September 2014

الخطاب ٥٤

حساب النفقة

"٢٥وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ فَالْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: ٢٦«إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. ٢٧وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. ٢٨وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ ٢٩لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ ٣٠قَائِلِينَ: هَذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ. ٣١وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ ٣٢وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذَلِكَ بَعِيداً يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ. ٣٣فَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. ٣٤اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ ٣٥لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجاً. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!»" (لوقا ١٤: ٢٥- ٣٥).

الآيات الأخيرة من هذا الأصحاح تشكّل تحدّياً لكل واحد منا. وقُصد بها أن تكون كذلك بالنسبة إلى المستمعين إلى ربنا عندما كان هنا على الأرض، وما برحت تخاطب الناس بقوة على مدى القرون حيث يسوع في المجد. "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ". في هذا المقطع كله يتناول الرب يسوع موضوع مسؤولية التلمذة. إنه لا يتكلم عن مدى بؤس وهلاك الخطأة الذين يمكن أن يخلصوا، ولا عن تكلفة ذلك الخلاص. إن خلاص الله هو بدون مقابل، ولكننا ندفع كثيراً إن لم نقبله. هل حسبتم النفقة إذا ما هلكت نفوسكم؟ بعد سماعكم الإنجيل وبعد إصغائكم إلى رسالة المسيح، إن تجاهلتموها، متوقعين أنكم ستقبلون المسيح يوماً ما، وعشتم ومتم مهملين هذا الخلاص العظيم، فستجدون أنكم دفعتم ثمناً كبيراً رهيباً. لا أزال أتذكر عندما سمعت رجل الله العظيم ذاك، د. وولتر ب. هنسون، قبل بضعة سنوات، يعظ على هذا النص قائلاً: "مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟” قبل أن يناقش النص نفسه، طرح سؤالاً بشكل غير مباشر قائلاً: "تأملوا في هذه الآية أولاً: مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟” إنه لثمن باهظ يدفعه البشر إذ يخرجون إلى هلاك أبدي. بعض الناس يبدو أنهم يفكرون بأنهم يقدمون معروفاً لله إذ آمنوا بابنه وتبعوه؛ ولكن الحقيقة هي العكس. الله يقدّم لكم معروفاً أبدياً بتخليصكم من دينونة لا نهاية لها، وإن رفضتم رحمته فإنكم تتعرضون لخسارة كبيرة جداً.

في الآيات التي قرأناها، ليس هناك أسئلة عن موضوع الخلاص بل بالأحرى الآيات تتناول موضوع التلمذة. كلمات ربنا هنا موجهة لأولئك الذين آمنوا به لتوهم، لأولئك الذين يؤمنون به على أنه ابن الله، مسيا إسرائيل ومخلّص الخطأة. أولئك الذين وضعوا إيمانهم فيه مدعوون الآن ليكونوا تلاميذ له. والتلمذة تكلّف. لا يمكننا أن نخدم ربنا يسوع المسيح كما ينبغي بدون أن ندفع تكلفة باهظة من أنفسنا. ولذلك عندما كانت جموع كبيرة تحتشد حول يسوع، "الْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً". هذا قول قاسٍ، ولكن علينا أن نتذكر أن الرب يستخدم أحياناً تعابير قوية جداً بطريقة تختلف جداً عن طريقة استخدامنا لها. على سبيل المثال، في العهد القديم، في سفر ملاخي، نجد الكلمات التالية: "أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ". الله لم يبغض أحداً في الواقع بالمعنى الذي نستخدم فيه الكلمة أحياناً. "هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". "اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا". "فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا". وهكذا فإننا على يقين بأن الله أحب أولاد عيسو تماماً كما أحب أولاد يعقوب؛ ولكن عندما قال: "أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ"، فإنه كان يشير إلى امتيازات خاصة هنا على الأرض. كان الله قد أعطى امتيازات معينة لأولاد يعقوب لم يحصل عليها أولاد عيسو. لقد أعطى شعب إسرائيل ناموساً مقدساً وعناية خاصة لم تُمنح لأي شعب آخر، وأعطاهم معلّمين لم يحظَ بهم أي شعب آخر؛ لقد أعطاهم أرضاً تفيض لبناً وعسلاً، وجعلهم شعباً له يتمتعون بعنايته الخاصة. وسكن بنو عيسو في البرية، في أرض جافة جدباء ظمأى. كانت لديهم بضعة قليلة جداً من الامتيازات مقارنة بشعب إسرائيل. ولكن هذا ما كان يعني أن الله لم يكن مهتماً بأولاد عيسو. إننا على يقين بأن نعمته ورحمته تدفقتا على كل أدوميٍّ تاب عن خطيئته وعبادته الوثنية. لذا فإن ربنا يسوع يقول هنا: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً". هذا لا يعني أن علينا أن نعامل أحباءنا بالسوء؛ ولا يعني أن علينا أن نحمل البغضاء نحوهم. ولكن المكانة التي نعطيها للمسيح، ومحبتنا لذاك الذي مات عنا، ستكون عظيمة جداً، مقارنة باهتمامنا بالأعزاء على قلبنا على الأرض، إذا ما عارضوا ما هو صحيح وحقّ، فإن موقفنا سيبدو وكأنه بغضاء. لقد رأيتُ أمثلة كثيرة عن هذا. أتذكر فتاة يهودية شابة عزيزة علي جاءت إلى الإيمان بالرب يسوع المسيح وخلصت. عندما أرادت أن تعتمد، قالت لها أمها اليهودية، التي كانت تحبها للغاية، في نوبة من الغضب: "آهٍ يا ابنتي، أتكرهين أمك إلى تلك الدرجة حتى أنك تريدين الذهاب إلى تلك الكنيسة وتعتمدي؟" أصرّت الابنة على أنها تحب أمها، ولكنها كانت تحب المسيح أكثر. فقالت لها الأم: "أنت لا تحبينني، وإلا لما كنتِ ستعتمدين. أنت تكرهينني؛ وهذا هو السبب في أنك تريدين أن تعتمدي". كانت الابنة تعرف أن الولاء والإخلاص يتطلب أن تترك أمها العزيزة وكأنها كانت تكرهها، رغم أن الأمر كان أكثر من طاقتها وقدرتها على الاحتمال. يوضح هذا ما عناه ربنا. لا شيء يجب أن يحول بينك وبين الولاء للمسيح؛ يجب أن تكون صادقاً مخلصاً له مهما كلف الأمر. وهكذا فإن التلمذة تكلّف. أناس كثيرون كانوا قد اضطروا ليتركوا منازلهم لأجل المسيح، وأُلصِق باسمهم الشر، لأنهم أحبوا المسيح إلى درجة كبيرة سامية. الكثيرون منا ينتمون إلى عائلة مسيحية وقد تربينا في بيوت حيث الأعزاء علينا كانوا مهتمين بخلاصنا؛ ومع ذلك، فإن التحدي هو أمامنا على نفس المستوى. إن وقف أي شخص، مهما كان عزيزاً علينا، بين المسيح وبيننا، فإن علينا أن نبغض ذلك الشخص مقارنة بمحبتنا للمسيح.

"حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً". ونقرأ في مكان آخر القول: "مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ". هناك الكثير من الناس الذين يجب أن يتخلوا عن إمكانيات هائلة على الأرض لكي يكون المسيح اهتمامهم الأول. من يرفض أن يفعل ذلك سيخسر حياته، بينما من يحسب كل الأشياء نفاية من أجل المسيح فإنه يحفظها إلى حياة أبدية. هناك سؤال يواجه الكثير من الرجال والنساء: هل المسيح له المكانة الأبرز في قلبكم؟ هل أنتم خاضعون له حتى أنكم مستعدين لتدعوه يشقّ طريقه إلى حياتكم؟ أنتم تعرفون المسيح وأنتم تعرفون الرسالة التي يحتاجها العالم. هل أنتم مستعدون للتخلي عن الاهتمامات الدنيوية وتنطلقوا بحسب دعوته لإعلان الإنجيل إلى أولئك الجالسين في الظلمة؟ أم تفكرون بأحوالكم السارّة وازدهاركم ومدى نجاحكم في هذا العالم وتهتمون بجمع المال، حتى أنكم تتجاهلون دعوة الله؟ أعلم أنه ليس الجميع مدعوون إلى التخلي عن الوظائف الدنيوية ليفرغوا أنفسهم بشكل كامل إلى الخدمة المسيحية، ولكن الأمر الهام هو أن تكونوا مذعنين لله لأجل أي مخطط يضعه لكم. كم ستكون مريعة نهاية إنسان دُعي، على سبيل المثال، ليكون مُرسَلاً، ولكنه آثر البقاء في البيت، وكوّن عائلة وثروة على مدى السنين، ولكن فاته كلياً الطريق الذي كان الرب قد أعده له. وكم هي عظيمة البركة التي تكون مكافأة لذاك الذي يرفض كل هذا وينطلق في إيمان، متكلاً على الرب، إلى أرض بعيدة، وسط أناس غالباً ما يكونون سيئي الطباع، ولكن في حاجة إلى من يخبرهم عن يسوع. أولئك الذين أبغضوا حياتهم، كرمى للمسيح والإنجيل، يا لها من مكافأة ستكون في انتظارهم عند كرسي دينونة المسيح!

هناك أمر على كل واحد منا أن يفكر فيه بتمعن. يضيف الرب قائلاً: "مَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً". ما المقصود بـ "مَنْ" هنا؟ كان الفتى الاسكتلندي على صواب في إجابته أن ذلك يشير "إليك وإليَّ وإلى كل واحد". إنها ليست مسألة حمل صليب المسيح. أنت وأنا لا نستطيع أن نحمل صليب المسيح رغم أننا نتمجد به. قال الرسول بولس: "حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ". بديلي مات عنّي. موته هو موتي، وأنا ميت عن كل ما مات لأجله كإنسان. لستُ متّحداً مع ذاك الذي رفضه العالم. هذا هو معنى الدخول إلى حقيقة صليبه. يتحدث الرب يسوع المسيح هنا عن حمل التلميذ لصليبه الخاص. لو كنتَ في فلسطين ورأيتَ شخصاً يسير في الطريق حاملاً صليباً فإن ستعرف أنه ذاهبٌ إلى الموت. انطلق ربنا المبارك حاملاً صليبه إلى الجلجلة. على مر العصور التي سيطر فيها الرومان، أولئك الذين ماتوا على الصليب كانوا مُدانين من قِبَل الحكومة، وكان على كل واحد منهم أن يحمل صليبه إلى مكان تنفيذ حكم الإعدام. لذا فما قصده الرب يسوع عندما قال: "مَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً" هو القول: من لا يكون مستعداً لأن يذهب حتى إلى الموت من أجل المسيح لا يكون تلميذاً حقيقياً. أكرر القول: إنها ليست مسألة خلاص، بل مسألة تكرس للمسيح في التلمذة. وطريق التلمذة قد يؤدي إلى الموت، وبالطبع هذا أمر لا يمكن الدخول إليه بدون تفكير أو بلا مبالاة. كثير من الناس يفوتهم إدراك جدية مسألة التلمذة هذه. لا يكفي أن يندفع المرء عاطفياً ويقول: "أنا على استعداد لأكون مرسلاً أو مبشراً أو كارزاً". على المرء أن يمعن التفكير جدياً في المسألة كي يدرك حقيقية هذا البيت الشعري الذي يتردد كثيراً على مسامعنا:

"حياة واحدة نحياها وسرعان ما تنقضي،
ما نصنعه للمسيح وحده يبقى ويدوم".

ما الذي سأفعله في هذي الحياة؟ هل سأحيا لذاتي أم للمسيح؟ احسبوا النفقة. استخدم الرب يسوع المثل عن البنّاء والبرج. "مَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ قَائِلِينَ: هَذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ". لقد سمعنا عن أناسٍ يحاولون أن يبنوا قصراً كبيراً أو برجاً بدون أن يحسبوا النفقة. لقد بدأوا البناء ووجدوا أنفسهم في حالة ارتباك مادياً، ولذلك لم يستطيعوا أن يستمروا. هكذا أبنية كانت واضحة لي- الأبنية غير المنتهية. الأبنية غير المكتملة- لأن أحداً بدأ ببناء ولم يستطع أن ينهيه. ولذلك عندما تُدعون لأن تكرسوا حياتكم لله يجدر بكم أن تحسبوا النفقة، وتسألوا أنفسكم هذا السؤال: “هل أنا على استعداد لأن أواجه كل ما تتطلبه التلمذة والولاء لربنا يسوع المسيح؟”

المَثل التوضيحي الثاني مشابه نوعاً ما: "وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذَلِكَ بَعِيداً يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ". أولئك الذين بدأوا الحرب العالمية الثانية، أولئك المسؤولين عنه، شعروا أن الدول الديمقراطية كانت آخذة في الزوال، وأنهم لن يستطيعوا أن يثبتوا أمام القوى الفاشية، وأن هذه الشعوب وقبل أن تستطيع الدفاع عن نفسها ستكون القوى الفاشية قد سيطرت على العالم. ولذلك بدأوا صراعاً ما كانوا يستطيعون الوصول إلى خاتمة ناجحة فيه. في الحرب الروحية الكبيرة مع جنود الشر في السماويات، كم نحتاج أنت وأنا إلى أن نطمئن التفكير فيما إذا كنا على استعداد لأن نسلّم أنفسنا كلياً لربنا المبارك من خلال الروح القدس، وحتى نكون قادرين على أن نجاهد جهاد الإيمان الحسن. كان الرسول بولس أحد الذين حسبوا النفقة. لقد واجه كل شيء؛ وإذ وضع كل المكاسب والخسارات نصب عينيه، قال: "لَكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهَذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ". ألا فليهبنا الله أن نكون متحفّزين بنفس روح التكرس هذه. "فَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً". لا تسيئوا فهم هذا القول. إنه لا يعني أنه إن كان لديك منزل فعليك أن تتخلى عنه، ولا يعني أنه إن كان الله قد عهد إليك بثروة ما فعليك أن ترمي بها أدراج الرياح؛ ولا يعني أنه إن كان لك أصدقاء فعليك أن تتنكر لهم وترفضهم: بل يعني أن عليك أن تحتفظ بكل شيء لديك لله نفسه. عبّر دافيد ليفيينغستون عن ذلك، على ما أعتقد، عندما كتب في يومياته: "إني عازم على ألا أنظر إلى أي شيء أمتلكه إلا من حيث علاقته بملكوت الله". وهذا ما يعنيه أن نحتفظ بكل شيء لله.

هناك تحذير جليل في هاتين الآيتين الأخيرتين. إنهما توحيان بإمكانية أن يصبح التلميذ، الذي كان يوماً شاهداً مشرقاً للرب أن يصح عديم الفائدة وبلا قيمة بالنسبة إلى الله والناس من حيث شهادته إلى العالم. "اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجاً. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!". اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. إنه يحفظ من الفساد، وشعب الله في هذا العالم هم الملح الذي يحفظ. قال يسوع: "أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ". ولكن إذا فقد الملح طعمه فهو لا يكون جيداً. الملح، عندما يتعرض إلى تأثيرات كيميائية معينة، يفقد ملوحته، ويصبح بلا قيمة. إنه لا يحقق الهدف الذي قُصد منه. من الممكن للمسيحي أن يصبح لا مبالٍ وفاسد الأفكار بسبب مبادئ العالم بحيث يخفق في تحقيق الهدف الذي خلقه الله لأجله.

لو كانت فكرة الله الوحيدة هي أن يخلّص نفوسنا لأجل السماء لكان أمكنه أن يأخذنا بعيداً بعد خمس دقائق من اهتدائنا. لا يمكنني أن أكون أكثر ملائمة بالسماء مما عندما كانت بعد خمس دقائق من نيلي الخلاص. اللص المحتضر على الصليب كان يشجب ويلوم الرب، إلى أن ميّز فجأة شخص ابن الله في ذلك المسمر على الصليب الأوسط، فمال قلبه إليه في الحال واعترف بأنه الذي بلا خطيئة. صلّى قائلاً: "اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِك". فقال له يسوع: "الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْس". كان يمكن أن نذهب إلى ديارنا السماوية في اللحظة التي خلّصنا فيها لو كان هذا هدفه الوحيد؛ ولكنه خلّصنا لكي نخدمه هنا، لكي نشهد له، ونكون تلاميذ له. ألا ليت الله يمنحنا ألا نصبح ملحاً فقد طعمه!

"مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!". هل حسبتم النفقة؟ لقد فعل يسوع ذلك، واحتمل صليب العار. هل سنتمنع عن نيل الامتيازات المقدمة لنا؟ هل نحن مهتمون بإمكانياتنا وعناصر ازدهارنا هنا في الأدنى أكثر من سماع القول "نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ" من شفتي الرب عندما نقف أمام مجلس دينونة المسيح؟

الخطاب ٥٥

إيجاد الضالين

"١وَكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. ٢فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: «هَذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ». ٣فَكَلَّمَهُمْ بِهَذَا الْمَثَلِ قَائِلاً: ٤«أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ ٥وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً ٦وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ. ٧أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ»" (لوقا ١٥: ١- ٧).

طوال سنوات خدمة ربنا الثمينة هنا على الأرض كان هناك أولئك الناس ذوي الذهنية الناموسية الذين أخفقوا في فهم اهتمام يسوع بالضالين، الخطأة رجالاً ونساءً. لقد تخيلوا أنهم لم يكونوا ضالين؛ كانوا يعترفون بأنفسهم أنهم وسط الأبرار. كانوا حريصين على الشكليات حول إطاعة وصايا الناموس، ليس فقط تلك التي أعطاهم الله إياها، بل أيضاً وصايا أخرى كثيرة تمت إضافتها. لقد أُضيفت وصايا كثيرة لدرجة أن الرب يسوع المسيح نفسه قال: "قَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ". لقد كانوا مدققين على حفظ تقاليد الشيوخ أكثر من إطاعة وصايا الله. لقد كانوا يتكلون على برهم الذاتي، ولم يدركوا إلى أي درجة صاروا مقصرين.

كان ربنا يسوع المسيح مهتماً دائماً بالخطأة. لقد نزل من مجد بيت أبيه ليخلّص الخطأة. لم يستطع أولئك الناموسيون أن يفهموا ذلك. ونعلم هنا أن جماعة كبيرة من العشارين والخطأة قد اقتربوا من يسوع، ولكن الكتبة والفريسيين ذوي البر الذاتي والمتكبرين نظروا إلى هذا بازدراء، لأنهم لم يستطيعوا أن يفهموا لماذا لم يبعد يسوع نفسه عن هؤلاء الناس البؤساء والأشرار، ولم يفهموا السبب في أنهم لم يؤثر أن يسعى وراء هؤلاء الأفراد المحترمين كما كانوا يظنون أنفسهم. لقد راحوا يدمدمون فيما بينهم قائلين: "هَذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُم". لم يعرفوا أنهم كانوا يعلنون حقيقة رائعة عندما قالوا ذلك. يسوع يقبل الخطأة، وهو يأخذهم إلى صداقة وشركة مع نفسه. الحمد لله، لقد كان هذا صحيحاً على مر العصور منذ ذلك الحين ولا يزال. أليست نعمة رائعة أن يقبل يسوع كل من يأتي إليه، وأن يحررهم من خطاياهم؟

"رنموا أيضاً وأيضاً؛
فالمسيح يقبل الخطاة".

إن وصلت هذه الكلمات إلى مسامع أي شخص يشعر بأن لديه شكّ في أن الرب يسوع المسيح يقبله أو لا، دعوني أخبركم ما يلي: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ". إنه مهتم بك؛ إنه مهتم بي. لقد جئت كخاطئ، ولم يرفضني ولم يُشح بوجهه عني. لقد قبلي وخلّصني، وسيفعل نفس الأمر لك إن أتيت إليه.

رداً على الدمدمة والتذمر الذي أبداه الكتبة والفريسيون، سرد الرب يسوع المثل الثلاثي الأجزاء الذي نجده هنا في هذا الأصحاح. لا حاجة لأن نفكر بأن هذه ثلاثة أمثال منفصلة. إنها قصة نعمة الله مصورة بثلاث طرق. الجزء الأول يتناول الخروف الضال الذي كان الراعي مهتماً به. والثاني يحكي عن الدرهم الضائع، ويظهر اهتمام المرأة وهي تضيء النور في زوايا البيت وتكنس المنزل لكي تجده. والقسم الأخير يتناول قصة ابن ضال رحب والده بعودته إلى البيت بسرور عندما رجع معترفاً بخطيئته وإخفاقه وكان على استعداد أن يقبل مغفرة أبيه.

قال يسوع: " أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟" أنتم جميعاً تعرفون تلك القصة المصورة في تلك الترنيمة الإنجيلية القديمة التي جعلها إرا د.سانكي منتشرة جداً، والتي نحبها جميعاً. وتذكرون ما تقول:

"هناك تسعة وتسعون يرقدون في أمان
ملتجئين إلى تلك الحظيرة".

ولكن ليس هذا ما قاله يسوع. لقد قال: "أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ"- ليس "آمنين في الحظيرة" بل "فِي الْبَرِّيَّةِ"- "وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟" التسعة والتسعون كانوا مثل الناموسيين الذين كانوا يتخيلون أنهم أبرار. لم يعتبروا أنهم كانوا ضالين، ولذلك لم يفكروا في أنهم بحاجة إلى من يبحث عنهم ويجدهم. الخروف الضال هو الخاطئ البائس الذي يعرف أنه ضال، الذي يعرف أنه بحاجة إلى مخلّص. يترك الراعي التسعة والتسعين في البرية، في رضاهم عن ذاتهم، وينطلق طالباً ذاك الضال، ولا يستسلم إلى أن يجده.

قبل سنوات كنت أمكث مع أصدقاء لي كان لديهم مربى ماشية كبير للأغنام، وفي إحدى الأمسيات كنا ننتظر على العشاء عودة الزوج إلى البيت. كنا قد كنا نتوقع أن يصل حوالي الساعة السادسة، ولكنه كان متأخراً. عندما دخل إلى البيت وقال لزوجته: "يا عزيزتي، يجب أن أشرب فنجان قهوة وأكل وجبة خفيفة فقط هذه الليلة، إذ بينما كنتُ قادماً من المحطة سمعتُ ثغاء حملٍ ضائعٍ، ويجب أن أهرع وأجده قبل أن تنال منه حيوانات القيوط أو أفعى مجلجلة". سألتُ إذا كان في مقدوري أن أذهب معه، فوافق. لقد انذهلت إذ رأيت اهتمام الرجل بأحد الخراف الضالة. فهو وصديق له كان لديهم أكثر من خمسة آلاف غنمة، وحرفياً آلاف الخراف؛ ومع ذلك فإن ذلك الخروف الضال كان لديه مكانة في قلبه حتى أنه لم يستطع أن يقاوم الخروج في الليل للبحث عنه. قلت له، وأنا أسير معه في ممر ضيق: "إن لديك الكثير من الأغنام والخراف، فأتساءل لماذا أنت قلقٌ جداً بخصوص هذا الخروف؟" فقال: "سوف لن أستطيع أن أنام الليلة بسبب التفكير بأن خروفاً صغيراً هو في العراء في البرية، وربما تمزقه إرباً حيوانات القيوط أو أفعى مجلجلة". وراح ينادي وهو يسير في الممر مخلّداً صوت الثغاء وأصغى بانتباه منتظراً جواباً. وأخيراً سمعنا من بعيد في وادٍ ضيق وسط أجمة كثيفة صوتاً ضعيفاً صغيراً يثغو. فردّ عليه أيضاً صديقي بثغاء مرتفع. وقال: "ها هو ذا هناك. ابقَ هنا؛ سأنزل وأتي به". ونزل إلى الأسفل، ممسكاً بضوء ومضي بيده؛ وعندما وصل إلى القاع صرخ هاتفاً: "لقد وجدته؛ وهو على ما يرام". عدنا إلى البيت مبتهجين معاً. فكرتُ كم أنها صورة رائعة مثالية عن ربنا يسوع المسيح يبحث عن الخطأة الضالين البؤساء! لقد كان يعرف أن الناس تاهوا عن الله، وكانوا في حاجة إلى من يجدهم، ولذلك فقد نزل من السماء إلى هذا العالم المظلم، ومضى يبحث عن أولئك الضالين. وهنا نقرأ عن ذلك: "إِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً". هو لم يجده ليتركه ويسمح له بان يشق طريقه إلى البيت إن أمكنه ذلك. بل كما في حالة ذلك الحمل الصغير الذي تكلمت عنه، لم يضعه الراعي على الأرض إلى أن صار في الحظيرة في جوار المنزل. "يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ". وهكذا فإن ربنا لا يخلّصنا فقط، وثم يطلب منا أن نتبعه ونحافظ على السير معه إن استطعنا. بل إنه يحملنا إلى البيت مبتهجاً. "أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ". مهما كان أصدقاؤنا في السماء يعرفون أو لا يعرفون وفيما يتعلق بما يجري هنا على الأرض، إلا أن هناك أمر واحد يعرفونه بالتأكيد: إنهم يعرفون دائماً متى يجد الراعي الصالح خروفاً ضالاً، إذ أنه يجمعهم حوله ويقول: "افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ".

في الجزء الثاني من المثل يقدم لنا الرب يسوع المسألة من وجهة مختلفة، لكي يظهر بوضوح عجزنا الكامل وحاجتنا إلى قدرة إلهية.

"٨«أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ لَهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ الْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِاجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟ ٩وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو الصَّدِيقَاتِ وَالْجَارَاتِ قَائِلَةً: افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ. ١٠هَكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ»" (لوقا ١٥: ٨- ١٠).

هذه صورة جميلة. أحد قطع من عشرة دراهم فضية ضاع. هذه القطع الفضية كانت تُجمع معاً في سلسلة ويعطيها الزوج لزوجته كختم لطقس الزواج. كانت ترتديها العروس على جبهتها وكانت لها قيمة بمثابة خاتم الزفاف في أيامنا هذه. إن ضاع درهم واحد منها فكان يُظن أن ذلك إشارة إلى عدم إخلاص الزوجة إلى زوجها. فمن الطبيعي، عندما تختفي إحدى القطع أن تقول الزوجة: "ما الذي سيقوله زوجي إذا ما جاء إلى البيت ووجد أني أضعت واحدة من هذه القطع؟" ففي انزعاجها ومحنتها أضاءت شمعة وكنست البيت بعناية، وأخيراً وجدت الدرهم الذي تدحرج ربما إلى زاوية الغرفة. ذهبت إلى الباب ونادت جيرانها قائلا: "افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ". ثم تعيد الدرهم بعناية إلى مكانه حيث يجب أن يكون. لقد كان من الضروري أن تكون نشيطة وأن تعمل بسرعة لكي تجد الدرهم. وقد لا يعود إليها. وفي هذا نرى نشاط وفعالية روح قدس الله يعمل من خلال شعبه. إن لنا دور في أن نسعى وراء الضالين. إن نور الكلمة هو الذي يكشف حالتهم الحقيقية ويمكّننا من أن نجده. قال الرب يسوع: "هَكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ". "فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ". لاحظوا أنه لا يقول كما يعتقد البعض أنه يقول. هو لا يقول : "هناك فرح بين/وسط الملائكة"، رغم أني على يقين بأن الملائكة يفرحون فعلاً؛ ولكن ليس هذا ما يقوله؛ بل يقول: "فَرَحٌ قُدَّامَ/في حضور مَلاَئِكَةِ اللهِ". فمن يكون إذاً حاضراً أو قدّام الملائكة؟ جميع المفديين الذين هم غائبون عنا بالجسد الآن ولكن حاضرون مع الرب- إنهم قدّام الملائكة. يقول الرب يسوع لهم: "افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ". في السماء، حيث يعرف الجميع جيداً قيمة كل نفس، يبتهج الجميع ويفرحون عندما يخلص المرء.

"١١وَقَالَ: «إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. ١٢فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. ١٣وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الاِبْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. ١٤فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ. ١٥فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. ١٦وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. ١٧فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! ١٨أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ ١٩وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. ٢٠فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. ٢١فَقَالَ لَهُ الاِبْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. ٢٢فَقَالَ الأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ وَاجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ ٢٣وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ ٢٤لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ. ٢٥وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً ٢٦فَدَعَا وَاحِداً مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟ ٢٧فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً. ٢٨فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. ٢٩فَأَجَابَ وَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَذَا عَدَدُهَا وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. ٣٠وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ. ٣١فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. ٣٢وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ لأَنَّ أَخَاكَ هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ»" (لوقا ١٥: ١١- ٣٢).

في هذا الجزء الثالث لدينا ربما القصة الأكثر تأثيراً وحنواً التي رواها ربنا يسوع عل الإطلاق ينما كان هنا على الأرض. إنها قصة نعرفها جميعاً جيداً، ومع ذلك فإنها لا تفقد أبداً حلاوتها وقيمتها الثمينة. في الجزء الأول وجدنا خروفاً ضالاً؛ وفي الجزء الثاني وجدنا درهماً ضائعاً؛ والآن لدينا ابن ضال. كان هناك ابنان، وأحدهما كان ضالاً. هذان الابنان هما نموذجان يمثلان الجنس البشري بأكمله. نفكر هنا بالله كأب للأرواح، خالق كل البشر. بينما كلمة الله لا تعطي أي تأييد للنظرية المعاصرة عن أبوة الله الكونية والأخوة العالمية لبني البشر؛ مع ذلك في الأصحاح ٣ من هذا الإنجيل نجد انه في تتبع سلسلة نسب ربنا يسوع رجوعاً إلى آدم، نعلم أن آدم كان ابن الله. بهذا المعنى يكون اله أباً لكل البشر.

"فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ". بدون أن يكون قانعاً بانتظار الوقت إلى أن يموت والده، يطلب الابن الأصغر حصته من الممتلكات حالاً لكي يستمتع بها مقدماً. ويذعن الأب له ويعطيه ما كان يُفترض أن يكون ملكه. "وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الاِبْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ". وهناك استطاع أن يعيش الحياة التي يرغبها في استقلالية عن إرادة أبيه. ولذلك أمضى فترة وجيزة في الملذات، كما يخبرنا الإنجيل، إلى أن ذهب كل شيء وانقضى في نهاية الأمر. "فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ". أنا على يقين بان كل نفس تائبة يمكن أن تقول: "أنا أيضاً تهت بعيداً عن الله، وأنا أيضاً بددت الأشياء الجيدة التي منحني إياه، لقد عشت في بلد بعيد، وأعرف كل ما يعنيه ذلك من خبرات". إنها ليست مسألة كمية الخطيئة التي يرتكبها هي التي تجعله مبذراً. هذا الشاب كان خاطئاً في الحقيقة إزاء محبة والده في اللحظة التي اجتاز فيها عتبة الباب وانطلق إلى البلد البعيد. لم يكن هذا الشاب يريد أن يكون خاضعاً لأبيه؛ لقد كان يرغب بأن يذهب بعيداً حيث يستطيع أن يعيش كما يحلو له. لم يتبعه الأب. لم يصر على ابنه لكي يعود، بل سمح له بأن يذهب وأن يتعلّم بعض الدروس التي قد لا يتعلّّمها بأي شكل آخر.

وجاء اليوم عندما صرف كل شيء ووجد نفسه في محنة شديدة. الأصدقاء الذين كونهم- أين هم؟ لقد كانوا أصدقاءه فقط عندما كان لديه نقود. وعندما خسر كل شيء في نهاية الأمر، عندما صرف ثروته، هؤلاء الأصدقاء المخلصين في السراء فقط لم يكونوا إلى جانبه؛ لقد تركوه في حاجته الشديدة، وما من أحد أعطاه شيئاً. وفي محنته، ولكي ينجو من الموت جوعاً، اضطُر لأن يعمل بشيء كان يعتبر بالنسبة إلى يهودي من نسب صالح عادي أو وجدان أمراً يثير الاشمئزاز. "فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ". لقد كان هناك وسط تلك الحيوانات النجسة، وهو نفسه منجَّساً، حتى أنه بدأ يدرك حماقته وعقوقه. لم يستطع أن يقتات من طعام الخنازير؛ كان ليود ذلك لو استطاع. ولكنه كان إنساناً خُلق على صورة الله الذي وضع فيه شيئاً لا يمكن لأحد سوى الله أن يشبعه. إنه أمر مستحيل تماماً بالنسبة لنا نحن الذين خُلقنا للأبدية، أن نجد أي شيء في العالم على الإطلاق يرضي نفوسنا. عندما وقع هذا الشاب الفتي في محنة لم يعرف كيف يخرج منها. فعندها "رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ". إنه تعبير في غاية الأهمية! الخطيئة أمر مريع؛ إنها حماقة قصوى. هذا الشاب كان يعاني من ضلال فكري. والآن عاد إلى رشده. بدأ يدرك ولأول مرة الحماقة التي وقع فيها من جراء تركه بيت أبيه، في محاولة أن يجد الرضى والشبع في البلد البعيد. هل وصلتم يوماً إلى هكذا حالة؟ هل بينكم من حاول لسنين أن يجد شبعاً في أشياء هذا العالم ولم يستطع؟ ألا ليتكم ترجعون إلى أنفسكم وتواجهوا حالتكم كما هي، وتنعطفوا إلى الله وتتحولوا عن تلك الأمور التي انجرفتم إليها لزمن طويل!

هذا الشاب رجع إلى نفسه؛ بدأ يفكر. إن استطعتم أن تجعلوا الناس يفكرون فسيحدث أمر ما. الشيطان يفعل كل جهده ليبعد الناس عن التفكير. بعض الناس يتساءلون لماذا نعترض نحن المسيحيون عن المتعة الدنيوية. إنهم يعتقدون أننا ضيقي الأفق ومتعصبين لأننا نستهجنها. حسنٌ، إننا نعلم أنها قُدرت للشيطان أن يبقي البشر رجالاً نساءً بعيدين عن مواجهة وقائع الحياة وإدراك حالتهم الحقيقية أمام الله. إنه يريد أن يبقي الناس بعيدين عن التفكير، وأن ينسوا أنهم خطاة ضالين ذاهبين إلى الهلاك. عندما يبدأ الناس بالتفكير فإن هذه تكون خطوة تؤدي بهم إلى الخلاص. هذا الشاب وصل إلى تلك النقطة. قال عملياً: "يا لي من أحمق، قد تركت بيت والدي ومنزلي". "كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ". إن كان أحد ممن يقرأ هذه الأسطر غير مخلّص، فليته يأتي إلى اتخاذ نفس القرار، وأن يقول بنفس قصد القلب: "سأنهض؛ سأقوم وأمضي إلى بيت أبي. سأعود إلى الله، وسأخبره أني خطئت". يقول الكتاب المقدس: "يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: قَدْ أَخْطَأْتُ وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيمَ وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ. فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ". "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ". ذلك الشاب، وإذ شعر بعدم استحقاقه وتفاهته، قرر في قلبه ما سيقوله. كان سيخبر والده أنه كان غير مستحق أن يُدعى له ابناً، وسيطلب منه أن يجعله كأحد أُجراءِه. ولكنكم ستلاحظون عندما وصل أنه لم يحتج إلى قول كل ذلك. فالأب لم ينتظر أن يسمعه يقول تلك الكلمات. لقد "قَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ". لقد رأيتُ عدة صور عن الابن المبذّر يرحّب به والده، ولكني لم أرَ أية واحدة تبدو في توافق كامل مع هذه القصة. لقد رأيتُ صوراً للأب يقف في مدخل البيت متدثراً ثياباً فاخرة ويمد ذراعيه إلى الابن، ولكن ليس هذا ما يخبرنا به يسوع. لقد قال: "وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ". لم ينتظر وصول ابنه إلى عتبة الباب؛ لم ينتظر أن يصل إلى المنزل، بل رآه آتياً بعيداً على الطريق، وقال: "هو ذا ابني! لطالما انتظرته كل هذه الأشهر!" يا له من مشهد مؤثر يصوره لنا يسوع. إنه صورة الله الآب. عندما يرجع الخاطئ إليه، فإنه يكون هناك لملاقاته والترحيب به. بدأ الفتى البائس يتكلم فقال: "أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً....". هذا ما استطاع أن يقوله؛ لم يقل المزيد. لم يطلب أن يكون أحد أجراء أبيه. بل كان الأب لديه ما يكفي من الخدّام. لقد كان ابناً يُرحّب به في المنزل. فهتف فرحاً قائلاً: "أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ"- بالنسبة لنا تلك الْحُلَّة هي كمال المسيح. "وَاجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ"- الخاتم يدل على محبة لا تنتهي. "وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ"- كان الخدّام يسيرون حفاةً، وأما الأبناء فيرتدون أحذية. "وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ". وذلك الفرح والمرح لم ينتهِ أبداً. بالطبع، جاء وقتٌ انتهت الوليمة فيه في ذلك البيت. ولكن عندما يربح الآب خاطئاً بائساً إليه ويقول: "هذا ابني كانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ"، ويدخلان في شركة معاً، فإن الفرح الذي يبدأ يستمر إلى الأبد.

ولكن لدينا الآن هنا ملاحظة مفاجئة إضافية. أخوه الأكبر كان في الحقل. لقد كان فريسياً، وكان لا يجرؤ على أن يقول أنه مخلّص بل لم يتخيل أنه كان ضالاً. في قلبه لم يكن هناك محبة حقيقية نحو أبيه أكثر من أخيه الشاب. "وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً فَدَعَا وَاحِداً مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً". وهنا، ذلك الأخ، وبدلاً من أن يبتهج ويقول: "آهٍ، دعوني أراه؛ دعوني أشارك في هذا الفرح والمرح"، فإنه "غَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ". لقد كان مثل أولئك الكتبة والفريسيين الذين قالوا: "هذَا (الإنسان) يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ". لقد اعتبر أن أبيه كان يهين نفسه بمعاملته لذلك الابن المبذّر على هذا النحو؛ ذلك الابن الذي أساء التصرف. لقد كان غاضباً ولم يُرد أن يدخل. جاء والده واستعطفه، ولكنه قال: "هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَذَا عَدَدُهَا وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ". لقد كانت هذه هي نفس الروح التي قادت الابن الأصغر أن يترك المنزل ويذهب إلى البلد البعيد. هذا الابن بقي في المنزل وكان أكثر احتراماً، ولكنه لم يكن أفضل من الابن الأصغر. لقد انتقد أبيه فعلياً على لطفه هذا. هو لم يقل "أخي، الذي لطالما صلّيت لأجله"، ولا "أخي"، بل "ابنكَ". فقال له الأب: "يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ". لقد كان يستطيع أن يأخذ كل ذلك لنفسه ويتمتع به إذا رغب في ذلك. يذكر الأب الابن الأكبر بما غفل عنه: "كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ لأَنَّ أَخَاكَ هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ". الناموسي لا يمكن أن يفهم أبداً نعمة الله. إنها أمر غريب تماماً بالنسبة له.

ألا فليهبنا الله ألا نخفق في فهم وتقدير نعمته كما فعل هذا الابن الأكبر الساخط البائس.

الخطاب ٥٦

الوكيل الظالم

"١وَقَالَ أَيْضاً لِتَلاَمِيذِهِ: «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. ٢فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. ٣فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. ٤قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. ٥فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ ٦فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. ٧ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. ٨فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ لأَنَّ أَبْنَاءَ هَذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. ٩وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ. ١٠اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ. ١١فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟ ١٢وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟ ١٣لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ». ١٤وَكَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً يَسْمَعُونَ هَذَا كُلَّهُ وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلْمَالِ فَاسْتَهْزَأُوا بِهِ. ١٥فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ! وَلَكِنَّ اللهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ. إِنَّ الْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ اللهِ. ١٦«كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ. ١٧وَلَكِنَّ زَوَالَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ. ١٨كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُلٍ يَزْنِي" (لوقا ١٦: ١- ١٨).

أود الآن أن أتناول الجزء الأول من هذا المقطع. مثل الوكيل الظالم/وكيل الظلم هو أحد الأمثال الذي لطالما أُسِيءَ فهمُه. ففي البلاد الغربية مفهوم الوكيل يختلف كثيراً عنه في بلاد الشرق. ونقرأ أن السيد أطرى على ما صنعه وكيل الظلم. يحتار أناسٌ كثيرون حول هذه، لأنهم أخفقوا في ملاحظة أن كلمة "السيد" هنا ليست هي "الرب". ليس ربنا هو من أطرى عليه بل سيد وكيل الظلم. في البيت الشرقي الخادم يكون مناظراً لمسائل كل البيت، والسيد يضع بين يديه مقداراً معيناً من المال به يستطيع أن يشتري حاجات المنزل وما تطلبه العائلة. إن كان الخادم أو الوكيل قادراً على أن يشتري هذه الأشياء بسعر أقل من قيمة السوق العادية، فإن هذا المال يكون من حقه أن يضعه في جيبه. الوكيل الحكيم هو شخص ذو أهمية كبيرة جداً في البيت الشرقي، وما من أحد ينزعج منه إذا ما استطاع أن يكسب بعض النقود كعلاوة أو أجر إضافي. إذا وضعنا هذا في أذهاننا فسنستطيع أن نفهم بشكل أفضل ما عناه ربنا هنا. "قَالَ أَيْضاً لِتَلاَمِيذِهِ: كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَه". كما أنه ممكن عن طريق الادخار، والاقتصاد أن يوفر بعض المال لأجل سيده وأيضاً يكسب ربحاً كبيراً لنفسه، كذلك كان يمكن أيضاً لوكيل الظلم أن يبدد ما عُهد إليه من مال بمشتريات طائشة، أو بأن يكون لديه حسابات غير نظيفة. يبدو واضحاً أن هذه هي الحال في المثل الذي أمامنا.

"فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ". يمكننا أن نتخيله يقول: "سوف أفقد عملي، ولا أستطيع أن أعمل بجد". وبعد التفكير في المسألة وتقليدها في فكره، يقول: "أعرف ما سأفعل؛ سأتصل مع مديني سيدي وأرى ما أستطيع أن أفعل معهم". ولذلك فإنه دعا الأول وسأله: "كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ". بتخفيف هذا الجزء من الدين، اقتطع الوكيل فعلياً الحصة التي كانت ستعود إليه. "ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ". لقد قال لهذا أن يقتطع عشرين كُرِّ. عندما وصل خبر ذلك إلى مسامع السيد، "مَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ لأَنَّ أَبْنَاءَ هَذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ". نرى سيد البيت قادراً على أن يفهم حقاً حكمة هذا الإجراء، فقال: "في نهاية الأمر، كان يتصرف بحكمة شديدة. لقد كون أصدقاء جيدين لنفسه بأن اقتطع ربحه الشخصي". هؤلاء الأصدقاء سيكونون على استعداد بأن يرحبوا به ويساعدوه في ساعة الحاجة. يطبّق الرب يسوع هذا بأن أبناء هذا العالم هم أكثر حكمة ودهاء في جيلهم من أبناء النور. كم من أولاد لله قلقون ومهتمون بمكاسبهم الحالية أكثر بكثير مما هم مهتمون بالبركات المستقبلية. فيعطينا الرب يسوع هذا التطبيق المحدد: "وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ. اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟" إنه يتكلم عن تكوين أصدقاء بالاستخدام الصحيح للثروة. كلمة "مال mammon " تعني فعلياً "الغنى". في الواقع إنه أصلاً اسم إله الغنى الكنعاني، وقد دخلت الكلمة إلى اللغة العبرية كمرادف يعني الغنى أو الثروة. هكذا يقول الرب يسوع، وكأنه يعني: "إن كان الله يعهد إليكم بالثروة، فيمكنكم أن تكوّنوا أصدقاء بها"، حتى وإن كان يدعوها "مَالِ الظُّلْمِ". لو لم يسقط الإنسان لكان استطاع أ يعيش حياة نقية بريئة هنا على الأرض، مقتبلاً كل شيء من يد الله الصالحة بدلاً من أن يُضطر للعمل والكدّ لأجل أن يكسب رزقه. وما كانت ستكون هناك حاجة إلى المال كوسيلة تبادل ومقايضة. حقيقة أن المرء لديه بضعة دولارات في جيبه هي بحد ذاتها شهادة على أن الخطيئة هي في العالم؛ وهكذا فإن المال، والغنى، هو مَال الظُّلْمِ. ربما يسأل أحدهم: "إن كان صحيحاً أن المال جاء إلى العالم فقط بسبب الخطيئة، فلماذا لن يحاول التخلّص منه؟ في الظروف الحالية، هذا أمر غير ممكن. لا نستطيع أن نستمر فيا لحياة بدون المال في عالم مثل هذا. ولكن إن كان الله قد أعطانا ثروة أو غنى فعلينا أن نستخدمها في مجده لنشر إنجيله، وفي إراحة الإنسانية المبتلية بالضيقة والمعاناة والألم. بهذه الطريقة نكون أصدقاء باستخدام مَالِ الظُّلْمِ؛ وعندما نأتي إلى ساعة الموت ونترك هذا العالم وراءنا، فإن هؤلاء الأصدقاء الذين كوّناهم من خلال الاستخدام الصحيح لمَالِ الظُّلْمِ سوف يقبلوننا بفرح بين سكان الحياة الأبدية. لإيضاح ذلك: لنفترض أن الرب يسوع عهد إليك بكمية من المال، وأنت تقول: "لقد أعطاني الله هذا المال. سوف أعطي قسماً منه للمساعدة بإرسال الإنجيل إلى الأراضي الوثنية". وتساهم بشكل منتظم بخدمة ما، وبسبب دعمك المالي لتلك الإرسالية ينتهي الأمر بإيصال الإنجيل إلى النفوس الضالة. قد لا تستطيع على الأرض أن ترى أولئك الذين رُبحوا للمسيح من خلال جهود وعمل تلك الخدمة الإرسالية؛ ولكن في نهاية الأمر، عندما تغادر هذا العالم وتذهب إلى الديار السماوية، ستجد هناك أولئك الذين يرحّبون بك بفرح وسرور وهم يقولون: "إن مالَكَ هو الذي مكّن المعلّم من أن يأتي إليّ ويقودني مخرجاًَ إياي من ظلمة الوثنية إلى نور إنجيل المسيح. لطالما كنا ننتظرك هنا لنرحّب بك وسط سكان الأبدية هؤلاء وأن نخبرك كم نحن ممتنين لك على اهتمامك بنا". يمكنك أن تطبّق المبدأ بألف طريقة. يمكنك أن تستخدم بعضاً من مالك لتساعد فقيراً، أخاً محتاجاً أو أختاً، أو لتساعد بعض الأطفال المعدمين. إن لطفك وصلاحك وصدقتك عليهم قد لا تقدر بشكل كامل أو يكون لها اعتبار هنا على الأرض، ولكن سيأتي يوم، إن كانوا في المسيح، سوف يقابلونك هناك في تلك الأرض ويعبّرون عن امتنانهم لك لأجل الطريقة التي استخدمت بها مَال الظُّلْم.

يركز ربنا هنا على الخدمة التي نقدمها باستخدام المال. إنه يقول: "اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ". المال في نظر الله ذو قيمة ضئيلة جداً؛ وفي نظر الإنسان إنه الأمر الأكثر أهمية. في سفر الجامعة نقرأ: "الْفِضَّةُ تُحَصِّلُ الْكُلَّ". قال أحدهم: "المال هو مزود عالمي لكل شيء إلا السعادة". لقد سمعنا عن الأب الذي قال لابنه: "يا بني، اكسب مالاً. اكسبه بشرف إن كنت تستطيع، ولكن اكسب مالاً". بعض الناس لديهم فكرة أنه ما من شيء أكثر أهمية من المال. ولكن ربنا المبارك يتكلم عنه على أنه أمر ذو قيمة وشأن قليلين؛ ويقول: "اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ". هل لاحظتم أن استخدام الإنسان لماله غالباً ما يكون الامتحان اللاذع لشخصيته؟ الإنسان الذي يحب المال سيكون جلفاً وفظاً وشريراً بأشكال مختلفة. محبة المال ليست تماماً الأصل لكل الشرور، بل هي أصلٌ لكل الشرور. الاشتهاء هو كمثل جذرٍ صفيق تقتات عليه كل نباتات الشر. إن كان الإنسان يحب المال بشكل جامح فإنه يعرّف نفسه لكل أنواع الإثم.

"وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟" قد يسال المرء: كيف لي أن أعرف إذا ما كنتُ أميناً بالنسبة إلى مَالِ الظُّلْمِ؟ عندما نفتح الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس (١ كور ١٦: ٢)، نقرأ: "فِي كُلِّ أَوَّلِ أُسْبُوعٍ لِيَضَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عِنْدَهُ خَازِناً مَا تَيَسَّرَ". هذه قاعدة على كل مسيحي أن يحفظها ويلتزم ها. إن أخفقنا في أن نصنع ذلك فإننا نخسر بطرق عديدة. ثم قد يسأل المرء: "كم يجب أن أستخدم من المال لنفسي، وكم يجب أن أضعه جانباً لأجل الله والآخرين؟ لو كنتَ يهودياً تحت الناموس لكان هذا يتطلب منك أن تقدم عشر ما تملك. ولكن كمسيحي تحت النعمة بالتأكيد لستم مطالبين بأن تعطوا أقل من اليهودي الذي تحت الناموس. على المرء أن يعطي أكثر إن كان يستطيع، وبقيامه بذلك يكون أميناً في ذاك القليل. وسيكون أميناً في الكثير.

"لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ". لا يمكنك أن تكون محباً لله ومحباً للمال في نفس الوقت. إن كنت تخشى أن تتحكم بك محبة المال يكفي أن تحاول أن تتخلى عن جزء منه، فإن شعرت بالفرح والسعادة أكثر من ذي قبل، فإن محبة المال لا تكون قد أحكمت قبضتها عليك. ولكن إن وجدت أنه يزعجك أن تعطي، فعندها يمكنك أن تخشى فعلاً من أن يكون الاشتهاء قد تحكم بك وسيطر على نفسك. العالم يُعجب بالإنسان الذي يصنع جيداً لنفسه؛ العالم يُعجب بذاك الذي يصير غنياً ويستطيع أن يحيا في قصرٍ جميل. ولكن الله يقدّر العظمة الحقيقية بطريقة مختلفة كلياً. قلب الله يميل بتقدير محب إلى الإنسان الذي يعيش لخير الآخرين ويستخدم ما ائتُمن عليه على نور الأبدية.

"كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ. وَلَكِنَّ زَوَالَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ". خدمة يوحنا المعمدان دشّنت حقبة جديدة. الدهر التدبيري القديم قارب على الانتهاء، وسرعان ما ينتهي عند الصليب، وفي هذه الأثناء ملكوت الله كان يُعلن، وكان الناس يُدعون إلى أن يدخلوا من باب التوبة والإيمان. حاول كثيرون أن يدخلوا ملكوت الله ولكنهم ليسوا أولاد الملكوت. فقط بالولادة الجديدة، كما أوضح ربنا لنيقوديمس (يو ٣: ٣)، يستطيع المرء فعلياً أن يدخل إلى ذلك الملكوت. ما من كلمة نطق بها الله يمكن أن يخفق تحقيقها، مهما كان تفاعل الإنسان على الدعوة إلى الملكوت. كل مطالب الناموس يجب تسديدها إما عن طريق أولئك الذين يأتون تحت إدانته أو عن طريق ذاك الذي جاء بالنعمة ليحمل لعنته عن الآخرين. كان على كلمة الله أن تُنقل حتى إلى مرحلة صلب ابنه المبارك عندما أخذ مكانة الخاطئ.

الآية الأخيرة من هذا المقطع هي ذات أهمية هائلة في هذه الأيام إذ نرى الناس يبدون متساهلين جداً من حيث انتهاك نذور زواجهم. "كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي". لو أُذيعت هذه الكلمات عبر السماء لربما بكّتت الكثيرين ممن يمارسون هذه الخطيئة اليوم المُدانة هنا. صحيح أن يسوع قام باستثناء في إحدى المناسبات، حيث يمكن للطرف البريء، الذي تطلق لارتكاب شريكه عملاً غير أخلاقي، أن يتزوج من شخص آخر. ولكن كلمة الله تشجب كل من يتعامل باستخفاف مع هذه العلاقة المقدسة. الزواج يدوم لكل الحياة، وليس فقط على مدى استمتاع طرفي الزواج مع بعض. الرباط الذي ينشأ بالزواج لا يفصمه سوى الموت أو خطيئة مميتة.

الخطاب ٥٧

ما وراء الحجاب

"١٩«كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأُرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً. ٢٠وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِالْقُرُوحِ ٢١وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ بَلْ كَانَتِ الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. ٢٢فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ ٢٣فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ ٢٤فَنَادَى وَقَالَ: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ارْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اللهِيبِ. ٢٥فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ وَكَذَلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. ٢٦وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ هَهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا. ٢٧فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذاً يَا أَبَتِ أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي ٢٨لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُمْ لِكَيْلاَ يَأْتُوا هُمْ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِ الْعَذَابِ هَذَا. ٢٩قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. ٣٠فَقَالَ: لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. ٣١فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ»" (لوقا ١٦: ١٩- ٣١).

قبل التأمل في هذه القصة الجليلة التي دار حولها جدال كبير، وخاصة في السنوات الأخيرة بسبب الثورة على عقيدة العقاب الأبدي، دعوني أقترح فكرتين يحسن بنا أن نبقيهما في أذهاننا. أولاً، من روى هذه الحادثة كان أحن وألطف وأنبل وأكرم إنسان وطئ هذه الأرض. وبالتأكيد ما كان ليحاول أن يصف آلام البشر بعد القبر حتى عرف ورغب بأن يترك انطباعاً عند مستمعيه عن فظاعة الحياة والموت بدون الله. لو كانت هناك إمكانية أن يحيا الناس في خطاياهم ومع ذلك يجدون السلام والبركة في عالم آخر، لكان سيخبرهم بذلك. الانطباع الذي تركه في نفس كل من سمعه الذين أصغوا بانتباه إلى ما كان يريد أن يقوله لا بد أنه نفسه الذي نجده في الرسالة إلى العبرانيين (١٠: ٣١): "مُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ!". الفكرة الثانية التي أود أن أقدمها هي التالي: ليس هناك سبب لدينا يجعلنا نعتبر أن هذه القصة هي حدث متخيل وليس له أساس من الصحة أو الواقعية. لطالما طُرح السؤال حول إذا ما كنت هذه مثلاً أم لا. إن كنا نعني بالمثل التفكير بقصة خيالية لإيضاح أو تقديم درس أخلاقي أو روحي، فإني أعتقد أننا نكون على صواب إن قلنا أن هذه القصة ليست مثلاً. من جهة أخرى، إذا ما فكرنا بأي حادثة لنستخدمها في إيضاح حقيقة على أنها مجازية، فيصح تماماً أن نقول أن لدينا هنا مثل الغني ولعازر.

منذ بداية الأسفار الأولى في الكتاب المقدس، كما في سفر أيوب، كان السؤال يُطرح (١٤: ١٠): "الرَّجُلُ يَمُوتُ وَيَبْلَى. الإِنْسَانُ يُسْلِمُ الرُّوحَ فَأَيْنَ هُوَ!". بعيداً عن الإعلان الإلهي لا يمكن أن يكون هناك جواب مرضٍ على هذا السؤال. الفكر البشري لا يستطيع أن يخترق الحجاب ويخبرنا عما إذا كان هناك وعي شخصي في العوالم الأخرى غير هذا أم لا؛ ولكن في الحادثة المدونة هنا ذاك الذي جاء من بيت الآب إلى عالم الخطيئة هذا لكي يفتدي البشر، هو الذي يزيح الستارة، الستارة الكثيفة التي تحجب العوالم غير المنظورة عن الرؤية وتظهر لنا بوضوح ما يجري بعد الموت مع الأبرار والأشرار.

مرة أخرى، وكما الحال في المناسبات الأخرى المدونة في هذا الإنجيل، يستخدم يسوع التعبير: "كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ". هل كان هناك إنسان غني فعلاً أم لم يكن هناك هكذا إنسان. بالتأكيد يقول أنه كان هناك حقاً إنسان كهذا. يسوع لم يبدأ القصة بالقول: "إليكم هذا المثل"، كما في بعض المناسبات الأخرى؛ ولم يقل: "يشبه ملكوت السماوات إنساناً غنياً ومتسولاً فقيراً"، أو مفردات مثل هذه. بل بدأ من البدء وبشكل محدد قائلاً بوضوح: "كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ". لو سأل أي من مستمعيه عن اسم ذلك الرجل واسم البلدة التي عاش فيها، فهل من شك بأن يسوع كان قادراً على الإجابة على كلا هذين السؤالين بشكل قاطع؟ لقد كان يعرف هذا الرجل؛ كان يعرف كيف عاش؛ كان يعرف ما جرى بعد موته. إننا لا نعرف اسمه وسوف لن نعرف أبداً إلى أن يمثل أمام العرش الأبيض الكبير. عادة نسميه ديفيس، ولكن ديفيس ليس اسماً؛ هو ببساطة المرادف اللاتيني للكلمة اليونانية التي تعني "غَنِيٌّ". إلا أن هذا الرجل الغفل الاسم يبرز على صفحات الكتاب المقدس كشخصية متمايزة، ممثل عن كثيرين آخرين يعيشون لذاتهم ويتجاهلون الوصيتين العظيمتين اللتين تتضمنان المحبة نحو الله والمحبة نحو الإنسان. "كَانَ يَلْبَسُ الأُرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً". لقد كان ينعم بأفضل ما يمكن للأرض أن تقدمه ولم يكن له اهتمام بأمور الأبدية.

ثم يخبرنا النص أنه "كَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِالْقُرُوحِ وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ بَلْ كَانَتِ الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ". هذا المتسول الفقير يُذكر بالاسم لأن الراعي الصالح "يَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ". رغم ظروفه البائسة، كان لعازر (والذي يعني اسمه "الله عوني") رجل إيمان، ابناً حقيقياً لإبراهيم. لو كانت الأحوال صحيحة سليمة في إسرائيل لما كان أي ابن لإبراهيم ليوجد بهكذا حالة مذرية، ولكن لعازر كان يعاني بأنه كان واحداً من شعب انجرف بعيداً عن الله وخسر كل حقّ للمطالبة بمراحم الله المؤقتة، تلك المراحم التي وُعد بها الشعب إن أطاع الناموس الإلهي. من الواضح أن الرجل الغني لم يكن يشعر بأي اهتمام من أي نوع بهذا المتسول الفقير البائس الذي كان يأتي به أصدقاؤه أو أقرباؤه إلى بابه كل يوم أملاً بأن يتلقى لعازر صدقات كافية لتقيته وتطيل عمره. ولكن يبدو أن لعازر كان الجميع يجتازونه بلا مبالاة راشحة بالازدراء. لقد أظهرت الكلاب اهتماماً به أكثر من بني جنسه الذين ما كانوا يفكرون سوى في إرضاء رغباتهم الأنانية.

ولكن جرى تغيير كبير في النهاية. المتسول مات وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ربما لم يسمع ديفيس ورفاقه حتى بموت هذا الرجل. ليس هناك أي شيء مكتوب عن خدمة جنائزية. ربما أُلقي جسد ذلك الإنسان البائس الفقير الجائع إلى النار الدائمة الاشتعال المضرمة في وادي هنوم، أو تُرك لتلتهمه الضباع وأبناء آوى؛ أو إن كان هناك من يهتم به كفاية، فلربما دُفن بأبسط طريقة ممكنة. ومع ذلك وإذ ننظر إلى ما وراء الحجاب، وكلمات يسوع هي التي تساعدنا على ذلك، نرى كوكبة من الملائكة تنتظر لكي ترشد روح هذا البائس المبتلي بالفقر سابقاً إلى حضن إبراهيم، أبي المؤمنين. إنه إعلان مميز في العهد الجديد أن المؤمنين عندما يموتون الآن فإنهم يغادرون ليكونوا مع المسيح في حالة أفضل بكثير؛ ولكن قبل الصليب كان أكبر رجاء للعبراني التقي هو أن يُرحب به إبراهيم الذي قطع اله معه العهد، إلى مقر من الغبطة. يجب ألا نخطئ بالاعتقاد أن حضن إبراهيم كان اسم مكان في الهاوية. كان المكان هو الفردوس. حضن إبراهيم كان حضن إبراهيم. بمعنى آخر، إبراهيم، كشخص حي، رغم أن جسده كان ميتاً منذ زمن بعيد، هو الذي رحب بابن الإيمان هذا في موطن السعادة عندما انتقل من جسده المبتلي.

لا يخبرنا الإنجيل عن الفترة الفاصلة بين موت لعازر والغني، ولكن يبدو أنها لم تكن فترة طويلة جداً. نقرأ أنه "دُفِنَ". وهذا بحد ذاته ذو مغزى. لا شك أنه أُقيمت له خدمة جنائزية عظيمة كان فيها الكثير من الندّابين المستأجرين وأكبر مقدار من التكريم لذاك التراب الفاقد الحياة الذي كان يوماً مسكناً لروحه الأنانية، ولكن بينما كانت الخدمة الجنائزية تُقام على الأرض، كان هو نفسه، الإنسان الحقيقي، في الجحيم يحتمل عذابات الملعونين.

أعرف أن كثيرين يعترضون اليوم على هذا الكلام. وقد يقول لي البعض: "مهلاً. الكلمة المترجمة "هاوية" هنا لا تشير إلى المثوى النهائي الأخير للهالكين والذي هو جهنم فعلياً"، وإننا نسلّم لذلك. إنهم يصرون على أن الهاوية لا تشتمل على أية فكرة لدينونة آتية. ولكن دعونا نقرأ المقطع من جديد وننتبه إلى الكلمة اليونانية ونرى كيف تكون الأمور. "وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ". لاحظوا أن لدينا هنا كلمة "العذاب" وهي نفسها في ترجمتنا وفي اللغة اليونانية. يصر آخرون على أن "الهاوية"، في نهاية الأمر، لا تعني "عالم الهالكين"؛ إنها تعني فقط "القبر"، ويجب أن تُترجم على هذا النحو. رغم أننا لا نوافق على هذا الرأي، ولكن دعونا نقرأها على هذا النحو ونرى إن كانت تساعدنا على تحاشي التعليم الواضح الظاهر للقصة: "وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ. وإذ كان فِي القبر رَفَعَ عَيْنَيْهِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ". لاحظوا أن العذاب لا يزال موجوداً رغم أننا بدلنا الكلمة بشكل عنيف. هل دُفن الرجل حياً حتى عانى العذاب في القبر؟ لا؛ يقول لنا الإنجيل أنه مات، وبعد أن مات، وفي عالم آخر غير هذا، عانى العذاب.

ثم نعلم أمرين لافتين: الأول، أن الأرواح خارج الجسد تكون واعية بشكل كامل وتستطيع أن تخاطب بعضها بعضاً. ثانياً، أن هناك تمييز في العالم غير المنظور. هناك تمييز للمفديين في الفردوس من قِبل الهالكين الذين في الجحيم، بل حتى إن هناك بين الاثنين هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ.

إذ نتابع القصة نرى الفصل الذي يحدث في ساعة الموت يبقى إلى كل الأبدية. رفع ديفيس بصره خلال عذابه ورأى لعازر في حضن إبراهيم. ذلك الرجل الهالك نظر إلى الفردوس ورأى هناك ما فاته. رأى ما كان ليكون نصيبه لو أنه فقط أعطى الله مكانته التي يستحقها في حياته: رأى ذاك الذي كان قد عاش متسولاً مهملاً على بابه، يتمتع الآن بسعادة لن يكون في مقدور نفسه أن يعرفها أبداً. وفي محنته بدأ يتوسل ويصلّي. فكروا في هذا- رجل مصلٍّ في الجحيم! ولكن المشكلة هي أنه راح يصلّي في الجانب الآخر من القبر. بينما كان على الأرض لم يشعر بحاجة إلى الصلاة؛ عاش حياته المتمحورة على الذات في إهمال كامل للمطالب المحقة نحو الله والإنسان. ولكن في الأبدية بدأ يصلّي عندما صارت الصلاة لا تنفعه. لم يطلب الكثير في البداية، ببساطة طلب قطرة ماء بارد على طرف إصبع المتسول، ولكن حتى هذه حُرم منها. لقد استخدم لغة المادية رغم أن العطش روحي- عطش ما كان ليعرفه لو استفاد من العرض المقدم له بأن يشرب من الماء الحي عندما كان على الأرض. ولكن كان الأوان قد فات كثيراً الآن. أجاب إبراهيم، الذي رُفع إليه التوسل، قائلاً: "يَا ابْنِي اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ وَكَذَلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ". يَا ابْنِي اذْكُرْ! يا لها من ذكرى مريعة ستكون لأولئك غير المخلّصين: أن يتذكروا طوال الأبدية كل خطيئة ارتكبوها ولم يتوبوا عنها، ولذلك بقيت غير مغتفرة؛ أن يتذكروا كل فرصة سنحت لهم لتسوية علاقتهم مع الله ولكنهم لم يستفيدوا منها بسبب لا مبالاتهم؛ أن يتذكروا كل رسالة من الإنجيل سمعوها ومع ذلك رفضوا أن يؤمنوا بها. ستكون الذاكرة في الواقع كمثل الدودة، التي لا تموت، وتعذب النفس إلى الأبد.

تُظهر كلمات إبراهيم أن المرء يمكن أن يكون له على الأرض كل ما يرغب به قلبه ولكن ليس للأبدية مكان في فكره أو قلبه. من جهة أخرى، قد لا يكون للمرء أي شيء يخدم حاجته وراحته، ومع ذلك يكون له كل شيء لأجل العالم الآخر.

ثم تخبرنا الكلمات التي تلي ذلك حقيقة استحالة أي تغيير طوال الدهور الآتية. "وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ هَهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا". هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ! الفصل بين المخلّصين والهالكين نهائي عندما يكون المرء قد انتقل عبر بوابة الموت إلى العوالم غير المنظورة. ها هنا الضربة القاضية للفكرة القائلة بخلاص الجميع. من الطبيعي أن نميل إلى الاعتقاد بأن هناك طريقة ما يستطيع بها أولئك الذين ماتوا أن يتوبوا عن خطاياهم وآثامهم، ويتطهروا من خطاياهم، حتى بعد دهور من العذاب، وأن يتمتعوا بالرؤية الملائكية، ولكن الهوة لا يمكن عبورها. المخلّصون لا يمكن أن ويخسروا بركتهم ويسقطوا إلى الهلاك؛ والهالكون لا يمكن أن ينالوا البركة ويتمتعوا بالخلاص.

إذ وجد نفسه عاجزاً عن التخفيف من بؤسه الشخصي، فجأة أصبح الرجل الغني ذا ذهنية إرسالية. فراح يتوسل بشكل يُرثى له لأجل إخوته الخمسة الذين لا يزالون على الأرض ويرجو إرسال لعازر إليهم من الموت ليحذرهم، لئلا يأتوا إلى نفس مكان العذاب. لقد سمعنا أناساً غير مخلّصين يعلنون بوقاحة في بعض الأحيان أن: "حسنٌ. إن كنتُ هالكاً فسأجد الكثير من الأصحاب معي في الجحيم". لا يوحي لنا النص بأي شيء من هذا القبيل. هذا الرجل لا يرجو صحبة؛ لا يريد أعز أقربائه أن يكونوا هناك. وهذا يعطينا فكرة ما عن العزلة الفظيعة في الجحيم. حتى وإن كان المرء مدركاً لقرب أولئك الذين كان يعرفهم على الأرض فإن هذا إنما ليزيد من بؤسه وتعاسته.

فكروا في العائلة التي كان ينتمي إليها هذا الرجل: هناك ستة إخوة، أحدهم في الجحيم والخمسة الآخرين على الطريق إليه. ومع ذلك كان المسيح سيأتي لأجل أن يموت عن الجميع. ما كان هناك حاجة لأن يهلكوا لو أنهم كانوا على استعداد لقبول رسالة النعمة.

هذا التوسل الثاني، مثل السابق، لن يُستجاب. أجاب إبراهيم قائلاً: "عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ". بمعنى آخر، لديهم كلمة الله؛ لديهم كتبهم المقدسة؛ فليقرأوا الكلمة؛ ولينتبهوا إلى ما يجدونه فيها، وبذلك لن يعرفوا معنى الهلاك الأبدي. ولكن إن رفضوا الكلمة فعندها حتى لو رجع إنسان من بين الأموات ما كان ليستطيع أن يقنعهم بالتوبة. يفكر ديفيس باحتمال آخر. صرخ قائلاً: "لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ". فيأتي الرد قاسياً وسلباً: "إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ". الإنسان الذي يرفض أن ينتبه إلى التعليم الواضح المحدد في الكتب المقدسة سوف لن يصدق إذا ما أتى إنسان إليه ليؤكد له أنه كان على الجانب الآخر من القبر وأنه عاد ليحذّره كي يهرب من الغضب الآتي.

بالتأكيد ما من إنسان مفكر عاقل يمكن أن يقرأ هذه القصة بجدية بدون أن يدرك أن ربنا يسوع أراد لنا أن نفهم أننا إن متنا في خطايانا، إن مضينا من هذا العالم ونحن نحب ما يبغضه الله ونكره ما يحب الله، فإننا بالتأكيد سنكون مفصولين عنه إلى الأبد.

وتبقى فكرة أخرى قبل أن نختم هذه الرسالة. إن كانت القصة هي مجرد مثل، كما يقول البعض لنا، فما التعليم الذي يقدمه لنا؟ الجواب الذي يقدمه لنا ذوي النزعة المادية من مختلف الجماعات الذين ينكرون حقيقة وعي الإنسان بعد الموت ويرفضون عقيدة العقاب الأبدي عن الخطيئة، سيكون عادة شيئاً من هذا القبيل: الغني، كما نعلم، يُصور الشعب اليهودي الذي استمتع على مدى القرون بكل البركات التي قدمها الله وأبقاها لنفسه بأنانية؛ والفقير، رغم أن اسمه يهودي، يمثل الأمميين الذين كانوا غرباء عن وعود العهد ويبقون خارج باب اليهودي الأثير. إن موتهم يمثل بداية دهر تدبيري جديد. والآن صار الأممي هو الذي يحظى بالامتياز، حتى في حضن إبراهيم، لأنه صار وريثاً للوعود التي كان محروماً منها سابقاً. اليهودي هو المنبوذ الآن، وهو الذي ظل يتعذب طوال القرون بسبب خطايا آبائه. قد تبدو هذه الفكرة معقولة أو مقبولة لأول وهلة، ولكن دعونا نخطو خطوة أبعد من ذلك. هذا اليهودي المنبوذ وهذا الأممي المتمتع بالامتياز- هل هما منفصلان بهوة لا يمكن عبورها؟ هل صحيح أن اليهودي لا يمكن أن يأتي مكانه الحالي في العذاب إلى الامتيازات المسيحية؟ هل صحيح أن الأممي الأثير لا يستطيع أن يرفض نعمة الله في المسيح وأن يمضي، إذا ما شاء، إلى المكان الذي يتواجد فيه اليهودي نفسه؟ بالتأكيد لا. ما من هوة مثل هذه كانت موجودة أبداً على الأرض. كل يهودي يمكن أن يقبل المسيح ويدخل إلى بركة نور الإنجيل وينال الامتياز والحظوة؛ وكل أممي يرفض نعمة الله ينتقل إلى المكان الذي يوجد فيه اليهودي غير المخلّص تحت دينونة الله.

الاستنتاج الوحيد الصحيح والمنطقي إذاً هو أن ربنا روى هذه الحادثة ليوضح لنا أهمية أن نكون أبراراً ومستقيمين مع الله في هذا العالم لكي ننال حظوة لديه في العالم الآتي.

الخطاب ٥٨

الخضوع للمسيح

"١وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ! ٢خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ. ٣اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ. ٤وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَاغْفِرْ لَهُ». ٥فَقَالَ الرُّسُلُ لِلرَّبِّ: «زِدْ إِيمَانَنَا». ٦فَقَالَ الرَّبُّ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذِهِ الْجُمَّيْزَةِ انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي فِي الْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ. ٧«وَمَنْ مِنْكُمْ لَهُ عَبْدٌ يَحْرُثُ أَوْ يَرْعَى يَقُولُ لَهُ إِذَا دَخَلَ مِنَ الْحَقْلِ: تَقَدَّمْ سَرِيعاً وَاتَّكِئْ. ٨بَلْ أَلاَ يَقُولُ لَهُ: أَعْدِدْ مَا أَتَعَشَّى بِهِ وَتَمَنْطَقْ وَاخْدِمْنِي حَتَّى آكُلَ وَأَشْرَبَ وَبَعْدَ ذَلِكَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ أَنْتَ. ٩فَهَلْ لِذَلِكَ الْعَبْدِ فَضْلٌ لأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ؟ لاَ أَظُنُّ. ١٠كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا»" (لوقا ١٧: ١- ١٠).

أعطانا ربنا المبارك مقداراً كبيراً من التعليم العملي في الأناجيل الأربعة. وهذا شيء لن نصل إلى ما وراءه أبداً طالما نحن هنا في هذا العالم. كل ما هو روحي في الكتاب المقدس هو لأجلنا. هناك أمور معينة، كما نعلم، لها تطبيق تدبيري خاص؛ ولكن كل الحقائق الروحية والأخلاقية تنطبق على جميع العصور والأزمنة. علينا كمسيحيين أن نرجع مراراً وتكراراً إلى التعليم الذي أعطانا إياه يسوع في الأناجيل لكي نتعلم كيف نسلك ونرضي الله ونحن عابرون في هذا العالم.

يتكلّم (يسوع) هنا عن أربعة مواضيع مختلفة. أولاً، يعطي تحذيراً مهيباً من أحجار العثرة. نقرأ في النص أن يسوع "قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ". الكلمة المترجمة "الْعَثَرَاتُ" تعني فعلاً "أحجار العثرة". من فترة لأخرى ستأتي مناسبات يحدث فيها تعثر. البعض سينسى مسؤولياته ويسمح لنفسه بأن يذنب في الأشياء التي سيتبين أنها حجر عثرة للآخرين. إنهم يوقعُون إخوتهم الأضعف منهم في الإثم أو يروِّعونهم بأعمال لا أخلاقية يقومون بها، ولكن يجب ألا نبرر هذه الأشياء في أنفسنا أو عند الآخرين. قد نجد من السهل أن نقول: "لم أقصد أي أذى". ولكننا مسؤولون لأن نسلك هكذا حتى أن الآخرين الذين يحتذون بنا لا يضلوا في طريق الخطيئة من خلال مثلنا السيئ. يجب أن يكون لدينا جواب على ذلك إذا ما أثمنا بهذه الطريقة. قال يسوع: "وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي (العثرات) بِوَاسِطَتِهِ! خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ". هذه الكلمات قد ترعب المرء للغاية. يجب أن تجعلنا "نسلك بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ". قد يتساءل المرء: "إني أعيش حياتي الخاصة، ولا أهتم بما يفكر به الناس. أعيش حسب محاكمتي الخاصة للأمور". ولكن هذه ليست روح المسيح، وليست الروح التي يجب أن تميز أولئك الذين يعترفون بأنهم تلاميذه. هناك أمور كثيرة نعتقد أنها صحيحة ولا بأس فيها، ولكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أخينا الأضعف. تناول الرسول بولس هذا الموضوع بشكل كبير في رسائله. في رومية ١٤: ٢١، قال: "حَسَنٌ أَنْ لاَ تَأْكُلَ لَحْماً وَلاَ تَشْرَبَ خَمْراً وَلاَ شَيْئاً يَصْطَدِمُ بِهِ أَخُوكَ أَوْ يَعْثُرُ أَوْ يَضْعُفُ. أَلَكَ إِيمَانٌ؟ فَلْيَكُنْ لَكَ بِنَفْسِكَ أَمَامَ اللهِ". لا تستعرضوا أو تتباهوا بحريتكم أمام آخر من المحتمل أن يتأثر بتصرفكم على نحو خاطئ.

في الحادثة الثانية يتكلم ربنا عن غفران الأذية، حقيقية كانت أم متوهمة. في الآيتين الثالثة والرابعة يقول: "اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَاغْفِرْ لَهُ". دعوني أتوقف هنا لوهلة. "إِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ". أي، إن شعرت أن أخاك قال شيئاً أو فعل شيئاً ليؤذيك، فلا تتكلم عن ذلك لأناس آخرين؛ لا تسعَ طالباً شخصاً متعاطفاً ما وتفرغ مشاكلك في أذنه، خشية أن ينشر كل ذلك في كل الكنيسة بعد برهة. هناك مثل قديم يقول:

"إن كنتَ حكيماً فلا تنشرْ أخبارَك.
فهذا أمر حساس للغاية.
ليس من الحكمة أن تخبر صديقك عن شؤونك،
ثم تطلب منه أن يُبقي على هذه سرية".

لذا، فإن خطئ أحدهم نحوك، لا تخبر أي أحد بذلك. اذهب إلى ذاك الذي خطئ إليك ووبّخه على ما فعله. "وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ". اذهب مباشرة إلى ذاك الذي أساء إليك؛ قل له أن ما قاله أو ما صنعه يحزنك ويؤلمك. هذا يتطلب شجاعة حقيقية. وأحياناً يكون أسهل بكثير علينا أن ندمدم في كل مكان ناشرين الأخبار وأن نتكلم إلى أنس آخرين عن الأذى الذي نكون قد تعرضنا له بدلاً من أن نذهب إلى ذاك الذي ارتكب الخطأ وأن نخبره بما في فكرنا. إننا عظماء في تحاشي مسؤولياتنا. نفضل أن نلقي بها على شخص آخر. نفضل أن نقوم باتهام أمام الكنيسة. ولكن يسوع يخبرنا بشكل واضح أن علينا ألا نأتي بمسألة كهذه إلى الكنيسة إلا وبعد أن نكون قد ذهبنا إلى الشخص نفسه. اذهب إلى أخيك ووبّخه، وإن قال "أنا آسف؛ لم أقصد أن تجري الأمور على ذلك النحو"، أو قال "آسف، سامحني"، فعندها ستكون قادراً على أن تسوي المسألة في الحال، ولا يجب أن تتكلم عن الأمر مرة أخرى؛ يجب أن تكون هذه هي النهاية. كم من مشاعر سوء مزعجة كنا سنتجنبها لو تصرفنا بناء على هذه الكلمات تماماً؛ كم من نزاعات كنسية كان يمكن تحاشيها! تقولون: "حسنٌ. لقد تكلمت إليه في الموضوع، وقال أنه تاب، وغفرت له؛ ولكنه كرر نفس الفعل. ما الذي سأفعله الآن؟" يقول الرب: "إِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَاغْفِرْ لَهُ". هذا كافٍ ليجعل كل إنسان يفقد الثقة تقريباً في الإنسان: يقول: "أَنَا تَائِبٌ"، ثم يكرر العمل مراراً وتكراراً. لا أصدق شخصاً كهذا، أعتقد أنكم ستقولون ذلك. لا بأس؛ لستم مضطرين لأن تصدقوه إذا ما اكتفيتم بمسامحته. إن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم وقال: "إني نادم"، فعندها عليك أن تغفر هل. تذكروا أنه في مناسبة أخرى (مت ١٨: ٢١، ٢٢) قال بطرس: " يَا رَبُّ كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ". أخشى أن يكون أياً منكم قد اضطر أبداً أن يغفر كل ذلك العدد من المرات. بالطبع ليس مطلوباً منا أن نعلن المغفرة للشخص الآخر الذي يعترف بأنه نادم تائب. لست مضطراً لأن أجري وراء شخص وأقول له: "إني أغفر لك! إني أغفر لك!" فعلى الأرجح أنه سيقول: "لا أريد منك أن تغفر لي؛ لست في حاجة إلى غفرانك". بل علينا أن نتمسك دائماً بموقف رحمة وأن نحبه إلى أن يتأثر في النهاية ويقول أنه تائب نادم. علينا إذاً أن نغفر بشكل مجاني كما أن الله يغفر لنا.

الدرس الثالث الذي نتعلمه هنا هو قوة الإيمان. عندما تكلم يسوع بهذه الأمور إلى تلاميذه، نظروا إليه، وكأنهم يقولون: "إنك تضع معياراً عالياً لا نستطيع الوصول إليه". صرخوا قائلين: "زِدْ إِيمَانَنَا. فَقَالَ الرَّبُّ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذِهِ الْجُمَّيْزَةِ انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي فِي الْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ". لا تسيئوا فهم ذلك. لم يقصد أن يقول إن علينا أن ننطلق مظهرين قوتنا على الطبيعة. الإيمان، كما تعلمون، هو الإيمان بالله، والإيمان يقود المرء لأن يسلك بحسب إرادة الله المعلنة. إن كان الله يكشف لك أن عليك أن تصلّي لكي تقتلع جميزة ما وتُلقى في البحر، فإنه سيعطي الإيمان اللازم لذلك؛ ولكن ليس هذا الأمر اعتيادياً. ما يعلّمنا إياه الرب هنا هو أنه إن كانت لديك إيمان حقيقي فإنك ستستطيع أن تنتصر رغم جميع الظروف الخارجية. لقد سمعتم عن ذلك الإيرلندي الذي قال: "تعلّمت أن أثق بالله، وقد صنع أشياء رائعة من أجلي لدرجة أنه إن قال لي أن أقفز من فوق جدار حجري، فإني سأفعل ذلك وأعرف أنه سينقذني". ولكن لا تقفز إذا لم يخبرك الله أن تفعل ذلك. الإيمان يقودنا بأن نتصرف وفق كلمة الله، وعندما نفعل ذلك نستطيع الاتكال على الله لنتجاوز الموقف.

في الحادثة الرابعة، يقول الرب بضعة أمور ليبعدنا عن المبالغة في تقدير تكرسنا أنفسنا، أو المبالغة في تقييم خدمتنا. يستخدم مثلاً مشابهاً للغاية: يتكلم عن عامل مزرعة يعمل في الحقل، يحرث، أو يطعم القطيع، ويقوم بواجباته الأخرى، ثم يعود إلى البيت حيث يكون من واجبه أن يساعد في إعداد الوليمة وأن يخدم سيد المزرعة. يقول في حالة كهذه، بعد أن أنهيت حراثتك، وحملت الطعام إلى القطيع وأنهيت عدداً من واجباتك وأتيت إلى المنزل، لا تتوقع من السيد أن يقول لك: "اجلس هنا بينما أعد لك الطعام، وسيكون من دواعي سروري أن أخدمك". لا؛ عليك ألا تنتظر ذلك. أنت عامل مستأجر، خادم، ومطلوب منك القيام ببعض الأمور التي يدفع لك السيد عليها أجراً. إنك لا تشعر بضرورة أن تتلقى إطراءً خاصاً مقابل قيامك بما يُدفع لك لأجله. لقد أُعدت الترتيبات عندما أتيت إلى العمل في المزرعة، ولذلك فلا تتوقعنّ أي مراعاة خاصة. ليس لك أن تقول: "لقد أعطيت وقتي، وأعتقد أني أستحق مقداراً أكبر من الانتباه". ولذلك فإن الرب يحذر تلاميذه لئلا يسمحوا لأنفسهم بأن يُأخذوا بفكرة أنهم يستحقون الثناء بفضل خدمتهم له. إننا نُشترى بدمه الثمين، وعملنا هو أن نخدمه بسرور. لسنا سوى عمال ناقصون في أفضل أحوالنا. يقول: "مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا". إن واجبنا هو أن نستمر في خدمة ربنا يسوع المسيح. ونترك له أن يمتدح عملنا. سوف يلاحظ كل خدمتنا التي صنعناها لأجله، وكل ما فعلناه بدافع المحبة له سيكافئنا عليه، حتى وإن كان كأس ماء بارد قدمناه باسمه.

الخطاب ٥٩

أَيْنَ هم التِّسْعَةُ؟

"١١وَفِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ اجْتَازَ فِي وَسَطِ السَّامِرَةِ وَالْجَلِيلِ. ١٢وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ اسْتَقْبَلَهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ ١٣وَرَفَعُوا صَوْتَاً قَائِلِين: «يَا يَسُوعُ يَا مُعَلِّمُ ارْحَمْنَا». ١٤فَنَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ». وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهَرُوا. ١٥فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ شُفِيَ رَجَعَ يُمَجِّدُ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ١٦وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِراً لَهُ. وَكَانَ سَامِرِيّاً. ١٧فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَلَيْسَ الْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ التِّسْعَةُ؟ ١٨أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْداً لِلَّهِ غَيْرُ هَذَا الْغَرِيبِ الْجِنْسِ؟» ١٩ثُمَّ قَالَ لَهُ: «قُمْ وَامْضِ. إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ»" (لوقا ١٧: ١١- ١٩).

هذه إحدى الحوادث التي تتعلق بحياة ربنا المدونة فقط في هذا الإنجيل. هناك بضعة أمثال يعطينا إياها لوقا لوحده، وهناك عدد من المعجزات الواردة في إنجيله لا يخبرنا أي إنجيلي آخر عنه. هذا مثال بارز. كان يسوع قد غادر الأقسام العليا من الجليل وكان الآن في طريقه لأورشليم لآخر مرة. كان قد ذهب إلى هناك في مناسبتين أخريتين ليحفظ عيد الفصح، وفي إحدى المناسبات ليحفظ عيداً شتوياً. وعن قريب سيتشارك مع تلاميذه في عيد الفصح لآخر مرة، ثم يموت لأنه الذي لم يكن حمل الفصح سوى رمز له. فانطلق من الشاطئ الغربي لبحر الجليل، ماراً بمقاطعة الجليل إلى السامرة، ومن هناك إلى الأردن نزولاً عبر بيرية إلى أن جاء إلى مخاضة الأردن، مقابل مدينة أريحا، وهكذا وصولاً إلى أورشليم.

"وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ". لا نعرف اسمها ولكن من الواضح أنها كانت قريبة من حدود الجليل والسامرة. بينما كان يقترب من القرية، "اسْتَقْبَلَهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ". بحسب ناموس موسى عندما يوجد إنسان أبرصاً عليه أن يترك بيته وأصدقاءه وأن يسكن بعيداً عنهم في البرية. وإن اقترب إليه أحد كان عليه أن يصرخ قائلاً: "نجس! نجس!" هناك حادثة سابقة عن أبرص جاء عند قدمي ربنا وتوسل إليه لكي يشفيه، فلمسه الرب وتطهر الأبرص في الحال. ولكن هؤلاء العشرة، وحفاظاً على الناموس، شعروا بأنهم لم يجرؤوا على الاقتراب أكثر؛ "فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ وَرَفَعُوا صَوْتَاً قَائِلِين: «يَا يَسُوعُ يَا مُعَلِّمُ ارْحَمْنَا»". هذا يذكرني بفئة معينة من الخطأة- أناس يشعرون بأن خطاياهم تثقل عليهم جداً حتى أنهم ليس لديهم يقين بأنهم قادرون على أن يتحرروا وأن يدنوا من المسيح. ولكن الحقيقة هي أن المسيح يدعو الخطأة من كل نوع ليقتربوا إليه. وكان دائماً يرحب بهم، مهما كانت درجة نجاستهم أو دنسهم. ولكن هؤلاء الرجال كانوا تحت الناموس وتصرفوا وفقه عندما نادوه من بعيد. لقد كانوا جديين بشكل هائل. المشكلة الكبيرة عن الكثيرين اليوم هي أنهم في حين يعترفون بحاجتهم إلى مخلّص ويقرون بأنهم خطاة، لا يكونون جديين عملياً في محاولتهم إيجاد الخلاص. إذا تكلمت إليهم وحدثتهم عن أهمية المجيء إلى المسيح، يقولون لك: "أعلم أن علي أن أكون مسيحياً، ويوماً ما أنوي أن أومن بالمسيح". ولكنهم لا يأتون إلى نقطة تسوية المسألة الآن. الجحيم مليء بأناس توقعوا أن يأتوا يوماً ما إلى يسوع لأجل الخلاص. لا أفترض أن هناك نفس هالكة في الحفرة في الأسفل ممن نووا فعلاً أن يكونوا هناك؛ الجميع فكر بأنه يوماً ما ستتغير الأمور، وأنهم يشعرون بأنهم سيلبون دعوة الإنجيل. كانوا يرجون، مثل فِيلِكْسَ، مجيء يوم ملائم أكثر. ولكن الموسم الملائم أكثر لم يأتِ أبداً، وعبروا، وهم غير مخلّصين وغير مغفور لهم وغير مطهرين، من الزمان إلى الأبدية. إن كان أحد منكم لا يزال بعيداً عن المسيح، فإني أناشدكم أن تفعلوا مثل هؤلاء البرص العشر النجسين، فتسعوا جادين وراء تحرركم وخلاصكم. لقد كان البرص تواقين إلى الشفاء، وراغبين جداً بأن يتطهروا، لدرجة أنه حتى وإن لم يجدوا الجرأة للاقتراب من يسوع، رفعوا أصواتهم وصرخوا إليه من بعيد أن "يَا يَسُوعُ يَا مُعَلِّمُ ارْحَمْنَا". ما من أحد صرخ هكذا إليه طالباً الخلاص ورُدّ خائباً. يجب ألا تخافوا أن تأتوا إليه. مكتوب في رومية ١٠: ١٣ أن "كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ".

"نَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ»". وأتخيل الآن أن تلك كانت خيبة لهؤلاء الرجال. كانوا قد سمعوا أن الرب يسوع قد شفى على الفور أناساً آخرين من كل أنواع الأمراض. لقد طهر الكثير من البرص بكلمة أو بلمسة. كان قد قال لأحدهم: "أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!"، فتطهر الأبرص في الحال. ولكن الرب لا يتعامل مع الجميع بنفس الطريقة. تجاوباً مع توسل هؤلاء البرص يطلب منهم أن يذهبوا ويظهروا أنفسهم إلى الكاهن. في سفر اللاويين (الأصحاح ١٤) نقرأ أن الإنسان إذا ما شُفي من البرص عليه أن يذهب ويُظهر نفسه إلى الكاهن، وعندها سيتوجب على الكاهن أن يقدم ذبائح معينة عنه لكي يتطهر رسمياً ويُستعاد إلى مكانه في جماعة الرب. ولذلك قال المخلّص لهؤلاء الرجال: "ﭐذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ"، ما يدل ضمناً على أنهم سيتطهرون قبل أن يصلوا إلى الكاهن. سوف لن يكون هناك فائدة من إظهار أنفسهم إلى كاهن إن كانوا لا يزالون في حالة البرص، إذ في تلك الحالة لا يستطيع أن يصنع أي شيء لهم. وربما ذهب جميعهم، ما عدا السامري، إلى الكاهن قبل زمن، وكان قد أعلن أنهم برص وأخبرهم أن عليهم أن يعيشوا في مكان ناءٍ منعزل. ربما كانوا ليترددوا ويقولوا: "حسنٌ، يا سيد، انظر إلى هاتين اليدين؛ انظر إلى هذه اللطخ التي على وجوهنا؛ إن البرص يغطينا. لماذا سنذهب إلى الكاهن؟" ولكنهم لم يترددوا. لقد كانوا يعرفون معنى كلماته: سوف يتطهرون. ولذلك فقد استداروا ليذهبوا كما أمرهم. كانوا يتصرفون في إطاعة لكلمة ربنا، وجاء التطهير. والحال ينطبق اليوم علينا عندما يتصرف الرجال والنساء وفق الكلمة، حيث أن ربنا يحررهم. أعتقد أني أستطيع أن أرى هؤلاء الرجال وقد ذهبوا في الطريق محاولين أن يبهج ويشجع أحدهم الآخر ما أمكنه ذلك. لا بد أن وجوههم كانت فظيعة المنظر، وأجسادهم في حالة مريعة؛ ولكنهم تابعوا سيرهم إلى أورشليم. وفجأة يلتفت أحدهم إلى أحد آخر ويقول له: "آهٍ، لقد شفيتَ!" فيقول الآخر: "فكّرت أني شعرتُ بتغير ما يحدث. هل اختفت كل تلك اللطخ عن وجهي؟ ولماذا لا أرى أياً منها على وجهك؟” وراح كل واحد ينظر إلى الآخر ويجد أنه قد شُفي، ويدرك الجميع أن الشفاء قد صنعه الرب. كم كانت فرحتهم كبيرة وبهجتهم عظيمة!

قال يسوع: "ﭐذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ". لماذا أرادهم أن يفعلوا ذلك؟ لأنها ستكون شهادة للكهنة. لم نسمع على مدى ألف وخمس مئة سنة بعد كتابة ناموس عن أي إسرائيلي تطهر. مريم، أخت موسى التي أُصيبت بالبرص، قد شُفيت؛ وبعد عدة سنوات شُفي نعمان السرياني، ولكنه لم يكن من بني إسرائيل، فمن الطبيعي أنه لم يكن مطلوباً منه إطاعة الناموس فيما يتعلق بذهابه إلى الكهنة. ما عدا ذلك لا نقرأ أبداً في العهد القديم أية روايات عن أبرص تطهر خلال كل تلك السنوات الألف وخمس مئة، ولا بد أن الكهنة تساءلوا ما جدوى وجود ذلك الأصحاح ١٤ في اللاويين في الكتاب المقدس. كان من الطبيعي أن يقولوا: "لقد قرأتُ الأصحاح هذا مراراً وتكراراً ولكني لم أُضطر لتطبيقه". ولكن عندما جاء يسوع كانت الأمور مختلفة. صار يُرسل أبرص تلوى الآخر إلى هيكل أورشليم ليُعلن طاهراً، وعندما كان يظهر أمام الكهنة كان يتبين أنه شُفي من برصه. يا لها من شهادة يقدمها هؤلاء إلى الكهنة في إسرائيل. لقد رأوا شهادات كثيرة جداً على قدرة الرب يسوع المسيح حتى أنه كان يُفترض أن يسهل عليهم أن يؤمنوا أنه كان ابن الله. وهكذا ولأجل حفظ الناموس ارتحل هؤلاء البرص نحو الهيكل.

ولكن كان هناك شيء أسمى بكثير من ذلك. نجد أن أحد البرص، والذي كان سامرياً، عندما رأى أنه شُفي من دائه الفظيع، وأن قروحه الشنيعة قد تلاشت عن جسده، استدار وسارع إلى عند قدمي يسوع. شعر بأنه ما كان هناك فائدة من أن يذهب إلى الكهنة. فعاد إلى ذاك الذي شفاه، "رَجَعَ يُمَجِّدُ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِراً لَهُ". عند رجلي من؟ لاحظوا ما يقول الإنجيل: "رَجَعَ يُمَجِّدُ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ". عندما يكون لدينا ضمير مثل هذا يجب أن يكون هناك اسم يسبقه. الاسم الذي يسبق هاء الغائب في كلمة "رجليه" هو "الله". لقد أدرك ذلك الأبرص أن الله كان هناك في شخص يسوع الناصري، ولذلك فقد مجد الله وخرّ عند رجلي الله المتجلي في الجسد، ليعبده ويسبحه. لقد أدرك أن الله وحده هو الذي كان يستطيع أن يطهر أبرصاً، وأن يسوع كان يستحق العبادة والتسبيح. هذا الرجل، الذي كان يُعتبر أسوأ شخص في تلك الجماعة، أظهر تبصراً روحياً أكثر من البقية، الذين كانوا من بني إسرائيل. كان اليهود يحتقرون السامريين. ونقرأ في يوحنا ٤ أن اليهود ما كانوا يخالطون السامريين. ولكن يسوع شفى هذا السامري الأبرص البائس. فامتلأ قلب هذا بالتسبيح والشكران لأجل البركة التي تلقاها. صحيح أنه كلما صنع الله أكثر للمرء كلما كان يُفترض أن يكون هذا أكثر امتناناً. يتعجب الناس أحياناً عندما يسمعون شهادات أناس خلصوا في الإرساليات التبشيرية، الذين كانوا منبوذين ولكن تحرروا من الخطيئة الفظيعة الجسيمة، والآن امتلأت قلوبهم بالتسبيح والشكران الذي يفوق ما نجده عند من كانوا مسيحيين لسنوات وعاشوا حياة محترمة. كلما كانت ازدادت الخطيئة في حياة من يُغفر له كلما أدرك ذلك الشخص أكثر كم كان رائعاً تعامل الله معه. عندما خرّ هذا الأبرص راكعاً عند قدمي يسوع وسجد له، هل استاء يسوع من ذلك؟ هل قال له: "لا. لا تسجد لي؛ بل اسجد لله. فما أنا إلا إنسان فقط؟" لا؛ لقد قبل يسوع تعبد ذلك الرجل له بسرور، لأنه كان الابن السرمدي الذي نزل من عند الله، والذي كان ماضياً إليه من جديد. إلا أن يسوع سأل سؤالاً دلّ على خيبة أمله أو حزن نفسه: "قَالَ: أَلَيْسَ الْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ التِّسْعَةُ؟ أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْداً لِلَّهِ غَيْرُ هَذَا الْغَرِيبِ الْجِنْسِ؟" حسنٌ، لقد أخبرهم يسوع أن يذهبوا إلى الكهنة، ولكن هذا الرجل شعر أن عليه القيام أولاً بأمر آخر: شعر أن عليه أن يرجع إلى ذاك الذي شفاه وأن يخبره كم كان ممتناً له على تطهيره إياه. لو كان هناك نفس الامتنان في قلوب الآخرين لكانوا سيأتون أيضاً ويركعون عند قدمي يسوع، ثم يذهبون إلى الهيكل ليروا أنفسهم إلى الكهنة كشهادة. لقد صنعوا كما أمرهم يسوع، ولكن هذا السامري شعر بأن هناك مسؤولية أسمى، ورجع ليسجد للرب ويسبحه قبل أن يمضي إلى الكهنة في الهيكل. أليس في هذا درس لنا؟ هناك القليل جداً من العبادة الحقيقية لدى المسيحيين اليوم. حتى عندما يجتمع المؤمنون فهذا لا يكون لأجل السجود لله. هل تدركون أن الله يطلب متعبدين؟ أخشى أن يكون لدى الكثيرين فكرة أن الله يطلب عمالاً، إذ أن هناك شيئاً يجب أن يأتي قبل العمل، ألا وهو العبادة. أن تكون في حضرة الله بقلب ممتلئ بروح العبادة يعني بالنسبة إلى الله أكثر من أن ننشغل في خدمته. سوف لن يقلل من قيمة أو جدية خدمتنا إن تعبدنا لله أولاً، فهي لن تكون أقل مما لو قمنا بالخدمة كل الوقت. لا يزال الرب يسوع يقول: "أَيْنَ التِّسْعَةُ؟” إنه يقدّر أولئك الذين يأتون إلى حضرته بقلوب متعبدة، ولكنه يفتقد أولئك الذين خلصوا بنعمته ولا يرجعون ليقدموا له المجد.

ثم التفت يسوع إلى هذا الرجل وقدم له اليقين الذي لم ينله الآخرون. أن تتطهر، أن تنال الغفران، أن تنال الخلاص هو أمر؛ ولكن أن يكون لديك اليقين الكامل استناداً إلى كلمة الله أمر آخر. وهكذا التفت يسوع إلى هذا السامري وقال له: "قُمْ وَامْضِ. إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ". أرى في هذا التعبير دلالة على ما هو أكثر من اليقين بأنه كان سليماً بدنياً. أرى في ذلك أن الرب كان يقول لهذا الرجل أنه لم يُشفى من دائه فقط، بل أنه تطهر روحياً أيضاً بسبب الإيمان الذي أظهره. أرى الرجل يبتهج إذ يعود إلى بيته الذي كان تركه منذ زمن طويل عندما ابتُلي بهذا الداء الفظيع. أستطيع أن أرى أصدقاءه ينكفئون إلى الخلف إذ يرونه قادماً، وينادونه: "لا تقترب منا؛ أنت نجس!" ولكنه يجيب قائلاً: "لا حاجة لأن تخافوا، لأني شفيت، وذاك الذي طهّرني جعلني سليماً معافى كلياً". هذا أمر لا يزال يسوع يصنعه لأولئك الذين يؤمنون به إيماناً كاملاً؛ يجدون أنفسهم مطهرين كلياً من الخطيئة. وإذاً، إنها لمسرة لنا أن نأتي إلى حضرة الله لنعبده ونسبحه ونشكره على نعمته التي لا مثيل لها. يا له من وقت قليل نمضيه عادة في التعبير عن امتناننا للرب على ما صنعه من أجلنا. هذا أمر في غاية الأهمية. انظروا إلى الصلاة الصغيرة التي علّمها ربنا لتلاميذه: هل لاحظتم أن حوالي ثلثيها تتعلق بالعبادة والتبجيل وأن ثلثها فقط فيه طلبات؟ ألا فليعلّمنا الرب أكثر فأكثر بركة العبادة، والمجيء إلى حضرته مسبحين وعابدين له، ثم ننطلق بعدها لنخدم في جدّة الروح!

الخطاب ٦٠

المجيء الثاني للمسيح

"٢٠وَلَمَّا سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ؟» أَجَابَهُمْ وَقَالَ: «لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ بِمُرَاقَبَةٍ ٢١وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هَهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ». ٢٢وَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: «سَتَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ وَلاَ تَرَوْنَ. ٢٣وَيَقُولُونَ لَكُمْ:هُوَذَا هَهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ. لاَ تَذْهَبُوا وَلاَ تَتْبَعُوا ٢٤لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ الَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً ابْنُ الإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ. ٢٥وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَوَّلاً أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنْ هَذَا الْجِيلِ. ٢٦وَكَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً فِي أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ. ٢٧كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيُزوِّجُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ الْفُلْكَ وَجَاءَ الطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ. ٢٨كَذَلِكَ أَيْضاً كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ لُوطٍ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ وَيَغْرِسُونَ وَيَبْنُونَ. ٢٩وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ. ٣٠هَكَذَا يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يُظْهَرُ ابْنُ الإِنْسَانِ. ٣١فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَنْ كَانَ عَلَى السَّطْحِ وَأَمْتِعَتُهُ فِي الْبَيْتِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَهَا وَالَّذِي فِي الْحَقْلِ كَذَلِكَ لاَ يَرْجِعْ إِلَى الْوَرَاءِ. ٣٢اُذْكُرُوا امْرَأَةَ لُوطٍ! ٣٣مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا. ٣٤أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يَكُونُ اثْنَانِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ فَيُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ. ٣٥تَكُونُ اثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ مَعاً فَتُؤْخَذُ الْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ الأُخْرَى. ٣٦يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ فَيُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ». ٣٧فَأَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ يَا رَبُّ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «حَيْثُ تَكُونُ الْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ»" (لوقا ١٧: ٢٠- ٣٧).

هناك عدة أقسام متمايزة في هذا القسم من الكتاب المقدس. في الآيتين ٢٠ و٢١ لدينا سؤال الفريسيين حول ملكوت الله، وإجابة ربنا على هذا السؤال. تذكروا أن يسوع كان يخدم في أرض فلسطين لثلاث سنوات ونصف رائعة، وكان قد أعطى إثباتاً بعد الآخر على مسيانيته. في أكثر من مناسبة كان صوت الآب يعلن من السماء قائلاً: "هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ". شهد يوحنا المعمدان ليسوع قبل مجيئه وبعده؛ وأعماله نفسها شهدت على شخصه الحقيقي، على ألوهيته، على أنه ابن الله وابن الإنسان أيضاً. ولكن هؤلاء الفريسيون العميان لم يروا الحقيقة المتعلقة بيسوع. نقول أحياناً أنه ما من أحد أعمى بمقدار أولئك الذين لا يريدون أن يروا. وهؤلاء الفريسيون كانوا هكذا. ما كانوا ليعترفوا بسلطان المسيح؛ ولذلك فما كان أي شيء يفعله ولا أي شهادة من الآب عليه ولا حتى قول ليوحنا المعمدان عنه كان ليمكن أن يقنعهم. لقد كانوا مصممين على أن يرفضوا مزاعمه. والآن جاؤوا يطرحون عليه السؤال: "مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ؟" لكأنهم كانوا يسألون: ما برحت تكرز بملكوت الله؛ فمتى سيظهر هذا الملكوت فعلياً؟ فأجاب: "لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ اللهِ بِمُرَاقَبَةٍ". أي لن يأتي بظهور خارجي. لقد كانوا يتطلعون لمجيء ابن داود بينهم، لينشئ جيشاً ويحررهم من نير الرومان ويعلن نفسه ملكاً على كل العالم. ولكن يسوع لم يكن في ذهنه أي برنامج كهذا. لقد جاء ليزرع البذار الصالحة للملكوت، ولذلك فقد قال أن الملكوت سوف لن يأتي بظهور خارجي. صرّح قائلاً: "هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ". هناك سؤال بين العلماء المسيحيين المختصين المقتدرين حول المعنى الحقيقي لهذه العبارة. إن أخذناها كما هي مترجمة هنا- أن ملكوت الله في داخلنا- فهذا يعني أن ملكوت الله له علاقة بالاعتراف بسلطان الرب على حياتنا، وتكريس قلوبنا للرب الإله، معترفين به على أنه السيد الشرعي المطلق. من جهة أخرى، هناك عديدون يعتقدون أن هذه العبارة يجب أن تُترجم على الشكل التالي: "ملكوت الله في وسطكم". أي أن الملكوت كان حاضراً للتو في حالة جنينية. بصراحة، أعتقد أن هذا هو المعنى الحقيقي لكلمات الرب. سأل هؤلاء الفريسيون متى سيتأسس الملكوت، وقال يسوع أن الملكوت هو هنا الآن، ولكن ليس لكم أعين لتراه. "مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ". الملك نفسه هنا، يرافقه أعضاء مجلسه. في التجدد، العصر الذهبي الذي كان يتطلع إليه الناس دائماً، يقول، كما نرى في مت ١٩: ٢٨: "تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ". الرسل الاثنا عشر، في هذا المعنى، كانوا مجلس حكمه، الأعضاء الرسميين في ملكوته. ولذلك فإن ملكوت الله كان في وسطهم ولكنهم لم يعرفوه.

بعد أن غادر الفريسيون المكان التفت يسوع إلى تلاميذه وحذّرهم. كان ماضياً كما أخبرهم عدة مرات من قبل، ولكنهم لم يفهموا. في غيابه سيكونون معرضين لأخطار كثيرة وقادة زائفين. ولذلك قال يسوع: "سَتَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ وَلاَ تَرَوْنَ". لكأنه يقول: سوف تتوقون إلى ابن الإنسان وسوف لن تروني، إذ سأكون غائباً عنكم، بعيداً في السماوات. "يَقُولُونَ لَكُمْ: هُوَذَا هَهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ. لاَ تَذْهَبُوا وَلاَ تَتْبَعُوا". تعاقبت فترات عبر القرون منذ عودة يسوع إلى المجد، ظهر فيها أناسٌ قالوا أنهم جاؤوا ليحققوا وعود الله، وكل واحد منهم كان يزعم أنه المسيح. ولكن أولئك الذين يضعون في أذهانهم التحذير الذي قدّمه المخلّص لا ينخدعون بهؤلاء الدجّالين. عندما سيرجع يسوع ثانية لن يكون ذلك بضعف بل بقوة. سوف لن يأتي إلى هذا العالم للمرة الثانية من خلال الولادة، بل سيعتلن من السماء بقوة ومجد عظيم. "لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ الَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً ابْنُ الإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ". "عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ، فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِياً نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللهَ". مجيئه سيكون مختلفاً كلياً عن ذاك المجيء الأول بنعمة متواضعة ليقدم حياته لأجل خلاص العالم الضال.

ولكن الرب ذكّر تلاميذه بأنه أولاً سيعاني أموراً كثيرة بالتأكيد وسيرفضه ذلك الجيل، كما جرى فعلياً. وهو لا يزال ذاك المرفوض، رغم اعتراف الناس في العالم المسيحي بأنهم يوقرون اسمه؛ ولكن الغالبية العظمى لم تفتح له بعد قلبها أو تعترف به فادياً لها وملكاً عليها.

"ها ربنا يُرفض اليوم،
ويتبرأ منه العالم،
ولا يزال كثيرون يتجاهلونه،
في حين بضعة فقط يتوجونه ملكاً.
ولكن سرعان ما سيأتي في مجد،
إذ دنت ساعة مجيئه،
لأنه قد اقترب يوم التتويج،
وها هو بعد حين"

يعتقد البعض أنه لن يأتِ ثانية إلى أن يكون العالم كله قد اهتدى، وإلى أن يكون الإنجيل قد اخترق كل الأمم والشعوب، وأن الجميع اعترفوا بحكمه الشرعي؛ ولكن هذا ليس هو فكر المسيح؛ إنه ما أخبر به تلاميذه. قال: "وكَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذَلِكَ يَكُونُ أَيْضاً فِي أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ". لم يكن العالم كله مهتدياً في أيام نوح. "كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيُزوِّجُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ الْفُلْكَ وَجَاءَ الطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ". كان الفساد والعنف يملأ الأرض في تلك الأيام. وكانت هناك بضعة عائلات تعرف الله، ولكن عدد هؤلاء تقلص أخيراً إلى واحدة- نوح وأهل بيته. عندما يأتي الرب في المرة الثانية سوف لن يجد كل العالم منتظراً أن يستقبله، بل إن الخطيئة ستكون متفشية كما في أيام نوح. لاحظوا أن الناس ما قبل الطوفان كانوا مهتمين بالأمور العادية التي تشغل فكر الناس رجالاً ونساء. لم يؤمنوا برسالة نوح، بل عاشوا في لا مبالاة كاملة نحو الله إلى أن دخل نوح الفلك، وجاء الطوفان وأهلكهم. ولذلك نستنتج من هذا المقطع أن العالم سيستمر كما هو حالياً. الناس سينشغلون بأمور الحياة المختلفة ولكن لن يبالوا بدعوة يسوع إلى أن تأتي ساعة عودته. سيعود بقوة ومجدٍ، وسيدرك الناس ولكن في وقت متأخر جداً كم كانوا حمقى عندما رفضوه.

يستخدم الرب مثلاً توضيحياً آخر في نفس السياق. يقول: "كَذَلِكَ أَيْضاً كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ لُوطٍ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ وَيَغْرِسُونَ وَيَبْنُونَ. وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ". ليس هناك خطأ في هذه الأشياء التي يسترعي انتباهنا إليها. ليس هناك خطأ في الأكل والشرب، في الشراء أو البيع؛ ليس هناك في الزرع أو البناء. هذه الأشياء صحيحة تماماً بحد ذاتها، ولكن الخطأ هو أن نكون منشغلين جداً بها لدرجة ننسى معها أمور الله والأبدية. يسوع لم يذكر حتى الخطايا الفظيعة التي كانت تميز مدن السهل؛ إنه يتحدث فقط عن أمور عادية. لقد كانوا يعيشون وكأنه ما من دينونة آتية، وكأنه ما من إله يكونون مسؤولين أمامه. وإذ كانوا مستمرين على هذا النحو جاءت الدينونة؛ لقد جاءت بشكل مفاجئ لدرجة أنه ما من أحد نجا منها. نقرأ: "وَلَكِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي فِيهِ خَرَجَ لُوطٌ مِنْ سَدُومَ أَمْطَرَ نَاراً وَكِبْرِيتاً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ". ويظهر يسوع المغزى التطبيقي لهذا الكلام فيقول: "هَكَذَا يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يُظْهَرُ ابْنُ الإِنْسَانِ". لأن ذلك اليوم سيكون يوم اضطراب عظيم على الأرض هنا يقول يسوع: "فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَنْ كَانَ عَلَى السَّطْحِ وَأَمْتِعَتُهُ فِي الْبَيْتِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَهَا وَالَّذِي فِي الْحَقْلِ كَذَلِكَ لاَ يَرْجِعْ إِلَى الْوَرَاءِ". أي أنه عبثاً يحاول المرء يومذاك إنقاذ أي شيء في ذلك العالم المتهدم؛ سيكون قد فات الأوان على ذلك. لن ينجح في النجاة أيٌ من أولئك الذين رفضوا ذاك الوحيد الذي كانوا سيجدون فيه الأمان والضمان.

ثم بثلاث كلمات يوجه يسوع تحذيراً خطيراً للغاية: "اُذْكُرُوا امْرَأَةَ لُوطٍ!". لماذا ينبغي أن نتذكرها؟ لأنها كادت تخلص ومع ذلك فقد هلكت. لقد كانت زوجة رجل تقي؛ بل حتى استضافت الملائكة في منزلها؛ لقد كانت على طريق الخلاص، ولكنها هلكت في النهاية. لماذا؟ لأنها بعد أن تركت سدوم، كان قلبها لا يزال هناك. لم تأخذ مكانتها الحقيقية أمام الله، وعندما انهارت سدوم انهارت معها. لعلنا نتذكر جيداً زوجة لوط. هذا التحذير ينطبق بشكل خاص على أولئك الذين ينتمون إلى عائلات مسيحية، الذين لهم آباء أتقياء، الذين سمعوا الكلمة طوال حياتهم، والذين عمل معهم روح قدس الله جاهداً. قالوا في قلوبهم: "يجب أن أتجه إلى المسيح، يجب أن أومن به، ولكني لا أستطيع أن أسلّم له ذاتي الآن". تذكروا امرأة لوط! تذكروا أن المرء شبه المخلّص يمكن أن يهلك إلى الأبد.

"بالكاد" لا تنفع.
"بالكاد" هي إخفاق.
ينوح كثيراً ويأسى،
من يكون "بالكاد" ويهلك".

يضيف ربنا قائلاً: "مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا". أي أن من يحيا لنفسه، لأجل الملذات، أو الثروة، لأجل ما تقدمه هذه الأرض، سيجد في النهاية أنه خسر فعلياً كل شيء ذا قيمة حقيقية. بينما من هو قانعٌ، لأجل المسيح، ويمعن النظر فيما يعتبره العالم قيّماً، فإنه سيجد أن لديه كنزٌ أبدي لا يمكن تقدير ثمنه. أفترض أن لوط في السنين التي قضاها في سدوم قد جمع ثروة ما. وربما كان لديه مكان إقامة فخم جداً. وأستنتج من الكتاب المقدس أنه نجح في أن يصنع اسماً وشهرة لنفسه. نقرأ أنه " كَانَ لُوطٌ جَالِسا فِي بَابِ سَدُومَ"، ما يعني أن لوط كان قاضياً. وعندما وقعت الدينونة، نجا لوط، ولكن بالنار فقط. خرج من سدوم في الوقت الملائم، ولكنه خسر كل شيء مما عمل جاهداً لأجله خلال كل تلك السنين. لقد نجا بنفسه، ولكن كل شيء آخر هلك. هناك كثيرون سيكونون في السماء لأنهم آمنوا بالمسيح حقاً، ولكنهم سيجدون أن كل أعمالهم تكون قد احترقت عند كرسي دينونة المسيح.

ثم يستخدم يسوع بعد ذلك مثلاً صادماً جداً ليظهر الانشقاقات والانفصالات التي ستحدث في يوم عودته. في جزء من العالم سيكون هناك ليل عندما تقع تلك الحادثة. ولذلك يقول: "أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يَكُونُ اثْنَانِ عَلَى فِرَاشٍ وَاحِدٍ فَيُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ". وفي جزء آخر من العالم سيكون هناك شروق شمس، ونساء يعددن طعام الفطور في الصباح. ولذلك يخبرنا يسوع قائلاً: "تَكُونُ اثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ مَعاً فَتُؤْخَذُ الْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ الأُخْرَى". بينما في مكان آخر سيكون هناك وضح النهار. ويقول يسوع: "يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ فَيُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ". يا له من أمل جلل! إنه يتكلم عن الفصل الأبدي. مجيئه مؤكد، ولكن الوقت ليس معروفاً بالضبط. يتوجب علينا جميعنا أن نكون مستعدين. عندما يأتي ستصيب الدينونة كل الذين يرفضون المسيح.

"حَيْثُ تَكُونُ الْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ".بحسب التدبير الإلهي، تشير "الجثة" إلى الجموع الرديئة الفاسدة العفنة من الناس ذوي الاعتراف الكاذب المتمركزين في أورشليم في الأيام الأخيرة. و"النسور" تشير إلى جيوش الأمم التي سوف تحتشد مهاجمة تلك المدينة. ولكن إن نظرنا إلى المسألة من ناحية أخلاقية، فإن الدرس جليل مهيب لكل إنسان غير مخلّص يتبين أنه بعيد عن المسيح في يوم غضبه ذاك، والذي سيتعرض إلى غضب الله. كما النسور تلتهم الجثث المتحلّلة، هكذا ستقع دينونات الله على كل من رفضوا وازدروا بنعمته.

الخطاب ٦١

الصلاة المُلِحّة

"١وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ قَائِلاً: ٢«كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لاَ يَخَافُ اللهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَاناً. ٣وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي. ٤وَكَانَ لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَخَافُ اللهَ وَلاَ أَهَابُ إِنْسَاناً ٥فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي أُنْصِفُهَا لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي». ٦وَقَالَ الرَّبُّ: «ﭐسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظُّلْمِ. ٧أَفَلاَ يُنْصِفُ اللهُ مُخْتَارِيهِ الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ ٨أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً! وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟” ٩وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ هَذَا الْمَثَلَ: ١٠«إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. ١١أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ وَلاَ مِثْلَ هَذَا الْعَشَّارِ. ١٢أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. ١٣وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ. ١٤أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ». ١٥فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ الأَطْفَالَ أَيْضاً لِيَلْمِسَهُمْ فَلَمَّا رَآهُمُ التَّلاَمِيذُ انْتَهَرُوهُمْ. ١٦أَمَّا يَسُوعُ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ: «دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ. ١٧اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ»" (لوقا ١٨: ١- ١٧).

من الواضح أن المثل الأول له وجه تدبيري محدد. الله نفسه ليس قاضي ظلم ولكن يوضعان في تضاد مع بعضهما البعض. والأرملة لا تمثل كنيسة الله، لأن كنيسة الله ليست أرملة. الكنيسة عذراء مقترنة بالمسيح؛ وليمة العرس ستقام بعد أن نُخططف لملاقاة الرب في الهواء. المرأة هنا تمثل إسرائيل بلا شك. لقد دُعي إسرائيل امرأة يهوة، ولكن بسبب خطاياه وعدم إيمانه، والزنى الروحي لديه، فُصلت عن زوجها الشرعي، وصارت تحيا في العالم كأرملة. عانى إسرائيل الكثير من الألم خلال القرون؛ وخلال هذه السنوات الطويلة صعد صراخه إلى السماء، طالباً الانتقام من أعدائه القساة. وهنا يبدو أن الله لا مبالٍ تماماً كما قاضي الظلم. يبدو الله وكأنه لا يعير آلام إسرائيل اعتباراً أو خبراته المؤلمة اهتماماً. "كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لاَ يَخَافُ اللهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَاناً. وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي". صراخ الأرملة لم يؤثر به في البداية؛ لم يكن مهتماً بقضيتها. ولكن فيما بعد، ملّ وضجر من مناشدتها المتواصلة طلباً للعون، فقال: "وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَخَافُ اللهَ وَلاَ أَهَابُ إِنْسَاناً فَإِنِّي لأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي أُنْصِفُهَا لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي". لا يخبرنا الرب الآن أن هذا هو موقف الله، بل يوضح أن ذلك كان موقف قاضٍ ظالم لم يكن لديه مخافة الله. كم كان الله سيسمع أكثر أولاده، لأنه مهتم بهم بعمق في كل تجاربهم ومحنهم. لا يمكنه أن يعير أذناً صماء إلى صرخات المبتلين، بل في الوقت الملائم سيحقق مبتغى من انتقاهم. كان هؤلاء النخبة من بني إسرائيل، وليس من الكنيسة. صرخات شعب الله كانت تتصاعد إليه نهاراً وليلاً، وكان سيأتي يوم يستجيب فيه لصرخاتهم. قال يسوع: "أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً! وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟” هذا سؤال لافت. إنه يوحي أنه بدلاً من أن يصير العالم بمجمله مهتدياً، أن الأغلبية من الجنس البشري سيوجدون في حالة معارضة لله عندما يرجع المسيح. هذا يتوافق مع ما أُعلن لنا في أماكن أخرى. لدى مجيء ابن الإنسان ثانية لتأسيس ملكوت بره، سينتقم من أولئك الذين اضطهدوا شعبه.

رغم أن هذا التعليم التدبيري، إلا أنه واضح من الآية الأولى أن الرب يسوع أراد لنا أن نستفيد أكثر من هذا التعليم لأجل بركة أنفسنا، إذ نقرأ: "وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ". هذه رسالة إلى كل واحد منا. في معظم الأحوال عندما نصرخ إلى الله ونحن في ضيقة أو محنة يبدو لنا أنه ليس من استجابة؛ ولكن مع ذلك فإن قلبه طوال الوقت مهتم بعمق بنا، وعلينا ألا نتوقف عن الصلاة؛ ويجب ألا نستسلم إلى اليأس إن لم نحصل على استجابة لصلاتنا مباشرة وفوراً. علينا أن نتذكر أن الله يصنع مشورات بما يختص بمخططه العظيم الذي يسير عبر كل العصور، والذي يتطلب انقضاء بعض الوقت قبل أن تُستجاب صلواتنا فعلياً. نجد مثلاً واضحاً للغاية عن هذا في الفصل العاشر من دانيال. نقرأ أن النبي صلّى بخصوص أمر معين لثلاثة أسابيع كاملة، إحدى وعشرين يوماً، وخلال هذه الأسابيع الثلاثة لم يأكل خبزاً ولا لحماً، ولا شرب خمراً. يمكن للمرء أن يتخيل ما كنا لنشعر به خلال الساعات التي طالت إلى أيام، والأيام التي طالت إلى أسابيع، والأسابيع التي امتدت إلى شهور ثلاثة انقضت. ثم في نهاية فترة الإحدى وعشرين يوماً، يخبرنا النبي أنه ظهر له ملاك أُرسل مباشرة من العلي في عرش السماء. قال له الملاك: "مِنَ الْيَوْمِ الأَوَّلِ الَّذِي فِيهِ جَعَلْتَ قَلْبَكَ لِلْفَهْمِ وَلِإِذْلاَلِ نَفْسِكَ قُدَّامَ إِلَهِكَ سُمِعَ كَلاَمُكَ وَأَنَا أَتَيْتُ لأَجْلِ كَلاَمِكَ. وَرَئِيسُ مَمْلَكَةِ فَارِسَ وَقَفَ مُقَابِلِي وَاحِداً وَعِشْرِينَ يَوْماً". إنه أمر لافت للغاية- ما كنت لأصدقه لو لم يرد في كتابي المقدس- أن الله سمع حقاً صلاة دانيال من اليوم الذي بدأ يتضرع فيه إليه، وأرسل ملاكاً ليخبره أن صلاته قد سُمعت، ولكن الملاك بقي إحدى وعشرين يوماً يشق طريقه بقوة مقاتلاً المعاندين المقاومين في الجو الأعلى محاولاً النزول إلى دانيال ليأتيه بالجواب. "رَئِيسُ مَمْلَكَةِ فَارِسَ" لم يكن هو الحاكم الأرضي الجالس على عرش فارس، بل ملاك شرير كان يسعى للسيطرة على قلب الملك وحرف مخطط الله. في العهد الجديد يُدعى إبليس "رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ". نعلم من الكتاب المقدس أن: "مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ". وهكذا فقد كان هذا الملاك المُرسل من السماء في صراع دام إحدى وعشرين يوماً مع قوى الشر قبل أن يستطيع الوصول إلى دانيال. ثم قال له: "عندما أتركك سيتوجب عليّ أن أذهب وأن أواجه رئيس اليونان". وكان هذا روح شريرة أخرى تسعى للسيطرة على قلب اليونانيين. هذا أمر عجيب، ويعطينا فكرة عما يجري في العالم غير المنظور ويفسر إلى مقياس كبير سبب تأخر الكثير من صلواتنا على ما يبدو. ربما نصلّي من أجل الأم، أو ابنة، أو زوج، أو أحد آخر محبوب لا يزال غير مخلّص ونتعجب من أن الله سمح بانقضاء كل ذلك الوقت قبل أن يستجيب لطلبنا، ولكن هناك صراع يجري في العالم غير المنظور. لا تستسلموا وتتركوا الصلاة. بصلواتكم الملحّة تقتربون أكثر من جانب الله في هذا الصراع، وسيسمع صوت المأثورين لديه في الوقت الملائم، الذين يصرخون إليه نهاراً وليلاً.

المثل الثاني قُصد به أن يعلمنا بالموقف الحقيقي الذي يجب أن نتخذه أمام الله عندما نأتي إليه بالصلاة. "وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ هَذَا الْمَثَلَ". لا نستطيع أن نأتي إلى الله على أساس برنا الذاتي؛ ليس لنا حق بأن ندنو إليه على ذلك النحو. كل برّنا هو كخرق عدة في عينيه. نستطيع أن نأتي إلى الله فقط كخطأة معترفين، مدركين أن كل ما يصنعه لأجلنا هو على أساس النعمة. هذان الرجلان ذهبا إلى الهيكل الذي كان أمر الله بأن يكون بيتاً للصلاة لكل الناس. أحدهما كان فريسياً، رجلاً ذا بر ذاتي، يعطي لنفسه امتيازاً بأهلية استثنائية. ونقرأ: "وَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ". أي أن صلاته لم تصعد إلى الله على الإطلاق؛ لم ترتفع أعلى من مستوى السقف، لأنه كان يتكلم ببساطة عن صلاحه. ومع ذلك فقد كانت صلاة شكر. أليس ملائماً أن نأتي إلى الله شاكرين؟ يعلّمنا الإنجيل مراراً وتكراراً بأن تلك هي الطريقة التي يجب أن ندنو بها من الله. ولكن لاحظوا أن هذا الرجل لم يكن يشكر الله على النعمة التي منحها له؛ لقد كان يشكر الله لما فعله هو نفسه، وهذا هو الموقف الخطأ. عندما أدنو إلى الله يجب أن يكون قلبي ممتلئاً بالشكران لأجل ما صنعه لي، معترفاً بأن كل ما لدي يأتي من نعمته الإلهية. ولكن هذا الرجل قال: "اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ". قد لا تستخدمون نفس اللغة، ولكن هل تدنون إلى الله بنفس ذلك الموقف؟ "اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ". ثم نظر الفريسي فرأى العشار يقف هناك، وقال: "وَلاَ مِثْلَ هَذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ". بالتأكيد كل هذه الأمور حسنة، ولكن ما من إنسان له الحق بأن يجعل صلاحه سبباً يفرض على الله أن يستجيب لصلاته. وفعلياً، كانت معظم صلاته مجرد إدعاء، زاعماً امتلاكه لبرّ ليس موجوداً لديه.

وَقَفَ الْعَشَّارُ مِنْ بَعِيدٍ، وهو يعي عدم استحقاقه، "لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ". يمكن ترجمة العبارة حرفياً: "اللهم تعطّف عليّ أنا الخاطئ". صليب الجلجلة كان الجواب على تلك الصلاة عندما صار الرب يسوع كفّارة أو ذبيحة استرضائية عن خطايانا. هذا الرجل، وإذ يدرك الحاجة إلى الكفّارة، صرخ إلى الله طالباً ما كان يعرف أنه لا يستحقه، ولكن كانت له الثقة بالنعمة بأنه سيناله. وقال يسوع: "إِنَّ هَذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ".

من أي جماعة تجد نفسك؟ هل أنت واقف مع الفريسي، محاولاً أن تبرر نفسك؟ أم أنك مع العشار، تعترف بأنك خاطئ، وأن رجاءك الوحيد هو في الكفارة التي قدمها الله؟

في الآيات التالية لدينا مشهد جميل. رأينا صورة الموقف السليم للنفس التي تسرّ الله. "فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ الأَطْفَالَ أَيْضاً لِيَلْمِسَهُمْ فَلَمَّا رَآهُمُ التَّلاَمِيذُ انْتَهَرُوهُمْ". لقد شعر التلاميذ أن الآباء كانوا يزعجون يسوع وحسب، وما استطاعوا أن يتحملوا أن يضيعوا وقت الرب بالأطفال، ولكن التلاميذ لم يعرفوا قلب يسوع. لقد كان مهتماً بالجميع؛ لذلك وبخ تلاميذه، ودعا الآباء إليه وقال: "دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ". الأطفال، ببساطة، يصدقون ما تخبرهم به عن الرب، هؤلاء هم الأعضاء المثاليين للملكوت، الذين يأخذون بكلمة الرب بكل بساطة. "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ". كانت هذه الحقيقة تزعجني عادة. رغم أني كنت أعرف أني خلصت، مع ذلك فعندما كنت آتي إلى هذه الآية ومثيلتها في متى، اعتدت أن أتساءل إن كنت مؤهلاً على هذا الشكل: أنا لست كطفل؟ لست بريئاً كالطفل الصغير؛ ليس لدي نفس الموقف المتفائل نحو الحياة كما الأطفال الصغار. كيف أستطيع، أنا الخاطئ بالممارسة، أن أعود إلى الطهارة والصلاح النسبيين للأطفال الصغار؟ بعدئذٍ لاحظتُ أن "يَسُوعُ دَعَا إِلَيْهِ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ: اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ....". لقد نادى فجاء الولد إليه. هذا ما يعنيه يسوع عندما يقول: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ".

عندما ننتبه إلى دعوته المباركة ونأتي إليه بإيمان لا ريبة فيه عندها ندخل الملكوت. هذا وحده هو الذي يضعنا على أساس صلاة ويعطينا الحق بأن نعبر له عن كل مشاكلنا وانزعاجاتنا والأشياء المربكة والمحيرة، وهو وعدنا بأن يتولى العناية بالأمور من أجلنا.

الخطاب ٦٢

الرفض الكبير

"١٨وَسَأَلَهُ رَئِيسٌ قَائِلاً: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» ١٩فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. ٢٠أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». ٢١فَقَالَ: «هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». ٢٢فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذَلِكَ قَالَ لَهُ: «يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ. بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». ٢٣فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ حَزِنَ لأَنَّهُ كَانَ غَنِيّاً جِدّاً. ٢٤فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ قَالَ: «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! ٢٥لأَنَّ دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». ٢٦فَقَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» ٢٧فَقَالَ: «غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ». ٢٨فَقَالَ بُطْرُسُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». ٢٩فَقَالَ لَهُمُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ ٣٠إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ»" (لوقا ١٨: ١٨- ٣٠).

ليس الرب يسوع المسيح فقط مخلّص من الدينونة، بل هو أيضاً رب حياتنا. في الأيام التي لم نكن قد اهتدينا فيها بعد عشنا لأنفسنا؛ عشنا بطرق مختلفة؛ اخترنا طرقنا الخاصة، ولكن هدفنا الوحيد الكبير كان أن نرضي أنفسنا.

"عشتُ لنفسي، لنفسي فقط،
لأجل نفسي ولا أحد سواي،
كما لو أن يسوع لم يحيا أبداً،
وكما لو أنه لم يمت أبداً".

وإذاً جاء مخلّصنا المبارك إلى هذا العالم ليقوم بأكثر من أن يفدينا ويحرّرنا من خطايانا ومن دينونة الله. لقد جاء ليجعلنا خاصته بمعنى عملي، لكي نحيا في كل طرقنا هنا على الأرض لمجده. بدلاً من أن يكونوا متمحورين على أنفسهم، على أولاد الله أن يكونوا متمحورين على المسيح، وقادرين على أن يقولوا مع الرسول بولس: "لأن لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ". وهذا يتضح جلياً في المقطع الذي أمامنا.

لدينا أولاً قصة الرئيس الغني الشاب: "وَسَأَلَهُ رَئِيسٌ قَائِلاً: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟” لا أعلم بالضبط ما كان في ذهن هذا الشاب عندما استخدم عبارة "الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ". بالتأكيد لم تكن تعني له ما تعنيه لنا تماماً. قال ربنا يسوع: "وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ". الحياة الأبدية هي تلك التي تعطي القدرة على الدخول والتمتع بالشركة مع الثالوث القدوس: الآب والابن بقوة الروح القدس. من الواضح أن هذا الشاب فكر بالحياة الأبدية كخبرة سارة وإطالة للحياة البشرية هنا على الأرض، ويقين السعادة بعد الموت. لقد تكلم من وجهة نظر ناموس موسى عندما سأل: "مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟” ما الذي يجب أن أفعله لكي أمتلك هذه البركة العظيمة؟ لاحظوا الطريقة التي خاطب بها الرب يسوع: "أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ". لقد أقر بأن الرب معلّم، كما يفعل آلاف اليوم. قال يسوع: "لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ". هل كان يقول: "أنا لست إلهاً، ولذلك يجب ألا تخاطبني بعبارة المعلّم الصالح"؟ لا؛ كان الرب يختبر هذا الرئيس الشاب. ما من أحد صالح جوهرياً فعلياً سوى الله، والله كان متجلياً في المسيح. السؤال هو: هل كان هذا الشاب يميز يسوع هكذا؟ لا لم يفعل ذلك. بعدئذ قال له ربنا يسوع: "أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّك". يقول الناموس بأن الإنسان الذي يطيع هذه الوصايا يحيا. ذكر الرب يسوع فقط الوصايا التي لها علاقة بالحياة الظاهرة الخارجية، علاقتنا مع إخوتنا البشر؛ لم يذكر تلك الوصايا المتعلقة بعلاقتنا مع الله. لم يكن الشاب مهتماً بموقفه أمام الله بل بالشكل الذي كان يظهر عليه أمام إخوته البشر. لقد رفع بصره برضى عن الذات، وقال: "هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي". ربما كان صادقاً في قوله هذا؛ ربما لم ينتهك أياً من هذه الوصايا، ولكن الرب يسوع رأى أنه كان يستند على بره الذاتي. المحافظة على هذه الوصايا كما ينبغي يعني أكثر من مجرد الامتناع عن القيام بأفعال الشر الصريحة؛ إنها تعني أن نحب القريب كما نحب أنفسنا، وهكذا يضع الرب هذا الشاب تحت الاختبار بقوله: "يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ". حياتك قد تبدو نقية ظاهرياً خارجياً؛ قد تكون نظيفة نسبياً؛ وفي عيني إخوتك البشر قد تكون شخصاً نبيلاً للغاية، ولكن إن كنت تحيا لأجل ذاتك أكثر مما لأجل الله، فإنك تحت دينونة الناموس. امتحن الرب يسوع هذا الشاب على ذلك النحو: "يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ. بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي". هل قصد أن يقول أن الطريق إلى الحصول على الحياة الأبدية هو أن يقدم المرء كل ما يمتلكه إلى الفقراء؟ لا أبداً على الإطلاق؛ ولكنه كان يختبر هذا الشاب، الذي كان أنانياً متبجحاً ممتلئاً بالرضا عن الذات. بالتأكيد لا يُقال لنا شيء ضد طبيعته الأخلاقية، ولكن حياته كانت حياة أنانية؛ لقد كانت لديه ممتلكات كثيرة؛ كانت لديه ثروة كبيرة، وكان الناس يعيشون حوله في فقر؛ ومع ذلك فقد استمر على حاله ولم يدرك أن الله قد عهد إليه بهذه الثروة لكي يستخدمها لأجله نفسه (الله). إن عهد الله إليك بثروة، فإنه يجعلك وكيلاً عليها، وعليك أن تستخدمها لمجد الله وبركة البشر. إن قدمنا حياتنا وممتلكاتنا للرب يسوع فلن نكون قلقين أو مهتمين بذواتنا؛ سنهتم بحاجات الآخرين، وهدفنا الوحيد سيكون أن نمجد ذاك الذي فدانا. ولذلك فإن الاختبار هنا هو: هل ستسمح للمسيح بأن يكون رباً على حياتك؟ نقرأ أنه عندما سمع ذلك الرئيس تلك الكلمات حَزِنَ للغاية لأَنَّهُ كَانَ غَنِيّاً جِدّاً وانصرف. لم ينجح ذلك الشاب في الاختبار الذي وضعه الرب أمامه. لقد رفض طريق الخضوع للمسيح. وكثيرون أخذوا نفس المسار.

ليس من الخطأ أن تكون غنياً، ولكنه أمر فظيع إن كانت الثروة تبعدك عن السمع. الله يمنحنا بوفرة كل الأشياء لكي نستمتع بها، ولكنها تصبح كارثة إذا ما صار المرء منشغلاً بالكنز الأرضي لدرجة أنه يضل طريق الحياة الأبدية كما فعل هذا الرجل.

"فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ قَالَ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!" إنه يصعب على المرء الذي لديه الكثير من أغراض الدنيا أن يدرك حاجته وأن يأتي إلى الله كفقير، كخاطئ مبتلياً بالفقر. نعلم أن هذا صحيح عملياً، لأن هناك قلة قليلة جداً من العظماء والمترفين في هذا العالم الذين أتوا إلى المسيح وجعلوا حياتهم بين يديه. قال يسوع: "لأَنَّ دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!" أنتم تعرفون المثل الذي لطالما استُخدم- أفترض أنه صحيح: هناك بوابة صغيرة في أحد الأبواب الضخمة يُسمى "خرم الإبرة"- رأيت هكذا بوابات عندما كنت في فلسطين- على الأرجح أنها كانت نفسها في زمن ربنا يسوع. إذا ما وصل المسافر إلى المدينة متأخراً في الليل وقرع على الباب، سيسمح له الحارس في الداخل بأن يمر عبر خرم الإبرة، ولكن على الجمل الذي يمتطيه أن ينحني لكي يستطيع المرور عبر البوابة. وكان يجب على المسافر أن يترك أغراضه وبضائعه في الخارج حتى الصباح. ولذلك قال يسوع: "دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!" كان على الغني أن يُنزل حمولته؛ كان عليه أن يسلّم كل شيء لسلطة الرب يسوع المسيح.

انذهل التلاميذ عندما سمعوا ذلك. لقد فكروا، كما يفكر كثيرون اليوم، بأن الفقر هو الذي يجعل الناس خارج ملكوت الله. إن استطعنا أن نتخلّص من الفقر، ولو أمكننا أن نزيل الأحياء الفقيرة من مدننا، فعندها يمكننا أن نجعل الناس يهتدون إلى المسيح! ولكن الأمر لا ينجح بتلك الطريقة. نقرأ عن "الفقير في هذا العالم والذي هو غني بالإيمان". غالباً ما تبين أن الغنى يشكل عائقاً حقيقياً لخلاص النفس. سأل التلاميذ: "فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟" وأجاب ربنا قائلاً: "غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ". ليس أمراً مستحيلاً على الغني أن يخلص. بل من الممكن للغني أن يعرف المسيح إن كان مستعداً للتوبة والإيمان به والاعتراف به رباً وسيّداً، والذي سيعني ثورة كاملة في الطريقة التي كان يحيا بها.

الحمد لله على وجود بعض الأغنياء بيننا الذين وضعوا كل حياتهم وثروتهم في خضوع للمسيح. خسرنا مؤخراً رجلاً تقياً من مدينتنا كان الرب قد عهد إليه بمقدرات وثروة. كان قد سخّر كل ما يملكه للرب. أشير إلى رئيس التجار ذاك، السيد هنري ب. كرويل. وهناك آخرون مثله؛ رجال يمكن لله أن يأتمنهم على ثروة كبيرة لأنهم يستخدمونها، ليس لأجل أنفسهم، بل لمجد الله. من جهة أخرى، ولأننا فقراء، علينا ألا نفكر بأن الفقر هو لقب للسماء أو طريق إليها. لا شيء صحيح من هذا القبيل. الفقير والغني يلتقيان معاً؛ كلاهما بحاجة إلى الخلاص بنفس الطريقة: "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ".

وبالحديث عن الرسل، قال بطرس: "هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ". لم يكن هناك الكثير ليتركوه. إن كنتُ أتذكر على نحو صحيح، لقد كان ذلك قارباً وشبكة ممزقة تركهما بطرس وراءه، ولكنها كانت تعني الكثير له- عمل صيد السمك ذاك في كفرناحوم. قال يسوع: "ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ".اجعل المسيح رباً وسيداً على حياتك؛ آمن به مخلّصاً لك؛ أخضع كل ما لديك له، وستتلقى في نهاية الأمر أكثر مما تركت. سيرى الله كيف يدبر ذلك لك بوفرة، لأنه يخبرنا بأن يعطي مئة ضعف لأولئك الذين يسلّمون أنفسهم له؛ ومئة ضعف هي ١٠٠٠٠ بالمئة. معظمنا راضون، في هذه الأيام، إن استطعنا أن نحصل على ثلاثة أو أربعة بالمئة على استثمارات. ومع ذلك فإننا ننكمش من الاستثمار الذي سيقدم لنا نسبة ربح ١٠٠٠٠ بالمئة. إننا نخشى أن نسلّم حياتنا إلى يدي الرب، ولكنه لا يخيب أولئك الذين يسلّمون أنفسهم له، وعندما نصل إلى نهاية المطاف، كم سنسبحه ذاك الذي سمعنا صوته يدعونا لأن نؤمن به ونتكل عليه ونقر بسلطانه على حياتنا. إن لنا حياة أبدية الآن من خلال الإيمان، ولكن عندما نصل المدينة السماوية سندخل إلى الحياة الأبدية بكل مجدها.

لن يكون هناك أحد في ذلك اليوم ينظر إلى الخلف ويقول: "أود لو كنت أكثر تمحوراً على ذاتي؛ ليتني لم أكن متكرساً إلى كل ذلك الحد؛ ليتني لم أذعن كثيراً إلى يسوع المسيح". لن يكون هناك من يتحدث على هذا النحو في ذلك اليوم الآتي؛ ولكن سيكون هناك كثيرون منا يقولون: "أود لو كنت أكثر غيرية؛ ليتني كنت مكرساً أكثر؛ ليتني أسلمت ذاتي أكثر للرب يسوع المسيح". ألا فليمنحنا الله جميعاً أن نسلّم له أنفسنا وأن نعترف به في كل طرقنا، لكيما نسلك كما يشاء ونحن نمضي عبر هذا العالم.

الخطاب ٦٣

استجابة يسوع لطلب الإيمان

"٣١وَأَخَذَ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ ٣٢لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى الأُمَمِ وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ ٣٣وَيَجْلِدُونَهُ وَيَقْتُلُونَهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». ٣٤وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً وَكَانَ هَذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ. ٣٥وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِساً علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. ٣٦فَلَمَّا سَمِعَ الْجَمْعَ مُجْتَازاً سَأَلَ: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟» ٣٧فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. ٣٨فَصَرَخَ قَائِلاً: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!». ٣٩فَانْتَهَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ لِيَسْكُتَ أَمَّا هُوَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: «يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي». ٤٠فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا اقْتَرَبَ سَأَلَهُ قَائِلاً: ٤١«مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ أَنْ أُبْصِرَ». ٤٢فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَبْصِرْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». ٤٣وَفِي الْحَالِ أَبْصَرَ وَتَبِعَهُ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ. وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا اللهَ" (لوقا ١٨: ٣١- ٤٣).

ينقسم هذا الجزء إلى قسمين: الآيات ٣١ إلى ٣٤ تشكل قسماً، والآيات ٣٥ إلى ٤٣ تشكل قسماً آخر. في القسم الأول نقرأ أن يسوع والتلاميذ توجهوا نحوا أورشليم. وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي سيذهبون بها إلى هناك. كان ربنا قد زار أورشليم في مناسبات أخرى- رغم أنه بعد مغادرته الناصرة جعل وطنه في كفرناحوم الجليل- ولكنه الآن صاعد إلى أورشليم ليحقق الهدف الذي من أجله جاء من مجد الآب ونزل إلى هذا العالم البائس: لقد كان ذاهباً إلى أورشليم ليسلم حياته هناك ذبيحة عن الخطيئة. لقد كان يدرك بشكل كامل ما سيجري. غالباً ما يتكلم الناس وكأن ربنا قد أُخذ على حين غرة، وكأنه غامر كثيراً بذهابه إلى أورشليم حيث كان هناك كثيرون مناوئون له، وأنه كان ليحيا حياة أطول ويحقق المزيد لو كان أكثر احتراساً وحرصاً ولو بقي في الجليل حيث كان كثيرون يتعلمون كيف يعرفونه ويحبونه، إلا أن كل هذا هو مناقض لكلمة الله. طريقة تفكيره هذه تظهر بشكل واضح كيف أن الناس يسيئون فهم سر شخص المسيح. لقد نزل من السماء ليقدم حياته كفارة عن كثيرين، ولكن ما كان ليمكن أن يموت قبل أن يأتي الوقت المعين من قِبل الآب عندما يحين أوان تقديم تلك الذبيحة العظيمة. ما من إنسان كان ليستطيع أن يأخذ حياة يسوع منه. ولكن عندما جاءت الساعة المنتظرة منذ الأزل، والتي كانت ستنظر إليها كل المستقبل الأبدي إلى الوراء- عندما جاءت تلك الساعة، عندها أسلم هو حياته. وإذاً بمعرفة كاملة بما كان ينتظره، قال لتلاميذه: "هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ". لاحظوا أن كل ما كُتِبَ بالأنبياء من قِبَلِ أناسٍ مُلهَمين عن ابن الإنسان سيتحقق. كل الكتابات المقدسة "موحى بها من الله". ما من كلمة فيها تعوزها القوة. وهكذا أخبر ربنا تلاميذه أن كل ما كتبه الأنبياء كان على وشك أن يتحقق: أي كل ما يتعلق بمجيئه الأول. ابن الإنسان كان صاعداً إلى أورشليم لكي يموت عن خطيئة العالم.

كل نبوءة تتعلق بمجيئه الأول تحققت حرفياً بينما كان هنا على الأرض، أو عندما كان معلقاً على الصليب. بسبب ذلك يمكننا أن نكون متأكدين بأن كل نص كتابي يتعلق بالمجيء الثاني- ذلك المجيء المجيد الذي يشعر كثيرون بأنه سيحدث قريباً- سيتحقق تماماً كما كُتب. قال باتريك هنري إلى تجمع فيرجينيا: "ما من طريق لدي لمعرفة المستقبل سوى من خلال الماضي". وهكذا نحن أيضاً ما من طريق لدينا لمعرفة المستقبل سوى من خلال الماضي. استناداً إلى الماضي نعرف أن كل ما له علاقة بالمجيء الأول قد تحقق حرفياً؛ ولذلك فإن كل ما تم التنبؤ به بخصوص المجيء الثاني سيتحقق على نفس المنوال. يحاول كثيرون أن يروحنوا النبوءات ويحاولون أن يطبقوا الوعود على كنيسة الله التي كانت تشير أساساً إلى إسرائيل. كل الوعود والنبوءات ستتحقق كما كتب، وهكذا كان الحال خلال القرون الماضية.

أخبر الرب يسوع تلاميذه بأنه سيُسلّم إلى أيدي الأمم، وكان كذلك؛ وأنه سيُهزأ به، وكان كذلك؛ وأنه سيُعامل ببغضاء، وكان كذلك؛ وأنه سيُتفل عليه، ونعم، كان كذلك. ابن الله القدوس، بصقوا على وجهه الحبيب، وأساؤوا معاملته بكل الأشكال التي أوحى لهم بها التأثير الشيطاني؛ ومع ذلك فقد قدم حياته فدية عن خطاياهم. لقد رأى كل ذلك وكأنه قد تحقق لتوه، ولكنه مضى بثبات وإصرار لينجز عمل الفداء. لقد نظر إلى ما وراء الصليب وأخبر تلاميذه أنه في اليوم الثالث سيقوم. يفترض المرء أن أولئك الذين كانوا يستمعون إليه وهو يقول هذه الكلمات سيفهمون تماماً عما كان يتحدث؛ ولكن التلاميذ كانوا يتوقعونه أن ينزل إلى أورشليم ويعلن نفسه الملك الموعود، ويطيح ثوراً بسلطة رومانية، ويستعيد إسرائيل إلى مكانه الأول والبارز بين شعوب الأرض. لقد كانت هذه الأفكار تتملكهم جداً حتى أنهم عجزوا عن فهم حتى أوضح الكلمات التي تشير إلى الرفض الذي سيتلقاه، وصلبه، وقيامته الآتية. نقرأ أنهم "لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً وَكَانَ هَذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ". إنه لأمر ذو مغزى أنه بعد أن تحققت هذه النبوءات المتعلقة برفضه وموته، أن خصومه تذكروا ما كان تلاميذه قد نسيوه، إذ نقرأ أنهم جاؤوا إلى بيلاطس وقالوا: "قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ، فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِئَلَّا يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ". وقال بيلاطس: "عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ". وهكذا فإنهم ذهبوا وصنعوا هذا بشكل مضمون؛ ولكنهم لم يستطيعوا أن يعرقلوا هدف الله ومقاصده. عندما جاء فجر اليوم الثالث نهض يسوع ظافراً من القبر. ولكن تلاميذه لم يفهموا؛ فقد كانت أذهانهم عمياء. لقد كانوا منشغلين بفكرة تأسيسه الفوري لملكوته وباستعادة إسرائيل، حتى عجزوا عن إدراك المعنى الحقيقي لكلماته.

في القسم الثاني لدينا قصة برتيماوس الأعمى. وفيها نرى الطريقة الرائعة التي يتجاوب فيها الله مع الإيمان، الذي بدونه "لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ (الله)، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ" (عب ١١: ٦). لدينا هنا صورة جميلة، ودقيقة تاريخياً، ولكنها صورة جميلة عن مكافأة الإيمان. في طريقه إلى أورشليم، ماراً عبر بيرية، على الجانب الشرقي من نهر الأردن، شقّ ربنا طريقه عبر مخاضة النهر، إلى أرض اليهودية. وإذ كان يقترب من مدينة أريحا (ليست أريحا التي كانت في أيام يشوع؛ إذ أن تلك دُمرت، بل أريحا أخرى نهضت قرب موقع تلك المدينة القديمة)، نعلم أنه كان هناك "أَعْمَى جَالِساً علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي". يخبرنا إنجيل متى أنه كان هناك أعميان، وأن يسوع شفى كليهما. أولئك الذين يروق لهم أن يجدوا أخطاء في الكتاب المقدس ويحاولون أن يكذبوا حقيقة الوحي فيه، يشيرون إلى هاتين الروايتين المختلفتين ويقولون: "هل يمكن أن تكون كلتا القصتين موحى بها؟ يقول كاتب أن هناك أعميين، ويقول الآخر أن هناك أعمى واحد فقط". ولكن لاحظوا أن لوقا لا يقول أنه كان هناك أعمى واحد؛ لا يقول أنه لم يكن هناك أحد آخر. مضى متى أبعد من لوقا وقال أنه كان هناك اثنان، وهذا صحيح. ولكن لوقا يركز انتباهنا على الأعمى الذي كان يتمتع بإيمان أكبر. ربما كان ذلك الآخر لديه درجة من الإيمان، ولكن برتيماوس كان بارزاً. وليس من تناقض هنا؛ الأمر ببساطة هو أن متى يقدم معلومات إضافية شاء الروح القدس أن يحجبها عن لوقا عندما كتب روايته تلك. كل حادثة في الأناجيل الأربعة قد يبدو فيها أحياناً تضارب أو تناقض يمكن تفسيرها بسهولة لو عرفنا فقط المزيد من الحقائق. كلمة الله كاملة؛ فهمنا هو الناقص. يخبرنا الإنجيل أنه "لَمَّا اقْتَرَبَ (يسوع) مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِساً علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. فَلَمَّا سَمِعَ الْجَمْعَ مُجْتَازاً سَأَلَ: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟»". يا لها من صورة تدل على العجز والمحنة. أفترض أن هذا الرجل كان فاقداً للبصر لسنين طويلة، ولم يكن لديه أحد يُعنى به، ولذلك فقد كان يكسب معيشته بشكل غير مستقر أو ثابت بالتسول، جالساً يوماً بعد آخر على قارعة الطريق المؤدي إلى أريحا، لكي يتلقى هبات الجموع المارة. من زار فلسطين يجد أنه يستطيع بسهولة أن يتصور ذلك المشهد. سيرى المرء نفس الأمر اليوم: هناك أناس مرضى، منهم العميان، والمشوهين، يجلسون على طول الطريق، ويصرخون "بقشيش! بقشيش!" يبدو لي أننا سمعنا تلك الكلمة أكثر من أي كلمة أخرى طوال فترة مكوثنا في فلسطين. إنها تعني "عطية! صدقة!" أحياناً تجد حوالي ثلاثين أو أربعين يصرخون "بقشيش". يتوجع قلب المرء عندما ينظر إلى هؤلاء ويدك كم هم بؤساء وتعساء. وإذاً كان هناك هذا الرجل الأعمى، برتيماوس. "لَمَّا سَمِعَ الْجَمْعَ مُجْتَازاً سَأَلَ: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟» فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ". يا لها من رسالة! "يَسُوع النَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ". يسوع، صديق الخطأة؛ ذاك الذي يتمتع بسلطة في صوته؛ ذاك الذي شفى البرص، والذي فتح، في مناسبات عديدة أخرى، أعين العميان. كان برتيماوس قد سمع بذلك الاسم. قال في قلبه: "إنه هو الذي يستطيع أن يفعل شيئاً لي!" شعر برتيماوس بحاجته. المشكلة لدى الكثيرين اليوم هي أنهم لا يشعرون بحاجتهم؛ إنهم قانعون وراضون عن ذاتهم كما هي. ليس لديهم إدراك لحالتهم الحقيقية أمام الله. شعر برتيماوس بحاجته: لقد عانى لسنين. لقد كان جادّاً وهو يصرخ قائلاً: "«يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!»". لقد عبر عن نفسه بذكاء وبراعة. لقد أدرك حقيقة أن يسوع كان حقاً مسيا إسرائيل الموعود. وهذا ما يدل عليه استخدامه لهذه العبارة، "ابْنَ دَاوُدَ". لقرون عديدة كان الشعب ينتظر مجيء ابن داود الموعود، ذاك الذي كان سيأتيهم ببركة أبدية، وكان برتيماوس قد سمع ما فيه الكفاية عن يسوع لكي يقتنع في قرارة نفسه بان هذا هو الموعود. هذا إيمان حقيقي يستند على كلمة الله. "انْتَهَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ لِيَسْكُتَ أَمَّا هُوَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: «يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي»". كلما حاولوا إسكاته أكثر كلما رفع صوته عالياً أكثر قائلاً: "«يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي»". هناك بعض الناس الذين يعتقدون أنه أمر فظيع أن يصير القوم منفعلين دينياً قليلاً. إنهم لا يحبون العواطف في الدين، ولكنهم يُثارون بأي شيء آخر. يذهبون إلى مباراة كروية، ويصرخون بصوت أجش وهم يشاهدون أحدهم يركض خلف تلك الكرة الصغيرة وكأن هذا أورع شيء في العالم؛ ولكن عندما يذهبون إلى اجتماع للإنجيل يوجدون أناساً تواقين وقلقين في أنفسهم، يقولون: "هناك الكثير من الإثارة في ذلك". إن كان إنسان مندفع إلى المسيح ويشعر بالإثارة في نفسه، فإن هذا أمر يستحق الحماس. كثيرون يشبهون الكسلان في سفر الأمثال (٦: ١٠)، الذي قال: "قَلِيلُ نَوْمٍ بَعْدُ قَلِيلُ نُعَاسٍ وَطَيُّ الْيَدَيْنِ قَلِيلاً لِلرُّقُودِ". قَلِيلُ نَوْمٍ بَعْدُ وكثيرون سيستيقظون في الجحيم ولن يناموا بعدها. آن الأوان لأن نستيقظ ونتحمس، كما فعل برتيماوس هذا. إن لكم نفس يجب أن تخلّص؛ لكم نفس ستهلك إن لم تخلص، ويجب أن تكونوا جادين في مسألة خلاصكم.

ما كان برتيماوس ليرضى أن يبقى على قارعة الطريق؛ شعر بوجوب أن يصل إلى يسوع، ولذلك استمر في الصراخ. وما من أحد أبداً صرخ إلى يسوع عبثاً: "كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ" (رو ١٠: ١٣). ارفعوا قلوبكم إليه واصرخوا: "يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!" وسوف يسمع ويستجيب. "وَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا اقْتَرَبَ سَأَلَهُ قَائِلاً: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟»". هذا سؤال يُطرح اليوم: هل تريد شيئاً من يسوع؟ كن محدداً في ذلك. إن كنت غير مخلّص، ارفع بصرك إليه وهو يسألك هذا السؤال وقلْ: "يا رب، أود أن تخلّص نفسي، وأن تمنحني حياة أبدية، واليقين بأن لي سلاماً مع الله". إنه ينتظر أن يمنحك مطلبك. إن كنت في مشكلة أو محنة، فإنه على استعداد لأن يعطيك سلاماً وأن يسمع ابتهالك وتضرعك. ولكن تأكد من أن تطلب منه بإيمانٍ "غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لأَنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ" (يع ١: ٥). كان لدى برتيماوس إيمان حقيقي. لقد كانت لديه حاجة وكان يريد أن يسد احتياجه ذاك. "فقَالَ: «يَا سَيِّدُ أَنْ أُبْصِرَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَبْصِرْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ»". كانت هذه استجابة الله لطلب الإيمان: "إيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ". لقد ميز الرب الإيمان الذي كان في قلب هذا الرجل. ولذلك فإن برتيماوس لم يُشفَ فقط، بل خلص أيضاً. سيصنع المسيح نفس الأمر لك إن أتيت إليه كما فعل برتيماوس، بإيمان بسيط وتقدمت إليه بطلب.

لقد تلقى الجواب ونال مطلبه. ونقرأ: "فِي الْحَالِ أَبْصَرَ وَتَبِعَهُ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ. وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا سَبَّحُوا اللهَ". عندما نخلص، عندما نتلقى التبصر الروحي أنفسنا، عندما نتحرر، فإننا نكون مهتمين بالمسيح؛ نريد أن نتبعه وأن نكون في حضرته؛ نريد أن نلازمه وأن نكون معه؛ إننا نتمتع بالشركة معه، ويخفق القلب بالعبادة والتسبيح والشكران. وهكذا نقرأ أن برتيماوس مجّد الله. لم يكن مثل كثيرين ممن تلقوا عطايا الله الصالحة لم يفكروا في رفع قلوبهم إليه بكلمة إقرار واعتراف وشكر. تحرر هذا الرجل كان شهادة للجموع عندما رأوه يسبح الله، وهكذا يشهد للرب يسوع. أنتم ذوي الأعين المفتوحة، أنتم الذين تستطيعون أن تقولوا: "أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ"، هل تسعون للشهادة ليسوع، لكي ينجذب كثيرون إلى المسيح ويصلون إلى الإيمان به وتسبيحه؟

Pages