September 2014

الخطاب ٦٤

النعمة: ماهيتها وعملها

"١ثُمَّ دَخَلَ وَاجْتَازَ فِي أَرِيحَا. ٢وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ زَكَّا وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيّاً ٣وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْجَمْعِ لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ الْقَامَةِ. ٤فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. ٥فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ وَقَالَ لَهُ: «يَا زَكَّا أَسْرِعْ وَانْزِلْ لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ». ٦فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً. ٧فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذَلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ». ٨فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». ٩فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهَذَا الْبَيْتِ إِذْ هُوَ أَيْضاً ابْنُ إِبْرَاهِيمَ ١٠لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ»" (لوقا ١٩: ١- ١٠).

هذه حادثة أخرى حُفظت لأجل تنويرنا وندين بالفضل فيها كلياً للوقا، الذي كتب بإرشاد الروح القدس. لا نقرأ في أي من الأناجيل الأخرى عن هذه الزيارة إلى بيت زكا.

كان الرب يسوع يقترب من مدينة أريحا. وإذ دخل إليها كان لا بد له أن يمر على دار الجباية، التي كانت عند مدخل بوابتها على الجانب الأقرب إلى النهر. وعلى الأرجح أن هناك كان مكان عمل زكا، إذ كان رئيس الجباة. ما من أحد كان يروق له العشار أو جابي الضرائب. فهكذا إنسان كان يُنظر إليه على أنه خائن لشعبه. كان اليهود ينتظرون الوقت الذي سيظهر فيه المسيا الموعود ليحررهم من سلطة الرومان. كانوا يمقتون الإمبراطورية الاستبدادية ويكرهون دفع الضرائب لها. ومما زاد الأمر سوءاً أن منصب جابي الضرائب كان يُباع لمن يدفع أكثر. وذاك الذي ينال هذا الامتياز كان يفرض ضرائب كبيرة على الناس لكي يسترد ما دفعه لقاء المنصب ولينعم بحياة مرفهة. إن كان شريفاً نوعاً ما كان ليكسب مالاً جيداً، ولكن إن كان وغداً أو نذلاً كان سيجمع ثروة كبيرة. كان زكا رئيس الجباة، وكان غنياً. وهذا بحد ذاته يخبرنا عن قصته. نستطيع أن نفهم جيداً لماذا كان اليهود يبغضونه؛ لقد كوّن ثروة بظلم شعبه نفسه.

سمع هذا الرجل أن يسوع كان آتياً إلى مدينته. لا أعرف مدى ما عرفه عن يسوع، ربما قليل؛ ربما قال له الآخرون أن يسوع كان النبي المزمع أن يأتي إلى العالم ليعيد تأسيس مملكة إسرائيل ويعيدهم إلى الله. على كل حال، لقد سمع عن يسوع وأراد أن يراه. كان هناك أناس محتشدون حول ربنا، وزكا، إذ كان قصير القامة، لم يستطع أن يرى وجه يسوع. رَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ، أو فعلياً شجرة تين برية، وهي شجرة كثيرة الأوراق. مختبئاً بين أغصانها فكّر بأنه يستطيع أن يرى دون أن يُرى. هذا الرجل، زكا، بشكل من الأشكال، هو مثل جميعنا: لقد كان "مقزّماً". لقد كان قصيراً أو مقصّراً. يخبرنا الكتاب المقدس قائلاً: "الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ". كان زكا خاطئاً، كان مقزّماً، وفكر أن عليه أن يفعل شيئاً لكي يرى يسوع. الكثيرون لديهم هذه الفكرة. يتخيلون أن عليهم القيام بشيء خاص ما إذا ما أرادوا أن يتواصلوا مع المخلّص. جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ذلك الْمَكَانِ. توقف ونظر إلى الأعلى إلى الشجرة المورقة؛ أمكنه أن يرى ذلك الرجل الضئيل الحجم هناك على ذلك الغصن. وفي الحال ناداه باسمه. "يَا زَكَّا أَسْرِعْ وَانْزِلْ لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ". لقد كان يسوع يعرف اسمه. وفي الإنجيل نقرأ: "يدعو خرافه باسمها". ولذلك فمن الواضح أن الرب قد عرفه وعرف أنه سيستجيب إلى طلبه. نقرأ أن زكا "أَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً". ما من أحد آخر في كل أريحا دعا يسوع إلى بيته. ونقرأ في هذا الإنجيل عن أناس كثيرين يدعونه ليكون ضيفاً، وكان دائماً يقبل؛ ولا نقرأ أبداً أنه رفض دعوة. ولكن ما من أحد في هذه القرية كان مهتماً كفاية بيسوع ليعرض عليه ضيافته؛ ولذلك فإن يسوع دعا نفسه إلى منزل ذلك الرجل الذي كان يعتبره اليهود المتزمتون كبير الخطأة. واستجابة لمطلبه نقرأ أن زكا "أَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً. فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذَلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ»". لقد دعا يسوع نفسه، وسُرّ زكا بأن يستقبله في بيته. ذلك الرجل الضئيل نزل عن الشجرة بوقت أقل من الذي استغرقه في صعوده إليها، بالتأكيد. يمكننا أن نتخيله يهتف قائلاً: "يا سيدي، تفضل؛ لم أكن أحلم أبداً بشيء كهذا". وذهبا إلى البيت؛ وأُغلق الباب عليهما. كان شيء ما يجري داخل ذلك البيت لن نستطيع أبداً أن نعرفه إلى أن نصل إلى السماء. لا بد أنها كانت خبرة رائعة لهذا العشار المنبوذ المحتقر. بالتأكيد كان يسوع أميناً وصادقاً معه، وأنه أخبر زكا بضرورة أن يتوب وأن يصحح سيره مع الله.

وفي الخارج لم يستطع الناس أن يسمعوا ما كان يدور بين يسوع وزكا. هذا هو الحال دائماً عندما تلتقي نفس بالرب يسوع على نحو لصيق. شيء ما يجري بين المسيح والخاطئ لا يستطيع أحد آخر أن يدخل إليه. الأصدقاء يجرحون أحياناً بدل أن يشفوا؛ إنهم يقفون عائقاً في الطريق. يريد الرب أن يتكلم إلى الناس لوحده. ولذلك ففي هذا اليوم، وإذ كان يسوع جالساً إلى مائدة زكا، يستمتع بالطعام المعد له، كان الجمع الكبير في الخارج ينظر إلى البيت ويقول أحدهم إلى الآخر: "فكّروا بهذا الإنسان، هل هو نبي حقاً؟ يقول أنه المسيا، ولكن انظروا ما فعل؛ لقد دخل إلى بيت عشار، رجل خاطئ". أين يمكن أن يذهب أيضاً؟ ما من بيت في العالم يكون فيه خاطئ إلا ويزوره يسوع، لأنه "لاَ إِنْسَانٌ صِدِّيقٌ فِي الأَرْضِ يَعْمَلُ صَلاَحاً وَلاَ يُخْطِئُ". هؤلاء الفريسيون كانوا يعرفون أن زكا كان خاطئاً، ولكنهم كانوا يعتبرون أنفسهم أبراراً صالحين ولم يعرفوا أنهم هم أيضاً خطاة وفي حاجة إلى مخلّص.

غالباً عندما يحاول المرء أن يتكلم إلى الناس عن الرب- عن حاجتهم إلى الفداء- يبدأون بالكلام عن صلاحهم الذاتي، والإحسان الذي يقومون به، والمال الذي يقدمونه لأجل قضايا صالحة معينة؛ ويفكّرون أنهم ليسوا في حاجة لأن يتوبوا. نريد أن نقودهم إلى المسيح، ولكنهم يحاولون أن يظهروا أو يبرهنوا أنهم ليسوا خطأة وبالتالي ليس هناك حاجة لديهم إلى مخلّص. إن لم تكن خاطئاً فلا خلاص لك. إن استطعت أن تبرهن أنك لست خاطئاً، عندها أستطيع أن أبرهن لك أنه لن يكون لك مخلّص، وأنك لن تذهب أبداً إلى السماء، لأن السماء ستكون مليئة بالخطأة المفديين- خطأة تطهروا بدم المسيح الثمين. الخطأة وحدهم يحتاجون إلى الخلاص؛ ولذلك إن كنت باراً في نفسك فلن تكون لك حاجة إلى المسيح. قال يسوع أنه جاء لا ليدعو الأبرار بل الخطأة إلى التوبة. هؤلاء الفريسيون لم يدركوا أنهم خطأة. كانوا يعلمون أن ذلك الرجل داخل المنزل (زكا) كان خاطئاً، لأن كل العشارين كانوا خطأة، ولكن ليس هكذا حال الناس مثل الفريسيين. لقد كانوا يفتخرون ببرهم الذاتي. في أش ٦٤: ٦ نعلم أن كل برنا ما هو إلا ثوب عدّة. وهذا لا يعني أن الأسمال تصير نجسة بمجرد ملامستها لتراب الشوارع. بل إنها تشير إلى الثياب التي تتنجس بذاك الذي ينضح منها، كما من قروح الأبرص. لا يهم كم هي جميلة تلك الثياب، ولا يهم كم هو فاخر نسيجها، فهي جميعها ملوثة بالفساد الذي في داخلها. لن تشكر شخصاً يأتيك بثوب جميل يخص صديقاً أبرص مات وأوصى لك بالثوب. لا. بل ستقول: "خذه عني؛ إنه نجس قذر. لا أريده؛ إنه ملوث بنجاسة البرص". حسنٌ، هكذا ينظر الله إلى برنا ذاتنا. قلوبنا شريرة، ومع ذلك فإننا نتجنب الناس الآخرين ونفتخر بأنفسنا بأننا أفضل منهم. نقول: "قفْ مكانك بعيداً عني، لأني أقدس منك". ولكن الكلمة تقول: "لاَ فَرْق، إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ". البعض يدرك إثميته؛ وآخرون لا يدركون ذلك، ولكن عيني الله المقدستين تريان كل شيء على حد سواء. كان زكا خاطئاً. نعم، لقد شاء يسوع أن يكون ضيفاً عند رجل خاطئ. أولئك الذين كانوا ينتقدون زكا كان أيضاً خطأة، ولكنهم ما كانوا يدركون حاجتهم إلى مخلّص كما فعل زكا.

وما هي إلا برهة حتى انفتحت أبواب البيت على مصراعيها. وخرج زكا إلى نور النهار من جديد، وإلى جانبه كان يسوع. كان الجمع يتعجب مما يجري، ومن الواضح أن زكا عرف ما كان في قلب هؤلاء الفريسيين. لقد عرف كيف كان مبغضاً ومكروهاً، لقد عرف كيف كان محتقراً. ولكنه أمضى ساعة أو اثنتين لوحده مع يسوع، وجرى شيء ما لهذا الرجل غيّر كل شيء. قال زكا: "هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ". لا يتفق المفسرون حول إذا ما كان زكا قد تكلم عن عما يميز حياته، أو عما إذا كان قد أعلن نواياه بخصوص المستقبل. ولكن ثروته أعلنت أنه لم يكن شريفاً. أفترض من ذلك أنه وصل إلى معرفة نعمة الله في المسيح، وهذه النعمة غيّرت قلبه وكل موقفه. لقد قال: "من الآن فصاعداً سيكون كل شيء مختلفاً؛ سوف أوزع أموالي على الفقراء؛ وفوق كل ذلك، إن جاء أحد إليّ وأثبت أني أخذت منه شيئاً باتهام كاذب، فإني سأرد له ما أخذته منه ظلماً أربعة أضعاف". "فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ﭐلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهَذَا الْبَيْتِ". لماذا؟ هل بسبب إعطائه نصف ممتلكاته للفقراء؟ لا. هل بسبب أنه سيعيد إلى الآخرين أربعة أضعاف؟ لا. إذاً لماذا؟ "ﭐلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهَذَا الْبَيْتِ إِذْ هُوَ أَيْضاً ابْنُ إِبْرَاهِيمَ". يخبرنا الإنجيل أن أولئك الذين لديهم إيمان يتباركون بإبراهيم المؤمن. هذا الخاطئ البائس، هذا العشار المحتقر المرذول، كان له إيمان حقيقي بالرب يسوع المسيح ورأى فيه ابن الله ومخلّصه، وهكذا جاء الخلاص إلى بيته. النعمة خلّصته وغيّرت كل موقفه.

"لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ". كان هذا هو ذات الهدف الذي لأجله جاء يسوع إلى الأرض. لقد كان دائم البحث عن الخطأة الذين كانوا يعرفون حاجتهم وكانوا مستعدين لأن يخلصوا. ولا تزال هذه رسالته الثمينة العظيمة. رغم أنه جالس إلى عرش الآب إلا أنه يعمل بالروح القدس في قلوب خدّامه وهم ينقلون النبأ السار إلى الضالين، فيخبرونهم عن الخلاص من الخطيئة ودينونتها من خلال الإيمان بذاك الذي مات ليفتديهم.

الخطاب ٦٥

عندما يعود المَلِكُ ليحكم

"١١وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هَذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلاً لأَنَّهُ كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَالِ.١٢فَقَالَ: «إِنْسَانٌ شَرِيفُ الْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكاً وَيَرْجِعَ. ١٣فَدَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ وَقَالَ لَهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِيَ. ١٤وَأَمَّا أَهْلُ مَدِينَتِهِ فَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ فَأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ سَفَارَةً قَائِلِينَ: لاَ نُرِيدُ أَنَّ هَذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا. ١٥وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَمَا أَخَذَ الْمُلْكَ أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أُولَئِكَ الْعَبِيدُ الَّذِينَ أَعْطَاهُمُ الْفِضَّةَ لِيَعْرِفَ بِمَا تَاجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ. ١٦فَجَاءَ الأَوَّلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ مَنَاكَ رَبِحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ. ١٧فَقَالَ لَهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشْرِ مُدُنٍ. ١٨ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي قَائِلاً: يَا سَيِّدُ مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. ١٩فَقَالَ لِهَذَا أَيْضاً: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدُنٍ. ٢٠ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ الَّذِي كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيلٍ ٢١لأَنِّي كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ. ٢٢فَقَالَ لَهُ: مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ ٢٣فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ الصَّيَارِفَةِ فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِباً؟ ٢٤ثُمَّ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: خُذُوا مِنْهُ الْمَنَا وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ الْعَشَرَةُ الأَمْنَاءُ. ٢٥فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ. ٢٦لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. ٢٧أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي»" (لوقا ١٩: ١١- ٢٧).

كان ربنا المبارك قد اجتاز أريحا وقطع شوطاً في طريقه إلى أورشليم. كان يعلم أن كثيرين كانوا يتوقعون منه أن يؤسس في الحال الملكوت الذي لطالما تنبأ به الأنبياء. كان يتوقع الكثير من اليهود منه أن يدخل إلى المدينة الملكية ويعلن نفسه مسيا إسرائيل. كانوا يتوقعون منه أن يترأس جيشاً من الغيورين اليهود وأن يطرد الرومان، ويعتلي عرش أبيه داود ويبدأ حكمه على جبل صهيون. كانت هذه توقعات في العهد القديم للمستقبل. ولكن خلال الدهر الحالي لا يأتي ملكوت الله بظهور خارجي؛ الملكوت يُدرَك الآن بالإيمان. إنه ملكوت روحي في قلوب الرجال والنساء الذين يولدون من فوق، ويقرون بسلطان الرب يسوع المسيح. يُكرز بالإنجيل لكي يخلص الناس ويملكوا معه عندما يعود.

روى الرب يسوع مثلاً ليوضح أن ملكوته ما كان ليؤسس في مجيئه الأول بل سيتبدى عندما يعود: أي، في مجيئه الثاني. هذا المثل كان يستند على حادثة تاريخية حقيقية جرت قبل وقت قصير، وكان الناس على معرفة جيدة بها. عندما مات الملك هيرودس، أي هيرودس الذي كان يحيا عندما وُلد ربنا يسوع المسيح، والذي أصدر المرسوم بأن يُقتل كل أطفال بيت لحم، كان قد أوصى بأن يخلفه أرخيلاوس على العرش. ولكن اليهود كانوا يكرهون هذا الرجل ولم يريدوا أن يحكم عليهم، ولذلك فقد عبر البحر إلى روما ليتشاور مع أغسطس قيصر، ويضمن موافقته وتأييده فيما يتعلق بالمملكة. قبل أن يذهب عهد بمبالغ كبيرة من المال لعدد من أصدقائه وأعطاهم تعليمات عن كيفية استخدام هذا المال في غيابه ليكسب أصدقاء آخرين يؤيدون مصالحه ويكونون على استعداد للاعتراف بمطالبه. ولكن اليهود الذين كانوا يكرهونه أرسلوا رسولاً وراءه وقال هذا لقيصر: "لا نريد لهذا الإنسان أن يملك علينا. إنه قاسٍ؛ وإننا نكره كل أفراد عائلته". تشاور أرخيلاوس مع الإمبراطور، وضمن موافقته وتأييده وعاد في النهاية إلى أورشليم ليعلن ملكاً على اليهودية. ثم أرسل وراء الخدام والوكلاء الذين كان قد ائتمنهم على ماله وسألهم عن استخدامهم له، وكافأهم بحسب أمانتهم لمصالحه. بعد ذلك جمع أعداءه الذين صمموا ألا يعترفوا به ملكاً وقتل كثيرين منهم.

كان كل هذا حياً في فكر الناس، لأن هذا حدث عندما كان يسوع لا يزال غلاماً صغيراً. فاستند في مثله على تلك الحادثة، لأنه كان هناك نوع من الشبه بين ما جرى آنذاك وما سيجري مع رفضهم الحالي له وعودته المستقبلية.

"وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هَذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلاً لأَنَّهُ كَانَ قَرِيباً مِنْ أُورُشَلِيمَ وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَالِ. فَقَالَ: «إِنْسَانٌ شَرِيفُ الْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكاً وَيَرْجِعَ". "إِنْسَانٌ شَرِيفُ الْجِنْسِ". الإنْسَان شَرِيفُ الْجِنْسِ هذا هو الإنسان يسوع المسيح، وقد ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ. لقد ذهب إلى بيت الآب، ليس مثل أرخيلاوس ليتشاور مع حاكم أرضي معين، بل ذهب ليتشاور مع أبيه وليبقى معه هناك إلى أن يحين الوقت الملائم ليستلم الملك. قبل أن يسافر ذلك الإنْسَان شَرِيفُ الْجِنْسِ "دَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ وَقَالَ لَهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِيَ". لقد عهد ربنا المبارك لكل خدامه بكنز معين، مواهب معينة، قدرات معينة، يعتبرنا مسؤولين عن استخدامها جميعاً لأجل مجده خلال فترة غيابه. كل مسيحي عُهد إليه بأمر ما يمكنه أن يستخدمه لأجل المسيح. بفرض أن لديكم موهبة التكلم العلني على الملأ: يمكنكم أن تكرزوا بالإنجيل أمام جموع كبيرة؛ يمكنكم أن تخبروا عن المخلّص الذي مات، والذي قام ثانية- إن كانت لديكم هذه الموهبة فإنكم مسؤولون عن إعلان رسالة المسيح. ولكن لنفترض أنكم تقولون أنه ليسس لديكم موهبة خاصة، حسن، يمكنكم أن تحيوا لأجل المسيح في بيتكم. يمكنكم أن تعيشوا لأجله أمام أصدقائكم وأقربائكم فيدركوا أهمية الاعتراف بسلطان المسيح على حياتهم الخاصة. وربما كانت لديك موهبة الغناء. فعندها سيود منك أن تكرس صوتك لأجله، وأن تستخدم تلك الموهبة التي أعطاك إياها لكي تجعله معروفاً عند الناس. سمعت عن سيدة شابة كانت لديها موهبة من هذا النوع. كان والدها قد صرف مبالغ كبيرة من المال ليؤهلها للغناء الأوبرالي على المسرح، ولكن بينما كانت تكمل دراستها الموسيقية- إن كنتم تستطيعون أبداً أن تكملوا دراسة موسيقية- خلصت في اجتماع خاص وسلّمت حياتها للرب. عندما عادت إلى البيت، قالت: "يا أبي، ما عدت أستطيع أن أستمر في الغناء الأوبرالي الآن: لقد خلّصني المسيح؛ وأسلمت حياتي له. لقد أعطاني موهبة الصوت، والآن أريد أن أستخدمها لأجله". استشاط والدها غضباً؛ وقال لها أخيراً: "يا ابنتي، سوف أعطيك فرصة واحدة أخرى. لقد رتبنا لحفل عظيم لنرحب بك في البيت- حفلة تخرجك. وسيكون أصدقائك هنا الليلة، عندما يأتون أريدك أن تغني لهم بعضاً من تلك الأغاني الأوبرالية التي تعلّمتِها؛ وإن لم تفعلي ذلك سوف أتبرأ منك وأطردك من البيت". انتظرت الفتاة إلى أن جاء المساء. وصل أصدقاءها، وتم تقديمها لهم. جاءت الساعة عندما طُلب إليها أن تذهب إلى البيانو وأن تغني. فتمتمت صلاة في قلبها ومضت إلى الآلة الموسيقية وجلست. بعد الافتتاحية الموسيقية الأولى، راحت تغني بصوتها الجميل المدرب منشدة:

"لا مجال للمرح أو العبث هنا،
لا ولا للرجاء والخوف الدنيويين،
طالما أن الحياة سرعان ما تنقضي؛
ذلك أنه إن كان الديان واقفاً على الباب،
فكل البشر لا محالة سيقفون،
أمام ذاك العرش الذي لا يرحم".

غنّت المقاطع الأربعة من تلك الترنيمة الويزلية القديمة. وبعد أن انتهت نهضت عن البيانو، متوقعة أن يطردها والدها من البيت، ولكنه جاء إليها والدموع تنهمر من عينيه وقال: "يا ابنتي، أنا أيضاً أريد أن أعرف مخلّصك". مكافأة تكريسها لصوتها للرب كانت ربح والدها نفسه للمسيح. لدينا جميعاً مواهب موكلة إلينا علينا أن نستخدمها لصالح الرب خلال فترة غيابه.

كما الحال مع أرخيلاوس، نقرأ عن أولئك الذين أبغضوا ربنا وأرسلوا إليه رسولاً يقول: "لاَ نُرِيدُ أَنَّ هَذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا". لا أغالي إن قلت أن ذلك الرسول لم يكن سوى استفانوس، أول شهيد في المسيحية، الذي ذهب إلى الرب ليحمل شهادة لأنهم لا يريدون يسوع أن يملك عليهم. لقد رجموا استفانوس حتى الموت بسبب رسالته. وذهب ليكون مع المسيح ولينقل قرار الناس.كان هذا هو موقفهم آنذاك، ولا يزال لديهم نفس الموقف طوال القرون منذ ذلك الحين. لقد قالوا: "لا ملك علينا سوى قيصر". لقد رفضوا الاعتراف بيسوع كحاكم شرعي عليهم، ولذلك فإنهم لا يزالون على حالهم من عدم الإيمان.

إذ كان ربنا يتطلّع إلى مجيئه الثاني، قال: "لَمَّا رَجَعَ بَعْدَمَا أَخَذَ الْمُلْكَ أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أُولَئِكَ الْعَبِيدُ الَّذِينَ أَعْطَاهُمُ الْفِضَّةَ لِيَعْرِفَ بِمَا تَاجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ". لا يُذكر عملياً سوى ثلاثة أشخاص منهم، على سبيل المثال. "جَاءَ الأَوَّلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ مَنَاكَ رَبِحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لَهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشْرِ مُدُنٍ". بالاستثمار الحكيم والحريص بالوكيل الأول حصل على ربح كبير على ما ائتُمن عليه. أمانته ومصداقيته أقر بها سيده، وكوفئ بناء على ذلك. هذا يفترض بالطبع الطريقة التي سيُعوض بها على خدام المسيح الأمناء لدى عودته مكافأة لهم على ما صنعوه لأجله خلال غيابه. إن كنت أميناً حتى على القليل الآن، فلسوف تملك معه بقوة عندئذ. مقياس سلطتنا في رفقتنا له عندما يرجع ستكون بحسب مقياس تكرّسنا له الآن.

وجاء الخادم الثاني وقال: "يَا سَيِّدُ مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لِهَذَا أَيْضاً: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدُنٍ". ليس للجميع نفس الفطنة والذكاء، ولا نفس المواهب والإمكانيات. إلا أن هذا الرجل، أيضاً، تصرّف بحكمة وباهتمام بمصالح سيده. لم تكن المكافأة كبيرة كمثل الحالة الأخرى، ولكنها كانت تتناسب مع المكسب الذي نتج عن النشاط العملي للوكيل. كما ترون، تُعطى لنا المكانة بحسب العمل المُنجز. أخشى أن يكون بيننا الكثير من المسيحيين الذين يعرفون أنهم مخلّصين ولكن سيكتشفون عند رجوع الملك أنهم هالكون للغاية لأنهم لم يقدّموا سوى القليل من الخدمة للمسيح الناكرة للذات. لقد عشنا لنستمتع للغاية. ولذلك لن يكون لدينا سوى القليل ليكافئنا عليه.

"ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ الَّذِي كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيلٍ". لقد كان خطأ غير مبرر أن يخفق هذا في الوديعة الموكولة إليه، إذ لم يدرك أنه "يُسْأَلُ فِي الْوُكَلاَءِ لِكَيْ يُوجَدَ الإِنْسَانُ أَمِيناً" (١ كور ٤: ٢). ومع ذلك فكم من مسيحيين يخفقون على نفس المنوال، إذ لا يستخدمون ما عهد الله إليهم به. الطرق النظيفة، وصادقة في العمل مهمة في عمل الله كما في الشؤون المدنية. لكأن هذا الرجل يقول: "يا سيّد، ها هو مالك. لم أفقده ولم أخسره؛ ولكني لم أستخدمه لأني كنت أخشى ألا أستطيع أن أستخدمه بشكل مرضٍ. وكنت أعلم أنك رجل صعب الإرضاء". "كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ"- "كنت أعلم أنك تطلب الكثير، ولذلك لم أحاول أن أفعل شيئاً". يظهر هذا كم كانت معرفته بسيده ضحلة. إن كان الوكيل يعتقد هكذا حقاً، فإن هذا هو السب عينه الذي كان يفرض عليه أن يكون مجتهداً في عمله، لكي يرضي من استخدمه (رو ١٢: ١١؛ أم ٢٢: ٢٩). هل بينكم من يقول: "لدي موهبة واحدة، ولا أستطيع أن أفعل سوى القليل بها؛ لا أستطيع أن أعمل بما يكفي لأن أحظى باستحسان الرب، ولذلك فإني سوف لن أفعل أي شيء على الإطلاق"؟ التفت هذا الإنْسَان الشَرِيفُ الْجِنْسِ نحو ذلك الخادم الكسول وقال له: "مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ الصَّيَارِفَةِ فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِباً؟" عذر الوكيل كان كاذباً. هو لم يعرف سيده، وهو لم يرد أن يزعج نفسه. وبخ السيد كسل وكيله بصرامة، موضحاً أنه لو كان يخشى القيام بأي استثمارات، لعله كان الأفضل له، على الأقل، أن يضع المال حيث يدر عليه فائدة فلا يقعد متبطلاً. إنه درس مفيد في الاستخدام الصحيح للمال الذي يضعه الله في أيدينا، ودرس أخلاقي أكثر وضوحاً. يجب أن نحمل المسؤولية، ليس فقط تجاه أعمال الشر الصريحة، بل أيضاً عن خطايا الإغفال والإهمال. ولذلك فقد أُخذ منه كل شيء، ووجد نفسه بدون مكافأة بسبب إخفاقه في الخدمة. ما لا يُستخدم لا تكون له فائدة، بل بالأحرى سنعاني الخسارة. بينما من يستخدمون بحكمة ما يملكون سيكافأون في المستقبل.

أستنتج من الأصحاح الرابع في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، في الواقع، أنه ما من مسيحي سيبقى بدون مكافأة، إذ نقرأ: "حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ" (٤: ٥). ولكني أخشى أن يكون هناك كثيرون بيننا ستكون مكافأتهم صغيرة جداً لأنهم لم يقوموا بخدمة ربنا يسوع المسيح فعلياً إلا بمقدار ضئيل. "إِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ". النصف الأول من الآية واضح بما فيه الكفاية ولا يحتاج إلى تعليق. والنصف الأخير ربما يُفهم بشكل أفضل إذا ما صغنا الكلمات بشكل أوضح كما يلي: من ذاك الذي لم يستخدم ما ائتُمن عليه، حتى ذلك نفسه سيؤخذ منه. الفرص المهملة تضيع إلى الأبد.

بعد ذلك أمر الإنْسَان الشَرِيفُ الْجِنْسِ بأن يُحضروا أعداءه أمامه. "أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي". وفي ذلك اليوم الذي سيأتي عند عودة المسيح، أولئك الذين يرفضون نعمته، أولئك الذين يرفضون الاعتراف به، أولئك الذين يحتقرون محبته، سيُضطرون لمعرفة دينونته "عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ، فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِياً نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللهَ". هل سكبتم قلوبكم أمامه؟ هل اعترفتم به بأنه الملك الشرعي؟ هل وضعتم ثقتكم فيه كمخلّص؟ هل تعتبرونه رباً على حياتكم؟ "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ، وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ". إن لم تعترفوا به كرباً حق شرعياً، فافعلوا ذلك اليوم. ليس الوقت متأخراً بعد. لم يرجع الملك بعد، رغم أن مجيئه قريب. سرعان ما سيعود، وعندها سيكون قد فات الأوان لتسووا أموركم معه. فلماذا لا تستفيدوا من الفرصة السانحة فتسلّموا قلبكم وحياتكم له وتعترفوا به رباً وملكاً شرعياً لكم على الأرض؟

الخطاب ٦٦

استقبال الملك

"٢٨وَلَمَّا قَالَ هَذَا تَقَدَّمَ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ. ٢٩وَإِذْ قَرُبَ مِنْ بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا عِنْدَ الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ ٣٠قَائِلاً: «اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا وَحِينَ تَدْخُلاَنِهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ قَطُّ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ. ٣١وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُلاَّنِهِ؟ فَقُولاَ لَهُ هَكَذَا: إِنَّ الرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ». ٣٢فَمَضَى الْمُرْسَلاَنِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. ٣٣وَفِيمَا هُمَا يَحُلاَّنِ الْجَحْشَ قَالَ لَهُمَا أَصْحَابُهُ: «لِمَاذَا تَحُلاَّنِ الْجَحْشَ؟» ٣٤فَقَالاَ: «ﭐلرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ». ٣٥وَأَتَيَا بِهِ إِلَى يَسُوعَ وَطَرَحَا ثِيَابَهُمَا عَلَى الْجَحْشِ وَأَرْكَبَا يَسُوعَ. ٣٦وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. ٣٧وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ ابْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ التَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ لأَجْلِ جَمِيعِ الْقُوَّاتِ الَّتِي نَظَرُوا ٣٨قَائِلِينَ: «مُبَارَكٌ الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي!». ٣٩وَأَمَّا بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ الْجَمْعِ فَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ انْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ». ٤٠فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هَؤُلاَءِ فَالْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!». ٤١وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا ٤٢قَائِلاً: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هَذَا مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ. وَلَكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. ٤٣فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ٤٤وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ». ٤٥وَلَمَّا دَخَلَ الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِيهِ ٤٦قَائِلاً لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ أَنَّ بَيْتِي بَيْتُ الصَّلاَةِ. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ». ٤٧وَكَانَ يُعَلِّمُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ مَعَ وُجُوهِ الشَّعْبِ يَطْلُبُونَ أَنْ يُهْلِكُوهُ ٤٨وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَفْعَلُونَ لأَنَّ الشَّعْبَ كُلَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقاً بِهِ يَسْمَعُ مِنْهُ" (لوقا ١٩: ٢٨- ٤٨).

نأتي الآن إلى الأيام الأخيرة للرب على الأرض. لاحظوا في الجزء الأول من هذا المقطع كيف كان الرب حريصاً على تحقيق كل ما كُتِبَ عنه في الأنبياء. في سفر زكريا (٩: ٩)، كُتِبَ قبل حوالي خمسمئة سنة أن الملك سيأتي راكباً على حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ، "اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ".

مقترباً من أورشليم، مرّ يسوع على بيت عنيا الواقعة على منحدر جبل الزيتون. قال لتلاميذه: "اذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا وَحِينَ تَدْخُلاَنِهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ قَطُّ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ". لقد كان الكلي العلم، وكان يعرف تماماً أين سيجد التلاميذ الحمار. قال لهم: "وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُلاَّنِهِ؟ فَقُولاَ لَهُ هَكَذَا: إِنَّ الرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ". هذا المهر كان مجرد بهيمة أبكم مغفل، ولكنه عرف صاحبه. نقرأ في أشعياء ١: ٣: "اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيهِ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ". المخلوقات الأدنى تسلك في خضوع لإرادة الرب. وحده الإنسان من بين مخلوقات الله- الإنسان، الذي خُلق أدنى قليلاً من الملائكة، مع قدراته اللافتة، وملكته الفكرية الرائعة- يضع نفسه في معارضة لمشيئة الله. أرسل يسوع تلاميذه إلى هناك ليأتوا بهذا المهر، ونقرأ أنه "لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَد". لقد كان مهراً غير مطوع. كما تعلمون، في العادة، يتطلب الأمر من الفارس بعض البراعة ليطوع مهراً، ولكن هنا نجد هذا المهر غير المطوع في حالة خضوع تام لإرادة خالقه. ذاك الذي كان سيمتطي المهر كان الخالق الذي بقدرته أتى المهر إلى الوجود. "فمَضَى الْمُرْسَلاَنِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. وَفِيمَا هُمَا يَحُلاَّنِ الْجَحْشَ قَالَ لَهُمَا أَصْحَابُهُ: لِمَاذَا تَحُلاَّنِ الْجَحْشَ؟" فأجابا كما أمرهما الرب، فوافق أصحاب الجحش على أن يأخذاه ويستخدماه كما رغب يسوع. "وَأَتَيَا بِهِ إِلَى يَسُوعَ وَطَرَحَا ثِيَابَهُمَا عَلَى الْجَحْشِ وَأَرْكَبَا يَسُوعَ". وهكذا بدأ ما يسمى "دخوله الظافر"، ورحب به الناس كملك عليهم وهم يرافقونه إلى داخل المدينة. "وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ ابْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ التَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ لأَجْلِ جَمِيعِ الْقُوَّاتِ الَّتِي نَظَرُوا قَائِلِينَ: مُبَارَكٌ الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي!" وهكذا يتحقق نص كتابي آخر بينما يصنع الناس كل هذا. فقبل سنين طويلة مضت، في المزمور ١١٨ (الآية ٢٦)، كُتب أن الشعب سيحيّون ملكهم صارخين وقائلين: "مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ. بَارَكْنَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ". وهكذا هتف تلاميذه والأطفال الصغار الذين سمعوا بالملك الموعود، بفرح وهو يدخل إلى مدينتهم، لأنهم ظنوا أنه سيؤسس ملكوته في الحال. كان عليهم أن يتعلموا أنه ما كان ليمكن أن يكون له ملكوت قبل الصليب؛ أن عليه أن يموت عن خطايانا قبل أن يستطيع تأسيس عرشه بقوة ومجد. ولذلك ففي الآية التالية من المزمور ١١٨ (الآية ٢٧) نقرأ: "أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ". وكان عليه أن يقدّم نفسَه ذبيحة عنا قبل أن يستطيع أن "يأخذ قوته العظيمة ويحكم".

رؤساء الدين في ذلك الشعب الذين اعترفوا بأنهم كانوا ينتظرون المسيا كانوا خارج هذا التناغم. لقد نظروا بسخط إلى ما يجري، والتفتوا إلى الرب نفسه وقالوا: "يَا مُعَلِّمُ انْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ". كانوا يريدون منه أن يرفض وينكر الادعاءات المفرطة، على حسب اعتقادهم، التي كان التلاميذ يقولون بها عن المسيح. ولكن يسوع، وبدلاً من أن يوبخ تلاميذه، وبّخ المنتقدين وقال: "أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هَؤُلاَءِ فَالْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!". أولئك الذين رحّبوا به بصرخات فرح تصرفوا كما تنبأت الكتب المقدسة. لقد تم التنبؤ من قِبل الله بأنهم سيستقبلونه على ذلك النحو. ولو لم يفعلوا ذلك لكانت الحجارة ستصرخ مرحّبة بالملك المجيد. وهكذا دخل المدينة، ولكنه لم يجد العامة على استعداد لاستقباله. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". "خاصته" مُحَيَّرة ليست بالمُذكَّر ولا بالمؤنَّث. الأولى هنا تشير إلى "ما يخصه من أشياء". والثانية شخصية وتشير إلى "أناسه الخاصين به". والمعنى "جَاءَ إِلَى ما يخصّه، وَأناسه الخاصين به لَمْ يقْبَلوه". ها إننا نراه هنا آتياً إلى مدينته، وإلى هيكله بالذات، وإلى شعبه الخاص- الشعب الذي كان ما برح ينتظره طويلاً جداً- ولكن لم يستقبله. إذ كان يعرف تماماً ما سيكون عليه موقفهم، انفطر فؤاده وهو ينظر إلى تلك المدينة ويدرك ما سيعانيه إسرائيل بالتأكيد في القرون الآتية كما في المستقبل القريب. فبكى على المدينة. لقد رأى، كما لم يستطع أحد آخر أن يفعل، كل الخطيئة والإثم الذي كان يمارسه أهل أورشليم. هذه هي أحد المرات الثلاث التي يُقال أنه بكى فيها. يا له من منظر محزن تتبدى عليه أي من مدننا العظيمة الحالية في عيون ربنا التي ترى كل شيء إذ ينظر إليها اليوم! فتحت كل تلك الفخامة الظاهرة في البناء المعماري، والمنتزهات الجميلة، والمدارس، والأماكن التجارية العظيمة، ترى عيناه القدوستين كل الخطيئة المخفية، والأنانية، والشهوات المطلقة العنان، والرذيلة والفساد، والنفاق وقسوة الوجدان التي تصرخ بصوت عالٍ مطالبة بالدينونة الآن كما الشرور التي تم التساهل معها في أورشليم استصرخت الله لأجل الدمار قبل زمن طويل. كانت أورشليم هي المدينة التي اختارها الرب ليضع اسمه هناك؛ والتي رُفض فيها. لقد فضّل رجالها ونساؤها أن يستمروا في طرقهم الفاجرة الخاصة. وإذ بكى على المدينة قال: "إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هَذَا مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ. وَلَكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ". "لَوْ عَلِمْتِ"! ولكنهم لم يعلموا. تلك كانت المشكلة مع الشعب آنذاك، وتلك هي المشكلة مع الشعب الآن: إنهم لا يعلمون. هناك رثاء مهيب في تفجع الرب هذا. لربما عرفوا، ولكن لم تكن لديهم رغبة بأن يفهموا، وهكذا توجب أن يتألموا لأجل جهلهم المتعمد. نقرأ أن بطرس قال للناس فيما يتعلق بصليب ربنا: "بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ". لم يفهموا هم ورؤساء هذا العالم. "لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ". في يوم الدينونة سوف لن نستطيع أن نقول: "لم أعرف من كان يسوع". لدينا الكلمة؛ سمعناها مراراً وتكراراً. شعب إسرائيل لم يعرف، ولأنهم لم يعرفوا، فقد حققوا ما جاء في كتبهم المقدسة برفضهم المسيا الآتي إليهم. "لَوْ عَلِمْتِ". كان الآوان قد فات! كانوا قد قسّوا قلوبهم ضده؛ لقد رفضوا نعمته مزدرين بها. والآن دينونتهم هي على الطريق. لقد قال: "سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ". لقد تنبأ بأن الجيوش الرومانية تحت حكم تيطس ستحيط بالمدينة وتقطع كل موارد المؤونة عن أهلها المحاصرين. لقد رسم يسوع تصويرياً ما صار فعلياً في التاريخ بعد أربعين سنة. لقد تحقق كل ذلك حرفياً عندما حاصر الجنود الرومان المدينة ودخلوا إليها أخيراً ودمروا أبنيتها العظيمة كما كان يسوع قد تنبأ. "يَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ". فكروا في هكذا قول! بينما كان التلاميذ ينظرون إلى تلك المدينة الضخمة بأبنيتها الفخمة والرائعة، والرب يسوع جرأ على القول أنه ما من حجر سيبقى على آخر! لا بد أن الأمر بدا، حتى بالنسبة إلى تلاميذه، وكان كلماته لن تتحقق حرفياً أبداً، ومع ذلك ففي الوقت المعين، نُفذت حرفياً فيما يتعلق بأورشليم التي صارت مجرد كومة من الركام. قبل زمن طويل كان الله قد أعلن أن "لِذَلِكَ بِسَبَبِكُمْ تُفْلَحُ صِهْيَوْنُ كَحَقْلٍ وَتَصِيرُ أُورُشَلِيمُ خِرَباً وَجَبَلُ الْبَيْتِ شَوَامِخَ وَعْرٍ" (ميخا ٣: ١٢). كلمة الله لا تخفق أبداً. كل ما أعلنه يجب أن يحصل بالتأكيد.

لاحظوا سبب كل هذا: "لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ". الله نفسه جاء إليهم بشخص ابنه، ولكنهم لم يدركوا ذلك. أخي غير المخلّص، هذا هو الوقت الذي يزورك فيه الله، فإن ترفضه، ستقف يوماً ما أمامه في الدينونة، لأنك لم تعرف يوم افتقادك.

"وَلَمَّا دَخَلَ الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِيهِ قَائِلاً لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ أَنَّ بَيْتِي بَيْتُ الصَّلاَةِ. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ»". في ذلك الهيكل كان كل شيء يشير إليه. لقد كان يسلك كابن في بيته الخاص (عب ٣: ٦) في طرده لأولئك الذين حوّلوا إلى تجارة ذلك البيت الذي كان مخصصاً للصلاة لكل الأمم. كان من المفترض تأمين وسائل الراحة للزوار الآتين من الأراضي البعيدة بواسطة الصرّافين وبائعي الحمام وغيرهم، في باحات الهيكل، ولكن بسبب الاشتهاء جعلوا من هذه الأشياء تجارة لهم وهكذا أهانوا الله.

من ذلك الوقت راح يعلّم الناس في ذلك الهيكل إلى أن جاء الوقت الذي حان فيه أن يقدم على الصليب. لكن الرؤساء راحوا يسعون لإهلاكه؛ ولم يعرفوا ما يفعلون، لأن الشعب كان مهتماً لسماعه ومنجذباً له. وبالتأكيد فإن كثيرين من الذين سمعوا كلماته وسط الجموع قد جاؤوا إلى الإيمان به في نهاية الأمر، ولعله من المؤكد أن عدداً منهم كانوا بين الجمع الكبير في يوم الخمسين عندما قبله كثيرون كمخلّص واعترفوا به رباً لهم.

الخطاب ٦٧

مثل الكرم

" ١ وَفِي أَحَدِ تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ يُعَلِّمُ الشَّعْبَ فِي الْهَيْكَلِ وَيُبَشِّرُ وَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ مَعَ الشُّيُوخِ ٢وَكَلَّمُوهُ قَائِلِين: «قُلْ لَنَا بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا أَوْ مَنْ هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ هَذَا السُّلْطَانَ؟» ٣فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَقُولُوا لِي: ٤مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟» ٥فَتَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ ٦وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ فَجَمِيعُ الشَّعْبِ يَرْجُمُونَنَا لأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ». ٧فَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ. ٨فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا». ٩وَﭐبْتَدَأَ يَقُولُ لِلشَّعْبِ هَذَا الْمَثَلَ: «إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَاناً طَوِيلاً. ١٠وَفِي الْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ عَبْداً لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ فَجَلَدَهُ الْكَرَّامُونَ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ١١فَعَادَ وَأَرْسَلَ عَبْداً آخَرَ. فَجَلَدُوا ذَلِكَ أَيْضاً وَأَهَانُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ١٢ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ ثَالِثاً. فَجَرَّحُوا هَذَا أَيْضاً وَأَخْرَجُوهُ. ١٣فَقَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ابْنِي الْحَبِيبَ. لَعَلَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ يَهَابُونَ! ١٤فَلَمَّا رَآهُ الْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا الْمِيرَاثُ. ١٥فَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ ١٦يَأْتِي وَيُهْلِكُ هَؤُلاَءِ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ لآخَرِينَ». فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «حَاشَا!» ١٧فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «إِذاً مَا هُوَ هَذَا الْمَكْتُوبُ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. ١٨كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟» " (لوقا ٢٠: ١- ١٨).

رفض العالم للمسيح هو ما يثبت مكان المسيحي في هذا العالم. فذاك الذي يدين له المؤمن بكل شيء للأبدية قد رفضوه ونبذوه وصلبوه. أولئك الذين كانوا يمثلون النظام العالمي الحالي؛ لأن اليهود والأمم اتحدوا في رفض الاعتراف به كرب وهو الذي أرسله الآب إلى العالم. هذا يتبين بشكل واضح في مثل الكرم وما يليه هنا وفي الأصحاح ٢١. لقد اختُبر العالم بالحضور الشخصي لابن الله، الذي كان قد جاء بنعمة، يطلب بركة الإنسان ويخبرهم عن محبة قلب الآب. هذا هو الذي قال الناس عنه: "لاَ نُرِيدُ أَنَّ هَذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا". مرفوضاً من الناس، صعد إلى يمين الآب، حيث ينتظر مترقباً إلى أن يصير أعداؤه موطئاً لقدميه (الآية ٣٤). في هذه الأثناء يستمر العالم على حاله دون تبدل في معارضته لملكه الشرعي، كما تبدى بكراهيته لأولئك المدعوين الآن لأن يمثلوه في هذا العالم. عندما تزال العوائق أمام النور المسيحي، فإن طبيعته الحقيقية ستتجلى، كما نرى في عدة بلدان اليوم، في كل من أوربا وشرق آسيا، حيث بدت قضية المسيح ولسنوات كثيرة في تصاعد، ولكن حيث اندلع الاضطهاد الجديد بعنف كما في فترات الماضي البعيد.

في الآيات الثمانية الأولى لدينا الجدال بين يسوع ورؤساء الكهنة، والكتبة، وشيوخ إسرائيل. قادة الشعب هؤلاء، الذين كانوا قد رفضوا منذ البدء شهادة المسيح، تجمهروا حوله الآن وهو يعلّم الناس في الهيكل: أي في باحة الهيكل الخارجية حيث كان المعلّمون يلتقون بتلاميذهم. فطرحوا سؤالاً على يسوع: "قُلْ لَنَا بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا". كانوا يشيرون إلى تطهير الهيكل الذي كان قد جرى قبل برهة قصيرة. وسألوه سؤالاً آخر: "مَنْ هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ هَذَا السُّلْطَانَ؟" لقد استاؤوا من فكرة أن مجرد نجار من قرية الناصرة الوضيعة تلك قد جرأ على أن يدخل إلى أفنية الهيكل وقام بتطهيره بطرد أولئك الذين كانوا يبيعون الحمام والحملان، الخ.، التي تقدم كذبائح، وجابهوه على هذا النحو. فأجاب يسوع: "وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَقُولُوا لِي: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟” ما علاقة هذا بسؤالهم؟ حسنٌ، إن له علاقة كاملة به. معلناً أنه أُرسل ليعد طريق الرب، كان يوحنا المعمدان قد وجه الناس إلى يسوع مشيراً إلى أنه مسيا إسرائيل. فقال: "أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ". لقد دلَّ يوحنا الناس على يسوع، قائلاً: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!". كم تبارك يوحنا بكرازته للإنجيل! سمعت أحدهم يقول أن يوحنا المعمدان لم يعرف الإنجيل أبداً، وأن كل ما كرز به كان تعليماً ناموسياً، مبكّتاً الناس على خطاياهم وداعياً إياهم ليعترفوا لكي تُغفر خطاياهم. ولكن الروايات في الكتابات المقدسة تظهر أن هذا القول كان خطأ. لم يعد يوحنا أبداً بمغفرة الخطايا عن طريق المعمودية؛ لم يكرز أبداً بأن المعمودية كان يمكن أن تطهر الناس من آثامهم. أولئك الذين جاؤوا إلى يوحنا لكي يعتمدوا لم يتبرروا بالمعمودية. في معموديتهم أقروا بخطاياهم وحاجتهم إلى مغفرة الخطايا، وحمل يوحنا الشهادة للمسيح على أنه ابن الله، حمل الله، الذي به وحده يمكن أن تُمحى كل الخطايا. كان يوحنا هو السابق ليسوع، وقد وجه الناس إلى ربنا باعتباره المسيا والمخلّص. لو قبِل هؤلاء الرؤساء يوحنا كنبي لكانوا سيعرفون من أعطى يسوع السلطان ليدخل على الهيكل ويطهره، لأنه مكتوب في العهد القديم: "يَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ" (ملاخي ٣:١). عندما طرح يسوع هذا السؤال على الناموسيين ذوي البر الذاتي، "تآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ فَجَمِيعُ الشَّعْبِ يَرْجُمُونَنَا لأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ». فَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»". لاحظوا أن ربنا لم يحاول أن يوضح الأمور لهؤلاء المرائين؛ لم يحاول أبداً أن يشرح الأسرار الإلهية لأناس ما كانوا صادقين. لو جاء الناس إليه متسائلين بجدية، وكانوا صادقين ويريدون المعونة فعلاً، لكان سيُسر بإعطائهم ما يحتاجون إليه؛ ولكن بالنسبة إلى هؤلاء الرجال الذين رفضوا عن عمد شهادته ورفضوا أن يقبلوه، فقد فعل كما أمر تلاميذه: "لاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ" (مت ٧: ٦). لم يقبل أبداً أن يرد على مماحكاتهم.

"وَﭐبْتَدَأَ يَقُولُ لِلشَّعْبِ هَذَا الْمَثَلَ: إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَاناً طَوِيلاً". الله نفسه هو الذي يمثله هنا رمزياً صاحب الكرم، الذي يمثل شعب إسرائيل (أش ٥: ١- ٧). كان الكرامون حكامهم، زمانياً وروحياً. "فِي الْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ عَبْداً لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ فَجَلَدَهُ الْكَرَّامُونَ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً". هكذا عامل الأنبياء الذين أُرسلوا إلى إسرائيل باسم الله ليدعو الناس للرجوع بالقلب إلى ناموسه؛ ومع ذلك فهم ليس فقط أداروا أذناً صمّاء لمناشداتهم، بل أيضاً اضطهدوهم لقولهم الحق (مت ٦: ١٢). "عَادَ وَأَرْسَلَ عَبْداً آخَرَ. فَجَلَدُوا ذَلِكَ أَيْضاً وَأَهَانُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً". وأُرسل مرسَلون آخرون من وقت إلى آخر، ولم يلقوا سوى نفس المعاملة بازدراء وإهانة (أع ٧: ٥٢). لقد كشف هذا كله الحالة الحقيقية لقلوب رؤساء إسرائيل.

"ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ ثَالِثاً. فَجَرَّحُوا هَذَا أَيْضاً وَأَخْرَجُوهُ". لقرون عديدة جاء نبي تلوَ الآخر، ليجني ثماراً لله، ولكن صار واضحاً أكثر فأكثر أنه لم تكن هناك رغبة لتمجيده من قِبل أولئك الذين تباركوا جداً. إذ ننظر خلفاً إلى روايات العهد القديم نجد أن هذا يتوافق تماماً مع تاريخ الأنبياء. لقد أُسيئت معاملتهم، ورُفضت شهادتهم؛ وبعض منهم قُتل، وآخرون عُوملوا بأكثر ما تكون عليه الوقاحة.

وأخيراً نجد صاحب الكرم يقول: "مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ابْنِي الْحَبِيبَ. لَعَلَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ يَهَابُونَ!". يا له من تبصر يقدمه لنا هذا إلى قلب الله! نستطيع أن نراه، وهو ينظر إلى شعب إسرائيل، ويدرك الإثم والضلال الذي فيه، ومع ذلك يقول: "سوف أرسل ابني إليهم. بالتأكيد سوف لن يعاملوه كما عاملوا الأنبياء". بالطبع كان الله يعفر تماماً ما سيحدث، ولكن هذا ما يسميه اللاهوتين "التجسيم" ۱- الله يُصور وهو يتكلم ويتصرف على مستوى بشري. في ملء الزمان أرسل ابنه (غل ٤: ٤). ذاك الذي كان مسرة قلب الآب أُرسل إلى العالم، إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل (مت ١٥: ٢٤)، ليعلن محبة إله آبائهم. لقد أساء شعب إسرائيل معاملة رسل الله؛ وقتلوا العديد منهم؛ ولكن الله أرسل ابنه ف النهاية. هل سيقبلوه ويقدمون الطاعة لكلمته؟ بدلاً من ذلك، نعلم أنه "لَمَّا رَآهُ الْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا الْمِيرَاثُ". كان هذا تجاوب الإنسان الخاطئ مع محبة الآب. بدلاً من تبجيل الابن، صمموا على التخلص منه ورفضوا الاعتراف بسلطانه.

"أَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ". يستبق ربنا هنا الأحداث التي يعرف أنها ستجري قريباً جداً. لقد أظهر لأعدائه أنه تنبأ بكل ما سيفعلون. موته كان مرسوماً مسبقاً من الله، ولكن دورهم في رفضه كان التعبير عن قلوبهم الشريرة، كما أخبرهم بطرس فيما بعد (أع ٢: ٢٣). الصورة واضحة. والآن ما هي الخطوة التالية؟ يسأل يسوع المستمعين إليه: "مَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟” كيف يجب أن يُعامل شعب تمتع بهكذا امتيازات ولكنه رفضها كلها؟ ويأتي الجواب: "يَأْتِي وَيُهْلِكُ هَؤُلاَءِ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ لآخَرِينَ". تحققت هذه الكلمات حرفياً بعد حوالي أربعين سنة من صلب ربنا يسوع المسيح، عندما سمح الله بتعامل إداني للجيش الروماني بأن يجتاح أرض فلسطين ويحاصر مدينة أورشليم ويدمرها بالكامل. وصار بنو إسرائيل مشتتين تائهين منذ ذلك الحين. لقد ضاعت عليهم الفرصة للدهر الحالي على الأقل، وأعطى الله كرمه إلى كرامين آخرين؛ والأمم يتمتعون بالبركة التي كانت لدى إسرائيل. إذ خسروا كل إدعاء تجاه الله بسبب موقفهم من المسيح، فإن بني إسرائيل بحسب الجسد يجب أن يُنحوا وأن يُعطى الكرم إلى أولئك الذين سيرجعون في يوم ما لاحق إلى الله تائبين. الدعوة هنا ليست للأمم تماماً، بل للمتجددين من بني إسرائيل في الأيام الأخيرة. يوماً ما ستكون هناك بقية تقية من بني إسرائيل سيتم استرجاعه. وخلال هذا الدهر تتم تنحيتهم بسبب رفضهم للمسيا الذي كان آتياً إليهم. والرب نفسه يعلن بان الله سيهلك هؤلاء الكرامين الأشرار ويعطي الكرم لآخرين.

"إِذاً مَا هُوَ هَذَا الْمَكْتُوبُ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ". لفت يسوع انتباه مستمعيه إلى نفس المزمور ١١٨ الذي منه أنشد الأولاد وهو داخل إلى أورشليم، حيث نجد في الآيتين ٢٢ و٢٣ الرفض الذي سيتلقاه وانتصاره اللذين تم التنبؤ بهما. بحسب التقليد اليهودي، كُتب المزمور ١١٨ تقريباً في نفس وقت اكتمال هيكل سليمان وربما أُنشد لدى تكريسه. يُقال أن المقطع الذي استشهد به يسوع ربما كان فيه إشارة إلى شي حدث خلال بناء الهيكل. يجب أن نتذكر أن الأمر استغرق سليمان سبع سنوات لبناء هذا الهيكل المجيد، وأنه كان لديه آلاف من العمال، الذين كانوا يعملون مدة ستة أشهر دفعة واحدة ثم يليهم آخرون؛ وبالتالي كان قليلاً عدد أولئك الذين كانوا في البدلاء الأُوَّل المشتركين في البناء عندما كان على وشك أن يُكمل. من سفر الملوك نعلم أن الحجارة التي بُني بها الهيكل كانت تُقطع وتُنحت بشكل مرتب في مقلع الحجارة في الأسفل قبل أن تُرسل إلى المنبسط العظيم على قمة جبل المُريّا.

يقول اليهود أن هذه الحجارة كانت عملياً وكلها بنفس القياس والشكل، وأن حجراً واحداً أُرسل كان مختلفاً جداً عن بقية الحجارة حتى احتاروا في معرفة ما يفعلون به. لم يبدُ أنه يلائم أي مكان. بعد التشاور قرروا أن خطأ ما قد وقع، ولذلك فقد وضعوا الحجر على بكرات ودفعوها إلى حافة جبل المريا وشقلبوها إلى الأسفل إلى الوادي. "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ". ولكن مع مرور الوقت وقرب الانتهاء من الهيكل، آن أوان وضع حجر الزاوية. لم يكن في المنبسط أي حجر مناسب لذلك. فأرسلوا خبراً إلى عمال مقلع الحجارة ليرسلوا لهم حجر الزاوية هذا، لأنهم كانوا على استعداد لوضعه، ولكن جاءهم الجواب أن: "لقد أرسلنه لكم قبل زمن طويل؛ لا بد أنه لديكم في موقع الهيكل". ولكن أخفق بحثهم الشامل في إيجاد الحجر. ثم قال عامل عجوز: "لقد تذكرت الآن؛ كان هناك حجر أُرسل لنا عندما بدأنا البناء أولاً، ولكننا لم نجد مكاناً له، فرشقناه إلى الهاوية. انزلوا إلى الأسفل، وستجدونه". وهكذا أرسلوا فريق بحث واكتشفوا في النهاية أنه كان به مغطى بالحطام وقد نمت الطحالب عليه. فرفعوه بجهد كبير إلى المنبسط في الأعلى ووجدوا أنه يلائم تماماً المكان المعد له. وهكذا فإن لحجر الذي رُفض صار رأس الزاوية.

"كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ". وقع شعب إسرائيل على الحجر، وتحطموا إلى كِسَر كجماعة وتبعثروا بين الأمم (أش ٨: ١٤). "وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ". عندما سيأتي للمرة الثانية سيقع الرب، كما الحجر في دا ٢: ٣٤، ٣٥، ٤٥، على شعوب الأمم العظيمة ويحطمهم إلى ركام، لكي تصبح ممالك هذا العالم ملكوت ربنا ومسيحه (رؤ ١١: ١٥).

قال الرب يسوع عملياً: "أنا هو ذلك الحجر، لأني أتيت إليكم، ولكنكم لم تعرفوا أني أنا حجر الزاوية في الهيكل الروحي الذي يوشك الله الآن على بنائه". لذلك رفضوه. لقد ألقوا به بعيداً، ولكن الله الآب أقامه من الموت وجعله رأس الزاوية. ويخبرنا بولس: "يَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ" (أف ٢: ٢٠).

"طَلَبَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ أَنْ يُلْقُوا الأَيَادِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَلَكِنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إِلَى حُكْمِ الْوَالِي وَسُلْطَانِهِ". عاجزين عن إجابته، وقد رفضوه عن عمد، انحطوا إلى أكثر الطرق خسّة ووضاعة لكي يكذّبوه ويشوّهوا سمعته أمام الناس، وراحوا يتحينون الفرصة لكي يتهموه أمام بيلاطس.

الناس لا يهلكون لأنهم لا يعرفون بشكل أفضل؛ بل يهلكون لأنهم يخطئون ضد النور الذي يعطيه الله لهم. هؤلاء الناس كان لديهم وفرة من النور، ولكنهم رفضوه. وذاك الذي هو نفسه نور العالم كان واقفاً في وسطهم، ولكن أعينهم عميت بسبب عدم الإيمان والبر الذاتي، ولم يعرفوه. ما من شيء يُظهر الفساد والشر المقيم في قلب الإنسان الخاطئ مثل حضور يسوع. قداسته تؤكد فجور الإنسان. وبره يفضح نجاستهم وإثمهم. محبته تحرّك الكراهية في الإنسان. إنه لأمر محزن أن الطبيعة البشرية الساقطة عندما جاء الله بنفسه إلى خليقته بشخص ابنه المتجسد، فإن الناس، وبدلاً من أن يلينوا بنعمته، تقسّوا بسبب صلاحه، ولم يرضوا إلى أن رأوه مسمراً على صليب الجناة. أعلن الله: "كَمَا فِي الْمَاءِ الْوَجْهُ لِلْوَجْهِ كَذَلِكَ قَلْبُ الإِنْسَانِ لِلإِنْسَانِ" (أم ٢٧: ١٩). وحدها نعمة الله العاملة في النفس هي التي تقود الإنسان إلى الإيمان بالمسيح والتوبة عن رفضه في الماضي.


۱. - التجسيم؛ التَّشبيهية: (anthropomorphism ): أي خَلْعُ الصفات البشرية على اللـه. [المترجم].

الخطاب ٦٨

يسوع يفنّد مستجوبيه

" ٢١ فَسَأَلُوهُ قَائِلِين: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ بِالاِسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ وَلاَ تَقْبَلُ الْوُجُوهَ بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. ٢٢أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟» ٢٣فَشَعَرَ بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ ٢٤أَرُونِي دِينَاراً. لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَأَجَابُوا وَقَالُوا: «لِقَيْصَرَ». ٢٥فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ». ٢٦فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ الشَّعْبِ وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَوَابِهِ وَسَكَتُوا. ٢٧وَحَضَرَ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَسَأَلُوهُ قَائِلِين: ٢٨«يَا مُعَلِّمُ كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ يَأْخُذُ أَخُوهُ الْمَرْأَةَ وَيُقِيمُ نَسْلاً لأَخِيهِ. ٢٩فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. وَأَخَذَ الأَوَّلُ امْرَأَةً وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ ٣٠فَأَخَذَ الثَّانِي الْمَرْأَةَ وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ ٣١ثُمَّ أَخَذَهَا الثَّالِثُ وَهَكَذَا السَّبْعَةُ. وَلَمْ يَتْرُكُوا وَلَداً وَمَاتُوا. ٣٢وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضاً. ٣٣فَفِي الْقِيَامَةِ لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ!» ٣٤فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَبْنَاءُ هَذَا الدَّهْرِ يُزَوِّجُونَ وَيُزَوَّجُونَ ٣٥وَلَكِنَّ الَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذَلِكَ الدَّهْرِ وَالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ ٣٦إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا أَيْضاً لأَنَّهُمْ مِثْلُ الْمَلاَئِكَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ الْقِيَامَةِ. ٣٧وَأَمَّا أَنَّ الْمَوْتَى يَقُومُونَ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مُوسَى أَيْضاً فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ كَمَا يَقُولُ: اَلرَّبُّ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ. ٣٨وَلَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ». ٣٩فَأَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَقَالُوا: «يَا مُعَلِّمُ حَسَناً قُلْتَ!». ٤٠وَلَمْ يَتَجَاسَرُوا أَيْضاً أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ. ٤١وَقَالَ لَهُمْ: «كَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ ٤٢وَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَقُولُ فِي كِتَابِ الْمَزَامِيرِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي ٤٣حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. ٤٤فَإِذاً دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟” ٤٥وَفِيمَا كَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَسْمَعُونَ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٤٦«ﭐحْذَرُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ وَيُحِبُّونَ التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. ٤٧اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هَؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!» " (لوقا ٢٠: ٢١- ٤٧).

في هذا الجزء نجد ربنا يسوع المسيح في جدل مع خصومه. طرح رؤساء اليهود سؤالين؛ ثم سؤال من الرب نفسه، وبعدها يأتي تحذير جليل للغاية.

السؤال الأول يتعلق بمال الجزية. نعلم من الآية ١٩، "طَلَبَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ أَنْ يُلْقُوا الأَيَادِيَ عَلَيْهِ". إذاً كانوا يراقبونه. وأرسلوا جواسيس عليه، وكانوا يريدون أن يجدوا عليه خطيئة ما يستطيعون بها أن يقبضوا عليه. كان هذا هو السبب وراء أسئلتهم، التي وضعها له أناس كانوا يرغبون في أن يوقعوه في الشرك. في الحادثة الأولى حاولوا أن يجعلوه يقول شيئاً يجعله في موقع معارضة للحكم الروماني. لقد كانوا هم أنفسهم يكرهون تلك الحكومة، وكانوا ليسرون إذا ما قُلبت وتحرر اليهود كشعب. ولكنهم استغلوا هذه الفرصة ليحاولوا أن يظهروا الرب يسوع معارضاً للمثلي تلك الحكومة: "فَسَأَلُوهُ قَائِلِين: يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ بِالاِسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ وَلاَ تَقْبَلُ الْوُجُوهَ بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ". لقد كان هذا مجرد إطراء. لو أنهم كانوا يؤمنون بما يقولون لكانوا قد انتبهوا إلى كلماته. لقد خاطبوه بهذه الطريقة لكي يجعلوه يدين نفسه، "نَعْلَمُ أَنَّكَ بِالاِسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ وَلاَ تَقْبَلُ الْوُجُوهَ بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ". ثم طرحوا السؤال: "أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟" بكلمات أخرى، لكأنهم كانوا يقولون: "هذه أرض بني إسرائيل. نعلم أن الله كان قد أعطى هذه الأرض إلى إبراهيم، أبينا، وإلينا، نحن ذريته. هل للرومان الحق بأن يتسلطوا علينا وأن يجمعوا الجزية منا؟ هل من الحق أن نلبّي مطالبهم وندفع الضرائب، ونقدم الجزية إلى قيصر؟" "فَشَعَرَ بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ أَرُونِي دِينَاراً. لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَأَجَابُوا وَقَالُوا: «لِقَيْصَرَ»". الكلمة المترجمة "ديناراً" هنا أكثر قيمة بكثير من السنت أو البنس. وكان الدينار عملة معدنية أصغر حجماً من قطعة الـ ٢٥ سنتاً التي لدينا ولكن كانت له قيمة شرائية أكبر بكثير في تلك الأيام. قال لهم يسوع: "أَرُونِي دِينَاراً" فناوله أحدهم واحداً. ألم يكن مع يسوع دينار؟ على الأرجح لا. لقد تنازل ليصير من أفقر الفقراء لكي يجعلنا أغنياء. تذكرون في مناسبة أخرى كانت هناك حاجة إلى دينار لدفع ضريبة الهيكل؛ ولذلك فقد أرسل الرب بطرس لينزل إلى الشاطئ وأمره أن يلقي خيط صنارته ويصطاد سمكة. وأخبره أنه عندما سيلتقط السمكة ويفتح فمها سيجد فيه ديناراً. عندما أطاع بطرس، وألقى الصنارة أمسك سمكة ووجد فيها الدينار. من الواضح أن أحدهم أضاع تلك العملة النقدية على ظهر قارب، وأن هذه السمكة، إذ رأته يغوص في الماء، اندفعت نحوه وابتلعته، واستقر في حلق السمكة؛ وبقي هناك في انتظار دفع ضريبة الرب عندما جاء الوقت المناسب. يبدو أن الرب لم يكن معه أي دينار هذه المرة، فقال: "أَرُونِي دِينَاراً"، فأعطوه واحداً. فنظر إليه وسألهم: "لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟” الكثير من هذه الدنانير التي تحمل صورة الأباطرة نجدها اليوم في مجموعات مختلفة في مختلف متاحفنا العظيمة. لقد "أَجَابُوا وَقَالُوا: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ»". لم يكن لديهم مانع من استخدام مال قيصر؛ كانوا على استعداد لأن يربحوا به. ثم عليهم أن يدفعوا هكذا ضرائب إلى قيصر كما كان يطلب. كان عليهم أن يعترفوا أن "السَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ".

المبدأ الذي وضعه الرب ينطبق علينا اليوم. نحن المسيحيون نعرف أن الله هو من يقيم حاكماً ويقيل آخر؛ هو الذي يسمح بوجود أي نوع من الحكم. ولذلك فإننا ندفع الضرائب كما يطلبها حكام الأرض التي نعيش فيها. علينا أيضاً أن نتذكر أننا مواطنون سماويون، أننا نخص الله في السماء. علينا أن نعطي قيصر الأشياء التي تخص قيصر، وأن نقدم لله الأمور التي تخصه. لقد كان يسوع يعرف جيداً أن هؤلاء الكتبة كانوا يحاولون أن يوقعوه في شرك يدين به نفسه فيتهمونه، ولكن كلماته أسكتتهم. "لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ الشَّعْبِ وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَوَابِهِ وَسَكَتُوا".

إذ أُسكتوا وأُفحموا حول هذه النقطة أتوا إليها بعدها بسؤال عقائدي: "حَضَرَ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ أَمْرَ الْقِيَامَةِ". في ذلك الوقت كانت هناك عدة طوائف يهودية مختلفة؛ تُذكر اثنتان منها بشكل محدد في الكتابات المقدسة، الفريسيون والصدوقيون. كان الفريسيون هم الفريق الأكثر تشدداً في إسرائيل. لم يكن الصدوقيون يؤمنون بالملائكة أو الأرواح، بل بقيامة الجسد. أما الفريسيون فكانوا يعترفون بكل هذه الأشياء. ولذلك فقد كان هناك صراع دائم بينهما بسبب اختلاف مواقفهم العقائدية. لقد كان هناك جماعة من الصدوقيين هم الذين طرحوا على الرب هذا السؤال الذي اعتقدوا أنه مربك محير جداً. "يَا مُعَلِّمُ كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ يَأْخُذُ أَخُوهُ الْمَرْأَةَ وَيُقِيمُ نَسْلاً لأَخِيهِ". لقد كان ذلك بحسب ناموس موسى. إن كان إسرائيلي قد تزوج ومات ولم يترك أولاداً ليرثوا ممتلكاته، فقد كان لأخيه الحق، إذا أراد ذلك، أن يأخذ مسؤولية الزواج من الأرملة. وإذا نتج عن هذا الزواج أولاد، فإن الولد الأول سيرث ممتلكات الزوج المتوفي وكأن الولد كان ابنه. افترض الصدوقيون حالة تزوج فيها سبعة إخوة الواحد تلوَ الآخر من امرأة واحدة وماتوا جميعاً بدون أولاد. على الأرجح أن القصة كلها كانت ملفقة بغاية أن يقدروا إظهار عبثية القيامة بالجسد، على حسب ظنهم. ولذلك طرحوا هذا السؤال، "فِي الْقِيَامَةِ لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ!". لم يرتبك الرب يسوع؛ لم ينزعج من السؤال. التفت إليهم وقال: إنكم "تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللَّهِ" (مت ٢٢: ٢٩). كم من مرة نضل لأننا لا نعرف الكتاب المقدس ونتجاهل قوة الله! لو كنا نعرف كتابنا المقدس بشكل أفضل لقلت الأسئلة التي نطرحها. ولو أدركنا قوة الله بشكل أكثر تحديداً لما كنا مشوشين كما نحن في أغلب الأحيان. لم يعرف الصدوقيون الكتب، ولم يدركوا قدرة الله الكلية. أضاف يسوع قائلاً: "أَبْنَاءُ هَذَا الدَّهْرِ يُزَوِّجُونَ وَيُزَوَّجُونَ وَلَكِنَّ الَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً لِلْحُصُولِ عَلَى ذَلِكَ الدَّهْرِ وَالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا أَيْضاً لأَنَّهُمْ مِثْلُ الْمَلاَئِكَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ إِذْ هُمْ أَبْنَاءُ الْقِيَامَةِ". عندما صار ربنا إنساناً جُعل "أدنى قليلاً من الملائكة". الإنسان في النظام الحالي هو أنى من الملائكة الذين هم أعظم في القوة والمقدرة؛ ولكن في القيامة سيكون المفديون معادلين للملائكة. سوف لن نبقى أقل أو أدنى منهم، لأننا سنكون أولاد الله بمعنى واضح، بل حتى أولاد القيامة. كان الصدوقيون ينكرون كل هذا، "وَأَمَّا أَنَّ الْمَوْتَى يَقُومُونَ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مُوسَى أَيْضاً فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ كَمَا يَقُولُ: اَلرَّبُّ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ. وَلَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ". ولكن أين القيامة من هذا الحديث؟ حسنٌ، إبراهيم وإسحاق ويعقوب لم يتلاشوا من الوجود؛ لم ينقرضوا من خلال الموت؛ لا يزالون أحياء. لم يقل الله لموسى أنه كان إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب عندما كانوا هنا في هذا العالم. لقد قال: "أنا إله إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب". وشرح يسوع هذا بشكل واضح. وهكذا فإن أعزاءنا في المسيح الذين تركونا ليسوا غائبين تماماً عن الوعي: إنهم يحيون لله؛ هو يعرفهم جيداً وهم يعرفونه، وإنهم يتمتعون بشركة مباركة معه. من الضروري أن تكون هناك قيامة لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، لأن الله قطع وعداً لهم لم يتحقق. قد وعدهم بأرض كنعان، ولكنهم ماتوا قبل أن يصلوا إليها. فسكنوا في الأرض كغرباء، ولكن الله سيحقق وعده عندما يعيدهم من الموت. وهكذا أسكت الرب هؤلاء الصدوقيين. "فَأَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَقَالُوا: «يَا مُعَلِّمُ حَسَناً قُلْتَ!». وَلَمْ يَتَجَاسَرُوا أَيْضاً أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ".

ثم سألهم سؤالاً ما كانوا ليستطيعون أن يجيبوا عليه ما لم يكونوا على استعداد لأن ينحنوا أمامه ويقبلونه باعتباره المسيا والمخلّص. "قَالَ لَهُمْ: كَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ". لماذا يقول الكتبة أن المسيا هو ابن داود؟ تقول الكتب ذلك في أماكن عديدة. في المزمور ١١٠ (الآية ١) نقرأ: "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجلس عن يميني فأضع أعداءك موطئ قدميك". من المسلّم به أن هذا المقطع يشير إلى المسيا، الفادي الآتي. كتب داود ذلك، وهناك يدعو داود المسيا ربّه. يقول: "«قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي». «إِذاً دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟»". لو كانوا قادرين بالإجابة على هذا السؤال بذكاء وفطنة، لتمت تسوية كل حقيقة مسيانية يسوع. الجواب هو هذا: إنه رب داود لأنه الله الأزلي الأبدي؛ وهو ابن داود لأنه صار إنساناً، واختار أن ينزل إلى هذا العالم مولوداً من ابنة من نسل داود، العذراء مريم المباركة. ولذلك فإنه بآن معاً ابن داود ورب داود.

"وَفِيمَا كَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَسْمَعُونَ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «ﭐحْذَرُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ وَيُحِبُّونَ التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ»". لقد أخذوا أماكنهم كرؤساء الدين للشعب. كان الرب يعرف أن كثيرين منهم كانوا مرائين بكل معنى الكلمة: كانوا يلتهمون بيوت الأرامل، ولأجل الظهور كانوا يطيلون الصلوات. كثيرون منهم كانوا مقرضين للمال، فيرهنون بيوت الأرامل بفائدة كبيرة باهظة، وهكذا كانت النساء البائسات تجدن صعوبة كبيرة في الحفاظ على دفع أقساطهم؛ ثم عندما يتخلفون عن الدفع كان هؤلاء المراؤون يحبسون الرهن ويأخذون كل شيء م الأرامل العاجزات. ألم يكن ذلك قانونياً؟ نعم؛ لقد كان قانونياً بحسب نواميس الإنسان. ولكن أشياء كثيرة كانت قانونية بحسب ناموس الإنسان ولكن لم تكن قانونية أبداً بحسب ناموس الله، الذي كان قد منع نفس الممارسات هذه التي كان يرتكبها هؤلاء المراؤون. تخيلوا أحد هؤلاء المبتزين يحبسون الرهن على بيت أرملة ليلة الجمعة، وفي السبت يقفون في المجمع ويرفعون صلاة طويلة! لعل هذا النص يخاطبنا نحن أيضاً اليوم. أعطنا يا ألله أن نكون مستقيمين ومنسجمين مع أنفسنا، أن تكون حياتنا متناسبة مع اعترافنا، لكيما نكون صادقين أمام العامة وأمام الخاصة، وصادقين مع الله في تعاملاتنا التجارة وفي مسائل كنيسة الله. قال الرب: "هَؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ". هوذا اليوم آتٍ عندما سيتعامل الرب مع جميع المرائين. هكذا مرائين نجدهم وسط أولئك الذين يعترفون بالمسيحية، وكثيرون يجعلون هذا مبرراً لرفض المسيح. ولكنه لا يغير حقيقة أنك إذا لم تخلص في النهاية فإن عليك أن تجيب على خطاياك في يوم الدينونة. لكم هو أفضل أن نكون أبراراً ومستقيمين أمام الله الآن بدل أن ننتظر حتى ذلك اليوم الذي سيقاضي فيه الله كل إنسان حسب أعماله.

الخطاب ٦٩

الخطاب النبوي العظيم لربنا

" ١ وَتَطَلَّعَ فَرَأَى الأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي الْخِزَانَةِ ٢وَرَأَى أَيْضاً أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. ٣فَقَالَ: «بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمِيعِ ٤لأَنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ اللهِ وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ الْمَعِيشَةِ الَّتِي لَهَا». ٥وَإِذْ كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ عَنِ الْهَيْكَلِ إِنَّهُ مُزَيَّنٌ بِحِجَارَةٍ حَسَنَةٍ وَتُحَفٍ قَالَ: ٦«هَذِهِ الَّتِي تَرَوْنَهَا سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ». ٧فَسَأَلُوهُ قَائِلِين: «يَا مُعَلِّمُ مَتَى يَكُونُ هَذَا ومَا هِيَ الْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَصِيرُ هَذَا؟» ٨فَقَالَ: «ﭐنْظُرُوا! لاَ تَضِلُّوا. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ وَالزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ. فَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَهُمْ. ٩فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاَقِلٍ فَلاَ تَجْزَعُوا لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوَّلاً وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ الْمُنْتَهَى سَرِيعاً». ١٠ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ ١١وَتَكُونُ زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ. وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلاَمَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. ١٢وَقَبْلَ هَذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ اسْمِي. ١٣فَيَؤُولُ ذَلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً. ١٤فَضَعُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنْ لاَ تَهْتَمُّوا مِنْ قَبْلُ لِكَيْ تَحْتَجُّوا ١٥لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا. ١٦وَسَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالإِخْوَةِ وَالأَقْرِبَاءِ وَالأَصْدِقَاءِ وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ. ١٧وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. ١٨وَلَكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ. ١٩بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ. ٢٠وَمَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ فَحِينَئِذٍ اعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ خَرَابُهَا. ٢١حِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ وَالَّذِينَ فِي وَسَطِهَا فَلْيَفِرُّوا خَارِجاً وَالَّذِينَ فِي الْكُوَرِ فَلاَ يَدْخُلُوهَا ٢٢لأَنَّ هَذِهِ أَيَّامُ انْتِقَامٍ لِيَتِمَّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ. ٢٣وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لأَنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ عَلَى الأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هَذَا الشَّعْبِ. ٢٤وَيَقَعُونَ بِفَمِ السَّيْفِ وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ الأُمَمِ وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ " (لوقا ٢١: ١- ٢٤).

"وَتَطَلَّعَ فَرَأَى الأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي الْخِزَانَةِ وَرَأَى أَيْضاً أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ". هناك أمران مهمان نتعلّمهما من التمعن في هذه الحادثة. الأول هو أن ربنا المبارك مهتم بعمق بما نقدمه لله. هناك نزعة أحياناً، حتى عند المسيحيين، لأن يقلّلوا من شأن العطاء؛ وهناك اشمئزاز من تقديم العطايا في الخدمات المسيحية، وكأنه صارت لها صفة الروح التجارية الدنيوية إلى حد كبير. ولكن علينا أن نتذكر أن الله، وطوال تاريخ تعاملاته مع الناس، كان يتطلع لأن يقدموا من أموالهم لتحقيق عمله. إن هذا اعتراف بتلمذتنا إن قدّمنا عطايانا لله من وقت إلى آخر. كان الحال هكذا في إسرائيل القديم؛ وكان هكذا طوال كل القرون. في هذه الحادثة نرى ربنا جالساً مقابل الخزينة، يلاحظ ما يساهم به الناس. إنه شديد الانتباه إلى ما يقدّمه شعبه له؛ إنه يعرف إن كان عطاؤنا بدافع المحبة له أم لا؛ إنه يعرف إن كان ذلك بروح التضحية وبنكران للذات حقيقي.

وثانياً، نتعلم من هذا المقطع أن حساب السماء- طريقة السماء في مسك الدفاتر- مختلفة تماماً عن طرقنا. عادة نحكم على الناس بحسب مقدار المال الذي يقدّمونه. فإن قدّم غني مبلغاً كبيراً نقول أنه أعطى كثيراً؛ ولكن إن قدّم أحد مالاً قليلاً فإننا نعيره اهتماماً ضئيلاً. طريقة الله في الحساب مختلفة تماماً. إنه يدون ملاحظات، وليس بحسب المبلغ المقدّم، بل بحسب ما يبقى. الغني قد يقدم آلاف ومع ذلك تبقى لديه مئات الألوف؛ وشخص آخر، في ظروف أقل وفرة، قد يقدّم مبلغاً صغيراً جداً، ولكن لأنه لا يتبقى لديه سوى القليل يسجّل الله ذلك على أنه مساهمة كبيرة. رأى الرب يسوع الأرملة الفقيرة تلقي بفلسين، وهو مبلغ ضئيل جداً. فلسان قيمة كل منهما أقل بكثير من الفارذينع البريطاني. ومع ذلك يقول يسوع: "بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمِيعِ لأَنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ اللهِ وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ الْمَعِيشَةِ الَّتِي لَهَا". أعتقد أن ذلك كان أجرها طوال ذلك النهار. لقد عملت طوال اليوم وكان هذا ما كسبته، ووضعته كله في قرابين الرب. ما من أحد يقدّم لله على هذا النحو ويعاني بسبب ذلك. الله سيرد عليه بطريقته الخاصة وفي الوقت الذي يجده مناسباً. لن يكون الله مديناً لأحد؛ سيعوض بشكل أو بآخر عن كل ما يقدّم له.

ثم نتحول إلى رواية لوقا ونتأمل في خطبة ربنا النبوية العظيمة: "وَإِذْ كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ عَنِ الْهَيْكَلِ إِنَّهُ مُزَيَّنٌ بِحِجَارَةٍ حَسَنَةٍ وَتُحَفٍ". كانت أورشليم في ذلك الوقت مدينة عظيمة كما حال المدن في الشرق. كان يحيط بها سور قوي منيع. أبنيتها الضخمة كانت جميلة، وخاصة الهيكل المجيد الذي كان هيرودس قد صرف الملايين عليه في محاولة منه ليجعله عظيماً كما كان هيكل سليمان قبل أن يدمره جيش نبوخذنصر. ومن الطبيعي أن اليهود كانوا فخورين جداً بالهيكل والأبنية الأخرى؛ وأظهر الرسل نفس الروح إذ التفتوا نحو يسوع وحاولوا أن يلفتوا انتباهه إلى روعة البناء المعماري هناك. ولكنه نظر إلى الأمر برمته بعيون نبوية لم يستطيعوا هم أن يروا من خلالها. لقد رأى ما كان سيحدث لهذه الأبنية. وأعلن قائلاً: "هَذِهِ الَّتِي تَرَوْنَهَا سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ". لا بد أن تلك الكلمات ظهرت وكأن تحقيقها بعيد الاحتمال. ومع ذلك فبعد أربعين سنة سُوِّيَ الهيكل وجميع أبنية المدينة بالأرض. كل نبوءة في الكتب المقدسة إما أن تكون قد تحققت أو سوف تتحقق حرفياً كما كُتب أو قِيل. عندما أخبر الرب يسوع تلاميذه عن هذه الأمور المستقبلية اندهشوا، وسألوه: "يَا مُعَلِّمُ مَتَى يَكُونُ هَذَا ومَا هِيَ الْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَصِيرُ هَذَا؟" لكي نفهم جوابه الكامل نحتاج لقراءة ما ورد في هذا الخطاب الكامل كما يتبين لنا من الأناجيل الإزائية الثلاثة: متى ٢٤، ومرقس ١٣، وهنا في لوقا ٢١. يسرد لوقا الحوادث والظروف التي ستجري قبل دمار أورشليم والتي ستؤدي إليه؛ يتناول متى بشكل خاص الأمور التي ستحدث فيما بعد، والتي ستفضي إلى المجيء الثاني للمسيح. يخبرنا لوقا شيئاً من هذا، ولكنه لا يقدم لنا نصاً كاملاً ومكتملاً كما يفعل متى. رواية مرقس تشبه كثيراً رواية متى، رغم أنها ليست كاملة تماماً. في هذا التقرير من ثلاث زوايا مختلفة حول هذه الكلمات التي نطقت بها شفاه ربنا، لدينا نبوءة لافتة عن الأمور التي ستحدث بعد موته وقيامته وصعوده إلى السماء. دمار أورشليم، حالة العالم خلال الدهر الحالي، والظروف التي ستسود في زمن النهاية- الأسبوع السبعون الأخير غير المحقق من دانيال (الأصحاح ٩)- والمجيء الثاني بالمجد، توصف بطريقة تصويرية وتفصيلية. ليس لدينا هنا شيء عن الكنيسة، جسد المسيح، أو الاختطاف. فهذه حقائق سيُعلن عنها فيما بعد.

"ﭐنْظُرُوا! لاَ تَضِلُّوا. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ وَالزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ. فَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَهُمْ". يخبرنا التاريخ أنه كان هنالك العديد من الكذبة والدجالين الذين ظهروا في إسرائيل، يدّعون أنهم المسيا، خلال السنوات الأربعين التي انقضت بعد الصلب. كان المسيا الحقيقي قد رُفض. القسم الأعظم من أورشليم رفض أن يؤمن بأن يسوع كان هو الموعود، ولذلك فقد وقعوا بسهولة تحت تأثير هؤلاء الأنبياء الكذبة. قدّم يسوع وصفاً عاماً للظروف التي ستسود في العالم قبل أن تنال أورشليم مصيرها المشؤوم. "إذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاَقِلٍ فَلاَ تَجْزَعُوا لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوَّلاً وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ الْمُنْتَهَى سَرِيعاً". عبارة "يَكُونُ الْمُنْتَهَى سَرِيعاً" هي كلمة واحدة في اللغة اليونانية وهي تعني "فوراً" أو "في الحال". ولذلك فإن ما كان ربنا يقوله هو التالي: "ستكون هناك حروب وإشاعات عن حروب، ولكن عليكم ألا تضطربوا، لأن هذه الأشياء لا بد أن تحدث وسوف تحدث، ولكن لا تكون النهاية قد جاءت بعد". واضح من دراسة متأنية لنص متى أن هذه الظروف ستسود إلى أن يرجع المسيح. ولكنه لا يعطينا هذه الأشياء كعلامات محددة عن مجيء النهاية؛ إنها ببساطة النتيجة الطبيعية لرفض رئيس السلام.

كلما تعرفنا على التاريخ أكثر كلما أدركنا أكثر كيف تحققت حرفياً كلمات ربنا خلال تلك الحقبة المؤلفة من أربعين سنة. ثم قال: "قَبْلَ هَذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ اسْمِي". يكفي أن نقرأ سفر أعمال الرسل لنرى كيف تحققت هذه النبوءة المتعلقة بالتلاميذ الأوائل لربنا يسوع المسيح. لقد اضطهدهم اليهود في المجامع وكذلك اضطهدهم الأمم؛ قُتل كثيرون منهم لأجل اسم يسوع. لقد شجع الرب التلاميذ بأن أكّد لهم أنه لا يجب أن يخافوا: فأعداؤهم لن يؤذوهم حقاً. وفي أسوأ الأحوال لا يستطيعون سوى أن يرسلوا التلاميذ إلى ديارهم في بيت الآب. ليس الموت شراً بالنسبة لأولاد الله. ولا حاجة لأن يخافوا من خصومهم المناوئين لهم. "ضَعُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنْ لاَ تَهْتَمُّوا مِنْ قَبْلُ لِكَيْ تَحْتَجُّوا لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا". ومن جديدي لا نحتاج سوى إلى العودة إلى سفر الأعمال ونقرأ كيف أن بطرس واستفانس وبولس مُكِّنوا من أن يدافعوا عن أنفسهم على نحو رائع. إننا ندرك أن الرب يسوع قد أعانهم فعلياً إذ مكّنهم بأن يتكلموا بالكلمات المناسبة في الوقت المناسب تحت كل الظروف. "سَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالإِخْوَةِ وَالأَقْرِبَاءِ وَالأَصْدِقَاءِ وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ. وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي". في تلك الأيام كان الناس ينظرون بريبة شديدة إلى الكنيسة المسيحية والمسيحيين الأفراد أكثر من أي مؤسسة أو جماعة في كل العالم. لقد كانوا يعتقدون أن المؤمنين هم أسوأ أعداء الجنس البشري، ومع ذلك فقد كانوا يمثلون الله الذي هكذا أحبّ العالم حتى أنه بذل ابنه الوحيد ليكون مخلّصاً لهم. "وَلَكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ". ألم يموتوا؟ بلى. ألم يهلكوا؟ لا. ذلك لأنه في اللحظة التي أتاهم الموت فيها كانوا غائبين عن الجسد وحاضرين مع الرب. ولذلك فلم يخسوا شيئاً عندما تعرضوا للقتل على يد أعدائهم؛ بل بالحري، إن الموت أدخلهم إلى المسرّات التي كانوا ينتظرونها برجاء. "بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ"، أو، بصياغة أخرى: "بِصَبْرِكُمُ تربحونَ أَنْفُسَكُمْ": أي، باحتمال الاضطهاد، فبالمرور بالألم والمعاناة لأجل المسيح سيصبحون تلاميذ أقوى. النمو في النعمة يأتي في ظروف الاضطهاد والضيقة الشديدة.

ثم يجيب الرب مباشرة على سؤالهم حول من ستقع عليهم هذه الأمور التي يتكلم عنها. متى ستُهدم أورشليم وتنهار أبنيتها؟ لقد جرت هذه الأحداث حوالي العالم ٧٠ ميلادية. كان يسوع قد تنبأ عن كل هذا وقال: "مَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ فَحِينَئِذٍ اعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ خَرَابُهَا". كثيرون ممن كانوا على قيد الحياة عندما تكلم بهذه الكلمات كانوا ليرون جيوش تيطس يطوقون المدينة. علّمهم يسوع ما يفعلون: "حِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ وَالَّذِينَ فِي وَسَطِهَا فَلْيَفِرُّوا خَارِجاً وَالَّذِينَ فِي الْكُوَرِ فَلاَ يَدْخُلُوهَا". يقدم يوسيفوس توثيقاً للقول أن المسيحيين عندما رأوا أورشليم مطوقة بالجيوش تذكروا كلمات الرب، وتركوا أورشليم وهربوا إلى مدينة بيلا، حيث حماهم الحاكم الروماني، فنجوا بذلك من الدينونة التي حلّت لأورشليم وشعبها الآثم الذين "لم يعرفوا زمن افتقادهم".

"لأَنَّ هَذِهِ أَيَّامُ انْتِقَامٍ لِيَتِمَّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ. وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لأَنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ عَلَى الأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هَذَا الشَّعْبِ. وَيَقَعُونَ بِفَمِ السَّيْفِ وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ الأُمَمِ وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ". لاحظوا كم كيف نظر ربنا المبارك بوضوح عبر القرون ورأى ما سيجري مع إسرائيل، شعب الله الأرضي، ومدينتهم، أورشليم. دُمرت المدينة. وقُتل آلاف تلوَ آلافٍ؛ وسادت الحال الأكثر فظاعة التي يمكن تخيلها في أورشليم خلال فترة الحصار الروماني. وعندما دخلت جيوش تيطس المدينة في نهاية الأمر- رغم أنه أعطى بنفسه الأمر بألا يُدمر الهيكل- نعلم من يوسيفوس أن جندياً ثملاً رمى بمشعل متقد إلى منطقة الهيكل وسرعان ما اشتعل الهيكل باللهيب، ودُمر بالكامل. هناك مسجد اليوم حيث كان يقع ذلك الهيكل؛ وحيث كان دخان القرابين يصعد إلى الرب يوماً، صار المحمديون يلتقون ويصلّون.

أولئك اليهود الذين نجوا من الهلاك سُبِيُوا إلى كل الأمم. كان موسى قد تنبّأ قبل زمان طويل بأنهم سيُباعون إلى الأمم عَبِيداً وَإِمَاءً "وَليْسَ مَنْ يَشْتَرِي" (تث ٢٨: ٦٨)؛ ويخبرنا التاريخ أن آلاف عديدة من اليهود بيعوا على ذلك النحو. وأُتخمت أسواق النخاسة في العالم؛ وعُرض الرجال اليهود القويو البنية للبيع في المدن الكبيرة في الإمبراطورية الرومانية، في الإسكندرية، وكورنثوس، وروما نفسها، والمدن الأخرى، بأسعار زهيدة لدرجة أنه كان يستحيل تحقيق ربح من بيعهم.

أعلن يسوع قائلاً: "تَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ". لاحظوا أن هناك فترة محددة للخزي الذي ستتعرض له أورشليم. سوف لن تكون المدينة مَدُوسَةً إلى الأبد؛ بل فقط إلى أن تُكمل أزمنة الأمم. عبارة "أَزْمِنَةُ الأُمَمِ"، والتي نجدها هنا فقط، تغطي كل الفترة التي يكون فيها اليهود وأورشليم تحت سيطرة الأمم. بدأ هذا بنبوخذنصر عام ٦٠٦ ق.م.، وسيستمر إلى أن يأتي الرب يسوع ثانية ليحرر شعبه الأرضي، في نهاية الضيقة العظيمة. في هذه الأثناء، تُعلن حقيقية الكنيسة في جسد المسيح؛ وبينما يكون إسرائيل مرفوضاً كشعب والأمم يسيطرون على مدينتهم المقدسة، سيؤسس الله شعباً لاسمه من اليهود والأمم. وهؤلاء يشكّلون كنيسة الله، رفقة ابنه، وسيُرفعون من الأرض قبل بدء وقت ضيق يعقوب، الضيقة العظيمة.

الخطاب ٧٠

تبرعم شَجَرَة التِّين

" ٢٥ «وَتَكُونُ عَلاَمَاتٌ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَعَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ. اَلْبَحْرُ وَالأَمْوَاجُ تَضِجُّ ٢٦وَﭐلنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَانْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ لأَنَّ قُوَّاتِ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. ٢٧وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابَةٍ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. ٢٨وَمَتَى ابْتَدَأَتْ هَذِهِ تَكُونُ فَانْتَصِبُوا وَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ». ٢٩وَقَالَ لَهُمْ مَثَلاً: «اُنْظُرُوا إِلَى شَجَرَةِ التِّينِ وَكُلِّ الأَشْجَارِ. ٣٠مَتَى أَفْرَخَتْ تَنْظُرُونَ وَتَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنَّ الصَّيْفَ قَدْ قَرُبَ. ٣١هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً فَاعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَرِيبٌ. ٣٢اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. ٣٣اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ. ٣٤فَاحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ فَيُصَادِفَكُمْ ذَلِكَ الْيَوْمُ بَغْتَةً. ٣٥لأَنَّهُ كَالْفَخِّ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْجَالِسِينَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. ٣٦اِسْهَرُوا إِذاً وَتَضَرَّعُوا فِي كُلِّ حِينٍ لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلاً لِلنَّجَاةِ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْمُزْمِعِ أَنْ يَكُونَ وَتَقِفُوا قُدَّامَ ابْنِ الإِنْسَانِ». ٣٧وَكَانَ فِي النَّهَارِ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَفِي اللَّيْلِ يَخْرُجُ وَيَبِيتُ فِي الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ. ٣٨وَكَانَ كُلُّ الشَّعْبِ يُبَكِّرُونَ إِلَيْهِ فِي الْهَيْكَلِ لِيَسْمَعُوهُ " (لوقا ٢١: ٢٥- ٣٨).

هذا هو الجزء الثاني من خطبة ربنا النبوية العظيمة التي ألقاها إلى تلاميذه خلال أسبوعه الأخير معهم قبل صلبه. الجزء الأول من هذه النبوءة حملنا إلى دمار أورشليم. كان الرب قد أخبر تلاميذه، بينما كانوا يبدون إعجابهم بالهيكل المذهل والأبنية الأخرى في أورشليم، "هَذِهِ الَّتِي تَرَوْنَهَا سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ". لقد تصوّر الأحوال التي ستؤدي إلى هذا، وختم حديثه بالقول: "مَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ فَحِينَئِذٍ اعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ خَرَابُهَا". كل شيء حتى هذه اللحظة تحقق حرفياً، ودُمرت أورشليم عام ٧٠ م.، كما تنبأ يسوع. ولكنه وضع حداً تكون فيها مداسة خلالها. فقال: "تَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ (وليس إلى الأبد؛ وليس حتى نهاية العالم)". لقد رأينا أن عبارة "أزمنة الأمم" تشير إلى كل الفترة التي يخضع فيها اليهود لسيطرة الأمم. وحتى منذ أيام نبوخذنصر كانت هذه حالهم. وإذاً "أزمنة الأمم" استمرت على مدى أكثر من ألفي سنة. لا نستطيع أن نحدد متى ستأتي إلى نهايتها. حاول البعض وضع طريقة حسابية زمنية ما، ولكن أخفقت كل هذه المحاولات حتى الآن. إلا أنه يمكننا أن نكون على يقين بأننا نقترب سريعاً من نهاية أزمنة الأمم.

سيطرأ حادث مجيد من أجلنا قبل أن تأتي النهاية، وهذا الحادث لم يتكلم عنه يسوع في خطبته النبوية العظيمة هذه، ولكنه ذكره فيما بعد لتلاميذه عندما اجتمعوا معاً في ذلك المساء في العلية. قال: " أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ". في رسائل بولس نجد تفاصيل معلنة تتعلق بذلك الحدث. قبل أن تأتي أزمنة الأمم إلى نهايتها سيأتي يسوع في الهواء ليأخذ شعبه السماوي من هذا العالم. "الأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ" (١ تس ٤: ١٦، ١٧). لا يذكر ربنا هذا الأمر هنا. لم يأتِ أوان إعلانه بعد. ولكنه يمضي فيشرح ما سيحدث عندما ستُكمل أزمنة الأمم. فتحدث أولاً عن علامات فلكية، "تَكُونُ عَلاَمَاتٌ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ". هذه العلامات على حسب علمنا لم تبدأ بعد؛ ولكننا على يقين من ذلك، أن الناس الذين سيكونون على قيد الحياة في فترة بدء هذه الأمور سيرون هذه العلامات العظيمة المتعلقة بالأجرام السماوية. ثم تحدث يسوع بعد ذلك عن الأحوال التي ستسود على الأرض، "وَعَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ. اَلْبَحْرُ وَالأَمْوَاجُ تَضِجُّ". بمعنى محدود يمكننا القول أن هذه الأحوال تتبدى الآن: "كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ". وغالباً ما يُقال أن "الحَيْرَة" تعني حرفياً أنه "ما من منفذ": "كَرْبُ أُمَمٍ وما من منفذ". هذا أمر في غاية الأهمية. في هذا الوقت يحاول ساستنا وحكامنا في مختلف البلدان أن يشكلوا حلفاً ليحققوا عالماً بلا حروب ويضمنوا ازدهاراً مستمراً. ولكن من الواضح أنهم ورغم ذكائهم الشديد يواجهون صعوبات لا تُذّلل في الظاهر. ولكننا على يقين من هذا: الأحوال سوف لن تتحسن، والحروب ستستمر إلى أن يأتي الرب يسوع المسيح بالمجد.

يذكر يسوع أيضاً اضطرابات واختلاجات طبيعية عظيمة ستحدث. في مكان آخر نقرأ أنه ليس الأرض فقط ستهتز بل السماء أيضاً، "لِكَيْ تَبْقَى الَّتِي لاَ تَتَزَعْزَعُ" (عب ١٢: ٢٧). وهكذا يمكننا أن نكون متأكدين، على ضوء الكلمة النبوية، أن هذا العالم البائس سيكون مصيره مشؤوماً إذا ما نظرنا إلى قدرة الإنسان على تقديم المساعدة. وعندما تكون الأمور على أسوأ حال سيتدخل الله. "وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابَةٍ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ". سوف يتسلم مقاليد الحكم ويؤسس ملكوت الله على أنقاض السلطات الأرضية المتبجحة المتفاخرة جميعها. يقول: "مَتَى ابْتَدَأَتْ هَذِهِ تَكُونُ فَانْتَصِبُوا وَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ".

بالتأكيد لا يمكن أن تشير كلماته إلا إلى المجيء الثاني المنظور للرب يسوع المسيح. في سفر الرؤيا (١: ٧) نقرأ: "هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ". هناك أناسٌ يعترفون بقبولهم للكتاب المقدس ومع ذلك فإنهم يخبروننا بأنهم لا يؤمنون بالمجيء الثاني حرفياً للمسيح. فهم يصرّون أن كل هذا سيكون له تحقيق روحي. ولكني أذكركم من جديد أن كل نبوءة لها علاقة بالمجيء الأول لربنا قد تحققت حرفياً، ولذلك فإن لنا كل الثقة بأن نعتقد أن كل النبوءات المتعلقة بمجيئه الثاني ستتحقق حرفياً أيضاً. سوف يرجع شخصياً إلى هذه الأرض، والعالم الذي كان قد رفضه سينحني أمامه، معترفاً بسلطته المطلقة. يخبرهم يسوع بشكل محدد جداً عن الوقت التي ستجري فيه هذه الأمور: ذلك سيحصل في نهاية أزمنة الأمم. يجب على المؤمنين بالرب يسوع ألا يكونوا منزعجين بسبب أحوال العالم الحالية. إننا نعلم أن الله يسيّر كل شيء بحسب مشورة إرادته الخاصة، ويمكننا أن نتكّل عليه ولا نخاف. عندما تبدأ هذه الآيات بالحدوث فإنها ستخبرنا أن مجيء الملك يقترب، وهكذا تتشجع قلوبنا ونحن نتطلع وننتظر عودة ربنا المبارك.

"وَقَالَ لَهُمْ مَثَلاً: اُنْظُرُوا إِلَى شَجَرَةِ التِّينِ وَكُلِّ الأَشْجَارِ". شجرة التين كما تُستخدم في الكتب المقدسة ترمز إلى شعب إسرائيل. في سفر القضاة (في مثل يوثام)، هناك أربعة أشجار يتم ذكرها. وهذه هي شجرة الزيتون، وشجرة التين، والكرمة، والعلّيق. هذه الأشجار المختلفة جميعها هي في الواقع رموز لإسرائيل. شجرة الزيتون ترمز إلى إسرائيل في علاقة عهدها مع الله: إبراهيم هو الجذر، والأغصان تمثل أولئك الذين هم ذريته بحسب الجسد وبحسب الروح. في الدهر الحالي اقتُطعت الأغصان من شجرة الزيتون بسبب عدم إيمانهم، وأغصان الأمم البرية طُعّمت إليها. قبل بضعة سنوات سمعت باعتراض على هذا المثل التوضيحي. أستاذ رائد في اللاهوت كان يصر على أن بولس كان يجهل المبادئ الأولى للبستنة، وإلا لما تكلم عن تطعيم أغصان البرية إلى شجرة زيتون صالحة. أوضح أن العكس هو ما يجري. ولذلك فمن الحمق أن نفكر أن هذه قد كُتبت بوحي. الله لا يمكن أن يستخدم صورة سخيفة منافية للعقد كهذه ليعلّمنا حقائق روحية أو حقائق تدبيرية. ولكن لو كان ذلك الرجل الصالح قد قرأ كتابه المقدس بعناية أكثر لوجد أن بولس تكلم عن هذه الصور التوضيحية عن التطعيم في الأمم الذي كان "خلاف الطبيعة". لقد كان الرسول بولس يعلم أنه يستخدم مثلاً طبيعياً يتناقض مع الطبيعة، ويخبرنا بذلك. ولكن تلك هي الطريقة التي تعمل فيه النعمة. النعمة تخالف الطبيعة دائماً وأبداً. عندما تأتي نهاية هذا الدهر فإن الأغصان الطبيعية سيُطعم بها من جديد، وسيدخل إسرائيل إلى بركة العهد الجديد.

ولذلك فإن شجرة الزيتون تدل على شعب عهد الله. وترمز شجرة التين إلى شعب إسرائيل وقد أقامه الله في فلسطين لتمجيده. الكرمة ترمز روحياً إلى إسرائيل. أخرج الله كرمة من مصر وغرسها في كرم، شهود الرب في الأرض، و"انْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَباً فَصَنَعَ عِنَباً رَدِيئاً" (أش ٥: ٢). بسبب ذلك، تمت تنحية إسرائيل لفترة من الزمن. قال يسوع: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ" (يو ١٥: ١). يتكلم عن أولئك الذين يعترفون بالإيمان به على أنهم أغصان الكرمة، الذين يجب عليهم أن يأتوا بثمار لله. ولكن سيأتي يوم، كما رأينا، عندما ستُختطف كنيسة الله، وبقية من إسرائيل سيبقون في العالم ليشهدوا لله. الرمز الآخر هو العلّيقة. هذه ترمز إلى إسرائيل بعيداً عن الله، كلعنة بدلاً من بركة للعالم. لقد كان قصد الرب أن يكون إسرائيل بركة لكل الأمم، ولكن لأنهم ابتعدوا الله فقد صاروا لعنة بدلاً من بركة بين الأمم. يوماً ما سيتغير هذا، وسيصبح إسرائيل وسيلة بركة لكل العالم.

الرمز الذي يشير إليه يسوع هنا هو شجرة التين. لقرون ظل بنو إسرائيل متفرقين ولم يكونوا شعباً واحداً. في نهاية الدهر ستبدأ شجرة التين بأن تزهر من جديد. سوف يُستعاد إسرائيل إلى العلاقة مع الله. سيكون هناك إسرائيل جديد، شعب متجدد، سيقود كل الأمم في تكرس للرب يسوع المسيح. شجرة التين تبدأ بالتبرعم. يوم الانعتاق قريب. "مَتَى أَفْرَخَتْ تَنْظُرُونَ وَتَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنَّ الصَّيْفَ قَدْ قَرُبَ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً فَاعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَرِيبٌ". لكأنه يقول: "انظروا إسرائيل، وانظروا الحركات وسط الشعوب الأخرى". "كُلِّ الأَشْجَارِ"، تشير بلا شكّ، إلى الأمم في الرؤيا النبوية. إذ نرى هذه الأحوال تتطور ونلاحظ ما يجري بين الأمم، نستطيع أن نرى التحالفات الكبيرة التي سيكون لها دورها في الصراع الأخير قبل عودة الرب يسوع المسيح. سيستعيد إسرائيل مكانته عند الله. وها إن كثيرين منهم يرجعون إلى الرب. نهاية هذا الدهر قريبة. نهاية أزمنة الأمم ستأتي قريباً جداً. أحد الأدلة على ذلك هو تحرك وجدان اليهود وإحساسهم بأن الفضل في دخول الأمم إلى العلاقة مع الله هو بفضل تعاليم يسوع المسيح الناصري، الذي كان أحد أعظم الرابيين لديهم. إنهم يعترفون بأن آباءهم لم يفهموه وارتكبوا خطأ فظيعاً في رفضهم له ولكن المحزن هو أنهم يفكرون به فقط كمعلّم عظيم وليس كإله متجسد. ومع ذلك فإن أعين كثيرين تنفتح إلى المسيح، المسيا الموعود به، ابن الله؛ وجرت محاورات أكثر تحديداً ووضوحاً في الربع الأخير من القرن الماضي من سابقاتها. "هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً فَاعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَرِيبٌ". ذاك الملكوت كان يشق طريقه إلى قلوب الناس منذ أن صعد ربنا إلى السماء ونزل الروح القدس إلى الأرض. وسرعان ما سيُعتلن هذا الملكوت بشكل صريح واضح.

"اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ". كان هناك جدال كثير حول معنى هذه الكلمات بالضبط. في تقديري، يقول الرب ببساطة أن ذلك الجيل في أيامه سوف لن يندثر إلى أن تكون كل هذه الأشياء قد تحققت. الله سيحفظ ذلك الجيل في العالم، رغم الأمر المحزن بأن الغالبية ستبقى في حالة عدم إيمان إلى أن تبدأ هذه الأمور بالحدوث.

"فَاحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ فَيُصَادِفَكُمْ ذَلِكَ الْيَوْمُ بَغْتَةً". إذ يحذر الرب تلاميذه فإن علينا أن ننتبه إلى هذه الكلمات في قلوبنا، وإن كنا ننتظر مجيء ربنا يسوع المسيح ليجمعنا بنفسه. علينا أن ننتبه لئلا نصبح منشغلين بأمور هذا العالم، بأن نهتم بكسب الرزق وإحراز تقدم في العالم، بحيث نخفق في وضع المسيح أولاً في حياتنا وأن نحيا يوماً فيوماً مثل أولئك الذين ينتظرون رجوعه. "اِسْهَرُوا إِذاً وَتَضَرَّعُوا فِي كُلِّ حِينٍ لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلاً لِلنَّجَاةِ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْمُزْمِعِ أَنْ يَكُونَ وَتَقِفُوا قُدَّامَ ابْنِ الإِنْسَانِ". هذه الكلمات لها تطبيق معين على أولئك الذين سيكونون على قيد الحياة في الأرض في أيام الضيقة العظيمة. مجيء ابن الإنسان هو الذروة، وهو متمايز دوماً عن مجيء الرب ليلاقي قديسيه في الهواء.

يُختتم الأصحاح بإخبارنا أن يسوع خلال الأسبوع الأخير من وجوده هنا على الأرض، "كَانَ فِي النَّهَارِ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَفِي اللَّيْلِ يَخْرُجُ وَيَبِيتُ فِي الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ". لا نعلم إن كنا هذا يشير إلى بيت عنيا الواقعة على المنحدر الشرقي من جبل الزيتون، أم أنه يعني أنه كان يبيت في العراء؛ مهما يكن من أمر، لقد كان يترك المدينة وديانتها حيث كان منبوذاً في أورشليم، ولكن كان يأتي في الصباح الباكر إلى الهيكل حيث كان كثيرون يجيئون إليه ليسمعوه.

الخطاب ٧١

الفصح الأخير وتأسيس عشاء الرب

" ١ وَقَرُبَ عِيدُ الْفَطِيرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْفِصْحُ. ٢وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ لأَنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ. ٣فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الاِثْنَيْ عَشَرَ. ٤فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ. ٥فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. ٦فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْواً مِنْ جَمْعٍ. ٧وَجَاءَ يَوْمُ الْفَطِيرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ الْفِصْحُ. ٨فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: «ﭐذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ». ٩فَقَالاَ لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟” ١٠فَقَالَ لَهُمَا: «إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ ١١وَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ الْمُعَلِّمُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ ١٢فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا». ١٣فَانْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا فَأَعَدَّا الْفِصْحَ. ١٤وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ اتَّكَأَ وَالاِثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ ١٥وَقَالَ لَهُمْ: «شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ ١٦لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ». ١٧ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ وَقَالَ: «خُذُوا هَذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ ١٨لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ اللهِ». ١٩وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي». ٢٠وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ. ٢١وَلَكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ. ٢٢وَﭐبْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ». ٢٣فَابْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا؟” ٢٤وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضاً مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ. ٢٥فَقَالَ لَهُمْ: «مُلُوكُ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَالْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ. ٢٦وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هَكَذَا بَلِ الْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَالأَصْغَرِ وَالْمُتَقَدِّمُ كَالْخَادِمِ. ٢٧لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ الَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ الَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ الَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ. ٢٨أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي ٢٩وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً ٣٠لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ». ٣١وَقَالَ الرَّبُّ: «سِمْعَانُ سِمْعَانُ هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! ٣٢وَلَكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ». ٣٣فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ». ٣٤فَقَالَ: «أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي». ٣٥ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقَالُوا: «لاَ». ٣٦فَقَالَ لَهُمْ: «لَكِنِ الآنَ مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. ٣٧لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هَذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ انْقِضَاءٌ». ٣٨فَقَالُوا: «يَا رَبُّ هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ». فَقَالَ لَهُمْ: «يَكْفِي!» " (لوقا ٢٢: ١- ٣٨).

نتأمل الآن في هذا المقطع الطويل الذي يتناول خمسة أحداث منفصلة متمايزة: أولاً، خيانة يهوذا؛ ثانياً، الإعداد والاحتفال بعيد الفصح؛ ثالثاً، تأسيس عشاء الرب؛ رابعاً، المكانة التي سيحتلها تلاميذ الرب في الملكوت المستقبلي؛ وأخيراً، تحذير الرب لبطرس.

حمل الفصح كان يُذبح في الليلة التي تحرر فيها بنو إسرائيل من مصر. بالنسبة إلى اليهود كان عيد الفصح هو إحياء ذكرى تلك الحادثة، ولكنه كان أيضاً رمزاً لشيء سيأتي في المستقبل. وجاء الآن اليوم عندما صار هذا قيد التحقيق. نقرأ في ١ كو ٥: ٧، ٨: "إِذاً نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ". في الكتاب المقدس، الخمير هو دائماً رمز للشر، كما رأينا. ولذلك فإننا مدعوون لأن نزيل من حياتنا كل ما هو نجس، كل ما هو مخالف لروح المسيح.

لقرون عديدة حافظ شعب إسرائيل على هذا العيد. والآن الرب يسوع المسيح، حمل الفصح الحقيقي، كان في وسطهم ومعظم الناس كانوا جاهلين تماماً بحضوره. بينما كان يستعد ليحفظ هذا العيد، كان رؤساء الكهنة والكتبة يتآمرون معاً ليروا كيف يقتلوه، وهم لا يدركون أنه كان المرموز إليه بحمل الفصح. "فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الاثْنَيْ عَشَرَ". لقد كان يصنع فقط ما سبق الله أن رآه وتنبأ به وعرف أنه سيحدث. خيانه يهوذا كان قد تم التنبؤ بها قبل قرون. كان الرؤساء يتآمرون ليقتلوا يسوع، وتملك الشيطان قلب أحد تلاميذ الرب، الذي عرض أن يسلمه إليهم لقاء المال. فكروا في يهوذا الذي كان يرافق الرب وبقية التلاميذ لثلاث سنوات ونصف رائعة، يتكلم الآن مع رؤساء الكهنة وقواد الجند ليروا كيف يسلمه إلى أيديهم! هناك كثيرون اليوم ممن يرافقون مسيحيين ويأخذون دوراً فعالاً في الخدمات الدينية ولكنهم لم يعرفوا المسيح بأنفسهم. هكذا كان حال يهوذا. وذلك عندما جاء الوقت وجد الشيطان فيه أداة جاهزة لتنفذ إرادته. "فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ". قد يبدو الأمر شبه مستحيل وغير قابل للتصديق حقيقة أن نفس النوع من السلوك ما برح يتكرر منذ ذلك الوقت. "فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْواً مِنْ جَمْعٍ". تخيل يهوذا أنه ما من عين سترى أو أذن ستسمع بمؤامرته مع رؤساء الكهنة؛ ولكن يسوع، الله متجلياً فيه، كان يعرف كل شيء عن الصفقة، كما تبين فيما بعد.

وإذاً جاء اليوم عندما وجب أن يُقتل حمل الفصح. وهذا الأمر يفرض سؤالاً محيراً لبعض الناس. علينا أن نتذكر أن يوم اليهود كان يبدأ بالغروب، وأن ذلك كان بعد غروب يوم ١٤ نيسان أن الرب احتفل بعيد الفصح مع تلاميذه. قبل غروب اليوم التالي، أي، ما بعد ظهر اليوم التالي، مات ربنا نفسه على الصليب. وهكذا حفظ الفصح بالأمسية الأولى من اليوم الموعود، وهو نفسه تألم ومات كونه الفصح الحقيقي قبل مساء اليوم التالي. بحسب تقدير اليهود، إذاً، كلا الحدثين وقعا في يوم واحد.

أَرْسَلَ يسوع "بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: «ﭐذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ»". فَسألوه السؤال الطبيعي قائلين لَهُ: "«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟»". لم يكن ليسوع بيت في أورشليم أو جوارها. ولكن في تلك كان من عادة اليهود أن يكون لديهم غرفة خاصة مخصصة لغرفة الضيوف حيث كانوا يستضيفون المسافرين، وخاصة في زمن عيد الفصح. والآن عرف يسوع شخصاً كان مستعداً ليستقبلهم في بيته، وحيث كان يستطيع أن يأكل الفصح مع تلاميذه. فَقَالَ لَهُمَا: "إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ". قد نفكر بأن هذه التعليمات كانت غير محددة نوعاً ما. لم يخبرهم اسم الرجل ولا شيء آخر يستطيعون به أن يتعرفوا على هويته؛ فكيف كانوا سيستطيعون أن يعرفوا إذا ما التقوا بالشخص المطلوب؟ حسنٌ، ترون أن ذلك كان أمراً غير عادي لرجل أن يوجد في شوارع عامة وهو يحمل جرة ماء. ففي العادة كانت النسوة هنّ اللواتي يذهبن إلى البئر ويحملن المياه، وعموماً في جرار من الفخار على رؤوسهنّ. هذه هي العادة المألوفة والتي لا تزال حتى الآن في أراضي الشرق. فعندما قال يسوع: "إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ"، لقد أشار إلى شيء مميز. حامل الماء قد يدلنا على أولئك الذين يستقون الماء بفرح من آبار الخلاص. "وَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ الْمُعَلِّمُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟” كان هذا هو كل المطلوب. من الواضح أن صاحب البيت كان مؤمناً بالرب. "فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا". ربما يكون هذا هو البيت الذي عاش فيه يوحنا مرقس، وأن هذه الحجرة العلوية الكبيرة كانت نفسها التي اعتكف فيه التلاميذ بعد قيامة ربنا، وحيث أقامت الكنيسة الأولى اجتماعات صلاتها. "فَانْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا فَأَعَدَّا الْفِصْحَ". أعدّا المائدة بالحمل المشوي، والخبز الفطير، والأعشاب المرة، وخمر الفصح. بعدئذٍ نقرأ أنه "لَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ اتَّكَأَ وَالاِثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ". لقد كان مشهداً مباركاً من الشركة والصداقة الحميمة، ما عدا العلامة الناشذة الوحيدة- وجود يهوذا الخائن. "وَقَالَ لَهُمْ: شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ". لقد كان مشهداً مباركاً من الشركة والصداقة، ما خلا أمر واحد معكّر- حضور يهوذا الخائن. غالباً ما كان يشارك في أعياد الفصح في السنوات التي مضت. لقد كانت صورة عن موته الوشيك، ومحبته التي قادته لأن يتوق إلى أن يكون خاصته وحدهم معه في وليمة الفصح. لقد كان يعرف جيداً ما سيحدث له. لقد كان الوحيد في إسرائيل الذي يعرف أن هذا الفصح كان رمزاً سابقاً لموته نفسه على جبل الجلجثة والخلاص الذي كان سينجزه بسفك دمه الثمين. والآن جاء إلى العشاء الأخير الذي سيكون مميزاً في عيني الله، وهو آخر فصح سيشارك به بنفسه قبل أن يحقق كل ما جاء لإنجازه.

قال: "إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ". الرمز كان يتلاشى، والمرموز إليه بدا يأخذ مكانه. "ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ". هذا الكأس ليس له علاقة بعشاء الرب؛ لقد كان خاتمة لاحتفال الفصح. قال: "خُذُوا هَذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ اللهِ". لم يكن الله قد طلب منهم أو أمرهم أن يستخدموا ثمار الكرمة في الفصح، ولكن هذه كانت عادة مُورست على مدى قرون، والرب كان يعرف ذلك وقد قبِل به، لم يشرب من الكأس بنفسه، لأن ثمر الكرمة يرمز إلى الفرح والسرور. لقد كان ماضياً إلى الألم والموت. لم تكن ساعة سعادة وسرور بالنسبة له؛ كان ينتظره أن يحمل الصليب قبل أن يدخل إلى فرحه نفسه.

بعد الفصح أسس الرب الفريضة الجميلة التي مارستها كنيسة الله لحوالي ألفي سنة تذكاراً لموته وآلامه. "وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي". لقد أخذ أحد أرغفة الفصح، المنبسطة التي ليس فيها خمر، والتي كسرها. غريب أن يفترض أي إنسان أن ما قصده هنا كان أن يحوّل الخبز إلى جسده نفسه. لقد كان تصرفاً رمزياً. الخبز بقي كما كان بعد رفع الشكر، ولكنه الآن صار له معنى خاص كصورة عن جسده الذي سيُسلم إلى الموت. قال: "هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي". أي، اصنعوا هذا من وقت إلى آخر لكي تتذكروني. "وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ". هذا هو كأس البركة (١ كور ١٠: ١٦) الذي يؤسس للعهد الجديد بدم المسيح الذي على وشك أن يُسفك على الصليب لأجل فدائنا. إذ شربوا منه كانوا يعبّرون عن شركتهم كخطأة مفديين مع الله بدم المسيح. كان يوم العهد القديم قد بدأ يزول، وها هو الرب على وشك أن يختم عهداً جديداً بسفك دمه على الصليب.

عشاء الرب (١ كور ١١: ٢٠) هو وليمة للتذكر، يُقصد بها أن تحمل أذهاننا وتذكرنا بموت مخلّصنا وأيضاً لتجعلنا نتطلع إلى مجيئه ثانية (١ كور ١١: ٢٦). كانت الوليمة، في البدايات، عبارة عن وليمة بسيطة للغاية، تُدعى كسر الخبز (أعمال ٢: ٤٦)، ويبدو أنها كانت تقام يومياً في البداية أو كلما اجتمع بضعة مسيحيين معاً، على الأرجح في نهاية كل وليمة عادية. ويبدو أنه صار يُحتفل بها فيما بعد بشكل منتظم في اليوم الأول من الأسبوع (أع ٢٠: ٧)، رغم أنه ليس من قانون يلزمنا بذلك. عبارة "كُلَّمَا" صنعتم ذلك يبدو أنها تفسح مجالاً لتلاميذ المسيح ليحددوا زمان وعدد مرات تكرارها بحسب محبتهم وروحانيتهم. في هذه الخدمة التذكارية يبقى الخبز خبزاً، ونتاج الكرمة في الكأس لا يتبدل في طبيعته، ولكن الطابع التمثيلي للخبز والخمر يبقيان هناك. عندما قال يسوع: "هَذَا هُوَ جَسَدِي"، و"هَذِهِ.... هِيَ.... دَمِي"، جلس وسط أتباعه، وكان دمه لا يزال يجري في عروقه وجسده متجلياً ظاهراً بينهم. لقد كان الأمر كما لو أن شخصاً يرفع صورة أمام صديق ويقول له: "هذه أمي". ما من أحد سيفكر أن قطعة الكرتون قد تحولت فعلاً إلى جسد ودم امرأة. ولكن هذه التذكارات كانت مخصصة لتستحضر أمامنا بشكل حيوي شخص ربنا المعبود، وتمكننا من أن نتذكره في فكرنا في أكثر من الوضوح العادي. بسبب ذلك، ورغبة يسوع التي عبّر عنها بأن علينا أن نتذكره، كان فرح قلب المسيحيين على مر القرون والأجيال أن يجتمعوا معاً حول مائدة الرب ليفكروا في آلامه، ويتأملوا في محبته، ويتمتعوا بالشركة معه.

في الاحتفال بعشاء الرب علينا أن ننشغل بالمسيح نفسه، بذكريات محبته ونعمته، متذكرين آلامه، ومعاناته، وموته، ونضع في أذهاننا وعده بالمجيء ثانية وقبوله لنا. إنه من الخطأ أن نفكر في هذه الفريضة المباركة على أنها وسيلة للنعمة. بمعنى أن لها علاقة بخلاص النفس. لقد قُصد بها أن تعمّق في قلب أولئك الذين يخلصون الإدراك بعظيم قيمة المسيح. إننا نجتمع معاً لنتذكره، وإذ يملأ بصر نفوسنا نحتفل بالروح متذكرين ما هو وما صنعه.

بعد ذلك لدينا خيانة يهوذا. "وَلَكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ". نقرأ أنه: "بَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ»". وخرج في الحال وكان الجو ليلاً- ليس فقط ليلاً في الخارج بل أيضاً في نفسه ذاته، التي لم يكن لأي شعاع من النور أن يخترقها عندئذ. تابع يسوع يقول أن حقيقة وجوب مجيء ابن الإنسان إلى العالم ليموت لن تكون مبرراً لأولئك الذين طلبوا أن يصلبوه متعمدين. "وَﭐبْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ". في الواقع، وبحسب يوحنا ١٣: ٢٩، ٣٠، غادر يهوذا الغرفة قبل تأسيس عشاء الرب.

في الآية ٢٤ نقرأ عن نزاع بين التلاميذ حول من يجب أن يكون الأعظم. كان الرب على وشك أن يموت؛ وكان قد أعطاهم لتوه من خلال المشاركة في عشاء الرب، صورة عن موته، والآن هؤلاء الذين يحبونه فعلاً بدأوا يتشاجرون فيما بينهم حول من سيكون له المكانة الرئيسية في الملكوت الآتي. الكبرياء أمر يصعب اقتلاعه. كانوا هناك مع ظل الصليب الذي الملقى فوقهم، يختلفون فيما بينهم حول من يكون الأعظم. وبخهم يسوع بلطف للإشارة إلى أنه رغم هذه الروح الطموحة أمر شائع بين الأمم ومتوقع بين الناس الخطأة، إلا أنها يجب ألا تكون موجودة وسط خاصته. "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هَكَذَا بَلِ الْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَالأَصْغَرِ وَالْمُتَقَدِّمُ كَالْخَادِمِ". لقد كان أمراً اعتيادياً عند القادة الدنيويين أن يسعوا للإمساك بأتباعهم في حالة إذعان وخضوع، وأولئك الذين كانوا يفعلون ذلك كان يُنظر إليهم كمحزنين إذا ما بدا وكأنه يحكمون في برٍّ. ولكن هذه الشهوة إلى المكانة والسلطة أمر غير ملائم لتلميذ يسوع. العظمة تتبدى في الخدمة المتواضعة. ملكوت الله هو الملكوت الوحيد الذي عرفه الإنسان والذي يكون الأعظم هم أولئك الذين يأخذون المكانة الأكثر اتضاعاً. "لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ الَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ الَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ الَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ". في هذا الموقف ضرب يسوع لهم مثلاً يجب على كل أتباعه أن يحتذوا به.

بعدئذٍ قال يسوع: "أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً". عندما سيأتي ثانية ليملك في المجد، أولئك الذين شاركوه الرفض الذي لاقاه الآن سيشاركونه في انتصاره (رؤ ٣: ٢١). إنه لا يشير إلى الدهر الحاضر الحالي بل إلى ذاك الذي سيلي هذا. عندما سيؤسس ملكوته على كل هذا الأرض؛ وفي ذلك اليوم أولئك الذين تماثلوا مع يسوع، شعبه الخاص، الذين كانوا يعترفون به عندما لاقى الهزء والرفض، ستكون لهم مكانة مرموقة ورائعة. سيجلس الاثنا عشر على عروش ويدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر. "لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ". الاثنا عشر (وقد أخذ متياس مكان يهوذا، أع ١: ٢٦) يجب أن تكون لهم مكانة خاصة بإدارة الملكوت الآتي فيما يتعلق بإسرائيل المستعاد. بينما في الكنيسة، ستكون لهم القيادة مع المسيح.

وأخيراً يقول الرب: "سِمْعَانُ سِمْعَانُ هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ!". الكلمة الأصلية المترجمة "طَلَبَ" هي أقوى من ذلك؛ يفضل ترجمتها بـ "طالبَ". كما أن الشيطان ذهب إلى الله وطالب عملياً بأن ينال فرصة اختبار أيوب، متهماً إياه أمام الله، قائلاً أن أيوب أحب الله فقط لأجل ما وهبه الله إياه، كذلك فإن الشيطان طالب بأن يختبر بطرس. ولكن يسوع قال: "طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ". كما تعلمون، عندما ندخل في غربال الشيطان، يستطيع أن يهزّنا بعنف وقسوة، ولكن كل ما يتبقى عندما ينتهي من ذلك هو عصافة: الحب يسقط من خلال الغربال، وإبليس لا تكون له سوى العصافة. فلا تخافوا من غربال الشيطان؛ إن الله قادر على أن يؤازرنا. تذكروا أن يسوع قال: "طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ". لقد أخفق بطرس بشكل محزن. أنكر الرب ثلاث مرات، ولكن إيمانه بقي وحُفظ، ونجده يعود إلى يسوع وهو قادر على أن يقول له: "يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قال له الرب يسوع: "وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ (أي متى اهتديت وتجدَّدتَ)، ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ". أحياناً يسمح الرب بأن يخفق بعض أفضل خدّامه لكي يظهر لهم ضعفهم، وأنه يمكنهم أن يكونوا أكثر عطفاً وتعاطفاً وحنواً نحو الآخرين. قال بطرس وهو غير مدرك لضعفه: "يَا رَبُّ إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ". ولكن الرب قال له: "أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي". لقد كان الرب يعرف بطرس أكثر بكثير مما كان هو يعرف نفسه، وهو يعرفك أنت ويعرفني أكثر مما نعرف أنفسنا.

بعد ذلك حذّر ربنا تلاميذه من الصراعات الآتية. كان يعلم ما سيحدث، فقال لهم: "حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟"- أي، عندما أرسلهم إلى مدن الجليل لينقلوا رسالة إنجيل الملكوت. "فَقَالُوا: «لاَ»". كان قد تأمّن لهم كل شيء. قَالَ لَهُمْ: "لَكِنِ الآنَ مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً". لم يعني حرفياً أن عليهم أن يتسلّحوا بسيوف حقيقية مادية؛ ولكننا نعلم في مكان آخر من الكتاب المقدس أن كَلِمَةَ اللهِ أَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ (عب ٤: ١٢). عندما كانوا على استعداد لمغادرة العلِّية، قالوا له: "«يَا رَبُّ هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ»". فَقَالَ لَهُمْ: «يَكْفِي!»"- أي كفى كلاماً حول ذلك. لم يكن يتكلم عن الدفاع الفعلي؛ لم يكن مهتماً بالأسلحة. لقد أراد لهم أن ينطلقوا مسلّحين بسيف الروح القدس لكي يواجهوا أعداء الحقيقة وهم يعلنون الإنجيل.

الخطاب ٧٢

الكرب في جثسيماني

" ٣٩ وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ وَتَبِعَهُ أَيْضاً تَلاَمِيذُهُ. ٤٠وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ: «صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». ٤١وَﭐنْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى ٤٢قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». ٤٣وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. ٤٤وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. ٤٥ثُمَّ قَامَ مِنَ الصَّلاَةِ وَجَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً مِنَ الْحُزْنِ. ٤٦فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». ٤٧وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ وَالَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا - أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ - يَتَقَدَّمُهُمْ فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ. ٤٨فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟» ٤٩فَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ حَوْلَهُ مَا يَكُونُ قَالُوا: «يَا رَبُّ أَنَضْرِبُ بِالسَّيْفِ؟» ٥٠وَضَرَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى. ٥١فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «دَعُوا إِلَى هَذَا!» وَلَمَسَ أُذْنَهُ وَأَبْرَأَهَا. ٥٢ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ الْهَيْكَلِ وَالشُّيُوخِ الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! ٥٣إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ الأَيَادِيَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ» " (لوقا ٢٢: ٣٩- ٥٣).

تاركاً العلّية، مضى الرب مع تلاميذه الإحدى عشر عبر غدير قدرون إلى جبل الزيتون. لقد كانت من عادته، عندما يكون في اليهودية، أن يخلو إلى نفسه من وقت إلى آخر في بستان على سفح هذا الجبل، يُدعى كما نعلم من مكان آخر ببستان جثسيماني. إلى هذا المختلى كان يشق طريقه. لا يذكر لوقا حقيقة أنه ترك ثمانية من أتباعه عند مدخل البستان واكتفى بأخذ بطرس ويعقوب ويوحنا معه وهو يعبر إلى داخل البستان. إذ جاء إلى الموضع الذي كان متعوداً على أن ينخرط في الصلاة أوصاهم قائلاً: "صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. وَﭐنْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ"، وكان يقول لهم ذلك وهو يتوغل إلى داخل الظلال في بستان الزيتون ذاك.

وهناك خرّ على ركبتيه وراح يصلّي. لقد كان يعاني بشدة من اضطراب روحه. حقيقة أنه كان القدوس بشكل مطلق جعلته يمتلئ بأعمق الحزن وهو يتأمل في المعنى الكامل للصليب. ما كان ليستطيع أن يكون كما هو أو كما كان عليه لو لا تأمله برباطة جأش بفظاعة أن يُجعل خطيئة من أجل عالم آثم. لقد انكمشت كل طبيعته البشرية المقدسة من هذه المحنة الفظيعة. لم يكن يخشى الموت؛ بل صلّى "بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ.... لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ"، كما يرد في الآية في عبرانيين ٥: ٧. يخبرنا النص هناك أنه "سُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ"، أي من أجل تبجيله لله أبيه.

في محنة نفسه، صلّى قائلاً: "يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ". ما كان ذاك الكأس الذي يخشاه؟ لقد سمعتُ أموراً عديدة كثيرة لا تستحق الذكر قالها أولئك الذين كانوا يحاولون أن يفسروا هذه. اعتقد البعض أنه كان في محنة شديدة حتى أنه خشي أن يفقد عقله وأن يعجز عن أن يذهب إلى الصليب كبديل عن الخطأة طوعياً. ولكن أولئك الذين يتكلمون بهذه الطريقة تعوزهم البصيرة ورؤية حقيقة أنه لم يكن فقط إنساناً بكمال مطلق، بل أيضاً كان الله بكل قدرته. لم يكن الشيطان يستطيع أن يفعل شيئاً حياله سوى برضى الله؛ وليس لدينا أي مكان في الكتاب المقدس يشير إلى أن الشيطان كان يُسمح له بأن يتفوق هكذا على مسيح الله.

علّم آخرون أنه كان يخشى أن يحطّمه خصومه إلى الموت في البستان، وبالتالي يُهزم مخطط الله الذي كان يستدعي أن يُصلب على العود. ولكن هذه النظرية تتجاهل إعلانه الذاتي عندما قال: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا (حياته) مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا. هذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي" (يو ١٠: ١٨). هذا يتناقض تماماً مع أي افتراض بقدرة الشيطان على أن يهلك يسوع أو يدمره قبل الوقت المحدد المعين.

الكأس الذي كان يخشاه لم يكن الموت على هذا النحو. لقد كان كأس الدينونة الذي ملأته خطايانا. نقرأ في المزمور ٧٥: ٨ أنه: "فِي يَدِ الرَّبِّ كَأْساً وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنَةٌ شَرَاباً مَمْزُوجاً. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لَكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ الأَرْضِ". كأس غضب الله هذا ضد الخطيئة كان هو الذي انكمشت إزاءه نفس المخلّص المقدسة. هناك في الحديقة صلّى فيما إذا كان هناك أي طريقة أخرى يمكن بها تسوية مسألة الخطيئة، وهذا ما ظهر. لم تكن هناك معارضة لمشيئة الآب، ولا صراع إرادات. بل كان هناك بالأحرى إذعان كامن لمشيئة الله حتى وإن خشي شرب كأس الدينونة. لقد كان كمال ناسوته متجلياً في تلك الساعة من كرب روحه. لوقا وحده ون سائر الإنجيليين يخبرنا أنه "ظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ". كم يؤكد هذا على واقعية ناسوته! فهو، خالق الملائكة، الآن كإنسان، يستمد قوة من خدمة أحد هذه الكائنات المجيدة.

"إِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ". كان هناك مغزى كبير في هذا بالنسبة إلى لوقا، الذي ندين له وحده بهذه المعلومات. لقد أظهر شدة الضغط الذي كان يعاني منه ربنا. عندما انتهت المحنة نهض يسوع في هدوء كامل للنفس وجاء إلى تلاميذه، الذين وجدهم "نِيَاماً مِنَ الْحُزْنِ. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ»". بالنسبة لهم كان الاختبار الأسمى على وشك أن يجري، عندما سيُؤخذ منهم ويُتركون مرتبكين حائرين وخائفين. ما أن تكلم إليهم حتى ظهرت الأنوار، وحشد من الجنود، والكهنة، والمدنيين يقتربون، يقودهم يهوذا الخائن، الذي "دَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ". كانت هذه الإشارة المرتبة مسبقاً التي ستدل الجنود على من يجب أن يعتقلوا. "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟” من الواضح أن الخائن البائس لم يجب، وبدأ الجنود في القبض على يسوع. استيقظ التلاميذ هنا وصرخوا: "يَا رَبُّ أَنَضْرِبُ بِالسَّيْفِ؟” وراح أحدهم- بطرس، كما نعلم من مصادر أخرى- يضرب بسيفه، فقطع الأذن اليمنى لعبد رئيس الكهنة. ولكن يسوع قال: "دَعُوا إِلَى هَذَا!"؛ وشفى الرجل الجريح. حسنة تلك الملاحظة التي أبداها أحدهم: "كم نبقي الرب منشغلاً في إعادة الآذان التي نقطعها في حماسة وغيرة ليست في محلها!".

مخاطباً رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ الْهَيْكَلِ وَالشُّيُوخِ، قال يسوع: "كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ الأَيَادِيَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ". لقد كانت مداهمة. لم يجرؤوا على أن يحاولوا القبض عليه بحضور الناس، لأن كثيرين منهم آمنوا بأنه كان نبياً حتى ولو لم يعرفوا أو يعترفوا أنه المسيا الموعود. ولكن في الظلمة وضع هؤلاء الكهنة الجبناء وأتباعهم أيديهم عليه رغم أنه كان قد أسلم نفسه طوعياً إليهم؛ واقتادوه إلى المحاكمة كمجدّف وفتنوي محرّض على التمرد والعصيان. لقد كان هذا تجلٍّ محزن للشر الفائق في قلوب أولئك الكهنة ورؤساء الدين الأتقياء خارجياً ظاهرياً.

الخطاب ٧٣

إخفاق بطرس وتوبته

" ٥٤ فَأَخَذُوهُ وَسَاقُوهُ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ. ٥٥وَلَمَّا أَضْرَمُوا نَاراً فِي وَسَطِ الدَّارِ وَجَلَسُوا مَعاً جَلَسَ بُطْرُسُ بَيْنَهُمْ. ٥٦فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِساً عِنْدَ النَّارِ فَتَفَرَّسَتْ فيهِ وَقَالَتْ: «وَهَذَا كَانَ مَعَهُ». ٥٧فَأَنْكَرَهُ قَائِلاً: «لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا امْرَأَةُ!» ٥٨وَبَعْدَ قَلِيلٍ رَآهُ آخَرُ وَقَالَ: «وَأَنْتَ مِنْهُمْ!» فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا إِنْسَانُ لَسْتُ أَنَا!» ٥٩وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَكَّدَ آخَرُ قَائِلاً: «بِالْحَقِّ إِنَّ هَذَا أَيْضاً كَانَ مَعَهُ لأَنَّهُ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً». ٦٠فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا إِنْسَانُ لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ». وَفِي الْحَالِ بَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ صَاحَ الدِّيكُ. ٦١فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ كَيْفَ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». ٦٢فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً " (لوقا ٢٢: ٥٤- ٦٢).

في سرد هذه القصص الحياتية عن يسوع نجد أمراً يميز الكتابات المقدسة، ليس فقط الدليل على المحبة والتكرس، بل أيضاً شيء من الأخطاء والخطايا التي ارتكبها أصدقاء الله في العهد القديم وتلاميذ ربنا في العهد الجديد. السبب، فيما أعتقد، هو أن الله يريدنا أن نتعلم كيف نتحاشى إخفاقاتهم، ونحاكي فضائلهم، ونتبع مثالهم في إتباع المسيح. قد نعتقد أنه كان من الأفضل بأن تخبرنا الأناجيل فقط بالأمور الجيدة وأن تغطي على أخطاء هؤلاء الفاضحة، ولكن عندها سنأتي على الأرجح إلى الاستنتاج بأن خدام الله هؤلاء وربنا يسوع في القرون الماضية كانوا مختلفين تماماً عنا؛ وأنهم كانوا أناساً يفوقوننا، ولم يخفقوا كما نحن نفعل. وهكذا نحصل على القصة الكاملة. نفوس كثيرة احترست وساعدتها رواية إخفاق بطرس وتوبته، والحمد لله. حياة بطرس كلها كما نعلمها من كتابنا المقدس هي قصة شيّقة جداً ومفيدة في التعليم: صياد السمك الصلب هذا والذي، من بداية لقائه بالرب يسوع، كرّس قلبه له. لقاؤه الأول بيسوع كان في تلك المناسبة عندما خرج أخوه أندراوس، وكما نقرأ في يوحنا ١: ٤١، يطلبه وأتى به إلى الرب بعد أن كان أندراوس ويحنا، كاتب الإنجيل الرابع، قد أمضيا فترة بعد الظهر مع المخلّص. منذ ذلك الزمان وصاعداً ربح المسيح قلب بطرس، ولكنه لم يترك كل شيء فوراً من أجل المسيح؛ لم يُدعَ ليفعل ذلك. فيما بعد كان الرب يكرز على شاطئ بحر الجليل، واحتشد الناس حوله. نظر يسوع حوله، وهناك كان قارب صيد بطرس قرب الشاطئ؛ فطلب الرب الإذن بأن يدخل إليه، واستقبله بطرس بسرور. أخبره يسوع أن يبتعد قليلاً عن اليابسة؛ وباستخدام قارب بطرس كمنبر علّم يسوع الشعب. كان هذا أمراً يسهل القيام به. كل من هو هنا سيتذكر كيف أن الأرض عند الشاطئ ترتفع تدريجياً إلى الأعلى، مشكّلة ما يشبه المدرّج. كان الجمع واقفاً أو جالساً على الأرض وينظر إلى الرب وهو يكرز بالكلمة. وعلى الأرجح أن الرسالة لم تصل حقاً إلى قلب هذا الرجل المسمى سمعان؛ ولكن فيما بعد عندما تفرق الجمع، التفت يسوع إلى بطرس وقال: "ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ" (لو ٥: ٤). اندهش بطرس من هذا، لأن الشمس كانت مشرقة؛ فقد كان من المستبعد جداً في ذلك الوقت أن ينجحوا في الصيد، وقال: "يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا". والآن صار الوقت نهاراً وهو ليس وقت صيد، ولكن بطرس قال: "عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ"؛ وفي الحال اصطادوا مقداراً كبيراً جداً من السمك. وتعرفون بقية القصة. الأمر اللافت هو هذا: عندما رأى بطرس السمك الذي كانوا قد اصطادوه في ذلك الوقت من النهار عرف أنه كان في حضرة خالق السمك، وركع عند قدمي يسوع وقال: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!". ومع ذلك فقد ألقى بنفسه عند قدميه، وكأنه يريد أن يقول له: "بينما أعرف أني لستُ أهلاً لرفقتكَ، يا رب، فإنك لن تتخلى عني إن استطعتُ تحاشي ذلك". الرب لا يتخلى أبداً أو يشيح بوجهه عن اعتراف أي خاطئ. فقال الرب لبطرس كلمات تشجيع، مؤكداً له ثقته به، وقال له: "لاَتَخَفْ! مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!". لقد دعا يسوع بطرس لأن يكون ملازماً له طوال الوقت؛ ولذلك ترك مهنة صيد السمك ليصير صياداً للناس. فيما بعد أبدى بطرس اعتراف الإيمان الكبير هذا: "سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» فَقَالُوا: «قَوْمٌ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ وَآخَرُونَ إِيلِيَّا وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». قَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟»". في إجابته عن كل التلاميذ، قال بطرس في حماسة مقدسة: "أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ لَكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متى ١٦: ١٣- ١٧). إن الفضل يرجع دائماً إلى الإعلان الإلهي عندما يأتي المرء إلى معرفة الرب يسوع المسيح في السرّ الحقيقي لشخصه. ثم قال الرب: "أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا". لا أعتقد أن بطرس قد ارتفع أبداً إلى مستوى أعلى خلال خبرته الروحية بينما كان الرب هنا من ذلك الوقت. ولكن هل لاحظتم فتور الحماسة والإيمان الذي بدأ بعد ذلك مباشرة تقريباً؟ يجب أن ننتبه إلى هذا التحذير الهام: "مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ" (١ كور ١٠: ١٢). كان الرب قد تكلّم للتو عن الإعلان الرائع التي أُعطي لبطرس ثم تابع يخبرهم عن موته الوشيك على الصليب، لتتبعه قيامته؛ وأما بطرس، فمستثاراً بلا شك بوفرة هذا الإعلان، التفت إلى الرب وتجرأ على أن يقول له: "حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!" (متى ١٦: ٢٢). لقد كان يصحّح، أو يحاول أن يصحّح كلام يسوع بقوله أنه كان سيُسلم إلى الأمم ويُصلب. أعلن بطرس أنه ما من شيء مثل ذلك يمكن أن يحدث. الْتَفَتَ الرب إلى بطرس في الحال وَقَالَ له: اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ". يا له من توبيخ يوجه إلى رئيس الرسل، والذي جاء فوراً بعد إعلانه ذلك الاعتراف العظيم! من الواضح أنه كان قد صار مثاراً بالكبرياء الروحي، وقاده الشيطان إلى أن يقول ذاك، الذي لو حدث فعلاً، سيعني أننا سنُترك بدون مخلّص وأن خطايانا ما كانت ليُكفّر عنها. فبالذهاب إلى الصليب أمكن مغفرة الخطيئة.

لا نقرأ كثيراً عن الخبرات التي مرّ فيها بطرس بعد ذلك، ولكننا نعلم أنه لم يصل إلى ذلك المستوى الروحي الرفيع مرة أخرى. على جبل التجلي، عندما كان يسوع يتكلم مع موسى وإيليا عن موته الذي كان سيتم في أورشليم، شعر بطرس بأن عليه أن يقول شيئاً- رغم أنه ما كان يعرف ما يقول- ولذلك أعلن فجأة: "يَا رَبُّ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ. لَكَ وَاحِدَةٌ وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ وَلِإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ. وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُو" (مت ١٧: ٤، ٥). لكأنه كان يقول له: "يا بطرس، لا تضع أي أحد على مستوى ابني؛ فيجب أن تكون له الأسبقية والأولوية في كل الأشياء".

يمرّ الكتاب المقدس على بقية قصة بطرس إلى أن يصل إلى الليلة التي تمّ فيها تسليم ربنا. وعندها نراه مع بقية التلاميذ في العلّية. قال الرب: "كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ" (مت ٢٦: ٣١). بدافع من الثقة بالنفس، ومع ذلك المحبة للرب، وإذ يعني كل كلمة يقولها دون أن يدرك ضعفه الذاتي، قال بطرس: "وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!" (مت ١٤: ٢٩). "إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ" (لو ٢٢: ٣٣). كان مصيره أن يذهب إلى السجن وإلى الموت بعد عدة سنوات لأجل المسيح، ولكنه لم يكن مستعداً في ذلك الوقت. قال له الرب: "أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي". وهو الذي عرف بطرس جيداً، فقال له: "لَكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ".

خرجوا إلى بستان الآلام؛ وهناك أخفق بطرس مع الآخرين: لأن الرب أخذ بطرس ويعقوب ويوحنا إلى داخل البستان معه. قبل أن يذهب أبعد قليلاً ليتكلم مع أبيه، قال الرب للثلاثة: "اسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ" (مت ٢٦: ٤١). فابتعد قليلاً وصلّى: "يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ" (مت ٢٦: ٣٩). وعندما وقف على قدميه وجد التلاميذ الثلاثة نِيَامًا مِنَ الْحُزْنِ؛ لقد كان هذا ضعف الجسد. كان بطرس نائماً عندما كان ينبغي عليه أن يكون متيقظاً، مترقباً ومصلّياً. أيقظهم الرب من نومهم العميق، ومن جديد أخبرهم بأن يحترسوا ويترقبوا ويصلّوا؛ ومضى بعيداً للمرة الثانية، يصلّي بنفس الكلمات قائلاً: "لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ". وعندما عاد في المرة الثالثة ووجد أن بطرس كان لا يزال نائماً، قال: "نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا. هُوَذَا السَّاعَةُ قَدِ اقْتَرَبَتْ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ" (مت ٢٦: ٤٥). فَلِلْوَقْتِ جاء يهوذا والبقية، فقال يهوذا: "السَّلاَمُ يَا سَيِّدِي! وَقَبَّلَهُ". جاؤوا وأخذوا يسوع، واستشاط بطرس غضباً. الآن صار محترساً، واستدار وسحب سيفه وقطع أذن أحد عبيد رئيس الكهنة. قال الرب: "رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ". وأبرأ الرجل. كان ذلك نشاط الجسد من جانب بطرس. فهو، الذي كان نائماً قبل قليل في حين كان يجب أن يكون متيقظاً ومتأهباً، هبّ الآن وصار نشيطاً فعالاً بينما كان عليه أن يكون مذعناً وهادئاً. أخذوا يسوع، ونعلم أن بطرس "تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ". كان هذا دليل آخر على حالة الفتور عند بطرس: بدلاً من أن يبقى قريباً من يسوع ويسمح للجميع بأن يروا أنه من أتباعه، راح يتبعه من بعيد؛ ما كانت محبته لتسمح له بأن يتركه نهائياً؛ وأخيراً وصل إلى بيت رئيس الكهنة. وهناك في الباحة كانت نارٌ متقدة، لأن الجو كان ليلاً بارداً؛ فدخل بطرس وجلس مع آخرين حول النار. من جديد نراه منجرفاً برفقة الفُجّار بينما الرب كان قيد المحاكمة ويعاني المحنة. "رَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِساً عِنْدَ النَّارِ فَتَفَرَّسَتْ فيهِ وَقَالَتْ: «وَهَذَا كَانَ مَعَهُ». فَأَنْكَرَهُ قَائِلاً: «لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا امْرَأَةُ!» وَبَعْدَ قَلِيلٍ رَآهُ آخَرُ وَقَالَ: «وَأَنْتَ مِنْهُمْ!» فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا إِنْسَانُ لَسْتُ أَنَا!»". كلما فتح فمه أكثر كلما وقع في مشكلة أكبر. كان للجليليين لهجتهم الخاصة بهم، ولذلك كان يمكن لليهوذاويين أن يعرفوا بطرس في الحال على أنه أحد أبناء المقاطعة الشمالية. لقد فضحه كلامه. إذ كانت مخاوفه تغلبه، بشكل واضح، ابْتَدَأَ بطرس يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ قائلاً: "إِنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!". "وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ". تذكر بطرس كلمات المخلّص عندما نظر يسوع إليه. لقد كان بطرس قد انزلق إلى الحضيض أكثر فأكثر، لدرجة أنه أنكر كل معرفة بالمسيح. ولكن الآن، كم بكى إذ رأى يسوع يحدّق إليه بحزن وبلوم! كانت تلك بداية عمل الاستعادة. كانت التوبة قد بدأت. إذا تتبعنا التسلسل في القصة نجد أن الرب كان له لقاء خاص شخصي ببطرس بعد القيامة. ونعلم أن النسوة اللواتي وصلن إلى القبر باكراً في صباح القيامة أُمرنَّ أن: "اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ" (مر ١٦: ٧). إني على يقين بأن بطرس قد عاني كثيراً خلال تلك الأيام الثلاثة؛ لقد شعر أنه فقد كل اتّصال مع يسوع؛ ولكن الرب القائم عبّر له بأنه لا يزال تلميذاً له. عندما عاد تلميذا عمواس إلى الإحدى عشر، قيل لهما: "إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!" (لو ٢٤: ٣٤). لا شك أن بطرس كان قد استُعيد تماماً في ذلك الوقت من لقائه الشخصي بالرب. استعادته العلنية جرت على شاطئ الجليل بعد برهة قصيرة، في ذلك الصباح عندما أعدّ المخلّص إفطار بطرس وقام بخدمته وزملائه التلاميذ بعد أن عملوا جاهدين طوال الليل، ومن جديد ما كانوا قد اصطادوا شيئاً. سأل الرب بطرس ثلاث مرات: "أَتُحِبُّنِي؟” لقد حزن بطرس لأن يسوع سأله هذا السؤال ثلاث مرات، ولكنه كان قد أنكر ربه ثلاث مرات. وأما وقد استعاده، قال الرب لبطرس: "ارْعَ غَنَمِي.... ارْعَ خِرافي".

يا لنعمة ربنا المبارك غير المحدودة واللا متناهية! لقد خيّبنا أمله، ولكنه لا يخيّب أملنا أبداً. أستطيع أن أتذكر كل أولئك الذين آمنوا بالمسيح واتكلوا عليه ليحملوا الشهادة. ألا فليمنحنا الله أن نواجه الصعوبات في الأيام الآتية ونتكل بشكل كامل عليه؛ وأصلّي إلى الله أن نعترف بإيمان بالمسيح، ربّنا القائم من الأموات والمبارك. دعونا ننتبه ألّا نتكّل على قوتنا الذاتية، بل بالأحرى أن نتكّل كليّاً عليه، لكي نكون صادقين بالثقة الموكولة إلينا!

Pages