المحاضرة ٤

ذبيحة الخطية

اقرأ لاويين، الأصحاح ٤؛ ٥: ١- ١٣؛ ٦: ٢٤- ٣٠؛ مزمور ٢٢؛ ٢ كورنثوس ٥: ٢١.

لقد لاحظْنا لتوّنا أنَّ القرابينَ الدموية مقسّمة إلى نوعين: تقدمات رائحة سرور (أو رضا) وذبائح عن الخطايا. ذبيحة المحرقة وذبيحة السلامة هما من النوع الأول، بينما ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم من النوع الثاني. لم يكن يُؤْتى بذبيحة المحرقة لأن الأموركانت تسير على غير ما يُرام؛ لقد كانت تعبيراً عن عبادة المُقرِّب. لقد كان يأتي بها إلى الله كدليل على امتنان قلبه بسبب ما كان الله بالنسبة له وما فعله لأجله، وهذه كانت تصعد إلى الرب كرائحة رضى. وكما رأينا، كانت تمثّلُ الرّبَّ يسوع المسيح مقدماً نفسه بدون أية وصمةٍ أو لطخةٍ لله كتقدمةً رائحة سرورٍ بالنيابة عنا. عندما نأتي إلى حضرة الله كمتعبدين وقلوبنا منشغلة بالمسيح، فإننا نأتي ومعنا ذبيحة المحرقة. تُؤْخَذُ نفوسُنا به، وهو المستحق، الذي بذل نفسه عنا نحن الذين كنا غير مستحقين. إننا نفكر به ليس فقط على أنه ذاك الذي مات عن خطايانا، بل كإله متمجد في هذا العالم حيث أخزيناه وخذلناه كثيراً، ونعبده بسبب ما هو عليه، وأيضاً بسبب ما فعله. إن الطفل يحب والدته ليس فقط بسبب ما تفعله بل بسبب ما هي عليه. إن قلبها المحب الحنون هو الذي يجتذب الطفل إليها. وكذلك كان بنو إسرائيل يعبّرون عن عبادة نفوسهم من خلال ذبيحة المحرقة. لقد كانت اعترافاً بصلاح الله، ولأنه رأى فيها ما يرمز إلى ابنه فقد صعدت كرائحة سرورٍ إليه. وإذ رأى دخان المحرقة يتصاعد إلى السماء، فإنه كان ينظر إلى الجلجثة؛ فأمكنه أن يرى مسبقاً كل ذلك العمل المُبارَك الذي سيقوم به الرب يسوع، والذي يدل على كم كان يعني ذلك بالنسبة له؟ في تكوين ٨: ١٠، ٢١ نقرأ كيف أن نوح قد قدم محرقة على الأرض المتجددة، ونعلَمُ أن الرب تنسم رائحة الرضى، أو، كما تُورِد هوامش أحد طبعات الكتاب المقدس، "رائحة الارتياح". لقد كان شيئاً يجد قلبُه فيه مسرةً، ليس بسبب أي قيمة جوهرية فعلية لها بحد ذاتها بل لأنها كانت رمز المسيح وعمله.

ثم في ذبيحة السلامة لدينا اقتراح آخر. ففيه كان الإسرائيلي التقي يعبر عن شركته مع الله ومع الآخرين الذين كانوا يتناولونها معه. إن جزءاً منها كان يُحرق على المذبح. لقد كان يُدعى طعام التقدمة، وكان يرمز إلى رضى الله بالكمالات الداخلية لابنه. ثم كانت تُعطى ساق الرفيعة إلى هارون وأبنائه لكيما يتغذوا عليها. الساق هي مكان القوة. كانت العائلة الكهنوتية تتناول حصّتها من ذاك الجزء الذي يرمز إلى القوة المقتدرة والقوة التي لا تخيب للرب يسوع المسيح. وكان الكاهن المترئس للخدمة يتناول صدر الترديد. الصدر يشير، بالطبع، إلى العواطف، والمحبة، وهكذا كان على الكاهن أن يتناول ذلك الجزء الذي يمثل المحبة الحانية للمخلّص الآتي. ثم كان المقرِّبُ يدعو عائلته وأصدقاءه، وكانوا جميعا يجلسون معاً ويتناولون ما يتبقى من ذبيحة السلامة. كل جزء منها كان يرمز إلى المسيح. ومن هنا فإننا نرى الله، وهارون، وبنيه، والكاهن الخادم، والمقرِّب، وأصدقاءه جميعهم في شركةٍ سعيدةٍ يتناولون معاً تلك الذبيحة التي ترمز إلى المسيح. وكذلك الأمر اليوم، إن جميع أولئك الذين خلصوا بموته على الصليب يُدعون للتمتع بالمسيح معاً في صحبة وعلاقة مقدسة معه نفسه، وهو ذاك الوحيد الذي صنع سلاماً بدم صليبه.

والآن نأتي إلى وجهة نظر أخرى في الأشياء. إلى أن ترى النفس فيه ذاك الذي أخذ مكان الخاطئ وحمل دينونته، لا يمكن أن يتم التمتع بالمسيح أبداً على أنه ذاك الذي صنع سلاماً؛ ولذلك لدينا ذبيحة الخطيئة. إنه لأمر صعب نوعاً ما أن نميز بين الجانبين في ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم؛ ولكن الأولى تبدو نوعاً ما على أنها ترى الخطيئة كتعبير عن الحالة النجسة الدنسة التي في نفس طبيعة الخاطئ؛ في حين أن ذبيحة الإثم تؤكد على حقيقة أن الخطيئة يجب أن تُرى كدَيْن لا يمكن لإنسان أن يدفعه، ديناً لا بد أن يدفعه شخص آخر إن كان ولا بد من ذلك. لا أقول أن ذبيحة الخطيئة ترى فقط الطبيعة الشريرة فينا، لأن ذلك سيكون خطأ. من الواضح، على ما اعتقد، أن التعديات والآثام الفعلية هي التي نصب أعيننا في الأصحاحات ٤و٥ - ولكن ما أؤكّد على قوله هنا هو أن هذه الآثام والخطايا إنما هي إظهارات للطبيعة الفاسدة في ذاك الذي يرتكبها. فأنا لست خاطئاً لأني أخطئ؛ بل إني أخطئ لأني خاطئ. فأنا نفسي، نجس في عيني الله؛ وإني غير مؤهل أبداً للمثول أمامه؛ فأفعالي الشريرة تجعل هذا الأمر ظاهراً؛ ومن هنا الحاجة إلى ذبيحة الخطيئة. لنكن على يقين من أن هذه الذبيحة مثل بقية الذبائح إنما ترمز إلى المسيح، إذ كما نعلم من ٢ كورنثوس ٥: ٢١: "لأَنَّهُ (أي الله) جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ". إن الكلمات الأصلية المستخدمة لـ "الخطيئة" و"ذبيحة الخطية" هي نفسها في كلا العهدين، ولذلك يمكن أن نصيغ الآية بشكل آخر كما يلي: "لأَنّ الله جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، ذبيحةَ خَطِيَّة لأَجْلِنَا". وفي الرسالة إلى العبرانيين في الأصحاحات ٩ و ١٠، يُظهِرُ الروحُ القدس بوضوح كيف أن ذبيحة الخطية في القديم كانت ترمز إلى ذبيحته الوحيدة على صليب الجلجثة. في الواقع، في الاقتباس المأخوذ من المزمور ٤٠ كما نجده في الرسالة إلى العبرانيين ١٠: ٥، ٦، إن كل التقدمات والذبائح مُتَضمنة، وكلها تُظهِرُ على أن اكتمالها هو في عمل المسيح. "الذبيحة" هي ذبيحة السلامة؛ و"القربان" هو قربان التقدمة؛ و"المحرقة" تدل على ذاتها والعبارة "ذبيحةٌ للخطية" تشمل كلاً من ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم. ما نقرأُه أن "بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً"، في الآية ١٠، و"قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً"، في الآية ١٢، يُظهرُِ أن المسيح قد أنجز كل هذه الأنواع وكان هو المرموز إليه فيها.

ولننتقل إلى لاويين ٤: ٢. فنقرأ: "إِذَا أَخْطَأَتْ نَفْسٌ سَهْواً فِي شَيْءٍ مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَعَمِلَتْ وَاحِدَةً مِنْهَا"- ثم يعطي تعليمات حول كيفية معالجة الخطيئة. لاحظوا أنه لم يكن هناك ذبيحة خطيةٍ عن الخطايا المتعمدة المقصودة بحسب الشريعة. لقد كانت فقط الخطايا التي تُرتكب عن جهل. ولكن منذ الصليب، صار الله، بنعمته اللا محدودة، يحسب خطيئةً واحدةً فقط متعمدةً، وتلك هي الرفض النهائي لابنه المحبوب. كل الخطايا الأخرى يُنظر إليها كخطايا جهل؛ إنها ناتجة عن القلب الخاطئ الممتلئ بالجحود الذي في داخل كل واحد. إن الناس يخطئون بسبب الجهل الذي فيهم. تذكرون كلمات بطرس إلى بني إسرائيل الآثمين وهو يؤنبهم على خطيئتهم الشنيعة الرهيبة في صلبهم لرب المجد. فيقول: "وَالآنَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً". والرسول بولس، في حديثه عن صلب وموت المسيح، يقول: "الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هَذَا الدَّهْرِ - لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ". كم هي عظيمةٌ هذه النعمة المتجلية هنا! إن أبشع الخطايا نفسها التي ارتُكبت في تاريخ العالم يصنّفُها الله على أنها خطيئة جهل. وهكذا فإن ذبيحة الخطية متاحة لكل إنسان يرغب في أن يخلص. مهما كان سجلك (من الخطايا)، فإن الله ينظر إليك بشفقةٍ ورحمةٍ غير محدودة ومحبة، ويفتح باب الرحمة لك، لأنك أخطأت عن دون قصد. ولكن إن ظللتَ ترفض الرحمة التي يقدمها لك بالنعمة، فعندها ما عدت تستطيع أن تدّعي الجهل، لأنك تصلب بنفسك ابن الله من جديد وتعرضه للعار العلني. هذه هي الخطيئة المتعمدة المقصودة التي توصف بشكل مريع في الرسالة إلى العبرانيين، الخطيئة التي ليس لها مغفرة، إنها ليست موضوع مسيحي سقط وأخفق؛ بل إنها خطيئة الإنسان المستنير، ذاك الذي يعرف الإنجيل، والمتيقن فكرياً من حقيقته، الذي يدير ظهره عن عمد إلى تلك الحقيقة، ويرفض في نهاية الأمر أن يعترف بابن الله مخلِّصاً له. ليس هناك أمام هكذا إنسان سوى "قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ" (عب ١٠: ٢٧). إلا أن كل خاطئ بائس يرغب في أن يخلص يمكنه أن يستفيد من ذبيحة الخطية العظيمة (المسيح)، ويعلَم أن كل آثامه قد أُزيلَتْ.

في لاويين ٤: ٣ نقرأ: "إِنْ كَانَ الْكَاهِنُ الْمَمْسُوحُ يُخْطِئُ"؛ وفي الآية ١٣ نقرأ: "وَإِنْ سَهَا كُلُّ جَمَاعَةِ إسرائيل وَأُخْفِيَ أَمْرٌ عَنْ أَعْيُنِ الْمَجْمَعِ وَعَمِلُوا وَاحِدَةً مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَأَثِمُوا"؛ ثم في الآية ٢٢ نقرأ: "إِذَا أَخْطَأَ رَئِيسٌ وَعَمِلَ بِسَهْوٍ وَاحِدَةً مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ إِلَهِهِ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَأَثِمَ"، بينما في الآية ٢٧ نقرأ: "إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ مِنْ عَامَّةِ الأَرْضِ سَهْواً بِعَمَلِهِ وَاحِدَةً مِنْ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَأَثِمَ". عندما تقرأ التعليمات التي تلي ذلك ستلاحظ أن هناك عدة درجات من ذبائح الخطية. إِنْ خطِئ الْكَاهِنُ الْمَمْسُوحُ كان عليه أن يأتي بثور ابْن بَقَرٍ فتي، وهذه كانت أيضاً ذبيحة عن كل الجماعة؛ ولكن إن خطِئ رَئِيسٌ كان عليه أن يَأْتِي بِقُرْبَانِهِ تَيْساً مِنَ الْمَعْزِ ذَكَراً صَحِيحاً. من ناحية أخرى، إن خطئ واحدٌ من عامة الناس، كان يتوجب عليه أن يقرّب عَنْزاً مِنَ الْمَعْزِ أُنْثَى صَحِيحَةً أو غنمة من الماشية. ولكن في الأصحاح ٥: ١١- ١٣، نجد أنه حتى القرابين الأقل أو الأدنى كانت مقبولة إن كان المقرِّبُ في فقر مدقع. كل هذا يوحي بفكرة أن المسؤولية تزداد مع الامتياز. كان الكاهن الممسوح خاطئاً كما الجماعة كلها؛ كان يجب أن يعرف أفضل لأنه كان أقرب منهم بكثير إلى الله في الامتياز الظاهري. ثم الحاكم، ورغم أنه لا يكون مسؤولاً على نفس القدر مثل الكاهن، فقد كان أكثر مسؤولية من أحد عامة الشعب. هناك مبدأ هنا يجدر بنا أن نتذكره. كلما زاد الضوء الذي تلقيه حقيقة الله أمامك وكلما عظمت الامتيازات التي نتمتع بها في هذا العالم، كلما اعتبرَنا الله مسؤولين أكثر؛ وسوف نُدعى إلى تقديم حساب بحسب الحق الذي جعله معروفاً لنا. وللأسف أيها الأخوة، أليست حقيقةً مؤسفة تجعلنا نشعر بالخزي أمام الله في أن كثيرين منا، الذين يفتخرون في أنفسهم بالإعلان الرائع للحق، يكونون أحياناً أكثر إهمالاً ولا مبالاة في سلوكهم، ويصبحون أحجار عثرة لأولئك الذين هم أقل استنارةً منهم؟ كم نحن في حاجة إلى أن نلتجئ إلى ذبيحة الخطيئة العظيمة، لنتذكر، ونحن ننحني في الاعتراف بإخفاقنا أمام الله، أن كل خطايانا قد عولِجَتْ بصليب المسيح.

ليست هناك حاجة كبيرة إلى أن ندخل في كل التفاصيل  المتعلقة بكل ذبيحةٍ، ولكن لعلنا ننظر بشكل خاص إلى تلك التي يجب أن يقدمها الكاهن، إذ أنها تنطبق عملياً على كل شيء يُذكر فيما يتعلق بالذبائح الأقل شأناً. لاحظوا أولاً، أن الكاهن كان عليه أن يأتي بثور فتي صحيح لا عيب فيه إلى الرب كذبيحة خطية. ذاك الذي لم يعرف خطية، قد صار خطيئة لأجلنا! -وإلى هذا يرمز ذلك الثور الصحيح الذي بلا عيب. كان يجب أن يُؤْتى به إلى باب خيمة الاجتماع للجماعة، أمام الرب. كان على الخاطئ أن يطابق نفسه مع الذبيحة التي يقدمها بأن يضع يدَه على رأسها ويذبحها بنفسه، ثم الكاهن القائم بالخدمة يأخذ دم الثور، ويدخل إلى المقدس فيرشه سبع مرات أمام الرب أمام الحجاب. كان عليه أن يضع بعضاً من الدم عَلَى قُرُونِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ الْعَطِرِ الَّذِي فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ أمَامَ الرَّبِّ. وما تبقّى منه كان يجب أن يَصُبّهُ إلَى أسْفَلِ مَذْبَحِ الْمُحْرَقَةِ. يا لها من دروس مهيبة نتعلمها هنا! فهنا على هذه الأرض مات ربُّنا المبارَك كذبيحة عن الخطية عظيمة من أجلنا ؛ وهنا انسكب دمُه عند أقدام صليبه. وتشربت الأرض من دم خالِقِها. وذاك الدم المهراق يدل على الحياة التي بُذِلَت (لأجلنا). في لاويين ١٧: ١١، يقول الله: "نَفْس الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ فَأنَا أعْطَيْتُكُمْ إيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ لأنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ". حياتُه المقدسة والخالية من كل عيب والنقية والتي لا دنس فيها قد وَضَعها بالموت من أجلنا نحن الخطأة بالطبيعة وبالممارسة، والآن، وإذ نضع عليه إيماننا وثقتنا، فيمكننا أن نرنم قائلين:

"على حياة لم أعشْها،
وموت لم أمُتْهُ،
بل على حياة آخر، وموت آخر،
أضعُ كل حياتي الأبدية"

ولكن ذلك الدم المهراق هنا على الأرض كان قد نفذ إلى السموات لتوه. لقد كان يُحمل إلى المقدس، ورش الدم لسبع مرات كان يُجرى داخل الحجاب الذي كان لا يزال قائماً في نظام العبادة ذاك الذي في القديم. لقد كان شهادةً أمام الله عن العمل الذي أُكمل هنا على الأرض. ثم أن الدم الذي على قرون المذبح الذهبي مرتبطٌ بالمذبح الذي في المقدس والمذبح الكبير الذي كان خارجاً في الباحة، لأن المذبح البرونزي كان يرمز إلى عمل المسيح في هذا العالم؛ وكان المذبح الذهبي يرمز إلى عمله في السماء والدم كان مرتبط بكليهما معاً. إن شفاعته في السماء تستند إلى عمله الذي أنجزه على الصليب.

في الآية ٨ نعلم أن الكاهن كان عليه أن ينتزع من الثور كل الدهن وبعض الأجزاء الداخلية المحددة من الذبيحة والتي كان يمكن الصول إليها فقط بموتها، وكان عليه أن يحرقها على مذبح المحرقة. لم تكن هذه رائحة سرور، لأنها كانت ترمز إلى المسيح وقد جُعل خطيئة لأجلنا. هذا يتم التأكيد عليه أكثر عندما نقرأ أن جلد الثور وكل ما يتبقى من جسد الذبيحة حتى الثور بأكمله، كان يجب أن يُحْمَلَ إلى خارج المحلة حيث يُذر الرماد ويُحرق على خشب النار. هذا يُعبّر عن الحقيقة المريعة في أن المسيح قد جُعِل "لعنة" من أجلنا. نقرأ في عبرانيين ١٣: ١١: "فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ". لقد دخل إلى مكان الظلمة والنؤي لكي يأتي بنا إلى مكان النور والقرب من الله إلى أبد الآبدين. في لاويين ١٣ كان يُوضع المجذوم خارج المحلة. لقد كان مكان الأشياء النجسة، وهكذا ربنا، عندما صار ذبيحة الخطيئة العظيمة قد عُمل وكأنه أخذ مكان النجسين، رغم أنه نفسه كان القدوس المطلق. وعلى كل حال، إن المكان نفسه يدعى "مكان طاهر". وليس من نجاسة فعلية تُلحق به.

من المهم أن نعلم أنه ليس الألم الجسدي فقط هو الذي صنع كفارةً عن الخطية. ولم يكن الجَلْدُ بالسياط في قاعة محكمة بيلاطس، والآلام التي عانها من الجنود الأردياء والسفهاء في بلاط هيرودس، أو تتويجه بأكاليل الشوك والجَلْد -هذه لم تكن بحد ذاتها لتكفّر عن إثمنا. ولكن نقرأ في أشعياء ٥٣, "جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ". لقد كان ما عاناه ربنا في أعمق أعماق كيانه هو الذي سدَّدَ مطاليبَ العدالة الإلهية وسوّى مسألة الخطيئة. لقد لاحظتم، بلا ريب، أن مخلصنا المبارَك قد عُلق على ذلك الصليب الملعون لست ساعات، وهذه الساعات الست مقسمة إلى قسمين. من الساعة الثالثة إلى الساعة السادسة، أي من الساعة ٩ صباحاً إلى الظهيرة، حيث كانت الشمس مشرقة على هذا العالم، ورغم كل آلامه الشديدة، فإن ربنا كان في علاقة شركة لا تنفصم مع الآب آنذاك. ولكن من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، أي من الساعة ٣ بعد الظهر، حَلَّت الظلمة على كل الأرض. ما حدث في تلك الساعات الرهيبة وحدُه الله وابنُه المبارك يعرفها. وعندها جُعلِتْ نفسُ يسوع ذبيحةَ خطيئة. عندما كانت الظلمة تحل، صرخ يسوعُ في ألم "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟". لعلك ترى معي أن في خطايانا وطبيعتنا الفطرية الخاطئة الجواب على تلك الصرخة. لقد تُرك لكي ندخل نحن الخطأة كمفديين إلى حضرة الآب. وإلى هذا كان يرمز حرق الذبيحة خارج المحلة. لاحظوا، كان يجب أن تُحمل إلى مكان طاهر. لقد قلنا أن المكان في الخارج كان مكان النجاسة في حالة المجزوم، وهذا صحيح، ولكن النجاسة لم تكن بأي معنى من المعاني ملتصقة بيسوع؛ وحتى في ذبيحة الخطية كان كامل القداسة. لم تكن فيه خطيئة رغم أن خطايانا قد وُضِعت عليه.

إن دراسة متأنية لأشكال وغايات ذبائح الناس ستُلقي ضوءاً على بعض التفاصيل التي لم يتناولها أحد، ولكن لستُ في وارد أن أُسهب فيها هنا إذ أن كل شيء سيكون واضحاً على ضوء ما رأيناه لتونا.

لدينا في الأصحاح ٥ بعض الأشياء التي تَلفت انتباهنا. في الآيات الأربع الأولى, لدينا درجات مختلفة من النجاسة بسبب الخطيئة. "وَإِذَا أَخْطَأَ أَحَدٌ وَسَمِعَ صَوْتَ حَلْفٍ وَهُوَ شَاهِدٌ يُبْصِرُ أَوْ يَعْرِفُ فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ حَمَلَ ذَنْبَهُ. أَوْ إِذَا مَسَّ أَحَدٌ شَيْئاً نَجِساً: جُثَّةَ وَحْشٍ نَجِسٍ أَوْ جُثَّةَ بَهِيمَةٍ نَجِسَةٍ أَوْ جُثَّةَ دَبِيبٍ نَجِسٍ وَأُخْفِيَ عَنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ وَمُذْنِبٌ. أَوْ إِذَا مَسَّ نَجَاسَةَ إِنْسَانٍ مِنْ جَمِيعِ نَجَاسَاتِهِ الَّتِي يَتَنَجَّسُ بِهَا وَأُخْفِيَ عَنْهُ ثُمَّ عُلِمَ فَهُوَ مُذْنِبٌ. أَوْ إِذَا حَلَفَ أَحَدٌ مُفْتَرِطاً بِشَفَتَيْهِ لِلإِسَاءَةِ أَوْ لِلإِحْسَانِ مِنْ جَمِيعِ مَا يَفْتَرِطُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الْيَمِينِ وَأُخْفِيَ عَنْهُ ثُمَّ عُلِمَ فَهُوَ مُذْنِبٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ". هذه توحي بما أسهبتُ لتوّي في شرحه, بأن ذبيحة الخطية مرتبطة بالخطية كدليل على فساد طبيعتنا. أيّ من هذه الأشياء سيُظهر النجاسة المخفية. ثم في الآية ٥ نقرأ: "فَإِنْ كَانَ يُذْنِبُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ يُقِرُّ بِمَا قَدْ أَخْطَأَ بِهِ". لاحظوا قطعية الاعتراف. لا يكفي مجرد الإقرار العام بالفشل. على المُتّهم أن يواجه إثمه الحقيقي ويعترف به في حضرة الله, ولذلك نقرأ: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ". لا يكفي أن يطلب المغفرة, أو كما نفعل عندما نُقرّ بشكل عام بكل إخفاقاتنا- "أننا لم نفعل الأشياء التي كان يجب أن نفعلها, بل فعلنا أشياء ما كان يجب أن نفعلها", بل يجب أن يكون هناك اعتراف محدد لكي نحصل على مغفرة محددة قطعية.

ثم في الآيات ٦- ١٣ لاحظوا نعمة الله في تدبيره الذي صنعه حتى لأفقر الناس في شعبه. مهما كان إدراكنا وفهمنا ضعيفاً للمسيح، فإننا إن أتينا إلى الله باسمه سوف يغفر لنا. إن المُقرِّب في الظروف العادية كان عليه أن يأتي بأنثى من الماشية شاةً أو معزة من أجل ذبيحة الخطية. ولكن الله أخذ الفقر بعين الاعتبار, ونقرأ في الآية ٧: "وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ كِفَايَةً لِشَاةٍ فَيَأْتِي بِذَبِيحَةٍ لإِثْمِهِ الَّذِي أَخْطَأَ بِهِ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ إِلَى الرَّبِّ أَحَدُهُمَا ذَبِيحَةُ خَطِيَّةٍ وَالْآخَرُ مُحْرَقَةٌ". ولكن قد يكون هناك في إسرائيل بعض ممن لا يستطيعون أن يدبّروا حتى ذبيحة كهذه, ولذلك ففي الآية ١١ نقرأ: "وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ فَيَأْتِي بِقُرْبَانِهِ عَمَّا أَخْطَأَ بِهِ عُشْرَ الْإِيفَةِ مِنْ دَقِيقٍ قُرْبَانَ خَطِيَّةٍ. لاَ يَضَعُ عَلَيْهِ زَيْتاً وَلاَ يَجْعَلُ عَلَيْهِ لُبَاناً لأَنَّهُ قُرْبَانُ خَطِيَّةٍ". وبعد ذلك كان على الكاهن أن يأخذ تذكاراً منها ويحرقه على المذبح, وحتى عن هذا نقرأ في الآية ١٣: "فَيُكَفِّرُ عَنْهُ الْكَاهِنُ مِنْ خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ بِهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَيُصْفَحُ عَنْهُ. وَيَكُونُ لِلْكَاهِنِ كَالتَّقْدِمَةِ". لم يكن هناك شيء في هذه الذبيحة يرمز إلى إهراق الدم، ولكنها كانت تصوِّرُ المسيحَ نفسَه، وهو يأخذ مكان الخاطئ. ومن هنا كان انعدام وجود الزيت واللبان. وإن الله سيقبل هذه عندما لا يستطيع المقرِّبُ أن يأتي بأي شيء آخر فوقها. إنها تخبرنا أن أضعف إدراك لدينا عن المسيح كمخلّص للخطاة يأتي بالمغفرة. قد لا يفهم المرء الكفارة، ولا ما كان يعنيه العمل الفدائي لمخلصنا، ولكنه إن آمن بالمسيح، مهما كان إيمانه ضعيفاً، فإن الله سيُفكر بشخص وعمل ابنه الذي يريد أن يكون الجميع في السماء، فيعطيهم كل وسيلة وكل التبريرات لكي يصلوا إلى هناك. يا لها من نعمة لا مثيل لها!

في الأصحاح ٦: ٢٤- ٣٠، لدينا شريعة ذبيحة الخطية، وتُعطى تعليمات للكاهن فيما يتعلق بطريقة تصرفه بالنسبة إلى تقديم الذبيحة، وكيف يجب أن يعالج الأواني التي استُخدمت من أجل هذه الغاية. ونقرأ مرتين بأن تقدمة الذبيحة هي "قدسُ أقداسٍ". إن الله لن يسمح بأن تكون أفكارنا متدنية فيما يخص قداسة ابنه ذلك لأنه تنازل بالنعمة ليصير خطيئة من أجلنا. لقد كان دائماً وأبداً غير نجسٍ وغير قابلٍ للتنجس.

كان هناك جزءٌ من ذبيحة الخطية يتوجب على الكهنة أن يأكلوه. ولعلنا نفكر بهذا على أنه يوحي بتأملنا بما كان يعني المسيح بأن يأخذ مكان الخاطئ.

"ساعدني على أن أفهم،
لعلني أستوعب،
ما عناه لك، أيها القدوس،
 أن تزيلَ خطيئتي".

لاحظوا بانتباه، لم يكن يجب على الكهنة أن يأكلوا من الخطية – كان عليهم أن يأكلوا من ذبيحة الخطية. وليس من داعٍ بالنسبة لنا أن نتوقف عند الخطيئة، سواء كانت خطيئتنا نحن أم خطايا الآخرين. فإن نفعل ذلك فيه تنجيسٌ على أشد ما يكون. ولكننا جميعاً مدعوون لنتناول من ذبيحة الخطية في قدس الأقداس. في الآية ٣٠, نعلم أنه ليس من ذبيحة خطية "يُدْخَلُ مِنْ دَمِهَا إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لِلتَّكْفِيرِ فِي الْقُدْسِ لاَ تُؤْكَلُ. تُحْرَقُ بِنَارٍ". كان بإمكان الكهنة أن يشاركوا فقط في أجزاء محددة من هكذا قرابين وذبائح طالما أنها لم تُحرق خارج المحلّة، ولا رُش الدم أمام الحجاب. لا يمكننا أن ندخل إلى امتلاء موت المسيح. إن إدراكنا وفهمنا لما عاناه من أجل الخطيئة لا بُدّ وأنه فهمٌ ضعيفٌ دائماً، ولعل إدراكنا الكامل له سيكون أيضاً أكثر مما تحتمله قلوبنا عقولنا الضعيفة. لقد حطم فؤاده (مزمور ٦٩: ٢٠)؛ وسيسحقنا بشكل كامل؛ ولكن، والحمد لله، هناك معنى نستطيع به أن نتناول من ذبيحة الخطية في المقدس ونحن نتأمل بما كشفه لنا الكتاب المقدس بما يتعلق بالعمل الكفاري على صليب العار ذاك. إن قرأنا بعناية المزمور ٢٢، والذي يمكن أن نسميه مزمور ذبيحة الخطية، فإننا ندخل، بدرجةٍ ما، إلى ما مرت به روحه المقدسة عندما أخذ مكاننا في الدينونة. أن نفعل ذلك بوقار وخشية يعني أن نتناول من ذبيحة الخطية بطريقةٍ مقبولةٍ لدى الله.

ختاماً دعوني أقول أن الله بتقديمه ابنه ليأخذ مكان الخاطئ، قد عبّر إلى المنتهى عن محبته غير المحدودة نحو الإنسان الساقط الضال. فأي إثمٍ عظيم سيكون لذلك الإنسان الذي يرفض هكذا نعمة ويدوس على هكذا محبة؟ ماذا يمكن أن يكون له سوى "قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ" (عب ١٠: ٢٧).

"نعمةٌ كهذه, إن احتُقرَت, تجلب دينونة,
على مقدار الغضب الذي احتمله"

يفترض الله أن ما أحد تأتي إليه هذه الرسالة قد يدوس هكذا لطف مُحِبّ فيستحق دينونة رهيبة من جرّاء ذلك.

نعلم من يوحنا ٣: ١٨ أن "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ". وفي يوحنا ٣: ١٨، الخطيئة التي جاء الروح القدس ليبكّتَ الناس عليها هي: "أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي". هذه خطيئة متعمدة، ومن أجل هذه الخطيئة، إن لم تكن هناك توبة عنها، لن تكون هناك مغفرة، وحتى العمل الافتدائي للمسيح سوف لن يفيد في تخليص الخاطئ الذي يرفض بازدراء ذاك الذي مات ليمحو الخطية بذبيحة نفسه. أن نشيح الوجه عن رسالة الإنجيل -أن نرفض بعمد وبشكلٍ نهائي ذاك الذي صار ذبيحة الخطيئة العظيمة على تلك الشجرة الملعونة يعني أن نستخف بروح قدس الله، ونطأ بأقدامنا محبة المسيح، معتبرين أن دمه الكفاري الثمين غير مقدس، شيءٌ عامٌ، وبذلك نصلب من جديد ابن الله، ونضعه على صليب العار علانيةً. وهذا يعني كأننا نُلقي في وجه الله الغاضب جسدَ ابنه المذبوح، وهكذا نستنزل غضب الله المحق العادل على المذنب الأثيم الذي يرفض نعمته.