الرِّسَـالة ٥١
اهْـرُبْ لِحيَـاتِكَ!
تكوين ١٩:١٥-١٧
Flee for you life!
أحبّائِى.. رسَالة اليّوْمَ مَوْضُوعُهَا: اهرُبْ لِحيَاتِكَ!
ومِنْ سِفر التكوين الأصَحَاح التاسِع عَشَرَ نقرَأ مِنّ العَدَدِ الخَامِس عَشَرَ إلى السَابع عَشَرَ:
ولمّا طلعَ الفجْرُ كانَ المَلاكان يُعَجّلان لوطاً قائلين: قمْ خذ امْرَأتكَ وابنتيكَ المَوْجُودَتين لِئلا تهلِكَ بإثم المَدينةِ.. ولمّا توانى أمْسَكَ الرَجُلان بيَدِهِ وبيَدِ امْرأتِهِ وبيَدِ ابنتيْهِ لِشفقةِ الرّبِّ عليْهِ وأخرَجَاهُ ووَضَعَاهُ خارجَ المَدينةِ.. وكانَ لمّا أخرَجَاهُمْ إلى خَارج أنّهُ قالَ: اهْرُبْ لِحيَاتِكَ!.١
كانتْ سَدُومُ مَدينة أحْلامِهِ.. رآها يومَ اختارَهَا لنفسِهِ "كجَنّةِ الرّبّ كأرْض مِصْرَ".. ترَكَ عَمّهُ إبراهيم خليلَ الله بَعْدَ مُخاصَمَةٍ بينَ رُعاةِ مَواشيهِ وَرُعاةِ مَواشى عَمّهِ.. لقد تركَ عمّه بَعْدَ عِشْرَةٍ طويلةٍ واختارَ لوط لنفسِهِ تِلكَ المَدِينة الجَميلة الصَاخبَة التى جَمَعَتْ كلّ مَا تصْبو اليْه النفسُ المُتعَطشة إلى مِتع العَالم مِنْ لهْو وطرَبٍ ومُسَليات.. إذ رآها جَنّة فاختارَها لنفسِهِ وعاشَ لوط حَياتهُ بسَدوم بمَا يَتناسَبُ مَعَ بيئةٍ جَديدَةٍ تختلفُ تمَاماً عَمّا عَاشهُ مَعَ عَمّهِ إبراهيم.. حتى فوجىءَ بالخَبَر الصَاعِق أنّ الرّبّ غَاضِبٌ على شعْبِ تِلكَ المَدينةِ التى اختارَهَا لنفسِهِ لأنّ "خطيّتهُمْ كانَتْ عَظيمَة جداً".. ولكنْ مِنْ حَنان الرّبّ وشفقتِهِ على لوط أرْسَلَ إليْهِ مَلاكيْن يَقولان: "اصْهَارَكَ وبَنيكَ وبَناتِكَ وكلّ مَنْ لكَ فى المَدينَة أخْرجْ مِنَ المكان.. لأننا مُهلِكان هَذا المَكان.. اهْرُبْ لِحيَاتِكَ!".٢
حين وَجّهَ الرّبّ الدَعْوَةَ لإبراهيم أنْ يَترُكَ حَارَان رأى إبراهيم أنْ يأخذ ابنَ أخيهِ لوطاً مَعَهُ.. كانَ لوط سَعِيداً بدعوةِ إبراهيم لهُ للسَيْر مَعَهُ واصطحابهِ بَعْدَ تركهِ لحَارَان ومِنْ عَمّهِ تعَلمَ لوط حَياةَ الصَلاةِ والعِبادَةِ وتقديمَ الذبائح.. وكنّا نَتمنّى لوْ اسْتمَرّ لوط وزَوْجتهُ وأوْلادُهُ فى صُحْبَةِ خليل اللهِ ولكنّه اعتزلَ عَنْهُ واختارَ العَيشَ فِى سَدوم!. رُبّمَا ظنّ لوط أنّهُ يَسْتطيعُ مُقاوَمَة الشرّ والفسَاد هُناك ويَحْيَا مَعَ أسْرتِهِ للرّبّ كمَا عاشَ سَابقاً مَعَ عَمِّهِ إبرَاهيمَ ولكنْ هيهَات!.. "فأىُّ شركةٍ للنور مَعَ الظلمَةِ وأىُّ اتفاق للمؤمِن مَعَ غيْر المُؤمِن؟!".٣
قالَ الرّبُّ لإبرام: "اذهبْ مِنْ أرْضِكَ ومِنْ عَشيرَتِكَ ومِنْ بَيْتِ أبيكَ إلى الأرْض التى أريكَ فأجْعَلكَ أمّة عَظيمَة وأبَارككَ وأعَظمُ اسْمَكَ".. لأنّهُ لا عبادَة حَقيقية ولا بَركة نستطيعُ الحُصُولَ عليها بلا انعزال عَنْ الشرّ والأشرار بلْ عذابٌ مُسْتمِرٌ للنفس والضَمير.. قالَ بطرس الرسُول فى رسَالتِهِ الثانية بالأصْحَاح الثانِى عنْ دَينونةِ الله لسَدوم وعَمورَة: "وإذ رَمّدَ مَدينتىْ سَدُوم وعَمُورة حَكَمَ عليْهما بالانقلاب واضِعاً عِبرَة للعتيدين أنْ يفجُرُوا وأنقذ لوطاً البارّ مَغلوباً مِنْ سيرَة الأرْدِيَاء فى الدَعَارة.. إذ كانَ البارُ بالنَظر والسَمْع وهُوَ سَاكنٌ بَيْنهُمْ يُعَذبُ نفسَهُ البارّة بالأفعَال الأثيمة.. يَعْلمُ الرّبّ أنْ يُنقذ الأتقياءَ مِنَ التجْربَة ويَحفظ الأثمَة إلى يَوْم الدين مُعاقبين".٤
لا يكفينا أنّنا لا نمَارسُ الخطيّة أو أنّنا لا نعضّدُ فاعليها.. بل يَلزَمُنا أنْ نبتعدَ عَنها ونهرُبَ مِنْ مَكانَها.. كانَ خيراً للوط لو هَرَبَ مِنْ سَدُوم منذُ أمَدٍ بَعيدٍ.. فلو كانَ قد فعَلَ ذلِكَ لوَفرَ لنفسِهِ كلّ مَا خَسِرَ.. وهذا دَرْسٌ لنتعلمَهُ: أنْ لا نختار لأنفسِنا كما اختار لوط لنفسِهِ سَدُوم وأنْ نحْرصَ على صُحبَة القدّيسين ونَحْذر رفقة الأشرار.. وإنْ أخطأنا وأسَأنا الاختيار فلا يَجُوز أنْ نتمادَى فى الخطأ.. كان عَسيراً على لوط أنْ يَترُكَ أوْلادَه ومُقتنياتِهِ للهَلاك وكانَ لا بُدّ لهُ مِنْ قبول الأمْر الواقع وينقِذ مَا بَقِىَ ولمّا طلعَ الفجْرُ كانَ المَلاكان يُعَجّلان لوطاً قائلين: "قمْ خذ امْرَأتكَ وابنتيكَ المَوْجُودَتين لِئلا تهلِكَ بإثم المَدينةِ.. ولمّا توانى أمْسَكَ الرَجُلان بيَدِهِ وبيَدِ امْرأتِهِ وبيَدِ ابنتيْهِ لِشفقةِ الرّبّ عليْهِ وأخرَجَاهُ ووَضَعَاهُ خارجَ المَدينةِ وكانَ لمّا أخرَجَاهُمْ إلى خَارج أنّهُ قالَ: اهْرُبْ لِحيَاتِكَ".٥
لقد أعْطى الرّبّ للوط فرصة ذهَبيّة كى يُنقذ باقى أفراد أسْرَتِهِ.. ففى اليَوم السَابق لخُروجِهِ.. كلمَ لوط أصْهَارَه الآخذين بناتِهِ كمَا أوْصَاهُ المَلاكان ليَهربوا لحَياتِهمْ مَعَهُ.. ولكنْ للأسَفِ "كانَ كمَازح فى أعْيُن أصْهارهِ!". فلمْ يُصَدقوه!.. لقد عَجَزَ لوط أنْ يُكوّنَ أسْرَة سَليمَة.. أمّا إبراهيم فكانتْ لهُ الأسْرَة المِثاليّة النَاجحَة.. لقد كان اسْحق ابنه مُطيعَاً لهُ ولمْ يَعترضْ على تقديم أبيهِ لهُ كذبيحَة حَسَب أمْر الرّبّ لإبراهيم .
كان إبراهيم حَريصاً كلّ الحِرْص أنْ يكونَ اختيارُ زوجَة لابنِهِ اسْحق بتأكيدٍ واضِح مِنَ الرّبّ.. فأوصى خادِمَه أليعَازر الدِمِشقىّ كبير بَيْتِهِ بذلك.. وجَدِيرٌ بالذِكر أنّ أليعَازر الدِمِشقىّ خادم إبراهيم تأثَرَ بتقوى إبراهيم وحياتِه الصَالحَة.. فلقد سجّل الكتابُ عَنْهُ هذهِ الكَلِمَات: "فخَرّ الرَجُل وَسَجَدَ للرّبّ وقالَ: مُبَارَكٌ الرّبّ إلهُ سَيّدِى إبراهيم الذى لمْ يَمْنَعْ وَلطفَهُ وحَقهُ عَنْ سَيّدِى إذ كنْتُ أنا فى الطريق هَدَانى الرّبّ إلى بَيْتِ إخْوَةِ سَيّدِى".٦
إنّ مَا سّمَحَ بهِ لوط لأولادِهِ بمُخالطةِ الأشرار جَعلهُمْ يَتمَسكون بالبقاء فى سَدوم ولا يَثِقونَ فى كلامِهِ.. فهَلكوا عدا البنتان اللتانِ كانَتا موجودَتيْن مَعَهُ بالبَيْتِ.. زدْ على ذلك أنّ تيّارَ الخطيّةِ فى سَدُوم جَرَفَ أسْرَة لوط فانخَفَضَ المُستوى الأخلاقى واختلتْ مَقاييسُ الفضيلة عِندَ جَمِيع أفرادِ أسْرَة لوط!.. واختلط على لوط الأمْرُ بين مَا يُسْمَحُ بهِ ومَا لا يَجُوزُ السَمَاحُ بهِ فتفككتْ الرَوابط الأسَريّة وهَبَطتْ المَعَايير الأخلاقيّة.. قال بولس الرسول برسالته الأولى إلى مؤمنى كورنثوس: "كلّ الأشياء تحِلّ لى لكنْ ليْسَتْ كلّ الأشياء توافقُ أو تبْنِى".٧
مَا أعْظمَ الشِعَار الذى رَفعَهُ يشوعُ بن نون حينَ جَمَعَ أسْبَاط إسرائيل ودَعَا شيوخهُمْ ورؤسَاءَهُمْ وقضَاتهُمْ وعُرَفاءَهُمْ وَحَدّدَ لهُمْ الاتجَاهَ الصَالِحَ لِيُتبَعَ والاتجَاهَ الآخرَ البَاطِلَ لِيُجْتنَبَ وأعْطاهُمْ حُرّية الاختيار.. وأوْضَحَ لهُمْ قرَارَهُ فيمَا يَختصّ باختيارهِ هُوَ وأسْرتِهِ فقدْ قالَ لهُمْ: "فالآن اخشَوُا الرّبّ واعْبدُوه بكمَالٍ وانْزعُوا الآلِهَة الذينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤكمْ فى عَبْر النَهْر وفى مِصْرَ واعْبُدُوا الرّبّ. وَإنْ سَاءَ فى أعْينِكمْ أنْ تعْبُدُوا الرّبّ. فاختارُوا لأنْفسِكمْ اليَوْمَ مَنْ تَعْبُدُونَ. وأمّا أنا وبيتى فنعبدُ الرّبّ.. فأجابَ الشعبُ وقالوا: حَاشَا لنا أنْ نَترُكَ الرّبّ لِنَعْبُدَ آلِهَة أخْرَى. فنَحْنُ أيْضَاً نَعبدُ الرّبّ لأنّهُ هُوَ إلهُنَا".. إنّ كيَانَ الأسْرَة يزدادُ قوّة طالمَا كانَ للرّبّ السيَادَة مِنَ البدايَةِ إلى النهايَةِ.٨
ليسَ العَيبُ إذا أخطأنا فمَنْ ذا الذى لا يُخْطِئ؟!. ولكنّ العَيْبَ كلّ العَيْبِ إنْ تمَادَيْنا فى الخطأ وبقينا حَيثُ الدَمَار والهَلاك لنَا ولأسَرنَا.. لِنَهْرُبْ لِحيَاتِنا ولنسْمَعْ قوْلَ الكِتاب: "فالله الآن يأمُرُ جَمِيعَ الناس فى كلّ مَكان أنْ يَتوبُوا مُتَغَاضياً عَنْ أزمِنَةِ الجَهل لأنّهُ أقامَ يَوْماً هُوَ مُزْمِعٌ أنْ يَدِينَ المَسْكونَة بالعَدل برَجُلٍ قَدْ عَيّنَهُ.. مُقدِماً للجَمِيع إيماناً إذ أقامَهُ مِنَ الأمْواتِ".. أدعوكَ أخى كى نصلى مَعاً مِنْ أجل بيوتِنا المَسيحيّة.٩
أبانا السَمَاوىّ.. نَشكرُكَ مِنْ أجل دَعْوتِكَ كى نهْرُبَ لحَياتِنا.. نَعْترفُ أمَامَ جَلالِكَ أنّهُ قد اختلط عليْنا الأمْرُ بين مَا يُسْمَحُ بهِ ومَا لا يَجُوزُ. فتفككتْ رَوابطنا الأسَريّة وهَبَطتْ مَعَاييرنا الأخلاقيّة. نحنُ نعلم أنه إذا كانت كلّ الأشياء تحِلّ لنا كمؤمنين ولكن ليْسَتْ كلّ الأشيَاء توافِقنا ولا يَجُوزُ أنْ يَتسلط عَليْنا شىْءٌ. نأتى إليك رَبّنَا طالبينَ غفرَانكَ راجين مَعُونتكَ. مُعلنين حَاجتنا إلى قوّة من لدنك لنصحح الخطأ بعَونِكَ. ارشدْنا إلهَنا برُوحِكَ وقدْنا إلى صَلاحِكَ.. نرفعُ صَلاتنا فى اسْم يَسُوعَ البارّ.. واثقين فى وعْدِكَ يا مَنْ قلتَ: مَنْ يُقبلْ إلىّ لا أخرجْهُ خارجاً.
أخى القارئ العزيز.. إنْ أرَدْتَ سَمَاع تلكَ الرسَالة أو غيرها ستجدُ ذلك فى:
١. ١ سفر التكوين ١٩: ١٥ – ١٧ ،استمع إلى الإنجيل
٢. ٢ سفر التكوين ١٣: ١٠
٣. ٣ سفر التكوين ١٢: ٤ – ٥ ، رسالة بولس الرسول الثانية إلى مؤمنى كورنثوس ٦: ١٤ - ١٨
٤. ٤ سفر التكوين ١٢: ١ – ٣ ، رسالة بطرس الرسول الثانية ٢: ٦ – ٩
٥. ١ سفر التكوين ١٩: ١٥ – ١٧
٦. ٢ سفر التكوين ١٩: ١٤ & ٢٤: ٧ & ٢٦ & ٢٧
٧. ٣ سفر التكوين ١٩: ٣٢ – ٣٨ ، رسالة بولس الرسول الأولى إلى مؤمنى كورنثوس ٦: ١٢ & ١٠: ٢٣
٨. ٤ سفر يشوع ٢٤: ١٥
٩. ٥ سفر الأعمال ١٧: ٣٠