September 2014

رسائل تفسيرية على الرسالة إلى أهل غلاطية

رسائل تفسيرية على الرسالة إلى أهل غلاطية

هـ. أ. أيرونسايد

مؤلف "محاضرات على الرؤيا"، "تفسير إرميا"،
"تفسير رسالة فيلبي"، "تفسير سفر أستير"،
و"القداسة:‏ الخطأ والصواب".،... الخ.

Expository Commentary On The Letter Of Paul To The Galatians
H. A. Ironside

الخطاب ٤٥

خطيئة الاشتهاء وخطرها

"١٣وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ: «يَا مُعَلِّمُ قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ». ١٤فَقَالَ لَهُ: «يَا إِنْسَانُ مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» ١٥وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐنْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ». ١٦وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً قَائِلاً: «إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ ١٧فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ ١٨وَقَالَ: أَعْمَلُ هَذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَّتِي وَخَيْرَاتِي ١٩وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي. ٢٠فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَا غَبِيُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ ٢١هَكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلَّهِ»" (لوقا ١٢: ١٣- ٢١).

هناك خطيئة محظورة بوضوح في الوصايا العشر ولكن قلة يعتقدون أنها شريرة خطيرة: أعني بها، "لاَ تَشْتَهِ". يخبرنا الرسول بولس في الأصحاح السابع من رسالته إلى رومية أن هذه كانت الوصية الوحيدة التي جعلته يشعر بالإثم بسبب إثمية طبيعته. في مكان آخر يقول فيما يتعلق ببر الناموس أنه كان يعيش حياة بلا لوم. لم يحني ركبةً لبعلٍ على الإطلاق؛ لم يتعامل مع اسم الله باستخفاف، ولا أهان والديه. لم يكذب، ولم يسرق، ولم يقتل، ولم يرتكب إثم الزنى. لم يرتكب أياً من الخطايا المحظورة في الوصايا التسع الأولى، ولكن عندما يأتي إلى الوصية العاشرة فإنه يعتبر أنه مدان. تقول الوصية "لاَ تَشْتَهِ". لقد وجد أنها كانت تحرك في داخله فعلياً رغبات غير صحيحة، وكان يدرك أنه كان خاطئ بسبب ذلك. في داخله وجد كل طرق الاشتهاء. كان عاجزاً عن أن يتحكم بأفكاره ورغباته، ولذلك فقد عرف أنه كان متعدياً للناموس. كم قلة هم أولئك الذين يفكرون بالاشتهاء كخطيئة فعلية. ما هو الاشتهاء؟ إنه الرغبة في أن تستحوذ على ما منعه عنك الله ولكن منحه لآخرين. ينبغي علينا أن نكون قانعين بهكذا أشياء لدينا، ولكننا نسعى لتملك أشياء أخرى لم يرَ الله أنه من المناسب أن يمنحنا إياها؛ ولذلك فإننا مدانون بخطيئة الاشتهاء. إنها أحد أكثر الخطايا خبثاً. قد يُظهر الناس تقوى وتديناً ومع ذلك يكونون مدانين بسبب هذه الخطيئة. لقد وبخ ربنا يسوع المسيح الناس على خطيئة الاشتهاء هذه بكلمات شديدة اللهجة وفي مناسبات كثيرة جداً.

لدينا في هذه الحادثة، قصة رجل أتى إلى يسوع وقال له: "يَا مُعَلِّمُ قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ". قد لا يبدو أن هناك أي خطبٍ أو خطأ في هذا السؤال. من الواضح أن الأب كان قد مات وأن الورث كان قد تُرك في عُهدة شقيق هذا الرجل. ربما كان أحد الولدين يعيش في المنزل والآخر يعيش في مكان بعيد، وبالتالي فإن الابن الذي كان في المنزل قرر بأن تكون كل الممتلكات خاصة به. ربما عرف كلا الأخوين يسوع وكانت لديهما ثقة كبيرة بعدالته؛ ولذلك فإن الأول قال له: "تكلم إلى أخي عن هذه المسألة". ولكن يسوع لم يأتِ إلى العالم ليضبط ويعدل الأمور التي على ذلك النحو. لم يأتِ "لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ". لقد قال: "ﭐنْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ". هذا المطلب نفسه يشير إلى عدم استقرار وعدم رضى، ويدل على حالة من سعي القلب إلى شيء منعه الله للوقت الحالي. لماذا لا نذعن لإرادته ونكون قانعين بما أعطانا إياه؟ احذروا من الاشتهاء. ليست هذه فقط محبة للمال، بل هي أيضاً محاولة لإيجاد الرضى في الأمور الزمنية الزائلة العابرة. "مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ". إننا نجتاز الحياة ونحن نكدّس "أشياء"، كثيرٌ منها لا قيمة له على الإطلاق؛ ولكننا ندخرها. إننا نجاده لنمتلك بيتاً جميلاً، وأراضٍ أكثر، وأثاث منزلي أكثر رفاهية مما يمتلكه بقية الناس، وطقماً للمائدة يكون أظرف، وكساءً أكثر أناقة، وفي أحيان كثيرة نمضي في الادخار والتكديس إلى أن يأتي الموت في نهاية المطاف، ويا للهول! كم سيكون عصيباً ذلك الوقت الذي ينقسم فيه منفّذو الوصية حول سقط المتاع! "مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ". ومع ذلك فإن الناس يتصرفون وكأن الخير الأعظم على الأرض يكمن في إضافة المزيد من الممتلكات لأنفسهم. قد يقول البعض: "حسنٌ، ما الذي ينبغي أن نفعله بالأشياء التي لا نحتاجها؟" في مكان ما يخبرنا الرب يسوع أنه إن أردنا السعادة فيجب أن نوزع ممتلكاتنا على الآخرين بدلاً من تخزينها وادخارها لأنفسنا. أسعد إنسان ليس هو من يمتلك أكثر، بل هو الإنسان الذي يعطي أكثر، الإنسان الذي يشارك أكثر الآخرين بأمور الله الصالحة التي عهد بها الله إليه. يمكننا أن نحصل على المزيد من السعادة في تقسيم المال القليل الذي نملكه مع الآخرين أكثر من أن نصرفه على أنفسنا. الرئيس الغني الشاب ذهب إلى يسوع وقال له، "مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟" وقال الرب يسوع: "اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ". لم يقصد أنه كان يستطيع أن ينال الخلاص في التخلي عن المال أو الأغراض. ولكن من الممكن أن يفوتك الخلاص بمخالفتك للوصية التي تقول: "لاَ تَشْتَهِ". ما من إنسان يخلص إن كان يعيش لنفسه وحسب. يجب أن يأتي إلى موضع حيث تبكّته خطيئته، ويعترف ويتحول عنها، ويتكل على المسيح وحده لأجل الخلاص. نجسن جميعاً التصرف إن أخذنا هذا التحذير لأنفسنا: "ﭐنْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ". قال بولس: "لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ". الحياة للمسيح يعني الحياة لأجل الآخرين، وهذه عي الحياة على أكمل وجه.

اعتاد اليهود أن يقولوا أن الطفل يولد إلى هذا العالم ويده مطبقة، أي قبضة يده مطبقة، وهي تمسك بأي شيء يمكن أن يصل إلى يديه. ولكننا نموت وأيدينا مفتوحة بكل سعتها؛ ليس لدينا شيء فيها. لا يمكننا أن نأخذ أي شيء معنا؛ علينا أن نذهب فارغي اليدين. لماذا ادخار الأشياء؟ لماذا لا نستخدمها ونستمتع بها بينما نحن على قيد الحياة؟ روى الرب مثلاً لكي يعلّمنا هذا. لقد تكلم عن إنسان غني صاحب أرض، فكّر بنفسه فقط وبراحته، ولم يدرك لوهلة أن ما أوكله الله به يجب أن يُستخدم لمجده ولبركة الآخرين. قال: "مَاذَا أَعْمَلُ لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ وَقَالَ: أَعْمَلُ هَذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَّتِي وَخَيْرَاتِي". ليس هناك شيء في هذا المثل يحذرنا من أن نقوم بالتدبير الملائم أو بتدبير المؤن للمستقبل؛ ما من شيء هنا يدين أياً منكنّ يا ربّات البيوت اللواتي تدخرون ثماراً في الصيف لكي تستخدموها في الشتاء؛ ما من شيء يدين ادخار بعض النقود بينما المرء يكسب أجراً وذلك لكي يؤمن حياته عندما يصير كهلاً طاعناً في السن. ولكن هذا الإنسان كان يفكر فقط في نفسه. لقد قال: "أَبْنِي أَعْظَمَ وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَّتِي وَخَيْرَاتِي". لو أنه قال: "لن أحتاج إلى كل هذه الأشياء. هناك تلك الأرملة الفقيرة في الجوار التي تعيش في ذلك الكوخ الصغير... كم سيعني الأمر كثيراً بالنسبة لها إذا ما أعطيتها بعض الفاكهة أو أشياء أخرى. وهناك الطفل المشلول البائس. سوف أترك له الكثير من الأشياء على عتبة بيته. فعندما يستيقظ في الصباح سوف لن يعرف من أين أتت؛ سوف لن يعرف أنها جاءت من عجوز هزيل مثلي. سيكون لي الفرح في معرفة أني عملت شيئاً بعيداً عن الأنانية حقاً". وهكذا يمر عبر الشارع منتقلاً من شخص محتاج إلى آخر. ولكنه كان يفكر في نفسه فقط. لقد قال: "سأخزن جَمِيعَ غَلاَّتِي وَخَيْرَاتِي في هذا المخزن الجديد الذي سأبنيه، وأقول لنفسي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي". إنه إنسان أناني، مشتهٍ، لا تقوى لديه، يفكر فقط بإشباع رغباته الذاتية، متأملاً بحياة من الراحة طوال السنين الآتية بدلاً من أن يسعى من أن يكون بركة للآخرين. ولأنه معتدٌّ بنفسه في تصوره الذاتي، ومعتدٌّ في اشتهائه وروح الجشع لديه، فإنه يذهب إلى سريره في تلك الليلة، وربما ينام بين مُلاءات جميلة من الكتان ويتمتع بكل رفاهية وترف. وفجأة في منتصف الليل يستيقظ، ربما مع ألم فظيع، ويصرخ: "نوبة قلبية! ما الذي سيحدث!" ثم يبدو أنه يسمع صوت رنين آتٍ من عتمة الليل، "يا غَبِيُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟" وخلال يوم أو اثنين يمر أصدقاءه أمام كفنه. ينظرون إلى وجهه وهو راقد في النعش ويقولون: "كم يبدو طبيعيا!" ثم يمضون في طريقهم، وبعد هنيهة يتنازع المحامون على ممتلكاته، وكل الأشياء التي كدّسها تتبعثر يميناً وشمالاً. تلك هي نهاية الأرض بالنسبة إلى الإنسان الطماع المشتهي، ولكن ليست نهاية وجوده. إنه يخرج إلى الأبدية ليلاقي الله الذي كان قد تجاهله، ليقابل الله الذي كان قد غمره بالرحمة طوال حياته، والذي لم يفكر نحوه ولو بأدنى ذرة من الامتنان. إنه يخرج إلى الأبدية ليواجه الرب يسوع الذي لم يعترف بمطالبه ودعوته ولم يقر بها أبداً. لقد كان منشغلاً جداً في تكديس الثروات لنفسه على الأرض حتى أنه لم يقم بأي تدبير لأجل الأبدية.

دعوني أقول لكم: ما من إنسان غني مهما كانت ثروته، ومهما كانت أراضيه وممتلكاته واسعة، إن لم يعرف الرب يسوع. كان هناك أناس في كنيسة لاودكية يقولون: "أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ". فيقول الرب يسوع: "أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ". لقد كانوا يعتقدون أن لديهم كل شيء، ولكن في الواقع لم لكن لديهم أي شيء، لقد كانوا بدون المسيح. إن كان المرء بدون المسيح فإنه أفقر من أفقر الفقراء. هكذا إنسان قد يفتخر بنفسه بامتلاكه القليل من الأمور الدنيوية في هذا العالم، ولكنه يقف أمام الله في إعواز مطلق. يقول الرب لكل إنسان على هذا النحو: "أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ". تلك الثروة يمنحها الله لكل من يطلبها منه. إن لم يكن لك المسيح فإنك بائس فقير معدم.

بعد أن آمنا بالمسيح يحذّرنا يسوع ضد تكديس الثروة لأنفسنا على الأرض، حيث يُفسد السوس ويُبلي الصدأ، وحيث ينهب السارقون ويسرقون. حتى المسيحيين هم في خطر سطوة روح الاشتهاء هذه. سعيد هو الإنسان الذي، وبدلاً من أن يكدّس ويجمع ثروة على الأرض، يُرسل كنزاً مسبقاً لكي يتمتع به في السماء. كيف أكنز كنوزاً في السماء؟ إن كل ما أصنعه للآخرين باسم الرب، كل ما أعطيه للمحتاجين باسم يسوع، هو كنز يُودع لي في مصرف السماء. هكذا ودائع تجني عشرة آلاف بالمئة فائدة؛ لأن المسيح قال: "لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هذَا الزَّمَانِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً". مئة ضعف أي عشرة آلاف بالمئة. ولكن هذا يكون في هذه الحياة فقط، إذ يضيف قائلاً: "فِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ".

قد يقول قائل: "لا أرى الكثير من الخطأ في الاشتهاء. ما الخطب في ذلك فعلياً؟" قد لا ترى أي شيء خطير في هذا لمسألة الآن، ولكن إن أبقتك بعيداً عن المساء وخارجها فإنك ستجد أنها مسألة خطيرة بالفعل. آلاف مؤلفة بقيت خارج السماء بسبب خطيئة الاشتهاء هذه. لقد كانت تلك عائقاً حال بينهم وبين خلاص نفوسهم.

الخطاب ٤٦

الحياة بدون قلق أو همّ

"٢٢وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «مِنْ أَجْلِ هَذَا أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَلاَ لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. ٢٣اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ اللِّبَاسِ. ٢٤تَأَمَّلُوا الْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلاَ مَخْزَنٌ وَاللهُ يُقِيتُهَا. كَمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ الطُّيُورِ! ٢٥وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ ٢٦فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ وَلاَ عَلَى الأَصْغَرِ فَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِالْبَوَاقِي؟ ٢٧تَأَمَّلُوا الزَّنَابِقَ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. ٢٨فَإِنْ كَانَ الْعُشْبُ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ فِي الْحَقْلِ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللهُ هَكَذَا فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ ٢٩فَلاَ تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ تَقْلَقُوا ٣٠فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ الْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ. ٣١بَلِ اطْلُبُوا مَلَكُوتَ اللهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. ٣٢«لاَ تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ. ٣٣بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لاَ تَفْنَى وَكَنْزاً لاَ يَنْفَدُ فِي السَّمَاوَاتِ حَيْثُ لاَ يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلاَ يُبْلِي سُوسٌ ٣٤لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكُمْ أَيْضاً" (لوقا ١٢: ٢٢- ٣٤).

بعد أن سرد الرب يسوع تلك القصة المحزنة عن الغني الجاهل، الذي رغم حرصه والأثرة لديه، فقد كل شيء، التفت يسوع إلى تلاميذه وكلمهم عن بركة الحياة التي تكون خالية من القلق أو الهم، الحياة التي فيه اتكال على الله الحيّ، الذي هو أبو كل من يؤمن بكلمته.

قال يسوع: "لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَلاَ لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ اللِّبَاسِ". لم يكن يشجّع الإسراف أو التبذير، ولم يكن يغرس في الذهن فكرة الكسل والتبطّل، ولا عدم الاهتمام بمسؤوليات المستقبل. كان التحذير هو لتلاميذه لكي يتحاشوا الفكر القلق. أن تصبح ابناً لله لا يتناسب مع القلق حول الطعام أو الكساء، وسد الحاجات المختلفة التي تنشأ من يوم إلى يوم. لقد رأينا الشعار: "إن تقلق، فإنك لا تثقف؛ إن تثق، فإنك لا تقلق". لقد كان هذا هو ما أراد الرب أن يطبعه في ذهن تلاميذه. الإيمان يمكن أن يتكل على الله لسد كل حاجة تنشأ، فيؤمّن الله ما يحتاجه المرء في سيره وهو يطيع الكلمة.

لقد لفت يسوع الانتباه إلى الغربان، والتي كانت منتشرة بشكل عام في فلسطين. إذ أنها كانت غير قادرة على أن تزرع أو تحصد فقد كان خالقها الكريم يؤمن كل شيء لها. إنه أمر لا يستدعي التفكير ولاشك فيه في أن الله الذي يهتم بطيور السماء لديه اهتمام أكبر بأولاده.

إضافة إلى ذلك، ما الذي يحققه القلق أو الهم؟ هل يستطيع الإنسان القلق أن يزيد إلى قامته؟ إننا ننمو في القمة من الطفولة إلى النضج كما رتب الله. فلماذا لا نتكل عليه لأجل البقية؟

زنابق الحقل، التي هي أكثر جميلة وأكثر هشاشة من أي عمل فني للإنسان، يكسيها الله كساءً جميلاً. لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ، ومع ذلك، فإن لها ذلك الجمال المشرق الذي لم يعرفه حتى سليمان في مجده. كل زهرة، كل ورقة من عشب، هي شاهد على حكمة وقدرة وقوة الخالق، الذي هو إلهنا وأبونا. يجب أن نكون على يقين بأن من يظهر عنايته الإلهية التدبيرية نحو كل مخلوقات الدنيا، سوف لن يخفق في أن يُعنى بخاصته الذين يُكرّسون له كل أمور حياته.

أن نجعل من مسألة الحصول على الطعام والشراب أهم هدف لعملنا وكدحنا يعني أنه يفوتنا كلياً الهدف الحقيقي للحياة. شعوب الأرض الذين لا يعرفون الله قد لا تكون لديهم معايير أعلى من هذه؛ ولكن يجب أن يكون الأمر خلاف ذلك مع أولئك الذين أعلن الرب نفسه لهم في نعمة ورحمة وحنو.

ضعوا الأشياء الأهم أولاً. لا تسعوا وراء تلك الأشياء التي تخدم رغباتنا الأنانية، بل بالحري اطلبوا ملكوت الله، الذي يعني ضمناً الاعتراف بسلطانه الإلهي على كل حياتنا، وكل شيء آخر سيضيفه الله كما يراه مناسباً وملائماً.

الكدّ والإيمان يسيران يداً بيد. ولكن هذا لا يعني أن المرء لديه إيمان حقيقي بالله لأنه يتخلى عن وظيفته في الحياة الدنيوية ويعلن أنه سيذهب للاتكال على الرب ليسد حاجاته. إن كان منشغلاً إلى كل تلك الدرجة في خدمة الكلمة حتى أنه لا يستطيع أن يعمل بيديه، فإن عليه، كما كان بولس يفعل أحياناً، فإنه مخول لأن يتكل على الله ليسد كل حاجة لديه. ولكن يتوافق بالعادة تماماً مع مسار الإيمان أن نتذكر أن الله قال: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً" (٢ تس ٣: ١٠). وعلينا أن نتذكر التحذير والتذكير القديم الأولي أن: "بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأكُلُ خُبْزاً" (تك ٣: ١٩). ما من أحد يستطيع أن يقدم للناس انطباعاً عن حقيقة والطابع الأصيل للخبرة المسيحية الحقيقية أكثر من الإنسان العامل الكادح، أو الموظف، الذي، خلال عمله وسعيه لتأمين نفسه وعائلته، يحيا حياة من الاتكال اليومي على الله، ناظراً إليه على أنه يؤمن له الوظيفة التي تلائم مسؤولياته الزمنية الدنيوية.

هناك فارق بين الإيمان والتسليم. الإيمان يستند إلى كلمة الله المعلنة. التسليم يحاول أن يناغم الله مع البرنامج البشري، والنتيجة تكون إخفاق محتم. لقد وعد الله بأن يستجيب لصلاة الإيمان؛ ولم يعد بأن يرضي رغبات البشر الذين لا يسلكون بحسب كلمته.

خلال هذا الدهر الحاضر لشعب الله، الذين يعرفون عناية الله الآب المحب بهم، هناك مجموعة صغيرة بالفعل، عرضة لإساءة الفهم وحتى للتعرض للكراهية والقسوة من عالم لا يرحم. ولكن بالنسبة لهؤلاء يُعطى الوعد أن: "أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ".

ولذلك، فإن المرء، المدرك لعلاقته مع الله وحقيقة أنه وريث للملكوت، يستطيع أن يتحمل جيداً أن يحتفظ بكل ما في هذا العالم بيدٍ خفيفة، وهو يعلم أن الغنى الأبدي قد وُضع له في المجد، وإذ يعبر كغريب وحاج عبر عالم مليء بالعداء، يمكنه أن يتكل على الحماية الإلهية والعناية الإلهية معاً.

بدلاً من تكديس كنوز أرضية دنيوية، من يتبع الرب يسوع سيجد فرحه الأعظم في مشاركة الآخرين بالفوائد الدنيوية التي يتمتع بها. ما من إنسان يستطيع فعلياً أن يدوس هذا العالم بقدميه إلى أن يكون قد رأى عالماً أفضل فوق رأسه. وإذ يعلم أنه وريث للملكوت، ويعلم انه عليه أن يشارك ذلك الكنز الذي لا يخفق، الكنز الذي لا يستطيع اللصوص أن يسرقوه، ولا للزمان أن يتلفه، فلماذا سيترك قلبه يتعلق بالأمور المبهرجة البائسة التي في هذا العالم، والتي نعلم في الكتاب المقدس أنها جميعاً تتلاشى مع الاستخدام.

إنه سؤال يتعلق ببساطة بأين نضع قلبنا. إن كنا نشتهي ثروة دنيوية ومجداً زائلاً باطلاً في هذه الأرض، فذلك لأن قلوبنا لا تزال في العالم, ولكن إن كنا قد تعلّمنا قيمة الغنى الأبدي والأمجاد التي لن تتلاشى، فذلك لأن قلوبنا مثبتة على ذلك الوطن الذي جاء منه المخلّص والذي عاد إليه. وهكذا ففي كولوسي ٣، يُطلب إلينا أن نهتم بـ (أن نرفع أذهاننا إلى) ما هو فوق، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. ما من شيء يمكن أن يفصلنا على الإطلاق عن الانشغال بأمور الدنيا الزائلة في هذا الزمان سوى إدراكنا بأن وطننا هو في السماء ونصيبنا هناك أيضاً.

هذا لن يودي بنا إلى أن نكون غير مكترثين بالتزاماتنا كمواطنين مؤقتين في هذا العالم، ولن يخلق فينا النزعة إلى أن نكون متكاسلين أو متراخين أو لا مبالين نحو التدبير المناسب لحياتنا اليومية. بل إن هذا سيحرّرنا من الهم والقلق، ويعطينا الثقة الكاملة التي تمكننا من أن نتكل على الرب بينما نحن نسعى لنمجّده في كل المسؤوليات التي يلقيها على عاتقنا.

الخطاب ٤٧

انتظار عودة الرب

"٣٥لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً ٣٦وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجِعُ مِنَ الْعُرْسِ حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَهُ لِلْوَقْتِ. ٣٧طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ. ٣٨وَإِنْ أَتَى فِي الْهَزِيعِ الثَّانِي أَوْ أَتَى فِي الْهَزِيعِ الثَّالِثِ وَوَجَدَهُمْ هَكَذَا فَطُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ. ٣٩وَإِنَّمَا اعْلَمُوا هَذَا: أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ الْبَيْتِ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي السَّارِقُ لَسَهِرَ وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. ٤٠فَكُونُوا أَنْتُمْ إِذاً مُسْتَعِدِّينَ لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الإِنْسَانِ». ٤١فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «يَا رَبُّ أَلَنَا تَقُولُ هَذَا الْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضاً؟» ٤٢فَقَالَ الرَّبُّ: «فَمَنْ هُوَ الْوَكِيلُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الْعُلُوفَةَ فِي حِينِهَا؟ ٤٣طُوبَى لِذَلِكَ الْعَبْدِ الَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هَكَذَا! ٤٤بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. ٤٥وَلَكِنْ إِنْ قَالَ ذَلِكَ الْعَبْدُ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَرُ. ٤٦يَأْتِي سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا فَيَقْطَعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ. ٤٧وَأَمَّا ذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ فَيُضْرَبُ كَثِيراً. ٤٨وَلَكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيراً يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ" (لوقا ١٢: ٣٥- ٤٨).

خدمة ربنا في الجليل كانت توشك على انتهائها بشكل سريع. ولقد دنا الوقت الذي سيذهب يفه إلى أورشليم ليموت. نظراً إلى هذا وإلى عودته الموعودة فقد حثّ يسوع تلاميذه على أهمية الإخلاص والولاء عندما لن يكون من بعد حاضراً معهم شخصياً. لقد كان منطلقاً إلى الجليل- وهناك سيصنع كفارة عن الخطيئة. وفي الوقت الذي يحدده الله سيرجع يسوع، ولكن ليس كما جاء قبلاً- عن طريق الولادة، كطفل رضيع، كإنسان متواضع يُرفض ويُزدرى به- بل كملك الملوك ورب الأرباب، الذي ستسجد له كل ركبة. نقرأ في سفر الرؤيا: "هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ". ومن منظار هذا الحدث العظيم يقول هنا: "لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً". وهو يتكلّم عن "أحقاء الذهن" (١ بط ١: ١٣)، والمنطقة هي حق الله (أف ٦: ١٤). بمعنى آخر، كما أن الثياب الفضفاضة عند أهل الشرق تشد إلى الجسم بمنطقة، كذا كل فكر يجب أن يوضع تحت السيطرة في إطاعة المسيح (٢ كور ١٠: ٥). نور الشهادة يجب أن يبقى متألقاً لامعاً خلال وقت الغياب الشخصي لربنا. اللغة مجازية رمزية جداً. العريس في حفل الزفاف، في الأيام التي عاش فيها يسوع على الأرض، سوف يمضي ليقابل عروسه ويرجع معها إلى بيته. أصدقاؤه سيكونون مرتدين ملابس فاخرة لائقة، أحقاؤهم ممنطقة وسرجهم موقدة إذ يخرجون لملاقاة العريس.

الحقيقة أننا كنا مخلّصين عندما وُلدنا من جديد تماماً كما سيكون حالنا بعد أن نكون قد عشنا لله لخمسين أو ستين سنة. لقد عرفت الله لخمسين سنة، ولكني لست مخلّصاً الآن أكثر مما كنت قبل خمسين سنة. هذه السنوات كانت سنوات خدمة رائعة وسعيدة من الخدمة لمخلّصي، ولكن فيما يتعلق بخلاصي الشخصي، لقد خلصت في اللحظة التي آمنت فيها بالمسيح. لقد تُركت هنا لأشهد له، وأنتم متروكون هنا لتشهدوا له، وهكذا ينبغي أن نُبقي سُرُجَنَا مُوقَدَةً. ربما ننشغل بنظرية المجيء الثاني لدرجة يفوتنا فيها رؤية ذاك الآتي. يجب أن ننشغل في المسيح نفسه. نحن لا نعرف متى سيأتي، ولا نعرف اليوم ولا الساعة. قد يكون هذا اليوم؛ وقد يكون هذا بعد زمنٍ أطول مما يعتقد كثيرون منا، ولكن علينا دائماً أن نكون "مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ". كما أن أصدقاء العريس في الشرق ينتظرون بتوق ليأتي بعروسه عائداً إلى منزله حيث يبتهجون معاً، كذلك نحن نتخذ موقفاً من الترقب بينما نحن ننتظر عودة مخلصّنا "طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ". ليس من شيء له ذاك التأثير التطهيري التقديسي على النفس كمثل ترقب عودة الرب. إننا مدعوون لأن نخدم بإخلاص الآن. عندما يرجع يسوع سيُسر بأن يخدم أولئك الذين احتملوا وعانوا لأجل اسمه خلال مجلسه الحالي إلى يمين الله الآب (رؤ ٦: ٢١). قد أُدعى في أي وقت لأن أقابل ربي؛ يمكن أن يأتي في أي لحظة ليأخذني من هذا العالم- وكم أتوق لرؤيته! إن كنا نترقب وننتظر فإن سيجلسنا معاً وسوف يخدمنا. أليس هذا رائعاً؟ إن كنا نخدمها على الأرض، فإنه يقول أنه سيخدمنا هناك في الأعلى. ستكون مسرّة له أن يخدمنا في المكان الذي أعدّه لنا.

كانت نوبة الحراسة (الهزيع) عند الرومان تمتد ثلاث ساعات. كان يُقسم الليل إلى أربع فترات مناوبة. إن جاء الرب في الهزيع الثاني سيكون لا يزال هناك ظلام؛ وإن جاء في الهزيع الثالث فهذا سيكون قبل انبلاج الفجر. في أي وقت يأتي سيجد خدامه منتظرين إياه. وعن هؤلاء يقول: "طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ".

إن عرف رب البيت أن لصاً كان سيأتي في وقت معين ليسرق أغراضه، فإنه سينتظره. سوف لن يؤخذ على حين غرة بل سيراقب ويحمي بيته. يريد ربنا أن نكون دائماً متيقظين مترقبين لأننا لا نعرف الساعة التي سيأتي فيها.

بالنسبة إلى أولئك الغير منتبهين والغير متيقظين إن عودة الرب ستكون غير متوقعة بل وحتى لن يرحبوا بها، كما الحال مع ذلك اللص في الليل (رؤ ٣: ٣)؛ ولكن سيكون الأمر مختلفاً تماماً بالنسبة لأولئك الذين عرفوا الكلمة وينتظرون ابن الله في السماء (١ تس ٥: ٤). "فَكُونُوا أَنْتُمْ إِذاً مُسْتَعِدِّينَ لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الإِنْسَانِ". إنه أمر في غاية الأهمية أن نبقي هذا نصب أعيينا وألا نحاول أن نحدد مواعيد أو ندعي أننا نعرف الوقت تماماً الذي سيحدث فيه المجيء الثاني. كان يسوع قد قال: "لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ" (أع ١: ٧).

قَالَ لَهُ سمعان بُطْرُسُ: "«يَا رَبُّ أَلَنَا تَقُولُ هَذَا الْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضاً؟» فَقَالَ الرَّبُّ: «فَمَنْ هُوَ الْوَكِيلُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الْعُلُوفَةَ فِي حِينِهَا؟ طُوبَى لِذَلِكَ الْعَبْدِ الَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هَكَذَا! »". سأل بطرس عما إذا كان هذا المثال الذي تكلم به يسوع ينطبق عليهم وحدهم أم هو لجميع تلاميذ المسيح. الجواب يظهر أن ذلك المثل كان موجهاً إلى كل المؤمنين المعترفين حتى نهاية الدهر التدبيري.

ثم وعد الرب بأنه عندما يرجع فإنه سيكافئ كل خادم أمين. الخادم الحقيقي للمسيح يعرف أن كل حق اقتبله هو خدمة عُهد إليه بها ليديرها ويقدمها لأجل خير الآخرين، والتي سيقدم حساباً عليها يوماً ما (١ كور ٤: ١، ٢). في ذلك اليوم ستتم مكافأة الأمانة والإخلاص بوفرة. في الآيات ٣٣ و٤٤ يبارك الرب الخادم الذي سيجده يصنع هكذا لدى عودته. هناك دائماً إغواء التكاسل واللا مبالاة عندما لا يكون السيد حاضراً، ولكن كل مستخدم يفكر بذلك النوع من الخدمة والذي يُنجز في غيابه كما لو كان حاضراً شخصياً ويشرف عليه. هكذا خادم سيُزكى إلى مكانة أكبر بسبب أمانته في المنصب الأقل. الخادم الذي ينسى أن سيده قد يعود على الأرجح أنه سيتصرف بطريقة غير متوقعة وباستبداد وبعدم أمانة لأنه يظن أن أخطاءه سوف لن تُكتشف. سيصحو ذلك الخادم فجأة ويُذعر. "يَأْتِي السَيِّدُ.... فِي يَوْمٍ.... لاَ يَعْرِفُه". لاحظوا إن هذا السيد في هذا المثل ليس هو تماماً الرب يسوع نفسه. المسيح يتكلم بمثل. إن سيّد الخادم الشرير والمتكاسل هو الذي سيُنزل به، لدى عودته، العقوبة التي يستحقها ذاك الذي أساء استخدام منصبه ووظيفته وخان الثقة المعطاة له. ولكن الدرس واضح جداً لا يحتاج إلى تأكيد أو شرح.

ثم يتكلم الرب عن الدينونة التي ستنزل في ذلك اليوم. سوف لن يكون الله ظالماً في تعامله مع أي أحد. "وَأَمَّا ذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ فَيُضْرَبُ كَثِيراً". ذاك الذي تصرف على ذلك النحو الشائن سوف "يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ". السيد الساخط سيصب عقاباً تناسب التعدي المرتكب. "لَكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيراً يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ". عندما يكون المرء جاهلاً بما يتوقع منه سيده فإنه سيتم التعامل معه بتساهل ولين أكثر، رغم أن الجهل لا يبرر الكسل. ولكنه مبدأ في الكتابات المقدسة أن المسؤولية والامتياز يسيران جنباً إلى جنب. يدرك الناس ذلك في تعاملهم مع بعضهم البعض. وكذلك يفعل الله نفسه، الذي سيعامل كل حالة بما تستحقه.

عندما يعهد الله بأي وزنة/موهبة، أو مهارة، أو معرفة للحق لخدامه، فإن ذلك يعني أن عليهم أن يستخدموها كلها لأجل مجده. خلال جلوس ربنا حالياً إلى يمين الآب، تلاميذه مدعوون لأن يمثّلوه ولأن يتصرفوا باسمه أو يعملوا لأجله بينما هم هنا على الأرض. هذا يعني اعتبارنا للخدمة كعهدة مقدسة أو خدمة وُكِل إلينا من قِبل المسيح يسوع، لنقوم بها لأجل مجده ولأجل بركة عالم محتاج، ولكي ننال مكافأة لدى عودته شخصياً. إن أخفقنا في التصرف وفق إرادة الله المعلنة سيعرضنا إلى التهلكة عندما نُستدعى لنقدم حساباً عن خدمتنا أمام كرسي دينونة المسيح، حيث ستُمحص كل أعمالنا بنار قداسة الله (١ كور ٣: ١٣- ١٥).

لدى دراسة أمثال ربنا نحتاج إلى أن نضع في أذهاننا حقيقة أن كل مثل منها كان يُعطى لتأكيد خيط ما هام من الحقيقة. غالباً ما نخطئ في محاولة تكييف كل جزء من المثل إلى عقيدة لاهوتية أو أخروية. في مثل السيّد وخدّامه يجب ألا نخلط بين السيّد الأرضي وربنا الإلهي. الشخص الذي نجده في هذا المثل بعيد جداً عن طبيعة وسلوك السيد المسيح.

هناك مظهران في المجيء الثاني للمسيح، رغم أنه لم يكن في هدف الرب في هذا الحديث المعين أن يميز بين الاختطاف والظهور، هاتان المرحلتان من مجيئه ثانية واللذان تظّهرا بشكل واضح في الرسائل. إن حقيقة أن من كان ذاهباً سيعود ثانية يتم التركيز عليه هنا، ومسؤولية شعبه تُرى على ضوء هذه الحقيقة العظيمة. إنها إرادة الله أن نعيش كل حياتنا من منظار العودة القريبة لابنه من السماوات. فهل نحن، مثل أهل تسالونيكي، نخدم وننتظر ذلك الحدث المجيد كمنارة هادية لنفوسنا؟ (١ تس ١: ٩، ١٠). تؤكد الكتابات المقدسة على قرب المجيء الثاني للمسيح. إن كنا نعتبر أن ألف سنة ستفصلنا عن ذلك التحقيق المبارك لوعد الرب هذا، فكم بالحري يمكننا أن ننتظر ونترقب عودته؟ إنه لأمر يُرثى له أن نتكلّم عن "تملّك المجيء الثاني" إن كان المجيء الثاني لا يتملّكنا ويُقَولِبنا أيضاً.

الخطاب ٤٨

جُرْم الصلب

"٤٩«جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ ٥٠وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟ ٥١أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً. ٥٢لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. ٥٣يَنْقَسِمُ الأَبُ عَلَى الاِبْنِ وَالاِبْنُ عَلَى الأَبِ وَالأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ عَلَى الأُمِّ وَالْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا». ٥٤ثُمَّ قَالَ أَيْضاً لِلْجُمُوعِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ السَّحَابَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَغَارِبِ فَلِلْوَقْتِ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَأْتِي مَطَرٌ. فَيَكُونُ هَكَذَا. ٥٥وَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحَ الْجَنُوبِ تَهُبُّ تَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ. فَيَكُونُ. ٥٦يَا مُرَاؤُونَ تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَأَمَّا هَذَا الزَّمَانُ فَكَيْفَ لاَ تُمَيِّزُونَهُ؟ ٥٧وَلِمَاذَا لاَ تَحْكُمُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ؟ ٥٨حِينَمَا تَذْهَبُ مَعَ خَصْمِكَ إِلَى الْحَاكِمِ ابْذُلِ الْجَهْدَ وَأَنْتَ فِي الطَّرِيقِ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ لِئَلاَّ يَجُرَّكَ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الْحَاكِمِ فَيُلْقِيَكَ الْحَاكِمُ فِي السِّجْنِ. ٥٩أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ»" (لوقا ١٢: ٤٩- ٥٩).

في الآيات السابقة لاحظنا أن مخلصنا سيأتي ثانية وبذلك يشير على أنه كان سيغادر العالم للوقت الحالي. لقد غادر ماراً بطريق جبل الزيتون، والصليب، والقبر. لقد كان ماضياً بسبب موقف شعبه الخاص منه، بني إسرائيل، وموقف العالم عموماً: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". نقرأ في هوشع ٥: ١٥ أن الرب يقول: "أَذْهَبُ وَأَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي حَتَّى يُجَازَوْا وَيَطْلُبُوا وَجْهِي. فِي ضِيقِهِمْ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ". عندما جاء في اتضاعٍ أعلنت الملائكة مجيئه قائلين: "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ". وأما الناس فقد رفضوا الاعتراف به. لقد رُفِضَ وصُلِبَ. قال بطرس في خطابه لشعب إسرائيل: "وَالآنَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً". لم يَرَ بنو إسرائيل في المخلّصِ المتواضعِ الملكَ الذي وَعَدَت به الكتابات المقدسة النبوية.

في غيابه يجب أن يُعلن إنجيله في كل مكان. عندما يقبل الناس ذلك الإنجيل ويأتون بشكل مؤكد إلى الرب، فإنهم، وعلى منواله، سوف يُرفضون من قِبل العالم. قال المسيح في صلاته كرئيس كهنة عظيم: "لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ". أن تكون مسيحياً يعني شيئاً معيناً؛ إنه يعني أن نتطابق مع ذاك الذي رفضه العالم. وهكذا كما أبغضه العالم ورفضه نحتاج ألا نندهش إذا ما أبغضنا العالم ورفضنا نحن أيضاً- تلك هي تبعات الصليب. قبل زمنٍ عندما كان يتم التصويت على أفضل أغنية تُغنى على الراديو، وُجد أن أغنية "الصليب القاسي القديم" هي أكثر الأغاني انتشاراً كما تبدى من خلال آلاف الإجابات التي انهمرت على مكاتب أحد صحفنا الرائدة. ولكني على ثقة بأن هناك عدد كبير من الناس الذي يغنون أغنية "الصليب القاسي القديم" والذي لا يشعرون بمعنى الصليب. الغناء عن الصليب يحرك قلوبهم؛ ولكنهم لا يؤمنون أبداً بذاك الذي مات على ذلك الصليب، ولا يطابقون أنفسهم مع ذاك الذي رُفض.

في الآيات الافتتاحية من القسم الحالي يشير ربنا إلى هذا الرفض وإلى ما سيتم إنجازه على الصليب. قال: "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟” رمز النار يرمز إلى عمل الله في الدينونة ضد الخطيئة. لم يأتِ يسوع ليدين الناس بل ليخلّصهم؛ ومع ذلك فإن العالم وضع نفسه في مكان الدينونة برفضه المسيح. اختبار الله هو: "ما هو موقفك نحو ابني؟" أو "ماذا تفتكر في المسيح؟" لو قبله الناس، لو آمنوا به واتكلوا عليه، لو اتخذوا مكانهم معه، لكانوا سيدخلون في سلام وبركة؛ ولكن إذا ما رفضوه بازدراء، فعندها سيعرضون أنفسهم لغضب الله ودينونته. قال يسوع: "لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟” لقد كان يشير إلى تلك المعمودية من الدينونة الإلهية التي كان سيحملها على الصليب. لاحظنا في سياق متصل بمعمودية يوحنا أنها كانت للتوبة. عندما كان الناس يعترفون بخطاياهم كان يقودهم يوحنا إلى مياه المعمودية. لم تكن المعمودية تطهّرهم من الخطيئة بل كانت تدل على توبتهم. كان الناس يغطسون في مياه المعمودية، معترفين بأنهم خطاة وبأنهم كانوا يستحقون الموت. لقد أخذ يسوع مكانه مع هؤلاء الخطأة في هذه المعمودية، إذ غمس نفسه في الماء ليسوي مسالة خطاياهم، رغم أانه كان ذاك الذي بلا خطيئة. لقد كان الأمر وكأنه يُجيّر كل الشيكات التي كان كل هؤلاء الدائنين يعطونها لله. عندما يوقّع المرء على شيك يأتي يوم في نهاية الأمر يستوجب الاستحقاق. إن كان المدين لا يستطيع أن يدفع، فإن من يُجيّر الشيكات ينبغي عليه أن يفعل ذلك. ولقد وقّع يسوع على الشيكات عن جميع هؤلاء الناس. والآن مرت ثلاث سنوات ونصف وآن ملء الزمان عندما استوجب إيفاء الشيكات المستحقة، عندما تمت تسوية كل شيء؛ ورأى الصليب أمامه حيث كان سيذهب ليقابل كل إدعاء من قِبل الله ضد الخطأة. قال: "لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟” تأثرت روحه بعمق وهو يتطلع إلى ذلك الصليب وإلى الدينونة ضد الخطيئة التي كان سيحتملها هناك.

ذاك الصليب كان سيقسم العالم. قال الرب يسوع: "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً". ألم يأتِ ليعطي السلام؟ لقد مُنح السالم بواسطته. لو كان الناس قد قبلوه لكانوا سيتمتعون بالسلام، ولكنهم رفضوه وقاوموه بازدراء. لحوالي ألفي سنة تقريباً ساد الحرب والاضطراب بدل السلام الذي وعد به أنبياء العهد القديم من خلال مجيء المسيا. سوف لن يأتي السلام إلى أن يرجع المسيح. في هذه الأثناء سيكون هناك نزاع ومحنة: "لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. يَنْقَسِمُ الأَبُ عَلَى الاِبْنِ وَالاِبْنُ عَلَى الأَبِ وَالأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ عَلَى الأُمِّ وَالْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا". وهكذا كان الحال منذ أن غادر هذا العالم. العائلات والشعوب تحطمت وتقسمت، وكل ذلك بسبب موقفها من الرب يسوع. كثيرون منا يعرفون شيئاً من ذلك. أولئك الذين وُلدوا بينكم في عائلات حيث لم يكن الإنجيل معروفاً ومحبوباً، ومع ذلك من خلال نعمة الله بُشّرتم بالكلمة وخلصتم، تعرفون شيئاً من المقاومة المريرة لأولئك المرتبطين بكم بعلاقة حميمة قوية. لقد كل الكثيرين منكم كمّاً كبيراً من الألم والمعاناة لأجل الرب. أعضاء آخرون من عائلتكم قالوا عنكم أنكم متعصبين وحمقى لأنكم آمنتم بالمخلّص. ولكن لكم أن تمضوا متكلين عليه وأن تكونوا مخلصين له بسبب النعمة التي خلّصتكم. لقد غفر لكم، ويمكنكم أن تكونوا واثقين من تلك الحقيقة نفسها أنه مهتم بجميع عائلتكم. اطلبوا منه أن يأتي بالآخرين إليه. ولكن إلى أن يحصل ذلك انتبهوا ألا تُثبّط همتكم. قبل أن تخلصوا لم تفهموا لماذا لم يستطع المسيحيون التخلي عن كل شيء بسرور لأجل المسيح، ولذلك أنتم لستم في حاجة إلى أن تتوقعوا أن تُفهموا الآن من قِبل أولئك الذين لا يزالون في خطاياهم.

دعوني أحذّركم أنتم الذين تُعتبرون مسيحيين لتوّكم: لا تتماهوا وتتساهلوا مع العالم الذي صلب ربّكم. اشعروا دائماً بالحزن عندما يسأل أناس شبّان جديون عن إذا ما كان هناك خطأ في القيام بهذا العمل أم ذاك. من الأفضل أن تسأل: "هل سيكرّم هذا ربّي؟"، "هل سيجعلني هذا الأمر أكثر تشبهاً بالرب يسوع المسيح؟"، "هل سيجعلني هذا الأمر أكثر روحانية؟" يمكنكم أن تفعلوا بكل حرية ما تجدون أن فيه ميل ليخلق في أنفسكم تقديراً أعظم للمسيح.

إنه عائد من جديد في يوم ما. لقد مضى وهو مرفوض؛ وسيعود ممجداً. عندما جاء لأول مرة لم يستطيعوا الناس أن يتبينوا علامات الأزمنة، وهناك خطر أن نكون جاهلين بما يتعلق بمجيئه الثاني. قال يسوع: "إِذَا رَأَيْتُمُ السَّحَابَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَغَارِبِ فَلِلْوَقْتِ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَأْتِي مَطَرٌ. فَيَكُونُ هَكَذَا. وَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحَ الْجَنُوبِ تَهُبُّ تَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ. فَيَكُونُ". لقد كانت لديهم الكتابات المقدسة التي وضعها الأنبياء بين أيديهم، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يروا العلامات التي تحققت حولها. لدينا الكتاب المقدس اليوم، وهناك أشياء كثيرة تحققت تخبرنا عن العودة القريبة لربنا؛ ولكن كم قلة هم أولئك الذين يدركون ذلك! "لِمَاذَا لاَ تَحْكُمُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ؟” المعيار هو كلمة الله. ادرسوا الكتابات المقدسة وستتعلمون منها الطريف الذي يجب أن تسلكوه وأن تمرون عبر هذا العالم. "حِينَمَا تَذْهَبُ مَعَ خَصْمِكَ إِلَى الْحَاكِمِ ابْذُلِ الْجَهْدَ وَأَنْتَ فِي الطَّرِيقِ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ لِئَلاَّ يَجُرَّكَ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الْحَاكِمِ فَيُلْقِيَكَ الْحَاكِمُ فِي السِّجْنِ. أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ". بمعنى آخر، حاولوا أن تسووا هذه المسألة خارج المحكمة. لا تنتظروا حتى يوم ظهور الرب، سواء كنتم تفكرون في دينونة أولئك الذين لا يؤمنون بالمسيح عند العرش الأبيض العظيم، أو سواء كنتم في اليوم الذي سينزل به الرب من السماء وخاصته معه. لا تتركوا الأمور تستمر على ذلك النحو حتى ذلك اليوم. من الأفضل لكم أن تواجهوا كل شيء في هذه الحياة وبذلك تحصلون على اليقين من المغفرة الإلهية الآن. سيكون الوقت متأخراً جداً لتضعوا الأمور في نصابها الصحيح في الأبدية. ما من أحد مهما بذل من جهد خاص ذاتي، وبأي استحقاق يمكن أن يحققه، يمكن أبداً أن يسد مطالب العدالة الإلهية. ولكن المسيح قد دفع عن كل الذين سيتكلون عليه. مبررين بالإيمان أمما الله نحن مسؤولون أن نسلك على هذا النحو نحو إخوتنا هنا على الأرض لكي نبقي على وجدان خالٍ من الإثم نحو الله والإنسان.

الخطاب ٤٩

الدعوة إلى التوبة كشعبٍ وأفراد

"١وَكَانَ حَاضِراً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ الْجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. ٢فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هَذَا؟ ٣كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ. ٤أَوْ أُولَئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ أَتَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ ٥كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ». ٦وَقَالَ هَذَا الْمَثَلَ: «كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً وَلَمْ يَجِدْ. ٧فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هَذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟ ٨فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدُ اتْرُكْهَا هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضاً حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. ٩فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا»" (لوقا ١٣: ١- ٩).

هناك قسمان في هذا الجزء الذي أمامنا الآن. الآيات الخمس الأولى تحتوي على تحذير جليل مهيب، استناداً على حادثتين كانتا قد جرتا مؤخراً في فلسطين. ثم في الآيات ٦ إلى ٩ لدينا مثل يركز على نفسي الحقيقة التي يؤكد عليها ربنا في القسم الأول. كان الرب يخدم في مدينة كفرناحوم التي دعاها موطنه- المدينة التي كان قد نقل إليها مكان إقامته، والتي يبدو أنه اتخذها موطناً له بعد مغادرته الناصرة. بينما كان الناس يستمعون إليه، جاء البعض ليخبرونه بأمور فظيعة حدثت قبل بضعة أيام في أورشليم. كانت قد قامت ثورة على يد غيورين معينين من الجليل. وكان الحاكم الروماني، بيلاطس، قد أمر فرقة م الجنود بان تنهي هذا التمرد، فنتج عن ذلك قتل عدد من اليهود في نفس باحات الهيكل. من الطبيعي أن يكون الجليليون حزانى جداً لأجل ذلك ومهتاجين. كانوا يتساءلون لماذا سمح الله بهذا الدمار بالجملة لأنسبائهم. كان الناس يظنون أن الله رأى بعض الشر فيهم على أنه أعظم وأكبر من القوم العاديين؛ وإلا ما كان ليسمح بأن يُذبحوا على ذلك النحو. أعلن يسوع أن هذا لم يكن صحيحاً بالضرورة. الجليليون لم يُقتلوا لأنهم كانوا آثمين أكثر من الناس العاديين. ثم يُحذِّر جميع مستمعيه برزانة قائلاً: "كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ". بمعنى آخر، يُحذّرهم يسوع بأن دينونة الله هي كسيف مسلط على كل الناس غير التائبين؛ الدينونة ستقع في نهاية الأمر على كل من لم يتطهروا من خطاياهم على الإطلاق. هذه كلمات مهيبة بالفعل. يجب أن نأخذها في قلوبنا بجدية ونحن نرى هذا الانفصال الفردي والجماعي الواسع الانتشار عن الله ۱. إنه لسهل علينا كأناس وشعب، أن نجلس في حالة الرضا عن الذات والاكتفاء الذاتي في غفلة عن الأخطار المحدقة وأن نتخيل أننا في نظر الله أسمى بكثير من بعض الشعوب التي تعاني من هذا الصراع العالمي الحالي الفظيع. ولكن فوق صوت المعارك، وفوق زئير القنابل، وفوق صرخات ألم الجرحى والمحتضرين، نسمع كلمات ربنا يسوع المسيح: "كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ".

هذا الحادث الذي يرد ذكره أمامنا في هذه الآيات الثلاث الأولى كان مليئاً بالعنف، ولكن الحادث الثاني كان حادثاُ عرضياً. يتحدث يسوع عن "أُولَئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ". من الواضح أن برجاً كان فيه عيب أو خطأ قد انهار، ربما ارتج من الزلزال، وعدد من الناس قُتلوا. كان هناك ميل إلى القول: "حسنٌ، لا بد أنهم كانوا خطاة كبار حتى أن الله عرّضهم إلى هكذا موت؛ وإلا فإن الله الصالح، الكريم السموح، الخالق اللطيف، كان سيحميهم من ذلك الحادث". ولكن هذا الرأي لا يستقيم، لأن الأحداث تأتي على الصالحين والأشرار على حد سواء. الأبرار وكذلك الفُجّار يعانون منها- من الوباء، والحرائق الهائلة، والأعاصير، والاضطرابات الطبيعية من مختلف الأنواع. ولذلك فمن جديد وبخ يسوع الناس على الافتراض أن أولئك الذين ماتوا كانوا خطاة أكثر من الآخرين. فقال من جديد: "كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ".

الدعوة إلى التوبة هو أحد الحلقات المفقودة في كرازتنا في هذه الأيام. بعض إخوتنا يخشون أن يتكلموا عن التوبة، لئلا يفكر الناس بها على أنها شيء هام يستحق الاعتبار. ليست التوبة عمل استحقاق أو أهلية: التوبة هي اعتراف بأن المرء ليس له استحقاق، وأنه في ذاته خاطئ غير مستحق وعرضة لدينونة الله. اللهُ "يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا". لا يجب الخلط بين التوبة والندم. الندم هو حزن وأسف على الخطيئة، ولكن نعلم أن "الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ". إنها ليست مجرد حزن على أمر خاطئ تم ارتكابه. قد أحزن في قلبي على السوء الذي فعلته، والأذى الذي سببته لشخص آخر، ومع ذلك فقد لا أتوب إلى الله حقاً. التوبة لا يجب خلطها مع ما يسميه البعض "عملاً تكفيرياً". العمل التكفيري هو محاولة للتعويض أو للتكفير عما فعله المرء بأن يتألم طوعاً واختياراً؛ ولكن ما من ألم جسدي أو نكران للذات يمكن أن يعوض عن خطأ ارتكبناه بحق الله والإنسان. والتوبة تختلف عن الإصلاح. بعض الناس يظنون أن التوبة هي محاولة الكفّ عن الخطايا التي يرتكبونها وعيش حياة بارّة. قد يكون هناك إصلاح بدون توبة، ولكن ليس من توبة حقيقية بمعزل عن إصلاح، لأني إن تبتُ حقاً فسأسعى للتأكيد لأن أصلح سلوكي. كلمة "يتوب" تعني تغيير الذهن؛ ليس فقط تغيير وجهة نظر. إنها تختلف، مثلاً، عن تغيير المرء للحزب السياسي الذي ينتمي إليه: الإنسان يمكن أن يكون في الحزب الديمقراطي اليوم وفي الحزب الجمهوري غداً، أو العكس بالعكس- وهذه ليست توبة. التوبة هي تغيير في الذهن ينجم عنه تغيير كامل في المواقف. إن كان هناك إنسان يعيش في الخطيئة وفي تجاهل كامل لله، واعترف بخطيئته وأقرّ بالشر الذي فيه وسعى بجدية ليتحرر منه، عندما يصمم على أن يسلك، ليس بحسب الطرق القديمة أو أن يحيا كما في السابق، بل أن يتحول إلى الله الذي كان يرفضه ويضع ثقته في المخلّص- فهذه هي التوبة الحقيقية. نقرأ عن "التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ وَالإِيمَانِ الَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". الإنسان التائب، في هكذا حالة، يجد في المسيح، ليس مخلّصاً فحسب من كل خطاياه وآثامه، بل أيضاً من يعطيه حياة جديدة لكي يسلك من ذلك الآن فصاعداً بطريقة جديدة. سوف لن يحيا بعد الآن في عبودية للأشياء التي كانت تسيطر عليه وتتحكم به في الماضي.

كم يحتاج الناس إلى أن ينتبهوا إلى الدعوة إلى التوبة! الرسول بولس، من أول يوم لخدمته، شدّد على أنه يجب على كل الناس أن يتوبوا وأن يرجعوا إلى الله. أناس هذا العالم يحتاجون إلى أن يتوبوا عن خطاياهم؛ والمسيحيون يحتاجون لأن يتوبوا عن برودتهم ولامبالاتهم. في الرسائل إلى الكنائس في سفر الرؤيا، يقول روح قدس الله سبعة مرات: "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ". سبع مرات في هذه الرسائل توجه الدعوة إلى المسيحيين المعترفين لكي يتوبوا ويصححوا مسيرتهم مع الله!

الحاجة هناك هي إلى التوبة الطبيعية! ربنا يسوع دعا بني إسرائيل إلى أن يتوبوا ولكنهم رفضوا أن يسمع صوته. قال: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا ! ". بسبب رفضهم التوبة كشعب سُلّموا إلى الدينونة. آهٍ، كم يجب أن يقرع هذا المطلب ناقوس الخطر في كل أرجاء الأرض اليوم، داعياً إيانا كشعب إلى أن نتوب عن خطايا الفساد والشر والاشتهاء والعنف التي تميزنا! كم أسأنا استخدام مراحم الله ونسينا مسؤوليتنا بأن نكرمه! الحمد لله، مهما كنا بعيدين كأفراد أو شعب عن الله، لا يزال لدينا هناك أمل ورجاء في المسيح؛ ولكن إن لم تكن هناك توبة فليست هناك سوى دينونة في نهاية الأمر. بعد ذلك لدينا مثل يُظهر كيف أن إسرائيل أخفق في تكريم الله وكيف كان الله صبوراً معهم: "وَقَالَ هَذَا الْمَثَلَ: «كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً وَلَمْ يَجِدْ. فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هَذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدُ اتْرُكْهَا هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضاً حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا»". شجرة التين المغروسة في الكرم كانت الشعب اليهودي في فلسطين، والكرّام كان هو الرب. لثلاث سنوات ظلّ يخدم في رسالته بني إسرائيل: لقد انطلق يدعو الناس إلى التوبة ويكرز بملكوت الله، ولكن قلّة فقط كانت لهم آذان للسمع وقلوب للفهم. ولذلك نفذَ صبر الله؛ وقال: "اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟" ولكن الكرّام يتشفع لأجلهم قائلاً: "يَا سَيِّدُ اتْرُكْهَا هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضاً حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا". وهكذا بدأت السنة الرابعة من خدمة ربنا، والتي خلالها تابع يسوع إعلان الحق ودعوة الناس إلى التوبة. ولكن في منتصف تلك السنة قام اليهود على الرب وقاده جنود الرومان إلى الجلجلة وصلبوه. لم تكن هناك توبة جماعية للشعب، وبالنتيجة قُطعت شجرة التين: وتبعثر بنو إسرائيل في كل أصقاع الأرض. يا له من درس نتعلّمه! لقد تحمّلنا الله كشعب، ليس لثلاث سنين فقط بل لأكثر من قرن، ولا نزال ننجرف بعيداً عنه أكثر فأكثر. وسرعان ما سيصدر الحكم: "اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟" شعوب أخرى خسرت ميراثها؛ شعوب أخرى دُمرت بسبب حياة الفجور والخطيئة التي يعيشونها. فلماذا سيبقي الله علينا؟ لكن لا يزال الروح القدس يعمل؛ ولا تزال رسالة الله قائمة. ألا ليت لنا آذان للسمع وقلوب للفهم فنتجاوب، لكيما تكون هناك توبة للأفراد والجماعة، ولكي ننعطف إلى الله وهكذا نتفادى المصير المشؤوم الذي يتربص بنا.


۱. - أُلقيت هذه الخُطب خلال الحرب العالمية الثانية.

الخطاب ٥٠

تقويم شعب منحنٍ

"١٠وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ الْمَجَامِعِ فِي السَّبْتِ ١١وَإِذَا امْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضُعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ الْبَتَّةَ. ١٢فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضُعْفِكِ». ١٣وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ فَفِي الْحَالِ اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ اللهَ. ١٤فَأَجَابَ رَئِيسُ الْمَجْمَعِ وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي السَّبْتِ وَقَالَ لِلْجَمْعِ: «هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا الْعَمَلُ فَفِي هَذِهِ ائْتُوا وَاسْتَشْفُوا وَلَيْسَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ» ١٥فَأَجَابَهُ الرَّبُّ وَقَالَ: «يَا مُرَائِي أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟ ١٦وَهَذِهِ وَهِيَ ابْنَةُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هَذَا الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟» ١٧وَإِذْ قَالَ هَذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ وَفَرِحَ كُلُّ الْجَمْعِ بِجَمِيعِ الأَعْمَالِ الْمَجِيدَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُ" (لوقا ١٣: ١٠- ١٧).

إذ نتأمل في هذه الرواية نتذكر بكل ما صنعه ربنا يسوع خلال خدمته الرائعة التي دامت ثلاث سنوات ونصف، وهو يجول من مكان إلى آخر يصنع الخير ويشفي كل الذين ربطهم الشيطان، ليجد نفسه الآن في صراع مع جماعة معينة من الناموسيين المتمسكين بالشكليات في إسرائيل والذين يعطون أهمية للممارسات الشكلية والظاهرية والطقوس المقدسة والشعائر الدينية أكثر من النفس البشرية. إلا أن نفس الإنسان بالنسبة إلى الله هي أهم من جميع هذه الشعائر والطقوس والممارسات. لم يترك ربنا يسوع فرصة إلا ووبّخ وندّد فيها لهذا النوع من الرياء. وهكذا أسماه تحديداً بالفعل.

يفضل الكثير من الناس اختيار الطريق الأسهل، لأنهم لا يريدون أن يحنوا قلبهم أمام الله وأن يكونوا أبرار أمامه فيركزون على الأشياء الخارجية- حضور الكنيسة، والطقوس الدينية، كالمعمودية أو عشاء الرب، أو يطورون خدمات شعائرية. إنهم يؤكدون على هذه الأشياء أكثر من الاعتراف بالمسيح ربّاً والتركيز على خلاص البشر. هناك بعض دروس روحية نتعلمها هنا من ربنا. لقد كان يعلّم في أحد مجامع كفرناحوم يوم السبت. ربما كان هذا هو نفس المجمع الذي تم اكتشافه في أيامنا هذه. بينما كان يعلّم هناك في يوم السبت لاحظ أمامه امرأة بائسة فقيرة أشفق عليها في الحال. عَلِمَ أن "بِهَا رُوحُ ضُعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ الْبَتَّةَ". ربما كان ذلك التهاب مفاصل أو نوع من اضطراب في العمود الفقري جعلها تنحني إلى الأسفل. لا بد أنها كانت قد ذهبت إلى الأطباء وطلبت المعونة وأخفقت في الحصول عليها. ولكن ما إن نظر إليها الرب، حتى تحركت قلبه نحوها في حنو، ودَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: "يَا امْرَأَةُ إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضُعْفِكِ". ليس من الضرورة أن يكون لدينا نوع من الألم والمعاناة نحتمله ولكن الرب ينظر إلينا في حنو، وهو على استعداد لأن يقدم لنا النعمة التي نحتاج إليها، وأحيانا يشفينا إن كانت إرادته لنا هي في ذلك؛ وإن لم تكن إرادته في أن يشفينا فإنه سيعطينا النعمة التي نحتاج إليها لتؤازر نفسنا في وسط التجارب، لكي نتعلم أن نمجّد الله وسط الضيقة وأن نبتهج حتى في أمراضنا وأسقامنا.نظر يسوع إلى هذه المرأة البائسة الفقيرة بحنو، دعاها إليه. وهو يفعل نفس الأمر معنا اليوم. إنه ينظر إلينا؛ ولديه حنو نحونا، وهو يدعونا ويطلب منا أن نأتي إليه وأن نجلب إله كل عِلاتنا وهمومنا، ومصاعبنا، وما يحيرنا ويربكنا، مؤكداً لنا أنه على استعداد بأن يُعنى بنا بطريقته الخاصة العجيبة.

غادرت المرأة مكانها وتقدمت نحوه. وكانت أعين الجميع من كان في المجمع مثبتة عليها. أتخيل أنها كانت شخصاً متواضع المظهر نوعاً ما؛ وكان جسدها المحني البائس يشهد على ألمها ومعاناتها، ولكن كم تبدل كل شيء عندما جاءت ووقفت أمام الجميع! وضع الرب يديه عليها- تلك اليدين التي لطالما ارتفعتا بالبركة؛ تلك اليدين اللتان وضعهما على أين العميان، فانفتحت؛ تلك اليدان التي وُضعت على البرص، فتطهر البرص؛ تلك اليدان التي لن تلبث أن تُسمر بالمسامير على الصليب- وضع تلك اليدين على تلك المرأة البائسة، وشعرت برعشة الحياة الجديدة تسري في كل جسدها؛ وتلك المرأة التي كانت محنية الظهر اسْتَقَامَتْ فِي الْحَالِ وَمَجَّدَتِ اللهَ، كما يخبرنا الإنجيل. لقد أدركت أن ذاك الذي صنع لها تلك المعجزة لا بد أن يكون خادم الله، لأنها أدركت حقيقة أن الشفاء كان من الرب. كم دخلت عميقاً تلك المرأة إلى حقيقة ألوهية المخلص، لا أستطيع أن أقول؛ ولكنها أدركت على الأقل أن قوة الله قد قامت بتلك المعجزة. ربما نتوقع أن الجميع الحاضرين هناك كانوا سيبتهجون ابتهاجاً عظيماً، حتى أن أنشودة شكر وتسبيح تصاعدت من أفواه الجمع الذي شهد هذا التجلي لمحبة الله وقدرته. ولكن رغم أن ذلك كان صحيحاً بالنسبة إلى البعض، إلا أنه كان هناك أولئك الذين نظروا إليها بأعين مليئة بالغيرة والحسد المرير في قلوبهم. حتى رئيس المجمع كان ساخطاً ناقماً. بالنسبة له كان هذا مقاطعة خرقاء وفيها انتهاك للخدمة المقدسة. لم يتكلّم إلى يسوع وجهاً لوجه، بل التفت إلى الجمع وقال: "هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا الْعَمَلُ فَفِي هَذِهِ ائْتُوا وَاسْتَشْفُوا وَلَيْسَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ". ولكن الله يجد مجداً أكبر في تحرير من آلامهم، جسدياً وروحياً، أكثر من أي خدمة دينية شكلية سطحية. قال ربنا يسوع المسيح: "يَا مُرَائِي". هذه الكلمة "مُرَائِي" هي الكلمة اليونانية التي تُستخدم مع الممثلين، وهي تعني حرفياً "وجه ثاني". ما كان الممثلون اليونانيون يظهرون على خشبة المسرح مظهرين وجوههم أنفسهم، بل كانوا يضعون أقنعة، ولذلك فقد كان الممثل يُدعى "الوجه الثاني". أطلق ربنا الكلمة هنا على ذاك الذي لم يكن صادقاً- "يَا مُرَائِي"، يا ذو الوجهين! هكذا فضح يسوع النفاق والكذب والرياء عند هذا الرجل، الذي كان يظهر أمام الناس بشكل معين ولكن بشكل آخر تماماً أمام الله. لقد كان مختلفاً كلياً في بيته، وربما مختلفاً كلياً في عمله وفي علاقاته مع باقي الناس أكثر مما كان كرئيس للمجمع. هناك كثيرون منافقون مراؤون على هذا النحو لا يزالون: رجال ونساءٌ أيضاً، يمكن أن يكونوا أتقياء وورعين عندما يكونون في الكنيسة ولكنهم يكونون عكس ذلك عندما يُبرمون صفقات كبيرة خلال الأسبوع؛ أو أولئك الذين يجعلون الجميع بؤساء تعساء في البيت بسبب المزاج العنيف والسلوك القاسي والصعب في التعامل مع العائلة. يصوّر بنيان شخصاً كهذا قائلاً: "قديس في الخارج وشيطان في البيت". له وجهان. وجه للعامة، ووجه آخر للعلاقات الأخرى. هناك كثيرون يستاؤون إذا ما تكلم الواعظ على هذا النحو، إنهم لا يرغبون في أن تكون لديهم خطيئة تُدعى "خطيئة"؛ لا يريدون أن يزعجهم أي شيء في ما يسمّونه "ممارساتهم الدينية". لقد عرف ربنا هذا الرجل، وكشف فساد قلبه بقوله: "يَا مُرَائِي أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟ وَهَذِهِ وَهِيَ ابْنَةُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هَذَا الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟” عندما كانوا يخدمون حيواناتهم في يوم السبت لم تكن لديهم مشكلة في ذلك؛ ولكن عندما شفى يسوع امرأة بائسة متألمة وحررها من داءٍ أعجزها لثمانية عشر سنة، نظروا إلى هذا الأمر باستياء. لكن هذه المرأة كانت ابنة إبراهيم وقد قيّدها إبليس: أي، أنها كانت امرأة آمنت بالله كما فعل إبراهيم؛ لقد كانت ابنة صادقة للعهد. لم تكن يهودية بالولادة الطبيعية فقط، ولم تكن فقط منحدرة من نسل إبراهيم، بل كانت امرأة مؤمنة، رغم البلوى التي قيّدها بها الشيطان. لقد كانت تؤمن بالله؛ وكان لديها إيمان به. نقرأ أن "الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِ". لقد كانت امرأة مؤمنة والآن تمت مكافأة إيمانها. لقد شُفيت من سقمها، وأولئك الذين كان يجب أن يبتهجوا ويفرحوا راحوا يتذمرون ويدمدمون.

لاحظوا كيف أن يسوع يعزو بشكل محدد سقمها إلى الشيطان نفسه. لا يأتي المرض بشكل مباشر أبداً من الله. الله نقيٌّ بشكل لا محدود؛ ليس من فساد فيه. كل مرض، وكل داءٍ يمكن أن يصيب أي إنسان هو النتيجة المباشرة أو غير المباشرة للخطيئة. لا تسيئوا فهمي. لا أقصد القول أن خطايا المرء الذاتية الشخصية هي المسؤولة عن أمراضه. ستكون قسوة إن اتخذنا هذا الموقف الذي كان قد اتخذه أصدقاء أيوب، في أن البؤس والكارثة تأتي فقط إلى ذاك الشخص الذي تكون لديه خطيئة شخصية. ولكن ما من أحد كان ليمرض لو لم تدخل الخطيئة إلى العالم بسقوط آدم. هناك مرات عديدة يُنزل الشيطان بطرية خاصة جداً عقاباً على شعب الله، ولكنه يستطيع ذلك فقد إذا ما أعطاه الله الإذن. وهذا يظهر بشكل واضح عندما ذهب الشيطان أمام الله، وقال الله: "هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ". فأجاب الشيطان: "أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَانْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي الأَرْضِ! وَلَكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ". أعطى الله الشيطان الإذن بأن يختبر أيوب على هذا النحو، فانطلق الشيطان وأخذ كل شيء منه: أولاده، بناته، وكل ممتلكاته. الأمر الوحيد الذي تركه لأيوب هو زوجة ذات مزاج سيء؛ وكل شيء آخر كان قد مضى وذهب. ولكن أيوب رفع عينيه إلى الله وقال: "الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكاً". فوقف الشيطان أمام وجه الله مرة أخرى، فقال له الله: "هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ. وَإِلَى الآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ". فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ وَقَالَ: "«جِلْدٌ بِجِلْدٍ، وَكُلُّ مَا لِلإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لأَجْلِ نَفْسِهِ. وَلكِنْ ابْسِطِ الآنَ يَدَكَ وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ». فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَا هُوَ فِي يَدِكَ، وَلكِنِ احْفَظْ نَفْسَهُ». فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ الرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ. فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقْفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسَطِ الرَّمَادِ". يعتبر بعض الأطباء أن هذا كان شكلاً من الفُيال ۱، وهو مرض كريه يرافقه ألمٌ مُمِضّ. قالت له امرأته: "بَارِكِ اللهِ وَمُتْ!" ولكن أيوب قال: "أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟” لقد أظهر الله للشيطان أن محبة أيوب كانت له (لله) وحده. وعلى نفس النحو يُسمح للشيطان لأن يُجرّب شعب الله. يُسمح له بأن يصيبهم بالمرض؛ ولكن الرب سيحيل كل ذلك إلى بركة إن تعلّمنا أن نقبل المرض على أنه من يده بالذات وليس لأسباب أخرى.

في هذه الحالة، لاحظوا من جديد الطريقة التي يفر بها الرب المسألة: "أَمَا كَانَ يَنْبَغِي لهذه المرأة.... وقَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً أَنْ تُحَلَّ مِنْ هَذَا الرِّبَاطِ". أتلاحظون ما فعل الرب؟ لقد قوّم امرأة محنية الظهر. بالطبع كان مرضها جسدياً بدنياً، ولكن أعتقد أن هناك درساً روحياً لنا هنا. على مر كل القرون من ذلك الزمان، هذا ما كان الإنجيل يفعله- يجعل الناس المحنيين منتصبي القامة. الخطيئة تجعلنا محنيي الظهر. جميعنا ضللنا. "الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ". "لاَ إِنْسَانٌ صِدِّيقٌ فِي الأَرْضِ يَعْمَلُ صَلاَحًا وَلاَ يُخْطِئُ". إنه يرى الانحناء فينا جميعاً؛ ولكن عندما نأتي إلى المسيح يستطيع أن يقوينا. حياة بعض الناس محنية أكثر من الآخرين. بعض الناس يمكن أن يغطوا انحناءهم عن أعين إخوتهم البشر. ولكن عبثاً يحاولون أن يخفوا انحناءهم عن الله. هناك كثيرون لم يأتوا أبداً إلى موضع يستطيعون فيه أن يعترفوا بانحناءهم، ويقرون بخطيئتهم، ويواجهون حالتهم الحقيقية أمام الله. إنه يرغب أن يصنع شيئاً لهم؛ إنه يريد أن يقوّمهم، ولكنهم يرفضون أن يأتوا غليه، لأنهم لا يدركون حاجتهم إلى رحمته ونعمته.

احد أكثر الأشخاص انحناءً قد عرفته على الإطلاق كان رجلاً منحنياً في عمله. كل من تعامل معه وجد انه كان يغشهم. ولكنه عندما جاء إلى المسيح لم يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن صار الناس يقولون: "أتعرفون السيد فلان، لقد صار إنساناً مختلفاً: إنه مستقيم في كل تعاملاته". كثير من الناس منحنون أخلاقياً، وفُجّارٌ، ومستسلمين إلى عادات شريرة؛ ولكنهم جاؤوا إلى يسوع، وآمنوا به واتكلوا عليه، فجعلهم مستقيمين منتصبين. لا يمكننا أن نفعل ذلك بأنفسنا ولأنفسنا. الرب وحده يستطيع أن يُقوّمنا. إن كنتم محنيين أخلاقياً، وحاولتم أن تقوّموا أنفسكم ولم تستطيعوا ذلك، فإني أناشدكم: تعالوا على يسوع؛ انظروا إليه؛ اعترفوا بإخفاقكم وخطيئتكم له، وستجدون أنه قادر على أن يُقوّمكم. إنه ليس فقط يحسّن حياتكم القديمة؛ بل إنه يعطيكم حياة جديدة. عندما تقبلون هذه الحياة الجديدة ستتعلّمون أن تكرهوا الأشياء التي كنتم تحبونها يوماً وتتعلّمون أن تحبوا الأشياء التي كنتم تبغضونها يوماً.

بالرجوع إلى قصتنا- لدينا صورة عما يستطيع يسوع أن يفعله لكل الناس المحنيين الذين يأتون إليه- نعلم من النص أن يسوع "إِذْ قَالَ هَذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ وَفَرِحَ كُلُّ الْجَمْعِ بِجَمِيعِ الأَعْمَالِ الْمَجِيدَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُ". من الواضح أنه كان هناك كثيرون إلى جانب الرؤساء الذين كانوا معارضين ومعاندين له، وكثير من اليهود المنتقدين ليسوع والذين كانوا ساخطين، بسبب شفائه للمرأة البائسة في يوم السبت. ولكنهم أُخجلوا؛ لم يجرأوا على أن يقولوا أي كلمة أخرى. وكل الناس، أي عامة الناس- الناس الذين أحبوا أن يسمعوا كلمات يسوع وأن يروا أعمال اقتداره- "فَرِحَ كُلُّ الْجَمْعِ بِجَمِيعِ الأَعْمَالِ الْمَجِيدَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُ". الحمد لله، إنه لا يزال يقوم بالأمور المجيدة! لا يزال يقوّم الناس المحنيين؛ لا يزال يحرر الناس من أسقامهم وأمراضهم. إن كنتم، يا من تسمعون هذه الرسالة، لم تعرفوا عمل رحمة الله الرائعة في حياتكم الخاصة، فإنه يطلب منكم أن تأتوا إليه كما أنتم، وهو سوف يُقوّمكم.


۱. - الفُيال: (elephantiasis ): تضخُّمٌ وتصلُّب يُصيبان بعض أعضاء الجسم. [المترجم].

الخطاب ٥١

وجهان لملكوت الله

"١٨فَقَالَ: «مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ اللهِ وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟ ١٩يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ فَنَمَتْ وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً وَتَآوَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا». ٢٠وَقَالَ أَيْضاً: «بِمَاذَا أُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ ٢١يُشْبِهُ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ»" (لوقا ١٣: ١٨- ٢١).

نعلم من بداية هذا الإنجيل والأناجيل الإزائية الأخرى أن يوحنا المعمدان جاء يكرز بالتوبة لأن ملكوت الله كان قريباً. وانطلق الرب يسوع في الرسالة حالما بدأ خدمته. بقرون عديدة، منذ أن بدأ تشتت اليهود وعودتهم الجزئية على الأرض، كان اليهود يتطلعون إلى ملك سيحررهم من السيطرة الرومانية ويؤسس لسيادة البر على الأرض. والآن صار الملك بينهم، ولم يعرفوه. الأنبياء أنفسهم الذين أخبروا عن الملكوت تنبأوا أيضاً عن رفض الملك لدى مجيئه الأول؛ وتنبأوا بمجيء ثانٍ مجيد عندما سيعود بقوة وأُبهة ملكية فخمة، وبهذا المجيء ستنتهي سنوات نواحهم، وسيدخل إسرائيل إلى ملء البركة.

ولكن ماذا عن الفترة الفاصلة بين هذين المجيئين؟ هل سيبقى الملكوت كلياً في حالة تعليق وتعطل؛ أم سيعقد شكلاً آخر تنبأ به الأنبياء في القديم؟ هذه الأسئلة نجد إجابة لها، على الأقل جزئياً، في المثلين الذين نجدهما أمامنا الآن. هذان المثلان يدعيان هنا أمثال "ملكوت الله". نجدهما أيضاً في إنجيل متى (الأصحاح ١٣)، ولكن هناك كلمة "ملكوت السماء" هي التي تُستخدم، وهذا تعبير محدد معين خاص بالإنجيلي متى. هذه في الواقع مرادف لما ندعوه عموماً العالم المسيحي. هناك جزء كبير من العالم حيث يُقر بالمسيح ظاهرياً على أنه الملك البار الشرعي على الأرض، على الأقل. قد يكون هناك إذعان من القلب له وقد لا يكون؛ ولكن الناس يقرون معترفين بولائهم له، كما تدل بشكل واضح الأحرف التي تعني "ميم"- "في سنة ربنا"، التي نستخدمها لتاريخ كل مراسلاتنا ومستنداتنا الأخرى. "العالم المسيحي" يعني حقاً "ملكوت المسيح". هذا ما أشار إليه ربنا عندما كان يتكلم عن سر ملكوت الله. إنه الملكوت بشكل سري خفي في حين أن الملك نفسه غائب في السماء.

هناك وجهان مختلفان لهذا الملكوت يتم استحضارهما أمامنا في هذين المثلين المعطيين هنا. متى يعطي كلا المثلين، كما ذكرنا سابقاً، في سلسلة مع خمسة أمثال أخرى في الأصحاح ١٣ من إنجيله، بينما لدينا رؤوس أقلام مميزة واضحة لكل التاريخ والمبادئ الأخلاقية التي كانت تميز ملكوت السماء بينما الملك يبقى بعيداً.

"مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ اللهِ وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟ يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ فَنَمَتْ وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً وَتَآوَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا". في مكان آخر يخبرنا الإنجيل أن حبة الخردل هي أصغر أنواع البذور. وهذا لا يعني أنها أصغر أنواع البذور في عالم النبات بل هي الأصغر في فصيلة الأعشاب. ومع ذلك فإن تلك البذرة الصغيرة تنتج أضخم شجرة أعشاب على الإطلاق. إنها تنمو بسرعة كبيرة وسرعان ما تلقي ظلالها في كل مكان حولها. والآن هذه هي صورة الرب التي أعطاها ليشير إلى التطور الخارجي الظاهري لملكوت الله. هل توقفتم مرة عند هذه الفكرة وتمعنتم فيها؟ عندما صعد ربنا أولاً إلى السماء كان هناك إحدى عشر رجلاً بالتحديد مكرسين له، وكانوا يُعرفون بأنهم تلاميذه ورسله، وكان عليهم أن يحملوا الرسالة إلى العالم. كان هناك بضعة مئات من أناس آخرين في كل أرجاء اليهودية والجليل والسامرة الذين كانوا يعترفون بمزاعمه. البداية الصغيرة كانت مثل حبة الخردل، نواة الملكوت. هؤلاء الإحدى عشر كانوا قد فُوّضوا بأن يذهبوا إلى أي مكان كارزين بملكوت الله، ومخبرين عن المخلّص الذي مات ليرفع خطيئة البشر والذي صعد إلى السماء، وسيأتي ثانية ليدين العالم. تعلمون كم توسع الملكوت بسرعة. خلال فترة وجيزة بعد صعود الرب يسوع نأتي إلى يوم الخمسين، وفي ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس اعترفت علانية بولائها للمسيح. ثم خلال فترة وجيزة بعد شفاء المقعد عند باب الهيكل، صار العدد خمسة آلاف، ومع مرور الأيام خرج أناس أكثر في كل أرجاء أورشليم واليهودية لأجل المسيح. بُشّر بالإنجيل في السامرة، ومئات عديدة من السامريين آمنوا، وهكذا انطلق الإنجيل إلى العالم الأممي. الحقيقة اللافتة هي أن الإنجيل ورغم أنه كان ينافس الوثنية في أسوأ أنواعها، خلال ثلاثمئة سنة من انتشار الوثنية في الإمبراطورية الرومانية، إلا أن المسيحية أبطلت الوثنية. كُتّاب المسيحية الأوائل في ذلك الوقت كانوا يوبخون أعداء المسيحية بكلمات مثل هذه: "هياكلكم مهجورة. المسيحيون موجودون في كل مكان في كل أرجاء الإمبراطورية". ولذلك فإن الكلمة انطلقت واستمرت وانتشرت إلى أن وصلت الآن إلى ملايين لا تُحصى من الناس في العالم الذين يعترفون بالولاء إلى الرب يسوع المسيح. ولكن ربنا قال أن الشجرة نمت إلى أن "صَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً وَتَآوَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا". إن رجعنا إلى الأصحاح ١٨ من هذا الإنجيل نجد مثل الزارع الذي خرج ليزرع زرعاً، "وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَانْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَّمَاءِ". عندما يعطي ربنا التفسير لهذا المثل في الآيتين ١١ و١٢، يقول: "الزَّرْعُ هُوَ كَلاَمُ اللهِ وَالَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا". يظهر ربنا في هذه أن طيور السماء تمثل رسل الشر، وكلاء الشيطان، الذين يسعون لتدمير ما هو من الله، وليمنعوا بذرة الملكوت الصالحة من أن تحمل ثمراً في قلوب أولئك الذين يسمعون. أليس أمراً لافتاً أنه بعد فترة وجيزة من ذلك الوقت يشبه ملكوت السماء بشجرة الخردل، والتي أغصانها تنتشر بشكل واسع بطريقة لافتة، ولكن بشكل يجعل طيور السماء تجد فيها مأوى فعلياً؟ ألا يتفق هذا مع تاريخ العالم المسيحي؟ الطريقة التي خرج بها شعب بعد شعب من العتمة الوثنية إلى معرفة مخلّصنا المبارك كانت طريقة عجيبة حقاً؛ ولكن للأسف، كم من شرور عديدة كانت مخفية في الكنيسة المعترفة بالله الحي! عندما نفكر في رسل الشيطان العديدين الذين وجدوا ملجأً داخل المنظمات المسيحية والهيئات الكبيرة، والذين زرعوا البغضاء المريرة للإنجيل، وحاولا أن يبعدوا الناس عن الحق، ربما يتساءل المرء ويرتعب ويهن عزمه لو أن الرب لم يتنبأ بذلك كله.

المثل التالي يتحدث عن الخميرة التي "أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ". دعوني أوجه كلمة تحذير هنا: لا تقولوا أن الملكوت نفسه هو مثل الخمير. هذا ما يعتقد كثير من الناس. لديهم فكرة أن الخمير هو رمز للملكوت، وكما أن ربة بيت تضع الخمير في العجين، كذلك فإن الإنجيل قد عُهِد به إلى خدام المسيح ليحملوه إلى أطراف العالم؛ وسوف يستمر في الانطلاق والفعالية إلى أن يهتدي الجميع، وهذا الكون برمته سيأتي عند أقدام ربنا يسوع المسيح. يا له من أمر رائع إذا ما حصل حقاً، ولكن كتابات عديدة من الكتاب المقدس تُظهر أن الحال ليس هكذا. طرح ربنا يسوع السؤال التالي: "مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟” لقد أخبر عن التمرد المضطرد المتزايد مع اقتراب النهاية. قال: "كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا فِي أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ". العالم كله لم يهتدي في أيام نوح؛ ولن يكون العالم أيضاً مهتدياً قبل مجيء ربنا ثانية.

في مقطع سابق من هذا العرض ناقشنا معنى الخمير ورأينا أنه يمثل في الكتاب المقدس دائماً ما هو الشر، إما في الممارسة أو في العقيدة. ونجد تحذيراً في ١ كور ٥: ٦ وغلا ٥: ٩، أن "خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ". الخمير هو شر دائماً وأبداً. على ضوء هذه الحقيقة، ما الذي نراه هنا حقاً؟ لقد كان الرب يخبر عما سيحدث بعد أن يمضي إلى السماء. لقد أظهر كيف أن الملكوت كان سيمتد في كل أرجاء العالم. لقد عرف أن ملايين سيعترفون بالإيمان باسمه، وبالنسبة لهم حقه كان يجب أن يتم التعهد به. كان يجب الحفاظ عليه صافياً فطيراً. ولكنه تنبأ بأن المحاولات التي سيقوم بها المعترفون الكذبة ستكون غايتها إبعاد تلاميذه عن الحق والمجيء بهم إلى تعليم الخمير الشرير. كما إيزابيل في القديم، المرأة هنا تعمل بشكل خفي لتحرف الحق. ولذلك فإنها، وهي الكنيسة الزائفة، تخفي الخمير في طعام أولاد الله. في الرؤيا (الأصحاح ١٧) لدينا تلك المرأة الشريرة، بابل العظيمة، تركب الوحش وتسيطر على أمور هذا العالم، معترفة بأنها عروس الحمل، ولكن عليها السمة التي وضعها الله بأنها زانية كاذبة ومضطهدة للقديسين. وهذه، على ما أعتقد، هي المرأة التي نجد تصويراً لها هنا، آتية من الخارج إلى المسيحية، معترفة بأنها تعلّم الحق الذي أعلنه الله لشعبه. فكروا في تحريف الحق الواسع الانتشار. فمثلاً، أخبر يسوع تلاميذه أن يذهبوا إلى كل العالم وأن يعمدوا المؤمنين من كل الأمم. سرعان ما صار يُقال لهذا الطقس ببساطة أنه ينتج الولادة الجديدة، وتم نشر التعليم بأنه بالمعمودية فقط يمكنننا أن نضمن الخلاص. لقد أسس يسوع الطقس الثمين لعشاء الرب، لكي يتذكروه دائماً إلى أن يأتي ثانية. ولكن سرعان ما انتشر التعليم بين الناس بأن الخبز والخمر كانا يتحولان إلى نفس جسد ودم المسيح ويُقدم ذبيحة عن خطايا الأحياء والأموات. ذلك الذي عُني به أن يكون شهادة جميلة على عمل المسيح المُنجز جُعل بشكل يهدف إلى العكس. هناك آلاف مؤلفة من الناس الذين تعلّموا أن يذهبوا إلى مريم بدلاً من المسيح، ويُصلّوا إلى مريم والرسل وباقي القديسين الذين جاؤوا بعدهم، وكأن القديسين في السماء يمكن أن يسمعوا. ليس من مكان يخبرنا فيه الكتاب المقدس أن القديسين يمكن أن يسمعوا صلواتنا. الله، المُعلن في المسيح، هو الوحيد الذي يعرف قلوبنا، وهو يستطيع أن يسمع صرخات وصلوات شفاهنا. "يُوجَدُ وَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ". وصلتني صورة الأسبوع الماضي هذا، أرسلها لي أحدهم، أفترض أنه كان يرغب في تنويري. لقد كانت الصورة تمثل سُلُّمان يقودان إلى السماء. في قمة الأول بدا ما هو إشارة إلى صورة المسيح، وفي قمة الآخر، كانت صورة مريم، أمه. وفي أسفل سلّم مريم كان هناك مجموعة من الكهنة والرهبان يحثّون الناس على صعود السلم إليها لجل الخلاص. وكل هؤلاء قُوبلوا بترحيب بهيج. أولئك الذين أصروا على اتخاذ السلّم الآخر قابلوا، في قمة السلّم، المسيح عابساً بارداً وصارماً وبلا رحمة. تظهر الصورة بعض الناس يصعدون ذلك اسلّم وبعد أن يصلوا إلى منتصفه يسقطون عنه. ولكن مريم كانت مصورة على أنها مباركة بوجه لطيف محبب، تنظر إلى الأسفل في حنو إلى أولئك الناس وهم يصعدون إلى السماء. لقد كانوا يشقون طريقهم إلى السماء عبر مريم في حين أنهم ما كانوا يستطيعون فعل ذلك عبر المسيح. هذه الصورة توضح ما أقصده بإقحام خمير الخطأ في الطعام. فكّروا في ربّنا المبارك عندما قال: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". هل هو بارد صارم وغير مبالٍ؟ وهل أمه، مريم، هي الحانية المحبّة والمستعدة لمساعدة الخطأة؟ يا لها من صورة زائفة عن الإنجيل! قال يسوع وهو ينظر إلى الأمام أن ذلك "يُشْبِهُ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ". كم نحن شاكرون لأننا نستطيع أن نرجع وأن نختبر كل شيء من خلال هذا الكتاب المقدس، وأن نبتهج اليوم بأننا نعرف المسيح على أنه هو الذي نزل من مجده وأنجز العمل الذي يخلّصنا، وليعطي يقين الحياة الأبدية لكل من يؤمن به.

الخطاب ٥٢

ضيقة عظيمة

"٢٢وَﭐجْتَازَ فِي مُدُنٍ وَقُرًى يُعَلِّمُ وَيُسَافِرُ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ ٢٣فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ أَقَلِيلٌ هُمُ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ؟» فَقَالَ لَهُمُ: ٢٤«ﭐجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ يَقْدِرُونَ ٢٥مِنْ بَعْدِ مَا يَكُونُ رَبُّ الْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَابْتَدَأْتُمْ تَقِفُونَ خَارِجاً وَتَقْرَعُونَ الْبَابَ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ افْتَحْ لَنَا يُجِيبُ وَيَقُولُ لَكُمْ: لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ! ٢٦حِينَئِذٍ تَبْتَدِئُونَ تَقُولُونَ: أَكَلْنَا قُدَّامَكَ وَشَرِبْنَا وَعَلَّمْتَ فِي شَوَارِعِنَا. ٢٧فَيَقُولُ: أَقُولُ لَكُمْ لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ! تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الظُّلْمِ. ٢٨هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ مَتَى رَأَيْتُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ فِي مَلَكُوتِ اللهِ وَأَنْتُمْ مَطْرُوحُونَ خَارِجاً. ٢٩وَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَمِنَ الْمَغَارِبِ وَمِنَ الشِّمَالِ وَالْجَنُوبِ وَيَتَّكِئُونَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ. ٣٠وَهُوَذَا آخِرُونَ يَكُونُونَ أَوَّلِينَ وَأَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ». ٣١فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَهُ: «ﭐخْرُجْ وَاذْهَبْ مِنْ هَهُنَا لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ». ٣٢فَقَالَ لَهُمُ: «ﭐمْضُوا وَقُولُوا لِهَذَا الثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَداً وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أُكَمَّلُ. ٣٣بَلْ يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ الْيَوْمَ وَغَداً وَمَا يَلِيهِ لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجاً عَنْ أُورُشَلِيمَ. ٣٤يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا وَلَمْ تُرِيدُوا. ٣٥هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! وَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ»" (لوقا ١٣: ٢٢- ٣٥).

هذا الجزء من إنجيل لوقا يأتي بنا إلى الأزمة الكبيرة في تاريخ بني إسرائيل. لثلاث سنوات كان ربنا المبارك يقدم نفسه للناس على أنه الملك الموعود، ذاك الذي كان أنبياء العهد القديم قد تنبأوا بأنه سيأتي في ملء الزمان ليحكم هنا على الأرض؛ ولكنه قُبل بمعارضة متزايدة متصاعدة. من بدء البدء عارضه الرؤساء والقادة. ما كانوا ليرضون أن يعترفوا به ولا بأوراق اعتماده. لقد رفضوا بقوة أن يروا فيه المسيا الموعود. لثلاث سنوات أغلقوا قلوبهم عنه، وكان قد جاء الوقت الذي استوجب تنحية بني إسرائيل جانباً للوقت الحاضر، وأن تنطلق دعوة الله إلى العالم الأممي.

ترك يسوع الجليل وسافر ببطء نحو الجانب الشرقي من بحر الجليل ونهر الأردن، عبر الْعَشْرِ الْمُدُنِ وبيرية، لكي يصل إلى أورشليم في وقت الفصح- عشاء الفصح الأخير الذي كان سيتناوله مع تلاميذه. في نفس يوم العيد كان سيموت لأنه حمل الفصح الحقيقي. إذ انتقلوا عبر القرى وتكلموا معاً، التفت أحدهم إليه وسأله: "يَا سَيِّدُ أَقَلِيلٌ هُمُ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ؟” هذا سؤال يراود قلوب كثيرين. هل سيكون هناك بضعة فقط في السماء نسبياً، أم سيكون هناك كثيرون؟ لا يجيب الرب تماماً وبدقة على هذا السؤال هنا. هناك عدة مقاطع أخرى من الكتاب المقدس أعتقد أنها تجيب على هذا السؤال بشكل واضح جداً. إننا نعلم أن كل الأبناء الذين يموتون وهم رضع سيخلصون، لأن ربنا يسوع أعلن بشكل واضح قائلاً: "لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ". هذا، بحد ذاته، يعطينا فكرة عن الجموع الغفيرة من المفديين. ولكن بالنسبة لأولئك الذين نموا ونضجوا، سيكون هناك عدد أكبر من الذين رفضوا كلمة الله من أولئك الذين قبلوها. ما من أحد يخلص سيرفض النور الذي يعطيه الله لهم. كل هؤلاء يدانون بشكل عادل. ولكن في هذه المناسبة، أكد ربنا، وبدلاً من أن يجيب على الأسئلة، على أهمية أن نكون جديين للغاية في ما يتعلق باليوم الآتي. قَالَ لَهُمُ: "ﭐجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ يَقْدِرُونَ". هذا لا يعني أننا سنخلص بجهودنا الشخصية، لأن هذه لن تخلّصنا على الإطلاق؛ ولكن يجب أن نكون جديين عندما يُفتح باب الحياة، ونُدعى للدخول إليه، يجب أن نحرص على أن ننتبه إلى الدعوة الثمينة وألا نتجاهلها بلا مبالاة، لئلا نجد أخيراً أننا فقدنا فرصتنا.

يضيف يسوع قائلاً: "مِنْ بَعْدِ مَا يَكُونُ رَبُّ الْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَابْتَدَأْتُمْ تَقِفُونَ خَارِجاً وَتَقْرَعُونَ الْبَابَ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ افْتَحْ لَنَا يُجِيبُ وَيَقُولُ لَكُمْ: لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ!". ألا ليتنا نأخذ هذه الكلمات التحذيرية بشكل جدّي في قلوبنا اليوم لأنها تعنينا كما كانت تعني شعب إسرائيل القديم. الباب إلى ملكوت الله لا يزال مفتوحاً، ولكنه باب ضيق. ما من أحد يستطيع أن يعبر من ذلك الباب مع خطاياه التي يحملها عليه. ولكن كما أن المسيح نفسه هو الباب، فلعلنا نجد فيه انعتاقاً من خطايانا، وهكذا ندخل إلى طريق الحياة. الطريق الضيق هو طريق الإذعان للمسيح؛ طريق يتطلب نكراناً للذات واعترافاً بمسؤوليتنا لأن نحيا لأجل المسيح الذي نعمته وحدها يمكن أن تخلّصنا.

أناشدكم أن تنتبهوا إلى كلمات ربنا: "ﭐجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ". لا تدعوا شيئاً يمنعكم من أن تكونوا على يقين من خلاصكم الأبدي. بل كونوا كمثل ذلك الرجل في كتاب بنيان: "Pilgrim’s Progress "، الذي، عندما سمع عن الدمار الوشيك الذي سيصيب المدينة التي يعيش فيها وعرف أن النجاة تكون من خلال دخول ذلك الباب الصغير، رفض أن يثنيه عن عزمه أي من أبناء بلدته، فوضع أصابع يديه في أذنيه، وفرّ منهم وهو يصيح قائلاً: "الحياة! الحياة! الحياة الأبدية!" وشقّ طريقه على هذا النحو نحو ذلك النور المشرق الذي دلّه عليه المبشِّر.

يسوع يحذّر من خطر الضلال وهو يتابع خطابه قائلاً: "حِينَئِذٍ تَبْتَدِئُونَ تَقُولُونَ: أَكَلْنَا قُدَّامَكَ وَشَرِبْنَا وَعَلَّمْتَ فِي شَوَارِعِنَا". أو، كما يمكن أن يقول البعض: "لقد حضرنا إلى الكنيسة؛ ورنّمنا ترانيم الإنجيل؛ واستمعنا إلى كل العظات؛ وقدّمنا نقوداً لنساعد في المساعي الإرسالية". ولكن هذه الأمور لا تخلّص. إذ يضيف "فَيَقُولُ: أَقُولُ لَكُمْ لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ! تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الظُّلْمِ". ستتذكرون حينها في الأصحاح العاشر من إنجيل يوحنا ما يقوله ربنا "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي". والآن لاحظوا العكس. خرافه نفسها هم أولئك الذين يدخلون عبر بوابو الضيقة ويسلكون الطريق الضيق. إنهم جميع أولئك الذين آمنوا بالإنجيل. يقول عن تلك الخراف: "أَنَا أَعْرِفُهَا". لاحظوا الفرق بين هؤلاء وأولئك المذكورين هنا الذين سيقول لهم: "أَقُولُ لَكُمْ لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ! تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الظُّلْمِ". لن يكون هناك أحد سيقول له يسوع: "اعتدت أن أعرفك ولكن ما عدت أعرفك؛ عرفتك مرة، ولكنك خسرت الحق بكل الاعتراف". إن يسوع يقول لكل الضالين: "لم أعرفكم!" ما من نفس توجد تقرع الباب خارج ذلك الباب المغلق الذي كان يوماً مخلّصاًَ ثم خسر خلاصه؛ ولكن ستكون هناك آلاف مؤلفة، على ما أخشى، من الذين فكروا بأنهم مسيحيون، وأصدقاءه على الأرض ظنوا أنهم كذلك، ومع ذلك فإن الرب سيقول لهم في ذلك اليوم: "لا أعرفكم". فهم لم يولدوا حقاً من الله على الإطلاق.

كان الرب يتكلم بشكل محدد إلى أولئك الذين من بني إسرائيل والذين سمعوا رسالته، والذين قيل لهم بأنه المسيا والملك الموعود؛ ومع ذلك فإن الغالبية العظمى رفضوا أن يؤمنوا به. يقول: "هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ مَتَى رَأَيْتُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ فِي مَلَكُوتِ اللهِ وَأَنْتُمْ مَطْرُوحُونَ خَارِجاً". لاحظوا الدليل على الاعتراف الكامل لأولئك الذين دخلوا إلى العالم الآخر- سوف يعرفون إبراهيم، واسحق ويعقوب. سيرونهم رغم أنهم سيكونون على الجانب الآخر من الهاوية العظيمة؛ سيرون ما وراء الجانب السماوي من الملكوت، آباء إسرائيل، والأنبياء الذين كان اليهود يقولون أنهم يفتخرون بكتاباتهم؛ إلا أن هؤلاء أنفسهم الذين أخفقوا في معرفة الفادي عندما جاء ليحررهم، سيُغلق عليهم في الظلمة. فانتبهوا لئلا يأتي يوم ترون فيه في المجد هناك أبيكم، وأمكم، وأصدقاءكم، والأعزاء الذين عرفوا المسيح وأحبّوه؛ ومع ذلك تكونون أنتم خارجاً لأنكم لم تقبلوا المخلّص. اقبلوه الآن إن لم تقبلوه من قبل، وأنتم تسمعون الآن هذه الكلمات تطنّ في آذانكم. أنتم في حاجة إلى دمه لتغتسلوا من خطاياكم. اقبلوه الآن بإيمان. وفي اللحظة التي تفعلون فيها ذلك فإنه سيقبلكم، وتمرون من الباب الضيق. كان لدى إسرائيل هذه الفرصة ولكنهم لم يستفيدوا منها. لقد خسروا امتيازاتهم؛ ولذلك فقد اقترب ذلك اليوم الذي سيُلقون فيه خارجاً ويأخذ آخرون مكانهم. "وَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَمِنَ الْمَغَارِبِ وَمِنَ الشِّمَالِ وَالْجَنُوبِ وَيَتَّكِئُونَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ". هناك ملايين من العالم الأممي الذين دخلوا وتمتعوا بالفرح الذي ازدرى به بنو إسرائيل. وهكذا يخبرنا الإنجيل قائلاً: "وهُوَذَا آخِرُونَ يَكُونُونَ أَوَّلِينَ وَأَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ". كان بنو إسرائيل أوّلين في مخطط الله للبركة وصاروا الآن آخرين.

"فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَهُ: «ﭐخْرُجْ وَاذْهَبْ مِنْ هَهُنَا لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ»". لقد ادعوا أنهم مهتمين بتخليص حياة ربنا، ولكنهم لم يفهموا أنه ما من شيء كان ليمكن أن يسلب منه الحياة ما لم يضعها بنفسه. وإذ كان يعرف بكل هذه الأمور التي ستجري له ويفهم موقفهم المخادع الكاذب، "قَالَ لَهُمُ: ﭐمْضُوا وَقُولُوا لِهَذَا الثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَداً وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أُكَمَّلُ". أي، أنه يكمّل الخلاص. نقرأ في الأصحاح الثاني من الرسالة إلى العبرانيين أن ذاك الذي كان كاملاً في شخصه، قد كَمَّلَ رَئِيسَ خَلاَصِنا بموته على الصليب.

لقد ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وينهي شهادته هناك، حيث كان يُزمع أن يضع حياته لأجل فدائنا. وإذ فكّر بتلك المدينة- المدينة التي امتازت عن كل مدن الأرض ومع ذلك لم تعرف وقت افتقادها- صرخ قائلاً: "يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا وَلَمْ تُرِيدُوا". بهذه الكلمات يخبرنا عن توق قلب الله، ليس فقط نحو أُورُشَلِيم وشعب إسرائيل، بل لكل البشر في كل مكان حيث أشاحوا بوجههم عنه ورذلوا رسالته بلا مبالاة.

"تطلّع الرب من السماء،
ولا يزال ينظر إلى الأرض،
حيث يجول في تلك البرية،
ابنٌ مصيره الهلاك.
لقد تمرّدوا عليه وأغضبوه،
وعلى الثياب اقترعوا،
ولكن في أعماق قلبه يكمن الحب،
فإلى ظلّ جناحية أستتر".

إن كنتَ غير مخلّص بعد، فإني أناشدك، ألا تجرح قلب الله بالاستمرار في رفض ابنه. لقد أحبّك لدرجة أنه وهب المسيح ليموت عنك. فلا تمعن في إهانته أكثر برفضك لتلك العطية وقولك: "لستُ مهتماً بالمسيح". من جهة أخرى، ما من شيء آخر يمكنك أن تفعله لتسرّ قلب الله أكثر من قولك: "إني أقتبل ابنك؛ وأومن به مخلّصاً لي؛ وأقرّ به ربّاً على حياتي". مكتوبٌ "أَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ".

ثم نرى تالياً كلمات الرب التي وجهها إلى أولئك الذين رفضوا شهادته. كان ذلك الرفض نهائياً عند بني إسرائيل. لم يدركوا أنهم تجاوزوا خط الموت. قال الرب يسوع: "هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! وَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ". وصلت الضيقة إلى حد تعامل الله مع إسرائيل في ذلك العصر. ومنذ ذلك الحين فصاعداً كما نفهم من كل الأناجيل، لم تكن هناك أية محاولات لاستعادة شعب إسرائيل. لقد أغلقوا الباب على أنفسهم. ولذلك فقد تخلّى الله عنهم وأسلمهم إلى قساوة القلب. وسوف لن يتوب هؤلاء حتى يعود ربنا. ومنذ ذلك الوقت قال الرب: "بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ خَرَاباً". لقد تمت تنحية إسرائيل وما عاد شعب الله الأثير. من جهة أخرى يقدّم الله الانعتاق لكل إسرائيلي يعود إليه ويؤمن به. وليس هناك فرق، إذ "الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ". "لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ لأَنَّ رَبّاً وَاحِداً لِلْجَمِيعِ غَنِيّاً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ". في سفر أعمال الرسل نرى الرب، من خلال بطرس، يطلب من بني إسرائيل أن يخلّصوا أنفسهم من ذلك الجيل الفاجر بالاعتراف بالمخلّص الذي أنكره الشعب. إلا أن يوم استعادة شعب إسرائيل أُرجئ إلى أن يتجلّى بالمجد ذاك الذي رفضوه يوماً، وسينظرون إلى ذاك الذي طعنوه ويجثون عند قدميه تائبين.

الخطاب ٥٣

مَثَل العشاء العظيم

"١وَإِذْ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَحَدِ رُؤَسَاءِ الْفَرِّيسِيِّينَ فِي السَّبْتِ لِيَأْكُلَ خُبْزاً كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ. ٢وَإِذَا إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ كَانَ قُدَّامَهُ. ٣فَأَجَابَ يَسُوعُ وَكَلَّمَ النَّامُوسِيِّينَ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلاً: «هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السَّبْتِ؟» ٤فَسَكَتُوا. فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ. ٥ثُمَّ أَجَابَهُم وَقَالَ: «مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلاَ يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟» ٦فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُجِيبُوهُ عَنْ ذَلِكَ. ٧وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ اخْتَارُوا الْمُتَّكَآتِ الأُولَى قَائِلاً لَهُمْ: ٨«مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَإِ الأَوَّلِ لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ. ٩فَيَأْتِيَ الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهَذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ الأَخِيرَ. ١٠بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الأَخِيرِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. ١١لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ». ١٢وَقَالَ أَيْضاً لِلَّذِي دَعَاهُ: «إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ الْجِيرَانَ الأَغْنِيَاءَ لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَأةٌ. ١٣بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَادْعُ الْمَسَاكِينَ: الْجُدْعَ الْعُرْجَ الْعُمْيَ ١٤فَيَكُونَ لَكَ الطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ لأَنَّكَ تُكَافَى فِي قِيَامَةِ الأَبْرَارِ». ١٥فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَهُ: «طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزاً فِي مَلَكُوتِ اللهِ». ١٦فَقَالَ لَهُ: «إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيماً وَدَعَا كَثِيرِينَ ١٧وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ الْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُوِّينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ. ١٨فَابْتَدَأَ الْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ الأَوَّلُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ حَقْلاً وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. ١٩وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. ٢٠وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ فَلِذَلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ. ٢١فَأَتَى ذَلِكَ الْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذَلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ الْبَيْتِ وَقَالَ لِعَبْدِهِ: اخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا الْمَسَاكِينَ وَالْجُدْعَ وَالْعُرْجَ وَالْعُمْيَ. ٢٢فَقَالَ الْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ. ٢٣فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي ٢٤لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي»" (لوقا ١٤: ١- ٢٤).

من جديد نجد ربنا يُدعى إلى العشاء. وفي هذه المناسبة صاحب الدعوة يكون أَحَد رُؤَسَاءِ الْفَرِّيسِيِّينَ. لا يخبرنا الإنجيل عما إذا كان قد طلب من يسوع أن يتعشى معه ومع بعض أصدقائه بسبب اهتمام حقيقي صادق به وبرسالته، أو عما إذا كان الأمر ببساطة أنه فعل ذلك بدافع الفضول أو لكي ينتقد كلمات يسوع وتصرفه. مهما يكن من أمر، فقد قبل يسوع الدعوة، وكالمعتاد سرعان ما صار المضيف الحقيقي أكثر منه ضيفاً خاصاً فقط. أينما ذهب كان على الناس أن يعترفوا بعلو مقامه وسموه، رغم أنه كان حليماً متواضع القلب دائماً وأبداً. هناك أمر يستوقفنا في كلماته وتحمله لدرجة أن أعداءه أنفسهم كانوا يضطرون للاعتراف بسلطانه الذي كان يعلّم به.

الضيوف الآخرون في هذه المناسبة الخاصة كانوا عبارة عن عدد من الناموسيين والفريسيين الذين كانوا يراقبون يسوع عن كثب، وهم تواقون ليجدوا شيئاً يمسكونه عليه. وسرعان ما جاءت الفرصة، إذ كان هناك رجل فقير بائس مبتلٍ في يوم السبت ذاك، والذي كان قد أصيب بالاستسقاء. انعطف قلب الرب نحوه في إشفاق وحنو. من الواضح أن الرجل المريض كان يأمل أن يصنع الرب شيئاً له، ولم يُخيّب ظنه، لأن يسوع التفت إلى الضيوف الآخرين وسأل: "هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السَّبْتِ؟” لقد كان يعرف تحاملهم وآراءهم المسبقة وكيف كانوا يحاولون أن يجدوا عيباً فيه في عدة مناسبات سابقة لأنه خلّص الناس من الأمراض في أيام السبت. لقد كانوا مهتمين بالطقوس الخارجية أكثر من حاجات الإنسان، ولكن عندما وجه الرب يسوع كلامه إليه مباشرة، لم يجرأوا على الإجابة. وعندما لم يجيبوه، يخبرنا الإنجيل، أنه "أَمْسَكَ (الرجل) وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ". عرف الرب ما كان في قلوبهم؛ ولذلك التفت إليهم وسألهم: "مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلاَ يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟” كانوا ليعتبروا أنه من الملائم والصحيح أن يحرروا أحد البهائم لديهم من بؤس يقع فيه حتى يوم السبت، ولكنهم كانوا ليتجاهلوا حاجات الإنسانية المبتلية والمضايقة. لم يستطيعوا أن يجيبوه بخصوص تلك الأمور.

وإذ لم يجد جواباً عند الناموسيين والفريسيين المرتبكين، وجّه يسوع خطابه عندئذ إلى الضيوف ككل. لقد لاحظ كيف سعى كل واحد منهم ليحصل على أفضل مكان على المائدة. ونقرأ أنه "قَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ اخْتَارُوا الْمُتَّكَآتِ الأُولَى قَائِلاً لَهُمْ: مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَإِ الأَوَّلِ لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ. فَيَأْتِيَ الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهَذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ الأَخِيرَ. بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الأَخِيرِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ". لقد كان يفترض أن الآخرين ينبغي أن يفعلوا كما فعل هو. ذاك الذي كان له الحق بأن يتمتع بأعلى مقام نزل من بيت الآب إلى هذه الأرض. وهنا اتخذ مكانة وضيعة؛ ولكن في الزمن المحدد من قِبل الله أُعطي أعلى مكانة حيث يجلس الآن على يمين الآب. هو الذي يعلّمنا هذه الدروس من التواضع، ويا له من توبيخ نتلقاه على كبريائنا! نحن دائماً نتطلع إلى الاعتراف والتمييز، ونشعر بالأذى إن لم نحظى به؛ ولكن ربنا كان دائماً مستعداً ليأخذ أكثر الأماكن اتضاعاً. بالتأكيد يجب أن يشعرنا هذا بالخجل والخزي.

ثم نجد أن الرب ليس فقط علّم الضيوف درساً، بل أيضاً وإذ كان ينظر حوله رأى نوع أولئك الأشخاص الذين كانوا حاضرين. فخاطب مضيفه، وبشكل غير مباشر، كل الضيوف: "وَقَالَ أَيْضاً لِلَّذِي دَعَاهُ: إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ الْجِيرَانَ الأَغْنِيَاءَ لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَأةٌ". أليس ذلك أحد الأسباب التي نختار على أساسها ضيوفاً معينين ندعوهم؟ عندما نقيم وليمة عشاء، معظمنا يكتب قائمة بأسماء الذين سيدعوهم ويختار منهم من سيرد له المجاملة على الأرجح بدعوته له إلى بيته عندما يقيم مأدبة مشابهة. هذا هو الأمر المتبع في العالم، ولكن يجب ألا يُمارس من قِبل أولئك الذين يعترفون بأنهم يتبعون المسيح. قال: "إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَادْعُ الْمَسَاكِينَ: الْجُدْعَ الْعُرْجَ الْعُمْيَ فَيَكُونَ لَكَ الطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ لأَنَّكَ تُكَافَى فِي قِيَامَةِ الأَبْرَارِ". هذه هي القيامة الأولى- قيامة الحياة عندما سيقوم كل أولئك الذين ماتوا في الرب وسيحضرون أمام كرسي الدينونة، هناك لتتم مكافأتهم بحسب الأعمال التي صنعوها عندما كانوا في الجسد.

من الواضح أن هذا التعليم الذي أعطاه يسوع على تلك المائدة قد أثر بأحد الرجال لدرجة أنه هتف بحماسة تقية قائلاً: "طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزاً فِي مَلَكُوتِ اللهِ". بمعنى، إن كان ملكوت الله هو المجال الذي يسعى فيه الجميع إلى المكان المتواضع، وحيث الفقراء والْجُدْع هم موضع ترحيب بهيج، فبالتأكيد سيكون امتيازاً عظيماً أن يشارك المرء في هكذا شركة رائعة. رداً على ذلك سرد يسوع مثل العشاء العظيم ليظهر أن هناك بضعة فقط نسبياً من أولئك الذين على استعداد ورغبة بأن يستفيدون من الدعوة إلى تناول الخبز في ملكوت الله. فأخبر عن إنسان معين أقام وليمة عظيمة، وفي وقت العشاء أرسل خدامه لينادي الضيوف المدعوين. لكن "ابْتَدَأَ الْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ". هذه هي الطريقة التي يعامل بها الناس دعوة الإنجيل. الإنسان الطبيعي ليس له رغبة في أمور الله. امتياز المكان في وليمة الخلاص العظيمة لا يعني شيئاً له. بالنسبة له الوليمة مقامة عبثاً دون فائدة. فقط عندما يعمل روح قدس الله في قلب ووجدان الإنسان يكون مستعداً بأن يدخل ويجلس إلى وليمة الإنجيل. عندما أقام الله بمحبة المأدبة لإسرائيل، رفضوا أن يدخلوا إليها. وهذا يصح على الكثير من الأمميين اليوم. لا أعرف أي شيء آخر يتوافق عليه الناس. هم لا يتوافقون في القضايا السياسية أو المسائل الدينية، ولكنهم لا يريدون المسيح، ولا يريدون أن يخضعوا حياتهم للمخلّص الذي أمّنه الله إلى أن يبكّتهم الروح القدس على ضلالهم وعلى حالتهم البائسة المحتاجة. "فَابْتَدَأَ الْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ الأَوَّلُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ حَقْلاً وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي". إنها أعذار تافهة واهية بالفعل وحماقة كلّية. وأخيراً جاء رجلٌ شعر بأن لديه عذرٌ قويٌ مبرر. قال: "إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ فَلِذَلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ". كم من رجلٍ يسمح لزوجته بأن تحول بينه وبين الرب، وكم من امرأة تسمح لزوجها بأن يكون عائقاً بينها وبين الرب! "فَأَتَى ذَلِكَ الْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذَلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ الْبَيْتِ". لنتريث هنا. هل يغضب الله على البشر؟ يخبرنا الكتاب المقدس أن "اَللهُ يَسْخَطُ فِي كُلِّ يَوْمٍ". عندما يرفض المرء ابن الله عن عمد، فإن قلب الله يمتلئ بسخط مقدس. الله يحب ابنه ويرغب أن يرى البشر يكرّمون الابن كما يكرّمون الآب.

وإذ يستاء ويرفض أولئك الذين ازدروا بوليمته، دعا السيّد عبده وقال له: "اخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا الْمَسَاكِينَ وَالْجُدْعَ وَالْعُرْجَ وَالْعُمْيَ. فَقَالَ الْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ". هكذا كان الحال بعد تنحية بني إسرائيل، حيث توجهت دعوة الإنجيل خارجاً بشكل واسع، ولكن البيت لم يمتلئ بعد. "فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي". إنه دهر تدبيري. أتت الرسالة أولاً إلى اليهود، ولكنهم رفضوه، فانتقلت عندئذ إلى الأمميين. يقول الرسول بولس أنهم "سَيَسْمَعُونَ"، ولكن ليس جميعهم. على مدى القرون كان هناك ملايين ممن قبلوا الدعوة، ولكن البيت لم يمتلئ بعد. لا يزال هناك مكان للمزيد من الناس، والدعوة تمتد إلى كل المبتلين بالخطيئة والحزانى. أرسل السيد عبده لينفّذ أمره أن "أَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ". الخادم والعبد هنا هو الروح القدس. فهو وحده الذي يستطيع أن يلزم الناس إلى المجيء إلى المسيح. في رواية متى لوليمة العرس الخدّام هم الذين وجّهوا الدعوة. يستطيعون فقط أن يطلبوا من الناس أن يأتوا؛ ولا يستطيعون إلزامهم أو إجبارهم على المجيء. ولكن هنا نجد عبداً، وليس عبيد. وهذا العبد يلزم الناس بالمجيء بتبكيتهم على خطيئتهم وبجعله إياهم يدركون حاجتهم إلى مخلّص.

"يا لفرحي إذ خلقتني لأسمع صوتك
وأدخل إذ لي مكان هناك،
بينما آلافٌ يأخذون خيار التعاسة،
فيموتون جوعاً بدلاً أن يأتوا إليك.
كان ذلك هو نفس الحب الذي أقام الوليمة
وألزمني بالدخول إليها في لطفٍ؛
وإلا كنتُ لا أزال أرفض أن أتذوق الطعام
وأهلك في خطيئتي".

Pages