المحاضرة ٤

الإنجيل وخطايانا

(٣: ٢١- ٥: ١١)

بشعور بالارتياح الكبير ننتقل من القصة الحزينة لخطيئة الإنسان وخزيه لنتأمل في النعمة العجيبة لله كما يظهرها لنا الإنجيل، والتي فيها العلاج من الدمار الذي نتج عن السقوط. وهذا الإعلان للبشرى السارة يقع في جزأين: فيظهر أولاً الإنجيل وهو يتناول موضوع خطايانا: ثم، وعندما تتم تسوية هذه المسألة المتعلقة بخطايانا، يأتي مبدأ الخطيئة في أن الخطيئة هي في الجسد، أي في الذهن الجسداني الشهواني الذي يسيطر على الإنسان غير المخلَّص وغير المتجدد. الموضوع الأول تم بحثه في القسم (٣: ٢١- ٥: ١١)، وهذا الموضوع التالي سنناقشه الآن.

يقول كاتب الرسالة: "وأما الآن" ١ . وهذا يوحي بتغيير مقصود في موضوع الحديث. أما الآن وقد صار الإنسان مكشوفاً كلياً، فإن الله سيُعلن. أما الآن وقد ثبت بالبرهان إثم كل البشر "يظهر برّ الله". في القديم كان يرد القول: "سأُظهر برّي". وهذا البر لا يُقصد به البر المكتمل المعترف به، لأن هذا النوع من البر ما كان الإنسان قادراً على أن يحصل عليه من الله. إنه برّ "بدون الناموس"، أي أنه مستقل تماماً عن أي مبدأ بالطاعة البشرية للشريعة الأخلاقية الإلهية التي رسمها الله. إنه بر الله للإنسان الآثم، ولا يستند إلى استحقاق بشري باستحواذه.

إن برّ الله تعبير ذو معنى كبير واسع. وهنا يعني بر الله الذي يتخذ به الله موقفاً مثالياً بالنسبة للناس المذنبين يجعل الله نفسه مسؤولاً عنه. فإن خَلَصَ الناس أبداً فهذا سيكون في البر. ولكن الإنسان محروم كلياً من هذا. ولذلك لابد أن يجد طريقة يحقق فيها مطلب عرشه العادل، وفي نفس الوقت يبرر الخطأة الآثمين من كل شيء. إن طبيعته ذاتها تتطلب ألا يكون ذلك على حساب البرّ بل في انسجام كامل معه.

وهذا ما كان يجول في فكر الله منذ البدء. إنه "مشهودٌ له". أو يتضمن شهادة "من الناموس والأنبياء". فيصوره موسى بأشكال عديدة من الجمال الأخّاذ. وإن أغطية الجلد الذي أُلبِسَ لجدينا الأولين، والأضاحي المقبولة بالنيابة عن مقدميها، ورمز خيمة الإجتماع العظيم، كل هذا يدلنا على قصة البر الذي وهبه الله للخاطئ الفاجر الذي يؤمن به. الأنبياء أيضاً تناولوا نفس القصة. وتنبأوا عن مجيء البار الذي سيتوجب عليه أن يموت لكي يقرّب الأثمة إلى الله. لقد هتف داود صارخاً: "خلّصني في برك" و"انضحني بالزوفى فأطهر. اغسلني فأَبْيَضَّ أكثر من الثلج". ويقول إشعياء: "لقد أَلْبَسَنا كساء الخلاص في ثوب البر"، لأن "تأديب سلامنا عليه" ذاك الذي "جُرحَ لأجل معاصينا". ويقول إرميا: "هذا هو اسمه الذي سيُدعى به، إله برّنا". وكان الوعد لحزقيال: "سأنقذك من كل آثامك". وتنبأ الملاك جبرائيل لدانيال بإقامة "المصالحة لأجل الآثام" وتحقيق "البر الذي لا انقضاء له". ويتناول من يُدعون بـ (الأنبياء الصغار) نفس الموضوع، وكل شيء يشير مسبقاً إلى الآتي الذي به سيتم الخلاص يقيناً لجميع الذين يتوبون؛ فعبد يهوه الذي سيصبح الراعي المتألم لفداء الإنسان "لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا»" (أعمال ١٠: ٤٣).

إن بر الله هو بر "بالإيمان". وليس "بالأعمال". والإيمان هو الثقة بكلمة الله ووعده. ولذلك فقد أرسل الرسالة إلى الإنسان لكي يؤمن بها. إنه عرض البر الموثوق الذي لا يرقى إليه الشك للجميع، ولكنه فقط لكل الذين يؤمنون. هناك سؤال يتعلق بالنص الذي نقرأه هنا. فبعض المحررين يرفضون عبارة "لكل". ولكن ليس هناك شك في الحقيقة الضمنية التي يدل عليها هذا التعبير. فإن الله يقدم البر مجاناً للجميع. وهذا يشمل كل الذين يؤمنون وهم وحدهم فقط. فالجميع بحاجة لهذا البر على حد سواء، لأن الجميع أخطأوا. وليس من خلاف حول هذه النقطة. لم يصل إنسانٌ إلى الكمال. بل الجميع أعوزهم مجد الله. ولكنه لا يبحث عن أهلية الإنسان. بل يمنح بره عطية مجانية. ولذلك نقرأ: "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ"(الآية ٢٤).

أن نتبرّر يعني أن نُعلَن أبراراً. إنه حكم القاضي الصادر بحق السجين. إنه ليس حالة أو وضعاً للنفس. نحن نتبرّر لأننا نصبح أبراراً في قلبنا وحياتنا. والله يبررنا أولاً، ثم يمكّن المتبرر من السلوك في البر العملي. إننا متبررون مجاناً، أي "بلا ثمن". وبنفس المعنى تأتي الآية في (يوحنا١٥: ٢٥): "لقد أبغضوني دون سبب". لم يكن من شر أو إثم في طرق أو حياة يسوع، حتى يكرهه الناس. لقد أبغضوه بلا سبب. ولذلك فليس في الإنسان خير أو صلاح حتى يبرره الله لأجله. إنه يتبرّر مجاناً، بدون سبب، عندما يؤمن بيسوع.

ويكون هذا "بالنعمة". والنعمة ليست منّة لا نستحقها وحسب بل النعمة امتياز نحصل عليه رغم عدم استحقاقنا. إنه صلاح الله، ليس فقط نحو البشر الذين فعلوا أو يمكنهم أن يفعلوا ما يجعلهم يستحقونه، بل إنه هبة تقدم للناس الذين يستحقون عكس ذلك بالأحرى، فـ "حَيْثُ كَثُرَتِ الْخَطِيَّةُ ازْدَادَتِ النِّعْمَةُ جِدّاً".

"النعمة تسود على الخطيئة
والأرواح المفتداة تترنم بهذا النبأ السار.
فإنها عميقة لا يُعرف غورها.
ولا يدرك طولها وعرضها.
وفي مجـــدها
لتسكن روحي إلى الأبد".

إذاً حتى يظهر الله النعمة في البر على نحو لا يمكن إنكاره باعتراف جميع الخطأة المدانين، لابد أن يكون لدى الله مبدأ عادل ومرضي. فالخطيئة لا يمكن إغفالها. ويجب التكفير عنها. وهذا تحقق "بالفداء الذي بيسوع المسيح". والفداء هو شراء ما سبق أن بيْعَ. لقد خسر الإنسان حياته بسبب طرقه المعوجة. فبيْعَ تحت الدينونة. والمسيح القدوس- الإله والإنسان في أقنوم واحد ممَجدٍ، والذي لم يرتكب خطيئة أو معصية- أخذ مكان المتمرد العاصي الأثيم، ودفع الجزاء كاملاً، محرراً بذلك الخاطئ الذي يؤمن من الغضب واللعنة التي باع نفسه لهما.

"حمل على عود الصليب العقاب عني
ضامناً ومحرراً إياي أنا الخاطئ الأثيم".

وذاك الذي مات يحيا من جديد وهو نفسه الكفارة الأبدية- وبالتحديد عرش الرحمة، المكان الذي يستطيع الله أن يلاقي فيه الإنسان بدم المسيح الكفاري- المتاح لكل من يؤمن. يشير الرسول بولس بوضوح إلى عرش الرحمة المرشوش بالدم على تابوت العهد في العهد القديم. حيث داخل التابوت توجد ألواح الناموس. وفوق الكروبيم "العدل والحق" قاعدة كرسي عرش الله. وهي جاهزة، كما على الدوام، للانتقال من ذلك العرش لتحقيق غضب الله العادل على من دنّس قدسية ناموسه. ولكن رُشّ على عرش الرحمة الدم الذي يرمز إلى ذبيحة الصليب. وهكذا تم إيفاء العدل والحق. "الرحمة تفرح بالحق" لأن الله نفسه أوجد الفداء.

إلى أن تألم الرب يسوع عن الخطايا، ذاك البار الذي تألم عن الأثيم، لكي يأتي بنا إلى الله، لم تكن مسألة الخطية قد حسمت بعد حقيقةً. "إذ ما كان ممكناً لدماء الثيران والمعز أن تمحو الخطايا". ولذلك فإن قديسي العهد القديم كانوا قد خلصوا جميعاً "بالدَّيْن"، كما نقول. أما الآن وقد مات المسيح فقد تم إغلاق الحساب وتسوية الأمر، ويعلن الله بره بالنسبة للخطايا المعلقة في العصور الماضية عندما كان الناس يتحولون إليه بالإيمان. وبالتالي فإن المقصود في (الآية ٢٥) ليس خطايانا السالفة، بل هي خطايا المؤمنين في الزمن الذي سبق الصليب. وها هو الله الآن حيث أن العمل قد اكتمل- يعلن برّه. إذ أظهر كيف يمكنه أن يكون عادلاً ويبرر الخطأة الفجّار الذين يبلغون إلى الإيمان بيسوع. وهذا لا يترك مجالاً للافتخار بدور الإنسان، بل على العكس يجعل المرء يشعر بالخزي والندم لدى رؤية الثمن الباهظ الذي دفعه المخلص عن خطايانا، كما ويجعلنا نمتلئ مديحاً بهيجاً إذ نتأمل في النعمة التي عمَلَت بشكل رائع عجيب لأجلنا. إن الاستحقاق البشري يبقى خارج لب هذه القضية. فالخلاص بالنعمة بالإيمان. "إِذاً نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ". وهذا ينطبق إذاً على الأمميين الذين لا ناموس لهم كما على اليهود متعديي الناموس. فنفس الخبر السار يعم الجميع. فذاك الذي هو خالق الكل قد صفح عن الجميع، فسيبررُ المختون، ليس بالطقوس، بل بالإيمان، وأيضاً الأممي الأغرل على نفس المنوال.

هل في هذا إبطال أو تجاهل للناموس؟ لا على الإطلاق. فالناموس كان يدين من ينتهكه ويطالب بالانتقام من الفاعل. ولهذا وُلدَ المسيح، لكي يرفع سلطان الشريعة، ويخلّص أيضاً الخاطئين.

"فعلى المسيح ألقى القدير وِزْرَ الانتقام،
ذاك الذي دكّ أسافل الجحيم،
فحمله عن جماعةٍ مُصْطَفين،
وصار ملاذاً للاجئين".

في الإصحاح الرابع يتابع الرسول بولس الحديث مُظهراً، من خلال إبراهيم وداود كيف أن كل ذلك قد شهد له الناموس والأنبياء. الاستشهاد بإبراهيم مأخوذ من التوراة، كتب الناموس؛ وداود من المزامير، وهذه مرتبطة بالأنبياء.

فماذا نرى في إبراهيم إذاً؟ هل كان مبرراً أمام الله بأعماله؟ إن كان الأمر كذلك فإنه كان ليفخر بذلك، إذ أنه يكون قد استحق بجدارة التأييد والقبول من الله. ولكن ماذا يقول الكتاب المقدس؟ في (تك١٥: ٦) نقرأ: "«فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً»". هذا هو نفس المبدأ الذي ما برح بولس يركز عليه ويشرحه بوضوح.

أن تنال الخلاص بالأعمال يعني أن تضع الله في قبضتك. وسيكون الفضل في ذلك للعامل الناجح الذي خلّصك. وهذا نقيض النعمة، التي هي رحمة يفيض بها الله على "الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ". فإيمانه هو الذي يُحسب له برّاً. وعلى هذا يشهد إبراهيم. ونسمع داود يشيد بمدح وسعادة الإنسان الذي يحسب الله له براً بدون أعمال، إذ يهتف في المزمور ٣٢ قائلاً: "«طُوبَى لِلَّذِينَ غُفِرَتْ آثَامُهُمْ وَسُتِرَتْ خَطَايَاهُمْ. طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً»". في هذا المزمور، الكلمة العبرية المستخدمة "سُتِرَتْ" تعني "كُفّر عنها". هذه هي بشرى الإنجيل. التكفير قد تم. ولذلك فإن الله لا يحسب خطيئة لمن يؤمن بابنه، بل بالحري يحسب له براً.

أطلق لوثر على المزمور ٣٢ "المزمور البولسي". فهو يعلّم من دون ريب نفس العقيدة المجيدة للتبرير بمعزل عن الاستحقاق البشري. فعدم احتساب الخطيئة مساوٍ لاحتساب البر. ونعلم عن أغسطينُس أسقف هيبو ٢ أن هذه الكلمات كانت مكتوبة على لوحة وقد وضعت عند حذاء سريره حيث كان يستطيع رؤيتها بعينيه المحتضرتين. ولآلاف مؤلفة من الناس كان لهذه الكلمات وقع جميل في النفس بالغبطة والسلام، إذ يدرك المرء من خلالها أن الآثام مغفورة والخطايا مكفرٌ عنها، كما كانت تعني فعلاً الكلمة العبرية في العهد القديم التي تُرجمت بـ "سُتِرَتْ".

هذه السعادة المُنعم عليها من الله ليست لقلةٍ مختارة فقط، بل هي مجانية للجميع. لقد حُسِبَ الإيمان لإبراهيم براً عندما كان على أرض الأمميين قبل أن يُوضع الختان كعلامة العهد على جسده. لقد كانت حقاً علامة على ما كان حقيقياً منذ ذاك الوقت، تماماً كما هو الحال في المعمودية المسيحية. فلأنه تبرّر فقد أُمر بأن يختتن. وفي العصور التي تلت اعتبار اليهود هذه العلامة على أنها أكثر أهمية من الختان، كان الناس يمجّدون للغاية المرئيات على حساب اللامنظورات.

إن إبراهيم يُدعى "أبو الختان" لأنه من خلاله بدأ هذا الطقس. ولكنه أبٌ ليس فقط لأولئك الذين في الختان بكل معنى الكلمة بل لكل من ليس لهم إيمان بالجسد، أولئك الذين أدانوا الجسد لأنه ضعيف وعديم النفع، والذين يؤمنون، مثله، بالإله الحي.

وإن الوعد له بأنه سيكون وارثاً للعالم لم يُعْطَ له "بالناموس" أي أنه لم يكن مكافأة قد نالها بجدارة، شيئاً قد ناله بالطاعة. لقد كان على أساس النعمة الجليلة. ولذلك فإن برّه مثل برنا إذا ما آمنا، هو "بر بالإيمان". وإن وارثي الموعد هم أولئك الذين يتقبلونه بنفس الإيمان، وإلا سيكون باطلاً تماماً. لقد كان وعداً غير مشروط.

لقد وعد الناموس بالبركة مقابل الطاعة وأعلن الدينونة على العصيان. لم يحافظ أحد عليه. ولذلك فإن "الناموس ينشئ غضباً". يمكنه أن يسبب لعنة. ويمكن أن يمنع البركة. إنه يزيد حدة الخطيئة إذ يعطيها صفة التعدي، جاعلاً منها انتهاكاً متعمداً للناموس المعروف. ولم يكن ليشكل وسيلة لاكتساب ما أُعطي مجاناً.

إن الوعد بالبركة عبر النسل- الذي هو المسيح- هو بالإيمان الذي يكون بالنعمة. ولذلك فهو "مؤكد مضمون" لجميع النسل، أي لمن هم من الإيمان. كل هؤلاء هم "من إيمان إبراهيم". ولذلك فهو أبٌ لجميعنا، نحن الذين نؤمن بيسوع. وهكذا تحقق الوعد كما كُتب: "«إِنِّي قَدْ جَعَلْتُكَ أَباً لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ»". وهذا يأتي كجملة معترضة. وعلى الأرجح أن الكلمات "قبلَ ذاك الذي آمن به" تأتي بعد الكلمات "هو أبٌ لجميعنا". بمعنى آخر، إن إبراهيم، ورغم أنه ليس أباً لنا بالولادة الطبيعية بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أنه أبٌ لكل الذين يؤمنون، في نظر الله. فالإيمان نفسه يميّز الجميع.

إن الله هو إله القيامة. إنه يعمل عندما تكون الطبيعة لا حول لها ولا قوة. لقد عمل هكذا مع إبراهيم وسارة. فقد كانا كلاهما قد تجاوزا الزمن القادران فيه على الإنجاب الطبيعي. وعمل هكذا أيضاً عندما أقام المسيح، النسل الحقيقي، أولاً بإحضاره إلى العالم بخلاف الطبيعة، من أم عذراء، وثانياً بإقامته من بين الأموات. لقد آمن إبراهيم بإله القيامة، ولم ينتابه الشك أبداً بالوعد الإلهي رغم أن تحقيق ذلك كان يبدو مستحيلاً. وإن الله يُسرّ بالمعجزات. فما يَعد به يصنعه. وباقتناع كامل بذلك آمن إبراهيم بالله وحسب له هذا براً. بنفس الطريقة نحن مدعوون لنؤمن بذاك الذي أقام ربنا يسوع من الموت- ذاك الذي بنعمته اللامتناهية، سُلِّم إلى الموت ليصنع فداء عن معاصينا وآثامنا، والذي، بإكماله لعمله هذا لمسّرة الله، أُقيمَ من الموت لتبريرنا. فقيامته هي الدليل على رضى الله. فقد تم استرضاء العدالة الإلهية. وحُفظت قداسة الله. وأُرسي الناموس. وبذلك أُعلن الخاطئ المؤمن مبرّراً من كل إثم. هذا ما يشهد به الإصحاح الرابع.

في الآيات الإحدى عشر الأولى من الإصحاح الخامس لدينا تلخيص رائع يصل بنا إلى هذا الجانب من الموضوع. "فإذ"، أي نظراً إلى كل ما تم إثباته بشكل واضح وأكيد، "قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ، لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". يصيغها البعض على النحو التالي: "ليكن لنا سلامٌ". ولكن هذا يُضعف قوة الفكرة بأكملها. فالسلام، هنا، ليس حالة الفكر أو القلب. بل هو وضع سائد بين شخصين كانا متخاصمين متنافرين. إن الخطيئة زعزعت العلاقة بين الخالق والمخلوق. وحدث شَرْخٌ لم يستطع الإنسان أن يصلحه. ولكن حَلّ السلام بدم المسيح على الصليب. وما عاد هناك عائق أو حاجز. فالسلام مع الله هو حالة راسخة يدخل إليها كل مؤمن. لقد تمت تسوية مسألة الخطيئة. إن كانت هناك أمتان متحاربتان فلن يكون هناك سلام. ولكن إذا تحقق السلام تزول الحرب. "إذ يقول الله ليس من سلامٍ للشرير". "ولكن المسيح صنع السلام". نعم "إنه سلامنا". نحن نؤمن بذلك، ولنا سلام مع الله.

ربما يقول أحدنا: "لنَنعَم بالسلام مع الله". ولكن القول "ليكن لنا سلام مع الله" كلام غير منطقي في ظاهره. إن لنا السلام. إنه أمرٌ مؤكد ثابت وراسخ. لقد صنعه لنا، هو بنفسه وليس نحن.

"فعلى المسيح ألقى القدير وِزْرَ الانتقام،
ذاك الذي دكّ أسافل الجحيم،
"إنه السلام الأبدي،
الأكيد كاسم الله الكائن،
إنه ثابت ككرسي عرشه،
ولن يزول إلى الأبد.
محبتي ضحلة على الدوام،
وفرحي بين مد وجزر،
ولكن السلام معه يبقى ولا يتحول،
فالكائن لا يعرف تبدلاً.
أنا أتحول، أما هو فلا يتبدل،
ولا يمكن لمسيحي أن يموت أبداً،
فالصداقة التي وُقِّعَتْ بالدم لا تتحول،
وحقّه هو، إلاّي، راسخ".

إن "سلام الله" أمرُ آخر، كما في (فيلبي ٤: ٦، ٧). فهذا يمكن اختباره. إنه النصيب الثابت الدائم لكل الذين يتعلمون أن يلقوا عليه كل همهم وهو الطويل الأناة الذي يحمل أعباءهم ويريحهم.

لكي ندرك هذا التمييز ونفهمه حقاً بالإيمان هو أمر بالغ الأهمية. إلى أن تدرك النفس أن السلام المتأتي من دم صليبه هو أبدي راسخ لا زعزعة فيه، وحتى لو كانت خبرة المرء مختلفة عن ذلك بسبب إخفاق شخصي أو نقص الإيمان الملائم، سوف لن يكون هناك يقين عند المرء بخلاصه النهائي.

ولكن معرفتي بأن هذا السلام المستند، ليس على أساس مزاجي أو شاعري، بل انعتاقي من الخطيئة الذي تم إنجازه، تجعل لدي دخولاً واعياً بالإيمان إلى هذه النعمة التي فيها أنا مقيم. أنا أقيم في النعمة؛ وليس في استحقاقي الشخصي. لقد خلصت بالنعمة. وأستمر قدماً في النعمة. وسأتمجد بالنعمة. الخلاص من البداية إلى النهاية إجمالياً هو من الله، ولهذا فهو من النعمة كلياً.

"النعمة هي أعذب صوت
قد تناهى إلى سمعنا:
عندما يثقل ضميرنا وتعبس العدالة،
فالنعمة تحررنا من الخوف.
النعمة منجم للثروة،
قد وضع لأجل الفقراء.
النعمة هي نبع العافية الجليلة،
إنها الحياة وإلى الأبد.
فلنرنم بالنعمة إذاً،
ونشيد بعظمتها العجيبة،
فالنعمة ستجلب المجد،
ومعه سوف نحكم."

هذا هو الصولجان الذهبي الذي يقلِّدُ به ملكُ المجد جميعَ الذين يتجرأون على الاقتراب منه بالإيمان.

لاحظ أن الدخول والإقامة أمامنا في هذه الآية الثانية من الإصحاح الخامس من الرسالة التي تتناولها. الدخول يعتمد على موقفنا، ليس على حالتنا. ويجب تمييز الفرق بين المفردات بانتباه. في رسالة فيلبي نقرأ كثيراً عن "حالتك". فقد كان بولس مهتماً كثيراً بهذا الأمر. ولم يكن لديه خوف أبداً من موقف أولاد الله. هذا راسخ إلى الأبد.

الوقوف أو الموقف يشير إلى الوضع الجديد الذي أوضع فيه بالنعمة مبرراً أمام عرش الله وفي المسيح القائم، وهذا لا تناله دينونة إلى الأبد. أما الحالة في وضع النفس، إنها خبرة. إن الموقف لا يتبدل أبداً. أما الحالة فتتقلب وتتغير، وهي تعتمد على المعيار الذي فيه أسير مع الله. إن موقفي دائماً مثالي لأنه يقاس بقبول المسيح. فأنا مقبول فيه. "فكما هو، كذلك نحن في هذا العالم." ولكن حالتي ستكون جيدة أو سيئة حسبما أسلك بالروح أو أسلك بحسب الجسد.

إن موقفي يعطيني الحق لأدخل بوعي وإدراك كمتعبد طاهر منقّى إلى القُدُسات وأن أدنو بجرأة إلى عرش النعمة بالصلاة. كان الإله قديماً يقول: "قفوا بعيداً واعبدوني". وما كان الدخول معروفاً في ظل عهد الشريعة. كان الله محجوباً: ولم يكن الحجاب قد انشق بعد. والآن كل شيء قد اختلف، وإننا مدعوون لأن "ندنو بقلوب نقية مليئة بيقين الإيمان، وقد نُضِحَتْ قلوبُنا من النوايا الشريرة، غُسِلَت أجسادُنا بمياه نقية".

"والآن ندنو من عرش النعمة،
لأن دمه والكاهن هناك،
ونلتمس بفرح وجه الله القدوس،
ونحن نحمل مبخرة المديح والصلاة،
فقد زال الجبل المحترق والحجاب السري
مع مخاوفنا وآثامنا.
وينتعش قلبُنا بالسلام الذي لا يزول،
فها هو الحمل في الأعالي متربعاً على العرش"

ولذلك فإننا نبتهج حقاً على رجاء مجد الله. إنه رجاء لا يرقى إليه الشك، فهو رجاء أكيد ويقين لأنه يستند إلى العمل المنجز الذي قام به مسيح الله والكاهن الجالس على يمين جلال الله في السماء. إن المجد أكيد لجميع المبررين بالإيمان، ولذلك فلهم سلام مع الله.

ولكن قبل أن نبلغ إلى المجد علينا أن نطأ على رمال البرية هذا هو مكان الامتحان. وهنا نتعلم الموارد اللامتناهية لإلهنا العجيب. وهكذا نتمكن من أن نتمجد في الضيقات التي يعجز الإنسان الطبيعي عن الابتهاج فيها. فالضيقة هي المِدْرَس المقام من الله ليفصل الحب عن القش. ففي الألم والمعاناة والحزن ندرك تفاهتنا وعبثيتنا وعظمة القوة التي عُهِدَ إليها أمرُ العناية بنا. وهذه دروس ما كنا لنتعلمها في السماء.

"اللمسة التي تشفي القلب المنكسر
لم نشعر بأسمى منها؛
ملائكته يعرفون غبطةَ قداسته،
وقديسوه الذين أنهكهم السفرُ حُبَّه".

ومن هنا فإن "الضيق ينشئ صبراً" إذا ما اقتبلناه لأنه من ربنا المحب نفسه، عالمين أنه بركة لنا ولخيرنا. فمن الصبر الطويل الأناة يفوح أريج الخبرة المسيحية، إذ تتعلم النفس كيف يمكن للمسيح أن يثبت بشكل عجيب في كل ظرف. والخبرة تزهر فتثمر رجاء، وتفطم القلب عن الدنيويات وتغمرهم بالإلهيات التي نحث الخطى نحوها.

ومن هنا فإن ""الرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا". وهنا يرد ذكر عمل الروح لأول مرة في الرسالة. لقد قرأنا عن روح القداسة في الإصحاح الأول فيما يختص بعمل المسيح والقيامة، ولكن لم نسمع ذكراً واضحاً عن عمل الروح في المؤمن إلى أن تدخل النفس في السلام من خلال إدراك عمل المسيح المنجز. وهذا أمر بالغ الأهمية. فلست أخلص من خلال ما يجري في نفسي. بل أخلص بما صنعه الرب يسوع لأجلي. أما الروح فيختمني عندما أؤمن بالإنجيل، وبسكناه فيّ تتدفق محبة الله في قلبي.

"حالما أقبلتُ بجرأة
إلى الدم الكفاري،
دخل الروح القدس إلى نفسي،
لأني وُلِدتُ من الله".

إنه لخطأ فادح أن أعتمد على إدراكي الذاتي بعمل الروح في داخلي كأساس ليقيني. فاليقين هو بكلمة الحق في الإنجيل. ولكن عندما أؤمن، أتلقى الروح القدس. وهذا ما يتناوله الإصحاح الثامن من هذه الرسالة بكثافة. وهذا يعطي دليلاً مؤيداً. "فإننا نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة."
إن الآيات ٦ – ١١ تشكل مقطعاً منفصلاً. في هذا القسم لدينا موجز لكل ما ورد سابقاً، قبل أن يستأنف الرسول حديثه في القسم التالي شارحاً الجانب الآخر من الإنجيل فيما يتعلق بخطيئتنا.

لقد كنا عاجزين، لا قوة لنا، عندما أرسل الله، بالنعمة، ابنه، الذي مات عن الخطأة الفجار الذين لم يكن فيهم أي صلاح.
وليس لهذا مثيل عند البشر. فقلة هم الذين يمكن أن يموتوا طوعياً عن إنسان فاضل بار مشهود له بذلك– ولكن أقل من ذلك بكثير هو احتمال أن يموتوا عن إنسان أثيم. قد يكون هناك بعض الناس على استعداد للموت عن إنسان صالح لطيف خيّر قد فاز بقلوبهم بسلوكه المهذب اللبق. ولكن الله "أظهرَ محبَّتَه ذاته (كما يرد في اليونانية) نحوَنا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا". وأصبح بذلك بديلاً عن العصاة الآثمين. فإن كانت المحبة قد أسلمته إلى الموت على الصليب ونحن بعد ضالين وضيعين للغاية، فإننا ندرك بما لا يرقى إليه الشك بأننا، وقد تبررنا بدمه، فإنه سوف لن يسمح بأن نأتي إلى دينونة: "فسنخلص به من الغضب".

هذا الإصحاح أطلق عليه اسم الإصحاح ذي "الأمور الخمس الأكثر"، ولدينا أولها في الآية التاسعة. فكما يقول: "الأكثر من ذلك إذاً"، وبما أننا قد تبررنا من كل تهمة بدم ابن الله، فإننا وإلى الأبد في منأى عن انتقام الله من الخطيئة.

أما الاستخدام الثاني لهذا التعبير فيأتي في الآية ١٠: "لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ فَبِالأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ". كم هم عميان أولئك الذين يرون في هذه الآية إشارة إلى الحياة الدنيوية لربنا تبارك اسمه. تلك الحياة- النقية والمقدسة– ما كانت، رغم ذلك، لتخلص خاطئاً واحداً. بل إنه بموته صنع كفارة عن خطايانا. إن محبة الله التي تبدت بشكل كامل في كلام وأقوال وأعمال يسوع، أزالت الكراهية التي تسمم قلب البشر. ولكن موت يسوع هو الذي دمّر العداوة – فعندما أُدْرِكُ أنه مات لأجلي أتصالحَ ُمع الله. والكراهية كلها إنما كانت من جانبي أنا – وما كان الله ليحتاج لأن يتصالح معي – بل أنا من كان في حاجة إلى المصالحة، وقد نلتُها بموت يسوع. وإذ أنه حدَثٌ أُنجز حقاً فإني أعلم علم اليقين بأني "أخلص بحياته". إنه يقول: "بما أني حي فستحيا أنت أيضاً". وبالطبع فإن الحديث يدور عن حياة قيامته. "فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ" (عبرانيين ٧: ٢٥). إن المسيح الحي القائم على يمين الله هو ضمان افتدائي الأبدي. إنه حيّ ليدافع عن قضيتنا، ويحامي عنا في كل المحاكم، ويوصلنا بأمان وسلام إلى بيت الآب في نهاية المطاف. إننا مكبلون إلى صرة حياته ذاته، وهذا هو فحوى الجزء الأخير من الإصحاح والذي يتعلق بالوجه الثاني من موضوع الخلاص.

وإذ نحن على يقين في الزمان والأبدية فإننا ""نَبتهجُ أَيْضاً بِاللَّهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي نِلْنَا بِهِ الآنَ الْمُصَالَحَةَ" (الآية ١١، انظر الحاشية). لسنا نحن من تلقى الكفارة بل الله. كنا في حاجة لأن نصنع كفارة عن خطايانا، ولكنا كنا عاجزين عن ذلك. فقدمها يسوع نيابة عنا بأن قدم نفسه كفارة، هو الذي لم يرتكب إثماً تجاه الله. ولذلك فالله هو من قَبِلَ الكفارة، وأما نحن الذين كنا "أعداء" و"منصرفين عنه في عقولنا بأعمالنا الشريرة" فقد نلنا المصالحة. لقد زالت العداوة. وإننا في سلام مع الله، ونفرح بذلك الذي صار نصيبنا الأبدي.

هذه هي النهاية المجيدة – للوقت الحاضر – التي ما برح الروح القدس يقودنا إليها. إن خلاصنا كامل ومنجز بالتمام وتلاشت خطايانا. إننا مبررون مجاناً بنعمة. لنا سلام مع الله ونتطلع بيقين وفرح إلى النعيم الأبدي مع ذاك الذي افتدانا.

الأمور الثلاثة الأخرى "الأشد" يرد ذكرها في القسم التالي، حيث يتم طرح مسألة الرئاستين. وسوف نلاحظها بالترتيب عندما نصل إليها.


١. (رومية٣: ٢١)

٢. أغسطينوس الذي من هيبو ( Augustine of Hippo ): كاهن ولاهوتي كاثوليكي روماني, كتب رائعته "مدينة الله" التي أثرت كثيراً في تطور المسيحية. كان أسقف هيبو في شمال افريقيا منذ عام ٣٩٦ وحتى وفاته.

المترجم.