September 2014

الخطاب ٧٤

يسوع أمام الكهنة

" ٦٣ وَﭐلرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ ٦٤وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ قَائِلِين: «تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟» ٦٥وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ. ٦٦وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ ٦٧قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ فَقُلْ لَنَا». فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ ٦٨وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي. ٦٩مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ». ٧٠فَقَالَ الْجَمِيعُ: «أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ». ٧١فَقَالُوا: «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ» " (لوقا ٢٢: ٦٣- ٧١).

لقد تأمّلنا في الآلام في جثسيماني والقبض على ربنا المبارك عندما أُخِذَ إلى بيت رئيس الكهنة في منتصف الليل. ثم لاحظنا إخفاق الرسول بطرس وإنكاره للمسيح؛ وإذ نظرنا أكثر إلى الرواية في الإنجيل رأينا كيف استرجعه يسوع بنعمته ورحمته. والآن نعود إلى بيت رئيس الكهنة. لقد كان أمراً مخالفاً للناموس أن تتم المحاكمة ليلاً في أورشليم، ولكنهم نسيوا كل ذلك عندما حرّكت البغضاء قلوبَ أعدائه ليسعوا لإدانة وهلاك الرب يسوع المسيح.

إذ نتأمل في هذا الجزء من النص نجد عدة أشياء يتم التأكيد عليها. أحدها هو التالي: لكي يخلص المرء لا يكفي أن يكون متديناً. أفترض أن هؤلاء الكهنة كانوا متدينين كمثل الجميع في إسرائيل في ذلك الوقت المعين. لقد كانوا قادة الدين للشعب؛ كانوا يؤمنون بقوة بالإعلان الذي أعطاهم إياه الرب عن نفسه بأنه الإله الوحيد الحقيقي والحي. يقول البعض أنه إن آمن المرء بإله واحد فليس المطلوب أكثر من ذلك؛ ولكن تذكروا ما قاله الرسول يهوذا (٢: ١٩): "أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!". الشياطين يدركون حقيقة وحدة الألوهية، وأنهم يوماً ما سيُستدعون للدينونة أمامه؛ ولذلك فإنهم يقشعرون لمجرد ذكر اسمه. الإيمان وحده، والاعتراف وحده، بحقيقة أن هناك إله واحد لا يخلّص أحداً. قد يتحول المرء من أسوأ أنواع عبادة الأوثان، أو الفَتَشية ۱، أو أي شكل آخر من الوثنية، ويقبل فكرة أن هناك إله واحد فقط ويعترف منذ ذلك الحين فصاعداً بأنه سيخدمه، ومع ذلك فقد لا يخلص على الإطلاق. هؤلاء الكهنة كانوا يؤمنون بإله واحد، ولكنهم لم يخلصوا. وأكثر من ذلك، فقد كانوا يؤمنون بوحي الكتاب المقدس؛ وكانوا يقبلون الكتابات المقدسة على أن الله هو من أعطاها، وكانوا يؤمنون بالطابع النبوي لهذه الكتابات. لقد كانوا يعلمون أن الكتب المقدسة قد تنبأت عن مجيء المسيا إلى العالم. ولقرون كان أسلافهم ينكبون على دراسة كتابات الأنبياء؛ وهم أنفسهم كانوا يتطلعون إلى مجيء هذا البار. وأما عن ذلك فعندما جاء الرب يسوع المسيح فعلياً في تحقيق لكل ما قد تمت الكتابة عنه مسبقاً، لم يعرفوه ولم يعترفوا به. لقد رفضوا قبوله؛ وازدروا به وقاوموه، وأحالوه إلى بيلاطس لكي يُصلب. لعلنا نتعلم شيئاً من هذا نحن. كثيرون يعترفون بأنهم يقبلون الكتاب المقدس كإعلان من السماء، على الأقل يدركون حقيقة أن الله تكلم فيه إلى البشر كما ليس في أي كتاب آخر. ومن هذا المنظور فإنهم قويمو الإيمان. ولكن تذكروا، قد يؤمن المرء بكل هذا ومع ذلك لا يعرف خلاص الله. لا يكفي أن تعرف الكتب المقدسة لكي تخلص. عندما زرت إرسالية جيري ماكلي لأول مرة قبل بضعة سنوات في نيويورك، حضرت خدمة رائعة للغاية، وفي ختامها أشار رجل إلى عجوز إسكُتْلنديٍّ يجلس في زاوية من الغرفة، وقال لي: "هذا هو الأصحاح-و-الآية العجوز". سألته عما يعني بذلك. فأجاب: "حسنٌ، هذا هو الاسم الذي أعطيناه له: الأصحاح-و-الآية العجوز. إنه مدمن على الكحول، لم نعرفه أبداً هادئاً ورزيناً. ومع ذلك ففي كل ليلة يكون في الاجتماع. إنه يغفو معظم الوقت، ولكن إذا ما قام أحدهم وقدّم شهادة وأخطأ في الاستشهاد أو الاقتباس من الكتاب المقدس فإن الأصحاح-و-الآية العجوز يستيقظ فوراً. إن لديه هكذا معرفة بالكتاب المقدس من فترة ريعان شبابه في إسكُتْلندا لدرجة أنه يهتاج عندما يسمع أي أحد يخطئ في الاقتباس من الكتاب المقدس. في إحدى الأمسيات قام أحدهم واقتبس مقطعاً من متى ١١: ٢٨ بحسب ترجمة الكتاب المقدس في كتاب الصلاة القديم، وليس بحسب النص المُعترف به: "تعالوا إلي يا جميع المرهقين".

وثب "الأصحاح-و-الآية العجوز" واقفاً وقال: "ليس كذلك. لا تتعاملوا مع كلمة الله بشكل غير صحيح. الآية لا تقول: " تعالوا إلي يا جميع المرهقين"، بل تقول: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ". ثم عاد إلى مجلسه وغطّ في النوم إلى أن أخطأ أحد آخر بالاستشهاد". يا للعجوز المسكين! لقد كان رأسه مليئاً بالكتاب المقدس وقلباً مليئاً بالخطيئة. يقول الكتاب المقدس أنه ما من سكّير سيرث ملكوت الله. هذا الرجل كان يعرف الكتاب المقدس ولكن ليس المخلّص الذي يتكلم عنه هذا الكتاب.

هؤلاء الكهنة كانوا يعرفون كتبهم المقدسة، ومع ذلك فقد كانوا يرفضون المسيح الذي في الكتاب المقدس. لقد كانوا الكتاب المقدس بشكل جيد جداً حتى أنه قبل ثلاثين سنة، عندما سمع هيرودس بولادة الملك واستعلم أين يجب أن يُولد المسيح، تذكر الكتبة ورؤساء الكهنة النبوءة في الحال، وأجابوا: "فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ لأَنَّهُ هَكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ" (مت ٢: ٦). لقد كانوا يعرفون تماماً أين سيولد المسيا، ومع ذلك فلم يقبلوه أو يستقبلوه. وإذ نما وصار رجلاً وراح يجول وهو يخدم الكلمة بين شعبه خاصته، حققوا فعلياً ما ورد في كتبهم المقدسة بإدانتهم له. وإذاً لم يكن كافياً أن يعرفوا الكتب المقدسة. على المرء أن يفتح قلبه للمسيح وأن يقبله مخلّصاً شخصياً له: إذ يقول الكتاب: "لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع ٤: ١٢).

الرجال الذين أخذوا يسوع هزأوا به وضربوه. أفترض أن هؤلاء كانوا الغوغاء من الشعب، الرعاع الطائشون. لقد أدركوا أن رؤساء دينهم كان ضد المسيح، ولذلك فقد وقفوا ضده هم أيضاً. "وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ قَائِلِين: «تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟»". ربنا المبارك المعبود، الذي اقتيد كحمل إلى الذبح وكخروف أمام أداوت الذبح كان صامتاً، ولم يجب بكلمة. "وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ".

مع بزوغ أول خيوط الفجر في الأفق، جاء رؤساء الدين، ورؤساء الكهنة، والكتبة معاً واقتادوه إلى مجلسهم. كان هذا هو المجلس الأعلى في إسرائيل والذي كان يتألف من سبعين من الشيوخ الأكثر بروزاً وشهرة. لقد كانوا هناك ليدينوا الرب يسوع المسيح؛ ونعلم من إنجيل آخر أنهم أتوا بعدد كبير جداً من الشهود الكذبة ليشهدوا ضده- أناس أعلنوا أنهم سمعوه يقول أشياء معينة جمعوها مع أقوال أخرى كانوا يحاولون أن يبرهنوا أنه قالها، ولكنه لم يكن قد قالها على الإطلاق. وعلى هذا النحو حاولوا اتهامه بالتجديف. "أَأَنْتَ الْمَسِيحُ؟” أجابهم الرب يسوع: "إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي". أي، لو أنه صادق على نفسه وقال: "أنا هو المسيا"، مستشهداً بالكتابات المقدسة ليظهر كيف أن كلمة الله قد تحققت فيه، لما كانوا سيصدقونه أو يؤمنون به. لقد كان يعلم أنهم كانوا في قلوبهم عازمين على رفضه. لم يكن ثمة دليل على التوبة لديهم، ولم يكن هناك أي معنى لحاجتهم إلى مخلّص. وهذا هو السبب في أن الناس، رجالاً ونساءً، ضالون اليوم: إنهم يرفضون المسيح؛ ويتخيلون أنهم يستطيعون أن يعيشوا حياتهم بدونه؛ وليس لديهم إدراك بالخداع والمكر المتأصل في قلوبهم. عرفت أشخاصاً عديدين كانوا يعارضون حقيقة الإنجيل، مدّعين أنهم لا يستطيعون تصديقه؛ إلى أن حدث أخيراً، إذ وقعوا تحت قدرة الروح القدس المبكِّتة، أن أدركوا حالتهم الهالكة وإثمية حياتهم، ووجدوا أن يسوع وحده كان يستطيع أن يسد حاجتهم. وعندها لم يجدوا صعوبة في الإيمان به؛ إذ أنهم رأوا، كما اعتاد جون هامبلِتون، الممثل المهتدي، أن يقول: "يسوع هو ما يلائمنا نحن الخطأة تماماً".

لم يحاول الرب يسوع المسيح أبداً أن يجيب على هؤلاء المعارضين، لأنه كان يعلم أنه لم تكن لديهم رغبة في أن يفهموا الحق. كان قد قال في إحدى المناسبات: "إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ هَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي" (يو ٧: ١٧). ولكن هؤلاء الناس ما كان لديهم رغبة بأن يقوموا بهذا الامتحان؛ ما كانوا على استعداد بأن يواجهوا الأمور بصراحة وصدق في حضرة الله.

وتابع يسوع ليقوم بالإعلان العجيب. فأخبرهم بأنه ورغم رفضهم له، "مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ". بالنسبة لهم كان هذا أعلى مستوى من التجديف؛ ما كان يعادل هذا سوى ادعاء الألوهة. فتابعوا امتحانه بالأسئلة- وإن كانت بدون رغبة في معرفة الحق- "أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟" لاشك أنهم تذكروا ما كتبه دانيال النبي، عن شخص يشبه ابن الإنسان جاء إلى قديم الأيام ليأخذ قوة ومجداً ومملكة. هل قصد يسوع القول أن تلك النبوءة تشير إلى نفسه؟ هل كان هو ابن العلّي؟ أجاب: "أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ". أي أنهم قالوا الحقيقة باستخدامهم لذلك اللقب عند إشارتهم إليه. لقد كان فعلاً ابن الله. فامتلأوا سخطاً وصرخوا: "مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ". وهكذا اعتبروه مداناً بالتجديف. وقد كانوا على حق، كما يدّعي كثيرون اليوم، لو كان فقط إنساناً، حتى وإن كان أفضل وأعظم البشر؛ لأنه إن كان أي إنسان سوى يسوع يدعي ذلك لكان إما منخدعاً بنفسه أو مجدفاً. ولكن الكلمة يعلن لنا أن ربنا المبارك هو الله الابن السرمدي الذي نزل إلى هذا العالم، واتخذ جسداً اتحد باللاهوت، لكيما يذهب إلى الصليب ويقدم حياته كفّارة عن الخطأة.


۱. - الفَتَشية: (fetishism ):الإيمان بالأفتاش، والفتش (fetish ) هو شيء، وخاصة شيء فاقد الحياة، يوقّره بعض الناس أو يعبدونه لأنهم يعتقدون أن فيه قوى وقدرات سحرية أو تحيا فيه روح. [المترجم].

الخطاب ٧٥

ارتباك بيلاطس وحيرته

"١فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ ٢وَﭐبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». ٣فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ قَائِلاً: «أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَهُ وَقَالَ: «أَنْتَ تَقُولُ». ٤فَقَالَ بِيلاَطُسُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْجُمُوعِ: «إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هَذَا الإِنْسَانِ». ٥فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى هُنَا». ٦فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ ذِكْرَ الْجَلِيلِ سَأَلَ: «هَلِ الرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟» ٧وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ الأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ. ٨وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدّاً لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَتَرَجَّى أَنْ يَرَى آيَةً تُصْنَعُ مِنْهُ. ٩وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. ١٠وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِاشْتِدَادٍ ١١فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. ١٢فَصَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا. ١٣فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ ١٤وَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هَذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. ١٥وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. ١٦فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». ١٧وَكَانَ مُضْطَرّاً أَنْ يُطْلِقَ لَهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِداً ١٨فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: «خُذْ هَذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!» ١٩وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ. ٢٠فَنَادَاهُمْ أَيْضاً بِيلاَطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوعَ ٢١فَصَرَخُوا قَائِلِين: «ﭐصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» ٢٢فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً: «فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هَذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». ٢٣فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ. ٢٤فَحَكَمَ بِيلاَطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُمْ. ٢٥فَأَطْلَقَ لَهُمُ الَّذِي طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ الَّذِي طَلَبُوهُ وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ" (لوقا ٢٣: ١- ٢٥).

إذ نتأمل في الرواية الملهمة التي تتناول إدانة وصلب ربنا المبارك، علنا نقارب الموضوع بقلوب تائبة ونفوس منكسرة إذ نتذكر من جديد أنه بسبب خطايانا ذهب إلى الصليب. بمعزل عن هذه الحقيقة المهيبة لم تكن هناك قوة على الأرض أو في الجحيم كان ليمكن أن تُضطر يسوع المسيح لأن يموت كما صنع. ما كان بحاجة لأن يموت على الإطلاق: كان ابن الله الذي بلا خطيئة. ولكنه اختار أن يموت بديلاً عنا. وصار طوعياً كفيلاً لنا واتخذ على عاتقه بالنعمة أن يدفع الدَّين الذي علينا. الأمر المثير للشفقة هو أن البشر، يقودهم الشيطان، رفعوا أيديهم الشريرة ضده وألقوا عليه الخزي والعار. ولكن هذا أظهر رداءة قلب الإنسان الخاطئ والطبيعة الشريرة الخبيثة لإبليس. إذ نتابع السير مع ربنا في محاكمات الهزء به أمام بيلاطس وهيرودس، ومن قاعة المحكمة عند بيلاطس إلى الجلجثة بصليبها المؤلم، فإننا ولا بد سيتحطم كبرياؤنا ونُبكَّت إذ نتأمل في ماهية الخطيئة عندما نرى إلى أي حد أمكن لأناس مثلنا أن يمضوا تحت تأثيرها.

لدينا إشارة أربع مرات إلى بيلاطس البنطي في أقسام أخرى من العهد الجديد خارج الأناجيل. بالطبع، نقرأ عن محاكمة يسوع في كل الأناجيل، وعن إخفاق بيلاطس في الوقوف إلى جانب البر في وقت عرف فيه أن المسجون الواقف أمامه كان بلا ذنب وبريئاً من التهم المرفوعة ضده. عندما كان الرسول بطرس يخاطب شعب إسرائيل بعد يوم الخمسين (أع ٣: ١٣، ١٤)، قال: "إِنَّ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إِلَهَ آبَائِنَا مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ. وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ". وفي أع ٤: ٢٧ نسمع بطرس يتكلم إلى الله في الصلاة قائلاً: "لأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ اجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ الْقُدُّوسِ يَسُوعَ الَّذِي مَسَحْتَهُ هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ". ثم نقرأ في الأصحاح ١٣: ٢٨، عندما كان بولس يكرز في مجمع أَنْطَاكِيَةَ في بِيسِيدِيَّةَ، أنه قال: "وَمَعْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا عِلَّةً وَاحِدَةً لِلْمَوْتِ طَلَبُوا مِنْ بِيلاَطُسَ أَنْ يُقْتَلَ". بكتابته إلى المهتدي على يده، الكارز الشاب تيموثاوس، يذكّره بولس، في ١ تيم، بالشهادة الأمينة لربنا خلال فترة محاكمته. في ١ تيم ٦: ١٣، قال بولس: "أُوصِيكَ أَمَامَ اللهِ الَّذِي يُحْيِي الْكُلَّ وَالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي شَهِدَ لَدَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ بِالاِعْتِرَافِ الْحَسَنِ: أَنْ تَحْفَظَ الْوَصِيَّةَ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ لَوْمٍ إِلَى ظُهُورِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". يبرز اسم بيلاطس البنطي في كلمة الله وفي صفحات التاريخ موسوماً بالعار الأبدي. أفترض أنه ما من اسم آخر لإنسان يتردد بمقدار اسم بيلاطس البنطي. في كل يوم للرب (الأحد) وغالباً في مناسبات أخرى كثيرة، مئات ألوف من المسيحيين المعترفين يتجمعون معاً في أماكن مختلفة، يكررون الكلمات الموجودة في دستور إيمان الرسل؛ "وصُلِبَ عنّا على عهد بيلاطس البنطي"، وهكذا يتكرر اسم بيلاطس وظل يتكرر على مدى القرون باعتباره من أصدر حكم الموت على المسيح البريء. ولم ينتهِ الأمر بعد بالنسبة لبيلاطس. فعندما سيقف في النهاية أمام العرش الأبيض العظيم سيرى جالساً هناك على العرش أمامه ذاك الذي وقف يوماً سجيناً أمامه؛ سيرى ذاك الذي قال أنه بريء من التهم الموجهة إليه، ومع ذلك فقد أسلمه للصلب. كانت مشكلة بيلاطس هي التالية: كان ممتلئاً بالطموح الأناني؛ برغبة بأن ينال حظوة لدى السلطات التي تعلوه وحتى عند الناس الذين كان يحكمهم، لدرجة أنه لم يستطع أن يملك الشجاعة المبادئ الأخلاقية ليساند ما كان يعرف بأنه حق وعدل.

عندما أُحضر يسوع المسيح أمام بيلاطس، لم يكن غريباً بالنسبة له. كان بيلاطس قد سمع عن يسوع من قبل؛ كان قد عرف بخدمته في إسرائيل؛ وكان يعرف أن رؤساء الكهنة قد أسلموا يسوع إلى المحاكمة بسبب الغيرة والحسد. كان ينبغي على بيلاطس أن يتعامل مع يسوع على اعتبار أن التهم الموجهة إليه زائفة كاذبة، ولكنه كان يخشى أن يلام، وهكذا يفقد منصبه الذي ناله بمحاباته لقيصر.

الجمع كله كانوا قد تجمهروا وقادوا يسوع إلى بيلاطس البنطي ليدينه بتهمة الفتنة والتحريض على التمرد ضد الحكم الروماني. ﭐبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: "إِنَّنَا وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ". لاحظوا أنه كان هناك شيء من الحقيقة في التهم الموجهة إليه، ومع ذلك فإن التهم ككل كانت كاذبة، لأن نصف الحقيقة غالباً ما تكون أكذوبة كاملة. صحيح أن الرب يسوع أعلن نفسه ملكاً، ولكنه لم يعلن نفسه أبداً ملكاً على إسرائيل في ذلك الوقت. لقد جاء بتوافق تام مع النبوءة وعرف أنه كان سيُرفض وأن ملكوته لم يأتِ أوان تأسيسه بعد. من جهة أخرى، اتهامهم له بالفتنة والتمرد كان كاذباً تماماً، لأنه عندما سُئل: "أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟” أجابهم يسوع طالباً منهم أن يروه ديناراً، قائلاً: "«لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَأَجَابُوا: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ»" (لو ٢٠: ٢٤، ٢٥). لقد سمعوه يقول ذلك؛ وإذاً كذبوا عندما جاؤوا أمام بيلاطس وقالوا أنه منعهم من أن يقدموا الجزية لقيصر.

وجّه بيلاطس السؤال على نحو محدد: "«أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَهُ الرب وَقَالَ: «أَنْتَ تَقُولُ»". قد يكون هذا غامض على ما يبدو، ولكن كأنه قال: "أنت قلت ذلك؛ أنت قلت ذلك بالحق، وبوحي إلهي، أني ملك اليهود". لم يطرح يسوع نفسه على هذا الشكل بينما كان يخدم بين الناس، ولكن السؤال طُرح عليه وأقر بأنه كان بالفعل هو الشخص الذي أرسله الله ليحكم إسرائيل. التفت بيلاطس إلى رؤساء الكهنة والشعب وقال: "إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هَذَا الإِنْسَانِ". وما كانوا ليقبلوا أن يصغوا إلى أي شيء يُقال في صالح المسيح. صرخوا قائلين: "إِنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى هُنَا". عندما سمع بيلاطس كلمة "الجليل"، اعتقد أنه وجد منفذاً يستطيع من خلاله أن يتجنب المسؤولية؛ ولذلك سأل إذا ما كان الرجل جليلياً. عندما علم أن يسوع جاء من الجليل، وجد في ذلك فرصة ليحوّل محاكمة يسوع إلى شخص آخر. كان هيرودس رئيس ربعٍ، أو حاكم الجليل، الذي جاء إلى أورشليم لكي يحفظ الأمن خلال فترة عيد الفصح، وحالما عرف بيلاطس أن يسوع كان من تلك السلطنة أرسله إلى هيرودس، وهذا، عندما رأى يسوع، فرح جداً. لقد سُرّ بأن يراه؛ كان قد سمع الكثير عنه. كان مهتماً على الدوام بصانعي المعجزات وأولئك الذين يعظّمهم الناس. لقد كان مهتماً بيوحنا المعمدان إلى أن قال له يوحنا بأمانة وهو يشير إلى زوجة رجل آخر كانت تجلس إلى جانبه: "لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ" (مت ١٤: ٤). فوضع هيرودس يوحنا المعمدان في السجن بدافع السخط، وفيما بعد، ولكي يرضي رغبة تلك المرأة بالانتقام، فقد قطع هيرودس رأس المعمدان.

وها هنا الآن رجل قيل له أنه صنع معجزات عظيمة، وسُرّ هيرودس بأن يراه، وكان يرجو أن يرى أعجوبة ما يصنعه هذا الرجل. "وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ". كما الحال دائماً لم يكن لدى الرب يسوع شيء ليقوله لأولئك الذين كان لديهم فضول ولكن دون أن تكون لديهم رغبة في معرفة الحق. "وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِاشْتِدَادٍ فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ". من الواضح أنه كان رداءً مثل ذلك النوع من الحرير الذي يتغير لونه باختلاف زاوية النظر إليه. يقول أحد الإنجيليين أنه كان أرجوانياً؛ ويقول آخر أنه كان قرمزياً. ربما كان الدثار بلون والنسيج بلون آخر، ولذلك فقد كان فعلاً رداءً جميلاً. لقد وضعوه عليه؛ جثوا على ركبتيهم، ووضعوا قصبة في يمينه، واستهزأوا به صارخين: "السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!". نعلم من الأناجيل الأخرى أن جنود الرومان صنعوا تاجاً من الشوك ووضعوه على رأسه، مسببين له ألماً شديداً ومريراً.

نقرأ في الآية التالية أنه: "صَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا". هذان رجلا سياسة ماكران بارعان كانا يكرهان بعضهما البعض ولا يثقان ببعضهما، ولكن أمكنهما أن يتفقا في رفضهما للرب يسوع المسيح.

ردّ هيرودس يسوع إلى بيلاطس. "فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هَذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ".

كانت هذه الجلسة الثانية في قاعة المحكمة عند بيلاطس. جرت هذه الجلسة بعد أن رجع يسوع من عند هيرودس، الذي لم يجد فيه علّة، ولكن ما من تهمة بقيت ضده. "هَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً". كان إعلان بيلاطس يعني تبرئة يسوع، ولكن هذا لم يرضِ أعداءه عديمي الشفقة، الذين كانوا مصممين على أن يموت، دون إدراك منهم بان موته كان الله هو الذي قرّره مسبقاً لأجل خلاصنا (أع ٢: ٢٣). "وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً". هذا الملك الفاجر لم يجرؤ على أن يدين يسوع ويحكم عليه بالموت، لأنه كان يعرف جيداً أنه كان بريئاً من التهم الموجهة إليه سواء في التجديف أو في الفتنة. قال بيلاطس: "أَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ". إنزال العقاب التأديبي لرجل بريء كان منافياً للعقل، ولكن من الواضح أن بيلاطس ظنّ أنه بذلك إنما يسترضي ويهدئ رؤساء اليهود وهكذا يمكنه أن يحرر يسوع من أي إدانة أكبر.

لقد كانت هناك عادة سادت خلال بعض الوقت، بأن يُطلق سراح سجين بارز في عيد الفصح، ولجأ بيلاطس إلى هذه الفكرة ليستند إليها ويطلق سراح يسوع. كان هناك سجين اسمه باراباس ينتظر أن يُنفّذ فيه حكم الإعدام، ولذلك فقد اقترح، كما هو مدون في إنجيل آخر: "«مَنْ مِنَ الاِثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟» فَقَالُوا: «بَارَابَاسَ»" (مت ٢٧: ٢١). كان باراباس متمرداً بارزاً. كان في السجن بتهمة التمرد والعصيان والقتل. ولكن الشعب صرخوا جميعاً بصوت واحد: "خُذْ هَذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!". بصوتٍ متفق اختاروا أن يطلقوا سراح هذا البطل القومي اليهودي المشهور الذي كان محكوماً عليه بالموت. وطالبوا بدلاً من ذلك بموت يسوع، البريء. مكتوب (مت ٢٧: ٢٢) أن بيلاطس طرح السؤال المهيب: "فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟” هذا السؤال ظلّ على مدى عصور يُطرح على كل إنسان. "فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: خُذْ هَذَا.... ﭐصْلِبْهُ! ﭐصْلِبْهُ!". شعر بيلاطس بأنه كان عاجزاً أمام الجمع إن كان يريد إنقاذ سمعته، لأنه كان يخشى أن يتهمه اليهود (أمام السلطة الأعلى). "فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً: «فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هَذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ". لقد سار بيلاطس ضد ضميره الشخصي؛ سلك ضد محاكمته العقلية الصحيحة؛ سار عكس مناشدات زوجته له، التي كانت قد أرسلت له رسالة تقول فيها: "إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيراً فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ" (مت ٢٧: ١٩). ولكن بيلاطس أصدر حكماً بحسب رغبتهم. "فَأَطْلَقَ لَهُمُ الَّذِي طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ الَّذِي طَلَبُوهُ وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ".

في الاختيار الذي اتُخذ بين يسوع وباراباس، لا نجد أن ذلك كان خيار إسرائيل فقط، بل خيار الأمم أيضاً الذي كان على مدى قرون. لقد اختاروا قاتلاً، مجرماً، بدلاً من ربّ المجد. لو قُبل المسيح لكان قد جلب السلام والبر إلى العالم؛ ولكن بما أنهم لم يختاروه فإن الأمم سادها رجال بروح باراباس، على مقياس كبير، منذ ذلك اليوم الفاجع. والعالم نفسه تشرّب بدم ملايين الناس الذين ماتوا بسبب الظروف الفظيعة التي نتجت عن رفض رئيس السلام.

والسؤال يُطرح على كل واحد منا فرداً فرداً: "مَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ؟” أنتم يا من سمعتم قصة يسوع طوال حياتكم، ألا زلتم تترددون كما تردد بيلاطس؟ رغم أنكم تعرفون أن عليكم أن تقبلوا المسيح، هل تخافون كما خاف بيلاطس؟ أتخشون ما يقوله الإنسان أكثر مما يقوله الله؟ إن كنتم لم تؤمنوا بعد بالمسيح يسوع، فإني أناشدكم أن تجيبوا قائلين: "ليس باراباس، بل هذا الإنسان". "فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ أَنَّهُ بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ الْخَطَايَا وَبِهَذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى" (أع ١٣: ٣٨، ٣٩).

الخطاب ٧٦

"معي في الفردوس"

"٢٦وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ. ٢٧وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. ٢٨فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: «يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ ٢٩لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. ٣٠حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا. ٣١لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟” ٣٢وَجَاءُوا أَيْضاً بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ. ٣٣وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. ٣٤فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا. ٣٥وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ». ٣٦وَﭐلْجُنْدُ أَيْضاً اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلاًّ ٣٧قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ». ٣٨وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: «هَذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ». ٣٩وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!» ٤٠فَأَجَابَ الآخَرُ وَانْتَهَرَهُ قَائِلاً: «أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ ٤١أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ٤٢ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «ﭐذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». ٤٣فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ»" (لوقا ٢٣: ٢٦- ٤٣).

لقد تبعنا مخلّصنا إلى قاعة محاكمة بيلاطس وشهدنا محاكمته؛ لقد لاحظنا التصرف الجبان لبيلاطس، ورأينا ربنا يُجلد بالسياط بقسوة ويُسلّم إلى الجنود ليقتلوه. والآن نقرأ أنهم اقتادوه من قاعة المحاكمة إلى المكان الذي يُدعى الجلجثة، ثم لدينا رواية صلبه. وإلى ذلك نجد ما تفعله النعمة العجيبة في تخليص خاطئ بائس مدان ذاك الذي كان معلَّقاً إلى جانبه على الصليب الآخر.

لاحظوا ما هو مكتوب عن الرحلة إلى الجلجثة: "مَضَوْا بِهِ". نعلم- ليس من الكتاب المقدس بل من تقليد الكنيسة- أنه ترنح ووقع تحت ثقل صليبه. لا نقرأ ذلك في الكتب المقدسة؛ قد يكون هذا حقيقياً، ولكن ليس لدينا دليل يؤكد ذلك. على كل حال، من الواضح أن الجنود لاحظوا بلا ريب أن الصليب بدا ثقيلاً عليه ليحمله بعد كل ما عاناه في الليلة السابقة وبسبب الجلد القاسي الذي كان قد تعرض له؛ إذ يقول لنا الإنجيل أنهم "أَمْسَكُوا سِمْعَانَ رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ". يا له من امتياز حظي به ذلك الرجل الأسود! كان سمعان من قيروان، مدينة في شمال أفريقيا، وبلا شك كان رجلاً داكن البشرة. كم كُرِّمَ هذا الرجل الملون إذ سُمح له بحمل صليب يسوع! هناك تقليد كنسي آخر يقول أن سمعان قد صار أحد تلاميذ يسوع فوراً، أن ذلك الشخص الذي يُدعى روفس، الوارد ذكره في رو ١٦: ٣ هو نفسه شقيق ألكسندر، ابن سمعان، المشار إليه في مر ١٥: ٢١. يبدو لي أن كل إنسان ملون يجب أن يشعر بالامتنان لأن أحد أبناء عرقه نال فرصة مساعدة الرب المبارك وهو خارج إلى الموت على صليب العار.

وإذ تابعوا طريقهم، تبعهم جمع غفير من الناس: بعضهم بدافع التعاطف مع يسوع، وآخرون كانوا يسخرون من يسوع ويشتمونه. ومن بين الجماعة المتعاطفة كان عدد من النسوة كُنَّ يَلْطِمْنَ وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ ولكن يَسُوعُ الْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ وَقَالَ: "يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ". بعين نبوية رأى يسوع أورشليم يحيط بها الجيش الروماني وتعاني الأمَرَّين، في وقت تصبح الظروف فظيعة تحت المحنة حتى أن أحن النساء ستلتهم أولادها بسبب ذلك. أكل لحوم البشر هذا كان موسى قد تنبأ به (تث ٢٨: ٥٣- ٥٧). ورأى ربنا بنظرة نبوية أن كل هذا سيحدث لأن الشعب ابتعد عن الله ولم يعرف وقت افتقاده. كان هذا نصب عينيه وهو يتطلع إلى مدينة أورشليم ويقول: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَاأُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا! وَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!»" (لو ١٣: ٣٤، ٣٥). هذا كله هو ما دعاه ليقول لهؤلاء النسوة: "لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ". لقد كان يصنع مشيئة الله وحسب. كان هذا هو الهدف الواضح الذي جاء إلى هذا العالم لأجله. "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لو ١٩: ١٠). "ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ"، بسبب الدينونة التي ستنزل بهم. لأَنَّهُ "هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ". كان هذا أفضل بكثير من رؤيتهم لأولادهم ينازعون الموت بين أيديهم. "حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا". لقد كان يتكلم عن أورشليم. ولكن هذه الكلمات نفسها تُستخدم في سفر الرؤيا فيما يتعلق بيوم الغضب العظيم للحمل الذي سيصيب أولئك الذين لم يعرفوا الله، عندما "مُلُوكُ الأَرْضِ وَالْعُظَمَاءُ وَالأَغْنِيَاءُ وَالأُمَرَاءُ وَالأَقْوِيَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ وَكُلُّ حُرٍّ، (سيخفونَ) أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَغَايِرِ وَفِي صُخُورِ الْجِبَالِ، (وَيَقُولُونَ) لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ: «اُسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْحَمَلِ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ؟»" (رؤ ٦: ١٥- ١٧). إذا رفض الناس الخلاص الذي يقدمه الله بيسوع المسيح، فعندها يتوجب عليهم أن يتحملوا غضبه. وهكذا حذّر ربنا هؤلاء الناس من الدينونة التي سرعان ما ستصيب أورشليم. كان يشير إلى نصٍّ من العهد القديم عندما قال: "لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟” وفي حزقيال (٢٠: ٤٧) كان الرب قد قال للنبي أن يتنبأ ضد وَعْرِ الْجَنُوبِ: "اسْمَعْ كَلاَمَ الرَّبِّ. هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَئَنَذَا أُضْرِمُ فِيكَ نَاراً فَتَأْكُلُ كُلَّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ فِيكَ وَكُلَّ شَجَرَةٍ يَابِسَةٍ. لاَ يُطْفَأُ لَهِيبُهَا الْمُلْتَهِبُ, وَتُحْرَقُ بِهَا كُلُّ الْوُجُوهِ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى الشِّمَالِ. فَيَرَى كُلُّ بَشَرٍ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ أَضْرَمْتُهَا. لاَ تُطْفَأُ". الرب يسوع نفسه صُوِّرَ بشَجَرَةٍ خَضْرَاءَ: "فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ" (يو ١: ٤). رفض يسوع والتنحي عن الله، من قِبل إسرائيل الشكلاني والمتدين، كانت تمثّله الشجرة اليابسة. إن كانوا قد رفضوا الإنسان القدوس الكامل الوحيد الذي بلا خطيئة في كل إسرائيل وحكموا عليه بالموت على الصليب، فما سيكون عليه مصير أولئك الذين رفضوه، الذين كانوا يعيشون في خطاياهم ويتجاهلون الخلاص الذي جاء ليأتي به؟

"وَجَاءُوا أَيْضاً بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ". هذان الرجلان كانا قد سُجنا، مثل باراباس، بسبب شرّ فعلوه. كانا هذان سيُصلبان مع الرب يسوع: "أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ". "وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ". علينا أن نذهب إلى كل من الأناجيل الأربعة لنعرف الرواية الكاملة لما حدث في الجلجثة؛ في الواقع، ما كنت لأستعمل هذه العبارة "الرواية الكاملة"، لأننا لن نعرف تماماً ما جرى هناك على الإطلاق إلى أن نقف في حضرته وننظر إلى وجهه المبارك، وعندها سنبدأ بفهم ما عنى له حقاً، ذلك القدوس، أن يرفع خطايانا. ولكن علينا أن نستأنس بكل من الأناجيل الأربعة لنحصل على تفاصيل أكمل عما جرى. يذكر كاتب بعض الأشياء؛ ويقدّم كاتب آخر تفاصيل إضافية، وإن جمعنا بينها جميعاً لحصلنا على رواية تصويرية نابضة بالحياة. هنا نعلم عن صلاة الرب يسوع بينما كان معلّقاً على الصليب. فكّروا به باسطاً ذراعيه هناك على العود: مسامير مثبتة إلى يديه؛ وإكليل الشوك يضغط على جبينه. والجنود يحرسون الصليب؛ والجموع يشتمونه ويسخرون منه، ويجدفون على اسمه، قائلين في هزءٍ: "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ". ومتى أيضاً يخبرنا بأنهم صرخوا قائلين: "خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا!". لم يدركوا حقيقة ذلك القول؛ إن كان عليه أن يخلّص الآخرين ما كان ليقدر أن يخلّص نفسه؛ يجب أن يحتمل الآلام لكي نتحرر من الدينونة التي استوجبتها خطايانا. ولذلك فعندما سمعهم، وبدلاً من أن يشعر بالنقمة في قلبه، نسمعه يصلّي أن: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ". في العهد القديم، إذا ما قتل رجلٌ جاره بدون نيّة بأن يقتله، كان عليه أن يهرب إلى “مَدِينَةَ مَلْجَأ”، وهناك سيكون في مأمن من وَلِيِّ الدَّمِ. لأن القاتل الفعلي ما كانت له نجاة من الموت. قال الله: "سَافِكُ دَمِ الانْسَانِ بِالانْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ" (تك ٩: ٦). ولكنه ميّز بين القتل العمد والقتل عن جهل. لذا فيسوع، وبهذه الصلاة، "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ"، وضعهم على مستوى القتل غير العمد بدلاً من القتل العمد. صرّح بطرس بعد العنصرة قائلاً: "بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ" (أع ٣: ١٧). وبالحديث عن حكّام الأمم، قال بولس: "الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هَذَا الدَّهْرِ- لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ" (١ كور ٢: ٨). لم يفهموا؛ لم يعرفوا من كان يسوع؛ لم يعرفوا ما كانوا يفعلون بتسليمهم إياه إلى الموت على الصليب. لكأن الرب قال: "يا أبتاه، افتح الباب إلى “مَدِينَةَ مَلْجَأ”، ودعهم يهربون من وَلِيِّ الدَّمِ". والحمد لله، كل من هربوا إلى يسوع- الذي هو نفسه “مَدِينَةَ مَلْجَأ”- وجدوا أماناً وحماية من الدينونة التي تستحقها الخطيئة. البعض يقول أن صلاة ربنا لم تُستجاب. بلى، لقد استُجيبت، على الشكل التالي: الله لم يعاملهم كقتلى، بل فتح لهم طريق الخلاص. إن رفض الناس عن عمد وعن قصد عرض الرحمة الذي لربنا يسوع المسيح، فعندها يضعونه تحت عارٍ صريح ويصلبون ابن الله من جديد، ولا رجاء لأولئك الذين يُصرّون على رفض المسيح. إنهم يُدانون بجرم قتل ابن الله. إن كان أحد ممن يسمعني غير مخلّص، إن كان أحد لا يعرف الرب يسوع، فإني أناشدكم أن تأتوا الآن إلى الله بالمسيح؛ اهربوا إلى “مَدِينَةَ مَلْجَأ” التي وفّرها الله. اقبلوه مخلّصاً لكم وهكذا تضمنون ترحيباً مجيداً.

الجند الواقفون تحت الصليب "اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ، واقْتَرَعُوا عَلَيْهَا". كان قد تم التبنؤ بهذا قبل سنوات كثيرة. إذ نقرأ في مز ٢٢: ١٨: "يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ". تحقق هذا النص الكتابي في ذلك اليوم عندما مات يسوع بدلاً منا في الجلجثة. نقرأ: "كَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ»". وانضم الجنود الرومان إلى الشعب يسخرون ويستهزئون قائلين: "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ".

نعلم من الإنجيل أن بيلاطس أمر بوضع كتابة فوق رأس يسوع. في تلك الأيام عندما كان يُصلب إنسان ما كان من المعتاد أن يكتبوا حكمه على لوحة ويُسمروها إلى صليبه. كَانَ هذا العُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ بِاليونَانِيَّة، لغة الثقافة؛ والَرُومَانِيَّة، لغة السلطة؛ وَالعِبْرَانِيَّة، لغة الدّين: "هَذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ". كل المارّين كان في مقدروهم أن يروا أنه صُلب كمتمرد ثائر، هذا الأمر الذي كان بيلاطس يعرف أنه لم يكن حقيقياً أو صحيحاً. جاء رؤساء الكهنة إلى بيلاطس قائلين له: "لاَ تَكْتُبْ: مَلِكُ الْيَهُودِ بَلْ: إِنَّ ذَاكَ قَالَ أَنَا مَلِكُ الْيَهُودِ" (يو ١٩: ٢١). وفي هذا الوقت، وإذ كان بيلاطس قد نفذ صبره منهم، قال: "مَا كَتَبْتُ قَدْ كَتَبْتُ"، وأبقى الكتابة على حالها. آخر مرة رأى أولئك الرجال يسوع كان يسوع فيها معلّقاً على الصليب والكتابة فوقه تعلنه ملك اليهود: لقد كان ملك الله، وقال الله في مز ٢: ٦: "أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ". وفي وقت ما سيعترف به اليهود بكل سرور كرب الأرباب وملك الملوك.

نقرأ أنه "كَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ". في البداية كان كلا المعلّقين يلومان يسوع مجدّفين قائلين: "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!". ولكن فجأة وقع الإيمان على أحد هذين الرجلين بفعل إلهي. فإذ كان ينظر إلى ذلك المتألم القدوس المسمر على الصليب الأوسط على الأرجح، سمعه يصلّي لأجل أعدائه، وعلى ما يبدو أدرك من كان ذلك المصلوب. فوبّخ القاتل الآخر قائلاً: "أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ". بدا أنه يدرك القداسة الكاملة ليسوع، وفي تغاير حيوي رأى الإثمية والشر في حياته الخاصة وفي حياة رفيقه. "أَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ". يا له من إعلان في هكذا وقت! قبل سنين طرح أشعياء هذا السؤال: "فِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟" (أش ٥٣: ٨). ترجم أحدهم هذا السؤال على هذا النحو: "من سيعلن سلوكه الحسن في الحياة؟" فكروا في الإعلان الصادر عن لصّ محتضر، معلّق إلى جانبه: "أَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ". فالتفت عندئذ إلى يسوع إذ عرف في ذلك المتألم المتوّج بالشوك، أنه القدوس الذي هو ملك المجد، وقال: "ﭐذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ".لقد كان إيماناً حقيقياً ممزوجاً بتوبة حقيقية. وهكذا فقد خلص ذلك الرجل المعلّق هناك على ذلك الصليب. لكأن يسوع قال: "ليس عليك أن تنتظر إلى أن آتي في ملكوتي": "إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". أعرف أن هناك البعض الذين يودون أن يجعلوننا نعتقد أن يسوع قال: "الْيَوْمَ أقول لك (أي ليس البارحة وليس غداً) أنك يوماً ما ستَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". هذا يلوي ويحرّف النص الذي نجده في الأصل وفي ترجماتنا للكتاب المقدس، ويدل ضمناً على أن ربنا قام بأمر يدينه فينا- ألا وهو استخدام كلمات لا قيمة لها. كلا؛ ما قاله يسوع هو: "إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". وكان كذلك؛ إذ قبل نهاية ذلك اليوم- بناء على طريقة حساب اليهود لليوم، من الغروب إلى الغروب- أسلم الرب يسوع روحه للآب، وروح اللص مضت لتكون مع المسيح في الفردوس: باكورة عمله الفدائي المجيد. كان كاتب قديم قد اقترح أن هناك خطر كبير في تأجيل خلاصنا إلى نهاية الحياة. في الكتاب المقدس هناك رجل واحد خلص في اللحظة الأخيرة. هناك واحد على الأقل، فلا ييأس أحد؛ واحد فقط، فلا يسلّم أي أحد جدلاً بالأمر.

خلال سلسلة من اللقاءات قبل سنوات، رأى مبشّر شاباً بدا مهتماً نوعاً ما. ذهب المبشر إليه وسأله إذا ما كان على استعداد للموت، فأجاب الفتى: "لا؛ لست مستعداً؛ آمل أن أكون على استعداد يوماً ما. أتذكر اللص المحتضر؟" فسأله المبشر: "أي لص؟" رفع الشاب بصره مجفلاً وقال: "آه، لقد نسيت؛ كان هناك لصّان، أليس كذلك؟" فأجاب المبشر: "نعم. وأحدهما ذهب، كما هو مدون، إلى الأبدية وقد أغلق قلبه أمام المخلّص وهلك إلى الأبد. وأما الآخر فقد آمن به وخلص إلى الأبد. فعلى شكل أي من اللصين ستكون؟" قال الشاب: "كنت لأفضّل أن آتي الآن". وأغمض عينيه في ذلك المساء مع المسيح. فكّروا في النعمة التي منحها الرب يسوع المسيح إلى لصّ محتضر وتذكروا أن الخلاص هو لكم إن آمنتم به بشكل كامل.

الخطاب ٧٧

المسيح يُصلب والحجاب يُشق

"٤٤وَكَانَ نَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. ٤٥وَأَظْلَمَتِ الشَّمْسُ وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ. ٤٦وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: «يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ. ٤٧فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ مَا كَانَ مَجَّدَ اللهَ قَائِلاً: «بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!» ٤٨وَكُلُّ الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا الْمَنْظَرِ لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ. ٤٩وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ الْجَلِيلِ وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذَلِكَ. ٥٠وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً- ٥١هَذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَهُوَ مِنَ الرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ اللهِ. ٥٢هَذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ ٥٣وَأَنْزَلَهُ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ. ٥٤وَكَانَ يَوْمُ الاِسْتِعْدَادِ وَالسَّبْتُ يَلُوحُ. ٥٥وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ الْجَلِيلِ وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. ٥٦فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي السَّبْتِ اسْتَرَحْنَ حَسَبَ الْوَصِيَّةِ" (لوقا ٢٣: ٤٤- ٥٦).

من تتبعوا بعناية الروايات المختلفة عن موت ربنا يسوع المسيح يعرفون أن هناك تفاصيل معينة تكون محذوفة في إنجيل ولكن نجدها في الأناجيل الأخرى، ولكنها جميعاً هي في توافق تام. لا بد أنكم لاحظتم أن ربنا المبارك قد بقي معلّقاً على الصليب في الجلجثة لمدة ست ساعات فظيعة. لقد سُمّر إلى الصليب في الساعة الثالثة: وهذه هي التي ندعوها الساعة التاسعة صباحاً؛ وأُنزل عن الصليب بعد الساعة التاسعة: أي، بعد الساعة الثالثة بعد الظهر. خلال تلك الساعات الثلاث الأولى كانت الشمس مشرقة؛ كل الطبيعة بدت لامعة، وكأنها لا مبالية على الإطلاق بما كان يجري: خالق كل الأشياء كان يُحتضر على صليب العار؛ مرفوضاً من قِبل أولئك الذين ليس فقط أتى بهم إلى الوجود بل أيضاً جاء لأجل مباركتهم وخلاصهم. في الساعة السادسة- وهي تعادل الساعة الثانية عشر ظهراً- انكسفت الشمس من السماء. لم يكن ذلك كسوفاً. لقد كان زمن الفصح، وكان يستحيل أن يحدث كسوف أو خسوف في وقت يكون فيه القمر بدراً. لقد كانت ظلمة فائقة الطبيعة انتشرت في كل أرجاء الأرض، وليس فقط فوق أرض اليهودية، بل على الأرجح، وفي نفس الوقت، في كل أرجاء العالم المعروف. يخبرنا المسيحيون الأوائل (ولا أدري إن كانوا يستندون في ذلك إلى أساس موثوق أم لا، مع أنه من الممتع أن القصة تنحدر من الأزمنة الأولى) أن فيلسوفاً يونانياً كان يعطي محاضرة في مدينة الإسكندرية في مصر ساعة حلّت الظلمة على الأرض، فوق وسط خطبته وأعلن قائلاً: "إما أن هذا إله يحتضر أو أن الكون آيلٌ إلى الفناء". ذاك الذي كان إلهاً وإنساناً معاً كان يحتضر! لقد كان يحتضر في تلك الساعة الفظيعة لأجل خطايانا. استمرت الظلمة من الساعة السادسة إلى السعاة التاسعة، وبعد أن زالت أحنى الرب رأسه وأسلم الروح.

إنه يفيدنا تعليمياً أن نلاحظ أن يسوع خلال الساعات الثلاث الأولى لم يبدِ أي اهتمام بنفسه. لقد كان في غاية الهدوء، ورغم أنه كان متوجعاً ومتألماً للغاية إلا أنه لم يظهر أي دليل على إشفاقه على ذاته. رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ المباركة واقفة عند أقدام الصليب، ويوحنا التلميذ الحبيب قريباً منها؛ فقَالَ لأُمِّهِ: "يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ" ثم قال ليوحنا: "هُوَذَا أُمُّكَ". وأخذها يوحنا بعيداً عن مشهد ألم احتضار ابنها القدوس؛ ونعلم، من مصادر أخرى، أنه اعتنى بها لبقية حياتها هنا على الأرض. ثم نظر الرب إلى الجموع، وهم يجدفون، ويهزأون به ويسخرون منه؛ وأدرك شرّ قلوبهم؛ ومع ذلك فقد فتح لهم مَدِينَةَ مَلْجَأ إليها يلوذون، كما رأينا للتو، عندما صلّى قائلاً: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ". لقد سمع مناشدة اللص التائب وضمن له مكاناً في الفردوس. وهكذا لم يظهر خلال تلك الساعات الثلاث الأولى أي اضطراب في الروح، وأي قلق على نفسه، بل فقط اعتباراً حانياً نحو الآخرين.

من الوقت الذي حلّ فيه الظلمة لم يخرج أي صوت من شفاه يسوع، كما يخبرنا الإنجيل، إلى أن قاربت الساعات الثلاث على نهايتها؛ وعندها، كما نعلم من إنجيلين آخرين، صرخ في ألم وحزن عميق قائلاً: "إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟” في تلك الساعات الثلاث الأولى من العتمة كان يتألم على يدي الإنسان: لقد احتمل بدون تذمر كل الخزي والعار الذي أمكن للإنسان أن يلقيه عليه. ولكن خلال الساعات الثلاث الأخيرة من الظلمة كان يتألم على يد الله- الله الذي قدّم نفسه تقدمة عن الخطية. وهناك شرب كأس مرارة الدينونة التي ملأتها خطايانا- الكأس التي انكمش منها واقشعّر في جثسيماني، والتي لو شربناها لما فرغت إلى الأبد. الله "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢ كور ٥: ٢١). في الساعات الثلاث الأولى خاطب الله بـ "الآب"، قائلاً: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ". ولكن في الساعات الثلاث الأخيرة هذه لم يستخدم كلمة "الآب"، إلى أن حلّ الظلام على الأرض. لقبّه بـ "الله"، قائلاً: "إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟" اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: "إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" (مر ١٥: ٣٤). ذلك لأن الله كقاضٍ هو الذي كان هناك يتعامل مع ابنه القدوس لأجلنا إذ أخذ يسوع مكان الخاطئ. نقرأ: "وَأَظْلَمَتِ الشَّمْسُ وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ". يخبرنا أحد النقاد أن لوقا يربط انشقاق الحجاب بالظلمة أكثر منها بموت يسوع، وأنه كان على عجلة كبيرة ليصل إلى ذروة المشهد ويعلن انتصار المسيح لأن الأناجيل الأخرى تدون أن الحجاب قد تمزق بعد أن أسلم يسوع روحه. حسنٌ، لا نلوم لوقا على عجلته لتدوين انشقاق الحجاب؛ ولكن الروح القدس هو الذي كان راغباً في أن يجعلنا نعرف أن الحجاب قد انشق. طوال أزمنة العهد القديم كان الله يقول: "أسْكُنُ فِي الضَّبَابِ". حجاب الهيكل كان يرمز إلى أنه ما من إنسان كان في مقدوره أن يجتاز إلى حضرة الله سوى في حالة دخول رئيس الكهنة في يوم الكفارة، وذلك "بدون دم". ولكن عندما مات المسيح ذبيحة كفارية عن الخطية فُتح الطريق إلى قدس الأقداس. والآن يستطيع الله أن يخرج بمحبة لا عائق أمامها نحو الإنسان، ويستطيع الإنسان أن يدخل إلى حضرة الله مقبولاً في المسيح. الحجاب المشقوق يدل على أن الفداء قد أُكمل. "لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ" (عب ١٠: ١٩). كتب أحد مؤلفي التسابيح لدينا قائلاً:

"من خلال انكسار جسد الثمين-
داخل الحجاب.
أي كلمات تعبّر للخاطئين-
داخل الحجاب.
ثمينٌ كالدم الذي اشترانا؛
كاملٌ كالمحبة التي طلبتنا؛
مقدس كالحمل الذي أحضرنا-
داخل الحجاب.
يا حمل الله، بك ندخل-
داخل الحجاب.
مطهّرين بالدم نتقدم بجرأة-
داخل الحجاب.
لا لطخة فينا، خليقة جديدة؛
فخلاصنا كامل:
فلننحنِ ونركع عابدين-
داخل الحجاب.
سرعان ما يتجمع القديسون-
داخل الحجاب.
كلنا في دارنا- لا أحد مشتّتٌ-
داخل الحجاب.
لن تخيب فيك نفوسنا أبداً؛
سنراك، ولن نحزنك أبداً؛
ونهتف أن: سبّحوا الحمل إلى الأبد-
داخل الحجاب".

وعند تسليم الروح صلّى يسوع، قائلاً: "«يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ". لقد أسلم روحه. أُنجز العمل، وذهب إلى دياره ليكون مع الآب. ثم يوجه انتباهنا تالياً إلى المشهد أمام الصليب. يخبرنا النص أنه "لَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ مَا كَانَ مَجَّدَ اللهَ قَائِلاً: «بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!»". لقد كان رومانياً؛ كان مسؤولاً عن الجنود الذين كانوا قائمين على الحراسة هناك؛ لقد سمع ورأى كل ما جرى، وتحرّك قلبه. بحسب الأناجيل الأخرى، فإنه أضاف أيضاً: "حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ!". ويخبرنا النص أيضاً أن "كُلّ الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا الْمَنْظَرِ لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ". حشدٌ كبيرٌ كان قد تجمهر هناك، ليس فقط أعداؤه بل أيضاً أصدقاؤه؛ ولكن هؤلاء الأخيرين كانوا عاجزين عن التدخل وقد وقفوا ينظرون بحزن وأسى. لا بد أن الأمر كان صعباً عليهم أن يصدقوا أن يسوع قد مات فعلاً. لقد كانوا يظنون أنه هو من سيفتدي إسرائيل، ولكن تلاشت آمالهم الآن، واستداروا إلى الخلف وذهبوا إلى بيوتهم حزانى نائحين. كل رفقائه وقفوا بعيداً، ينظرون إلى تلك الأمور. كانوا ينظرون إلى مسيح الرب يموت كمجرم على صليب العار؛ ولكن يا للفرح الذي كان ينتظرهم عندما سيعلمون بقيامته المجيدة!

ستلاحظون أنه طالما كان يسوع واقفاً في مكان الخاطئ سمح الله بكل نوع من العار بأن يحل على ابنه المبارك: لقد تفلوا في وجهه؛ ضربوه براحات أيديهم، الإيماءة الأكثر تحقيراً؛ جلدوه حتى تمزق جسده من ناحية الظهر وسال الدم من كل جرح فيه؛ غرسوا تاجاً من شوكٍ في رأسه؛ وألبسوه رداءً جميلاً وركعوا أمامه ساخرين منه قائلين: "السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!". لقد أخرجوه إلى الجلجثة وسمّروه على الصليب؛ وأخيراً طعن أحد الجنود جنبه، ولكن كانت تلك آخر معاملة مهينة سمح الله بها. "الرّمح الذي طعن جنبه أسال الدم الذي يخلّص". بعد ذلك لكأن الله قال: "لقد أسلمتُ ابني إلى أيديكم؛ وأظهرتم كل بغضاء وحقدٍ في قلوبكم بالطريقة التي عاملتموه فيها. والآن ما من يد أخرى نجسة ستلمسه". ومنذ تلك اللحظة وصاعداً لم يلمس أي عدوٍّ ذلك الجسد المقدس.

"وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً؛ (هَذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ)؛ وَهُوَ مِنَ الرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ اللهِ. هَذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ". أنزل الرجل وخدامه ذلك الجسد بكل وقار عن الصليب، وغسلوه من لطخات الدم، ولفوا الجسد بالكتّان، وحملوه إلى قبر يوسف الجديد وتركوه هناك، وفي نيتهم، بعد أن ينقضي السبت، أن يُطيّبوه بحسب عادات اليهود. "وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ الْجَلِيلِ وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ". ثم رَجَعْنَ حزينات، عازمات على العودة وإجراء الطقوس المقدسة الأخيرة بعد يوم السبت. إذ "أَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي السَّبْتِ اسْتَرَحْنَ حَسَبَ الْوَصِيَّةِ". المسيح- الذي وُلد من عذراء؛ الذي ترعرع كنبتة طرية غضّة في حديقة الرب، وانطلقن ممسوحاً من الرب، يشفي المرضى، ويمنح البصر للعميان، ويعلن إنجيل الملكوت- قد مات أخيراً على الصليب عن الخطأة؛ والآن يرقد جسده في القبر، وما من أحد على الأرض عرف إذا ما كان الفداء حقيقة قد أُكملت أم لا. لو لم يخرج من ذلك القبر لما كان هناك دليل على أن مسألة الخطيئة قد سُوّيت. ولكن جسده المقام كان الدليل على كفاية وفعالية عمله. والآن، لنشكرنَّ الله، فهو "يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ" (عب ٧: ٢٥).

الخطاب ٧٨

القبر الفارغ

"١ثُمَّ فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَوَّلَ الْفَجْرِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ حَامِلاَتٍ الْحَنُوطَ الَّذِي أَعْدَدْنَهُ وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ. ٢فَوَجَدْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجاً عَنِ الْقَبْرِ ٣فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوعَ. ٤وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذَلِكَ إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ. ٥وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ قَالاَ لَهُنَّ: «لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ ٦لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لَكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ ٧قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ وَيُصْلَبَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». ٨فَتَذَكَّرْنَ كَلاَمَهُ ٩وَرَجَعْنَ مِنَ الْقَبْرِ وَأَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ. ١٠وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ اللَّوَاتِي قُلْنَ هَذَا لِلرُّسُلِ. ١١فَتَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ. ١٢فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ" (لوقا ٢٤: ١- ١٢).

حاول الدارسون غير المؤمنين، الذين يهزأون من قصة قيامة ربنا يسوع المسيح، في معظم الأحيان أن يجعلوا الأمر يبدو وكأن أتباع الرب كانوا يتوقعون أن يقوم من بين الأموات؛ فكل طيف أو ظل كان يلوح لهم على سفح الجلجثة كانوا يظنونه المخلص القائم من الموت؛ وأن أتباعه كانوا في حالة عاطفية نشوانة من الفكر وتخيلوا أنهم رأوه فعلاً؛ ولكن في الواقع جسده لم يغادر القبر. ويجنح هؤلاء المنتقدون إلى الزعم بأنه عندما ذهب أتباع المسيح إلى القبر ووجدوه فارغاً فإن تفسير ذلك هو أنه، في غمرة حماستهم وإثارتهم، قد دخلوا إلى القبر الخطأ. كتب ماثيو آرنولد يقول: "لا يزال جسد يسوع يرقد في قبرٍ آرامي". حسنٌ، إن كان جسد يسوع لا يزال يرقد في قبر آرامي، فعندها نكون أنا وأنتم بلا رجاء في ما يتعلق بالخلاص، لأنه "إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ" (١ كور ١٥: ١٤). نحن لا نخلص بتعاليم يسوع، وإن كانت رائعة: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". فتعاليمه ما كانت لتستطيع أن تكفر عن الخطيئة؛ لم تكن تعاليمه قادرة على تطهير النفوس الآثمة؛ وما كانت تستطيع أن تجعل الناس مؤهلين للسماء. ولا نخلص أيضاً بمحاكاة الحياة المحبة ليسوع. إن كان خلاصنا يعتمد على محاكاتنا لتلك الحياة المثالية الكاملة، فإننا سنتخلى عن كل رجاء ونعتبر أننا صالحون كما أننا هالكون أبدياً؛ لأن من المستحيل تماماً لأي إنسان خاطئ أن يحيا مثل الحياة التي عاشها يسوع، ابن الله القدوس. صحيح أننا بعد أن نهتدي، وبعد أن نكون قد اقتبلنا طبيعة جديدة بالإيمان به، مدعوون لنسير في إثر خطواته؛ ولكن حتى عندئذ وإذ نحن نسعى لمحاكاته ندرك يوماً بعد يوم إلى أي درجة نخفق. ليست تعاليم يسوع هي التي تخلّصنا؛ ولا نخلص بمحاكاة حياته: إننا نخلص بموته وقيامته. لقد "أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا" (رو ٤: ٢٥).

الكتب المقدسة واضحة ومحددة في ما يتعلق بالحقيقة العظيمة عن انتصاره على الموت. شاهدوا تلوَ الآخر يُستحضر أمامنا ليشهد على حقيقة أن قبر يوسف الجديد كان فارغاً بعد انقضاء الأيام الثلاثة على الصلب. الملائكة ظهرت لتقول أنه قام؛ وهو نفسه ظهر في مناسبة تلو الأخرى خلال أربعين يوماً قبل صعوده إلى السماء على مرأى من تلاميذه. صدق هوراس بوشنِل حين قال أن قيامة ربنا يسوع المسيح هي الحقيقة المصادق عليها على أفضل ما يكون في التاريخ القديم. إن كنتم على اطلاع على التاريخ فأود أن أطرح عليكم سؤالاً. لنأخذ أي شخصية بارزة أو حادثة فريدة في التاريخ القديم- وأعني بالتاريخ القديم ذاك المتعلق بالأشخاص الذين عاشوا أو الأحداث التي جرت قبل الحقبة المسيحية- ولنحاول أن نفكر في شهادة الكثيرين الذين يمكن أن تستندوا إليها لقبول القصة التي وصلتنا حول هؤلاء الأشخاص أو الأحداث. كان هناك رجل اسمه سقراط. أنى لكم أن تعرفوا أنه عاش؟ حسن، لديكم شهادة أفلاطون وزينوفون. وعدا ذلك ليس لديكم شهادة أي شاهد عيان آخر. وآخرون أشاروا إليه لاحقاً على أساس شهادة هؤلاء. لقد أعطانا الله شهادات وافرة على موت وقيامة الرب يسوع المسيح. لكي نتأكد من قوة هذه الشهادات علينا أن نقرأ ما دونته كل الأناجيل الأربعة. إضافة إلى ذلك، لدينا الشهادة الواضحة القاطعة للرسول بولس، وشهادة الرسولين يعقوب ويهوذا، اللذين كانا من أقرباء المسيح بحسب الجسد، والذين يكتبون عنه كقائم من بين الأموات والذي هو الآن رب الجميع. لقد ارتأى الله أن ذلك كان دليلاً كافياً تماماً على القيامة ولا حاجة لأن تشكك به أي نفس صادقة.

"ثُمَّ فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَوَّلَ الْفَجْرِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ". الحديث هنا هو عن النسوة اللواتي تم الحديث عنهن في الآية ٥٥ من الأصحاح السابق: أي النسوة من الجليل. في الواقع، كانت هناك مجموعتان من النساء، ولكن لوقا لم يوحِ له الروح القدس بأن يتكلم عن زيارتين منفصلتين؛ ولذلك فإنه يقول ببساطة: "فِي أَوَّلَ الْفَجْرِ أَتَيْنَ". الأناجيل الأخرى تقدم تفاصيل محددة أكثر في ما يتعلق بمجيئهن، وهي تتوافق بشكل كامل مع ما لدينا هنا: "بَاكِرًا جِدًّا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ". اليوم الأول من الأسبوع يتميز عن جميع الأيام الأخرى، وسيبقى متميزاً إلى أن يظهر ربنا نفسه ثانية. في المزمور ١١٨، وبعد القول: "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ" (الآية ٢٢)، يهتف صاحب المزامير قائلاً: "هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ" (الآية ٢٤). كان هذا يوم انتصار الرب على الموت. لقد انقضى السبت اليهودي الأخير الذي ميزه الله. بينما كان اليهود يحفظون اليوم بحسب ناموسهم، كان جسد الرب يسوع المسيح يركض بارداً في الموت في قبر يوسف. كانوا قد رفضوه ونبذوه. السبت يعني الراحة، والرب يسوع قال: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (مت ١١: ٢٨). ذاك الذي جاء ليقدّم راحة الله الحقيقية قد رُفِضَ ولكن في "غَدِ السَّبْتِ"، كما هو مكتوب في اللاويين، الأصحاح ٢٣، الذي يفترض تقديم بواكير الثمار والحصاد فيه إلى الله في اليوم الأول من الأسبوع، قام يسوع- باكورة القيامة؛ وهكذا تَبَرَهَنَ أن الفداءَ حقيقةٌ قد أُكملت.

متأثرات بمحبتهن بذاك الذي مات، جلبت النساء الحنوط الذي كن قد أعددنهن ليطيبن الجسد بما يليق. لم تكن لديهن أدنى فكرة بأن يسوع قد قام من بين الأموات. من غير المعقول على ما يبدو أن أتباع المسيح كانوا يتوقعون قيامته ثانية؛ أنه كان من السهل عليهم أن يعتقدوا أنهم رأوه؛ أنه قد أخبرهم بأنه سينهض ثانية، ولذلك كانوا يتوقعون ذلك. لم يتوقعوا أي شيء من ذلك القبيل. كل ما كانوا يعرفونه هو أنه قد مات، ومعه ماتت أيضاً أعمالهم بالتحرر، إذ كانوا يتكلون عليه لكي يحررهم من نير الرومان. لقد جلبت النسوة الحنوط ليقوموا بآخر أعمال محبتهم له، ويقدموا الاحترام والاهتمام لذاك الذي كان معهم لوقت طويل، ولكن أُخذ الآن بعيداً. نقرأ في إنجيل مرقس أنه عند مجيء النسوة إلى القبر "كُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: «مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟»". لقد كان فعلاً كمثل حجر رحى جسيم. وعندما نظرن رأين أنه كان قد دُحرج للتو. في البداية كن خائفات من أن يدخلن؛ ولدى قيامهن بذلك انذهلوا لرؤية أن الجسد كان قد اختفى. لم يحلموا أبداً ولو للحظة بأنه قام، بل ظنوا أن أحدهم قد كسر الختم الروماني وسرق الجثة. وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذَلِكَ "إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ". فسألهنّ أحد الملائكة قائلاً: "لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟” أعطاهن هذا أول إعلان بأن الرب قد قام فعلاً. "لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لَكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ وَيُصْلَبَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ". كان قد أخبرهم لمرات عديدة عن موته وقيامته الوشيكين، ولكنهم لم يفهموا معنى قيامته من بين الأموات. قال الملاكان: "اُذْكُرْنَ". فتذكرن كل ما كان يسوع قد قال. تذكرن كلماته؛ ورجعن من القبر لينقلن خبر قيامته للتلاميذ. وفي الطريق حدث أمر ليس مدوناً هنا. ظهر يسوع شخصياً لمريم المجدلية، وفي ما بعد لكل النسوة، ولكن لوقا لا يتوقف هنا ليخبرنا عن ذلك. إذ كان يكتب بإلهام الروح القدس، كان تواقاً جداً ليخبرنا كيف انتقل الخبر إلى التلاميذ وكيف خرجوا ليروا بأنفسهم، حتى أنه يحذف بعض هذه التفاصيل الجميلة والمحببة التي تعطينا إياها الأناجيل الأخرى.

لقد "رَجَعْنَ مِنَ الْقَبْرِ وَأَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ". هناك أمر محزن جداً في هذه العبارة: "أَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ". قبل بضعة أيام فقط كان عددهم اثني عشر، وأما الآن فقد أصبحوا أحد عشر فقط. ذاك الذي كان مع يسوع لثلاث سنوات ونصف رائعة، ذاك الذي رأى أعمال اقتداره، وعاين معجزاته، وعرف بكمال شخصه، أشاح عنه ومضى إلى الخزي الأبدي وصار يهوذا الخائن. كم نحن في حاجة لأن نتذكر ذلك النص الكتابي الذي يقول: "مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ" (١ كور ١٠: ١٢). كثيرون رافقوا شعب الله على مر السنين، يخالطونهم، ويظهرون خارجياً برهاناً على أنهم تلاميذ حقيقيين للرب، ومع ذلك فإنهم لم يعرفوه بشكل مؤكد، بل ارتدوا عن الحق في نهاية المطاف. وهؤلاء، مثل يهوذا، سيذهبون إلى الظلمة الأبدية. هذه الكلمات تلامس قلبي كلما قرأتها؛ ألا فليمنحنا الله أن تلامس قلوبكم.

يذكر لنا لوقا اسم مريم المجدلية، التي كان يسوع قد أخرج منها سبعة شياطين؛ ويونّا، المرأة الثرية التي خدمت يسوع من أموالها؛ ومريم، أمّ يعقوب ويوسي، التي كانت على قرابة وعلاقة وطيدة بالرب نفسه؛ "وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ اللَّوَاتِي قُلْنَ هَذَا لِلرُّسُلِ". في البداية رفض الرسل أن يصدقوا النسوة، فقد "تَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ". ما كان أحد من التلاميذ يتوقع أن يرجع يسوع من الموت؛ وما من أحد فهمه عندما أخبرهم بأنه سيقوم ثانية؛ ولذلك، فعندما جاءت النسوة بهذا الخبر الرائع أصغوا إليهن باندهاش، وبالتأكيد وهم يهزون رؤوسهن ويقولون: "هؤلاء النسوة متأثرات للغاية، ولكن لا نستطيع أن نصدق قصتهن: من غير المعقول أن يقوم أحد من بين الأموات". وتأثر بطرس في نهاية الأمر وتحرك- بطرس ذاك الذي كان قد قال: "وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!"؛ وخلال ساعة من ذلك خيّب المعلّم. ولكن بطرس أحبّ يسوع بإخلاص. لقد قرر أن يذهب ويرى الأمر بنفسه، وهذا ما كان. يخبرنا يوحنا في إنجيله أنه تبعه أيضاً ووصل إلى القبر قبل بطرس، ولكنه لم يدخل. انحنى بطرس- انحنى لأن باب القبر كان خفيضاً جداً- ودخل إلى القبر ورأى الديماس الفارغ، وأقمشة الكتان موضوعة لوحدها على نفس الشكل الذي كانت عليه عندما كانت تلف جسد يسوع. لقد كان من عادة اليهود أن يلفوا الجسد بأحزمة كتانية طويلة، بدءاً من الأطراف مروراً بالجذع، رابطين الأطراف السفلية معاً، والذراعين إلى الجانب، وواضعين عمامة على الرأس. عندما كان الجسد يُلف بهكذا أقمشة كتانية على هذا النحو فقد كان يستحيل عليه أن يحرر نفسه دون أن يبعثر القماش؛ كما الحال مع لعازر عندما صرخ الرب أن: "لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا!". لقد خَرَجَ لعازر وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، فقال يسوع: "حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ". عندما نظر بطرس إلى هذه الأقمشة الكتانية لا بد أنه عرف أن قدرة الله وحدها هي التي استطاعت أن تخرج الجسد منها. "مَضَى مُتَعَجِّباً (منذهلاً) فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ".

نعم، يسوع حيّ. لقد قام من بين الأموات؛ ولأنه حيّ، فإننا سنحيا أيضاً. هذا هو الأساس الصخري لإيماننا.

الخطاب ٧٩

الغريب الغامض

"١٣وَإِذَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً اسْمُهَا «عِمْوَاسُ». ١٤وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ. ١٥وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. ١٦وَلَكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ. ١٧فَقَالَ لَهُمَا: «مَا هَذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟» ١٨فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا الَّذِي اسْمُهُ كَلْيُوبَاسُ وَقَالَ لَهُ: «هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟» ١٩فَقَالَ لَهُمَا: «وَمَا هِيَ؟» فَقَالاَ: «ﭐلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ الَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ. ٢٠كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ الْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. ٢١وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلَكِنْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذَلِكَ. ٢٢بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ الْقَبْرِ ٢٣وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. ٢٤وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلَى الْقَبْرِ فَوَجَدُوا هَكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً النِّسَاءُ وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ». ٢٥فَقَالَ لَهُمَا: «أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ ٢٦أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟» ٢٧ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ. ٢٨ثُمَّ اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ. ٢٩فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: «ﭐمْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ». فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. ٣٠فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا ٣١فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا. ٣٢فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: «أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟» ٣٣فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ ٣٤وَهُمْ يَقُولُونَ: «إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!» ٣٥وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي الطَّرِيقِ وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ الْخُبْزِ" (لوقا ٢٤: ١٣- ٣٥).

ونأتي الآن إلى رواية لوقا عن ظهور المسيح بعد قيامته. هناك تبسيط سار ومباشرة نجدها في مختلف الروايات التي تتناول هذه الأحداث العظيمة كما ترد في الأناجيل الأربعة، وهذا ما يستبعد كل فكر بالتزييف أو الكذب أو الهوس الجنوني. لقد كان الكُتاب يعرفون عما يتكلمون. لقد كانوا على يقين، لا يصل إليه أدنى شك، بأن يسوع، الذي كان قد مات على صليب المجرمين والذي وُضع جسده في القبر لثلاثة أيام، قد قام منتصراً وظهر لشهود كثيرين مختلفين جداً ما يزيل أي شكّ بحقيقة وصدق قيامته. من الواضح أن لوقا لم يكن أحد الذين رأوا الرب بعد أن قام من بين الأموات، ولكنه كان رجل علم، طبيباً ذا فكر متسائل، لم يقبع راضياً إلى أن تمحص كل الأدلة بعناية تدقق في التفاصيل، وبنتيجة تحرّيه اقتنع بصدق ومصداقية الشهادة التي قدمها أولئك الذين أعلنوا أنهم رأوا المخلّص القائم وتكلموا معه (لو ١: ١- ٣).

أحد الظهورات العديدة لربنا لتلاميذه خلال الأربعين يوماً التي مرت بين قيامته وصعوده هي هذه الحادثة، التي لطالما اعتبرتها أحد أهم الظهورات الشيقة والمليئة بالحنو. أعني بذلك ظهوره لتلميذيه، كِلُوبَا وشخص آخر. أعتقد أن هذا الشخص الآخر لم يكن سوى زوجته. لا نعرف الكثير عن كِلُوبَا؛ البعض يعتقد أنه نفس الشخص الذي يُدعى كِلُوفَا (يو ١٩: ٢٥). كِلُوبَا اسمٌ عبري، والآخر آرامي؛ ولكن لا نعرف إذا كان هذان شخص واحد أم شخصان مختلفان. مهما يكن من أمر، إن التلميذان كانا قد أحبا يسوع؛ لقد كانا يؤمنان بأنه كان المسيا؛ وربما كانا في وسط الجمع الذي شاهده يموت. والآن، وفي حيرة عميقة، كانا يتساءلان إذا ما كان رجاؤهما قد ذهب سدىً، وفيما إذا كان يسوع قد خُدع أو خدع الآخرين بتقديم نفسه على أنه مسيا إسرائيل، كما كانا يؤمنان. كانا يسيران في الطريق المؤدي من أورشليم إلى عمواس. المسافة ليست بعيدة. لقد قدتُ السيارة عبر ذلك الطريق بنفسي، وبينما كانت أفعل بذلك كنت أفكر بهذين التلميذين يمشيان الهوينى على طول الطريق ويتحدثان عن تلك الأمور التي جرت مؤخراً، وشعرت بشعورهما ببركة كبيرة عندما دنا منهما ذلك الغريب العجيب المبارك وتدخل في الحديث الذي كان يجري بينهما بطريقة محببة لطيفة. "وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا". هناك شيء معزٍّ حقاً في هذا: لقد كان يسوع هناك. ولكنهما لم يعرفاه؛ لم يميزاه، وأعتقد غالباً أن الأمر سيّان معنا. أحياناً نمر بتجارب ومحن وارتباكات وأسىً وخيبات، ونشعر أننا لوحدنا تماماً، نشر وكأنه ما من أحد يهتم، ولكن إن كانت أعيننا مفتوحة كفاية- كما عينا خادم أليشع ذاك في دوثان، قبل زمن طويل، عندما رأى ملائكة الرب مخيمين حولهم لحمايتهم من أعدائهم- فإننا نمر بخبرة مشابهة. عينا هذين التلميذين كانتا مغلقتين ولذلك لم يعرفا من كان ذلك الغريب. ما كانا يتوقعانه، ولم يعرفاه. لقد كان قد تغير بشكل عجيب بلا شك. ما عاد رجل الأوجاع، بل المسيح المنتصر، وقد تلاشت كل علائم القلق والحزن من وجهه. ربما ظنّا أنه كان زائراً، غريباً غامضاً، يسير على مقربة منهما. وإذ اقترب منهما طرح عليهما هذا السؤال: "مَا هَذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟” لقد كان يعرف حقيقة الأمر، ولكنه أراد أن يتقرب إليهما، ويجعلهما يعبران عن أنفسهما لكيما يفتح لهما حقيقة كلمة الله فيما يتعلق بالقضايا العظيمة في موته وقيامته. كانا قد غفلا عن تلك الأشياء في الكتاب المقدس التي كانا يتساءلان عنها. كان الأنبياء قد شهدوا قبلاً بآلام المسيح، وبالمجد الذي سيلي قيامته. يريد ربنا منا أن نأتي إليه بأحزاننا وأعبائنا وهمومنا؛ إنه يسرّ بأن نأتي إليه ونخبره عن كل ما في قلبنا، وهو على استعداد دائماً وأبداً ليريحنا ويعزينا ويقودنا ويعلّمنا ويوجّهنا ويساعدنا. كِلُوبَا، الذي بادر إلى الحديث، سأل مستعلماً: "هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟” بما أن ذلك كان موسم عيد الفصح وكان هناك الكثير من الزائرين في أورشليم، فقد افترضا أن هذا الغريب لا بد أن يكون أحدهم، وانه لم يسمع بما حدث. ربما لم يكن في ذلك الجمع الذي يحدق إلى الثلاثة المعلقين على الصلبان في الجلجثة؛ ربما لم يسمع عن يسوع هذا، المسيا المفترض، الذي كان قد صنع تلك الأعمال العجيبة المعجزية، ولذلك لم يعلموا بأعماله وتعاليمه المدهشة. لقد افترضا أن يسوع مجرد غريب، وبالفعل كان غريباً في هذا العالم؛ ومع ذلك فقد كان الشخصية المحورية في كل ما جرى في تلك الأيام. وسألهم ثانية: "وَمَا هِيَ؟” فَقَالاَ: "ﭐلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ الَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ. كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ الْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلَكِنْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذَلِكَ. بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ الْقَبْرِ وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ". هذه الأخبار انتشرت وسط كل من كانوا يحبون اسم يسوع؛ ولكنهم لم يكونوا متأكدين من صحة ما قالته النسوة. ربما ضُلّلت النساء؛ ربما أغشى عيونَهم خداعٌ بصريٌّ ما، أو ربما كانوا يشعرون بالإثارة وقد انخدعوا إلى التفكير أنهم قد رأوه فعلياً. "وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلَى الْقَبْرِ فَوَجَدُوا هَكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً النِّسَاءُ وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ". "قَوْمٌ" تشير إلى بطرس ويوحنا. لقد وجدا القبر فارغاً، وأقمشة الكتان ملقاة كما لُفّ بها الجسد، ولكنهما لم يريا يسوع؛ وكانا لا يزالان غير متأكدين تماماً مما جرى. انبرى يسوع ليجيب عليهما: "أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ". الكلمة المترجمة "الغبيان" ليس فيها تحقير. إنها تعني "البسيطان/الساذجان". لقد كانا كمثل الأطفال وقد أخفقوا في الفهم، ولذلك لم يؤمنا بالإعلانات النبوية المتعلقة بالمسيح. بمعنى آخر، لم يكن شيء مما روياه بعكس ما علّمته كلمة الله؛ لم يكن هناك ما يعارض ما كتبه الأنبياء. لو أن هذان التلميذان قد تمحصا بانتباه في كل شيء بعناية، ودرسا النبوءات التي تتكلم عن فادي إسرائيل وملكوته الآتي المجيد، لوجب عليهما أن يريا كم أن الكتابات المقدسة كانت محددة وواضحة في تنبؤها برفض المخلّص، وصلبه، وموته ودفنه؛ نعم، وعن قيامته، لأنه مكتوب في سفر أشعياء ٥٣: ١٠ أنه: "إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ".

"أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟” يجب أن يأتي الصليب قبل التاج. لم يكن هناك ثمة طريقة أخرى يمكن بها تحقيق المخطط الإلهي لفداء نفس الناس أفراداً والعالم إجمالاً. شرع الرب يقدم لهما شرحاً سريعاً عملياً عن كل العهد القديم. كم كان المرء سيشعر بسرور لو كان في صحبتهم ذلك اليوم وسمع مسيح الله المبارك يفسر الكتب المقدسة، مشيراً منها إلى كل حياته، ورفضه، وموته على الصليب، وقيامته، وحتى صعوده إلى يمين الله، إذ نقرأ في مز ١١٠: ١ أنه "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: [اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ]". لقد مرّ على النبوءات في كل العهد القديم، مبتدئاً بموسى. لم يشكك ربنا أبداً بمصداقية الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس. النقاد غير المؤمنين يشككون اليوم بها. بل حتى يصلون إلى درجة إنكار أن موسى كتب هذه الأسفار، أما ربنا فلم يكن لديه هكذا شك. لقد قال: "لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي" (يو ٥: ٤٦). كان يعلم أن موسى هو من كتب الأسفار الأولى. "ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ". يا لها من قراءة كتابية رائعة! لقد تأججت قلوبهم بينما كان الرب يسوع يشرح لهما كيف كان هو موضوع كل النبوءة، وهكذا أعطاهما المفتاح لفهم كل الكتابات المقدسة كما لا يستطيع أي أحد آخر. من كان ليستطيع أن يفسر كلمة الله ويقدم هكذا مكاشفات رائعة للحق الإلهي كمثل ربنا في ذلك اليوم! ليت لدينا تدوين لذلك، إذاً لكان قد أغنى حياتنا؛ ولكن يسوع اختار ألا يكون هناك هكذا سجل، لكيما تتحرك قلوبنا إلى دراسة الكلمة بأنفسنا، وأن نبحث فيها يومياً متكلين على الروح القدس. علينا أن نبدأ بموسى وأن نمر عبر كل الأنبياء، وعلى الضوء الذي يلقيه العهد الجديد على هذه الأسفار، نستطيع أن نرى الأمور التي ينبغي أن تعلّمنا ما يتعلق به، لأن المسيح نفسه هو موضوع كل العهد القديم وأيضاً العهد الجديد.

بينما كان ربنا يسير مع هذين التلميذين، "اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا". كانا يعيشان في عمواس، وإذ انعطفا ليدخلا إلى منزلهما، "تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ". الرب يسوع لا يفرض نفسه أبداً على أحد؛ إنه دائماً ينتظر دعوة. وسيدخل إن سمحنا له بأن يفعل ذلك. إن لم ندعه للدخول فسنبقى بدون معونة روحية نختبرها. "أَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: ﭐمْكُثْ مَعَنَا". لقد كانا مهتمين جداً بما أوضحه لهما ذلك الغريب السماوي حتى أنهما ألّحا عليه لينزل ضيفاً عندهما في تلك الليلة. وإذ ألّحا على ذلك، فقد دخل لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا في تلك الليلة. كم قدّر دعوتهما! إنه يحب أن يكون موضع ترحيب؛ إنه لا يرفض أي دعوة توجه إليه. لقد دخل ليبيت عندهما. وسرعان ما أعدا وليمة المساء، وطلبا من هذا الغريب الرائع أن يتكئ إلى المائدة معهما. ربما كانت وليمة بسيطة جداً؛ ربما لم يكن فيها تنويع كثير في الأطعمة، ولكنهما كانا على استعداد لمشاركته بما لديهما. اتخذ يسوع مجلسه إلى المائدة، ولكن ليس كضيف؛ لقد أخذ مكان المضيف. بدلاً من أن ينتظر من كلوبا أو التلميذ الآخر أن يطلب البركة، أخذ كسرةً من الخبز ورفع بصره إلى السماء وشكر. قد ظنا أنهما يدعوانه كضيف، ولكنهما وجدا أنهما كانا هما الضيفان عنده، وكان هو المضيف. فجأة، إذ نظرا إلى يديه عندما كان على وشك أن يكسر الخبز، جاءهما إعلان. نقرأ: "انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا". كيف عرفاه؟ أخبرا الرسل فيما بعد في أورشليم أن "عَرَفناهُ عِنْدَ كَسْرِ الْخُبْزِ". لم يكن هذان في عشاء الرب. في ذلك الوقت كان هناك الأحد عشر، رسل الرب يسوع المسيح. كان هذان تلميذان ولكن غير معروفين. ولذلك لم يعرفاه لأنهما تذكرا ما رأيا في العلّية. بل نظرا إلى يديه، وبلا شك رأيا آثار المسامير كما كان لتوما بعد ذلك أن يرى؛ وقالا: "هذا هو! انظر إلى هاتين اليدين! إنه هو الذي سُمّر إلى ذلك الصليب". لقد عرفاه وعرفا أنه المسيح، فادي إسرائيل. ولكن عندما نظرا من جديد، كان قد ذهب؛ لقد اختفى عن البصر. جسد قيامته لم يعد خاضعاً للنظام الأرضي. بعد قليل سنجده يدخل إلى الغرفة والأبواب مغلقة. لقد كان يستطيع أن يظهر نفسه وأن يخفيها عنهم في أي وقت يشاء. "أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟”لم يسمعا أبداً الكتابات المقدسة تفسر على ذلك النحو. والآن إذ نظرا إلى الخلف شعرا بأنهما قد عرفا من كان ذاك الذي أعلن لهما الحق بهكذا طريقة تضرم القلوب. "فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ". لم يعرفا أين يجدان الأحد عشر. وإذ اقترب هذان التلميذان من الباب سمعا أحدهم يقول: "إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!". سمعان، ذاك الذي كان قد أنكره، وأقسم وحلف أنه لم يعرف يسوع أبداً؛ ومع ذلك، في مكان ما في يوم القيامة كان الرب قد بحث عنه والتقى به، وأعلن نفسه له؛ وعرف سمعان أنه قد غُفر له. ولا بد أن بطرس قد شعر، أكثر من كل الرسل، باكتئاب ويأس، إذ تذكر بمرارة في روحه إخفاقه المحزن في اجتياز الامتحان في ساعة التجربة تلك. كم كان عزاء لقلبه عندما ظهر يسوع له وحده، ليستعيد نفسه ويواسي روحه! ما هذا سوى مثال عن النعمة التي أظهرها الرب نحو أتباعه المضللين المخطئين. بعد قليل نجد الرب يعطي بطرس التفويض أن "ارْعَ خِرَافِي.... ارْعَ غَنَمِي".

"فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي الطَّرِيقِ وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ الْخُبْزِ". وهكذا أضاف التلميذان شهادتهما. يا لها من خبرة مرّا بها ويا له من فرح أكيد شعرا به عندما عرفا بشكل مؤكد أن ذاك الذي مات هو حيّ من جديد. والحمد لله، فإنه حيّ ولن يموت أبداً.

مع خوفي من بعض التكرار، دعوني أؤكد حقيقة أنه لولا قيامة الرب يسوع المسيح بالجسد، لما كان للكنيسة أساس تستند عليه، ولما كان هناك أساس لرسالة الإنجيل. لذلك فإن الله قد أكد هذه الحقيقة العظيمة بطريقة لافتة مميزة. في العهد القديم تم التنبؤ بشكل واضح عن أن المخلّص كان سيموت عن خطايانا وأنه سيقوم من الموت ويتخذ مجلسه إلى يمين الله في السماء. بالنسبة له، طريق الحياة يمر عبر أودية الموت، ولكن نفسه لا ما كانت لتُترك في الهاوية، العالم غير المنظور، ولا يرى جسده فساداً (مز ١٦: ٩- ١١). بعد أن جُعلت نَفْسُهُ ذَبِيحَةَ تقدمةٍ عن الإِثْمِ،.... كان له أن "يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ" (أش ٥٣: ١٠). في الأنبياء لدينا النبوءة؛ وفي الأناجيل، تحقيق النبوءة. المسيح قام. لقد "صَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ" (١ كور ١٥: ٢٠). وباسمه، اسم ذاك الذي كان ميتاً فعاش ثانية (رؤ ١: ١٨)، آيات وعجائب عظيمة صُنعت على مر كل القرون منذ ذلك الحين. أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَ"أَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ" (٢ تيم ١: ١٠).

الخطاب ٨٠

الوصايا الأخيرة لربنا
وصعوده إلى السماء

"٣٦وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: «سَلاَمٌ لَكُمْ!» ٣٧فَجَزِعُوا وَخَافُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحاً. ٣٨فَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ ٣٩اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَانْظُرُوا فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي». ٤٠وَحِينَ قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. ٤١وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ الْفَرَحِ وَمُتَعَجِّبُونَ قَالَ لَهُمْ: «أَعِنْدَكُمْ هَهُنَا طَعَامٌ؟» ٤٢فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. ٤٣فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ. ٤٤وَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ». ٤٥حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ. ٤٦وَقَالَ لَهُمْ: «هَكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ٤٧وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ. ٤٨وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذَلِكَ. ٤٩وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي». ٥٠وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. ٥١وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. ٥٢فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ ٥٣وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ. آمِينَ" (لوقا ٢٤: ٣٦- ٥٣).

تكليف المسيح لتلاميذه بنقل إنجيله إلى العالم لم يُعطَ كله مرة واحدة. في أع ١: ٢، ٣ يخبرنا لوقا أنه خلال الأربعين يوماً بين قيامة الرب وصعوده أعطى توصية فيما يتعلق بخدمتهم المستقبلية، وَتَكَلَّمُ عَن أُمُورٍ كثيرة "مُخْتَصَّة بِمَلَكُوتِ اللهِ". الجزء الذي أمامنا يُقسم إلى قسمين: الآيات ٣٦ إلى ٤٩ تحكي لنا عن الظهور الأول للرب يسوع المسيح في العلية في أورشليم، كما يشير إلى هذه الحادثة الأصحاح ٢٠ من إنجيل يوحنا. الآيات الأربع الأخيرة تأخذنا إلى سفوح جبل الزيتون، والتي منها صعد الرب إلى السماء.

نقرأ: "فِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا". أي، بينما كان التلميذان اللذان رجعا من عمواس يخبران عن خبرتهما اللافتة مع الرب القائم، ظهر يسوع فجأة واقفاً "فِي الْوَسْطِ"، وقد دخل الغرفة بدون أن يفتح الأبواب المغلقة. في جسده بعد القيامة لم يعد يسوع خاضعاً للقوانين التي كان يخضع لها خلال فترة اتضاعه. "وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: «سَلاَمٌ لَكُمْ!»". قَالَ يسوع: "سَلاَمٌ لَكُمْ!"، لأنه صنع سلاماً بِدَمِ صَلِيبِهِ (كول ١: ٢٠). كان قد سبق وأخبرهم منذ زمن بعيد أنه: "حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ" (مت ١٨: ٢٠). هذا صحيح دائماً: كلما كان هناك اثنان أو ثلاثة، أو جمع كبير، مجتمعاً باسمه، فإنه يكون في الوسط. أعتقد أن المسيحيين إذا ما أدركوا هذا بشكل أكمل فلن نجد غائباً واحداً عن اجتماعات الصلاة والعبادة. سوف نستغل كل فرصة لنلتقي مع ربنا المبارك. سوف نذهب، ليس فقط لنلتقي بعضنا ببعض، وليس فقط لنسمع الكرازة بالكلمة ، وليس لنستمتع بإنشاد الترانيم، بل لنكون في حضرته المقدسة وننشغل بالمسيح نفسه. عندما عُلّق على الصليب كان هناك لصّان صُلبا معه، وكان يسوع في الوسط. هناك أخذ مكانة الخاطئ واحتمل الدينونة التي نستحقها للغاية. وعندما كَانَ تلاَمِيذه مُجْتَمِعِينَ ظهر لهم يسوع "في الوسط" بينهم. عندما رأى الرسول يوحنا الوطن السماوي يخبرنا أنه "فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ حَمَلٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ" (رؤ ٥: ٦). مكانه دائماً في الوسط.

كان التلاميذ قد سمعوا بشهادة قيامته عن طريق عدد من الناس الآخرين؛ ومع ذلك فقد بدا أمراً مستحيلاً تماماً أن يمتلئ البعض بالخوف بدلاً من السرور. لقد افترضوا أنهم رأوا روحاً، أي شبحاً؛ ظنوا أن شبحاً ظهر لهم. "جَزِعُوا وَخَافُوا". لم يستطيعوا أن يصدقوا شهادة حواسهم أنفسهم، ولم يفهموا سوى القليل عن قيامته من بين الأموات. لقد ظنوا أنهم يرون شبحاً، وأن ذلك فيه بعض الشر أكثر منه الخير. قال يسوع: "مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟” لقد هزّ أفكارهم المضطربة ووبخهم على قلقهم وجزعهم، الذي كان سببه عدم الإيمان. لو كانوا قد انتبهوا أكثر إلى كلماته قبل القبض عليه، لما كانوا اضطربوا الآن، بل كانوا سيبتهجون لأن كلماته تحققت على نحو مجيد جداً. أضاف يسوع قائلاً: "جُسُّونِي وَانْظُرُوا فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي". أمرهم أن يمسكوا بذراعيه بشدة ليتأكدوا بأنفسهم بأنه لم يكن شبحاً ظهر لهم؛ بل شخصاً بجسد حقيقي من لحم وعظام. لم يقل "لحم ودم". حياة الجسد هي في الدم (لاويين ١٧: ١١). الجسد المقام من الواضح أنه كان بلا دم. ومع ذلك فقد كان جسداً مادياً- من لحم وعظم- وإن كان بطبيعة مختلفة عن الجسد الحالي. ثم أراهم يديه وقدميه. يذكر يوحنا يديه وجنبه ويغفل ذكر قدميه. لقد لفت انتباههم إلى جراحه، إذ كان يحمل في جسد قيامته ندبات تدل على آلامه، وسيحملها إلى الأبد كمذكّر أسمى بمحبته.

كنت أكرز مؤخراً في مدينة شرقية، وذهبت لزيارة إرسالية مع الأخ المسؤول. أخبرني، ونحن نقف على المنبر، عن خبرة لافتة مرّ بها قبل فترة من الزمن. قال أنه كان يقف في المنبر، وإذ كان ينظر على الممر بين المقاعد فُتح الباب، ودخل شخص غريب الهيئة، مرتدياً ثوباً أبيض طويلاً. وإذ تقدم الغريب إلى حيث كان يقف صديقي، رفع بصره إليه وقال: "لقد جئت لأملك. أنا هو الرب يسوع المسيح". نظر إليه صديقي للحظة؛ ظن في البداية أن الرجل إنسان مهووس أو مخبّل، وأنه كان من الأفضل له أن يتركه وشأنه، إلا أنه بدلاً من ذلك سأله: "أتقول أنك الرب يسوع المسيح؟" "نعم"، كان الجواب، "وقد عدتُ كما وعدت أن أفعل". فقال المُرسَل: "دعني أرى يديك". رفع الزائر يديه. "لا؛ أنت لست مخلّصي؛ مخلّصي يحمل آثار المسامير في كل يد". فنظر إليه الرجل نظرة قاسية واستدار وغادر المكان. يحمل يسوع علامات تدل على لاهوته في يديه وقدميه المجروحة. قال يسوع: "اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَانْظُرُوا فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي". كان الطبيعي أن يقول: "الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَدمٌ". ولكن ربنا سفك دمه الثمين على الجلجثة ليصنع كفارة لأجلنا، وجسده المقام لا حاجة به إلى الدم ليمده بأسباب الحياة. "قَالَ لَهُمْ: «أَعِنْدَكُمْ هَهُنَا طَعَامٌ؟» فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ". كانوا لا يزالون غير مصدقين؛ ولذلك بادر إلى أن يأكل معهم، لكي يعرفوا بدون أي شك أن ذاك الذي كان واقفاً هناك هو جسد بشري حقيقي. ولذلك أوضح أنه كان فعلاً حاضر معهم في جسده المقام، وليس فقط كروح ممجدةٍ.

"وَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ»". الرب القائم هنا يصادق على كل العهد القديم بإعلانه بدون أي التماس أو غموض أن كل ما هو مكتوب في الناموس، والأنبياء، والمزامير، عنه، لا بد أن يتحقق. وهذا ينطبق على مجيئه الثاني والملكوت. لا شيء يُلغى. كل شيء يجب أن يحدث كما هو مكتوب. هذا هو أساس إيماننا بالتحقيق الحرفي للنبوءة. إنه لخطأ كبير أن نروحن النبوءات ونفترض أن الله سوف يتراجع عن كلمته.

ثم صنع الرب يسوع المسيح شيئاً لتلاميذه كنا لنود أن يصنعه لنا: "حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ". لكأن الرب، من خلال روح قدسه، يفتح فهم البشر لكي يدركوا الحق الذي أعلنه الله في كلمته. في هذا الأصحاح، الآية ٣١، نقرأ: "فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ". نعلم هنا أن الرب فتح فهمهم؛ وبعد أن اختفى من الغرفة، قَالَ تلميذا عِمْوَاس بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: "أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟” لنربط هذه الثلاثة معاً: فتح الكتب المقدسة، فتح أعينهما، فتح فهمهما. بهذه الطريقة فقط يمكننا أن نعرف فكر الله. إنه لأمر عظيم أن نرجع إلى ما هو مكتوب في الكتاب المقدس. إننا ننشغل كثيراً بالنظريات البشرية لدرجة نخفق معها في أن نتكل على ما هو مكتوب في الكلمة. "وَقَالَ لَهُمْ: «هَكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ. وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذَلِكَ". كانت أورشليم في ذلك الوقت المدينة الأكثر إثماً على وجه الأرض. غالى شعبها جداً لدرجة أنهم صلبوا ملكهم المعبود المبارك نفسه. ربما يتساءل المرء إذا ما كان الله في غضبه سيمحو تلك المدينة عن وجه الأرض؛ ولكن هناك كان له أن يبدأ بإظهار الغنى الفائق لنعمته. خلال وقت قصير جاء ثلاثة آلاف شخص إلى قبول المسيح مخلّصاً، وإذ قبلوه، اعتمدوا باسمه؛ أي، بسلطته. بعد أن بدأوا في أورشليم، انطلق الرسل ليشهدوا على قيامته في كل أرجاء العالم. نقرأ في أعمال ١: ٨، أن يسوع قال لهم: "وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ".

لاحظوا أنه في التفويض المعطى هنا هناك شيئان جمعهما الله معاً: التوبة الشخصية ومغفرة الخطيئة. ما هي التوبة؟ إنها اعتبار أن لا شيء أهل للتقدير والمكافأة، إنه الاعتراف بالداء الذي يهلكنا. عندما نعترف بإثميتنا سنكون مسرورين من الاستفادة من الخلاص الذي يقدمه الله. وعندها يكون المرء على استعداد للرسالة التي تخبره أن المسيح قد صنع لأجله ذاك الذي ما كان ليستطيع أن يصنعه لنفسه. عندما يضع إيمانه في المسيح واتكاله عليه فإنه ينال مغفرة الخطايا. أن تؤمن به يعني أن تضع ثقتك فيه، وعندما تفعل ذلك فإنك تنال مغفرة الخطايا. أنى لك أن تعرف أن خطاياك مغفورة؟ عليك أن تثق بكلمة الله؛ آمن بها لأنه يقول هذا. ليس بسبب شعور من السعادة تعرف أنك مغفورة خطاياك، بل لأنك تعلم أن الله حاشى أن يكذب.

أضاف ربنا يسوع قائلاً: "وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي". ما كان يُفترض بهم أن يذهبوا في الحال. المعزي الموعود يجب أن يأتي أولاً، ذاك الذي كان سيرسله الآب باسم يسوع (يو ١٤: ٢٦). وهذا كان سيقويهم ليكرزوا ولينقلوا الإيمان إلى قلوب مستمعيهم. كان عليهم أن ينتظروا في أورشليم إلى أن يتحقق هذا الوعد. بعد عشرة أيام حلّ روح قدس الله بطريقة جديدة تماماً. وفي هذا كانت قوة شهادتهم. السبب في أن شهادتنا لا ترقى إلى مستوى أعلى مما هي عليه هو أننا نشهد بقوتنا الخاصة وليس بقوة الروح القدس.

تالياً لهذه التعليمات، "أَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ". لكي يصل المرء إلى بيت عنيا يجب أن يصعد إلى جبل الزيتون، ثم ينزل قليلاً إلى الجانب الشرقي. غالباً ما كان الرب يسوع يزور بيت عنيا منزل مريم، ومرثا، وأخيهم لعازر، الذي أقامه يسوع من الموت. على سفح الجبل قرب هذه البلدة رفع يسوع يديه وبارك تلاميذه، ثم صعد إلى السماء، وسحابة غمرته وحجبته عن أعينهم. عمله على الأرض انتهى، وعاد إلى الآب وإلى المجد الذي كان له قبل تأسيس العالم.

يخبرنا النص أن التلاميذ "سَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ". انتهت الآن كل الأسئلة حول سرّ شخصه. لقد سجدوا له لأنه ابن الآب السرمدي، وبعد ذلك، وفي إطاعة لكلمته، "رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ" مترقبين حلول الروح القدس. "كَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ". خلال فترة الانتظار يبدو أنهم كانوا يسكنون معاً في بيت واحد مشترك، حيث كانوا يمضون الوقت في الصلاة (أع ١: ١٣، ١٤)، ولكن خلال الشطر الأكبر من النهار كانوا يتواجدون في باحات الهيكل، "يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ". وليس صحيحاً، كما استنتج البعض بدون دليل ملائم، أن اجتماع الصلاة استمر بشكل متواصل لفترة عشرة أيام.

الحقيقة العظيمة الوحيدة التي نراها أمامنا في هذا الدرس هي أننا نحن الذين نعرف المسيح كمخلّص مسؤولون عن حمل الإنجيل إلى كل شعوب العالم. ليس لنا أن نستمتع بصلاح الرب بأنفسنا ولوحدنا بينما ننسى حاجة معظم النفوس حولنا، وأولئك الذين في أراضٍ بعيدة والذين لا يزالون يجلسون في الظلمة وظلال الموت. ولا يجب أن نعوّل على مواردنا الخاصة في تنفيذ التفويض الموكل إلينا. ذاك الذي يُرسل يقوي أيضاً. بالروح القدس يؤهل الرب خدّامه لينطلقوا، كسفراء له مكرسين للخدمة، ليخبروا كل الشعوب بغنى نعمته. تأتي بركة متزايدة إلى الكنيسة التي يكرز أعضاؤها بالإنجيل في كل مكان. بهذا يختم لوقا روايته ليكملها من جديد في الأصحاح الأول من سفر أعمال الرسل.

لا شيء محزن أكثر من أن نسمع مسيحيين يتجادلون حول تطبيق التفويض العظيم، بينما يهملون إطاعته. إننا مسؤولون عن تقديم الفرصة لجيلنا ليسمعوا الإنجيل. في يوم ما في المستقبل سيكون لله شهوده إلى الأمم، ولكن هذا لا يعفينا من مسؤوليتنا الحالية بأن نعلن نعمة الله في مكان بكل ما أوتينا من قوة. من يعرف بركة الخلاص مدعو ليعلن المسيح للآخرين حتى ولو كانت حلقته محدودة جداً. ليس الجميع كارزين موهوبين أو مبشرين، بل إن جميع المخلَّصين يمكنهم أن يخبروا شخصاً آخر عن الرب يسوع وعن طريق الحياة. إن كنّا نعرف المسيح، فهل سننقل كل ما نعرفه إلى أولئك الذين لا يزالون في الخطيئة؟ التوبة ومغفرة الخطايا تسيران جنباً إلى جنب، لأن المرء عندما يعترف بحالته الضالة، فإنه يكون على استعداد ليؤمن بالمخلّص الوحيد. هل فعلنا ذلك؟

محاضرة ١

مدخل

(غل ١:‏ ١-‏ ٥)

"بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاللهِ الآبِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَجَمِيعُ الإِخْوَةِ الَّذِينَ مَعِي، إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ. نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ الآبِ، وَمِنْ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا، لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ حَسَبَ إِرَادَةِ اللهِ وَأَبِينَا، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ."

إن الرسالةَ إلى أهل غلاطية ترتبطُ بشكلٍ صميميّ وثيقٍ بالرسالةِ إلى أهلِ رومية. هناكَ أسبابٌ معقولةٌ، على ما يبدو، تجعلنا نعتقدُ أنّ كلتا الرسالتين قد كُتبتَا في نفسِ الوقتِ تقريباً، وعلى الأرجحِ، من كورنثوس خلال الفترةِ التي كان بولس يخدمُ فيها مبشراً بالمسيحِ في تلك المدينةِ العظيمة. لدينا في رومية (رسالة رومية) الكشف الأكثر كمالاً وشموليّةً لإنجيلِ نعمةِ الله التي نجدها في كلِّ مكانٍ في العهدِ الجديد. في الرسالةِ إلى أهل غلاطية نرى تلك الرسالة الإنجيلية المجيدة وقد دافعَ عنها بولس ضدَّ أولئكَ الذينَ كانوا يسعونَ للاستعاضةِ عن النعمةِ بالناموسيّة (التشريعات والالتزامات القانونية). هناك تعابيرُ كثيرةٌ في الرسالتين نجدها متشابهةً للغاية. فكِلتا الرسالتين، كما هو الحال أيضاً في الرسالةِ إلى العبرانيين، تستندُ إلى نصٍ معينٍ من العهدِ القديم نجدهُ في الإصحاحِ الثاني من سفر حَبقوق:‏ "إنَّ البارَ بالإيمانِ يحيا". اسمحوا لي أن أُكررَ القولَ بأنَّ كل ما أذكرهُ في محاضراتي عن رسالةِ رومية ينطبقُ أيضاً على الرسالةِ إلى العبرانيين. في الرسالةِ إلى رومية نجدُ التركيزَ على موضوعِ "البرِّ" أو "البار". كيفَ يمكنُ للناسِ أن يكونوا أبراراً أمامَ الله؟ الجوابُ هو:‏ "إنَّ البارَ بالإيمانِ يحيا". ولكن إِن تبرَّرَ أحدٌ بالإيمانِ فكيفَ لهُ أَن يحافظَ على مكانتهِ تلكَ أمامَ الله؟ جوابُ ذلكَ نجدهُ في الرسالةِ إلى غلاطية وهنا يكونُ التركيزُ على كلمة "الحياةُ بالإيمان". ولكن ما هي تلكَ القوةُ التي بها يصيرُ الناسُ أبراراً وبها يَحيَونَ؟ تجيبُ الرسالةُ إلى العبرانيين على هذا بأن نجعلَ التركيزَ ينصبُّ على آخرِ كلمتين من نفس النص:‏ "بالإيمان يحيا". ومنْ هنا نرى أنّ هذهِ الرسائل الثلاث تؤسسُ ثلاثيةً لافتةً للانتباهِ فعلاً، وأنَّهُ على الرغمِ من أنَّ كثير منَ الدارسين قد كتبوا خلافاً لذلكَ، إلا أنني مقتنعٌ شخصياً وعلى نحو تام أنَّ الرسائل الثلاث قد كُتِبَتْ بنفسِ اليدِ البشرية، أعني بها بولس الرسول. لقد ذَكرتُ عدةَ أسبابٍ لاعتقادي هذا في كتابي عن الرسالة إلى العبرانيين، فلا داعٍ لإعادةِ ذِكرها هنا.

والآن أذكرُ بعضَ الأسبابِ التي دعتْ بولس إلى كتابةِ هذهِ الرسالةِ (رسالة غلاطية). لقد كانَ بولس قد عملَ جاهداً في غلاطية في مناسبتينِ مميزتين. إلا أنَّهُ في المرةِ الثالثة مُنِعَ من الذهابِ إلى هناكَ وبيّنَ لهُ روحُ قدسِ اللهِ أنّ هذهِ لم تكنْ مشيئتهُ فقادهُ إلى مكانٍ آخرَ جعلَهُ في النهايةِ يطوفُ أوروبا. في الإصحاحات (١٣-‏١٤) من أعمال الرسل نقرأُ عن خدمةِ بولس التبشيرية في أنطاكيّةَ بيسيديّةَ، وإيقونيَّةَ، ولِسْترَةَ، ودَربَةَ. في حين يقالُ أن أنطاكيةَ هي في بيسيديّة وأنَّ هذهِ المدنَ الثلاثَ الأخرى تقعُ في لِيكأونيّةَ، بحسب أفضلِ السجلاتِ التي لدينا، فإن كلتا المقاطعتين في بيسيديّة وليكأونيّة مرتبطان بغلاطية في هذا الوقت، لذلكَ فقد كانت هاتان المدينتان تابعتين لغلاطية حيثُ عملَ بولس جاهداً وحيثُ فلحَ اللهُ باقتدارٍ. إن سكان غلاطية من نفس عرق الشعب الذي انحدر منه سكانُ إيرلندة القدماء، وويلز، ونجود اسكوتلندة، وأيضاً فرنسا وشمال إسبانيا، وبلاد الغال. إن غلاطية هي فعلاً بلدُ الغال، وهذه العواطف العميقة القوية التي تميِّزُ هذه العروق التي ذكرتها، والاسكوتلنديين الصوفيين الأسراريّين، والويلزيّين الودودين، والفرنسيين السريعي التأثر، والإيرلنديين الممتلئين بالطاقة والنشاط، كل هذه المواصفات تجلت في شعب الغال القدماء. لقد انتشروا من غلاطية إلى أوروبا الغريبة واستقروا في فرنسا وشمال إسبانيا ثم جاؤوا إلى الجزرِ البريطانية. وبما أنَّ كثيرينَ منّا مرتبطون إلى حدٍ ما بإحدى هذهِ الجماعات المختلفة التي ذكرتها، فإننا سنهتمُ من كل بدٍ اهتماماً خاصاً بالرسالةِ إلى غلاطية والتي هي بالمناسبة الضربة القاضية لما يسمى تهويدُ البريطانيين. لقد كان أهل الغال أمميين وليسوا يهوداً.

عندما دخلَ بولسَ بينهم واختلط بهم كانوا كلهم عبدة أوثان، ولكن بكِرازَتِه بالكلمةِ اعتاد على أن يأتي بكثيرينَ منهم إلى المعرفةِ الخلاصيّة للرب يسوع المسيح، وصاروا مخلصينَ أوفياءَ بشدة للرجلِ الذي قادهم إلى المعرفة الرب يسوع المسيح مخلصاً لهم. لقد كانَ أمراً عظيماً ورائعاً بالنسبة لهم، أن أُخرجوا من عتمة الوثنية إلى حرية ونور الإنجيل المجيد. ولكن عندما يقبل الناس أحياناً رسالة الإنجيل بسرور بالغ وحماسة، ينبغي عليهم أن يمروا باختبارات قاسية فيما بعد، كما ثبت البرهان في حالة أهل غلاطية. بعد أن تركهم بولس هناك انحدر من اليهودية رجال معينون يدّعون أن يعقوب وجماعة الرسل في أورشليم قد أرسلتهم، فقالوا للغلاطين أنهم ما لم يحفظوا ناموس موسى، ويحفظوا عهد الختان، وأيام العطلات والأعياد في النظام الديني اليهودي والمناسبات والمواسم المعينة، فإنه لا يمكنهم أن يخلصوا. وهذا ما أثار اهتياج الرسول بولس عندما علم به، حتى أنه اعتزم القيام بزيارة ثانية ليحرر أولئك الناس من تلك الالتزامات التشريعية. ولكن بطريقة أو بأخرى هناك دائماً خطر أن تستحوذ الفكرة الخاطئة على عقول الناس وتجعلهم يفترضون أن ما في فكرهم هو حقيقة هامة بينما هي ليست كذلك. هذا أمر. ومن ناحية أخرى قد يسير الإنسان في حياته الروحية مع الله الحق بطريقة هادئة سلِسة ثم يعترضُه أمر فيه التباس، فلا يُلقي إليه بالاً. وغالباً ما رأينا هذا الأمر يسبب مشكلة بشكل واضح.

أشير هنا فقط إلى التعاليم المزيفة. لا أعرف أسماء الرجال الذين جاؤوا إلى غلاطية لكي يحيدوا الغلاطيين عن حقيقة الإنجيل كما بيّن الرسول بولس، ولكني أعرف التعاليم التي كانوا ينادون بها. لقد كانوا يستبدلون النعمة بالناموس، وكانوا يحيدون قلوب وعقول هؤلاء المسيحيين المخلصين بعيداً عن الحرية المجيدة في المسيح، ويدخلونهم إلى عبودية الشعائر والطقوس التشريعية. ولكي يفعلوا ذلك كان لا بد لهم من يحاولوا أن يزعزعوا ثقة الناس بمعلمهم العظيم الذي قادهم إلى المسيح، والذي هو الرسول بولس نفسه، ولذلك جعلوا رسوليّته (سلطته الرسوليّة) في موضع الشك. لقد كان هجومهم موجهاً ضد رسوليّته، بل حتى لم يتورعوا عن أن يطعنوا باستقامته.

لقد تسلّلوا في محاولة منهم للنيل من ثقة المؤمنين، وحاولوا إضعاف إيمانهم بالشخص الذي قادهم إلى المسيح، آملين بذلك أن ينسفوا ثقتهم بإنجيل نعمة الله ويستبدلوه بأحكام تشريعية بدلاً من ذلك. عندما سمع بولس ذلك كان حزيناً للغاية. بالنسبة له لم تكن العقيدة مسألة قابلة للنقاش والجدال. ولم تكن قضية حفاظه على مكانته مهما كلف الأمر. لقد كان يدرك أن الناس يتقدّسون بحقيقة الله، ومن جهة أخرى يرتبكون بوجود غلط، ولذلك كانت المسألة مهمة جداً بالنسبة له أن يتمسك المهتدون على يده بتلك الحقيقة التي تُنَّوِر وتُهذِّب وتقود إلى السبل التي في المسيح. عندما وردته أخبار ارتداد هؤلاء جلس وكتب هذه الرسالة. لم يفعل ما كان يفعله بالعادة فلا نعرف أبداً في العهد الجديد أي مثال ، على حدِّ علمنا، أنّ بولس يكتب الرسالة بيده ذاته. كان في العادة يُمْلي رسائلَه على كاتب ما يكتب له. وكانت رسائله تشبه إلى حد بعيد أسلوب الاختزال، في تلك الأيام، وقد وصلتْنا نسخٌ منها، وهذه جعلتنا نعرف كيف كانت تسير الأمور. وبعد ذلك كانت هذه الرسائل تُعد على نحو سليم مناسب وتُرسل على يد نُسّاخِه المختلفين. إلا أنّه في هذه المناسبة كان منزعجاً جداً، ومتأثراً بعمق، حتى أنه لم يطق صبراً على انتظار حضور ناسخ. بل إنه طلب قرطاساً، وقلماً، وحبراً، وجلس وكتب هذه الرسالة بأكملها بيدٍ مرتجفةٍ متوترة. ويقول في خاتمتها:‏ "اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي!" (غل ٦:‏ ١١). هذه هي الترجمة الصحيحة لتلك الكلمات. من الواضح أن بولس كان يعاني من شيء في عينيه ولذلك لم يستطِعْ أن يرى بشكل واضح فأخذ قلمَه، وكمثل شخص كفيف البصر جزئياً كتب الرسالة على القرطاس بأحرف كبيرة مضطربة فبدت كرسالة طويلة. ثم هرع إلى إرسالها إلى غلاطية على أمل أن يستخدمها الله لإنقاذ أولئك الناس من الأغلاط التي كانوا قد وقعوا بها. في بعض الجوانب نرى أن هذه الرسالة من أمتع الرسائل لأن فيها الكثير من الكشف عن الذات. فكأنّه بها يفتح نافذة إلى أعماق قلبه فنرى نفس الإنسان ذاتها ونرى الدوافع التي تحركه وتسيطر عليه دافعة إياه إلى الكتابة. إن الرسالة بحد ذاتها بسيطة في بنيتها. وبدلاً من تقسيمها إلى عدد كبير جداً من المقاطع الصغيرة أرى أن فيها الأقسام الرئيسة الثلاثة التالية:‏

-‏ الإصحاحات ١-‏٢:‏ شخصية.

-‏ الإصحاحات ٣-‏٤:‏ عقائدية.

-‏ الإصحاحات ٥-‏٦:‏ عملية.

إذا وضعنا هذه التقسيمات بذهننا بانتباه فإننا لن ننساها أبداً، إن موضوع الرسالة هو "الناموس والنعمة" والطريقة التي يطرح الرسول بولس موضوعه فيها هي على الشكل التالي:‏ الإصحاحات ١-‏٢ شخصية. في هذه الإصحاحات ينقل لنا خبرته الشخصية بشكل كبير. فيُرينا كيف أنّه كان في السابق يهودياً صارماً متزمتاً ملتزماً بالناموس، وكيف أنَّه قد أتى إلى معرفة نعمة الله، وكيف اضطر إلى الدفاع عن مكانته ضد من يفرضون الشرائع والالتزامات. الإصحاحات ٣-‏٤ عقائدية ففي هذه الإصحاحات والتي هي لُب الرسالة، يبيّن لنا، كما في رسالة رومية، حقيقة الخلاص العظيمة بالنعمة وحدها. أما الإصحاحات ٥-‏٦ عملية، وهي ترينا الاعتبارات الأخلاقية والأدبية التي تتأتّى عن معرفة حقيقة الخلاص بالنعمة المجانية. وهذه التقسيمات هي في غاية السهولة.

ننتقل الآن إلى التأمل في مقدمة الرسالة في القسم الشخصي. تشكل الآيات الثلاث الأولى التحية الرسولية:‏ "بولس، رسول". ألقوا نظرة إلى الرسائل الأخرى، وستجدون أنه لا يشير إلى نفسه أبداً بكلمة رسول ما لم تكن الرسالة التي يكتبها ما لم تكن الرسالة التي يكتبها من موجهة إلى أناس لديهم شك في رسوليّته، أو أن لديه عقيدة مهمة ما عليه أن يكشف عنها لأولئك الناس الذين لن يقبلوها على الأرجح ما لم يدركوا أن لديه تفويض رسولي معين. إنه يفضل على نحو واضح أن يتحدث عن نفسه كـ "عبد يسوع المسيح"، وتلك الكلمة "عبد (خادم)" تعني رقيق، أي:‏ شخص يُشرى ويُدفع ثمنه. لقد كان بولس يحب أن يفكر على هذا النحو. لقد اُشترِي ودُفع ثمنه بدم المسيح الثمين، ولذلك فقد كان عبداً للمسيح، ولكنه في هذه المناسبة رأى أنه من الضروري أن يؤكد على رسوليّته، لأن حقائق عظيمة هامة كانت على المحك، إذ كانت مرتبطة على نحو وثيق الصلة بتفويضه الشخصي من قبل الله، حتى أنه كان ضرورياً أن يؤكد على حقيقة كونه رسولاً معيناً من الله على نحو محدد مطلق. إن كلمة "رسول"، على جميع الأحوال تعني "مرسل"، أو "سفير مفوض"، إلا أنها تستخدم بمعنى احترافي مرتبط بالتلاميذ الاثني عشر الذين كانوا هم الرسل خاصة بالنسبة لليهود، كما بالنسبة للأممييّن أيضاً، وكذلك الأمر بالنسبة لبولس نفسه الذي، ورغم أنه كان قبل كل شيء رسول الأمم، كان دائماً ينطلق أولاً إلى اليهود في كل مكان عمل فيه. كان بولس رسولاً، "لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ". أعتقد أن لديه سبباً خاصاً ليكتب على هذا الشكل. لقد كان مناوئوه الذين يقللون من شأنه يقولون:‏ "من أين أتى برسوليتّه؟ من أين أتى بتفويضه؟ فليس ذلك من بطرس ولا من يوحنا. من أين حصل على سلطته إذاً؟" فيقول:‏ أفتخر بحقيقة أني لم أحصل على شيء من إنسان، فما تلقيته إنما استلمته مباشرةً من السماء. فلستُ رسولاً من الناس ولا بوسائل بشرية. وليس الناس هم من أعطوني السلطة بالأصل ولم يكن ذلك من مدرسة، أو أسقف، أو مجلس أساقفة، في أورشليم. كانت سلطتي "لا من الناس ولا بإنسان". ورغم أن الله هو من عيّنني، فإن سلطتي لم أتلقّاها من بَشَرٍ. يقول القديس جيروم:‏ "هناك في الواقع أربع فئات للخدمة الرسوليّة في الكنيسة المسيحية المعترفة. فأولاً هناك أولئك الذين لم يُرسلهم بشر ولا من خلال بشر بل مباشرةً من الله". ثم يبين أنّ هذا الأمر كان حقيقياً في ما يتعلق بأنبياء زمن العصور القديم فلم يكن الناس هم من فوضّه ولا أخذوا سلطتهم من بشر بل إنّهم فُوضّوا مباشرة من الله، وبالطبع فإن هذا ينطبق على الرسول بولس. ويتابع جيروم قائلاً:‏ "وثانياً هناك من يأخذون تفويضهم من الله ومن خلال البشر كما الحال مع شخص يشعر بأنه مدعو بشكل واضح من الله للكرازة فيمتحنه إخوته ويشعرون بالرضا والقناعة أنه مدعوٌ للتبشير، فيعهدون إليه العمل الرسوليّ، وربما يكون ذلك بوضع الأيدي، وهكذا يكون خادماً لله ورسولاً لله، من الله ومن خلال البشر. وثالثاً هناك أولئك الذين يأخذون تفويضهم من البشر ولكن ليس من الله. أولئك هم الرجال الذين اختاروا خدمة الكرازة المسيحية مهنة يحترفونها؛ لعلهم لم يولدوا أبداً من جديد،  لكنهم باختيارهم التبشير كحرفة يطلبون من الأسقف أو مجلس الكنيسة المسيحية أو الكنيسة أن يُصار إلى سيامتهم ". ولكن على حد قول سبرجيون:‏ "إن السيامة لا تقدم ولا تؤخر شيئاً بالنسبة لإنسان لم يتلقَّ دعوته من الله. فالأمر يصبح مجرد وضع أيدي فارغة على رأس فارغ". ينطلق الإنسان وقد أُعلن خادماً للكرازة، ولكنه ليس خادماً لله. ثم يقول جيروم:‏ "هناك فئة رابعة. وهم رجال يكلفون بخدمة المسيح، وقد تلّقوا سلطتهم ليس من الله ولا من البشر، بل إنّهم يعملون بشكل حر أو مستقل وحسب. فيمكنك أن تأخذ بكلامهم من منطلق أنهم موظفون معينون. ما من أحد آخر يستطيع أن يميز أي دليل أو علامة فيها". لقد كان بولس من الفئة والدرجة الأولى. فتلقى تفويضه مباشرة من الله، وليس لأحد أن يثبت ذلك من بعيد أو قريب. ولكن ماذا عن القديسين في أنطاكيّة الذين وضعوا أيديهم عليه عندما كان على وشك أن ينطلق هو وبرنابا للكرازة إلى الأمميين؟ لعلك تتساءل هكذا. لم يكن في هذا توكيد بشري على رسوليته لأنّه ذهب إلى هناك أصلاً كرسول للرب يسوع.

من أين حصل بولس على تفويضه؟ يخبرنا هو بنفسه عن ذلك في الإصحاح ٢٦ من سفر أعمال الرسل فعندما وقع أرضاً على طريق دمشق، تراءى له المسيح الناهض من الأموات وقال له:‏ "أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. وَلَكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهَذَا ظَهَرْتُ لَكَ لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إِلَى اللهِ حَتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ الْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ الْمُقَدَّسِينَ" (أع ٢٦:‏ ١٥-‏ ١٨). يقول بولس أنه من هناك حصل على تفويضه. "مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ لَمْ أَكُنْ مُعَانِداً لِلرُّؤْيَا السَّمَاوِيَّةِ" (أع ٢٦:‏ ١٩)، بل على توافق مع الأمر الإلهي في أن أخبر "الذين فِي دِمَشْقَ وَفِي أُورُشَلِيمَ حَتَّى جَمِيعِ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ ثُمَّ الأُمَمَ أَنْ يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى اللهِ عَامِلِينَ أَعْمَالاً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ" (أع ٢٦:‏ ١٩، ٢٠). ومن هنا فإن بولس كان رسولاً "لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاللهِ الآبِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ".

أعتقدُ أنّه كان لديه سبب خاص لتأكيده على القيامة. كان هناك من يقول:‏ "لا يستطيع بولس أن يكون رسولاً أبداً، لأنّه لم يَرَ الرب يسوع. فلم يكن أحد الاثني عشر، ولم يتتلمذ على يد المسيح. فكيف له الحق بأن ينسب لنفسه اسم رسول؟" فيقول:‏ "ألم أَرَ يسوع المسيح؟ لقد رأيته كما لم يره أحد آخر من البقية. رأيتُه          في المجد وهو قائم من بين الأموات، وسمعت صوته من السماء، وتلقيت تفويضه لي من شفتيه". ولذلك فإنه يدعو رسالته في مكان معين "الإنجيل المجيد لله المبارك". وهذا يمكن ترجمته بكلمات أخرى على أنّه "إنجيل مجد الله السعيد". فالله في غاية السعادة والسرور الآن إذ أنّ مسألة الخطيئة قد حُلَّت وفي مقدوره أن يرسل رسالة نعمته إلى كل أرجاء الأرض، وهي "إنجيل مجد الله السعيد" لأنها من المجد.

بعد ذلك يبين بولس علاقته بالآخرين. فهو لم يكن يعمل لوحده بل كان على تواصل مع زملائه في العمل البشاري، ومن هنا نجده يقول:‏ ".... وَجَمِيعُ الإِخْوَةِ الَّذِينَ مَعِي، إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ. نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ الآبِ، وَمِنْ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". "النعمة" هي الكلمة اليونانية التي كانت تُستخدم لإلقاء التحية، في حين تُستخدم كلمة "سلام" في العبرية للتحية. ويفتخر بولس بأن الحائط المتوسط الفاصل بين اليهود والأمميين قد تهدم في الخليقة الجديدة، لذا فإنه يجمع هنا بين كلتا التحيتين. وكم تتناسب هاتان (النعمة والسلام) على نحو جميل في الإعلان المسيحي. فهذه ليست النعمة التي تخلص، بل النعمة التي تحفظ. وليس ذلك سلام مع الله، الذي صنعه دم صليبه والذي كان أصلاً لهم، بل سلام الله الذي كانوا معرضين تماماً لفقدانه إن خرجوا عن الشركة معه.

وفي الآيات ٤و٥ يستأنف بولس حديثه فيركز على عمل ربنا يسوع. دعونا نفكر في هذه الكلمات بتمعن وبدقة وعناية وبفكر تأملّي. "رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا". أفننسى ما عاناه المسيح من أجلنا؟ ذاك الذي "بذل نفسه". لمن يشير ضمير الغائب هنا؟ إنه الابن الأبدي السرمدي الذي للآب، الذي كان مع الآب منذ قبل خلق العالم، ومع ذلك تنازل بنعمة لا متناهية ليصير إنساناً. ورغم كونه إنساناً لم يكفّ عن كونه إلهاً. لقد كان إنساناً وإلهاً في أقنوم واحد ممجّد وفيه من الأهلية والميزات الكثيرة ما أهله ليستطيع أن يفي الدين الكبير الذي كنا ندين به لله. لقد سوّى مسألة الخطيئة لأجلنا كما لم يفعل أحد آخر. ونجد مطلع الترنيمة يقول:‏

"ما من ملاك أمكنه أن يأخذ مكاننا،
ولكن انحدر ذلك العلي من السماء؛
المحبوب، المتروك على الصليب،
كان أحد الثالوث القدوس"

من بين كل الناس كُتب:‏ "الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ فَغَلِقَتْ إِلَى الدَّهْرِ" (مز ٤٩:‏ ٧، ٨). ولكن هوذا من صارَ إنساناً ليفتدي نفوسنا:‏ "ابْنُ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى ٢٠:‏ ٢٨).

"الذي بَذَل نَفْسَهُ". فكروا في ذلك. عندما نتذكر آثامنا، والفساد والتعفن في قلوبنا، والشر الذي على شفاهنا، وعندما نفكر بما نستحق عقاباً على خطايانا وكم كنا عاجزين عن تحرير ذواتنا من الدينونة العادلة التي نستحقها، فعندئذ نفكر به، ذلك القدوس، البار، ونرنم:‏

"القدير في عرش السماء،
الذي تنازل ليصير إنساناً وتراباً
لأجل أن يُقيمَ ذلك الأثيم الساقط".

من هذا المنطلق كم ينبغي أن تتوجه إليه قلوبنا بحب وتعبد. أعتقد أنه كان صعباً على بولس أن يتمالك نفسه عن ذرف الدموع وهو يكتب قائلاً:‏ "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا". إننا نميل لتناسي تلك الخطايا، إلا أنه يجدر بنا أحياناً أن نتذكر حفرة الهاوية التي اِنتُشلنا منها، لأن خطايانا هي الخلفية القاتمة التي ستُظهر جوهرة النعمة الإلهية المجيدة إلى أبد الآبدين. هو، ليس فقط سيخلصنا من الدينونة الأبدية، وليس فقط سيحمينا من الضلال في تلك العتمة، تلك الحفرة المظلمة من الويل والوباء التي يتحدث عنها الكتاب المقدس بمهابة وجدية، بل إنّنا سنكون له هنا كلياً، "لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ". لقد جعله الإنسان شريراً من جرَّاء خطيئته وآثامه ونكرانه لله وخيانته له، أما نحن المخلَّصون فعلينا أن نتحرر منه، لكي نتكرس لله.

"حَسَبَ إِرَادَةِ اللهِ وَأَبِينَا". بهذه الكلمات يوجز بولس هدف مجيء الرب إلى العالم. فلقد مات عن خطايانا لكي نتخلص من سلطان الخطيئة ونكون له كلياً. "الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ."

محاضرة ٢

ما من إنجيل آخر

(غل ١:‏ ٦-‏ ٩)

"إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ. لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ. وَلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا». كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضاً:‏ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»".

هذه الكلمات قوية جداً، وأستطيع أن أتفهم أن بعض الناس قد يجدون صعوبة في أن يوفقوا بينها وبين حقيقة النعمة التي في المسيح يسوع. يلقي بولس الرسول بلعنة مرتين على أولئك الذين يكرزون بأي إنجيل آخر مخالف لما أعلنه هو نفسه لأولئك الغلاطيين حين كانوا خطأة تعساء، والذي استخدمه الله ليقودهم إلى الرب يسوع المسيح. قد يتساءل البعض:‏ هل هذا هو موقف الخادم المسيحي أن يلعن الناس الذين لا يوافقونه الرأي؟ لا. وبالتأكيد ليس هذا أيضاً موقف بولس. فلماذا يستخدم إذاً هكذا لغة قوية؟ ليس الأمر هو أنه نفسه يلعن أحداً، بل إنه يعلن، بالوحي الذي أعطي له بالروح القدس، أن الدينونة الإلهية ستقع على كل من يسعى لتحريف إنجيل المسيح أو لإبعاد الناس عن ذلك الإنجيل. بمعنى آخر، يدرك الرسول بولس حقيقة أن الإنجيل هو رسالة الله الوحيدة للضالين، وأن تحريف ذلك الإنجيل، بتقديم بديل آخر مخالف للناس، يدسه إنسان ٌ لهم إنجيلاً مزيفاً، إنما يشكل خطراً يهدد نفوس أولئك الذين يستمعون إليه. لقد أكد ربنا يسوع المسيح على ذلك عندما أشار إلى أن أولئك الذين كانوا يعلمون الناس أن يضعوا ثقتهم في جهودهم الخاصة سعياً وراء الخلاص ما هم إلا قادة عميان يقودون أناساً عميان وأنه سيسقط الجميع في الحفرة في نهاية الأمر. إنه لأمر خطير أن تضلل الناس في الأمور الروحية. ومن المريع أن تعطي الاتجاه الخاطئ عندما تسألك النفوس عن الطريق إلى السماء.

أذكر قصة قرأتها عن امرأة كانت مع طفلها الرضيع الصغير في قطار يعبر إحدى الولايات الشرقية. لقد كان ذلك في يوم شتوي عاصف. وفي الخارج كانت عاصفة هوجاء تهب، وكان الثلج ينهمر، وكان القطقط يغطي كل شيءٍ. كان القطار يشق طريقه ببطء بسبب الجليد على خطوط السكة الحديدية وكانت جرافات الثلج تسير في الأمام لتفتح الطريق. بدت المرأة متوترة مضطربة جداً. كان عليها أن تترجا في محطة صغيرة حيث كان من المفترض أن يلتقيها هناك بعض أصدقائها، وقالت لقاطع التذاكر:‏ "أرجو أن تتأكد وأن تخبرني عندما نصل إلى المحطة المنشودة. هلا فعلت؟"

فقال لها:‏ " بالتأكيد. ابقي هنا إلى أن أُنبِئك بوصولنا إلى المحطة المطلوبة".

وهنا جلست وقد هدأ توترها وأكدت على قاطع التذاكر:‏ "لا أعتقد أنك ستنساني".

وكان تاجرٌ مسافر يجلس قبالة الممشى، فانحنى إلى الأمام نحوها وقال:‏ "عذراً ولكنني أرى أنك لا زلت متوترة بشأن نزولك في المحطة. إني أعرف هذه الطريق جيداً. إن محطتك هي أول محطة توقف بعد مدينة (كذا). قاطعوا التذاكر هؤلاء كثيري النسيان، فلديهم أشياء كثيرة تشغل بالهم، وقد يغفل عن طلبك، ولكني سأحرص على أن أساعدك للنزول في المكان الصحيح. وسوف أساعدك في حمل حقائبك".

فقالت:‏ "شكراً لك". واستندت إلى الوراء وقد شعرت بارتياح شديد.

بعد حين نُودِي باسم المدينة التي ذكرتها، فعاد وانحنى إلى الأمام وقال لها:‏ "إن محطتك هي التالية".

وبينما هم يقتربون من المحطة نظرت حولها بقلق باحثة عن قاطع التذاكر ولكنه لم يأتِ. فقال الرجل:‏ "أرأيت، لقد نسيك. سأنزلك هنا". وساعدها في حمل حقائبها، وبما أن قاطع التذاكر لم يأت ليفتح الباب فقد فتحه بنفسه، وسرعان ما أنزل حقائبها وساعدها على أن تترجل من القطار حالما وقف. وما لبث القطار أن عاود تحركه من جديد.

بعد بضعة دقائق جاء قاطع التذاكر، وقال وهو ينظر حوله:‏ "ما هذا؟ يا للأمر الغريب! لقد كانت هنا امرأة تريد أن تنزل في هذه المحطة. عجباً أين هي؟".

فرفع التاجر صوته وقال:‏ "بلى. لقد نسيتَها، إلا أنني ساعدتها على أن تنزل في المكان المنشود".

فسأل قاطع التذاكر:‏ "أين نزلت؟"

أجاب الرجل:‏ "عندما توقف القطار".

فقال:‏ "ولكن لم تكن تلك محطةً. لقد كانت نقطةَ توقّفٍ اضطرارية. لقد كنت أبحث عن تلك المرأة. فلماذا أنزلتها في ذلك المكان القفر الموحش وسط هذه العاصفة الهوجاء حيث لن تجد أحداً".

فلم يكن من أمر يفعلونه إذ ذاك، ورغم خطورة الموقف، سوى أن يعكسوا اتجاه سيرهم وأن يعودوا أدراجهم إلى الوراء لبضعة أميال، وعندها خرجوا ليبحثوا عن المرأة. وبعد بحث طويل، تعثر أحدهم بها، فوجدوها وقد تجمدت على الأرض مع ابنها الرضيع الصغير المتوفي بين ذراعيها. لقد كانت ضحية الهداية أو التوجيه الخاطئ.

إنه لأمر بالغ الخطورة أن تدل الناس إلى جهة خاطئة فيما يتعلق بأمور وقتية زائلة، فما بالك بالإنسان الذي يُضل الرجال والنساء في مسألة خلاص نفوسهم الخالدة؟! إن آمن الناس بإنجيل مزيف، وإن وثقوا بشيء يتناقض مع كلمة الله، فإن ضلالهم وضياعهم لن يكون مؤقتاً بل إلى الأبد. ولهذا السبب فإن الرسول بولس، وإذ يتحدث بوحي من الروح القدس، يستخدم هكذا لغة قوية فيما يخص الإثم الخطير وفظاعة تضليل النفوس في الأمور الأبدية. لقد كان هؤلاء الغلاطيون يعيشون في خطاياهم، وفي الوثنية وفي ظلمة المعتقدات الخرافية الوثنية، عندما جاء بولس إليهم وكرز بالإنجيل المجيد الذي يخبر كيف "أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا ..... وَأَنَّهُ دُفِنَ وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ" (١ كو ١٥:‏ ٣، ٤). لقد خلصوا بفضل فعل إنجيل نعمة الله. كم هو عجيب ورائع أن ترى رجلاً كان يعيش في كل أنواع الخطيئة فيأتي به الله بالروح القدس إلى التوبة ويقوده إلى الإيمان بالإنجيل. كل شيء يتغير، والعادات القديمة تسقط كالأوراق الزابلة، فحياته الآن جديدةٌ. لديه القوة للتغلب على الخطيئة، ولديه الرجاء بالسماء، ولديه يقين الخلاص. هذا ما يقدمه إنجيل الله.

هؤلاء الغلاطيون، بعد أن أتى بهم بولس إلى حرية النعمة، كانوا يضللون على يد معلمين كذبة، وهؤلاء رجال انحدروا من اليهودية وكانوا يدّعون أنهم مسيحيون، ولكنهم لم يتحرروا أبداً من الناموسية. لقد كانوا يقولون لأولئك المسيحيين الحديثي العهد:‏ "«إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا»" (أعمال ١٥:‏ ١). وهكذا أعادوهم إلى محاولات الاجتهادات الشخصية وجعلوهم يحيدون بنظرهم عن المسيح ويركزون على أنفسهم وعلى قدرتهم على حفظ الناموس. يقول بولس:‏ "هذا الأمر سيهلك الناس الذين يعتمدون على محاولاتهم الشخصية الذاتية للوصول إلى السماء. بذلك سيضلون الطريق إلى اللؤلؤة (بوابة السماء)". لا ينفعهم مدى جديتهم، فإن كانوا يعتمدون على أعمالهم الذاتية فسوف لن يكونوا مشاركين في ميراث القديسين في النور. حتى الآن ونظراً إلى الغلاطيين كانوا قد ولدوا من جديد فإن هذه العقيدة المغلوطة، إن لم تصبح وسيلة لهلاكهم الأبدي، فإنها على الأقل ستسرق منهم الفرحة والغبطة التي ينبغي أن يتمتع بها المسيحيون. أنّى لإنسان أن يشعر بالسلام إن آمن بأن الخلاص يعتمد على جهوده الذاتية؟ كيف للمرء أن يكون متأكداً بأنه حقق على نحو مرضٍ مطالب الناموس أو الطقوس؟ إن إنجيل نعمة الله التي بها آمنوا تعطي الناس يقيناً كاملاً بالخلاص. من هنا كان بولس ساخطاً جداً إذ وجد أناساً قد أتوا ببديل مغاير عن إنجيل نعمة الله، وتعجب بأن أولئك الغلاطيين الذين كانوا فرحين بالانعتاق الذي في المسيح كانوا على استعداد للعودة إلى عبودية الناموس.

يقول (بولس):‏ "إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ". إنه منذهل لأنهم سرعان ما أداروا ظهرهم إلى رسالة النعمة. ما هي النعمة؟ إنها المنّة المجانية التي ننالها من الله دون استحقاق في حين أننا نستأهل العكس. هؤلاء الغلاطيون، على مثالنا، قد استحقوا دينونة أبدية، وكانوا يستحقون أن يغلق عليهم بعيداً عن حضور الله إلى الأبد، ولكن عن طريق الكرازة بالنعمة وصلنا إلى الإدراك بأن الله لديه برٌّ يقدمه مجاناً إلى الخطأة الفجّار الذين آمنوا بابنه المبارك. ولكن الآن، وإذ هم منشغلون بالشعائر القانونية، والنواميس، والدساتير، والتشريعات القانونية، فقدوا فرح النعمة وأخذوا إلى الجهد الذاتي. فيقول بولس:‏ "لا أستطيع أن أفهم ما يجري". ومع ذلك فإن هذا أمر طبيعي ينتاب قلوباً بائسة كقلوبنا. لطالما نرى أناساً يبدون مهتدين على نحو رائع، ومن ثم يفقدون كل شيء إذ ينشغلون بكل أنواع الأسئلة والشكوك والقوانين والشعائر والطقوس. إن الله يود إن ينشغل كل قلب بابنه المبارك، "الذي فيه تقبع كل كنوز الحكمة والمعرفة".

"إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ". نقرأ في الكتاب المقدس "إنجيل آخر"، وفي الآية ٧ نجد القول "لَيْسَ هُوَ آخَرَ" ويبدو في ظاهر الأمر أن هناك تناقضاً ما، إلا أن الكتاب المقدس، كما ورد في اليونانية، يستخدم كلمتين مختلفتين هنا، الأولى هي (herteron) وتعني أمراً مناقضاً للتعليم القويم، أي شيئاً مختلفاً عنه. فالرسول بولس يقول:‏ "إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ مختلفَ". هذا المزج بين الناموس النعمة هو ليس إنجيل الله وليس شيئاً يضاف إلى ما قد تلقيتموه للتو، وليس أمراً يكمل رسالة الإنجيل. إنه بعكس ذلك، وهو رسالة تعليم هرطقي يخالف التعليم القويم. هناك إنجيل وحيد أوحد فقط.

قم بمراجعة الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، فتجد أن هناك إنجيلاً واحداً فقط-‏ وذلك هو الإنجيل الذي كُرز به أولاً في جنة عدن عندما أعلن الله رسالةً بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية (الشيطان). فحوى ذلك الإنجيل كان:‏ الخلاص هو في المسيح الآتي، ابن الله المولود من امرأة. وهو نفس الإنجيل الذي بُشر به إبراهيم. فنقرأ في هذا السفر أن الإنجيل قد بُشر به قبلاً إلى إبراهيم. فقد أخرجه الله في إحدى الليالي وقال له:‏ "انْظُرْ إلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ ".

فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع أن أعدّها".

وقال الله:‏ "انظر إلى تراب الأرض، وعُدَّ ذراته".

فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع أن أعدّها".

وقال الله:‏ "حسناً، فكّرْ إذاً برمل البحر، وعُدَّ حبات الرمالَ".

فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع أن أعدّها".

فأجاب الله:‏ "يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أمَمِ الأرْضِ" (تك ٢٢:‏ ١٨). "وَأجْعَلُ نَسْلَكَ كَتُرَابِ الأرْضِ" (تك ١٣:‏ ١٦). لعل إبراهيم قال:‏ "من غير الممكن! نسلي! ليس لي أولاد، وأنا رجلٌ طاعنٌ في السن، وزوجتي امرأة كهلة. هذا محال". إلا أن الله أعطاه وعداً:‏ "يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ (أي في المسيح) جَمِيعُ أمَمِ الأرْضِ". تلك كانت بشارة الإنجيل-‏ أن جميع الأمم ستتبارك بالمسيح، نسل إبراهيم. "«فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً»" (رومية ٤:‏ ٣). لقد تبرر بالإيمان لأنه آمن بالإنجيل وهو نفس الإنجيل الذي نجده يتكرر في المزامير. فداود، الملطخ بالخطيئة-‏ الخطايا المزدوجة المتمثلة بالزنى والقتل-‏ يصرخ إلى الله قائلاً:‏ "لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى. ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ" (مز ٥١:‏ ١٦، ١٧). "طَهِّرْنِي بِالزُوّفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ" (مز ٥١:‏ ٧). وهناك طريقة واحدة فقط يمكن بها للخاطئ البائس أن يتطهر، ألا وهي بدم الرب يسوع المسيح الثمين. كان لدى داود الرجاء بالإيمان بالمسيح، وكان أمله في هذا الإنجيل الوحيد الأوحد.

إنه الإنجيل الذي أعلنه أشعياء عندما نظر عبر الأجيال وقال:‏ "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أشعياء ٥٣:‏ ٥). لقد كان أيضاً ذاك الإنجيل الذي بشر به إرميا عندما قال:‏ "وَهَذَا هُوَ اسْمُهُ الَّذِي يَدْعُونَهُ بِهِ:‏ الرَّبُّ بِرُّنَا" (إرميا ٢٣:‏ ٦). لقد كان نفسه الإنجيل الذي بشّر به زكريا حين قال:‏ "اِسْتَيْقِظْ يَا سَيْفُ عَلَى رَاعِيَّ وَعَلَى رَجُلِ رِفْقَتِي يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. اضْرِبِ الرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ الْغَنَمُ" (زكريا ١٣:‏ ٧).

كان هذا نفسه أيضاً الإنجيل الذي كرز به يوحنا المعمدان. فقد جاء منادياً بإنجيل الملكوت، وكما قال حين أشار إلى يسوع:‏ "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يوحنا ١:‏ ٢٩). وهو ذاتُ الإنجيل الذي أعلنه يسوع نفسه عندما قال:‏ "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا ٣:‏ ١٦). هذا هو أيضاً الإنجيل الذي بشّر به بطرس عندما قال:‏ "لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أعمال ١٠:‏ ٤٣). وهذا هو إنجيل الرسول يوحنا الذي قال:‏ "إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يو ١:‏ ١٧). وكان هذا إنجيل الرسول يعقوب الذي قال:‏ "شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ" (رسالة يعقوب ١:‏ ١٨). وهذا هو الإنجيل الذي سيحتفي به ملايين المفتدين على مر الأجيال مترنمين بنشيد التسبيح قائلين:‏ "يَسُوعَ الْمَسِيحِ.... الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِه" (رؤيا ١:‏ ٥). وهذا هو الإنجيل الذي كان بولس يكرز به عندما أعلن قائلاً:‏ "بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ الْخَطَايَا. وَبِهَذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ... " (أعمال ١٣:‏ ٣٨، ٣٩). إذاً هناك إنجيل واحدٌ وحيد. وما من إنجيلٍ آخر.

لطالما شعرت بالأسف عندما سمعت أحداً من إخوتي الذي تعلمت منه أن أحب في الحق والذي كنت أشاطره الكثير من الأشياء، يحاول أن يشرح بعض الفوارق الظاهرة خلال عصور الإنجيل ويتحدث وكأن هناك عدداً من الأناجيل المختلفة. إذ يقول البعض أن المسيح عندما كان على الأرض وفي الجزء الأول من سفر أعمال الرسل كانوا يكرزون بإنجيل الملكوت ولكنهم لم يعرفوا نعمة الله. وإني أتساءل إذا ما كانوا يتذكرون الكلمات في (يوحنا ٣:‏ ١٦) و(يوحنا ١:‏ ٢٩) ، ويتذكرون أن الرب هو الذي قال:‏ "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:‏ إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يو ٥:‏ ٢٤). كم هي ضعيفةٌ ذاكرتنا أحياناً، إذا ما قلنا أن يسوع لم يكرز بالنعمة عندما كان على الأرض حيث يقول الكتاب المقدس:‏ "إنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يو ١:‏ ١٧). أفيمكننا القول أن بطرس ورفاقه الرسل في الجزء الأول من الأعمال ما كانوا يبشرون بإنجيل النعمة عندما نرى بطرس يعلن قائلاً:‏ "لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أع ١٠:‏ ٤٣). هناك إنجيل أوحدٌ وحسب.

يقولون أن هناك إنجيل الملكوت، وآخر هو إنجيل نعمة الله، ثم لدينا إنجيل المجد، وسيكون هناك إنجيل رابع هو الإنجيل الأبدي. ويعتقدون أن هذه الأناجيل مختلفة عن بعضها. إن كانت هذه الأقوال صحيحة فإن كلمات بولس التالية ستكون خاطئة ولا معنى لها:‏ "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»". كتبت إحداهن تقول لي أنها كانت تتعجب كيف أن رجلاً كان يجب أن يعرف بشكل أفضل لا يتورع عن القول بأن هناك إنجيل واحد فقط. وتساءلت:‏ "لماذا يفكر هكذا؟ فحتى الدكتور سي آي سكوفيلد كان ليعلم على نحو أفضل لأنه يظهر أربع أناجيل في كتابه المقدس". أود أن أقرأ لكم ما يقوله الدكتور سكوفيلد في تفسيره لسفر الرؤيا ١٤:‏ ٦ :‏

"هذه الفكرة الهامة يمكن إيجازها على النحو التالي:‏

١-‏ كلمة إنجيل بحد ذاتها تعني البشرى الحسنة.

٢-‏ هناك أربعة أشكال من الإنجيل يجب التمييز بينها:‏

أولاً:‏ هناك إنجيل الملكوت. هذا هو البشرى الحسنة التي أراد الله نشرها على الأرض وفيها تحقيق للعهد الداودي، بملكوت روحي شامل لشعب إسرائيل يملك فيه ابن الله، الذي هو من نسل داود، لألف سنة في تجلٍ لبر الله في قضايا البشر.

هناك ذكر لكرازتين حول هذا الإنجيل، الأولى في الماضي ابتداءً بخدمة يوحنا المعمدان، والتي أكملها ربنا وتلاميذه وصولاً إلى رفض اليهود لهذا الملك. والثانية هي في المستقبل، وستكون خلال الضيقة العظيمة، والتي ستسبق مباشرة مجيء هذا الملك في مجده.

ثانياً:‏ إنجيل نعمة الله. هذا هو البشرى الحسنة بأن يسوع المسيح الملك المنبوذ، قد مات على الصليب عن خطايا العالم، وأنه قام من بين الأموات لتبريرنا، وأن به كل من يؤمن يتبرر من كل شيء. هذا الإنجيل موصوف بعدة طرق. إنه إنجيل "الله" لأنه ينشأ عن محبته؛ وإنجيل "المسيح" لأنه ينبع من ذبيحة نفسه القربانية، ولأنه وحده موضوع وهدف إيمان الإنجيل؛ وإنجيل "نعمة الله" لأنه يخلص أولئك الذين هم تحت لعنة الناموس؛ وإنجيل "المجد" لأنه يهم أولئك الذين هم في المجد، والذين يأتون بأبناء كثيرين إلى المجد؛ وإنجيل "خلاصنا" لأنه "قوة الله للخلاص لكل من يؤمن"؛ وإنجيل "الغُرلة" لأنه يخلص كلياً بمعزل عن الشكليات والشعائر والطقوس؛ وإنجيل "السلام" إذ بالمسيح يصنع السلام بين الخاطئ والله، كما ويمنحنا السلام الداخلي.

ثالثاً:‏ الإنجيل الأبدي. هذا يجب أن يكرز به إلى كل سكان الأرض في نهاية الضيقة العظيمة تماماً ويسبق مباشرة دينونة الأمم. وهذا ليس بإنجيل الملكوت ولا بإنجيل النعمة. ورغم أنه يركز على الدينونة، وليس الخلاص، إلا أنه البشرى الحسنة لبني إسرائيل وأولئك الذين يخلصون خلال فترة الضيقة.

رابعاً:‏ الإنجيل الذي يدعوه بولس "إنجيلي". وهذا هو إنجيل نعمة الله بملئه إلا أنه يشتمل على كشفٍ لنتيجة ذلك الإنجيل في افتقاد الكنيسة، وعلاقاتها ومكانتها وامتيازاتها ومسؤوليتها. إنه الحقيقة الواضحة التي تتبدّى بشكل مميز في رسالة أفسس وكولوسي، ولكن تتخلل كل كتابات بولس.

هذه الكلمات واضحةٌ جداً. هناك إنجيلٌ واحدٌ وحسب، ألا وهو بشرى الله الحسنة التي تتعلق بابنه؛ إلا أنها تأخذ مفاهيمَ مختلفةً في أوقاتٍ مختلفة بحسب الظروف والشروط التي يتواجدُ فيها الناس. في عصر العهد القديم كانت تدل على مجيء المخلص، إلا أنّها كانت تُعلِنُ الخلاصَ بموته التعويضي الكفاري. في أيام يوحنا المعمدان كان التركيز ملقىً على الملكوت الآتي، وعلى الملك الذي سيبذل حياته. وفي أيام خدمة الرب على الأرض قدم نفسه كملك، إلا أنّه رُفض، ومضى إلى الصليب لأنّه كان هو نفسه قد أعلن أنّه "لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى ٢٠:‏ ٢٨). خلال الإصحاحات الأولى من سفر أعمال الرسل نجد هذا الإنجيل يُعلَن لليهود والأمميين على حد سواء، مقدماً الخلاص المجاني لكل الذين يعودون إلى الله بتوبة، ولكن عندما أنهض الله الرسول بولس وهداه، أعطاه رؤية أوضح للإنجيل أكثر من أي شخص آخر. لقد أظهر له أن البشر، ليس فقط تُغفر خطاياهم بالإيمان بربنا يسوع المسيح، بل إنهم أيضاً يتبررون من كل الأشياء، ويقفون بالمسيح أمام الله لكونهم جزءٌ من خليقة جديدة. هذا كشف كامل للأنباء السارة، إلا أنه نفس الإنجيل.

في المستقبل وخلال أيام الضيقة العظيمة، سيُعلن الإنجيل الأبدي فيعرف الناس الذي كان قد رُفض سيأتي ثانية ليؤسس ملكوته المجيد، ولكن، حتى في ذلك اليوم سيعلم الناس أن الخلاص هو بدمه الثمين، إذ بنتيجة الكرازة تلك عدد هائلٌ سيأتي من كل الشعوب واللغات الذين يكونون "قَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوهَا فِي دَمِ الْحَمَلِ" (رؤيا ٧:‏ ١٤).

نعم. هناك إنجيل واحد وحسب وإن أتى أي شخص ليكرز بأي إنجيل آخر فيقول لكم أن هناك طريقة آخرى للخلاص عدا عمل الرب يسوع التعويضي الكفاري فإن هذا الإنجيل سيكون مزيفاً هرطقياً. إذاً فقد جاء البعض على هذا النحو إلى غلاطية وحرّفوا إنجيل المسيح وهذا ما جعل بولس يقول في غمرة حماسته وغيرته على الإنجيل، مقوداً بالروح القدس الذي كان يوحي له:‏"إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»" (أي فليقع تحت الدينونة)، إن كان يستبدل إنجيل نعمة الله بأي شيءٍ آخر. لاحظوا، إن كان ملاك يعلن الإنجيل الأبدي في أيام الضيقة العظيمة كارزاً بأي إنجيل سوى إنجيل الخلاص بالإيمان بالمسيح وحده، فإن ذلك الملاك نفسه تقع عليه اللعنة، إذ يقول بولس:‏ "إِنْ بَشَّركُمْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»".

لقد التقيت في الغرب كثيراً بتلاميذ لجوزيف سميث، وعندما كنت أحشرهم في الجدال بكلمة الله ويعجزون عن التهرب، كانوا يلجأون إلى القول:‏ "حسناً. إن لدينا ما ليس لديك. فقد جاء ملاك إلى جوزيف سميث وأعطاه كتاب المورمون". إذاً هكذا كانوا يرون أن الكتاب المقدس لم يكن كافياً لأن ملاكاً كان قد أعلن شيئاً آخر مختلفاً. انا لا أؤمن بنبوة جوزيف سميث، ولا أعتقد أبداً أن ملاكاً قد ظهر له، ما لم يكن ذلك في كابوس. وحتى إن فعل فعندئذٍ يكون ذلك الملاك من جهنم وهو تحت اللعنة، لأنه "إِنْ بَشَّركُمْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»". قد يقول الناس:‏ "ولكن يا بولس، إنك مُغالٍ في مشاعرك، وإنك تفقد رباطة جأشك". كما تعلمون، إن أصبحتم متحمسين جداً للحقيقة سيقول الناس أنكم تفقدون رباطة جأشكم. إن دافعتم بقوة عن الحقيقة فسيقولون أنكم لستم بلطفاء. أما الناس فيستخدمون لغة متقدة جداً في حديثهم عن السياسة والأشياء الأخرى، ومع ذلك فلا أحد يعترض على فقدانهم لرباطة جأشهم، بل يعتقدون أنه ينبغي علينا أن نكون هادئين جداً عندما يمزق الناس الكتاب المقدس إلى أشلاء. إذا اقتضى الأمر مشاعر متقدة أو قوية فإن ذلك يكون دفاعاً عن الإنجيل ضد التعاليم المزيفة.

لئلا يقول أحدٌ:‏ "يا بولس، ما كنت لتكتب هكذا لو أنك كنت أكثر هدوءً وما كنت لتستخدم هكذا لغة قوية"، نجد بولس يكرر ما سبق فقاله، في الآية ٩، فيؤكد أن:‏ "كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضاً:‏ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»". هذا الكلام فيه هدوءٌ ورباطة جأش بما فيه الكفاية. فهو لا يتحدث إذاً كشخص ساخط. فلقد فكر ملياً ولوقت كافٍ بالأمر، وزان كلماته بعناية. نعم، لقد فكر ملياً وبهدوء ورزانة بالأمر وقال مؤكداً من جديد مصراً على ما كان قد أعلنه من قبل بأن الدينونة الإلهية تقع على كل من يسعى لتضليل البشرية بإخبارهم عن أي طريق أخرى للخلاص سوى بدم الرب يسوع المسيح الكفاري الثمين.

في الختام أترك لكم هذا السؤال:‏ علامَ تضعون رجاءكم بالحياة الأبدية؟ أتضعونه على الرب يسوع المسيح؟ هل تؤمنون بإنجيل نعمة الله؟ " لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ" (أفسس ٢:‏ ٨).

محاضرة ٣

اهتداء بولس ورسوليته

(غل ١:‏ ١٠-‏ ٢٤)

"أَفَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ أَمِ اللهَ؟ أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ النَّاسَ؟ فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ. وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ.  أَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا. وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ. ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً. وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ. وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ. وَلَكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ. غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلاً، يُبَشِّرُ الآنَ بِالإِيمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلاً يُتْلِفُهُ. فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ فِيَّ".

نجد بولس الرسول في هذا القسم مضطراً للدفاع عن رسوليته. هناك أمر يرثى له في هذا الخصوص. لقد كان قد جاء إلى هؤلاء الغلاطيين عندما كانوا وثنيين وعبدة أصنام فكان رسول الله لهم. وبه أتوا إلى الإيمان بالرب يسوع المسيح. إلاّ أنهم وقعوا في ضلال معلمين كذبة، وهاهم الآن يقلّلون من شأن ذلك الرجل الذي قادهم إلى المسيح، فاذدروا بخدمته وشعروا أنهم يعرفون أكثر منه وهذه لم تكن المرة الوحيدة في تاريخ الكنيسة التي تحدث فيها هكذا أشياء. فغالبا مانرى مهتدين جدد سعداء ومتوقدين لمعرفتهم بأن خطاياهم قد غفرت إلى أن يقعوا تحت تأثير معلمين كذبة فينظرون بازدراء إلى أولئك الذين قدّموا الإنجيل لهم.

بالدرجة الأولى، يشرع بولس بإظهار كيف صار رسولاً للأمميين. في الآية ١٠ يقول (بولس):‏ "أَفَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ أَمِ اللهَ؟" ما الذي يقصده بذلك؟ هل أسعى للحصول على تأييد وموافقة البشر أم الله؟ من الواضح أنه من الله. لم يكن بولس الرسول انتهازياً مسايراً ولم يكن يسعى ببساطة لإرضاء الناس الذين سيقفون أمام الله في لحظة أو أخرى في دينونة، إذا ما ماتوا في خطاياهم. إن هدفه الواضح هو أن يعمل إرادة ذاك الذي خلصّه وأرسله ليكرز بإنجيل نعمته. لذلك فإنه يقول:‏ "إني لا أحاول السعي لإرضاء الناس، بل الله. ولا أسعى لإرضاء الناس". بمعنى آخر:‏ أنا لا أحاول أن أحصل على الاستحسان والتصديق من الناس على رسالتي. صحيحٌ أنه يقول في مكان آخر في الكتاب المقدس:‏ "فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ لأَجْلِ الْبُنْيَانِ. (رومية ١٥:‏ ٢)، ولكن ليس هناك تناقض بين تينك العبارتين اللتين ينطق بهما هنا وهناك. إنّه أمر صحيح وسليم أن أسعى بكل طريقة ممكنة لأرضي وأساعد صديقي وقريبي وأخي، ولكن من جهة أخرى، عندما أحاول أن أكرز بكلمة الله، عليَّ أن أفعل ذلك. "لاَ كَأَنَّنَا نُرْضِي النَّاسَ بَلِ اللهَ الَّذِي يَخْتَبِرُ قُلُوبَنَا" (١ تسالونيكي ٢:‏ ٤). إن الكارز أو المبشر الذي يتحدث وهدفه إرضاء الناس لا يكون صادقاً ومخلصاً للتفويض المعطى له. "فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ". إنّه يجعل من نفسه هكذا خادماً للناس وحسب. "وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ.  لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ". إن الإنجيل يختلف عن أي نظام ديني بشري. في بعض جامعاتنا، يدرسون ما يسمّى "علم مقارنة الأديان". ودراسة الأديان المقارنة ممتعة ومفيدة على حد سواء، إن كنت تدرس مثلاً، الأديان الكبرى التي في العالم الحالي كالبوذيّة والبرهمانية، والإسلام. هناك أشياء كثيرة مشتركة بينها وأشياء أخرى تتعارض فيها عن بعضها. ولكن عندما تأخذ المسيحية وتضعها على قدم المساواة مع الأديان الأخرى فإنك ترتكب خطأً:‏ فالمسيحية ليست ديانة وحسب، بل إنها إعلان إلهي. يقول بولس:‏  "أنا لَمْ أَقْبَلْ إنجيلي مِنْ الناس، وما مِن إِنْسَانٍ نقلَهُ إليَّ. فلقد تلقّيتُه مباشرةً من السماء". بالطبع لسنا كلنا نتلقى المسيحية على هذا الشكل، كإعلان مباشر، كما حدث مع بولس،ومع ذلك وفي كل لحظة، إذا ماوصل الإنسان إلى فهم حقيقة الإنجيل، فذلك لأنّ الروح القدس، الذي هو روح الحكمة والوصي في معرفة المسيح، هو الذي يفتح قلب وذهن ذلك الإنسان ويجعلهُ يفهم الحقيقة. وإلاّ فإنّه لن يقتبلها. "وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً" (١ كو ٢:‏ ١٤). وبالطبع فإنّ الإنسان الطبيعي لا يُسّر بهذا الإعلان الإلهي. إنّ الناس يُسّرون عندما يموّه الكارز خطاياهم، وعندما يضع تبريرات لأفعالهم الخاطئة، وعندما يعذر ضعفهم أو يطري عليهم إذ يحاولون أن يصنعوا برّهم بذاتهم. ولكن عندما يكرز إنسان بإنجيل نعمة الله ويصّرُ على حقيقة ضلال الإنسان الكامل وحالته الساقطة، ويعلن أنّه غير قادر أن يصنع أي شيء ينقذ به نفسه، بل إنّه لابدّ أن يخلص بموت الرب يسوع المسيح الكفاري، فليس في هذا مايُسّر الإنسان الطبيعي. إنّ النعمة الإلهية هي التي تفتح القلب وتتلقى ذلك الإعلان. وذلك هو الإعلان الذي كان قد جاء إلى بولس. كان هناك وقتٌ أبغض فيه الرسول بولس المسيحية وذلك عندما عمل كل مافي وسعه ليُهلك الكنيسة الفتيّة الناشئة، وهاهو الآن يقول لهؤلاء الغلاطيين:‏  "فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا". يستخدم بولس مرتين هذا التعبير، "الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ"، (في الآية ١٣ و ١٤). إنّ الكلمة الأصلية تعني "اليهودية" بكل بساطة، وليس هناك مجال للخلط بينها وبين قول يعقوب الرسول:‏ "الدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ:‏ افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ" (يعقوب ١:‏ ٢٧). ففي قول يعقوب تُستخدم كلمة "دين" بالمعنى الصحيح، ونحن الذين خلصنا يجب أن تنطبق علينا هذه الصفات. ولكن الرسول بولس يستخدم هذه الكلمة هنا بمعنى مختلف. لقد تعمّد بولس استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى نقلاً عن اللغة اليونانية. وكان يهدف من وراء ذلك إلى أن يخلص نفسه وينال حظوةً عند الله، إلى أن يكشف الله له الأمور بشكل آخر من خلال الوحي الإلهي. فعندما كان يؤمن باليهودية كان "يضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ ويُتْلِفُهَا". ومما يُرثى له أنه منذ ذلك الحين انبرى أعضاء من الكنيسة المعترفة لاضطهاد اليهودية. وهذا يتناقض مع قول يسوع أن "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (متى ٥:‏ ٤٤).

لقد كان بولس يكره المسيحية. واضطهد المسيحيين وحاول أن يقتلع المسيحية من الجذور، ويقول:‏ "كُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي". لقد أمكن له أن بقول:‏ "عالِمِينَ بِي مِنَ الأَوَّلِ... أَنِّي حَسَبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا الأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيّاً" (أعمال ٢٦:‏ ٥). لقد كانت اليهودية أعزُّ عليه من الحياة نفسها. لقد كان يعتقد أن تلك هي الحقيقة الوحيدة، وذلك أنّ كلّ الناس، وإن عرفوا الله، يجب أن يجدوه من خلال اليهودية. لقد كان في حماسة وغيرة زائدة على تقاليد الآباء، ليس فقط فيما كُتب في الكتاب المقدّس، وفي ناموس موسى وما كان الأنبياء قد أعلنوه، بل أضاف إلى ذلك كمية كبيرة من التقاليد التي وصلت إلى اليهود في يومنا الحاضر في التلمود. لقد كان على استعداد أن يعيش ويموت كمناصر لليهودية لولا أعجوبة النعمة. كيف حدث أنّ هذا اليهودي الذي لم يكن يرى شيئاً صالحاً في المسيحية قد اهتدى وصار أحد أعظم مناصريها؟ ليس من سبيل لتفسير ذلك إلاّ من خلال نعمة الله المطلقة التي لا نظير لها. لقد حدث شيءٌ في قلب وحياة ذلك الرجل، فتبدّلت وجهة نظره كليةً، وهذا ما جعلهُ نصيراً للمسيحية كرّس أكثر من ثلاثين عاماً من حياته لإعلان المسيح لليهود والأمميين. يخبرنا عم أحدث التغيير:‏ "وَلَكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً" (الآيتان ١٥، ١٦). عندما جاء الوقت المحدد، عندما قال الله بنعمته الجليلة أن:‏ "اقبضوا على هذا الرجل"، فأوقفه على طريق دمشق، وعندما ظهر له المسيح في المجد، جاء شاول الطرسوسي إلى معرفة أنه كان يحارب مسيّا الموعود لشعب اسرائيل وابن الله المبارك. وعندها لم يكتفِ المسيح بأن يعلن نفسه له، بل أن المسيح أُعلن فيه.

لدينا كلا الجانبين الموضوعي والذاتي للحقيقة. عندما رأيت أنا الخاطئ المسكين المسيح يسوع يتألم وينزف ويموت من أجلي، وعندما رأيتُ أنه كان "مَجْرُوحاً لأَجْلِ مَعَاصِيَّ مَسْحُوقاً لأَجْلِ آثَامِي"، وعندما أدركت أنه كان قد "أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايايَ وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِي"، وعندما  وضعت إيماني القلبيّ فيه، وعندما بتلك الحقيقة الموضوعية، حدث شيء ما داخل ذاتي. لقد جاء المسيح ليسكن في قلبي ذاته. "المسيح فيك"، يقول الرسول، "رجاء المجد". لقد سُرَّ الله أن يعلن ابنه، ليس لي وحسب بل فيَّا ايضاً. وأتيت إلى معرفته بطريقة أكمل وأكثر غنىً مما كان ليمكنني أن أعرف أعز صديق أرضي. لم تعد المسألة بالنسبة لبولس مجرد دين مقابل دين. لقد صار لديه الآن تفويض إلهي بأن يمضي وأن يعلن للآخرين أن المسيح صار حقيقة واقعية جداً في حياته. ولذلك فعندما جرى هذا الحادث المجيد، عندما أتى إلى معرفة الرب يسوع المسيح بنعمة الله الجليلة المطلقة، نجده يقول:‏ "أدركت أن ذلك الفهم المجيد لم يكن لي فحسب بل أن علي أن أجعله معروفاً لدى الآخرين. لقد سُرَّ الله أن "يكشف ابنه فيّا، لكي أكرز به بين الوثنيين والأمم". عندما خلص الرب بولس أخبره أن ذاك كان في ذهنه.

في أعمال الرسل (الإصحاح ٩) نجد قصة اهتداء الرسول بولس. ونقرأ أن الله قد تحدث إلى حنانيا وأرسله لرؤية بولس في الزُّقَاقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُسْتَقِيمُ في دمشق. ولكنه لم يشأ الذهاب في بادئ الأمر، فقد كان يخشى أن يتسبب بولس في قتله، إلا أن الرب الإله قال له:‏ "«اذْهَبْ لأَنَّ هَذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي" (أع ٩:‏ ١٥، ١٦). ولذلك ذهب حنانيا مطيعاً الله لرؤية بولس ونقل له فكر الله. فقد كان الله قد قال:‏ "ظَهَرْتُ لَكَ لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ" (أع ٢٦:‏ ١٦، ١٧). لقد كان رسول الأمم بامتياز، ولكن كانت له أيضاً خدمة رائعة لشعبه، وطوال حياته كلها كان لديه شعار أن:‏ "لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ" (رومية ١:‏ ١٦). لقد مضى من مدينة إلى أخرى يصطاد الناس في المجامع أو يجد جماعات أو أفراد يهود، فيخبرهم بالتغيير العظيم الذي طرأ له ويناشدهم أن يُسلِّموا ذواتهم لذلك المخلص العظيم الرائع نفسه. وعندما كانوا يرفضون رسالته كان يتجه إلى الأمميين ويكرز بالإنجيل لهم.

شككّ بعض من هؤلاء الغلاطيين فيما إذا كان حقاً رسولاً، إذ أنه لم يرَ الرب أبداً عندما كان هنا على الأرض؛ ولم يأخذ تفويضه من الاثني عشر. يقول:‏ "لا لم افعل، وإني أفتخر بأني رسول، ليس من بشر، ولا من إنسان، بل بيسوع المسيح. لقد تلقيت تفويض من السماء عندما رأيت المسيح القائم في المجد وجاء هذا وجعل مسكنه في قلبي. لقد أرسلني لكي أمضي وأكرز برسالته". "لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً". لقد ظنوا أنه كان ينبغي عليه أن يذهب إلى أورشليم لكييعقد ويعرض المسألة على بقية الرسل وأن يعرف إذا ما كانوا يصادقون على رسالته وكانوا على استعداد لسيامته للخدمة المسيحية، أو شيء من هذا القبيل. ولكنه يقول:‏ "كلا، لم أستشِر أحداً، ولم أتباحث مع أحد. لقد كانت رسالتي من السماء، وكنت سأنقلها معوِّلاً على الله الحي، "وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ" (الآية ١٧)". لم يذهب في البداية إلى المكان الذي كانوا يعتبرونه مركز قيادة الكنيسة المسيحية، أي في أورشليم، ليحصل على تفويض أو ترخيص بالعمل. وبدلاً من ذلك نرى أنه قد غاب بعيداً مختلياً بنفسه. في قراءتنا لسفر الأعمال لا نستطيع أن نعرف ذلك، لكنه هو نفسه يشير في هذه الرسالة إلى أنه ذهب إلى بتراء العربية، وهناك في مكان هادئ نوعاً ما ولعله كان يعيش في كهف، أمضى بعض الوقت يرتقب أن يوضح الله له الأشياء التي كانت في فكره. لقد كان في حاجة إلى الوقت ليفكر بالأمور ملياً، وفي حاجة إلى الوقت لكي يكلمه الله والذي أمكنه خلاله أن يكلم الله. وهناك تكشّفت له الحقيقة بكل ملئها، وكل جمالها، وكل مجدها. لم يكن ذاك هو الوقت الذي حصل فيه على إعلان جسد المسيح. بل بالحري كان ذلك على طريق دمشق عندما قال له الرب:‏ "شاول، شاول. لماذا تضطهدني؟"، ياله من إعلان عظيم ذاك المتعلق بالجسد الذي يشكله جميع المؤمنين على الأرض! إنهم مرتبطون على نحو وثيق برأسهم الممجد في السماء حتى أن كل عضوٍ لا يمكن أن يُلمس دون أن يؤثر على رأسهم.كان هناك الكثير مما كان يحتاج لأن يفهمه، لذلك مضى إلى البرية.

هل لاحظتم كم كثرٌ هم خدام الله المحبوبين الذين توجب عليهم إنهاء دروس في جامعة البرية؟ عندما أراد الله أن يهيء موسى ليكون قائداً لشعبه أرسله إلى البرية. فمرّ على كل المدارس المصرية، وظنّ أنه كان مستعداً ليكون محرراً لشعب الله. وعندما غادر جامعة مصر قال في نفسه على الأرجح:‏ "أنا الآن على استعداد لأن أضطلع لمسؤلية عملي الحياتي الكبير". ولكنه سرعان ما شرع يقتل المصريين ويخيفهم في الرمال فقال الله له:‏ "لست مستعداً بعد يا موسى. فأنت في حاجة إلى منهاج ما بعد التخرج". كان عمره آنذاك أربعين سنة أمضاها في تعلم حكمة مصر، أمضى بعدها أربعين سنة لينساها ويتعلم حكمة الله، وأخيراً، وعندما تلقى درجة ما بعد التخرج أرسله الله ليحرر شعبه.

إيليا أمضى وقتاً في البرية. وداود فعل مثل ذلك. تلك السنوات في البرية التي اصطاده في نهايتها الملك شاول كالحجل على سفح الجبل. لقد كانوا مستعدين لمساعدته لكي يتأهل للقيام بعمله العظيم. وإذا فكرنا في ربنا المبارك نفسه نجد أنه قد اعتمد في نهر الأردن مظهراً توافقه مع كلمة الله واستعداده للمضي إلى الصليب ليحقق كل برٍّ لأجل الخطأة المحتاجين، فنزل عليه الروح القدس كحمامة. وبعدها ذهب إلى البرية لأربعين يوماً، وصلّى وصام متأملاً في الخدمة العظيمة التي كان مقبلاً على القيام بها. ثم مرّ عبر تلك التجارب الشديدة على يد الشيطان وخرج منها منتصراً، وانطلق ليكرز بإنجيل الملكوت. والآن هاهنا هذا الرجل الذي كان يكره اسمه والذي كان يمقت المسيحية ولكن بعد أن رأى المسيح القائم اعتزل في البرية لفترة من التأمل والصلاة، والتعلم قبل أن يستهلَّ عمله العظيم. ثم نجده يقول:‏ "ثم رجعت أيضاً إلى دمشق"، وكرز بالمسيح في المجامع قائلاً:‏ "أنه ابن الله". إذا قرأتم بتمعن سفر أعمال الرسل ستجدون أنه لم يكرز أحد بالمسيح كابن لله إلا بعد اهتداء بولس. أعرف أن التعبير "ابنك القدوس يسوع" مستخدم، ولكن الترجمة الأفضل "خادم أو عبد". لقد كرز بطرس بيسوع على أنه المسيّا، والعبد، ولكن بولس بدأ شهادته بالقول أن يسوع كان في الحقيقة ابن الله. عندما سأل الرب يسوع بطرس:‏ "من تقول أني هو؟"، أجاب بطرس:‏ "أنت المسيح ابن الله الحي" (متى ١٦:‏ ١٥، ١٦). ولكن لم يكن ذلك الزمان هو المناسب في نظر الله ليعلن ذلك، لأن الرسالة كانت مقتصرة نسبياً على شعب إسرائيل، في أول جزء من سفر أعمال الرسل. ولكن عندما اهتدى شاول، وبدون خوف من البشر، راح يكرز في تلك المجامع نفسها بأن يسوع هو ابن الله وأنه هونفسه الآن يضطهد على يد أولئك الذين كانوا معجبين به كقائداً ممارساً للشعائر الدينية اليهودية.

مرّت ثلاث سنوات على هذا الرجل قبل أن يذهب إلى أورشليم. لقد انتقل من مكان إلى آخر وأخيراً مضى إلى هناك، ولكن ليس لكي يُسام أو ليعترف به كرسول. ففي الآية ١٨ يوضح لنا سبب الذهاب إلى هناك:‏ "ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً". إن كلمة "أتعرف" في النص الأصلي ممتعة جداً. إنها الكلمة اليونانية التي اشتقت منها "حكاية"، أي رواية قصة ما، أو سرد أحداث مضت، فهكذا يقول بولس أنه بعد ثلاث سنوات صعد إلى أورشليم ليروي حكايته لبطرس وليسرد عليه الأمور التي مرَّت معه، وليخبره عما فعله الرب. ياله من اجتماع رائع. كم كان رائعاً لوسمعنا تلك المحاورة بينهما ونحن قابعون في ركن من الحجرة دون أن يلاحظنا أحد. بطرس الذي كان قد عرف الرب والذي كان قد أنكر الرب والذي تجدد على نحو رائع

والذي كرز وبشر بتلك القوة في يوم العنصرة والذي استخدمه (الرب) بقوة ليفتح الباب أمام اليهود ثم أمام الأمميين، بطرس ذاك أخبر قصته وحكى بولس حكايته. وعندما أنهيا الحديث، أتخيل أن بطرس قد قال:‏ "حسناً يابولس، إن لديك نفس الرسالة التي لدي، إلا أنني أعتقد أن الرب اعطاك أكثر مما أعطاني، وأريد أن أعطيك يمين رفقة الشركة والزمالة. إني أبتهج بخدمتك، ويمكننا أن نمضي معاً في إعلان هذا الإنجيل السار المجيد". كان ذلم بعج خمسة عشر يوماً من رفقة رائعة أمضيناها معاً.

ولبقية الرسل يقول بولس:‏ "وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ". لسنا متأكين عن أي يعقوب يتكلم. علّه يكون الرجل الذي يشار إليه باسم يعقوب ابن حلفا، ابن عم الر، الذي يُذكر بأنه أخو الرب. وفي اعتقادي الشخصي أنه يعقوب الذي يحتل مكانة كبيرة في سفر أعمال الرسل-‏ هو يعقوب أخو ربنا يسوع المسيح، الذي لم يؤمن إبان وجود المحلص هنا على الأرض، بل أتى إلى الإيمان به بالقيامة، وهوالذي قاد كنيسة الله في أورشليم. كان بولس قد رآه، ولكن لم يأخذ من اي منهما أية مصادقة أو موافقة او ترخيص أو تفويض خاص. لقد التقى بهما على أساس مشترك. ألا وهو أنهم رسلٌ للرب يسوع المسيح مثله، بتعيين إلهي.

"وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ". غريب أنه اضطر ليقول هكذا كلام. وغريب أن هؤلاء الغلاطيين، الذين اهتدوا على يده، يمكن أن يفكروا للحظة أنه قد لا يكون صادقاً. ولكن عندما يتأثر المرء بتعاليم زائفة مغلوطة، يحدث عامة أنه يكون على استعداد لتوجيه كل أنواع التهم طاعناً باستقامة وأمانة الناس الآخرين. وهكذا الحال هنا، فاضطر بولس للقول:‏"وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ".

بعد عودته من أورشليم انطلق في برنامجه التبشيري العظيم. "وَبَعْدَ ذَلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ. وَلَكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ". لقد صار معروفاً وسط جماعات أخرى في اليهودية، وعرفته تجمعات يهودية بشكل جيد، إلا أن المسيحيين في اليهودية، وهم المؤمنون الذين كانوا انفصلوا عن الدين اليهودي، ما كانوا قد رأوه أبداً. "غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلاً، يُبَشِّرُ الآنَ بِالإِيمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلاً يُتْلِفُهُ". وكم كان لهذا من تأثير كبير عليهم. فها هنا رجل كان قد ذهب إلى كل مكان ليحيد الناس عن المسيح، بل إنه حتى حاول أن يجبرهم على التجديف، وهددهم بالموت إذا لم ينكروا إنجيل الرب يسوع المسيح. والآن طرأ هذا التغيير الكبير، وانتقلت الأخبار عبر الكنائس:‏ "المضطهد العظيم قد كان مبشراً، فهو لم يعد عدواً لنا، بل إنه يكرز للآخرين بنفس الإيمان الذي لدينا تماماً". "فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ فِيَّ". في الحقيقة لقد كان اهتداء بولس عملاً إلهياً جليلاً للنعمة، وهذا يستحق المزيد من التسبيح والمجد لذاك الذي اختاره وفوّضه وأرسله. وكانت الثمار الغزيرة الناجمة عن ذلك هي لمجده. مامن شيء يعطي هكذا قوة لخدمة المسيح كمثل الاهتداء الحقيقي. لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لأي إنسان أن يتجرأ على القول أنه خادم للكرازة وهو لم يختبر اهتداءً شخصياً ولم يعرف حقيقة الإنجيل.

ذلك الإنجيل لم يفقد شيئاً من قوته. إن في مقدوره اليوم أن يصنع العجائب في الناس الذين يضعون إيمانهم على الرب يسوع المسيح. فهل آمنتم به؟ وهل وضعتم فيه ثقتكم؟ هل هو مخلصكم. هل تعرفون ما معنى الاهتداء؟ هل في مقدوركم القول:‏ "الشكر لله، فقد خلصت روحي؛ لقد أعلن الله ابنه فيّا"؟

Pages