الفصل الثاني

تأثيرات عرب الجاهليّة

القاهرة، مصر
القاهرة، مصر

قال المعترضون إنّه بما أن مُحَمَّداً كان قد عزم على إنقاذ العرب وتحريرهم من عبادة الأصنام وهدايتهم إلى عبادة الله، وبمّا أنّه كان يعرف أنّهم كانوا في زمن إبراهيم مؤمنين بوحدانية الله، وبما أنهم حافظوا على كثير من العادات والفروض بطريق التوارث عن آبائهم الأتقياء، فإنه لم يُلزِمهم أن يتركوها كلها، بل بذل الجهد في إصلاح ديانتهم، وإبقاء كل عادة قديمة رأى أنها موافقة ومناسبة. فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله، وَهُوَ مُحْسِنٌ، واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} ، ١ وقال: {قُلْ: صَدَقَ اللّهُ، فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، ٢ وقال: {قُلْ: إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، دِينًا قِيَمًا؛ مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. ٣ وبما أن مُحَمَّداً ظن أنّ العرب حافظوا من عصر إبراهيم على جميع عاداتهم وفروضهم، ما عدا عبادة الأصنام والشِرك ووأد البنات والأطفال وما شاكل ذلك من العادات الكريهة، أبقى كثيراً من هذه العادات الدينية والأخلاقية في ديانته وحافظ عليها.

ومعروفٌ أن بعض قبائل جنوب بلاد العرب وشرقيها اختلطوا مع نسل حام بن نوح، وقال ابن هشام والطبري وغيرهما، إن كثيرين من سكان جهات بلاد العرب الشمالية والغربية تناسلوا من سام بن نوح، وبعضهم تناسل من قحطان (يقطان)، وبعضهم تناسل من أولاد قطورة ـ زوجة إبراهيم الثانية، وتناسل البعض الآخر (ومنهم قبيلة قريش) من إسماعيل بن إبراهيم. ولا ينكر أحدٌ أنَّ جميع القبائل التي تناسلت من ذرية سام كانوا يؤمنون بوحدانية الله. ولكن مع مرور العصور أخذوا الشرك وعبادة الأصنام من القبائل السّورية وسكان الجهات المجاورة لهم، وأفسدوا ديانة أسلافهم، وفسدوا هم أنفسهم. ومع ذلك، لما نسيت جميع الأمم الأخرى (ما عدا اليهود) وحدانية الله، كان سكان الجهات الشّماليّة والغربيّة من شبه الجزيرة العربية متمسكين بالوحدانية تمسكاً راسخاً. والأرجح أنّ دخول عبادة الشمس والقمر والكواكب بين سكان تلك الجهات بدأ في عصر أيوب. ٤ وقال هيرودوت، أشهر مؤرخي اليونان (نحو ٤٠٠ ق م) إنَّ العرب سـكان تلك الجهـات كانـوا يعبدون معبودين فقط، همـا ﴿أُرُتال﴾ و﴿ألإلات﴾. ٥ وقصد هيرودوت بالمعبود ﴿أُرُتال﴾ الله ، فإن هذا هو اسمه الحقيقي. ومع أن هيرودوت زار بلاد العرب، إلا أنه كان أجنبياً، فلم يتيسَّر له ضبط هذا الاسم، فحرَّفه لجهله باللغة العربية وتهجئتها والنطق بها. ومن الأدلة القوية الدالة على أن هذه التسمية (أي الله) كانت مشهورة ومنتشرة بين العرب قبل زمن مُحَمَّدٍ، أنه كثيراً ما ذُكر اسم الله في سبع معلَّقات العرب (وهي تأليف مشاهير شعراء العرب قبل مولد مُحَمَّدٍ، أو على الأقلِّ قبل بعثته) فقد ورد في ديوان النابغة ما نصّه:

لَهُم شيمةٌ لَمْ يُعطها اللّهُ غَيرَهُمْ،   من الجودِ ، و الأحلامُ غيرُ عوازِب
مَحَلـَّتَهُم  ذات  الإِلـهُ و دينهمْ   قويمٌ فمـا يَرْجـُونَ  غيرَ العَواقِبِ

وأيضاً:

ألم تَـرَ أَنَّ اللَّهَ أَعطَاكَ سُـورةً   ترى كُلَّ مَلْكٍ ، دونها ، يَتَذَبذَبُ
فإِنَّكَ شمسٌ ، و المَلوكُ كَواكُبٌ ،   إِذا طَلَعَتْ لـم يَبدُ مِنهنَّ كوكبُ

وأيضاً:

و نَحنُ لَـدَيه، نسـألِ اللَّهَ خُلدَهُ ،   يَرُدَّ لنـا مُلكاً وللأَرْضِ عَامِـرَا
وَ نَحن نُرَجَّى الخُلدَ إِنْ فاز قِدحنا ،   و نَرَهَب قِدْحَ الموتِ إنْ جاءَ قامِراً

وقال لبيد في ديوانه:

لَعَمرُكَ ما تدري الضَواربِ بالحَصى   وَلا زاجِراتُ الطَّيرِ ما اللَّهُ صانِعُ

وقد كانت الكعبة من قديم الأيام أقدس مسجد عند جميع قبائل العرب. قال ثيودور الصقلي، أحد مؤرخي اليونان (نحو ٦٠ ق م) إن العرب كانوا يعتبرون الكعبة في ذلك الوقت مسجداً مقدساً. ٦ وكان يطلق على هذا المقدس ﴿بيت الله﴾. ويُستدل من دخول أداة التعريف على لفظ الجلالة أن العرب لم ينسوا عقيدة وحدانية الله ، وأنه كان عندهم كثير من المعبودات، حتى أطلق عليهم القُرْآن بسببها اسم ﴿المشركين﴾ لأنهم أشركوا مع الله غيره من المعبودات وعبدوها، وظنوا أنّها شريكة معه في الإكرام والعبادة. ولكنهم كانوا يقولون لا نعبد هذه المعبودات الثانوية كما نعبد الله الحي (الذي هو الله) بل بالعكس إنّا نعتبرهم شفعاء، ولنا الرجاء أنْ نستميل بشفاعتهم الله الحقيقي لإجابة طلباتنا. وقال الشهرستاني: ﴿إنّ العرب كانوا يقولون: الشفيع والوسيلة منّا إلى الله تعالى هم الأصنام المنصوبة، فيعبدون الأصنام التي هي الوسائل﴾. ٧ ومن الأدلـة على أن عبَدة الأصنـام كانـوا يعتقدون بهـذا، ما ورد في كتـاب ﴿المواهب اللدنية﴾ : ﴿قدِم نفرٌ من مهاجري الحبشة حين قرأ مُحَمَّد {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . ٨ حتى بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى . ٩ ألقى الشيطان في أمنيته (أي في تلاوته) ﴿تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهنَّ لتُرتجي﴾ ؛ فلما ختم السورة سجد (ص) وسجد معه المشركون لتوهُّمهم أنه ذكر آلهتهم بخير. وفشى ذلك بالناس وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومَن بها مِن المسلمين: عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أنَّ أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا معه (ص) وقد أمِن المسلمون بمكة، فأقبلوا سِراعاً من الحبشة﴾.

وذكر ابن إسحق، وابن هشام، والطّبري وكثيرون غيرهم من مؤرخي الإِسْلام هذه الحكاية أيضاً، وأيدها يحيى، وجلال الدين، والبيضاوي في تفاسيرهم لسورة الحج (٢٢/ ٥٢) {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}. وقال الشهرستاني بخصوص مذاهب قدماء العرب وعاداتهم:

﴿والعرب الجاهلية أصناف: فصنفٌ أنكروا الخالق والبعث، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني، كما أخبر عنهم التنزيل. وقالوا: ما هي إلا حياتنـا الدنيا نموت ونحيا. وقوله: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}. ١٠ وصِنفٌ اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ؛ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}. ١١ وصنفٌ عبدوا الأصنام وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل، فكان وُدٌّ لكلب، وهو بدومة الجندل، وسُواع لهذيل، ويغوث لمَذْحَج ولقبائل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويَعوق لهمذان، واللاّت لثقيف بالطائف، والعُزَّى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخزرج، وهُبَل أعظم أصنامهم. وكان هُبل على ظهر الكعبة، وكان أساف ونائلة على الصَّفا والمروة. وكان منهم من يميل إلى اليهود، ومنهم من يميل إلى النّصرانيّة، ومنهم من يميل إلى الصّابئة، ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجِّمين في الكواكب حتى لا يتحرك إلا بنوء من الأنواء، ويقول أمطرنا بنوء كذا. وكان منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الجن. وكانت علومهم علم الأنساب، والأنواء، والتّواريخ، وتفسير الأحلام، وكان لأبي بكر الصّديق فيها يدٌ طولى﴾.

﴿وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت شريعة الإِسْلام بها، فكانوا لا ينكحون الأمهات والبنات. وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختيْن، وكانوا يعيبون المتزوّج بامرأة أبيه ويسمونه ﴿الضيزن﴾. وكانوا يحجّون البيت، ويعتمرون، ويحرمون، ويطوفون، ويسعون، ويقفون المواقف كلها، ويرمون الجمار. وكانوا يكبسون في كلِّ ثلاثة أعوام شهراً. ويغتسلون من الجنابة. وكانوا يداومون على المضمضة، والاستنشاق، وفرق الرأس، والسواك، والاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى﴾. ١٢

قال ابن إسحاق، وابن هشام إن ذرية إسماعيل كانوا أولاً يعبدون الله الواحد، ولا يشركون معه أحداً، ثم سقطوا في عبادة الأصنام. ومع ذلك فقد حافظوا على كثير من العادات والفروض التي كانت في أيام إبراهيم، فلم ينسوا أنّ الله كان أرفع من معبوداتهم، بل أنّه هو الحاكم والمتسلط عليها جميعاً. وذُكر في سيرة الرسول:

﴿خَلَف الخُلُوف، ونَسَوُا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسمعيل غيرَه، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قَبْلَهم من الضلالات، و فيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسَّكون بها، من تعظيم البيت، والطواف به، والحجّ والعمرة، والوقوف على عرفة والمزدلفة وهَدَى البُدن، والإهلال بالحجّ والعُمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانة وقريش إذا أهلـُّوا قالوا: ﴿لَبيَّك اللّهم لبيَّك، لَبيَّك لا شريك لكَ، إلا شريك هو لك، تملكه وما مَلَك﴾. فيوحدّنه بالتلبية، ثم يُدخْلون معه أصنامَهم، ويجعلون مِلْكَها بيده﴾.

وذكر في القُرْآن قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ؛ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ. ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}. ١٣ فالواضح من هذا أن العرب في أيام الجاهلية كانوا يعبدون الله بشفاعة العزّى، ومُناة، واللاّت. ١٤ وحينئذ يصدق على العرب الوثنيين لا مسلمي هذا الزمان قول القُرْآن إنهم مشركون. فينتج من ذلك أن سكان بلاد العرب حافظوا على عبادة الله إلى عصر مُحَمَّد، واعترفوا بوحدانيته. وبناءً على ذلك يقول المعترضون إنّ مُحَمَّداً أخذ هذه العقيدة من قومه وتعلمها من جدوده وأسلافه، ويتضح من اسم والده ﴿عبد الله﴾ واسم ابن أخيه ﴿عبيد الله﴾ الوارد فيهما لفظ الجلالة بأداة التعريف (وهي دلالة على الوحدانية) . إنّ هذه العقيدة الشريفة كانت معروفة قبل بعثة مُحَمَّد، وأن الديانة الإِسْلامية أخذت عادات الطواف، والإهلال، والإحرام، وغيرها كثيراً من ديانة هذه القبائل القديمة.

وكان الختان من هذه العـادات، كما قال الشهرستاني. ويتضح من نبذة صغيرة تسمى ﴿رسالة برنابا﴾ أن الختان لم يكن عند العرب فقط من قديم الزمان، بل كان مرعياً عند أمم كثيرة أيضاً، فإن مؤلف هذه الرسالة (التي كُتبت نحو سنة ٢٠٠م) قال: ﴿إن كل سوري وعربي، وجميع كهنة الأصنام يختتنون﴾. وكان الختان مرعياً عند قدماء المصريين أيضاً. ومع أن العرب كانوا يعبدون أصناماً كثيرة في أيام مُحَمَّد، حتى كان يوجد في الكعبة ٣٦٠ تمثالاً، إلا أن ابن إسحق وابن هشام قالا إن عمرو بن لحي، وهذيل بن مدركة أتيا بعبادة الأصنام من سوريا إلى مكة خمسة عشر جيلاً قبل عصر مُحَمَّد. ولا يحتاج أحد إلى وحي وإلهام لمعرفة قباحة وبطلان هذه العادة المستحبَّة جداً عند العرب، بحيث لم يتمكن مُحَمَّد من منعهم عن مزاولتها. وهذا هو سبب تقبيل الحجيج الحجر الأسود إلى يومنا هذا.

واضحٌ أن مصدر الديانة الإِسْلامية الأول كان تلك الفروض الدينية والعادات والاعتقادات التي كانت متداولة وسائدة في أيام مُحَمَّد بين قبائل العرب، ولاسيما قريش . ولم أعرف جواباً يرد به المسلمون على أقوال المعترضين هذه، إلا قولهم إن هذه الفروض والعادات أنزلها الله أولاً على إبراهيم، ثم أمر مُحَمَّداً أن يبلغها للناس ثانية ليتمسكوا بها تمسكاً راسخاً. ولكن واضحٌ من أسفار موسى الخمسة أنّ الاعتقاد بوحدانية الله، وفرض الختان كان من أركان ديانة إبراهيم، إلا أنه لم يرد في التوراة والإنجيل ذكر لمكة، ولا للكعبة، ولا للطواف، ولا للحجر الأسود، ولا للإحرام. ولا شك أن العادات المرتبطة والمتعلقة بهذه الأشياء هي اختراعات عبدة الأصنام، وليس لها أدنى ارتباط ولا علاقة بدين إبراهيم.

وقال المعترضون إن بعض آيات القُرْآن مقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة مُحَمَّد. وأوردوا بعض قصائد منسوبة إلى امرئ القيس مطبوعة في الكتب باسمه تأييداً لقولهم. ولا شك أنه ورد في هذه القصائد بعض أبيات تشبه آيات القُرْآن، بل هي عينها، أو تختلف عنها في كلمة أو كلمتين، ولكنها لا تختلف معها في المعنى مطلقاً. وهاك الأبيات التي يوردها المعترضون، وقد أظهرنا العبارات التي اقتبسها القُرْآن بخط أوضح:

دَنَتِ السَّـاعةُ وأنشّـق الْقَمَرُ ١٥   عَنْ غَزلٍ صـادَ قَلبي ونَفَـرَ
أَحْـوَرَ قدَْ حُرْتُ في أوصافِهِ   نَاعِسُ الطَّرْفِ بعَيْنَيِهُ حَـوَرَ
مَرَ يَـوْمُ  الْعِيدِ في  زِينتـِهِ   فَرَمـاني  فَتعـاطى  فَعَقَـر ١٦
بِسـهامٍ مِنْ  لِحـاظٍ  فاتِـكٍ   فَتَرَكنِي كَهَشِـيمِ الْمُحْتَظِـرِ ١٧
وَإذا مـا غَابَ عَنِّي  سَـاعَةً   كَانتِ السَّـاعةُ أَدْهى وَأمَـرّ ١٨
كتبَ الْحُسْـنُ على وِجْنتِـهِ   بسَحيق الْمِسْكِ سَطْراً مُخْتَصَرَ
عادَةُ الأقمارِ يَسْرِي في الدّجى   فَرَأيْتَ اللّيل يَسـْري بـِالْقَمَرِ
بالضّحى والليـل من طُـرَّته ١٩   فرقهُ  ذا النور كم شيء زَهَرَ
قلتُ إِذْ شَـقّ الْعِـذارُ خَـدَّهُ   دَنَتِ السَّـاعَةُ وانْشَـقّ الْقَمَرُ

وله أيضاً:

أَقْبَلَ والْعُشاقُ مِنْ خَلْفِهِ   كَأنَّهُم مِنْ حَدَبٍ يَنْسِلُون ٢٠
وجاءَ يوم العيد في زينتهِ   لِمِثْلِ ذا فَلْيَعْملَ الْعامِلُون ٢١

وقال المؤرخون إنه جرت العادة سابقاً بين العرب أنه إذا نبغ بينهم رجل فصيح بليغ، وألف قصيدة بديعة غراء علَّقها على الكعبة، وأن هذا هو سبب تسمية ﴿المعلقات السبع﴾ بهذا الاسم، لأنها عُلِّقت على الكعبة. غير أن بعض المحققين الثقاة أنكروا أن هذا هو سبب التسمية. إلا أن هذا قليل الأهمية. وقال المفسر الشهير أبو جعفر أحمد بن إسماعيل النحاس (توفي سنة ٣٣٨ هـ) في هذا الصدد: ﴿اختلفوا في جامع هذه القصائد السبع، وقيل إن أكثر العرب كانوا يجتمعون بعكاظ ويتناشدون الشعر، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوها واثبتوها في خزانتي. فأما قول من قال عُلِّقت على الكعبة، فلا يعرفه أحد من الرواة. وأصح ما قيل في هذا إن حماداً الرّاوية، لما رأى زُهد الناس في الشعر، جمع هذه السبع وحضَّهم عليها، وقال لهم: هذه هي المشهورات. فسُمِّيت ﴿القصائد المشهورة﴾ لهذا السبب. وقال السيوطي بالفكرة نفسها، وأضاف إليها أن الأشعار كانت تُعلَّق على الكعبة.

ومن الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنه لما كانت فاطمة بنت مُحَمَّد تتلو آية. اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ . ٢٢ سمعتها بنت امرئ القيس، فقالت لها: هذه قطعة من قصائد أبي، أخذها أبوك وادّعى أن الله أنزلها عليه. ومع أنه يمكن أن تكون هذه الرواية كاذبة، لأن امرء القيس توفي سنة (٥٤٠ م)، ولم يولد مُحَمَّد إلا في سنة الفيل (أي سنة ٥٧٠ م) إلا أنه لا ينكر أن الأبيات المذكورة واردة في (سورة القمر: ٥٤/ ١ و٢٧ و٢٩؛ سورة الضحى: ٩٣/ ١ و٢؛ سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٦؛ سورة الصافات: ٣٧/ ٦١)، مع اختلاف طفيف في اللفظ وليس في المعنى. مثلاً ورد في القُرْآن ﴿اقتربت﴾ بينما وردت في القصيدة ﴿دنت﴾. فمن الواضح وجود مشابهة بين هذه الأبيات وبين آيات القُرْآن. فإذا ثبت أنّ هذه الأبيات هي لامرئ القيس حقيقةً، فحينئذ يصعب على المسلم توضيح كيفية ورودها في القُرْآن، لأنه يتعذر على الإنسان أن يصدق أن أبيات وثني كانت مسطورة في اللّوح المحفوظ قبل إنشاء العالم.

ولستُ أرى مخرجاً لعلماء الإِسْلام من هذا الإشكال إلا أن يقيموا الدليل على أن امرء القيس هو الذي اقتبس هذه الآيات من القُرْآن، أو أنها ليست من نظم امرئ القيس الذي توفي قبل مولد مُحَمَّد بثلاثين سنة. ولو أنه سيصعب علينا أن نصدق أن ناظم هذه القصائد بلغ إلى هذا الحد من التهتك والاستخفاف والجراءة، بعد تأسيس مملكة الإِسْلام حتى يقتبس آياتٍ من القُرْآن ويستعملها بالكيفية المستعملة في هذه القصائد!


١. سورة النساء:   ٤/ ١٢٥ .

٢. سورة آل عمران: ٣/ ٩٥.

٣. سورة الأنعام: ٦/ ١٦١.

٤. أيوب ٣١: ٢٦ ـ ٢٨.

٥. تاريخ هيرودوت، كتاب ٣، فصل ٨.

٦. تاريخ ثيودور الصقلي كتاب ٣.

٧. الملل والنحل، ص ١٠٩.

٨. سورة النجم: ٥٣/ ١.

٩. سورة النجم: ٥٣/ ١٩ و٢٠.

١٠. سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٤.

١١. سورة ق: ٥٠/ ١٥.

١٢. من كتاب الملل والنحل للشهرستاني.

١٣. سورة يونس: ١٠/ ٣.

١٤. كما يطلب المسلمون في الوقت الحاضر غفران الخطايا من الله عز وجل بشفاعة الأولياء.

١٥. سُورة القَمَرِ: ٥٤/ ١.

١٦. سُورة القَمَرِ: ٥٤/ ٢٩.

١٧. سُورة القَمَرِ: ٥٤/ ٣١.

١٨. سُورة القَمَرِ: ٥٤/ ٤٦.

١٩. سُورة الضُّحَى: ٩٣/ ١، ٢.

٢٠. سُورة الأنبياءِ: ٢١/ ٩٦.

٢١. سُورةُ الصَّافاتِ: ٣٧/ ٦١.

٢٢. سورة القمر: ٥٤/ ١.