجُهَا"، و"عَرْشُ اللهِ وَالْحَمَلِ يَكُونُ فِيهَا" (رؤيا ٢١: ٩، ٢٢، ٢٣؛ ٢٢: ١، ٣). ويتحدث الحمل عن ذبيحة: "«هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ»" (يوحنا ١: ٢٩).
سوف لن ننسى أن ربنا يسوع هو حمل الله إلى الأبد.

وأخيراً أخذ يشوع اثْنَيْ عَشَرَ حَجَراً مِنْ وَسَطِ الأُرْدُنِّ مِنْ مَوْقِفِ أَرْجُلِ الْكَهَنَةِ رَاسِخَةً بينما عبر الشعب. وفي هذا رمز إلى حقيقة أن كل ما فينا بالجسد قد ذهب بموت المسيح، ولذلك فإن ما سيكون أمامنا هو خليقة جديدة وحياة جديدة.

الفصل ٢٥

ملكي صادق، رمز المسيح ككاهن وملك على عرشه

(اقرأ تكوين ١٤: ١٧- ٢٤؛ المزمور ١١٠؛ عبرانيين ٧)

ارتأينا أن نضيف هذا الفصل، لأن هناك ارتباط بين ربنا ككاهن على رتبة ملكي صادق، وحمله كهنوته على رتبة هارون، كما توضح لنا الرسالة إلى العبرانيين.

ظهر جدلٌ كثير حول هذه الشخصية الغامضة، ملكي صادق. يعتقد البعض أنه كان المسيح نفسه، ولكن هذا لا يُعقل، لأنه كان "مشبّهاً بابن الله". والبعض يعتبره إنساناً حقيقياً يشير تاريخه رمزياً إلى ربنا. وآخرون يعتقدون أنه كان مخلوقاً خاصاً من الله، ولكن هذا لا يمكن أن يكون، لأن مخلوقات الله الخاصة يجب أن يكون لها بداية في الزمان. ويعتقد البعض الآخر أنه كان رجلاً، وُلِدَ وعاش ومات، ولكن دون أن يكون هناك تسجيل لولادته أو موته، ونحن نؤيد هذا الرأي.

إن أفضل طريق هي أن نتمحص في نصوص الكتاب المقدس التي تدور حول هذا الموضوع، نترك لهذه النصوص أن تحكي عن ذاتها.

في (تكوين ١٤) نقرأ أن أربعة ملوك شنوا حرباً على خمسة ملوك من جيرانهم قرب البحر الميت. هؤلاء الملوك الأربعة انتصروا على الخمسة، ومع أخذهم لأملاك سدوم وعمورة أسروا لوطاً، ابن أخي أبرام، الذي كان يعيش في سدوم، واستولوا على أملاكه، ومضوا. فَلَمَّا سَمِعَ أبْرَامُ هذا الخبر، تصرف في الحال، فسَلّحَ غِلْمَانَهُ الْمُتَمَرِّنِينَ وِلْدَانَ بَيْتِهِ، وتبع الملوك إلى دان في أقصى شمال البلاد، وَانْقَسَمَ عَلَيْهِمْ لَيْلاً، وَاسْتَرْجَعَ لُوطاً أخَاهُ أيْضاً وَأمْلاكَهُ وَالنِّسَاءَ أيْضاً وَالشَّعْبَ.

ولدى رجوعه التقاه َمَلْكِي صَادِقُ وأخْرَجَ خُبْزاً وَخَمْراً، وباركه قائلاً: "«مُبَارَكٌ أبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، وَمُبَارَكٌ اللهُ الْعَلِيُّ الَّذِي أسْلَمَ أعْدَاءَكَ فِي يَدِكَ»" (تكوين ١٤: ١٩، ٢٠). هكذا ظهر ملكي صادق في المشهد بشكل مفاجيء وغامض. ويخبرنا الأصحاح ٧ من الرسالة إلى العبرانيين ثلاثة أشياء عنه: كان اسمه ملك البرّ، وكان ملك سَالِيمَ، الذي يعني ملك السلام، وفوق ذلك كان كاهناً لله العلي. لقد كان ملكاً وكاهناً. تأملوا في هذه الوظيفة المزدوجة.

أعطاه أبرام عُشْراً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وكان هذا ما يعادل البيعة يدفعها تابع لملكه. والأعشار تعني أن الشخص المُعطى له الحق في الكل، ولكنه كرماً منه وتعطفاً يرضى بما نعطيه إياه. الملك داود، في أيامه، هتف شاكراً من أعماق قلبه قائلاً: "لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ!" (أخبار الأيام الأول ٢٩: ١٤).  إن كل شيء يأتي من الله مئة بالمئة، حتى ولو أعطيناه العُشر.

بهذا يظهر ملكي صادق شخصاً رائعاً إذ يقدم له أبرام بيعةً. لقد أعطى أبرامَ خبزاً وخمراً. ولعل هذا يشير إلى ربنا عندما سيعنى بشعب إسرائيل في الأيام الأخيرة. إن هذه الحرب التي يرد ذكرها والتي قامت بين أربعة ملوك ضد خمسة ملوك آخرين هي رمز إلى تلك المعركة التي ستقوم فيها أمة على أمة في الأيام الأخيرة وعندها سيتدخل الرب، مثل أبرام، ليخلص الشعب الذي حافظ على الإيمان، وسيوزّع خبزاً وخمراً لهم وللعالم. وسيكون هناك عالمٌ جديد، ولكن هذا لن يحدث إلى أن يأتي أمير السلام ليحكم العالم، ويصبح ملك سلام حقيقياً. إن الخبز يرمز إلى القوت، والخمر يرمز إلى الفرح. والقوت والخمر في ظل هكذا ملك سيعني الألفية.

لقد رفض اليهودُ المسيحَ الذي كانوا ينتظرونه. لم يدركوا أن الذي نبذوه لم يكن سوى المسيا. وها هو قد دخل إلى قدس الأقداس، وإلى أن يخرج، سيتوجب عليهم انتظاره لينالوا منه بركة. عندما سيظهر سيكون مثل ملكي صادق. يا لذاك اليوم الذي سيظهر فيه المسيح للعالم البائس الملطخ بالإثم، الغارق في لجة الحزن والخطيئة.

ويخبرنا بولس الرسول في الأصحاح السابع من رسالته إلى العبرانيين أن المسيح ما كان ليكون كاهناً على رتبة هارون، لأن تلك الرتبة قد ذهبت إلى سبط لاوي، بينما انحدر ربنا من سبط يهوذا. ولكن أوليس ربنا كاهناً؟ بلى، إنه كاهنٌ على رتبة ملكي صادق. فقد جاء ملكاً من نسل داود الملك، وهو يمثل الشعب ككاهن. الرب يسوع هو كاهن وملك متربعٌ على عرشه.

ثم يجادل الرسول بولس قائلاً أن ملكي صادق كان أعظم من لاوي. لأن أبرام عندما أعطى العشر، كان لاوي لا يزال في صلب أبيه، كما يقول الكتاب المقدس. وإن تلقي ملكي صادق هذه البيعة من أبرام، يدل على لأن أبرام يعترف بعظمته، وبالتالي فإن لاوي، ذريته، يتوجب عليه أن يقدم بيعة مشابهة.

إضافةً إلى ذلك، لم يكن الكمال موجوداً في الكهنوت اللاوي، فرئيس كهنتهم "قد صَارَ بِحَسَبِ نَامُوسِ وَصِيَّةٍ جَسَدِيَّةٍ" ولذلك كان لا بد من تغيير الكهنوت، فعَلَى شِبْهِ مَلْكِي صَادِقَ يَقُومُ كَاهِنٌ آخَرُ، وذاك يصيرُ "بِحَسَبِ قُوَّةِ حَيَاةٍ لاَ تَزُولُ" (عبرانيين ٧: ١٦).

لاحظ أنه ليس هناك رئيس كهنة في رتبة ملكي صادق، لأنه كان هناك كاهن واحد فقط في ذلك النظام الكهنوتي. إن شخصية ملكي صادق الغامضة تظهر فجأة في (تكوين ١٤) إلى المشهد، بسرعة دون أن يلحظه أحد، إذ ليس هناك تسجيل لميلاده أو لموته. ولذلك يجد المرموز له في شخص ابن الله المبارك، ربنا يسوع المسيح. وباختصار يعادل وصف ملكي صادق في (تكوين ١٤)، نجد أنه كان الرمز الأكثر بروزاً لربنا يسوع على كل العصور. وفي (عبرانيين ٧) نجد تفاصيل عن كل ما جاء في (تكوين ١٤).

فأولاً، لقد كان كاهن الله العلي. وهذا لقب لربنا في الألفية، ويشير إلى الزمان الذي سيأخذ فيه مكانه اللائق به ككاهن وملك على عرشه مع شعب إسرائيل، وسيغطي عرشه وكهنوته العالم بأسره، "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَفْضُهُمْ هُوَ مُصَالَحَةَ الْعَالَمِ فَمَاذَا يَكُونُ اقْتِبَالُهُمْ إِلاَّ حَيَاةً مِنَ الأَمْوَاتِ؟" (رومية ١١: ١٥). "«حِينَ قَسَمَ العَلِيُّ لِلأُمَمِ حِينَ فَرَّقَ بَنِي آدَمَ نَصَبَ تُخُوماً لِشُعُوبٍ حَسَبَ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيل" (تثنية ٣٢: ٨). "وَيَعْلَمُوا أَنَّكَ اسْمُكَ يَهْوَهُ وَحْدَكَ الْعَلِيُّ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ" (مزمور ٨٣: ١٨). عندما يأخذ الرب مكانه عَلَى كُلِّ الأَرْضِ، فهذا يعني الألفية.

يأتي هذا الاستنتاج من التمعن في الاسم، ملكي صادق، الذي يعني "ملك البر"، وفي لقبه "ملك ساليم" الذي يعني  "ملك السلام". هذا رابط كبير بينهما، وسنراه في الشخص المرموز إليه، ألا وهو ربنا يسوع المسيح، في المستقبل وبكامل معناه. هذا العالم هو في حاجة ماسة إلى البر والسلام. لو أن كل مشكلة قد حُلّت بالبر والعدل والسلام، فكم ليكون جميلاً هذا العالم، عالمٌ لطالما حلم الشعراء به، وتغنوا به، وسعى الساسةُ إليه، ولكن حتى الآن أخفقوا في تحقيقه، لأن الشخص الرئيسي، وهو المسيح، قد أُبْقِيَ خارجاً. ما نفع الإطار والبرمق في العجلة إذا بقي المحور خارجاً. لا يمكن أن تكون هناك عجلة بدون محور، ولا يمكن أن يكون هناك "عالم جديد" بدون المسيح. لا يمكن أن يكون هناك دائرة بدون مركز.

ونأتي الآن إلى أساس هذه العناوين. كيف يمكن تحقيق البر بدون سلام؟ فهذا مستحيل عند الرب. الحمد لله، فقد قام يسوع بتسوية كل مسألة الخطيئة بحق وبعدل على صليب الجلجثة عندما جُعل كفارة عن الخطية. والآن يمكن إعلان السلام، وإذ يشترك المؤمنون جميعاً في هذا البر والسلام، فسيحل هذان كلاهما في هذه الأرض الحزينة يوماً، وسيعم الفرح والسرور.

"سوف يلقي بسمة على الخليقة كلها،
ويمسح دمعة الحزن عنهم"

والآن ننتقل إلى القول التالي البالغ الأهمية. إذ يقول بولس عن ملكي صادق أنه "بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ. هَذَا يَبْقَى كَاهِناً إِلَى الأَبَدِ" (عبرانيين ٧: ٣).

لقد كان آدم بدون أب وأم، وبدون سلف، ولكن كان له بداية في الزمان ونهاية في الحياة، وإذاً كان له سجل حياتي. ولم يكن الكهنة يستطيعون ادعاء الحق في الكهنوت على رتبة هارون ما لم يثبتوا أن هارون كان سلفاً لهم، وما لم يثبتوا أن والدهم ووالدتهم هما أيضاً من نسل هارون. وإذا أخذنا الأمر بالمعنى الحرفي، يمكن أن نشير إلى المسيح في ناسوته، فكإنسان كان له أم، وكانت له بداية في الزمان وكان لحياته نهاية. ولذلك يشار إلى ربنا كابن لله، وبمعنى آخر الابن السرمدي. ما كان يمكن أن نقول، إلا عن ذاك الشخص ذي اللاهوت، بأنه ليس له بداية أو نهاية لحياته. وهذا يشترط الألوهية التي لابد منها لقول ذلك. ليس لدينا شك في ذلك، ولكن ملكي صادق قد وُلِد، وعاش، ومات، ومن الواضح أنه كان له خط زمني خلال تاريخ العالم رغم أننا لا نجد في الكتاب المقدس سجلاً له. كل ما نعرف عنه أنه كان موجوداً وحسب. وهذه أعظم شهادة تُعطى له وهي أنه عاش.

ويقول الكتاب عنه "هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ". وإذاً ابن الله كان موجوداً قبل أن يُجعل ملكي صادق على شبهه. إن هذا برهان كبير على أن الابن سرمدي في وحدة الله المثلث الأقانيم - الآب، والابن، والروح القدس - الإله الواحد. ورغم أن هذه الحقيقة غامضة ولكنها سرٌّ مبارك يملأ قلب المؤمن بروح العبادة والخشية.

إن ربنا يسلك في الوقت الحاضر بوظائفه الهارونية لأجل شعبه، وفي هذا يكون هارون رمزاً له كما رأينا مراراً وتكراراً في الفصول السابقة. ولكن سيأتي يوم على شعب إسرائيل والعالم عندما سيخرج على رتبة ملكي صادق وهو سيكون ملكي صادق الوحيد الأوحد الذي سيبارك الشعب والعالم برمته. وهذا اليوم لن يكون بعيداً.

إن زكريا يقدم نبوءة قوية عن الرب يسوع، فيقول: "هُوَذَا الرَّجُلُ [الْغُصْنُ] اسْمُهُ. وَمِنْ مَكَانِهِ يَنْبُتُ وَيَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ. فَهُوَ يَبْنِي هَيْكَلَ الرَّبِّ وَهُوَ يَحْمِلُ الْجَلاَلَ وَيَجْلِسُ وَيَتَسَلَّطُ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَيَكُونُ كَاهِناً عَلَى كُرْسِيِّهِ وَتَكُونُ مَشُورَةُ السَّلاَمِ بَيْنَهُمَا كِلَيْهِمَا" (زكريا ٦: ١٢، ١٣).

نلاحظ إذاً أن الرب سيكون: —

ملكاً على عرشه.

كاهناً على عرشه.

الملكية والكهنوت سيجتمعان في شخص واحد مبارك. بالطبع كان لابد لربنا أن يتأنس كي يموت موتاً تعويضياً كفارياً على صليب الجلجثة. ولكن في النهاية سيبتهج العالم بمجيء ابن الله السرمدي على رتبة ملكي صادق، كاهناً وملكاً، منبئاً بالسلام والوفرة والفرح، جالباً معه الخبز والخمر، الخبز للقوت والخمر للفرح. ثم يكون العالم الحقيقي الجديد.

الفصل ٢٦

أعياد الرب السبعة

(اقرأ لاويين ٣٢)

لقد قيل أنه ما لم يكن المسيحي قادراً على تفسير مواسم أعياد الرب السبعة، وأمثال ملكوت السموات السبعة، والرسائل السبعة الموجهة إلى كنائس آسيا في (رؤيا ٢، ٣) فإن معرفته المسيحية لا تكون بعد قد أخذت أبعادها.

لا شك أن هذه السبعات الثلاث تغطي حقائق كثيرة جداً. وإن موضوعنا في هذا الفصل هو أن نلقي بعض الضوء على أعياد الرب السبعة.

يبدأ (لاويين ٢٣) بالتأكيد على أن على الإنسان أن يعمل ستة أيام في الأسبوع، وأنه في اليوم السابع - أي السبت - يجب أن يستريح، ولكن الآية ٤ من هذا الإصحاح تؤكد على ما سيليها، وتقول: "هَذِهِ مَوَاسِمُ الرَّبِّ المقدسة". ومن ذلك الحين تحددت سبعة أعياد. وهي: —

  1. فصح الرب.
  2. عِيدُ الْفَطِيرِ لِلرَّبِّ.
  3. عيد أوَّلِ الحَصاد.
  4. عيد الخمسين.
  5. عيد هُتَافِ الْبُوقِ.
  6. يوم الكفارة العظيم.
  7. عيد المظال.

بعض المفسرين يعتقدون أن السبت هو أول الأعياد السبعة، ويعتبرون أن عيد الفصح وعيد الْفَطِير هما عيدٌ واحد، ومع ذلك يبقى عدد أعياد الرب سبعة.

ولكن عند النظر إلى بداية الإصحاح ٢٣ من سفر اللاويين نجد أن هذا العرض لا مبرر له. تؤكد الآية ٣ على موضوع السبت، يوم الراحة. ولكن الآية ٣ تقول "هذه مواسم الرب المقدسة" ثم يبدأ تعداد مواسم أعياد الرب السبعة.

لماذا يتم التركيز على موضوع السبت بالدرجة الأولى؟ الجواب هو أن السبت يرمز إلى نهاية تدبير الله بالنعمة على هذه الأرض، وحتى دخوله إلى راحته كان في ذهنه من قبل، وذلك إلى جانب أهدافه الأخرى في منح نعمته ومحبته للبشر. إن كلمة السبت، وفي العبرية (shabbath )، تعني "الانقطاع عن العمل". "لأَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ عَنِ السَّابِعِ: «وَاسْتَرَاحَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ»" (عبرانيين٤: ٤). فيوم السبت يرمز إلى أبدية الاستقرار التي عند الله عندما سيستقر في كامل محبته، عندما يسكن البر. "وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا الْبِرُّ" (٢ بطرس ٣: ١٣).

باختصار، لدينا هنا مثال يضع لنا الله فيه صورة عن انقضاء الدهر، ثم يعطينا تفاصيل عن أعياد الرب كرمز يدل على كيفية عمله بالنعمة مع شعب إسرائيل والكنيسة وصولاً إلى هدفه في المجد والراحة الأبدية.

إضافة إلى ذلك، نجد أن يوم السبت لا يُذكر أبداً على أنه عيد لوحده، رغم أن هناك أيام احتفال تحدث يوم سبت. وأخيراً فإن السبت كان يحدث أسبوعياً، بينما الأعياد السبعة للرب فكانت أعياداً سنوية. من غير المنطقي إذاً أن تتم المساواة بين احتفال يحدث اثنتين وخمسين مرة في السنة، واحتفالات أخرى تحدث مرة في السنة. إن الآية ٤ تؤكد هذا القول: "هذه هي مواسم الرب المقدسة".

كان يتم الاحتفال بأعياد الرب السبعة هذه على النحو التالي: —

فصح الرب: — في اليوم ١٤ من الشهر الأول.
عِيدُ الْفَطِيرِ لِلرَّبِّ: — في الأيام ١٥ – ٢١ من الشهر الأول.
عيد أوَّلِ الحَصاد: (زمن الحصاد): — في اليوم ١٦ من الشهر الأول.
عيد الخمسين: بعد ١٥ يوماً: — في اليوم ١٦ من الشهر الثالث.
عيد هُتَافِ الْبُوقِ: — في اليوم الأول من الشهر السابع.
يوم الكفارة العظيم: — في اليوم ١٠ من الشهر السابع.
عيد المظال: — في اليوم ١٥ من الشهر السابع

وهذا يندرج في ثلاثة أقسام. أول قسمين يدلان على طريقة الله في التعامل مع الإنسان، وذلك على أساس النعمة، سواء في زمن العهد القديم أم في من العهد الجديد، سواء كان المؤمن يهودياً أو أممياً.

أما العيدان الثالث والرابع فيشيران إلى هذا الدهر الحاضر، والذي تميزه كنيسة الله.

العيد الخامس والسادس والسابع يدلان على معاملة الله لليهود بعد اختطاف الكنيسة إلى المجد.

وبهذا نصل إلى نهاية معاملة الله بالنعمة، ونأتي إلى الحالة الأبدية المثلثة الجوانب، تلك التي يرمز إليه السبت.

دعونا ندرس هذه الأعياد بالتفصيل.

عيد الفصح (عبور الرب)

كان الفصح هو في بداية تعامل الله مع إسرائيل بأن أقام علاقة بينه وبينهم. وكان يجب لهذا الشعب أن يكون شعباً معتقاً أولاً. وكان هذا رمزياً. ولكن لا يخفى علينا ما يرمز إليه ذلك. ونقرأ: "لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا" (١ كو ٥: ٧). فذبيحة المسيح فعلية وفعالة لأجل الخاطئ الذي يؤمن.

لقد تم شرح ليلة العبور في مصر مطولاً، فلا حاجة بنا هنا لأن نستفيض في ذلك. ولكم يُسَرُّ القارئ للكتاب المقدس عندما يصل إلى هذه الآية "وَيَكُونُ لَكُمُ الدَّمُ عَلامَةً عَلَى الْبُيُوتِ الَّتِي أنْتُمْ فِيهَا فَأرَى الدَّمَ وَأعْبُرُ عَنْكُمْ فَلا يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلاكِ حِينَ أضْرِبُ أرْضَ مِصْرَ" (خروج ١٢: ١٣). فالله يرى الدم، رمزاً لدم المسيح الثمين، وهذا يرضيه من جهة مطالب عدالته وقداسته، وذاك الدم نفسه يُعطى للمؤمن كعلامة لأجل اليقين. ماذا أيضاً؟ كما تقول الترنيمة: —

>

"لقد رضي الله عن يسوع،
وأنا سررت به أيضاً"

إن كان الله راضياً، فالمؤمن أيضاً سيكون هكذا.

إن العلاقة مع الله على أساس الانعتاق والفداء الذي هو من تدبير الله بالنعمة، نجدها مصورة رمزياً في حادثة الفصح (عبور الرب) إذ نقرأ: "«هَذَا الشَّهْرُ يَكُونُ لَكُمْ رَأسَ الشُّهُورِ. هُوَ لَكُمْ أوَّلُ شُهُورِ السَّنَةِ" (خروج ١٢: ٢). لقد كان بداية الروزنامة اليهودية، وكانت شهادة رمزياً إلى أن الله أمكنه أن يبدأ العلاقة مع شعبه على أساس الانعتاق.

عيد الفطير

إن كان دم الفصح قد أعطى الله الحق في افتداء شعبه، وإخراجه له بيد قوية وممتدة من أرض العبودية، فإن عيد الفطير يدل على وجوب وجود ملاءمة أخلاقية من جانب الشعب، إذا ما كانوا يريدون أن يكونوا سعداء في العلاقة مع الله. فينبغي أن يكونوا شعباً مقدساً.

هذا العيد الذي انبثق عن الفصح وتلاه مباشرة، سنرى أنه كان مختلفاً عنه. ففي الفصح الله هو الذي كان يتصرف رمزياً بنعمة في علاقته مع شعبه على أساس الفداء. أما عيد الفطير فكان الاستجابة على ذلك التي تدل على أن الله يتوقع من شعبه سلوكاً عملياً على الأرض. كان يجب الإبقاء على الخمير خارج مساكنهم؛ أي أن الشر يجب أن يكون مرفوضاً من قبلهم.

في العهد الجديد نجد ارتباطاً بين العيدين، حيث نجد الآية تقول: "إِذاً نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ" (١ كو ٥: ٧، ٨).

إن المسيح هو فصحنا. ونحن نأتي إلى الله على أساس الفداء، والقداسة تصيب من يقيمون العلاقة مع الله. أما الشر، الذي يرمز إليه الخمير، فينبغي أن ينتفي من حياتنا. "اِتْبَعُوا .... َالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ" (عبرانيين ١٢: ١٤). هذه الكلمات موجهة إلى المؤمنين، لكل واحد منا.

إن عيد الفطير، والذي يمتد على مدى سبعة أيام، يرمز إلى مسؤوليتنا الكاملة هنا على الأرض، واليوم الثامن يقودنا إلى ذلك اليوم الذي لن يكون فيه مساء أو صباح، ألا وهو سبت راحة الله، الحالة الأبدية عندما سيكون الله الكل في الكل.

عيد الحصاد

في الآية ٩ من هذا الإصحاح، وبجملة "وقال الرب لموسى" الافتتاحية، يبدأ قسم جديد، فنتعرف على عيد الحصاد وعيد الخمسين.

يتميز هذا العيدان بأهمية خاصة تظهر في القول: "فِي غَدِ السَّبْتِ" (الآية ١١) و "إِلَى غَدِ السَّبْتِ السَّابِعِ" (الآية ١٦). إن السبت هو اليوم العظيم المرتبط باليهودية. لقد كانوا معتادين في كل أعيادهم على التمحور حول يوم السبت بشكل أو بآخر. ما هو المقصود بهذا الانطلاق الجديد، "اليوم الذي يلي السبت"؟ الجواب هو أن "اليوم الذي يلي السبت" هو "أول أيام الأسبوع"، المرتبط بالمسيحية. حتى هذه الساعة يحتفل اليهود بيوم السبت في اليوم السابع من الأسبوع، بينما "وَفِي أَوَّلِ الْأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ التَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزاً خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْغَدِ وَأَطَالَ الْكَلاَمَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ" (أعمال ٢٠: ٧). على عادتهم في عهد الرسل، وهذه العادة برحمة الله قد أجاز لهم بها حتى الوقت الحاضر هذا.

باختصار، قد نتساءل، ما الحدث العظيم الذي حدث في أول يوم في الأسبوع؟ والجواب هو أن أعظم وأروع لحظة في تاريخ البشرية كانت عندما قام ربنا يسوع من بين الأموات كفاتح منتصر على الخطيئة والموت والجحيم. فلا عجب أن اليوم الأول من الأسبوع كان يُدعى يوم الرب. ويكتب الرسول يوحنا: "كُنْتُ فِي الرُّوحِ فِي يَوْمِ الرَّبِّ" (رؤيا ١: ١٠). لقد كان يوماً خاصاً مميزاً جداً.

إن رفض اليهود للمسيح قد نقلنا إلى عهد جديد، ألا وهو في المسيحية. إن اليهودي الذي يهتدي إلى الإيمان المسيحي اليوم، يتخلى عن اليهودية ديانةً، ويعتنق المسيحية. وإلى أن تختطف الكنيسة إلى المجد سيبقى صحيحاً "أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّاً لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ" (رومية ١١: ٢٥).

وهكذا فإن هذين العيدين، عيد الحصاد وعيد الخمسين، كانا يطرحان تساؤلات كثيرة في زمن العهد القديم، ولكن عندما نأتي إلى العهد الجديد نجد المفتاح لفهم كل ذلك بشكل واضح للغاية، كما سنرى.

إن الحصاد في الطبيعة يُستخدم للدلالة رمزياً إلى الحصاد بالنعمة. وإن ربنا، وعندما جاء إليه أهل السامرة بعد مناداة المرأة لهم قائلة: "«هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟»" (يوحنا ٤: ٢٩)، قال (ربنا) لتلاميذه: "أمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً" (يوحنا ٤: ٣٥، ٣٦).

عندما كان يحين موعد قطف الحصاد عند اليهود، كانوا يأتُونَ بِحُزْمَةِ أوَّلِ حَصِيدِهمْ إلَى الْكَاهِنِ. وهذا كان عليه أن يُرَدِّد الْحُزْمَةَ أمَامَ الرَّبِّ لِلرِّضَا عَنْهُمْ، "فِي غَدِ السَّبْتِ".

هذا رمز واضح إلى المسيح في قيامته. فقد رقد في القبر طوال يوم السبت، ليظهر لهم بالتأكيد أنه تلك الآيات لا تدل على بركة للناموس أو لشعب إسرائيل. ففي الأصحاح ١٥ من رسالة كورنثوس الأولى نقرأ عن القيامة العظيمة: "وَلَكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ" (الآية ٢٠). وفي نفس الأصحاح نقرأ: "كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ. وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. الْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ ثُمَّ الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ" (الآيات ٢٢، ٢٣) وهكذا نجد أن هذا الأصحاح من العهد الجديد الذي يتحدث عن القيامة العظيمة يرتبط بشكل واضح مع (لاويين ٢٣).

عندما يقول "فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ"، فهذا لا يعني، كما يعتقد الكونيون، أن كل الجنس البشري سينال الخلاص في نهاية الأمر. فليس كل البشر "في المسيح". بما أننا مولودون في هذا العالم، نتاج ذرية ساقطة، فإننا جميعاً "في آدم". وحتى نكون "في المسيح" لابد أن نكون قد خلصنا، وآمنّا بالرب يسوع مخلصاً. يمكن للمسيحيين أن يعودوا في الزمان إلى تلك اللحظة من حياتهم حين وضعوا إيمانهم في الرب فانتقلوا من الموت إلى الحياة. في رسالته إلى الكنيسة في رومية، يوجه بولس تحية فيقول: "سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَيُونِيَاسَ نَسِيبَيَّ الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مَشْهُورَانِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي" (رومية ١٦: ٧)، وبذلك يُظهر أن أقرباءه قد اهتدوا قبل أن يكون هو قد اهتدى إلى المسيح.

هناك نقطة أخرى بالغة الأهمية يجب ملاحظتها في تلك الكلمة ذاتها "بواكير الثمار" (أو "أوَّلِ الحَصِيدِ"). فهي تدل رمزياً إلى أنها نموذج عن حصاد النعمة الكلي، الذي يشكل جميع المؤمنين جزءاً منه. كم هي بركتنا مرتبطة بتأكيد قيامة المسيح، "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْتَى لاَ يَقُومُونَ فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ" (١ كو ١٥: ١٧).

بهذا المعنى نجد في (رومية ٨: ١١) مثالاً توضيحياً آخر. فنقرأ: "وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ". لاحظ هذا الارتباط العجيب: فالمسيح أُقيم بقوة الروح القدس، وهذا الروح القدس نفسُه أرسله يسوع الصاعد بالمجد ليسكن في كل مؤمن كضمان على أنه كما قام هو فإن القديسين المؤمنين على الأرض، الذين سيكونون أحياء عندما يأتي الرب، سيُحيون بأجسادهم الفانية بقوة ذلك الروح القدس نفسه. وإن الروح القدس يُعطى كختم أو ضمان على هذا.لقد أقيم المسيح نيابياً كما أنه مات نيابياً، وقيامته حملت معها الوعد أو الختم بالقيامة لكل شعب الله، الذين رقدوا في المسيح يسوع، أو الأحياء عند مجيئه الذين سيُقامون في أجسادهم البالية متحولين إلى أجساد ممجدة كمثل جسد المسيح نفسه.

ومع تَرْدِيدِهم حُزْمَةَ أوَّلِ الحَصِيدِ كان عليهم أن يعْمَلُوا خَرُوفاً صَحِيحاً حَوْلِيّاً مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ- وهذا إنما كان يدل على رضى الله عن ذبيحة المسيح راحة السرور للرب.

لاحظ أنه ليس هناك ذبيحة خطية، كما كان عليه الحال مع قربان التقدمة الجديد كما سنرى. ما كان يمكن أن يكون هناك ذبيحة خطية فيما يخص ربنا شخصياً.

كانت تقدمة قربان تُقرب أيضاً للرب، وتترافق معها تقدمة شرا، رمزاً إلى سرور الله بحياة ربنا يسوع المكرسة كلياً لله حتى الموت، وإلى الفرح- تقدمة الشراب- المرتبط بها. ونجد أن الرب يؤكد عليهم ألا يأكلوا خُبْزاً وَفَرِيكاً وَسَوِيقاً إِلَى هَذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِقُرْبَانِ إِلَهِهُمْ، أي أنه ما من شيء يمكن التمتع به روحياً إلى أن يُوضع الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، ألا وهو موت المسيح، وإلى أن نبدأ معه.

عيد الخمسين

كان يجب الاحتفال بعيد الخمسين في "غَدِ السَّبْتِ السَّابِعِ"، بمعناه الخاص في أنه "أول أيام الأسبوع"، والذي هو اليوم العظيم بالنسبة للمسيحيين، كما كان السبتُ بالنسبة لليهود. وإضافة إلى ذلك، كان ينبغي أن يُقام في اليوم الخمسين بعد أن يتم ترَديد حُزْمَة أوَّلِ الحَصِيدِ أمَامَ الرَّبِّ.

ما الحدث العظيم الذي جرى بعد خمسين يوماً من قيامة المسيح؟ إنه الكلمة نفسها، العنصرة (والكلمة اليونانية "العنصرة" تعني "الخمسين" أيضاً)، وهذه تشير إلى ذلك الحدث العظيم الذي يصفه سفر أعمال الرسل (٢: ١- ١٣). إننا نعلم أن ربنا قد مكث أربعين يوماً على هذه الأرض بعد قيامته، وقبل صعوده. وكان على التلاميذ أن يمكثوا في أورشليم "إِلَى أَنْ يُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي" (لوقا ٢٤: ٤٩). "وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَة، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا" (أعمال ٢: ١- ٤).

ففي يوم العنصرة، "غَدِ السَّبْتِ السَّابِعِ" ، "أول أيام الأسبوع"، وبعد خمسين يوماً من قيامة ربنا من بين الأموات، حدث هذا الأمر العظيم، ألا وهو منح الروح القدس ليكون في هذا العالم كما لم يسبق له أن كان من قبل. وسُكناه في كل مؤمن، جعل من هذا اليوم اليومَ العظيم لولادة الكنيسة. ففي ذلك اليوم تأسست الكنيسة. والسر الخفي منذ الدهور بزغ في رؤية رأس (الكنيسة) المنتصر في السماء، ألا وهو ربنا المسيح يسوع، وسكنى الروح القدس في المؤمنين على الأرض، والذي به يرتبط كلٌ منهم بالرأس السماوي في الأعالي، ومع بعضهم البعض كأعضاء في جسده الواحد على الأرض. "جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ" (أفسس ٤: ٤). "أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ" (أفسس ٥: ٢٥- ٢٧).

ومن هنا يمكننا أن نرى بوضوح أن "التَقْدِمَة الجَدِيدَة" هي رمز لكنيسة الله على الأرض. في الواقع ليس هناك إعلان واضحٌ صريح عن الكنيسة على الأرض في العهد القديم، كمثل هذا الذي نجده في (لاويين ٢٣). وفي نفس الوقت، إن العلاقة بين رأسها الذي في السماء وأعضاء الجسد الواحد على الأرض، لا نجد تلميحاً إليها في العهد القديم. وهذا يشكل "السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ وَمُنْذُ الأَجْيَالِ، لَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ" (كولوسي ١: ٢٦).

التَقْدِمَة الجَدِيدَة

كانت التَقْدِمَة الجَدِيدَة عبارة عن رَغِيفَيْنِ. وهذان الرغيفان يدلان على كيفية ارتباط المؤمنين من اليهود والأمميين معاً في هذا الاتحاد الجديد المبارك. في الواقع ما كان لأمر أقل من هذه الحقيقة الرائعة أن يجعل اليهودي ينسى أنه يهودي متديّنٌ، والأممي ينسى أنه أممي "بعيدٌٌ"، ويُشعرهما بالدفء والمجد الذي يتمتعان به لكونهما أعضاء في الكنيسة الجسد والتي يكون الرب رأسها، بعد أن تناسيا تلك الحقبة الطويلة من العداء بينهما. ما أحوج الكنيسة اليوم إلى تذكير بذلك. إن الكنيسة قد جمعت في حناياها مؤمنين من كل الأصقاع، واللغات، والمجتمعات، والألوان، والأعراق، وجعلتهم في شركة مسيحية واحدة مباركة. فما عاد يمكن حصر الكنيسة في بقعة محددة من الأرض، أو في جماعة مسيحية معينة دون غيرها.

وفي (أفسس ٢: ١٣، ١٤) نجد بولس يحذر من أي تفرقة أو تحزب. فنقرأ: "لَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ (يقصد الأمميين) صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ (اليهود والأمميين) وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ، أَيِ الْعَدَاوَةَ". كم هو جميل أن تسقط كل أسوار الانقسام تحت تدفق المحبة الإلهية، والمفعول الحي للروح القدس.

كان يجب أن يكون الرغيفان مِنْ دَقِيقٍ وَيُخْبَزَانِ خَمِيراً. لماذا الخمير؟ في (لاويين ٢: ١١) نجد القول: "«كُلُّ التَّقْدِمَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُونَهَا لِلرَّبِّ لا تُصْطَنَعُ خَمِيراً لأنَّ كُلَّ خَمِيرٍ وَكُلَّ عَسَلٍ لا تُوقِدُوا مِنْهُمَا وَقُوداً لِلرَّبِّ". يبدو إذاً أن التَقْدِمَة الجَدِيدَة تتناقض مع التعليم الوارد هنا القاضي بعدم حرق ذبيحة فيها خمير. صحيح أنه في كل الذبائح التي ترمز إلى المسيح شخصياً دون استثناء لا يجوز أن يكون فيها خمير. فمن غير المقبول على الإطلاق في أن يكون هناك خمير، أي شر، في أي شيء يخص الرب.

ولكن لدينا هنا "تَقْدِمَة جَدِيدَة"، وليس قربان تقدمة (لاويين ٢) ترمز إلى المسيح شخصياً، بل تقدمة ترمز إلى الكنيسة التي نشأت عن موت المسيح. إن التَقْدِمَة الجَدِيدَة، على كل حال، لا ترمز أبداً إلى المسيح شخصياً، بل إلى الكنيسة المؤلفة من يهود ويونانيين، كانوا خطاة قبل أن جاؤوا إلى البركة، والذين لا يزال ممكناً لهم، ولو كانوا من القديسين، أن يخطأوا. وإن الخمير في التقدمة يدل على ذلك إقراراً. كون هذه التقدمة قد خُبِزَتْ في التنور يدل على أن مفعول الخمير سيتلاشى بالنار. إضافة إلى ذلك، وإلى جانب المحرقة وقربان التقدمة مصحوبةً بالسكيب (تقدمة الشراب)، كانت هناك أيضاً ذبيحة خطية وذبيحة سلامة. هذه التقدمة قد وُصِفَتْ بعناية كـ "تَقْدِمَة جَدِيدَة".

ونتذكر في عيد الحصاد، الذي يرمز إلى المسيح في قيامته، أنه كان هناك محرقة وقربان تقدمة مصحوبةً بالسكيب، ولكن بدون ذبيحة خطية. فأنى لذبيحة خطية أن يكون لها وجود حيث يشير العيد إلى ربنا شخصياً؟ ولكن في هذه الحالة، ذبيحة الخطية تتطابق مع الخمير في دقيق الأرغفة، وبذلك تشكل اعترافاً بما كانت عليه حالة القديسين قبل أن يهتدوا. فحتى في التَقْدِمَة الجَدِيدَة هذه كانت هذه الذبائح والتقدمات ترافقها، وبهذا تظهر الكنيسة كأنها تقدمة للرب، إذ أن المؤمنين يدنون بكل كفاءة وأهلية عمل المسيح، سواء في المحرقة أم في قربان التقدمة أم في ذبيحة الحطية أم في ذبيحة السلامة، وهذا الدنو يغطي كل هذه الرموز المتنوعة التي تشير إلى موت المسيح.

التقاط فضلات الحصاد (لاويين ٢٣: ٢٢)

من هذا المقطع الكتابي يشرق نور الوحي الإلهي بشكل واضح جليّ. فنقرأ: "وَعِنْدَمَا تَحْصُدُونَ حَصِيدَ أرْضِكُمْ لا تُكَمِّلْ زَوَايَا حَقْلِكَ فِي حَصَادِكَ وَلُقَاطَ حَصِيدِكَ لا تَلْتَقِطْ. لِلْمِسْكِينِ وَالْغَرِيبِ تَتْرُكُهُ. أنَا الرَّبُّ الَهُكُمْ»". لاحظوا أين تأتي هذه الآية. إنها تقع بين الاحتفال بالتقدمة الجديدة، رمز تدبير الله الحاضر بالنعمة فيما يخص كنيسته على الأرض، وعيد هُتَافِ الْبُوقِ. وهذا يستحضر إلى أذهاننا الأعياد الثلاثة الأخيرة التي تتعلق بتعامل الله مع اليهود، ومع خاصته، ومع الأمم، بعد أن تكون الكنيسة قد اختُطفت بالمجد.

هذه الآية تشير إلى الزمان عندما يكون قد انتهى جمع حصاد الدهر الحاضر بنتيجة الكرازة بإنجيل نعمة الله، فعندها سيتحرك الروح القدس لإيصال إنجيل الملكوت لليهود ليعدّهم لاستقبال الرب يسوع المسيح الملك. ومن خلال اليهود ستصل الرسالة إلى المسكين والغريب- وهم الأمم الوثنية في العالم- وذلك تمهيداً لذلك اليوم الذي سيملك فيه الرب يسوع على الكون لكونه رباً وابناً للإنسان و"لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَجْدِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ" (حبقوق ٢: ١٤).

ليس هناك تفاصيل كثيرة في الكتاب المقدس عن ذلك. ولعل أوضح هذه التفاصيل هي التي نجدها في متى ٢٥: ٣١- ٤٦). فهذا المقطع يخبرنا عن الرب يسوع المسيح، وقد اجتمعت الشعوب أمام كرسي مجده. فيفصل الخراف، أي أولئك الذين اقتبلوا إنجيل الملكوت، عن الجداء الذين رفضوا هذه الشهادة- فيرسل الخراف إلى الحياة الأبدية، أي إلى البركة الألفية، والجداء إلى العقاب الأبدي.

من اللافت للانتباه أن الخراف والجداء دائماً ما تختلط معاً في قطعان الرعاة، وإن فصل الخراف عن الجداء سيكون أمراً أساسياً للدلالة على ما سيحدث في الأيام الأخيرة.

عيد هُتَافِ الْبُوقِ

مع التقدمة الجديدة نغادر التدبير المسيحي، الذي رأينا رموزه في هذا الفصل الممتع. ومن جديد نجد الصيغة: "وقال الرب لموسى". ومن هنا سنبدأ برؤية الله وهو يهتم بشعبه العبراني، وسنرى كيف سيفي الله بوعوده التي قطعها لإبراهيم، وكيف سيرتب لمجيء المسيا، ابن الله وابن الإنسان. "اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكاً لَكَ" (المزمور ٢: ٨).

ونقرأ: " «قُلْ لِبَنِي اسْرَائِيلَ: فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ فِي أوَّلِ الشَّهْرِ يَكُونُ لَكُمْ عُطْلَةٌ تِذْكَارُ هُتَافِ الْبُوقِ مَحْفَلٌ مُقَدَّسٌ" (لاويين ٢٣: ٢٤). إن البوق، وهو آلة تصدر صوتاً عالياً، وكان له دور هام عند تنقلات الشعب من مكان لآخر، يرمز إلى تنبيه روح قدس الله للشعب بعد أن أمضوا فترات من النكران والعمى الروحي. ويقول بولس عنهم: "فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا هَذَا السِّرَّ لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ. أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّاً لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ" (رومية ١١: ٢٥). ويشير زكريا إلى أن الله سيرضى عن الشعب المؤمن الذي سيدرك خطيئته: "وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ النِّعْمَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ وَيَكُونُونَ فِي مَرَارَةٍ عَلَيْهِ كَمَنْ هُوَ فِي مَرَارَةٍ عَلَى بِكْرِهِ" (زكريا ١٢: ١٠).

من اللافت للانتباه أن عدداً كبيراً من اليهود كانوا مرات عديدة ينكصون من أجل عيد هُتَافِ الْبُوقِ، رغم أنهم في حالة عدم إيمان بنبوءات العهد القديم، وينتظرون موعد هُتَافِ الْبُوقِ رغم أنه ليس هناك مجال للخطأ فيه. ولكن كل ذلك يكون ظلاً للاحتفال العتيد.

يوم الكفارة العظيم

يوم الكفارة يأتي بعد عيد هتاف البوق بعشرة أيام. عندما سيبتهل بنو إسرائيل إلى الله بعد أن ينظروا إلى من طعنوه، فإن روح نعمة الله ستغمرهم لصلاحه الإلهي، ثم سيختبر الشعب مرحلة إذلال روحي عميق، لدرجة أن الرجال والنساء سيوبخون أنفسهم على ذلك. والجميع سيشعرون بالندم: "وَتَنُوحُ الأَرْضُ عَشَائِرَ عَشَائِرَ عَلَى حِدَتِهَا: عَشِيرَةُ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى حِدَتِهَا وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى حِدَتِهِنَّ. عَشِيرَةُ بَيْتِ نَاثَانَ عَلَى حِدَتِهَا وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى حِدَتِهِنَّ" (زكريا ١٢: ١٢).

وبهذه الروح من الخزي العميق سوف يحتفل بنو إسرائيل بيوم الكفارة بشكل لا نظير له. وهذا الاحتفال سيكون دلالة عل قبول المسيا، الذي كان في عمله على الصليب، وإراقة دمه الكريم، تحقيقٌ كامل مجيد لكل الرموز والصور. هذه الرموز كان يبجلها اليهود، ولكنهم أفقدوها معناها الحقيقي المتعلق بالمسيح الذي رفضوه واحتقروه. يا له من يوم مجيد سيحتفل به العالم في حلة جديدة وقد قام على أساس البر، وسيحل فيه الأمن والسلام إذ يملك المسيح على الأرض بشخصه. ونقرأ: "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَفْضُهُمْ هُوَ مُصَالَحَةَ الْعَالَمِ فَمَاذَا يَكُونُ اقْتِبَالُهُمْ إِلاَّ حَيَاةً مِنَ الأَمْوَاتِ؟" (رومية ١١: ١٥).

عيد المظال

كان عيد المظال بعد عيد البوق بخمس عشرة يوماً وبعد يوم الكفارة بخمس أيام. هذا العيد هو رمز الألفية.، أي فترة السنوات الألف التي سيحكم فيها المسيح على هذه الأرض. في هذه الفترة سيتعامل الله مع بني إسرائيل على الأرض. ونلاحظ أنه ليس لبني اسرائيل ذكر في النبوءات التي تتناول الحقبة بعد الألفية.

في الأصحاح ٦٥ من أشعياء نجده يتحدث عن "سماء جديدة وأرض جديدة" (الآية ١٧)، ثم يصف أورشليم بأنها أرض فساد، مثلها كمثل خاطئ أثيم قد لحقت به لعنة. ويبدو أن أشعياء يتنبأ عن فترة أرضية، هي مرحلة الحكم الألفي لربنا يسوع المسيح. ولكن في العهد الجديد نجد نبوءات أكثر تحديداً ووضوحاً. فنجد يوحنا يقول في سفر الرؤيا: "ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ" (رؤيا ٢١: ١)، وسيسكن البر، حيث لن يكون هناك من بعد دموعٌ، أو حزن، أو بكاء، أو ألم أو موت. وسنكون هناك في أبدية بكل ما في الكلمة من معنى.

في عيد المظال، الذي كان يحدث في نهاية الحصاد، في وقت الوفرة والفرح، نجد صورة ضعيفة عن إمكانية تحقيق وشيك لذلك الرمز. فقد كان على الإسرائيليين أن يقطنوا في مظال من أغصان الشجر ليتذكروا كيف أن الله أخرجهم من أرض العبودية في مصر. فلربما ينسون ذلك في غمرة احتفالهم بمباهج الحياة التي أفاض الله الكريم بها عليهم، وتنعمهم بالسلام لزمن طويل.

لا يجدر بنا، كمسيحيين مؤمنين، أن ننسى ورغم البركات الرائعة التي نتمتع بها، أننا إنما كنا خطاةً وقد خلصنا بالنعمة.

الأصحاح ٢٩ من سفر العدد

إن الأصحاح ٢٩ من سفر العدد هو أصحاح لافتٌ للانتباه. تدور أحداثه في البرية وقد خرج بنو إسرائيل إليه، ووصلوا إلى الأرض على الجانب الشرقي من نهر الأردن. في هذا الإصحاح تفاصيل دقيقة لا نجد مثلها في أي مكان آخر في الكتاب المقدس عن الذبائح التي كانت مطلوبة منهم فيما يتعلق بأعياد ومواسم الرب؛ أي عيد هتاف البوق، ويوم الكفارة، وعيد المظال.

أحد التعليقات المميزة التي كتبت كانت تدور حول الذبائح التي كانت لتقدم خلال الأيام الثمانية من الاحتفال بعيد المظال. ففي اليوم الأول، ومن بين الذبائح الأخرى، كان يجب تقديم ثلاث عشرة ثوراً كمحرقة. وفي اليوم الثاني اثني عشرة ثوراً، وهكذا دواليك كان العدد يتناقص يومياً، وصولاً إلى اليوم السابع حيث كان يجب تقديم سبعة ثيران. ألا يدل هذا على أن كل ما يترك لالتزام البشر يفقد حماسته الأولى مع الأيام؟ لقد فقدت أفسس محبتها الأولى. وظهرت خلال فترة حياة الرسول بولس علامات آخر الأزمنة. وفي أيام يوحنا ظهر كثير من المسحاء الدجالين. ونرى الكنائس السبع التي يخاطبها يوحنا في الرؤيا باسم الرب.

إن للألفية وجهان. فهي أولاً ترحب بانتصار ربنا يسوع المسيح. فيمارس حقه كوريث لداود ويحكم على شعبه الذي حافظ على إيمانه. "وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلِينَ: [اعْرِفُوا الرَّبَّ] لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ" (إرمياء ٣١: ٣٤).

ومن جهة أخرى، ستكون الامتحان الأخير والأهم للإنسان، وفيها سيظهر كم أن الجنس البشري الساقط لا سبيل إلى تقويمه رغم أنه في أمثل الظروف. وبالتأكيد لن يكون هناك بعد تلك الفترة سوى الخضوع المقدس لمشيئة الله. ونلاحظ أنه عندما يسحب الرب يده، فإن إبليس المطلق السراح خلال فترة الألفية سيذهب ليخدع الأمم، وبتأثيره وتحت قيادته سيظهر آخر وأكبر تمرد ضد الله قد ظهر على الإطلاق. سيكون عدد المتمردين كبيراً، وينتشرون في كل أصقاع الأرض. ولكن الله سيُنْزِل عليهم ناراً من السماء، وسينهي تمردهم. انظر (رؤيا ٢٠: ٧- ١٠). وستزول السماء والأرض، وستذوب كل العناصر بنار متقدة، وستفنى الأرض وكل ما فيها، "وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا الْبِرُّ" (٢ بطرس ٣: ١٣). هذه هي طبيعة الإنسان في الجسد، فحتى حكم المسيح شخصياً لا يبدلها.

ولكن هل يُهزم الله؟ حاشى. فنقرأ: "وَبَعْدَ ذَلِكَ النِّهَايَةُ مَتَى سَلَّمَ الْمُلْكَ لِلَّهِ الآبِ مَتَى أَبْطَلَ كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ. لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ الأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ" (١ كو ١٥: ٢٤- ٢٦). باختصار، إن الحالة الأبدية ستكون عبارة عن مشهد ينتفي منه أي أثر للخطيئة، والحزن، وإرادة الإنسان؛ سيكون مشهداً يتميز بحضور الله " يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ" (١ كو ١٥: ٢٨).

ونصل في نهاية المطاف إلى انطباعين، نأخذهما من تأملنا في التعليم الرمزي لخيمة الاجتماع. الانطباع الأول هو أنه ما كان ليمكن أن نكون على علاقة بقدسات الله، وما كنا لننال بركة منه كخاطئين، لولا ذبيحة المسيح التعويضية الكفارية، وبها وحدها. ولا نبالغ إذا قلنا بضرورة وجلال ذلك. الانطباع الثاني هي أنه في موازاة وقوف المؤمن الكامل على أساس ذبيحة المسيح الكفارية، لا بد، أيضاً وأيضاً، من ملاءمة أخلاقية ضرورية، إن أردنا أن نكون على علاقة مع الله.

إن هذا الانطباعان يتمحوران على الحقيقة التي يرمز إليها معنى الدم والماء. وهذان يمكن تلخيصهما في الآيتين التاليتين: —

"دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يوحنا ١: ٧).

"اِتْبَعُوا .... َالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ" (عبرانيين ١٢: ١٤).

إن أي انتقاص أو تقليل من أهمية أي من هاتين الحقيقتين العظيمتين سيكون له نتائج لا تُحمد عقباها.

جون رايت وأبناء، بريستول

محاضرات على رسالة رومية
القسم الأول: عقائدي

برّ الله المعلن في الإنجيل

الإصحاحات ١- ٨
المحاضرة ١
موضوع الرسالة وتحليلها

مما لا ريب فيه أن رسالة رومية هي أكثر بسطٍ علمي للمخطط الإلهي لفداء البشر الذي سُرّ الله أن يعطينا إياه. بغض النظر عن مسألة الوحي كلياً يمكننا أن نرى فيها رسالة بحث تتناول قوة فكرية فائقة تخزي أكثر الفلسفات اللامعة التي فهمتها عقول البشر على الإطلاق.

وجدير بالملاحظة أن الروح القدس لم يستخدم صياد سمك أُمّياً أو جليلياً بسيطاً ليكشف مخططه للفداء بكل جلاله وبهاء مجده. بل بالحري، اختار رجلاً ذا نظرة عالمية: مواطن روماني، وفوق ذلك يهودي من أصل عبراني؛ رجلٌ كانت ثقافته مزيجاً من المعرفة بالحضارتين اليونانية والرومانية، بما في ذلك التاريخ، والدين، والفلسفة، والشعر، والعلوم، والموسيقى إضافةً إلى اتصاله المعرفي الوثيق باليهودية، التي هي بآن معاً، وحي إلهي وجماعة ذات تقاليد ربّانية وإضافات أُلْحقَت بوديعة الناموس المقدسة، والأنبياء، والمزامير. هذا الرجل الذي وُلد في مركز الفخر الثقافي، طرسوس في قيليقيا، والذي تتلمذ على يد غملائيل في أورشليم، كان الإناء المختار ليُعلن لجميع الأمم بإطاعة الإيمان إنجيل مجد الله المبارك، كما عرضه على نحو رائع في هذه الرسالة الخالدة.

من الواضح أنها قد كُتبت في مكان ما خلال الرحلة من مقدونيا إلى أورشليم، وعلى الأرجح في كورنثوس كما يؤكد التقليد.

إذ كان على وشك أن يغادر أوروبة باتجاه فلسطين ليحمل للمسيحيين من أصل يهودي، إخوته أنسباءه حسب الجسد وفي الرب، العطايا السخية التي قدمتها الكنائس الأممية، كان قلبه يتشوق إلى رومية، "المدينة الخالدة"، معشوقة العالم القديم، حيث نشأت كنيسة مسيحية دونما خدمة رسولية مباشرة. وكان بولس معروفاً بالنسبة لعدد من أعضاء هذه الكنيسة وغريباً بالنسبة لآخرين فيها، ولكنه كان يشتاق إليهم جميعاً كأب حقيقي في المسيح، وكان يتوق بشدة لأن يشاركهم الكنـز الثمين الذي عُهد إليه به. فالروح كان قد أوحى له أن زيارة رومية هي وفق إرادة الله له، ولكن كان خفياً عليه زمان وظروف هذه الزيارة. ولذلك كتب هذا الشرح للمخطط الإلهي، وأرسله مع امرأة تقية، هي الشماسة فيبي في كنيسة كنخريا، التي كانت قد دُعيت إلى رومية في مهمة. وكان للرسالة فائدة مزدوجة إذ عرَّفَت المسيحيين الموجودين هناك بها (فيبي) ونقلت لهم بشرى برّ الله الرائع الذي أُعلن في الإنجيل بما يتوافق مع الشهادة التي عُهد إلى بولس بها. تأملوا في النعمة التي عهدت بهذه الرسالة التي لا مثيل لها إلى يدٍ ضعيفة واهنة لامرأة في مثل تلك العصور! إن كنيسة الله على مدى القرون تدين لفيبي بالعرفان وكذلك لله الذي رعاها وخصّها بمديح لا حد له لحفظها المخطوطة النفيسة التي سلّمتها بأمان إلى أيدي الشيوخ في رومية، ومن خلالهم إلينا.

إن موضوع الرسالة هو برّ الله. وإنه يشكل إحدى الطروحات الثلاث الموحى بها والتي تقدم لنا معاً تفسيراً غنياً مذهلاً لنص موجز جداً ورد في العهد القديم. النص يرد في حبقوق، الإصحاح٢، الآية ٤، ويقول "أما البار فبإيمانه يحيا". هذا القول يُذكر ثلاث مرات في العهد الجديد ولكن مع تعديل طفيف وهو حذف هاء الغائب في كلمة (إيمانه). وهذه الرسائل الثلاث نقصد بها الرسالة إلى رومية، والرسالة إلى أهل غلاطية، والرسالة إلى العبرانيين والتي تستند كل منها إلى هذا النص.

تركز الرسالة إلى رومية بشكل خاص على موضوع (البار). وتريد القول أن "البار يحيا بالإيمان" وفي هذا رد على السؤال المطروح في سفر أيوب: "كيف يتبرر الإنسان أمام الله؟"

تفسر الرسالة إلى أهل غلاطية معنى كلمة (يحيا): "البار بالإيمان يحيا". فقد كان الغلاطيون يعتقدون خطأً أنه بينما نبدأ في الإيمان، فإننا نصبح كاملين بالأعمال. ولكن الرسول يوضح قائلاً أننا نعيش بنفس الإيمان الذي به تبرّرنا. "أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟"

وتركز الرسالة إلى العبرانيين على موضوع (بالإيمان). "أما البار فبالإيمان يحيا". إنها تشهد على طبيعة وقوة الإيمان نفسه، الذي به وحده يسلك المؤمن الذي تبرّر. وبالمناسبة، هذا هو أحد الأسباب الذي جعلني أعتقد، بعد إمعاني الفحص في عدة حجج أو آراء تنفي نسْبَ رسالة العبرانيين لبولس، أن هذه الرسالة، وبدون أدنى شك لدي، هي صحيحة النسب لنفس كاتب رسالتي رومية وغلاطية. وهذا ما تؤكده شهادة الرسول بطرس، في رسالته الثانية، (الإصحاح ٣: ١٥، ١٦)، إذ كان بطرس يوجه خطابه لليهود الذين اهتدوا إلى المسيحية ولهم أيضاً كتب بولس.

إن الرسالة إلى رومية يمكن تقسيمها بسهولة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: فالإصحاحات١- ٨ عقائدية، وتتناول موضوع بر الله كما أعلنه الإنجيل. والإصحاحات ٩- ١١ تدبيرية، وتوضح بر الله المنسجم مع طرقه التدبيرية. والإصحاحات ١٢- ٦١ عملية، وتتناول موضوع بر الله الذي يصنع البر العملي في المؤمن. كل جزء من هذه الأجزاء ينقسم بدوره، كما يبدو، إلى أقسام فرعية أصغر، وهذه إلى أجزاء، وأجزاء فرعية أخرى أيضاً.

وإذ أضع المخطط التالي فإنما أبغي التوضيح فقط. وعلى التلميذ الذي يبتغي الدقة أن يفكر في دلالات أو معايير مناسبة أكثر لكل قسم، وقد يوزّع المقاطع المختلفة إلى تقسيمات بشكل آخر، ولكني أقترح التقسيم التفصيلي التالي الذي أراه بسيطاً وواضحاً:

القسم الأول: عقائدي، (الإصحاحات: ١- ٨): بر الله المعلن في الإنجيل.

القسم الفرعي١: (الإصحاحات١: ١- ٣: ٢٠): الحاجة إلى الإنجيل

  • الجزء أ: (١: ١- ٧): التحية
  • الجزء ب: (١: ٨- ١٧): المقدمة.
  • الجزء الفرعي أ: (الآيات ٨- ١٥): خدمة الرسول.
  • الجزء الفرعي ب: (الآيات١٦، ١٧): تحديد الغاية من الرسالة.
  • الجزء ج: (١: ١٨- ٣: ٢٠): خلو العائلة البشرية برمّتها من الصلاح والبر كما تظهر من خلال الأمثلة، أو، الحاجة إلى الإنجيل.
  • الجزء الفرعي أ: (١: ١٨- ٣٢): حالة الوثنيين المنحطين الفاسقين- العالم الهمجي.
  • الجزء الفرعي ب: (٢: ١- ١٦): حالة الأمميين المتحضرين، الأخلاقيين.
  • الجزء الفرعي ج: (٢: ١٧- ٢٩): حالة اليهود المتدينين.
  • الجزء الفرعي د: (٣: ١- ٢٠): الإدانة الكاملة للعالم بأجمله.

القسم الفرعي ٢: (٣: ٢١- ٥: ١١): الإنجيل ومسألة خطايانا.

  • الجزء أ: (٣: ٢١- ٣١): التبرير بالنعمة بالإيمان على أساس الفداء المُنجز.
  • الجزء ب: (الإصحاح ٤): شهادة الناموس والأنبياء.

— الجزء الفرعي أ: (الآيات١- ٦): تبرّر إبراهيم.

— الجزء الفرعي ب: (الآيات٧، ٨): شهادة داود.

— الجزء الفرعي ج: (الآيات٩- ٢٥): لجميع البشر على نفس المبدأ.

  • الجزء ج: (٥: ١- ٥): السلام مع الله: أساسه ونتائجه.
  • الجزء د: (٥: ٦- ١١): الخلاصة.

القسم الفرعي ٣: (٥: ١٢- ٨: ٣٩): الإنجيل والخطيئة الساكنة فينا.

  • الجزء أ: (٥: ١٢- ٢١): النسلان والرأسان.
  • الجزء ب: (الإصحاح ٦): السيدان- الخطيئة والبر.
  • الجزء ج: (الإصحاح ٧): الزوجان، الطبيعتان، والناموسان.
  • الجزء د: (الإصحاح٨): انتصار النعمة.

— الجزء الفرعي أ: (الآيات١- ٤): لا دينونة؛ في المسيح.

— الجزء الفرعي ب: (الآيات٥- ٢٧): روح المسيح في المؤمن.

— الجزء الفرعي ج: (الآيات ٢٨- ٣٤): الله معنا.

— الجزء الفرعي د: (الآيات٣٥- ٣٩): لا فاصل (عن محبة المسيح)

القسم الثاني: تدبيري: (الإصحاحات ٩- ١١): بر الله المنسجم مع وسائله التدبيرية.

القسم الفرعي ١: الإصحاح ٩: علاقة الله في الماضي مع إسرائيل حسب اختيار النعمة.

القسم الفرعي ٢: الإصحاح١٠: علاقة الله الحالية مع إسرائيل بتأديب تدبيري.

القسم الفرعي ٣: الإصحاح ١١: علاقة الله المستقبلية مع إسرائيل بتحقيق ما جاء في الكتابات النبوية.

القسم الثالث: عملي: (الإصحاحات١٢- ١٦): البر الإلهي الذي ينتج براً عملياً في المؤمن.

القسم الفرعي١: (الإصحاحات١٢: ١- ١٥: ٧): إعلان إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة.

  • الجزء أ: (الإصحاح١٢): سلوك المسيحي مع إخوته في الإيمان، ومع الناس في العالم.
  • الجزء ب: (الإصحاح١٣): المسيحي والسلطات الدنيوية.
  • الجزء ج: (الإصحاح١٤): الحرية المسيحية ومراعاة الآخرين.
  • الجزء د: (الإصحاح١٥: ١- ٧): المسيح، مثال للمؤمن.

القسم الفرعي ٢: (الإصحاح١٥: ٨- ٣٣): خاتمة.

القسم الفرعي ٣: (الإصحاح١٦: ١- ٢٤): تحيات.

الملحق: (الإصحاح١٦: ٢٥- ٢٧): خاتمة الرسالة: كشف السر.

أود أن أؤكد للتلميذ بإلحاح على أهمية أن يسجل في ذاكرته، قدر الإمكان، هذا المخطط، أو مخططاً تحليلياً مشابهاً للرسالة، وذلك قبل أن يحاول دراسة الرسالة نفسها. وإن الفشل في ترسيخ التقسيمات الرئيسية والفرعية في الذهن يفسح المجال لتفسيرات خاطئة وآراء مشوشة حقاً. فعلى سبيل المثال، كثيرون، من الذين لا يلاحظون مسألة التبرير التي تم طرحها في الإصحاحات ٣- ٥ يرتبكون عندما يأتون إلى الإصحاح ٧. ولكن إذا فهمنا التعليم الوارد في الإصحاحات الأولى بشكل واضح، فعندئذ يمكننا أن نرى أن الإنسان الذي يُذكر في الإصحاح٧ لن يطرح من جديد السؤال عن قبول الله للخاطئ بل سيهتم بسلوك القديس في القداسة. ومن ثم، ومرة أخرى نتساءَل كم من روح قد أصبحت شبه ذاهلة ضائعة لدى قراءة قضايا الأبدية في الإصحاح٩، وبعيداً كلياً عما كان الرسول يقصده في رسالته، محاولين استحضار مواضيع السماء والجحيم إلى النص وكأنها القضايا الأساسية المطروحة هنا للنقاش، بينما يتحدث الله عن مسألة التدبير العظيمة عن اختيار النعمة الجليلة لإسرائيل، ورفضه الحالي بالاعتراف بهم كأمة مستقلة، بينما يفيض نعمته بشكل خاص على الأمميين. أذكر هذه الأمثلة الآن فقط لكي أؤكد لكل طالب على أهمية أن يكون لديه مخطط بكلمات صحيحة خلال دراسته هذا السفر أو أي سفر من الكتاب المقدس.

وأضيف اقتراحاً أو اثنين. فحسناً أن تكون لديك "كلمات مفتاحية" أحياناً كي تتثبت الأمور في ذهنك. أشار أحدهم إلى رسالة رومية على أنها "رسالة دار القضاء". وهذا التعبير مفيد للغاية على ما أعتقد. ففي هذه الرسالة نجد الخاطئ قد أُحضر إلى قاعة المحكمة، دار القضاء، أي المكان الذي تصدر فيه الأحكام، وتبيّن بالدليل القاطع أنه مذنب تماماً ومدانٌ ومصيره إلى الدمار. ولكن بعمل المسيح تم وضع قاعدة أخلاقية للبر، وبناء على هذه القاعدة يمكن تبرير المذنب من أي تهمة. ولا يكتفي الله بذلك، بل إنه أيضاً يعترف صراحةً وعلانيةً أن الخاطئ الذي يؤمن هو ابنٌ له، جاعلاً إياه بذلك عضواً من نسل مفضّل، ومعيناً إياه وريثاً له. وهذا يشكل تحدياً في وجه جميع المعترضين: "فَمَاذَا نَقُولُ لِهَذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا؟" فليصمت كل صوتٍ لأن "الله هو الذي يبرّر"، وهذا ليس على حساب البر، بل في تطابق تام معه. وجهة النظر هذه يعللها بسهولة استخدام البنود القانونية والقضائية مراراً وتكراراً كما نجد في المناظرة.

سُئِلَ خاطئٌ محتضرٌ مرة إذا ما كان يود لو أنه قد خَلَصَ. فأجاب قائلاً "كنت لأود ذلك بالتأكيد". وأضاف قائلاً بجد: "ولكني لا أريد الله أن يرتكب خطأ في تخليصه لي". ومن خلال الرسالة إلى رومية تعلم كيف أن "الله يكون باراً ويبرّر من هو من الإيمان بيسوع". وسوف تتذكر كيف عبّر سقراط عن نفسه قبل خمسمائة سنة من مجيء المسيح، فقال معرفاً أفلاطون بنفسه: "ربما يستطيع الله أن يغفر الخطايا، ولكني لا أعرف كيف". وهذا هو الدور الذي يضطلع به الروح القدس على نحو كامل كما نفهم من هذه الرسالة. إنه يرينا أن الله لا يخلص الخطأة على حساب بره. بمعنى آخر، إذا كان سيخلص أحداً على الإطلاق، فلن يكون ذلك من جراء إلقائه البر جانباً لكي تغلب الرحمة، بل إن الرحمة وجدت طريقة يمكن من خلالها للبر الإلهي أن يكون محققاً بالكامل وفي نفس الوقت يتبرّر الخطأة الآثمون أمام عرش عالي السماء.

يشير الرسول يوحنا إلى نفس الحقيقة العجيبة هذه عندما يقول في (رسالته الأولى، الآية ٩): "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ." كم سيبدو المنطق طبيعياً أكثر لعقولنا الضعيفة قبل أن نسترشد بفكر الله، لو قرأنا: "إنه رحيم ورؤوف ليرحم". رغم أن الإنجيل، بطريقة عجيبة مدهشة للغاية، هو إعلان رحمة الله، ويعلّي نعمته كما لا يستطيع أي شيء آخر أن يفعل، إلا أن السبب يعود إلى أنه يستند إلى أساس ثابت من البر الذي يعطي ذلك السلام الراسخ للنفس التي تؤمن به. فبما أن المسيح قد مات، فلا يمكن لله أن يكون صادقاً معه أو عادلاً مع الخاطئ الذي يؤمن إن كان لا يزال يدين من يؤمن بذاك الذي حمل خطايانا في جسده بالذات على خشبة الصليب.

لذلك، فإن برّ الله الذي يُعظّم ويُبجّل في هذه الرسالة إلى رومية، حتى أن داود العهد القديم صرخ قائلاً: "بعدلِكَ نجِّني (أو خلصّني)". وهذا يشبه ما حدث مع لوثر وهو يتأمل في هذه الآية إذ بدأ النور يشرق على روحه المظلمة. لقد استطاع أن يفهم كيف أن الله كان بمقدوره أن يدينه في برّه، ولكنه رأى أن الله بدلاً من ذلك يخلّصه ببره، ففاض السلام ُ على نفسه. وإن عدداً لا يُحصى وجدوا نفس هذا الانعتاق من الحيرة عندما كشف هذا الإعلان المجيد عن بر الله المعلن في الإنجيل، فرأوا كيف أن "الله يمكن أن يخلّص وهو بارٌ لا يزال". إن أخفقنا في ملاحظة هذا الأمر ونحن ندرس الرسالة يكون قد غاب عن بالنا الهدف العظيم الذي لأجله أعطانا الله إياها.

أريد أن أضيف فكرة أخرى أعتقد أنها هامة، وخاصةً بالنسبة لأولئك الذين يسعون لنقل الإنجيل للآخرين. وهذه الفكرة هي: في الرسالة إلى رومية لدينا الإنجيل يُبَشَّرُ به للقديسين، وليس الإنجيل يُوعظُ به للخطأة غير المخلَّصين. وأعتقد أنه لمن المهم جداً ملاحظة ذلك. فلكي تخلُص، إن ما هو ضروري فقط هو أن تؤمن بالمسيح. ولكن لكي نفهم خلاصنا، وهكذا نستحصل على الفرح والبركة التي يرغب الله في جعلها من نصيبنا، فإننا بحاجة لأن نرى عمل المسيح قد أُعلن لنا. وهذا الدور قام به الروح القدس في هذه الرسالة النفيسة. لقد كُتبت لأناس قد نالوا الخلاص للتوّ لكي تبين لهم الأساس الأكيد المضمون الذي يقوم عليه خلاصهم: وتحديداً، بر الله. عندما يعي المؤمن ذلك فإن الشكوك والمخاوف تتلاشى وتدخل النفس في سلام راسخ وطيد.

Pages