August 2015

الفصل الرابع

المعجزة الذاتية

توطئة عامة

نواحي الإِعجاز في التنزيل والتأليف والتدوين

قبل القول بالإِعجاز في النظم والبيان، وقبل المناداة بالإِعجاز في الهدى والإيمان، وفي التشريع وفي ﴿العلم وفي القصص؛ يجب النظر في الإِعجاز في التنزيل أولاً، لأن كيفية التنزيل، ووسائطه، من الدلائل على معجزته.

ويجب النظر أيضاً بالإِعجاز في التأليف، تأليف الآيات في السورة، والسور في المصحف. والظواهر البادية من اسقاط ونسيان، من محو وتبديل، من ناسخ ومنسوخ، دلائل تبين هل الإِعجاز في التأليف معجزة.

ويجب النظر أخيراً بالإِعجاز في الجمع والتدوين، فأدوات حفظ القرآن، وأساليب جمعه، وتعدد وتعاقب اصداراته، كلها دلائل تظهر هل من إِعجاز في الجمع والتدوين يجعله معجزة.

تلك النواحي الثلاث تكون ما نسميه ﴿المعجزة الذاتية الثلاثية. فهل في القرآن من معجزة ذاتية؟ في تنزيله؟ أم في تأليف آياته وسوره؟ أم في جمعه وتدوينه؟

الجزء الأول

الإِعجاز في التنزيل

توطئة

الإِعجاز الأوّل يكون في التنزيل

﴿وإنّه لتنزيل رب العالمين... وإنه لَفِي زُبر الأوّلين (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٦)

﴿قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق (النحل ١٠٢)

﴿ولو نزَّلنا عليك كتاباً في قرطاس، فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إنْ هذا إلاّ سحر مبين (الأنعام ٧)

قبل الإِعجاز في اللفظ والنظم، في الأسلوب والبيان، إن الإِعجاز الأول المطلوب يكون في التنزيل نفسه. فإذا لم يكن من إِعجاز في كيفية التنزيل وطرقه، فالإِعجاز في النظم والبيان، مهما بلغ، لا يرفع التنزيل نفسه الى الإِعجاز المطلق الذي نسميه معجزة.

والموقف الحق في قصة إِعجاز القرآن ومعجزته، ما حكاه ابن حزم في (الفِصَل): ﴿لم يقلْ أحد إن كلام غير الله معجز. لكن لمّا قاله الله تعالى، وجعله كلاماً له، أصاره معجزاً، ومنع من مماثلته. هذه شبهة أولى: إن الإِعجاز ليس في الكلام ذاته ـ وهو المطلوب ـ بل في كونه صادراً عن الله نفسه. 

فالإِعجاز الحق هو في كلام الله المباشَر، لا في كلام الله بالواسطة. والقرآن كلام الله بواسطة جبريل: ﴿قلْ: نزَّله روح القدس من ربك بالحق (النحل ١٠٢). وهذه شبهة ثانية على الإِعجاز في التنزيل.

والإِعجاز الحق ما كان تنزيلاً مبتدئاً، لا تفصيل التنزيل القائم. والقرآن يشهد على نفسه أنه تفصيل التنزيل، ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧): ﴿وإنه كتنزيل رب العالمين... وإنه لَفي زبر الأولين (الشعراء ١٩٢و١٩٦). نلاحظ وحـدة الضمير، ممّـا يجعل ﴿تنزيل رب العالمين في القرآن، من ﴿زبر الأولين. فهو تفصيل التنزيل الموجود قبله. وهذا أكثر من شبهة على إِعجاز تنزيله.

والإِعجاز الحق في التنزيل، ما كان محكماً بلا متشابه فيه، ما لا يعتريه ناسخ ومنسوخ، ما لا يُعرض على جبريل كل سنة لتنقيحه، ما لا ﴿تبديل فيه ولا ﴿محو... وهذا أكثر من شبهة على إِعجاز تنزيله.

الإِعجاز في التنزيل يحمل معه الإيمان المطلق به، فلا يعتري نبيَّه ﴿شك منه. والتنزيل الذي يعقبه ﴿شك في نفس نبيّه، لا يكون معجزاً في ذاته، ولا معجزاً لغيره. فلا يحمل مثل هذا الافتراض: ﴿ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس، فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إنْ هذا إلا سحر مبين (الأنعام ٧) فالنتيجة الحاسمة أن الله لم يُنزل ﴿كتاباً في قرطاس.

إن الإِعجاز الأول يكون في التنزيل نفسه، في كيفيته، وفي طرقه.

بحث أوّل

التنزيل في لفة القرآن

إن تعبير ﴿التنزيل في القرآن متشابه، لا يُبنى عليه عقيدة.

فلفظ ﴿أنزل ومشتقاته يطلقه القرآن على الخالق وعلى المخلوق، على سائر المخلوقات كما على الوحي نفسه. فالله ﴿ينزّل الملائكة، بالروح من أمره، على مَن يشاء من عباده (النحل ٢). والله ﴿أنزل من السماء ماء (٢: ٢٢؛ ١٣: ١٧؛ ١٤: ٣٢؛ ١٦: ٦٥؛ ٢٠: ٥٣؛ ٢٢: ٦٣؛ ٣٥: ٢٧؛ ٣٩: ٢١). والله ﴿أنزل جنوداً لم تروها (التوبة ٢٦) من الملائكة أو من عناصر الطبيعة ويخاطب الناس بقوله: ﴿وأنزلنا عليكم المن (البقرة ٥٧). ويقول: ﴿قد أنزلنا عليكم لباساً يوارى سوءاتكم (الأعراف ٢٦) ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج (الزمر ٦).

ويأتي لفظ التنزيل على المجاز، في شتى المجازات: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله على المؤمنين (التوبة ٢٦، كذلك ٤٠) ﴿بغياً أن يُنزِّل الله من فضله على مَن يشاء من عباده (البقرة ٩٠) ﴿ما لم ينزّل به سلطاناً (٣: ١٥١؛ ٧: ٣٣؛ ٢٢: ٧١) ﴿ما أنزل الله بها من سلطان (١٢: ٤٠، ٥٣: ٢٣).

وهكذا فتعبير التنزيل يطلق على الله، وعلى المخلوق، على الأشخاص وعلى الأشياء؛ يُستعمل حقيقة ومجازاً.

وفي لغة القرآن تنزيل الكتاب مثل تنزيل الحديد والميزان: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس (الحديد ٢٥).

وهكذا فإن تعبير ﴿التنزيل في لغة القرآن متشابه لا يُبنى عليه عقيدة. لذلك فإن تنزيل القرآن، في لغته، لا يوجب حكماً الوحي المباشر من الله؛ ووحيه بالوسائط المخلوقة يُنسب، بحسب لغته، الى الله نفسه، فقد أنزل الله الكتاب والميزان والحديد معاً (الحديد ٢٥).

ففي لغة القرآن نفسه، على تنزيله، شبهة في إِعجازه طريقته.

بحث ثان

التنزيل ومسألة خلق القرآن ١

إن لغة القرآن في تعبير التنزيل المتشابه أباحت لهم القول في خلق القرآن. والقول بخلق القرآن شبهة على إِعجازه وعلى طريقة تنزيله.

تجاه مقالة المسيحيين بأزلية المسيح لأنه ﴿كلمة الله كما يقول الإنجيل والقرآن، قال المسلمون الأوائل بأزلية كلام الله في القرآن. ثم ثارت الشبهات بينهم والخصومات في أزلية القرآن أم في خلقه. وتفرّق القوم الى ثلاث مدارس.

مدرسة السلف الصالح قالت بأزلية حرف القرآن.

فجاءَ المعتزلة وأنكروا أزلية القرآن، وقالوا بخلق القرآن من النقل ومن العقل. استشهدوا بقوله: ﴿ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث، إلاّ استمعوه وهم يلعبون (الأنبياء ٢)؛ ﴿ما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين (الشعراء ٥). وفسروا قوله: ﴿كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير (هود ١)، بأن ما صادفه فعل بعد فعل يكون محدثا. ثم اعملوا عقلهم فقالوا: إن القرآن مركب من حروف وكلمات، والمركب محدث! وفي نظرهم إن المقولة بأزلية القرآن تحمل تناقضاً في ذاتها، فهي القول بقديمين: الله والقرآن! لأنه إما أن يكون القرآن ذات الله أو غير ذاته: فإن كان القرآن، كلامُ الله، ذاتَ الله، فهل يصح أن يكون من ذات الله ما ورد فيه من أعمال مخلوقة، وأحداث بشرية؟ وإن كان القرآن، كلامُ الله، غَيْر ذاته، فالقول بأزليته هو القول بقديمين، وهذا هو الكفر بعينه. ولا يُردُّ عليهم بتمييز الأشاعرة في كلام الله أنه في منزلة بين المنزلتين: فلا هو عين الذات، ولا هو غيرها. لأنه على كل حال من ذات الله، ومحال أن تكون الأعمال المخلوقة، والأحداث البشرية المذكورة في القرآن من ذات الله على أيّ حال.

وجاء الأشاعرة بحل وسط. فقالوا: إن كلام الله على نوعين، الكلام النفسي في ذات الله، والكلام اللفظي في غير ذاته. واطلاق اسم كلام الله على اللفظي يكون إمّا مجازاً وإما باشتراك اللفظ. وميّزوا بين معنى القرآن وحرفه، فقالوا: معنى القرآن هو كلام الله غير المخلوق، وحرف القرآن مخلوق. فالمعنى هو القديم في القرآن؛ أما الحروف والكلمات والورق والحبر وغير ذلك، فكله محدث. وظنوا بذلك أنهم يردّون على مقالات المعتزلة في خلق القرآن.

وذهبت مقالة الأشعرية عقيدة في الإسلام، وأصبحت نظريتهم مقالة أهل السنة والجماعة من بعدهم.

والتمييز بين معنى القرآن القديم، وحرفه المخلوق لا يقطع الشبهات في التنزيل ولا في الإِعجاز.

إن الإِعجاز الذي يتحدّى ويتحدّون به هو في حرف القرآن من لفظ ونظم: فإذا كان حرف القرآن مخلوقاً، زال إِعجاز القرآن على الإطلاق، لأنه ﴿لم يقل أحد إن كلام غير الله معجز كما أعلن ابن حزم. وإذا كان الكلام اللفظي عبارة عن الكلام النفسي في ذات الله، فهناك تناقض: لأن المعاني أرواح، والألفاظ أجساد لها، والروح في جسد، كالمعنى في كلام لا يكون مخلوقاً وغير مخلوق معاً؛ ولا يكون غير مخلوق من حيث هو معنى، وبالوقت ذاته مخلوقاً من حيث هو حرف. فإن كلام الله في ذاته هو من ذاته فهو غير مخلوق؛ وكلام الله المنزل في كلام بشري مخلوق. فالتنزيل، من حيث هو تنزيل، مخلوق وغير معجز في ذاته؛ مثل خلق الكون، فعمل إلهي معجز، لكن المخلوق غير معجز، لأنه محدث. والتنزيل مثل الخلق محدث فهو مخلوق وغير معجز.

وإذا كان القرآن كلام الله في ذاته، فهل يصح أن يتحدّى الله به بشراً؟ ولا صلة، ولا مجانسة بين كلام الخالق وكلام المخلوق، والتحدّي بالكلام إنما يكون من جنس واحد.

لقد حاول الباقلاني الردّ على هذه الشبهات فقال: إنه تحدّي، ليس بإِعجاز كلام الله الأزلي، بل بصورته العربية التي هي عبارة عن الأزلية وحكاية عنها، ودلالات عليها، وأمارات لها.

يُردّ عليه بيسر يفضح المغالطة: هل من فرق بين القرآن الأزلي، كلام الله في ذاته، والقرآن العربي، المنزل عربيّاً؟ فإذا كان هناك من فارق، فالوحي نفسه مشبوه؛ واذا لم يكن ثمة من فارق، فالتحدّي به ممنوع، لأنه لا مجانسة بين كلام الخالق وكلام المخلوق.

يقولون: إن القرآن تنزيل من اللوح المحفوظ، فهو معجز.

ويرد بعضهم: اذا كان قرآن اللوح المحفوظ عين كلام الله الأزلي، فالتحدّي به ممنوع، واذا كان مثل الكلام المنزل بشرياً فالتحدّي مشبوه، إذ ﴿لم يقل أحد إن كلام غير الله معجز.

والمغالطة الكبرى هي بين كلام الله الذاتي، الذي هو بلا صوت ولا حروف ولا كلمات، وكلام الله المنزل الذي هو بأصوات وحروف وكلمات ونظم وأسلوب.

والقول الفصل ان إِعجاز القرآن الذي به يتحدّى، هو في حرفه أي في لفظه ونظمه. وحرف القرآن مخلوق، فليس في إِعجازه من معجزة. وليس القرآن ﴿معجزة لغوية في تنزيله.

بحث ثالث

تنزيل القرآن بالمعنى أم بالحرف

هذه المسألة قريبة من سابقتها، ومتفرعة عنها.

اختلف علماء الكلام في المنزل إلى النبي على ثلاثة أقوال:

(أحدها) إنه اللفظ والمعنى؛ وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به على النبي.

(الثاني) إن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبَّر عنها بلغة العرب. وتمسك قائل هذا بظاهر قوله: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك، لا على لسانك ـ فلفظ القرآن ونظمه، في هذه المقالة، من محمد نفسه.

(الثالث) إن جبريل ألقى اليه المعنى وأنه هو نفسه عبر عنه بهذه الألفاظ بلغة العرب ـ فلفظ القرآن ونظمه، في هذه المقالة، من جبريل نفسه ٢ .

وهكذا فإن قولاً واحداً من ثلاثة يقول بالتنزيل باللفظ والمعنى؛ وإن قولين من ثلاثة يقولان بالتنزيل بالمعنى وحده.

وبما أن الاجماع على إِعجاز القرآن في لفظه ونظمه، فالاختلاف في التنزيل بالمعنى أم باللفظ يجعل الإِعجاز معجزة مشبوهة.

والواقع القرآني الذي يشهد بوجود الناسخ والمنسوخ في القرآن، وبوجود المحكم والمتشابه فيه؛ وبوجود الاختلاف في التعبير عن الشيء الواحد؛ وبوجود الاختلاف في النظم والأسلوب بين القرآن المكي والمدني؛ وبين سور القرآن المكي والمدني؛ فإن القول بالتنزيل بالمعنى أقرب الى حقيقة الواقع القرآني. وعليه يكون التعبير واللفظ والنظم والتأليف من جبريل أو من النبي. وفي هذه الحالة لا يكون القرآن معجزاً للخلق، لأنه ﴿لم يقل أحد إن كلام غير الله معجز.

فالإِعجاز كمعجزة يقتضي التنزيل؛ والتنزيل يقتضي أن يكون كلام الله في القرآن قائماً في ذات الله. فهل لفظ القرآن في ذات الله أم معناه؟ إنه لا يصح أن تكون ألفاظ القرآن في ذات الله لأنها مخلوقة. واذا كان معنى القرآن وحده في ذات الله، سقطت معجزة الإِعجاز لأنها في اللفظ والنظم والبيان والأسلوب.

فسواءٌ كان تنزيل القرآن بالمعنى أم بالحرف، فليس من معجزة خاصة به في تنزيله.

بحث رابع

نزول القرآن على سبعة أحرف

تنزيل القرآن بالمعنى، من دون حرفه، يزيده إشكالاً وإحراجاً، وشبهة نزول القرآن على ﴿سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ، ما لم يختم آية عذاب برحمة، وآية رحمة بعذاب. وحديث الأحرف السبعة المشهور المتواتر شبهة ضخمة على سلامة التنزيل، وعلى صحة حفظ القرآن كما أُنزل، وعلى إِعجازه. واختلفوا على نوع الاختلاف بين هذه الأحرف السبعة: أهو اختلاف في الألفاظ أم اختلاف وتعدّد في المعاني. وأَكثر العلماء على أنه ﴿اختلاف الألفاظ باتفاق المعاني، بحسب تحديد الطبري، إمام المفسرين بالحديث.

أوّلاً: حديث الأحرف السبعة والتنزيل

عقد السيوطي في (الإتقان ١: ٤٧) فصلاً قيماً أكّد فيه صحة الحديث بشهادة واحد وعشرين صحابيّاً، وينقل لنا خبر استفتاء جماعي أجراه الخليفة عثمان بن عفان في المسجد، فشهد جميع الحاضرين بصحته، وشهد هو معهم علناً على الاجماع عليه.

ثم يفسّر الحديث الغريب بأغرب منه. قال: ليس المراد بالأحرف السبعة اقتصار العدد على سبعة، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة. فقد يكون أكثر من سبعة.

وقال: ﴿اختلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً... وأنه من المشكل الذي لا يُدرى معناه، لأن الحرف يصدق، لغةً، على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى الجهة. ويجزم أن أكثر العلماء على رأي ابن جرير الطبري: ﴿إن المراد به سبعة أحرف من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو: أقبل وتعالَ وهلمَّ وعجّلْ وأسرعْ....

وهذه هي مقالة الطبري ٣ التي أجمعوا عليها: ﴿إن اختلاف الأحرف السبعة هو اختلاف الألفاظ باتفاق المعاني (١: ٤٨). ثم يردّ على المقالات المخالفة.

يردّ أولاً على مَن ردَّ حديث الأحرف السبعة المختلفة بحسب الآية: ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (النساء ٨٢)، بقوله: ﴿إنها تقصد اختلاف الأحكام والمعاني، لا اختلاف الألفاظ والتعابير، بدليل اختلاف الصحابة، كلٌّ في قراءَته، وتصويب النبي لهم جميعاً (١: ٤٨).

ثم يردّ على التفاسير الخاطئة للحديث المشهور.

يردّ على من قال: ﴿إنه اختلاف في التأويل أي في المعاني المتعدّدة ـ إن الذي تمارى فيه الصحابة كان اختلافاً في اللفظ، دون ما تدل عليه التلاوة من التحليل والتحريم وما أشبه (١: ٤٩).

ويرد على مَن قال: إنها لغات أي لهجات سبع، في حرف واحد، وكلمة واحدة ـ ﴿بأنها باختلاف الألفاظ، واتفاق المعاني (١: ٥٧).

ويرد على فهم الأحرف السبعة بأنها القراءات السبع الشائعة على المصحف العثماني ـ ﴿إن اختلاف القراءَة في الرفع والجر والنصب، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، كما هي القراءَة اليوم اليس من الأحرف السبعة في شيء. وإن المراء فيها لا يوجب كفراً (١: ٦٥).

ويرد تأويل الأحرف السبعة بمعاني القرآن المتعدّدة من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والجدل والقصص والمثل (١: ٦٢ ـ ٦٦) بأن تمارى الصحابة كان بالإلفاظ المختلفة، وتصويب النبي لها جميعاً.

أخيراً يقص كيف أتلف عثمان بن عفان ستةً من الأحرف، وجمع الأمة على حرف واحد، من السبعة، هو الحرف العثماني الوحيد الباقي الى اليوم، وعليه اختلاف القراءات السبع بعد الجمع.

وتابع الطبري في تفسيره أكثر الأثمة. منهم أبو عبد الله الزنجاني. قال: ﴿المراد بالأحرف السبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة. وهذا ممّا يجعلها سبعة نصوص مختلفة لقرآن واحد. فهل أنزل الله سبعة قرائين؟!

ومن الغرابة أن يستصوب النبي ذاته التلاوة لقرآن واحد، بأحرف سبعة مختلفة يقول أبو جعفر النحاس ٤ : ﴿يُفهم من سلف الأمة، وخيار الأئمة أن معنى (نزل القرآن على سبعة أحرف) من أنه نزل بسبع لغات، وأمر بقراءَته على سبعة ألسن، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني. ومن الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأُبَي بن كعب، وسائر من قدّمنا الرواية عنهم، أنهم تماروا في القرآن، فخالف بعضهم بعضاً في نفس التلاوة، ﴿دون ما في ذلك من المعاني! وأنهم احتكموا الى النبي ﷺ فاستقرأ كل رجل منهم، ثم صوّب جميعهم في قراءَتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم. فقال رسول الله ﷺ للذي ارتاب منهم، عند تصويبهم جميعهم: إن الله أمرني أن اقرأ القرآن على سبعة أحرف.

فهذه الشهادة عن ﴿سلف الأمة وخيار الأئمة تؤكد أن أحرف القرآن السبعة قبل جمعه على حرف واحد، لم تكن في التنزيل نفسه، بل في اختلافهم على قراءة القرآن الواحد.

وهذه القراءات المختلفة، بنصوص مختلفة لقرآن واحد، بتصويب النبي لها جميعاً شهادة قائمة على أن القرآن الواحد أمسى، على عهد النبي نفسه، سبعة قرائين. ولتستير هذه الشبهة الضخمة على صحة التنزيل وسلامته، كان حديث نزول القرآن على سبعة أحرف.

وتعدّد النص الواحد الى سبعة نصوص شبهة ضخمة على صحة التنزيل.

ثانياً: حديث الأحرف السبعة والتاريخ

لذلك يرى اليوم علماء الإسلام الأعلام أن حديث الأحرف السبعة ليس قضية تنزيل، بل قصة تاريخ وواقع بعد التنزيل.

نقل محمد صبيح ٥ عن الدكتور طه حسين: ﴿وقد أحاط في موضوعه بآراء المحدثين والقدماء من المسلمين، كما أحاط بآراء المستشرقين ـ إن القرآن الذي تُلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً... وليست القراءات السبع المتواترة الى يومنا، بالأحرف السبعة التي أُنزل عليها القرآن، وانما هي شيء وهذه الأحرف السبعة شيء آخر... وقد اتفق المسلمون على أن أصحاب النبي تماروا في هذه الأحرف، والنبي بين أظهرهم، فنهاهم عن ذلك وألح في نهيهم فلمّا توفي استمرّ أصحابه يقرأون القرآن على هذه الأحرف السبعة، كلٌ يقرأ على الحرف الذي سمعه من النبي. فاشتد الخلاف والمراء في ذلك، حتى كادت تقع الفتن بين الناس ولا سيّما في جيوش المسلمين. فرُفع الأمر الى عثمان فجزع له وأشفق. فجمع لهم المصحف الإمام، وأذاعه بالأمصار، وأمر بما عداه من المصاحف فمُحي محواً. وعلى هذا مُحيت من الأحرف السبعة ستة أحرف، ولم يبق إلا حرف واحد، هو الذي نقرأه في مصحف عثمان، وهو حرف قريش. وهو الحرف الذي عادت فاختلفت لهجات القراء فيه، فمدَّ بعضهم وقصّر بعضهم، وفخّم فريق ورقّق فريق، ونقلت طائفة وأثبتت طائفة...

﴿ثم أورد الأستاذ طه حسين ما ورد في الجزء الأول من تفسير ابن جرير الطبري لتأييد رأيه. وقال: والحق أن ليست هذه القراءات السبع (الأحرف السبعة) من الوحي في قليل ولا كثير. وليس منكرها كافراً ولا فاسقاً ولا مُغتَمزاً في دينه. وإنما هي قراءات مصدرها اللهجات واختلافها. للناس أن يجادلوا فيها، وأن يُنكروا بعضها ويقبلوا بعضها. وقد جادلوا فيها بالفعل وتماروا وخطّأ بعضهم بعضاً. ولم نعرف أن أحداً من المسلمين كفَّر أحداً لشيء من هذا.

تلك هي قصة الأحرف السبعة قبل التوحيد العثماني: إنها قصة تاريخ وأمر واقع لا قصة تنزيل على أحرف سبعة. فوجود أحرف أي نصوص سبعة لقرآن واحد، على زمن النبي وصحابته من بعده، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، ليس من التنزيل في شيء: فهل يعقل أن يُنزل الله على نبي واحد كتاباً واحداً بسبعة نصوص؟

إن حديث الأحرف السبعة المشهور المتواتر يصوّر لنا الحالة التعسة التي وصل اليها نص القرآن قبل جمعه. أجل ﴿إن القرآن الذي تُلي بلغة واحدة، ولهجة واحدة، لم يكد يتناوله القراء حتى كثرت قراءاته، وتعدّدت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً. فاقتتل عليه الغلمان في المدارس، والجنود في الحروب.

إن هذا الحديث يصور أمراً واقعاً مفجعاً: ففي زمن النبي، وبحضرته، يختلفون في نص القرآن الواحد، ويضطّر محمد الى تصويبهم جميعاً. وزاد الخلاف، في زمن الخلفاء الراشدين، حتى كاد نص القرآن يضيع. إن هذا التعدّد في نص القرآن الواحد، على حياة النبي نفسه، ثم من بعده، برهان قاطع للاشتباه اللازم على صحة النص المُنزل. ولو كانت الأحرف السبعة من التنزيل في شيء، لَما تجرّأ عثمان على إبادة ستة منها! ولَما وافقته الأمة على فعلته. ولكنه فعل برضى الأمة وقبول الأئمة، لرفع خطر الاختلاف على سلامة النص القرآني. لكن الواقع التاريخي كان قد تخطاه في الاختلاف الى سبعة نصوص، فما فوق. وكانت براعة فائقة من النبي ان ينسب هذه الفوضى في نص القرآن إلى تدبير إلهي، وتنزيل رباني. هذا إن صح الحديث، كحديث نبوي. ولكن من السذاجة الجاهلة أن يتستّر السلف الصالح بحديث شريف لستر أمر خطير. أجل لقد اختلف نص القرآن الواحد اختلافاً كثيراً، على حياة النبي وعلى حياة صحابته وعلى حياة الخلفاء الراشدين، قبل اختيار عثمان ولجانه المختلفة للحرف العثماني الناجي، الذي نجا بقوة الحديد والنار.

هذا الواقع التاريخي يفرض النتائج التالية:

أولاً: إن نص التنزيل قد فسد على حياة محمد وصحابته قبل جمعه. وفي هذا الواقع شبهة ضخمة قائمة، لا مرد لها، على سلامة النص المنزل من التحريف.

ثانياً: إن معجزة ﴿حفظ القرآن من التحريف أسطورة. فهل كان عثمان، وهل كانت لجانه المختلفة المتتابعة، معصومين حتى يختاروا النص الصحيح من الأحرف السبعة المتداولة؟ وهل كان بوسعهم أن يفعلوا بعد أن صار القرآن الواحد قرائين؟ أمن الممكن، بعد نصف قرن تقريباً، من تلك الفوضى، الرجوع الى النص المنزل، بدون تحريف. هذه معجزة إلهية، وقد مُنعت المعجزات مبدئياً منعاً مطلقاً على النبي (الإسراء ٥٩)، ولا شاهد أن جماعته من بعده كانوا من أهل المعجزة ومن أهل العصمة.

ثالثاً: إن هذا الواقع التاريخي شبهة ضخمة قائمة على صحة التنزيل وعلى صحة الإِعجاز معاً: إن نصّاً منزلاً على صحته شبهة لا يقوم التحدّي به وبإِعجازه.

وهكذا فإن حديث الأحرف السبعة التاريخي ينقض إِعجاز القرآن من أساسه، لأنه مبني على حرفه المنزل، وهذا الحرف قد صار ﴿سبعة أحرف أي سبعة قرائين فما فوق، قبل توحيده العثماني بالحديد والنار، وتدوينه على ثلاثة اصدارات، لأبي بكرٍ ثم لعثمان ثم للحجاج بن يوسف. فحق لهم أن يقولوا: ﴿إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

بحث خامس

ميزات التنزيل القرآني

في القرآن والحديث، للتنزيل القرآني ميزات تقوم عليها شبهات نورد منها ما تيسر، لنرى مدى الإِعجاز في التنزيل.

أولاً: بحسب القرآن

١ ـ الميزة الأولى: النسيان من القرآن.

أول ميزة تواجهنـا في تنزيل القرآن هي النسيان منه بعمـل النبي، أو بعمـل الله: ﴿سنقرئك فلا تنسى، إلاّ ما شاء الله (الأعلى ٦ ـ ٧). إن قضية النسيان أمر واقع للنبي، فقد كان ينسى بعض الوحي؛ وقضية مبدأ إلهي، فقد يشاء الله أن ينسى النبي، كما يدل الاستثناء: ﴿إلاّ ما شاء الله.

نقل البيضاوي: ﴿روى أنه ﷺ أسقط آية في الصلاة، فحسب أُبي أنها نُسخت، فسأله، فقال: نسيتها. فإذا أوحى الله لعبده شيئاً فهل يصح أن ينساه أو يتناساه؟

وفي آية النسخ، تصريح بأن الله قد ينسى نبيه عمداً بعض الوحي: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها، نأتِ بخير منها أو مثلها (البقرة ١٠٦). فهل يصح أن يوحي الله شيئاً ثم يأمر بنسيانه؟

وبعد آية النسيان (الأعلى ٦) يأتي هذا التحذير: ﴿إنه يعلم الجهر وما يخفى (الأعلى ٧). فهل كان النبي يقصد النسيان؟ إن آية التبديل (النحل ١٠١) وآية المحو (الرعد ٣٩) توحيان بأن النسيان من التنزيل قد يكون مقصوداً من الله، ومن النبي أيضاً.

فهل ميزة النسيان المقصود من التنزيل هو من الإِعجاز في هذا التنزيل؟

٢ ـ الميزة الثانية: استباق الوحي والتنزيل

هذه هي الظاهرة الثانية التي تطالعنا: كان محمد يستعجل الوحي ويستبقه، فجاءَه هذا التوبيخ: ﴿لا تحرّكْ، لسانك لتعجل به! إنّ علينا جمعه وقرآته، فإذا قرأناه فاتّبعْ قرآنه، ثم إن علينا بيانه (القيامة ١٦ ـ ١٩). فهذا العتاب يدل على أن النبي كان يستبق الوحي أحياناً. وكان يتدخل في جمع القرآن وقراءَته. وكان ينفرد أحياناً ببيان القرآن قبل كمال تنزيله.

فسّره البيضاوي: ﴿لا تحرك، يا محمد، بالقرآن لسانك قبل أن يتم وحيه لتأخذه على عجل، مخافة أن يتفلت منك... وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة.

وفي (أسباب نزول) الآية (القيامة ٣٤) نقل السيوطي مثالاً على هذه العجلة المذمومة: ﴿أخرج النسائي عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن قـوله ﴿أولى لك فأولى أشيء قاله رسول الله من قِبَل نفسه أم أمره الله به؟ قال: بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله.

وفسّر البيضاوي قوله: ﴿ثم إن علينا بيانه ـ أي بيان ما أشكل عليك من معانيه. وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. وخطاب منزل أو قرآن لا يفهمه النبي نفسه للحال، بل هو بحاجة الى بيان متأخر عنه، كيف يكون معجزاً للناس؟ والإِعجاز هو السهل الممتنع الذي تنزيله هو بيانه.

ويظهر أن استباق الوحي كان من عادة النبي، فيعود الى تحذيره: ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه! وقلْ: ربِّ زدني علماً (طه ١١٤). قال البيضاوي أيضاً في تفسيره: ﴿فيه نهي عن الاستعجال في تلقي الوحي من جبريل، ومساوقته في القراءَة حتى يتم وحيه. وقيل: نهي عن تبليغ ما كان مجملاً قبل أن يأتي بيانه.

فهل في استباق الوحي والتنزيل إِعجاز هذا الوحي والتنزيل؟

٣ ـ الميزة الثالثة: إمكان فتنة الناس للنبي عن الوحي

ظاهرة خطيرة ومؤلمة، وهي إمكان فتنة الناس للنبي عن الوحي، وإمكان ركون النبي الى فتنتهم: ﴿وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره: وإذاً لاتخذوك خليلاً! ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات! ثم لا تجد علينا نصيراً (الإسراء ٧٣ ـ ٧٥).

يشهد القرآن أن هذه الإمكانية كادت تكون عند محمد أمراً واقعاً في شيء قليل. قال البيضاوي: ﴿والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة اليهم.

والتحذيرات والتهديدات المتواترة في أزمة الشك التي انتابت محمداً من التوحيد، ومن النبوّة، ومن الوحي والتنزيل ـ كلها تدل على جواز فتنة محمد ﴿عن الذي أوحينا إليك، كقوله في السورة التالية نزولاً: ﴿فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك، فسأل الذي يقرأون الكتاب من قبلك، لقد جاءَك الحق من ربك: فلا تكوننَّ من الممترين! ولا تكوننَّ من الذين كذبوا بآيات الله، فتكون من الخاسرين (يونس ٩٤ ـ ٩٥).

ولا عتاب إلاّ بعد ذنب. وهذا الشك من نتائج تلك الفتنة. فهل إمكان فتنة النبي عن الوحي من الإِعجاز في هذا التنزيل؟

٤ ـ الميزة الرابعة: ترك بعض الوحي

إن الظاهرة الرابعة في التسلسل التاريخي للنزول هي إمكان ترك النبي بعض ما يُوحى اليه: ﴿فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك! وضائق به صدرك! أنْ يقولوا: لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه مَلَكٌ؟ ـ إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل (هود ١٢). إنّ تحدّي المشركين المتواتر للنبي بمعجزة كالأنبياء الأولين، وعجزه المتواصل عنها مع الوعد بها، حمله على ترك بعض الوحي؛ وأُفهم أنه نذير لا معجزة معه. فسره البيضاوي: ﴿ليس عليك إلاَّ الانذار بما أوحى إليك، وما عليك ردّوا أو اقترحوا: فما بالك يضيق صدرك.

أجل لا يلزم من توقع الشيء حدوثه؛ ولكن مجرّد التهمة شبهة. وضيق صدر النبي من عدم وقوع المعجزة دليل على ما همَّ به من ترك بعض الوحي. ولولا عزم النبي على ترك بعض الوحي، ما كان القرآن ليوبخه هذا التوبيخ اللاذع: فلا يليق بالله توبيخ بلا ذنب، ولا معاتبة بلا زلة. فهل محنة ترك بعض الوحي من الإِعجاز في هذا التنزيل؟

٥ ـ الميزة الخامسة: التبديل في آي القرآن

ظاهرة مذهلة تمس التنزيل في صميمه، والآية صريحة لا تحتاج الى تأويل: ﴿واذا بدلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزل ـ قالوا: إنما أنت مفتر! بل أكثرهم لا يعلمون (النحل ١٠١). فالتبديل في آي القرآن أمر واقع، بنص القرآن القاطع. ويشهد على حقيقة التبديل أيضاً فتنة الارتداد عن الإسلام التي انتابت الجماعة الصغيرة بعد الحادثة، فاستنزلت غضب الله: ﴿من كفر بالله بعد إيمانه... فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم (النحل ١٠٦ ـ ١٠٩). وهذا التبديل في آي القرآن يؤكد الظواهر الأخرى، وينقلها من الإمكان الى الواقع: مثل ترك النبي لبعض الوحي، وفتنة الناس له عن بعض آخر، واستعجال الوحي واستباقه، ونسيان أو تناسي بعضه. والمشكل الأكبر في التبديل أن التنزيل هو من اللوح المحفوظ: فأيهما المثبت في اللوح المحفوظ المبدَل أو المبدَل به؟ وإذا كان ما في اللوح المحفوظ مكتوب منذ الأزل فكيف جرى تنزيل غيره؟ إن المؤمن ليحار من واقع التبديل في التنزيل حيرة لا شفاء منها. فهل التبديل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟

٦ ـ الميزة السادسة: الاستعاذة من الشيطان قبل قراءَة القرآن

بمناسبة التبديل في التنزيل يأتي النبي هذا الأمر: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (النحل ٩٨). فذهبت سُنّةً في الأمة، فهم يستعذون من الشيطان، قبل الاستفتاح باسم الرحمان!

وكلام الله هو نفسه استعاذة تطرد الشيطان. أتكون الاستعاذة من المخلوق أقوى من الاستفتاح بذكر الخالق؟ وهل للشيطان على الوحي والتنزيل ذلك التأثير حتى أنه ليفسده بتدخله، اذا لم يستعذ النبي منه؟ إن صح ذلك، فهو في التنزيل بلاء عظيم!

وسورة (المؤمنون) التي تلي سورة (النحل) يظهر هلع النبي من حضور الشيطان عنده ومن همزاته له: ﴿وقلْ: ربّ أعوذ بك من همزات الشيطان، وأعوذ بك، ربّي أن يحضرون (٩٧ ـ ٩٨). فالاستعاذة هي إذن من حالة واقعية. وهنا ذروة الحيرة في تنزيل يخشى من حضور الشيطان!

فهل حضور الشيطان للتنزيل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟

٧ ـ الميزة السابعة: المحو من التنزيل

وهذه ظاهرة أخرى تبلبل الراسخين في الإيمان: ﴿لكل أجل كتاب: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أُمّ الكتاب (الرعد ٣٩).

يقول الجلالان: ﴿أمُّ الكتاب أي أصله الذي لا يتغيّر منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل، وهذا كناية عن اللوح المحفوظ. قال السيوطي: ﴿ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوماً جميعه في أمُّ الكتاب وهو اللوح المحفوظ ٦ .

وهذا المحو في التنزيل قد يلحق المكتوب في أمُّ الكتاب، أو المنزل عن أمُّ الكتاب. وكيف يلحق المحو والاثبات ما كتبه منه الأزل في اللوح المحفوظ؟ أم كيف يلحق المحو والاثبات المنزل حرفياً أو معنوياً عن اللوح المحفوظ؟ وأيهما المكتوب في أمُّ الكتاب: هل الممحو أم المثبت؟

أجل قد ﴿تتبدّل الأحكام بتغير الأزمان! لكن هل يتبدّل الزمن مع نبي واحد وكتاب واحد، وفي عهد واحد، وربما في سورة واحدة؟ أجل ﴿لكل أجل كتاب، سواء في التنزيل أم في القضاء والقدر. وقد يمحو الله ما يشاء ويثبت من كتاب منزل الى كتاب آخر منزل؛ أمّا في الكتاب الواحد فلا يصح ذلك على الحكيم العليم. والتنزيل هنا من ﴿أمُّ الكتاب: فما هو المكتوب فيها منذ الأزل، هل الممحو أم المثبت؟ وكيف يصح محوه من اللوح المحفوظ؟ أم كيف يصح محوه من التنزيل عن اللوح المحفوظ؟ وهل الإِعجاز في التنزبل هو في المحو أم في المثبت؟ لا شك في المثبت. فقد كان التنزيل الممحو اذن غير معجز! فهل يصح تنزيل من الله لا إِعجاز فيه؟ وبما أن الممحو والمثبت هما من معدن واحد، فالممحو من التنزيل شبهة على المثبت منه. فهل المحو في التنزيل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟

٨ ـ الميزة الثامنة: النسخ في التنزيل

إن النسخ في أحكام القرآن ميزة انفرد بها على كتب الله. وهو قضية مبدأ وقضية أمر واقع: ﴿ما ننسخ من آية، أو ننسها، نأتِ بخير منها أو مثلها (البقرة ١٠٦). نذكر هذه الميزة هنا، وسنفرد لها بحثاً آخر. نقول فقط: أين الإِعجاز في التنزيل، هل هو في المنسوخ أم في الناسخ؟ وما هو المثبت في اللوح المحفوظ، هل المنسوخ أم الناسخ؟ تتبدل الأحكام بتغير الأزمان، من عهد الى عهد، ومن نبي الى نبي، ومن كتاب الى كتاب. لكن هل يصح النسخ في الكتاب الواحد وعند النبي الواحد وفي العهد الواحد، وفي السورة الواحدة؟ فهل هذا النسخ في التنزيل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟

٩ ـ الميزة التاسعة: المتشابه في التنزيل

يقسم القرآن تنزيله الى محكم ومتشابه، ويقتصر المحكم في التنزيل القرآني على الأحكام فيه؛ وما سواها فهو من المتشابه، أي أكثر القرآن. وفي هذا المتشابه يصرح جازماً: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كلٌ من عند ربنا. وما يذّكر إلا أولو الألباب (آل عمران ٧).

نعلّق هنا بكلمتين. الأولى: إن الآيات المحكمات ﴿هنّ أمُّ الكتاب. ونعلم أنّ ﴿أمُّ الكتاب هي أصله الذي لا يتغيّر منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل (الجلالان)، وأمُّ الكتاب كناية عن اللوح المحفوظ. فإذا كانت الآيات المحكمات هنّ أمُّ الكتاب، واللوح المحفوظ، فالآيات المتشابهات، وهي أكثر القرآن، من أين نزلت؟ هل هي من عند النبي نفسه؟ والثانية، يقول: إن المحكم والمتشابه، ﴿كلٌ من عند ربنا، والمتشابه غير معجز على الإطلاق، لأنه ﴿ما يعلم تأويله إلا الله: فهل ﴿عند ربنا تنزيل معجز، وتنزيل غير معجز؟

إن تنزيل المتشابه غير المعجز هو شبهة على تنزيل المحكم المعجز! فهل المتشابه في التنزيل، وهو أكثره، من الإِعجاز في هذا التنزيل؟

١٠ ـ الميزة العاشرة: إلقاء الشيطان في التنزيل

أغرب ميزات القرآن ظاهرة إلقاء الشيطان في تنزيله: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلاّ إذا تمنىّ (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته (قراءَته). فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يُحكم الله آياته، والله عليم حكيم، يجعل ما يُلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد؛ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك، فيؤمنوا به فتخبتَ له قلوبهم، وإن الله لهاد الذين آمنوا الى صراط مستقيم (الحج ٥٢ ـ ٥٤).

آيات ملأى بالغرائب. العجيبة المذهلة أن الشيطان قد يُلقي في قراءَة القرآن. فهل من ضامن بعد ذلك لسلامة التنزيل الرباني، وإن أحكم الله آياته بعد الإلقاء الشيطاني؟ الغرابة الثانية أن تدخل الشيطان في الوحي قد جرى لكل رسول ونبي. وليس في الكتاب ولا في الإنجيل من شاهد على ذلك. إنما هي ميزة انفرد بها التنزيل القرآني، بنص القرآن القاطع. الغرابة الثالثة أن إلقاء الشيطان في التنزيل فتنة منه تعالى للمنافقين ﴿الذين في قلوبهم مرض، وللكفار ﴿القاسية قلوبهم، ولليهود ﴿الظالمين، في شقاق بعيد. إنه يعلّل الغرابة بأغرب منها: فهل التنزيل من الرحمان الرحيم للفتنة أم للرحمة؟ أما النصارى ﴿الذين أوتوا العلم فإنهم يؤمنون به وتخبت له قلوبهم. وإن جماعة محمد ﴿الذين آمنوا فيهديهم الله، في هذه المحنة، الى صراط مستقيم، على آثار الذين أوتوا العلم.

إن إلقاء الشيطان في التنزيل القرآني فتنة مقصودة تبلبل الأمة. فهل إلقاء الشيطان في التنزيل من الإِعجاز في هذا التنزيل؟

أخيراً الميزة الجامعة المانعة للتنزيل القرآني أنه قليل من العلم المنزل: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً (الإسراء ٨٥).

في اصطلاح القرآن ﴿العلم هو العلم المنزل؛ و﴿أولو العلم هم أهل الذكر وأهل الكتاب، الذين يسميهم في السورة نفسها ﴿الذين أوتوا العلم من قبله (١٠٧). فهؤلاء عندهم الكتاب ﴿الإمام (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧)، فعندهم فيه ﴿العلم كله. وبما أنه يصف اليهود ﴿بالظالمين، في شقاق بعيد (الحج ٥٣ قابل العنكبوت ٤٦)، النصارى بأولي العلم قائماً بالقسط (آل عمران ١٨)، الراسخين في العلم (آل عمران ٧)، فالعلم المنزل الكامل هو عند هؤلاء ﴿الراسخين في العلم. وبرهان ذلك أن القرآن نفسه ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (العنكبوت ٤٩).

فالتنزيل الكامل هو عند ﴿الراسخين في العلم أي النصارى. أما في القرآن، ﴿ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.

تلك هي ميزات التنزيل القرآني، وكلها دلائل قاطعة على أنه ليس من الإِعجاز في التنزيل.

إن ﴿دلائل الإِعجاز، قبل أن تظهر في النظم والبيان، يجب أن تكون في التنزيل نفسه.

ثانياً: بحسب الحديث

لقد وردت أحاديث عن النبي تزيد الشبهات على ﴿دلائل الإِعجاز في التنزيل، وعلى موقف النبي من التنزيل القرآني.

١ ـ جاء في الصحيح عن أنس: ﴿إن نصرانيّاً كان يكتب الوحي لمحمد، وكان هذا النصراني يقول: لا يريد محمد إلاّ ما كتبتُ أنا!

٢ ـ وجاءَ فيه عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان من كتبة الوحي أيضاً، أنه كان يقول: ﴿كنت أصرف محمداً حيث أريد! كان يُملي علي (عزيز حكيم)، فأقـول (عليم حكيم)، فيقول: نعم، كلٌ صواب! حتى قال لي آخر الأمر: اكتبْ كيف شئت!

وفي (أسباب النّزول)، على الآية ٩٣ من الأنعام: ﴿سأُنزِل مثل ما أنزل الله، نقل السيوطي ﴿أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح. كان يكتب للنبي، فيُملي عليه (عزيز حكيم)، فيكتب (غفور رحيم)، ثم يقرأ عليه، فيقول: نعم سواء. فرجع عن الإسلام ولحق بقريش.

٣ ـ وعلى آية الأنعام نفسها (٩٣) نقل الطبري ٧ ، عن السدي، نحوه. ثم زاد: ﴿قال: إن كان محمد يُوحى إليه، فقد أُوحي إليَّ، وإن كان الله يُنزله، فقد أنزلتُ مثل ما أنزل الله! قال محمد (سميعاً عليماً) فقلت أنا: (عليماً حكيماً).

٤ ـ وكان عبد الله بن مسعود من كتبة الوحي أيضاً. وقد روي عنه أن محمداً أملى عليه آية فكتبها. ثم التمسها ثاني يوم في مصحفه فلم يجدها، وكانت الصحيفة خالية. فأخبر النبي فقال له: ﴿إنها نسخت من ليلتها.

٥ ـ وعلى الآية: ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم أنشأناه خلقاً آخر... وطلب النبي فاصلة....

روى الطبري عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيضاً أنه قال: ﴿فقلتُ: (تبارك الله أحسن الخالقين)؛ فقال محمد: اكتبها، كذلك نزلت. فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد صادقاً، لقد أُوحي إلي كما أوحي اليه! ولئن كان كاذباً، لقد قلتُ كما قال! وأورد السيوطي في (أسباب نزولها): ﴿أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال: وافقتُ ربي في أربع  منها، نزلت (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين...) فلمّا نزلت، قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين. وكثرة الطرق دليل على أن للقصة أصلاً.

٦ ـ وقصة عمر بن الخطاب في تنزيل القرآن قصة ذات مغزى كبير. جاءَ في الحديث، عن ابن عمر، قال: ﴿ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا وقال، إلا نزل القرآن على ما قال عمر! وأخرج ابن مردويه، عن مجاهد، قال: ﴿كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن! وهكذا، إن صحت الأحاديث، فإنهم يجعلون لعمر بن الخطاب يداً في معاني القرآن، وفي تعابيره والفاظه.

وقد حاول بعضهم حصر دور عمر في التنزيل في ثلاث أو أربع موافقات، كما نقل النجاري وغيره عن عمر: ﴿وافقت ربي في ثلاث. قلتُ: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: (واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى). وقلت: إن نساءَك يدخل عليهن البَرّ والفاجر، فلو أمرتهنَّ أن يحتجبن! فنزلت آية الحجاب: (واذا سألتموهن متاعاً، فاسألوهنّ من وراء حجاب، ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن). واجتمع على رسول الله ﷺ نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه، إن طلقكنّ، أن يبدّله أزواجاً خيراً منكنَّ! فنزلت كذلك: ﴿عسى ربه، إنْ طلقكنَّ، أن يبدّله أزواجاً خيراً منكنّ!

إن دور عمر في تنزيل القرآن لم يقتصر على تلك الموافقات الثلاث كما يظهر من الحديثين السابقين. وهذا الدور الثابت من الحديث يترك في النفس ريبة تكاد لا تنتهي.

٧ ـ وفي قصة أسرى بدر، وشورى الصحابة في أمر قتلهم أو فدائهم، قال عمر بالقتل، وأشار أبو بكر الصديق بالفداء. فنزل القرآن بالمقالتين معاً، مع تفضيل رأي أبي بكرٍ بقبول الفداء. قابل (أسباب النّزول) للسيوطي، في القصة. وقد تكون المرة الوحيدة التي نزل بها القرآن على خلاف ما قال عمر، اذا استثنينا قصة صلح الحديبية.

٨ ـ وعلى الآيتين ١٣ و ١٤ من سورة الواقعة: ﴿ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، نقل السيوطي في (أسباب النّزول): ﴿أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال: ﴿لما نزلت (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين)، شق ذلك على المسلمين فنزلت: ﴿ثلة من الأولين وثلة من الآخرين (الواقعة ٣٩ ـ ٤٠).

وأخرج ابن عساكر في (تاريخ دمشق) عن جابر بن عبد الله، قال: ﴿لما نزل (ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين)، قال عمر: يا رسول الله، ثلة من الأولين، وقليل منا؟ فامسك آخر السورة سنة، ثم نزلت (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين). فقال رسول الله ﷺ: يا عمر تعالَ فاسمع ما قد أنزل الله! وأخرجه ابن أبي حاتم عن عروة بن رويم مرسلاً.

وهنا يظهر عمر لسان حال الجماعة في التنزيل.

٩ ـ جاء في (أسباب النّزول) للسيوطي عن آية المحاسبة على الوسوسة (البقرة ٢٨٤):  روى أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه، يحاسبكم به الله)، اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله ﷺ  ثم جثوا على الركب فقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها!... فنسخها، وأنزل: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).

﴿وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه.

وكثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً. فإن صحت، فهذا بلاء عظيم في التنزيل: أينزل الوحي بما يفرض الله على عباده، أم بما يشتهون؟! أتنزل الشريعة بما يريد الله أم بما يريدون؟!

١٠ ـ وفي (أسباب النّزول) نقل السيوطي أيضاً في الآية: ﴿وامرأة مؤمنة، إنْ وهبت نفسها للنبي، إنْ أراد النبي أن يستنكحها، خالصة لك من دون المؤمنين (الأحزاب ٥٠)، ﴿إنَّ أم شريك الدوسية عرضت نفسها على النبي ﷺ، وكانت جميلة، فقبلها. فقالت عائشة: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، فنزلت. فلما نزلت هذه الآية، قالت عائشة: إن الله يُسرع لك في هواك!

١١ ـ ونقل أيضاً في (أسباب النّزول): ﴿أخرج الشيخان عن عائشة أنها كانت تقول: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها؟ فأنزل الله (تُرجىء من تشاء منهنَّ، وتؤوي إليك من تشاء). فقالت عائشة: أرى ربك يُسارع لك في هواك!

فالله تعالى، في التنزيل القرآني، يُسارع في هوى النبي، وفي هوى جماعته.

١٢ ـ وفي ما أسقط النبي أو الصحابة من القرآن، قد ورد حتماً أكثر من ذلك.

روى المسوّر بن محزمة أن عبد الرحمان بن عوف قال: ﴿ألم نجد في ما أنزل علينا (جاهدوا كما جاهدتم أول مرة)، فإنا لا نجدها. قال: أُسقطت في ما أُسقط من القرآن.

١٣ ـ وروى عن ابن عمر: ﴿لا يقولنَّ أحدكم: (أخذت القرآن كله)، وما يدريه ما كله! قد ذهب منه قرآن كثير! ولكن ليقلْ: قد أخذت منه ما ظهر! ٨

والنتيجة الحاسمة: أن تلك الميزات وتلك الأحاديث شبهات على الإِعجاز في التنزيل.

وفي الصحيحين، وفي كتب (أسباب النّزول) كثير من هذه الأحاديث. ومهما كانت درجتها من الصحة، فإنَّ فيها شيئاً من الواقع التاريخي، وإلاّ كان القوم على النبوّة وعلى التنزيل يكذبون.

والنتيجة الحاسمة منها أن للمخلوق ضلعاً في التنزيل القرآني، ويداً في ما بقي من القرآن، وفي ما أُسقط منه.

فمهما رقّت شهادة الحديث و(أسباب النّزول)، فهل تدلّ على إِعجاز في التنزيل؟ وبما أن القرآن قد نزل أحياناً ﴿على ما قال عمر، فقد ضاهى عمر إِعجاز القرآن.

إن تلك الشبهات من الحديث، وتلك الميزات في القرآن، ليست دلائل على الإِعجاز في التنزيل. إنما هي شبهات تترك المؤمن وغير المؤمن في حيرة لا تنتهي من أمر التنزيل في القرآن.

بحث سادس

عَرضات القرآن السنوية على جبريل لتنقيح القرآن

في تنزيل القرآن ميزة ما بين الواقع والخرافة، أشار اليها العلماء: وهي عرْضات القرآن السنوية على جبريل: ﴿والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان، بما ينزل به طول السنة ٩ .

أوّلاً ـ وإليك هذه القصة الغريبة كما أثبتها السيوطي في (الإتقان ١: ٥١):

﴿أخرج ابن اشته (في المصاحف) وابن أبي شيبة في (فضائله) من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال، القراءة التي عُرضت على النبي ﷺ في العام الذي قُبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم.

﴿وأخرج ابن اشته عن ابن سيرين قال: كان جبريل يعارض النبي ﷺ كل سنة في شهر رمضان مرة. فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين. فيرون ان تكون قراءَتنا هذه على العرضة الأخيرة.

هذا هو الواقع الذي يعلّمون: كان جبريل، كل سنة، في شهر رمضان، يستعرض القرآن مع النبي. إن صح ما يعلّمون فما معنى هذا الواقع؟ معناه المحتوم إنه في بحر السنة دخل القرآن ما ليس منه فاضطر جبريل الى تنقيحه، أو كان التنزيل الأول ناقصاً فجرى تكميله.

وتنزيل بحاجة كل سنة إلى استعراض وتنقيح هل هو من الإِعجاز في التنزيل!

ولإكمال الرواية أشركوا زيداً بن ثابت في العرضة الأخيرة: ﴿وقال البغوي في (شرح السنة) يقال: إن زيداً بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نسخ وما بقي، وكتبها للرسول ﷺ وقرأها عليه. وكان يُقريء الناس بها حتى مات. ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاّه عثمان كتابة المصاحف.

فميزات العرضة الأخيرة أنها كانت مرتين، وبيّن فيها ما نسخ وما بقي من القرآن، وأن زيداً حضرها وكان شاهداً لها؛ وإن زيداً كتب القرآن الباقي فيها وقرأه على النبي.

ونرى هنا تهافت الرواية، فهي كلها قيل عن قيل، بلا سند ولا شاهد. وما فضل زيد على أبي بكرٍ الصديق، وخصوصاً على عمر بن الخطاب الذي طالما نزل القرآن على ما قال؟ إنها رواية موضوعة لبيان حسن اختيار زيد لوضع المصحف العثماني، وهو الذي استنكر واستكبر إمكانية جمع القرآن بعد الرخص النبوية الأربع بتلاوته على سبعة أحرف، بقراءات مختلفة لكل حرف، وبجميع لغات العرب المختلفة، مع الرخصة الكبرى بقراءته بالمعنى من دون الحرف المنزل.

لكن الواقع التاريخي الذي يتراءَى من خلال هذه الرواية أن النبي كان ينقّح ما نزل من القرآن في بحر السنة، كما كان فحول الشعراء ينقحون حولياتهم. وهذا التنقيح السنوي المتواصل ليس من ﴿دلائل الإِعجاز في القرآن.

والدلائل القرآنية على تنقيح القرآن السنوي المتواصل هي:

١) التبديل في آي القرآن: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزل ـ قالوا: إنما أنت مفتر! (النحل ١٠١).

٢ و٣) النسخ في آي القرآن أو النسيان المفروض: ﴿ما ننسخ من آية ـ أو نُنسِها ـ نأتِ بخير منها، أو مثلها (البقرة ١٠٦). وإمكان الإتيان ﴿بخير منها يرفع صفة الإِعجاز عنها وعن غيرها.

٤) المحو من آي القرآن: ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أُم الكتاب (الرعد ٣٩)؟

فالمحو من التنزيل، والنسيان الذي يفعله الله فيه، والنسخ منه، والتبديل فيه، كلها دلائل قرآنية قائمة على تنقيح القرآن المتواصل.

فليس الإِعجاز في النظم والبيان من التنزيل نفسه، بل من عمل النبي، أو عمل جبريل، ﴿ولم يقل أحد إن كلام غير الله معجز في ذاته، على حدّ قول ابن حزم.

ويأتي الحديث فيؤيد القرآن في هذه الظاهرة الغريبة.

يقول دروزة ١٠ : ﴿هذه الآيات (البقرة ١٠٦ والنحل ١٠١) تفيد أنه وقع بعض التبديل والنسخ في بعض آيات القرآن، في عهدي النبي المكي والمدني، بوحي الله. مما هو مؤيد بأحاديث عديدة، مثل حديث مروي عن أبي موسى الأشعري جاء فيه: (نزلت سورة نحو براءَة ثم رفعت)؛ ومثل حديث أخرجه الطبراني عن ابن عمر جاءَ فيه: (إن النبي أقرأ رجلين سورة فكانا يقرأان بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله فذكرا له ذلك، فقال: إنها مِمّا نُسِخَ فالهوا عنها)؛ ومثل حديث رواه البخاري عن أنس: (إنه نزل في قصة أصحاب بئر معونة قرآن قرأناه ثم رُفع).

فالتنقيح للقرآن كان صارماً حتى ﴿ذهب منه قرآن كثير على قول ابن عمر. فهل هذا التنقيح السنوي للقرآن من الإِعجاز في التنزيل؟

ثانياً ـ وما وقع للنبي في تنزيل القرآن، وقع للصحابة عند جمعه. فلقد كان القرآن برخصة من النبي يُقرأ على سبعة أحرف، ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني. وكان يُقرأ فيه أيضاً المنسوخ كله، كما جمعه مصحف علي ابن أبي طالبٍ. فحدثت البلبلة والفوضى في نص القرآن.

نقل السيوطي أيضاً تاريخ ما فعله الصحابة عند جمع القرآن، عن الطبري، مع الموافقة عليه: ﴿إن القراءَة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، إنما كان جائزاً لهم ومرخصاً لهم فيه. فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك إجماعاً شائعاً. وهم معصومون من الضلالة ١١ . ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام. ولا شك أن القرآن نُسخ منه في العرضة الأخيرة. فاتّفق رأي الصحابة على أن كتبوا ما تحقّقوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.

هذا موجز لتاريخ جمع القرآن. لقد وُجد الصحابة عند جمع القرآن أمام سبعة أحرف، ﴿باختلاف الألفاظ، واتفاق المعاني (الطبري)، أي أمام سبعة قرائين مختلفة لفظاً ونظاماً وترتيباً (كما يشهد مصحف علي): فاتفق رأي الصحابة على حرف منها. وهذا أخطر ما في حفظ القرآن وجمعه: فنص القرآن العثماني توفيقي عن الصحابة، لا توقيفي عن النبي.

ولتغطية ما في الأمر من أخطار ومشاكل، يلجأون الى روايتين: الرواية الأولى قصة العرضة الأخيرة وما نُسخ من القرآن فيها باستعراض جبريل والنبي وزيد؛ وهذا النسخ والاسقاط من القرآن إنما كان بفعل الصحابة بزعامة بني أمية، لأن التيار المعارض من آل البيت، بزعامة عليّ وفاطمة الزهراء، قد حفظ في مصحف علي الناسخ والمنسوخ الذي أسقطوه من الحرف العثماني، وحفظ الترتيب على تاريخ النزول.

والرواية الثانية لتبرير عملهم هي قوله: ﴿وهم معصومون من الضلالة ـ فأيُّ شاهد من قرآن أو من حديث يشهد بعصمة الصحابة ولجان عثمان؟ ولا عصمة إلا للنبي، وفي حال التنزيل فقط، وبعد التنزيل فالأمر متروك الى استقامة النبي، واستقامة جماعته بعده، حيث لا يتمتعون بعصمة ولا بمعجزة.

فاختيار الحرف العثماني، من بين سبعة أحرف فما فوق، ومن بين قراءات مختلفة عليها؛ ومن بين لغات العرب المختلفة، إنما هو باتفاق رأي الصحابة وحزب عثمان وبني أمية.

النتيجة الحاسمة: إن قصة عرضات القرآن متعارضة في ذاتها، وهي إنما تدل على تنقيح متواصل للقرآن.

وهكذا فالتبديل في مكّة (النحل ١٠١) والنسخ في المدينة (البقرة ١٠٦) شاهدان على تنقيح القرآن على عهد النبي، وقصة العرْضات السنوية للقرآن إنما تدل على تنقيح متواصل لنص القرآن. فإذا كان النص الأصيل المنزل منقولاً عن اللوح المحفوظ بواسطة جبريل نفسه، فكيف كان جبريل يغيّر فيه ويبدّل وينسخ ويُسقط وينقّح كل سنة؟ فهل قرأ غلطاً أم نقح غلطاً؟ أم هو كان الله نفسه يغيّر ما في اللوح المحفوظ المكتوب منذ الأزل حتى يضطر جبريل الى التنقيح السنوي المتواصل؟ أم هل كان النص الأصيل المنزل قد دخله التحريف في بحر كل سنة، ممّا يضطر معه جبريل الى تقويمه وتنقيحه سنوياً؟ وهنا الطامة الكبرى التي تنطوي عليها قصة العرضات السنوية للقرآن.

فإذا كان ذلك على حياة النبي المعصوم، فماذا يكون مع الفوضى التي قامت حتى الجمع العثماني غير المعصوم؟ فهل في قصة عرضات القرآن السنوية، وفي قصة اختيار الحرف العثماني من ﴿دلائل الإِعجاز في التنزيل؟

بحث سابع

قصّة الناسخ والمنسوخ، والإِعجاز في التنزيل

إن قصة الناسخ والمنسوخ في القرآن قضية واقع تاريخي، وقضية مبدأ في التنزيل القرآني. وهي مشكل يحار فيه المؤمن وغير المؤمن. والنسخ في التنزيل الواحد والكتاب الواحد بلاء من الله عظيم، خصوصاً في مطابقة النسخ مع التنزيل من اللوح المحفوظ، حيث الناسخ والمنسوخ معاً حقيقة الهية واحدة. و﴿إن النسخ ممّا خصّ الله به هذه الأمة لحِكَم، منها التيسير ١٢ . وعلى وجود الناسخ والمنسوخ في التنزيل، ثم في المصحف العثماني الباقي، إجماع في الأمة. لكن، تجاه شبهات النسخ على صحة التنزيل، قام فريق، منذ الزركشي في (البرهان) حتى اليوم، يقول بأن لا نسخَ في القرآن.

أوّلاً: قصّة النسخ وغرائبها وشبهاتها

١ ـ لكنّ النسخ في التنزيل القرآني أمر واقع، بإجماع الأئمة. قال السيوطي: والتأليف في الناسخ والمنسوخ ﴿أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون... قال الأئمة، لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ. وقد قال عليّ لقاضٍ: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا! قال: هلكتَ وأهلكت! وقد عدّ العلماء، مثل النحاس وابن حزم في كتابيهما (الناسخ والمنسوخ) نيّفاً ومئتي آية في المصحف العثماني. واقتصرها السيوطي في (الإتقان ١: ٢٣) على عشرين موضعاً. وذلك من دون الذي أسقطه عثمان عند جمع القرآن، ومن دون ما أسقطه جبريل ومحمد عند معارضة القرآن كل سنة.

٢ ـ والنسخ على أنواع

بمعنى الإزالة. ومنه قوله: ﴿فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته.

وبمعنى التبديل. ومنه قوله: ﴿واذا بدّلنا آية مكان آية.

وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد الى واحد.

وبمعنى النقل من موضع الى موضع. ومنه (نسخت الكتاب) اذا نقلت ما فيه حاكياً للفظه وخطه ـ وفي وقوع النسخ بالنقل خلاف.

أما النسخ بالإزالة أو الرفع من التنزيل، والتبديل في التنزيل، والتحويل في أحكام القرآن، بإبطال حكم وإقامة حكم مكانه، فهو أمر واقع في الأنواع الثلاثة.

٣ ـ وتقسم سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ الى أربعة أقسام

قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهو ثلاث وأربعون سورة.

وقسم فيه الناسخ والمنسوخ معاً وهو خمس وعشرون سورة.

وقسم فيه الناسخ فقط وهو ستة.

وقسم فيه المنسوخ فقط وهو أربعون.

وهكذا يعدون الآيات الناسخة والمنسوخة، على قول الزركشي ١٣ في احدى وسبعين سورة.

٤ ـ والناسخ على أنواع

نقل السيوطي عن مكّي: ﴿فرض نسخ فرضاً، ولا يجوز العمل بالأوّل، كنسخ الحبس للزواني بالحد. وفرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول كآية المصاهرة. وفرض نسخ ندباً كالقتال، كان ندباً فصار فرضاً. وندب نسخ فرضاً كقيام الليل نُسخ بالقراءَة في قوله: ﴿فاقرأوا ما تيسّر من القرآن.

٥ ـ والمنسوخ على أضرب

أحدها: ما نُسخ تلاوته وحكمه ـ وهو نوع من القرآن نزل ثم رُفع.

الثاني: ما نُسخ حكمه دون تلاوته. وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة.

الثالث: ما نُسخ تلاوته دون حكمه... وأمثلة هذا الضرب كثيرة، وهي التي نقلوا عنها قول ابن عمر: ﴿قد ذهب منه قرآن كثير! وقول عائشة: ﴿قبل ان يغيّر عثمان المصاحف! وقول أبي موسى الأشعري: ﴿نزلت سورة نحو براءَة ورفعت! وقول عمر وعبد الرحمان عوف: ﴿اسقطت في ما اُسقط من القرآن! وقول ابن عمر: ﴿إنها ممّا نُسخ فالهوا عنها!... ﴿والسبب في رفع التلاوة هو الاختلاف ١٤ .

٦ ـ ومن غرائب النسخ في التنزيل القرآني ما أورده السيوطي أيضاً: ١٥

﴿قال بعضهم: ليس في القرآن ناسخ إلاّ والمنسوخ قبله في الترتيب إلاّ في آيتين: آية العدة في (البقرة)، وقوله: ﴿لا يحل لك النساء من بعد. وزاد بعضهم ثالثة ورابعة.

﴿وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفّار والتولّي والاعراض والكف عنهم منسوخ بآية السيف (براءَة ٥) نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية! ثم نسخ آخرها أولها!

﴿وقال أيضاً: من عجيب المنسوخ قوله تعالى: ﴿خذ العفو... فإن أولها وآخرها وهو (وأعرض عن الجاهلين) منسوخ، ووسطها محكم، وهو (أمر بالعرف).

﴿وقال: من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ، وآخرها ناسخ، ولا نظير لها وهي: ﴿عليكم أنفسكم، لا يضركم مَن ضلّ إذا اهتديتم، يعني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله؛ ﴿عليكم أنفسكم.

﴿وقال السعيدي: لم يمكث منسوخ مدة أكثر من قوله ﴿قلْ: ما كنت بدْعاً من الرسل، مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول الفتح عام الحديبية.

﴿وقال شيدلة: يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخاً... يمثل له بآخر سورة (المزمّل) فإنه ناسخ لأولها، منسوخ بفرض الصلوات. وقوله ﴿انفروا خفافاً وثقالاً فهو ناسخ لآيات الكهف، منسوخ بآيات العذر.

٧ - والغرابة الكبرى أن يقع النسخ أثناء التنزيل القرآني، فيضطر جبريل الى معارضة القرآن كل سنة ليرفع المنسوخ أحياناً، ويضع الناسخ أحياناً. وفي العرضة الأخيرة ﴿بيّن فيها ما نُسخ وما بقي. ومع ذلك فقد بقي ناسخ ومنسوخ كثير كتبه علي في مصحفه، وأسقطه عثمان. ومع ذلك أيضاً فقد بقي ناسخ ومنسوخ في المصحف العثماني: ممّا يدل على أن النسخ كان كثيراً في القرآن.

وهكذا فالظاهرة الكبرى ما قاله ابن حزم: ﴿إِعلم أن نزول المنسوخ بمكّة كثير، ونزول الناسخ بالمدينة كثير! وهذا يعني أن القرآن المدني نقض في أحكامه القرآن المكي.

فإن أول ما نُسخ من القرآن استقبال بيت المقدس بآية القبلة، وصوم عاشوراء بصوم رمضان (في البقرة) كما نقلوا عن ابن عباس. ﴿قال مكي: وعلى هذا فلم يقع في القرآن المكي ناسخ.

والسر كل السر، في القول بالناسخ والمنسوخ، هو أكثر من تصريح القرآن بوجود النسخ (البقرة ١٠٦)؛ إنه بسبب وجود معارضة بيّنة في أحكامه. ﴿قال ابن الحصار: إنما يُرجع في النسخ الى نقل صريح عن رسول الله ﷺ، أو عن الصحابى. قال: وقد يُحكم به عند وجود التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ ليُعرف المتقدم والمتأخر. قال: ولا يُعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين، من غير نقل صريح ولا معارضة بيّنة. ١٦

فيجب القول بالنسخ ﴿عند وجود التعارض المقطوع به.

فهل القول المحتوم بالناسخ والمنسوخ، لرفع التعارض المقطوع به فيه، والمعارضة البيّنة، هو من الإِعجاز في التنزيل؟

وتزيد الشبهة الضخمة القائمة، لوجود الناسخ والمنسوخ في المصحف العثماني، على صحة التنزيل وإِعجازه، من إسقاط عثمان من القرآن، كل ما جمعه علي في مصحفه من الناسخ والمنسوخ بعد إسقاط جبريل منه عند معارضته وهكذا بعد محاولة النبي ثم محاولة الصحابة لم يسلم النص العثماني من النسخ فيه.

وهذا الاسقاط من القرآن أولاً على يد النبي، ثم على يد جماعة عثمان، للتخلّص من كثرة المنسوخ، انما هو البرهان القاطع على أنه ليس في التنزيل القرآني إِعجاز مانع.

وغرائب النسخ وعجائبه التي يلحظها الأئمة، كما رأيت، ليست من ﴿دلائل الإِعجاز في التنزيل القرآني.

أجل ﴿ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ فإنما ﴿تتبدّل الأحكام بتغيّر الأزمان ما بين زمان وزمان، وكتاب وكتاب، ونبي ونبي. لكنّ مبدأ النسخ نفسه، في التنزيل الواحد، على يد النبي الواحد، في الكتاب الواحد، لا يصح من الحكيم العليم. هذا ما يسميه أهل الكتاب: بَدَاءٌ كالذي يرى الرأي ثم يبدو له. واذا اعتبرنا أنّ النسخ بيان لمدة الحكم المنسوخ، كان التنزيل مدعاةً للتهكّم، لأن الناسخ والمنسوخ قد يحصلان ما بين ليلة وضحاها، وفي آية واحدة قد ينسخ آخرها أولها! وحاشا للحكيم العليم أن يلهو في التنزيل، وأن يسخّره لأحوال عابرة.

فمهما قيل في تبرير النسخ القرآني، فإنه شبهة ثابتة على الإِعجاز في التنزيل. وهي شبهة مثلّثة: شبهة على رفع المنسوخ في عرْضات القرآن المتواترة على جبريل، شبهة على إسقاط الصحابة للمنسوخ الذي كان يحفظه مصحف علي بن أبي طالب؛ شبهة على المنسوخ الموجود في المصحف العثماني، والذي أفلت من رقابة عثمان وجماعته.

فكان المنسوخ سبباً في ذهاب قرآن كثير على يد النبي ثم على يد صحابته.

والمشكل الأكبر إن الناسخ والمنسوخ كلاهما تنزيل من اللوح المحفوظ، بواسطة جبريل، على النبي: فكيف يكون ﴿التعارض المقطوع به بين الناسخ والمنسوخ مكتوباً منذ الأزل في اللوح المحفوظ؟ وكيف يليق بالحكيم العليم تنزيل المنسوخ والناسخ معاً في كتاب واحد، وفي سورة واحدة، وفي آية واحدة؟

إن النسخ القرآني، كما وصفوه، تحدّ للعقل وللنبوّة وللتنزيل.

ثانياً: النسخ ميزة القرآن وحده

وممّا يزيد في غرابته ﴿أن النسخ ممّا خصّ الله به هذه الأمة في كتابها.

١ـ فالنسخ القرآني يتعلق بآي القرآن نفسها، لا يتعداها الى سواها من كتب الله، كما تصرّح آية النسخ: ﴿ما ننسخ من آية ـ أو ننسها ـ نأتِ بخير منها، أو مثلها (البقرة ١٠٦) فالقرآن ينسخ بعضه بعضاً؛ ويرون في ذلك من ﴿دلائل الإِعجاز في التنزيل!

﴿والقول بأن من القرآن ما نزل وتُلي، ثم نسخ، قول فيه تعسف شديد، وفيه مدخل إلى الفتنة والتخرص. فإذا ساغ أن ينزل قرآن ويُتلى على المسلمين ثم يرفع، ساغ لكل مبطل أنْ يقول أيَّ قول! ثم يدَّعي له أنه كان قرآناً ثم نُسخ. وهكذا تتداعى على القرآن المُفتريات والتلبيسات؛ ويكون لذلك ما يكون من فتنة وابتلاء!

﴿ثم من جهـة أخرى، ما حكمة هـذا القرآن الـذي ينزل لأيام أو شهور، ثم يُرفع؟ ١٧

٢ـ ومن الإفتراء على القرآن الادّعاء ﴿بأن الله نسخ التوراة والإنجيل بالقرآن ١٨

يدل على ذلك قولهم: شرع مَن قبلنا شرع لنا.

ويدل عليه تصريح القرآن المتواتر: ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليم حكيم (النساء ٢٦)؛ ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه (الشورى ١٣)؛ وفي آخر الأمر يقرّ التوراة والإنجيل والقرآن كلاًّ على شريعته في سورة المائدة: ﴿وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (٤٣) ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (٤٥) ـ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومَن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الفاسقون (٤٧) ـ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتّبع أهواءَهم عمّا جاءَك من الحق: لكل جعلنا منكم شِرْعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة (٤٨). وهذا هو القول الفصل: ﴿أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة: آخر سورة نزلت المائدة، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه. ١٩

هذا الحكم الأخير، الذي لا ناسخ له: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، يقضي على الإفتراء بأن القرآن نسخ التوراة والإنجيل. ﴿قالوا: وانما حقّ الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آيةً ٢٠ . والقول الفصل في دعوى القرآن للتوراة والإنجيل أنه يوم الدين، حتى بعد القرآن: ﴿كل أمة تُدعى الى كتابها (الجاثية ٢٨).

٣ـ ويبرّرون النسخ في القرآن بالنسخ في الكتاب ـ وليس لهم سند من كتاب. يقول عبد الكريم الخطيب ٢١ : ﴿وقد نسخ الله سبحانه كثيراً من الشرائع التي تقدّمت شريعة الإسلام. يقول ابن كثير في تفسيره (الجزء الأول): ﴿والذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ هو الكفر والعناد. فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى، لأنه يحكم ما يشاء، كما أنه يفعل ما يشاء. كما أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية: كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرَّم ذلك. وكما أباح لنوح عليه السلام بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حلَّ بعضها. وكان نكاح الاختين مباحاً لإسرائيل وبنيه، وقد حرَّم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها. وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل. وأمر جمهور بني إسرائيل قتل مَن عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل كي لا يستأصلهم القتل.

وفات ابن كثير وتلميذه الخطيب أن النسخ المذكور وقع في عهود متباعدة آلاف السنين. وما جرى لآدم ثم لنوح ثم لإبراهيم ثم لإسرائيل (يعقوب) لم يكن نسخاً لحكم سابق، بل تنزيل حكم مبتدئاً. ففي التوراة شريعة موسى، لا شريعة آدم ولا نوح ولا إبراهيم ولا إسرائيل (يعقوب)؛ وليس فيها نسخ. وأمر الله في التوراة بقتل من عبد منهم العجل هو قضاء في الحال، لا تشريع للاستقبال، وقد نُفّذ.

فليس في ما يذكرون من نسخ في الشريعة الواحدة؛ انما النسخ ميزة القرآن وحده.

وما ورد ممّا يشبه النسخ ما بين الإنجيل والتوراة، فهو ما بين كتابين وشريعتين؛ والسيد المسيح مع ذلك لا يسميه نسخاً، بل تكميلاً: ﴿لا تظنّوا أني جئتُ لأنسخ التوراة أو النبيّين! ما جئت لأنسخ بل لأكمّل (متى ٥:١٧).

وهكذا فالقرآن ينسخ بعضه بعضاً؛ ولا يقتدي بغيره، مع أنه أُمِر صريحاً: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة... اولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدهْ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠).

ثالثاً: حجّة مَن قال لا نسخ في القرآن واهية متهافتة

هذا الواقع المرير في اختصاص القرآن بالنسخ في آيه، فينسخ بعضه بعضاً، وما ينجم عنه من مدخل في الفتنة ومن حمل على الشبهات على التنزيل والإِعجاز، قام فريق يقول: لا نسخ في القرآن.

تزعم هذا التيّار الزركشي في (البرهان في علوم القرآن). وعنه ينقل الى اليوم مَن يذهب مذهبه، مثل عبد الكريم الخطيب ٢٢ .

قال: ﴿أكثر العلماء على أن في القرآن نسخاً بدليل قوله تعالى ﴿ما ننسخ من آية، أو نُنسها، نأتِ بخير منها أو مثلها (البقرة ١٠٦). ثم إن الذي ينظر في كتاب الله يرى آيات تعطي أحكاماً خاصة، ثم تأتي بعد ذلك آيات تعطي أحكاماً تخالف هذه الأحكام... ولا معنى لهذا التخالف بين الآيات في أحكامها إلاَّ أن اللاّحق قد نسخ السابق وأزال الحكم الذي تضمّنه وإن بقيت قرآناً متلواً...

﴿وكثير من العلماء أيضاً يرى أن النسخ في القرآن ليس نسخاً بمعنى الإزالة، على ما فهم القائلون بالنسخ. وانما هو نسْأُ وتأخير، أو مُجمل أُخّر بيانه لوقت الحاجة، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب آخر، أو مخصوص من عموم، أو حكم عام لخاص، أو لمداخلة معنى في معنى... وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخاً، وليس به. وإنه الكتاب المهيمن على غيره، وهو نفسه متعاضد ٢٣ .

ويؤيّد رأيه بأن آية النسخ شرطية، ﴿وهل اذا جاء في القرآن الكريم شرط، أيجب أن يقع هذا الشرط، وأن يتحقق تبعاً لذلك جوابه؟... وعلى هذا يجوز في الآية الكريمة ألاّ يقع شرطها ولا جوابها.

ويضيف الخطيب بأن آية النسخ ليست مبدأً عاماً في القرآن، بل آية مخصوصة بنسخ القبلة من بيت المقدس الى المسجد الحرام: ﴿وعلى هذا فإن أقرب مفهوم الى النسخ الذي تشير اليه الآية ﴿ما ننسخ من آية هو نسخ الأمر بالتوجه بالصلاة الى بيت المقدس وجعله الى المسجد الحرام.

ثم يشرع في ﴿تأويل ما يبدو فيه النسخ تأويلاً يجعل التشريع القرآني قوانين عابرة، لحالات طارئة، ليس عليه مسحة الشريعة الخالدة.

وخطأهم قائم على سوء فهم آية النسخ: ﴿ما ننسخ من آية ـ أو نُنْسِها وعلى تبنّي قراءَة ثانية: ﴿أو نَنْسَأْها أي نؤخرها. فالاختلاف في صحة القراءة لا يُبنى عليه عقيدة أو مذهب. وليس حرف (أو) عطف بيان للنسخ بالتأخير؛ إنما حرف (أو) يدل على حالين مختلفتين: حالة النسخ وحالة النسيان أو التأخير. وليس في قوله: ﴿ما ننسخ شرط قد لا يتم وقوعه، إنما هو تقرير واقع يصير مبدأ. وهب فيه شرطاً، فهو أسلوب قرآني في التقرير، كما في قوله الصريح: ﴿واذا بدّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزّل ـ قالوا: إنما أنت مفتر (النحل ١٠١): فالشرط واقع يشهد عليه علم الله بالتبديل في التنزيل، وتهمة النبي بالإفتراء بسبب ذلك، ومحنة ارتداد بعض المسلمين بسبب التبديل في القرآن (النحل ١٠٦). فآية التبديل في القرآن تفسّر وتشهد لصحة النسخ في القرآن.

والنتيجة الحاسمة أن التبديل والنسخ في القرآن شبهة على الإِعجاز في التنزيل.

فالتنزيل القرآني، كما فيه تبديل آية مكان آية، فيه أيضاً نسخ آية بآية. وعليه شبه إجماع بين الأئمة مهما قال المكابرون. فقصة التبديل في القرآن، مثل قصة النسخ في القرآن، ليستا من ﴿دلائل الإِعجاز في التنزيل. وتنزيل يعتريه النسخ والتبديل ليس من الإِعجاز في التنزيل.

بحث ثامن

طريقة الوحي القرآني أدنى طرق الوحي

للقرآن نظرية جامعة في طرق الوحي، وتحديد منزلة الوحي القرآني منها: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً ـ أو من وراء حجاب ـ أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء، إنه عليٌّ حكيم؛ ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به مَن نشاء من عبادنا، وإنك لتُهدَي الى صراط مستقيم (الشورى ٥١ ـ ٥٢).

أوّلاً: القرآن وحي بالواسطة

بحسب القرآن نفسه، طُرق الوحي الإلهي ثلاث: الوحي المباشر من الله للنبي؛ والوحي من وراء حجاب؛ والوحي بواسطة رسول يوحي بإذنه تعالى ما يشاء.

أما الوحيبواسطة رسول فهو طريقة الوحي لمحمد، كما يشهد بذلك القرآن كله مع آية (الشورى ٥٢): ﴿نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين (الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤)؛ ﴿قل: نزَّله روح القدس من ربك بالحق (النحل ١٠٢)؛ ﴿قل: مَنْ كان عدواً لجبريل؟ فإنه نزّله على قلبك، بإذن الله، مصدقاً لما بين يديه، وهدى وبشرى للمؤمنين (البقرة ٩٧). فالروح الأمين، روح القدس، جبريل هو ﴿روح من أمرنا الذي بتنزيل القرآن على قلب محمد هداه الى الإيمان بالكتاب الذي جعله الله نوراً يهدي به مَن يشاء من عباده. فتعبير ﴿روح من أمرنا لا يعني القرآن، بسبب قوله ﴿أوحينا ـ الذي ورد على المشاكلة مع قوله السابق: ﴿أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ـ بل ﴿روح من عالم الأمر والخلق الذي تذكره سائر الآيات: فلو كان ﴿روح من أمرنا يعني القرآن، لكان القرآن مخلوقاً من عالم الأمر. مع ذلك فالقرآن وحي بالواسطة.

أما الوحي ﴿من وراء حجاب فهو ميزة الوحي الموسوي الذي كان تكليماً من الله مباشراً، لكن بدون رؤية ولا مشاهدة: ﴿وكلّم الله موسى تكليماً (النساء ١٦٤)؛ فهو يفضل الأنبياء بهذا التكليم المباشر (البقرة ٢٥٣) ﴿من وراء حجاب (٥١:٤٢).

أمّا الوحي المباشر، القائم على الرؤية، فيبقى من نصيب السيد المسيح من حيث هو ﴿كلمة الله القائم في ذات الله قبل أن يُلقى الى مريم. فصار كلام الله فيه عينَ ﴿كلمة الله. فالوحي المسيحي الإنجيلي هو وحي مباشر من الله بدون حجاب. فهو فوق التنزيل القرآني بالواسطة، وفوق التكليم الموسوي ﴿من وراء حجاب: إنه ذروة الوحي والتنزيل، بالاتصال المباشر بالله، والمشاهدة بالعيان.

جاء في الصحيحين حديث مشهور على لسان عائشة: ﴿مَن زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية! واستشهدت بالآية: ﴿لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار (الأنعام ١٠٣). فلم ير محمد ربه في تنزيل، ولا في اسراء، ولا في غيرهما. وكان الوحي إليه تنزيلاً بواسطة الروح الأمين، روح القدس، جبريل.

وجاءَ في فاتحة الإنجيل بحسب يوحنا: ﴿في البدء كان الكلمة، والكلمة كان في الله، والله كان الكلمة، فهو منذ البدء في الله... والكلمة صار بشراً وسكن فيما بيننا، وقد شاهدنا مجده، مجد الآب على ابنه الوحيد... إن الله لم يره أحد قط، إلاّ الابن الوحيد القائم في ذات الله، وهـو الـذي كشف عنه (١ و١٤ و١٨). قال السيد المسيح لعلاّمة إسرائيل نيقوديموس: ﴿الحق الحق أقول لك: إننا ننطق بما نعلم، ونشهد بما رأينا... فإنه لم يصعد أحد الى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، ابن البشر (لقب المسيح) الكائن في السماء (يوحنا ٣: ١١ ـ ١٣).

فالوحي الإنجيلي كشف؛ والوحي التوراتي تكليم؛ والوحي القرآني تنزيل بالواسطة، لذلك فهو، بحسب نظرية القرآن نفسها (الشورى ٥١ ـ ٥٢) أدنى طرق الوحي.

لذلك يسمي القرآن نفسه تنزيلاً (السجدة ٢؛ الزمر ١؛ الجاثية ٢؛ الأحقاف ٢). فهو يصرح: ﴿إنّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلاً (الانسان ٢٣). إنه تنزيل رب العالمين، ولكن بواسطة الروح الأمين جبريل: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٤). وهذا التنزيل هو من الروح الأمين مباشرة، لا من الله نفسه: ﴿أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء (الشورى ٥١)؛ فالوحي القرآني هو من الروح الأمين مباشرة، بإذنه تعالى وإن سماه ﴿كلام الله؛ فليس من اتصال مباشر في التنزيل القرآني بين الله ومحمد. فالله لم يكلّم بنفسه محمداً، بل كلّمه، بإذنه ملاك الوحي.

أجل ينسب القرآن تعابير الوحي والتنزيل الى التوراة والإنجيل والقرآن على السواء (آل عمران ٣ ـ ٤)؛ ولكن على طريق المشاكلة، لا على طريق المقابلة؛ فإن تعابير الوحي والتنزيل هي، كما رأينا، من متشابهات القرآن التي لا يُعرف مدلولها إلاّ بالقرائن القرآنية. وكل التصاريح والقرائن القرآنية تشهد بأن الوحي القرآني تنزيل بالواسطة، ومن ملاك الوحي نفسه، باسم الله واذنه. وهذه أدنى طرق الوحي: فكيف يكون معجزاً بالنسبة الى التكليم التوراتي من وراء حجاب؟ وخصوصاً كيف يكون معجزاً بالنسبة الى الكشف الإنجيلي المباشر بدون حجاب؟

فليس الوحي القرآني، من حيث هو تنزيل بالواسطة، وبتصديق القرآن، من الإِعجاز في التنزيل.

ثانياً: التنزيل القرآني بِوَسَط ووسيط

١ـ يصرّح القرآن عن نفسه أنه تنزيل بوسط، لا كلام الله مباشرةً للنبي: ﴿بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ (البروج ٢١ ـ ٢٢). فالقرآن يُنزَّل مباشرة من لوح يصفه أيضاً بكتاب مكنون: ﴿إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلاّ المطهّرون (الواقعة ٧٧ ـ ٧٩). فهو قراءَة لكتاب مكنون، في لوح محفوظ. وهذا الكتاب المكنون، المحفوظ في لوح، يسميه أيضاً أمّ الكتاب: ﴿وانه في أمّ الكتاب لدينا، لعليٌّ حكيم (الزخرف ٤)، ﴿وعنده أمّ الكتاب (الرعد ٣٩).

سنرى في بحث لاحق سر هذه التعابير ومدلولها. يكفينا الآن أن نعلم إن اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، وأمّ الكتاب هي الوَسَط الذي نزل منه القرآن، فهو تنزيل بوَسَط.

٢ـ وهو تنزيل بوسيط. هذا الوسيط في التنزيل القرآني اسمه في مكّة: ﴿رسول كريم (الحاقة، التكوير)، ﴿حكيم عليم (النمل ٦)، ﴿الـروح الأمين (الشعراء ١٩٣)، ﴿روح القدس (النحل ١٠٢).  وظل محمد حتى المدينة، ومجابهة أهل الكتاب، ليعرف أن اسمه جبريل: ﴿قل: من كان عدواً لجبريل؟ فإنه نزّله على قلبك بإذن الله (البقرة ٩٧).

فجبريل يقرأ القرآن على محمد من ﴿كتاب مكنون، ﴿في لوح محفوظ. فهو تنزيل بوسيط ووسط. وتنزيل بوسيط ووسط، هل هو من الإِعجاز في التنزيل؟ إنه لا يرقى الى التكليم المباشر، من وراء حجاب، كما في الوحي التوراتي. ولا يرقى الى التكليم المباشر، بدون حجاب، كما في الوحي الإنجيلي.

ثالثاً: تعدّد الوسائط في الوحي القرآني

عقد السيوطي فصلاً قيّماً في ﴿كيفية إنزاله ٢٤ نرى فيه تعدّد الوسائط في الوحي القرآني. لقد صرّح: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (البقرة)؛ وصرح أيضاً: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر (سورة القدر). فاختلفوا في كيفية انزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال:

﴿أحدها، وهو الأصح الأشهر: إنه نزل الى السماء الدنيا، ليلة القدر، جملة واحدة؛ ثم نزل بعد ذلك منجّماً في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته ﷺ بمكّة بعد البعثة... وعن ابن عباس قال: فُصل القرآن من الذكر، فوضع في بيت العزّة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي ﷺ. أسانيدها كلها صحيحة. ﴿ونزل جبريل على محمد ﷺ بجواب كلام العباد وأحوالهم... ﴿فكان المشركون اذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً... وعن ابن عباس أيضاً: إنه أُنزل في رمضان، في ليلة القدر، جملة واحدة، ثم أُنزل على مواقع النجوم رسْلاً في الشهور والأيام (رسْلاً أي رفقاً. وعلى مواقع النجوم أي على مثل مساقطها).

﴿القول الثاني أنه نزل الى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين؛ في كل ليلة ما يقدّر الله إنزاله في كل السنة، ثم نزل بعد ذلك منجّماً في جميع السنة...

القول الثالث أنه ابتُديء انزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات...

وقد حكى الماوردي (قولاً رابعاً) أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة؛ وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة؛ وأن جبريل نجمه على النبي في عشرين سنة!... (قلتُ) هذا الذي حكاه الماوردي أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك، عن ابن عبّاس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ الى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا. فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة. ونجّمه جبريل على النبي ﷺ عشرين سنة.

وهكذا ففي تنزيل القرآن ثلاثة تنزيلات على ثلاث مراحل، الى ثلاثة مواضع: تنزيل أول جملة واحدة الى بيت العزة في السماء الدنيا، على السفرة الكرام الكاتبين. وتنزيل ثان نجّم فيه السفرة القرآن في عشرين ليلة الى جبريل في مواقع النجوم. وتنزيل ثالث نجّمه فيه جبريل من مواقع النجوم على الأرض الى محمد، في مدة عشرين سنة ونيف. وهم يرون في تعدّد الوسائط والتنزيل جملة فنجوماً، تفخيم أمر التنزيل القرآني والنبوّة. وفاتهم أن تعدّد الوسائط في التنزيل بين الله والنبي ابتعاد بقدرها عن الإِعجاز في التنزيل. فكلما كان النبي في تلقي كلام الله أقرب اليه تعالى كلما زادت كرامة النبوّة والتنزيل. فتعدّد الوسائط في الوحي القرآني يزيده بعداً عن الإِعجاز في التنزيل.

رابعاً: تعارض نزول القرآن جملةً ومفرّقاً

وهم انما قالوا بتعدّد الوسائط في التنزيل القرآني، وفي نزوله جملة فمفرّقاً، للجمع بين تعارض القرآن في تصاريحه عن كيفية انزاله، وللردّ على ادعاء اليهود والمشركين بنزول التوراة جملة.

فالتعارض قائم ما بين تصريح القرآن المتواتر من جهة: ﴿حم. والكتاب المبين، إنّا أنزلناه في ليلة مباركة ـ إنّا كنّا منذرين ـ فيها يُفرق كلُّ أمر حكيم، أمراً من عندنا، إنّا كنا مرسلين (الدخان ١ ـ ٥) ﴿إنّا أنزلناه في ليلة القدر (سورة القدر)؛ ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (البقرة ١٨٥) ـ وتصريحه من جهة أخرى: ﴿وقال الذين كفروا: لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة! ـ كذلك، لنثبّت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً (الفرقان ٣٢)، ﴿وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مُكْث، ونزّلناه تنزيلاً (الإسراء ١٠٦).

فآية الفرقان تؤكد ضمناً بأن القرآن نزل مفرقاً؛ وآية الإسراء تصرّح به، وتشير الى أن أسم ﴿قرآن وفعل ﴿نزّل يدلاّن على النزول مفرقاً. ﴿أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (قالت اليهود: يا أبا القاسم لولا نُزّل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى)؟ فنزلت، وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ (قال المشركون). وأخرج نحوه عن قتادة والسدي. فالقرآن نزل مفرقاً ﴿لنثبت به فؤادك، ﴿وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مُكْث.

وآية (الدخان) وآية (القدر) تجزمان بأن القرآن نزل جملةً في ليلة مباركة هي ليلة القدر، من شهر رمضان.

فالتعارض ظاهر بين نزول القرآن جملة، ونزوله مفرّقاً. وللتخلّص من هذا التعارض قيل بنظرية نزول القرآن جملة الى السماء الدنيا، وتنزيله مفرّقاً على محمد. ولا أساس لهذه النظرية في القرآن؛ والأمر الواقع المشاهد أنه نزل مفرقاً مدة ثلاث وعشرين سنة. والنزول جملة لا يعني القرآن نفسه، بل الأمر بالرسالة، كما تصرّح به آية (الدخان): ﴿إنّا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا؛ إنا كنا مرسِلين. وآية (الشورى) تكشف أن هذا الأمر بالرسالة كان هداية الى الإيمان بالكتاب: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الإيمان، ولا الكتاب، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم (٥٢). فملاك الوحي هداه، ليلةَ القدر، الى الإيمان بالكتاب، وهذا هو الصراط المستقيم. وتؤيد سورةُ القدر سورة الدخان بقولها: ﴿ليلة القدر خير من ألف شهر: تنزَّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (٣ ـ ٤). فقرائن السورتين تدل على ان الضمير في ﴿أنزلناه ليس القرآن، بل الأمر بالإيمان بالكتاب والدعوة له. وهكذا يزول التعارض، وتذوب النظرية القائمة عليه من تنزيل القرآن جملةً ثم مفرّقاً.

وهل نزلت التوراة جملة؟ إن الآية: ﴿وقال الذين كفروا: (لولا نُزّل عليه (القرآن جملة واحدة)؟ ـ كذلك، لنثبت به فؤادك (الفرقان ٣٢) تشير الى ذلك. ﴿فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وانما هو على تقدير ثبوت قول الكفّار. قلتُ: سكوته تعالى عن الردّ عليهم في ذلك، وعدوله الى بيان حكمته دليل على صحته. وينقل السيوطي رأي المفسرين والمحدثين والمتكلمين في نزول التوراة جملة، ويختم بقوله: ﴿فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التوراة جملة.

وهذا الادعاء بنزول التوراة جملة، الذي أثاره اليهود ومن بعدهم المشركون بوجه القرآن، ممّا حمل القرآن على ذكره وعلى الرد عليهم. وبناءً على آية الفرقان (٣٢) في الرد على المشركين، ومن ورائهم اليهود، بنوا رواية نزول القرآن جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا!

وما هو اجماع عندهم بشأن التوراة نفسها، لا يقول به الراسخون في العلم من أهل الكتاب. نقل السيوطي ٢٥ أيضاً إجماعهم: ﴿إن سائر الكتب أُنزلت جملة هو مشهور في كلام العلماء وعلى ألسنتهم حتى كاد أن يكون إجماعاً. وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، وقال: إنه لا دليل، بل الصواب أنها نزلت مفرقة كالقرآن. لم ينزل جملة من التوراة الى موسى سوى الوصايا العشر على لوحين؛ وسائر التوراة نزل مفرقاً، وعلى أجيال.

ونقل أيضاً، في الحكمة بنزول القرآن مفرّقاً: ﴿وانما لم ينزل جملة واحدة لأن منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أُنزل مفرّقاً. ومنه ما هو جواب لسؤال. ومنه ما هو انكار على قول قيل أو فِعل فُعِل. وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس: ﴿ونزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم؛ وفُسِّر به قوله (ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق). أخرجه عنه ابن أبي حاتم.

فهل ينسجم هذا الواقع القرآني المشهود، مع التنزيل من لوح محفوظ؟ إن تنزيل القرآن ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم، مفرّقاً على مقتضى الحال هل هو من الإِعجاز في التنزيل؟ وانما الإِعجاز في التنزيل أن يأتي مبتدئاً من الله.

خامساً: نزول القرآن بحسب الحاجة

أفرد السيوطي، في بحث كيفية انزال القرآن، ﴿فرعاً بنزوله بحسب الحاجة. قال: ﴿فرع. الذي استُقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة، خمس آيات، وعشر آيات وأكثر وأقل. وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة؛ وصح نزول عشر آيات من أول (المؤمنين) جملةً؛ وصح نزول ﴿غير أولي الضرر وحدها وهي بعض آية؛ وكذا قوله ﴿وإن خفتم عيلة إلى آخر الآية نزلت بعد نزول أول الآية، كما حررناه في (أسباب النّزول)، وذلك بعض آية. وأخرج ابن أشته في كتاب (المصاحف) عن عكرمة في قوله ﴿بمواقع النجوم قال: أنزل الله القرآن نجوماً، ثلاث آيات، وأربع آيات، وخمس آيات. وقال النكزاوي في كتاب (الوقف): كان القرآن ينزل مفرّقاً الآية، والآيتين والثلاث والأربع وأكثر من ذلك. وما أخرجه ابن عساكر، من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات. وما أخرجه البيهقي في (الشعب) من طريق أبي خلدة، عن عمر قال: تعلموا القرآن خمس آيات، خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي ﷺ خمساً خمساً. ومن طريق ضعيف عن علي قال: أنزل القرآن خمساً خمساً، إلا سورة الأنعام، ومَن حفظه خمساً لم ينسه. فالجواب: إنّ معناه، إنَّ صح، القاؤه الى النبي ﷺ بهذا القدر حتى يحفظه، ثم يُلقي اليه الباقي، لإنزاله بهذا القدر خاصة. ويوضح ذلك ما أخرجه البيهقي أيضاً عن خالد بن دينار قال: قال لنا أبو العالية: تعلّموا القرآن خمس آيات، خمس آيات، فإن النبي ﷺ كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً.

إن تمييز السيوطي بين الإلقاء الى النبي والانزال سفسطة، لأن الأصل ما يتلقاه النبي من الوحي والتنزيل. وكان يتلقى القرآن الآية والآيتين والثلاث والأربع والخمس؛ وأحياناً عشر آيات معاً؛ وأحياناً بعض آية. وذلك كله ﴿بحسب الحاجة، ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم، ﴿فكان المشركون اذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً. هذا كله على لسان ابن عباس ترجمان القرآن. فهل نزول القرآن آيات متفرقات بحسب الحاجة من الإِعجاز في التنزيل؟ ومن الإِعجاز في النظم والتأليف؟ ومن الإِعجاز في البيان والتبيين؟

سادساً: هل التنزيل القرآني وحيٌ ليلي؟

يُصرّح القرآن عن كيفية إنزاله: ﴿إنّا أنزلناه في ليلة مباركة (الدخان ٣)؛ ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر (القدر ١)؛ ﴿شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن (البقرة ١٨٥). فقد نزل القرآن، على ظاهر قوله، في ليلة مباركة، هي ليلة القدر، من شهر رمضان. هذا قول أهل السنة والجماعة، بحسب ظاهر القرآن. وقد قدمنا رأياً مخالفاً. ولكن اذا أخذنا بحسب ظاهر القرآن، وبحسب رأي أهل السنة والجماعة، ألا يكون تنزيل القرآن وحيـاً ليلياً؟ إن ظاهر الآية ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة (الدخان)، وظاهر الآية، ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر (القدر)، يقطعان بأن الوحي القرآني ليلي. ويؤيده الحديث الصحيح عن عائشة أن أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، بغار حرّاء. وكانت رؤيا منام. وينقل السيوطي ٢٦ ما نزل ليلاً من أحاديث كثيرة: منها آية تحويل القبلة... ومنها أواخر آل عمران... ومنها سورة الأنعام... ومنها سورة مريم... ومنها أول الحج... ومنها آية الاذن في خروج النسوة لحاجتهن... ومنها أول الفتح... ومنها سورة المنافقين... ومنها سورة المرسلات... ومنها المعوذتان. ويختم ﴿بتبنيه: فإن قلت: فما تصنع بحديث جابر مرفوعاً ﴿أصدق الرؤيا ما كان نهاراً، لأن الله خصّني بالوحي نهاراً  أخرجه الحاكم في (تاريخه). قلتُ: هذا الحديث منكر ولا يحتج به.

وقصة الأحداث العظام في السيرة والدعوة كانت وحياً ليليّاً، منها قصة الإسراء: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً (الإسراء ١)، ومنها قصة دخول المسجد الحرام بمكّة: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق: لتدخُلُنّ المسجد الحرام، إن شاء الله (الفتح ٢٧).

وتنزيل يكون ﴿رؤيا بالحق، ﴿ليلاً هل هو من الإِعجاز في التنزيل؟

النتيجة الحاسمة أن الوحي بوسيط ووسط ليس من الإِعجاز في التنزيل.

تلك هي بعض ميزات أخرى للتنزيل القرآني: أكثره رؤيا بالحق ليلاً، ومفرّقاً بحسب الحاجة، يأتي آيات متفرقات على مقتضى الحال، تتعدّد فيها الوسائط، فهو تنزيل بوسيط ووسط. والقول الفصل: إن القرآن وحي بالواسطة، لا تنزيل مباشر من الله. فالله نفسه لم يكلّم محمداً، إنما كلمه بأمره ﴿الروح الأمين. وأدنى طرق الوحي، بنص القرآن القاطع، أن ﴿يرسل رسولاً فيوحيّ بإذنه ما يشاء (الشورى ٥١).

فهل الوحي بالواسطة هو من الإِعجاز في التنزيل؟

بحث تاسع

القرآن ما بين التنزيل والتفصيل

في القرآن نوعان من التصاريح عن مصدره: نوع أول يصرّح بأنه تنزيل ربّ العالمين؛ ونوع آخر يصرّح بأنه ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧)، وفي لغة القرآن ﴿تفصيل يعني التعريب. وقد جمع المصدرين في قوله: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين... وإنه لفي زُبر الأولين: أَولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٧)؛ ﴿بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم (العنكبوت ٤٩). إن علماء بني إسرائيل من النصارى لا يمكنهم ان يطّلعوا على تنزيل نازل من السماء على قلب النبي؛ إنما يقدرون أن يشهدوا لتنزيل يُفصّل من الكتاب آيات بيّنات في صدورهم، ﴿يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم: فالراسخون في العلم هم الشهود العيان في التنزيل القرآني. فهم صلة الوصل بين ﴿تنزيل رب العالمين و﴿زبر الأولين.

هذا ما يكشف لنا سر القرآن ما بين التنزيل والتفصيل.

يقول ابن الخطيب: ﴿كان القرآن أعجمياً وتُرجم الى العربية. قال تعالى: ﴿وانه لفي زُبر الأولين (الشعراء ١٩٦) أي إن هذا لفي كتب المتقدمين (التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب). ولا يخفى أن الكتب المنزلة كان بعضها عبريّاً وبعضها سريانيّاً (نضيف: وبعضها يونانيّاً كالعهد الجديد كله)، وهي لغات أعجمية؛ وقد ترجمها الله تعالى لنا إلى العربية.

وبما أن القرآن تنزيل بالواسطة، فقد يكون تفصيلاً بالواسطة: ﴿لقد آتينا موسى الكتاب: فلا تكن في مرية من لقائه. وجعلناه هدى لبني إسرائيل (النصارى). وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا (السجدة ٢٣ ـ ٢٤). إن الإشارة صريحة: محمد يلتقي بالكتاب المنزل من قبله بواسطة أئمة بني إسرائيل من النصارى؛ لذلك فتنزيل الرحمان الرحيم هو ﴿كتاب فُصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون (فصلت ٣)؛ فهو ﴿كتاب أُحكمت آياته، ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير (هود ١). فما القرآن العربي إلا الكتاب مفصلاً: ﴿أنزل إليكم الكتاب مفصلاً (الأنعام ١١٤)، فهو ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧). فالقرآن العربي تنزيل رب العالمين لأنه تفصيل التنزيل الكتابي.

وها نحن نفصّل ما أجملناه.

أولاً: التنزيل القرآني ومصادره

نستبين معنى التنزيل القرآني من لغته وتصاريحه.

١ـ التصريح المتواتر بأنه ﴿تنزيل رب العالمين (١٩٢:٢٦)، ﴿تنزيل الكتاب (٢:٣٢؛ ١:٣٩؛ ٢:٤٠؛ ٢:٤٥؛ ٢:٤٦)، ﴿تنزيل العزيز الرحيم (٥:٣٦)، ﴿تنزيل من الرحمان الرحيم (٢:٤١)، ﴿تنزيل من حكيم حميد (٤٢:٤١)، ﴿تنزيل من رب العالمين (٨٠:٥٦؛ ٤٣:٦٩)، ﴿تنزيلاً ممن خلق الأرض (٤:٢٠) ـ لا يبَيّن كيفية التنزيل ولا واسطته ولا مصدره. فقد يكون بالواسطة، ومن مصدر كوسط له. فلا يُبنَ على مثل هذه التصاريح الكثيرة حكم.

٢ـ كذلك التصريح المتواتر: ﴿نزَّل عليك الكتاب (٣:٣)، ﴿نزّل الفرقان على عبده (١:٢٥)، ﴿ممّا نزّلنا على عبدنا (٢٣:٢)، ﴿ونزّلنا عليك الكتاب (٨٩:١٦)، ﴿نزّلنا عليك القرآن (٢٣:٧٦)، ﴿وننزّل من القرآن ما هو شفاء (٨٢:١٧)، ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب (٧:٣)، ﴿وأنزل الله عليك الكتاب (١١٣:٤)، ﴿وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً (١١٤:٦)، ﴿أنزل على عبده الكتاب (١:١٨)، ﴿أنزلنا إليك الكتاب (١٠٥:٤؛ ٤٨:٥؛ ٤٧:٢٩؛ ٢:٣٩)، ﴿وأنزلنا إليك الذكر (٤٤:١٦) ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب.. (٦٤:١٦)، ﴿ما أنزلنا عليك القرآن... (٢:٢٠)، ﴿أنزلنا عليك الكتاب (٥١:٢٩؛ ٤١:٣٩)، ﴿شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن (١٨٥:٢)، ﴿كتاب أُنزل إليك (٢٠٧)، ﴿نزّلنا عليك القرآن تنزيلاً (٢٣:٧٦)... لا يبيّن كيفية التنزيل ولا واسطته ولا مصدره.

٣ ـ والظاهرة العامة على مثل تلك التصاريح أن القرآن العربي خبر عن نزول ﴿القرآن على محمد ـ لا هذا ﴿القرآن المعروف نفسه.

ونلاحظ في تلك التصاريح الترادف بين القرآن والكتاب والذكر والفرقان. وهذا الترادف عنوان انتساب القرآن الى الكتاب المنزل قبله: ﴿هذا ذكر من معي وذكر من قبلي.

٤ ـ ليس تنزيل القرآن من السماء، بدليل قوله: ﴿... أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً نقرأه ـ قلْ: سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً (الإسراء ٩٣). كان هذا التحدي من المشركين، ومن اليهود أيضاً: ﴿يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء (مثل ألواح التوراة) ـ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا: أرنا الله جهرة! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم (النساء ١٥٣). فليس القرآن كتاباً منزلاً من السماء؛ إنما سرّ تنزيله في غير اتجاه.

٥ ـ يقول إن مصدره في لوح محفوظ: ﴿بل الذين كفروا في تكذيب! ـ والله من ورائهم محيط؛ بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ (البروج ١٩ ـ ٢٢). يُخبر بأن ما يدعو اليه ﴿هو قرآن مجيد محفوظ في لوح: فالقرآن العربي خبر عن هذا القرآن المجيد المحفوظ في لوح. ولا شيء في الآيات يشير الى المكان حيث اللوح محفوظ.

ويقول: ﴿فلا! أقسم بمواقع النجوم ـ وإنّه لقسم، لو تعلمون، عظيم ـ إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون: تنزيل من رب العالمين (الواقعة ٧٥ ـ ٨٠) هنا يصير اللوح المحفوظ كتاباً مكنوناً. والقرآن العربي يخبر عن ﴿قرآن كريم، في كتاب مكنون... تنزيل من رب العالمين: فالتنزيل من رب العالمين هو ﴿قرآن كريم في كتاب مكنون. فهل في الآيات من إشارة الى مكان الكتاب المكنون؟ رآها بعضهم في ﴿مواقع النجوم فخرقوا رواية تنزيل القرآن الى ﴿مواقع النجوم في السماء الدنيا. ولكن ليس من تطهير عند الملائكة حتى نرى فيهم ﴿المطهّرين! إن التطهير من ضرورات الدين للبشر؛ فقوله: ﴿لا يمسّه إلاّ المطهّرون فيه إشارة إلى أهل الأرض الذين عندهم كتاب الله محفوظاً لا يمسه إلاّ المطهّرون منهم، المطهّرون من الشرك ومن النجاسات ومن الذنوب. وأهل الكتاب كانوا يحفظون كتاب الله في مكان مقدّس، ولا يمسه منهم إلاّ المطهّرون. فالقرآن العربي يخبر أن مصدره ﴿قرآن كريم، في كتاب مكنون، محفوظ بعيداً عن غير المطهّرين من أهل الأرض.

ويقول: ﴿كلاّ! إنها تذكرةٌ، فمن شاء ذكرهُ، في صحف مكرّمةٍ، مرفوعة مطهّرةٍ، بأيدي سفرةٍ، كرامٍ بَرَرةٍ (عبس ١١ ـ ١٦). هنا يصير اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون صحفاً مكرمة. وهذه الصحف ﴿مرفوعة مطهّرة: وليس في السماء نَجَسٌ حتى يكون فيها ﴿صحف مرفوعة مطهّرة عن مسّ كل مَن به نَجَس. فالنجاسة التي تمنع من مسّ كتاب الله في صحفه هي من صفات أهل الأرض. وليس أهل السماء، وهم في نور الله، بحاجة الى صحف، ولا إلى سَفرَة يكتبون: فكل هذا من ضرورات أهل الأرض. فالقرآن المجيد الذي يدعو اليه القرآن العربي، هو كتاب مكنون على الأرض، ﴿في صحف مطهّرة، بأيدي سفرة كرام بررة، كما يطالبه اليهود ﴿بالبيّنة: رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة (البيّنة ٢ ـ ٣) هذه هي الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة.

ويقول: ﴿لكل أجل كتاب: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب (الرعد ٣٨ ـ ٣٩). لان ﴿عنـد الله هـو في السماوات والأرض: فليس مخصوصـاً بالسماء؛ بل ﴿عند الله يكون أيضاً على الأرض، حيث ﴿كتاب الله (٧٥:٨؛ ٣٦:٩؛ ٥٦:٣٠؛ ٦:٣٣) محفوظ يتلونه (٢٩:٣٥) ويدعون إليه (٢٣:٣)، ﴿بما استُحفظوا من كتاب الله (٤٤:٥)، وإنْ ﴿نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتـاب الله وراء ظهورهم (١٠١:٢). إن ﴿أمّ الكتاب أي أصله ومصدره ﴿عند الله على الأرض، اليه يرجع، وبه يتحدّى: ﴿قلْ: فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين (القصص ٤٩). فالقرآن العربي ينتسب الى كتاب الله الذي عند أهل الكتاب، حيث ﴿أم الكتاب في كتاب مكنون، على لوح محفوظ في صحف مطهّرة، بأيدي سفرة بررة. فلا شيء يشير الى صلة مباشرة بالسماء.

٦ ـ لا يذكر القرآن العربي لنبيّه من صلة بملاك الوحي سوى مرّة أو مرّتين. والقرآن العربي كله ينتسب الى هذه الرؤيا الوحيدة التي تصفها سورة (النجم)، وهي أول سورة أعلنها رسول الله، لذلك فيها مصدر رسالته ودعوته:

﴿والنجم إذا هوى .. ما ضلّ صاحبكم وما غوى

وما ينطق عن الهوى .. إن هو إلا وحي يُوحى

علّمه شديد القوى .. ذو مرة فاستوى

وهو بالأفق الأعلى .. ثم دنا فتدلى

فكان قاب قوسين أو أدنى .. فأوحى إلى عبده ما أوحى

ما كذب الفؤادُ ما رأى .. أفتمرونه على ما يرى

ولقد رآه نزلة أخرى .. عند سدرة المنتهى

عندها جنة المأوى .. إذ يغشى السدرة ما يغشى

ما زاغ البصر وما طغى .. لقد رأى من آيات ربه الكبرى (النجم ١ ـ ١٨).

هذا هو النظم القرآني في أصالته. وهو رباعيات أرامية تصير ثنائيات عربية في ميزان القريض العربي من صدر وعجز. وفي هذا النظم كان خرْق العادة العربية.

إن سورة النجم تصف رؤيا محمد لملاك الوحي بغار حرّاء. وهي الرؤيا الوحيدة التي يذكرها القرآن العربي كله. وفيها ﴿أوحى الى عبده ما أوحى... لقد رأى من آيات ربه الكبرى.

وما أجملته سورة النجم فصّلته سورة الشورى عند ذكر طرق الوحي الرباني وموقف محمد ونصيبه منها:

﴿وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراء حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (الشورى ٥١ ـ ٥٣).

ففي غار حرّاء أرسل الله الى محمد في حال وحي اليه ﴿روحاً من أمرنا أي ملاكاً مخلوقاً (لا الروح غير المخلوق). وملاك الوحي هدى محمداً الى الإيمان بالكتاب والدعوة له. هذا كل ما في الأمر.

نرى مصداق ذلك في السورة نفسها: ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه... وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم (الشورى ١٣ و ١٥). فالقرآن العربي يدعو الى دين موسى وعيسى ديناً واحداً، وهذا هو العدل الذي معه. أو كما يقول مراراً: ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة، (أي التوراة والإنجيل معاً) (البقرة ١٢٩و ١٥١؛ آل عمران ١٦٤؛ الجمعة ٢). ﴿لا نفرّق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون (البقرة ٢٨٥ و ١٣٦؛ آل عمران ٨٤؛ النساء ١٥٢). هذه هي الطريقة والشريعة من أمر الدين التي وضعه عليها ملاك الوحي في غار حرّاء (الجاثية ١٨).

فليس في رؤيا محمد من تنزيل جديد. إنما هي هداية الى التنزيل الوحيد في كتاب الله، والأمر بالدعوة اليه على طريقة مخصوصة بالجمع بين موسى وعيسى معاً والكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل معاً. وهي طريقة النصارى من بني إسرائيل.

فالوحي الوحيد الذي ناله محمد في رؤيا الوحيدة نزلتين هو الأمر بأن يكون من المسلمين النصارى وأن يتلو معهم قرآن الكتاب: ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢): فالمسلمون موجودون قبل محمد وهو ينضم اليهم بأمر الله ويتلو معهم كتاب الله على طريقتهم.

٧ ـ هذا هو ﴿القرآن الذي نزل على محمد في غار حرّاء: إنه أمر بالهداية الى الإيمان بالكتاب (الشورى ٥٢)، وأمر بالانضمام الى النصارى المسلمين (النمل ٩١)، وأمر بالرسالة والدعوة الى كتاب الله الذي معهم وعلى طريقتهم: ﴿حم، والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا: إنّا كنا مرسِلين (الدخان ١ ـ ٥).

فالأمر بالرسالة والدعوة لكتاب الله المنزل من قبله هو الخبر العظيم الذي يردّده القرآن العربي في انتسابه الدائم الى الكتاب وأهله المسلمين المقسطين: ﴿وأمرتُ أن أكون منالمسلمين وأن اتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢)، ﴿وأمرتُ أن أكون من المؤمنين (يونس ١٠٤)، ﴿قلْ: إني أمرتُ أن اعبد الله مخلصاً له الدين، وأُمرت لأن أكون أول المسلمين (الزمر ١١ ـ ١٢) ـ أُمِر في رؤيا غار حرّاء أن ينضم الى المسلمين ﴿النصارى، وأن يتزعّم دعوتهم ـ ﴿قلْ: إني أمرتُ أن أكون أوّل مَن أسلم، ولا تكونَنَّ من المشركين (الأنعام ١٤)، ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام ١٦١ ـ ١٦٣). إن الصراط المستقيم، والدين القيّم، وملّة إبراهيم حنيفاً هي أن يكون من المسلمين؛ لذلك هداه ربه في رؤيا غار حرّاء؛ وبذلك أُمر، بتزعّم الدعوة الى إسلام ﴿النصارى المسلمين المقسطين. هذا الأمر المتواتر هو القرآن والتنزيل والذكر والكتاب الذي أُنزل عليه في ليلة مباركة (الدخان) هي ليلة القدر (سورة القدر) من شهر رمضان (البقرة). أُمر بالهداية الى الإيمان بكتاب الله (الشورى ٥٢) وأُمر بالدعوة له مع ﴿النصارى المسلمين (النمل ٩١ ـ ٩٢) وأُمِر بتزعّم الحركة ﴿النصرانية الإسلامية في مكّة والحجاز بعد موت زعيمها ورقة بن نوفل استاذه الى هذه الرسالة. تلك هي رسالته ونبوته التي تلقاها من ملاك الوحي في غار حرّاء: ﴿حم. والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا: إنّا كنا مرسلين (الدخان ١ ـ ٥).

فليس من تنزيل جديد في القرآن العربي؛ انما هو نقل التنزيل الكتابي ﴿بلسان عربي مبين. وقد جمع رسالته كلها وقرآنه كله في قوله: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين؛ وانه لفي زبرُ الأولين: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٧). يصرّح بأن تنزيل رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد هو في زبر الأولين أي ﴿كتبهم كالتوراة والإنجيل (الجلالان)، ويشهد بذلك علماء بني إسرائيل، وشهادتهم آية لهم. فالروح الأمين نزل على قلبه بتنزيل التوراة والإنجيل معاً، وهذا ما يسميه هداية الى الإيمان بالكتاب (الشورى ٥٢) ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، لأنه ﴿ولو نزَّلناه على بعض الأعجمين قرأه عليهم، ما كانوا به مؤمنين (الشعراء ١٩٨ ـ ١٩٩).

فالقرآن العربي من تنزيل الكتاب لأنه ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧).

ثانياً: القرآن العربي هو ﴿تفصيل الكتاب للعرب

إن تعبير (التنزيل) في لغة القرآن متشابه، لا يُعرف معناه إلاّ بالقرائن القرآنية المحكمة. وما يسميه تنزيلاً يصفه بأنه ﴿تفصيل الكتاب المنزل قبله، و﴿تصريف آياته، و﴿تيسيره قرآناً عربياً، و﴿تبيان ما نُزّل من قبل.

١ ـ فهو يصرّح أولاً بأن القرآن العربي، انما هو تنزيل الرحمان الرحيم، لأنه من كتاب الله الموجود قبله، وفيه؛ فالقرآن ينتسب الى الكتاب نسبة مصدرية:

يقول: ﴿إِن هذا (القرآن) لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى (الأعلى ١٨ ـ ١٩)؛ ﴿أم لم يُنبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الـذي وفّى... وأن الى ربك المنتهى (النجم ٣٦ ـ ٤٢). ففي سورة النجم، بعد أن ذكر قصة رؤياه في غار حرّاء، يصرح بمصدر دعوته في صحف إبراهيم وموسى وعيسى ـ ﴿وقالوا: لولا يآتينا بآية من ربه؟ ـ أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى (طه ١٣٣). فالقرآن الذي نزل عليه (طه ١) انما هو ﴿بيّنة ما في الصحف الأولى. فليس من تنزيل جديد، ولا من تنزيل من السماء؛ انما هو بيان ما في تنزيل الصحف الأولى. بذلك يردُ على المشركين المكذبين: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً، كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (المدثر ٤٩ ـ ٥٥). فليس القرآن العربي صحفاً مقدسة منشرة، بل هو تذكرة منها. وبذلك يردّ على أهل الكتاب من اليهود: ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب (اليهود) والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة: رسول من الله يتلو صحفاً مطهّرة فيها كتب قيّمة ـ وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب (من اليهود) إلاّ من بعد ما جاءَتهم البيّنة (البيّنة ١ ـ ٤) لأن القرآن ﴿بيّنة ما في الصحف الأولى (طه ١٣٣).

ويقول: ﴿إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً، وانْ من أمة إلاّ خلا فيها نذير، وإن يكذّبوك فقد كذّب الذين من قبلهم جاءَتهم رسلهم بالبيّنات والزُبرُ والكتاب المنير (فاطر ٢٤ ـ ٢٥). فالعرب المشركون يكذبون محمداً كما كذّب اليهود رسلهم، وبيّنات موسى، وزبور داود، والكتاب المنير لعيسى المسيح. لكن النصارى من بني إسرائيل لم يكذبوا عيسى، ولا هم يكذبون محمداً؛ لذلك يستشهد بهم: ﴿فاسألوا أهل الذكر؛ إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر (النحل ٤٣ ـ ٤٤). ويستعلي على المشركين بتلك الزبر: ﴿أم لكم براءَة في الزبر (القمر ٤٣) لأن ﴿كل شيء فعلوه في الزبر (القمر ٥٢). ويندّد بأهل الكتاب الذين اختلفوا في المسيح: ﴿فقطّعوا أمرهم بينهم زبراً، كل حزب بما لديهم فرحون (المؤمنون ٥٣) ﴿فآمنت طائفة من بني إسرائيل (النصارى) وكفرت طائفة (اليهود): فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين (الصف ١٤). فالقرآن ينتسب دائماً الى زبر الأولين، وما هو تنزيل إلاّ لأنه منها وفيها: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين... وإنه لفي زبر الأولين (الشعراء ١٩٢ و ١٩٦).

وهكذا فما محمد إلا ﴿نذير من النذر الأولى (النجم ٥٦) ينذر العرب، في القرآن، بالنذر الأولى.

٢ ـ فما القرآن العربي سوى ﴿تفصيل الكتاب بلسان عربي مبين ما يصفه عامةً بالتنزيل في القرآن العربي، يسميه على التخصيص تفصيلاً: ﴿ما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق الـذي بين يديه (قبله)، وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين (يونس ٣٧). هذا هو التعريف الحق، والقول الفصل في القرآن العربي: إنه ﴿تفصيل الكتاب، لا الكتاب الذي في السماء، بل الكتاب الذي من قبله، فهو ﴿تصديق الذي بين يديه. والتفصيل في لغته يعني التعريب، بحسب قوله: ﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا: لولا فُصّلت آياته (فصلت ٤٤).

فالتنزيل في القرآن يعني ﴿تفصيل الكتاب فيه: ﴿أفغير الله أبتغي حَكَماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً؛ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، فلا تكونَنَّ من الممترين! وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته، وهو السميع العليم (الأنعام ١١٤ ـ ١١٥). هذا هو تحديد كيفية التفصيل والتعريب: إن القرآن العربي منزّل من ربك بالحق لأنه ﴿الكتاب مفصلاً، بكل صدق وعدل، لا مبدّل لكلماته؛ ويشهد أهل الكتـاب على صحة التنزيل في صحة التفصيل والتعريب. فالقرآن تنزيل لأنه ﴿تفصيل الكتاب. لذلك ﴿ما كان حديثاً يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (يوسف ١١١).

فهذه هي قصة التنزيل الرباني: ﴿حم. تنزيل من الرحمان الرحيم: كتابٌ فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون (فصلت ١ ـ ٣). هذا هو التعريف الفصل في القرآن العربي: إن تنزيل الرحمان الرحيم هو في الكتاب، وقد ﴿فُصّلت أي عُرّبت آياته قرآناً عربياً. وقوله: ﴿لقوم يعلمون فيه سرٌ لطيف؛ إن أولي العلم، القوم الذين يعلمون، هم أهل الكتاب، والمقسطين منهم هم النصارى من بني إسرائيل؛ لذلك كان تعريب الكتاب أولاً لهم كما فعل قس مكّة ورقة بن نوفل، ومحمد من بعده يبلّغه الى العرب، ﴿وقد شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠). فمثل القرآن عند النصارى من بني إسرائيل. وهـو ﴿كتاب أحكمت آياته ـ ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير (هود ١)؛ لذك ما كان لمحمد نفسه أن يشك من مطابقة القرآن العربي ﴿للمثل الذي عند النصارى من بني إسرائيل: ﴿أفمن كان على بيّنة من ربه ـ ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ـ أولئك يؤمنون به؛ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده؛ فلا تكُ في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (هود ١٧). إن شاهداً من قِبَل الله يتلو ﴿مثل القرآن على محمد، ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً، ﴿فلا تك في مرية منه، لأن أهل الكتاب المقسطين هم على بيّنة من ربهم، وهم يؤمنون به، فآمن على إيمانهم.

إن كتاب الله قد فصلت آياته قرآناً عربياً. لذلك فما القرآن العربي سوى ﴿تفصيل الكتاب بلسان عربي مبين. وهو يقسم بالكتاب نفسه أنه جعله قرآناً عربياً: ﴿حم. والكتاب المبين: إنا جعلناه (الكتاب) قرآناً عربياً ألعلّكم تعقلون (الزخرف ١:١ ـ ٣). هذا هو تحديد التفصيل والتعريب.

٣ ـ القرآن العربي ﴿تصريف آيات الكتاب، بعد الدرس

يقول: ﴿انظر كيف نصرّف الآيات، ثم هم يصدِفون (الأنعام ٤٦)، ﴿انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون (الأنعام ٦٥)؛ ﴿وكذلك نصرّف الآيات ـ وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون (الأنعام ١٠٥). يقول ﴿بتصريف الكتاب قرآناً عربياً، فيردون عليه، ويقولون: ﴿درست كتب الماضين وجئت بهذا منها (الجلالان). فردّ على تهمة الدرس بقوله: ﴿ولنبيّنه لقوم يعلمون؛ فسكوته عن الردّ عليم في ذلك، وعدوله الى بيان حكمة الدرس دليل على صحته. فقد درس محمد الكتاب، وهو يصرّف آياته في القرآن العربي.

ويقول: ﴿تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً (الفرقان ١). وكان هذا التنزيل بالتصريف: ﴿ولقد صرّفناه بينهم ليذّكّروا، فأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً (الفرقان ٥٠) فالتنزيل يعني التصريف في لغته: ﴿وكذلك، أنزلناه قرآناً عربياً وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتّقون، أو يُحدث لهم ذكراً (طه ١١٣)، ﴿ولقد صرّفنا في هـذا القرآن ليذّكّروا، وما يزيدهم إلا نفوراً (الإسراء ٤١)؛ ﴿ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، وكان الانسان أكثر شيء جدلاً (الكهف ٥٤). لقد درس محمد الكتاب وصرّفه وفصله قرآناً عربياً، أو فصّله له ﴿حكيمٌ خبير. فالتصريف، في لغته، مرادف للتفصيل أي للتعريب.

٤ ـالقرآن العربي هو ﴿تيسير الكتاب بلسان محمد

في سورة مريم يقول: ﴿واذكر في الكتاب مريم (١٦)، ﴿واذكر في الكتاب إبراهيم (٤١)، ﴿واذكر في الكتاب اسماعيل (٥٤)، ﴿واذكر في الكتاب ادريس (٥٦): ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيّين من ذرية آدم، وممن حملنا مع نوح، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وممّن هدينا واجتبينا، إذا تُتلى عليهم آيات الرحمان خرّوا سُجّدا وبُكيّا (٥٨). ويختم بقوله: ﴿فإنما يسّرناه بلسانك لتبشّر به المتّقين، وتنذر به قوما لُدّا (٩٧). فالقرآن العربي تيسير الكتاب المقدس بلسان محمد، بحسب ﴿المِثـْل الذي مع النصارى من بني إسرائيل (الأحقاف ١٠). والكتاب هو الذكر وهو القرآن على الإطلاق؛ وما القرآن العربي سوى تيسير القرآن العظيم: ﴿ولقد يسّرنا القرآن للذكر، فهل من مذّكر (القمر ١٧و٢٢و٣٢ و٤٠). ومنذ رؤيا غار حرّاء، في تلك الليلة المباركة، أمر ملاك الوحي محمداً بتيسير الكتاب المُبين بلسانه العربي المُبين: ﴿حم. والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا: إنّا كنا مرسلين (الدخان ١ـ ٥)، ﴿فإنّما يسّرناه بلسانك لعلّهم يتذكّرون (الدخان ٥٨).

فرسالة محمد هي تيسير الكتاب المبين باللسان العربي.

٥ ـ القرآن العربي هو ﴿بيان الكتاب بلسان عربي

يتحدّى المشركون الذين لا يعلمون، واليهود الذين من قبلهم، محمداً بآية، فيُجيب أن آيته بيان آيات الكتاب لأنه بشير ونذير، لا نبي بمعجزة: ﴿وقال الذين لا يعلمون: لولا يكلمنا الله أو تآتينا آية؟ ـ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم! قد بيّنا الآيات لقوم يوقنون! إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً، ولا تُسْأل عن أصحاب الجحيم (البقرة ١١٨ ـ ١١٩).

ومن صفات النبي أن يُرْسَل بلسان قومه: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم (إبراهيم ٤). ورسالة محمد أن يبيّن للعرب ما نُزِّل من قبله بلسانهم: ﴿وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي اليهم: فاسألوا أهل الـذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزُبر! وأنزلنا إليك الذكر، لتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم، ولعلّهم يتفكّرون (النحل ٤٣ ـ ٤٤). إن الذكر الإلهي لواحدٌ، وهو أولاً عند أهل الذكر، فهم أهله من دون الناس أجمعين؛ ثم نزل هذا الذكر ـ لاحظ التعبير المطلق في قوله: ﴿وأنزلنا إليك الذكر ـ الى محمد ـ لتبيّن للناس (العرب) ما نُزِّل اليهم من قبل. فالقرآن العربي هو ﴿بيان الذكر الذي عند أهل الذكر للعرب بلسان عربي.

ومن رسالته أيضاً أن يُبيّن لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه، على هدى القوم المؤمنين، أولي العلم المقسطين، النصارى من بني إسرائيل المسلمين: ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب (فهو واحد عنده ومع مَن قبله) إلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (النحل ٦٤). فالقرآن العربي هو أيضاً ﴿بيان الكتاب لأهل الكتاب الذين اختلفوا فيه الى يهود ومسيحيين، على هدى النصارى من بني إسرائيل، القوم المؤمنين ﴿الذين يتلونه (الكتاب) حقَّ تلاوته (البقرة ١٢١).

٦ ـ في القرآن على محمد أن ﴿يقتدي بهدى الكتاب وأهله المقسطين

يذكر الأنبياء جميعهم من نوح الى عيسى، ﴿ومن آبائهم وذريتهم واخوانهم؛ واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم ـ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده (الأنعام ٨٤ ـ ٨٨). ثم يقول: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحُكم (الحكمة) والنبوّة ـ فإن يكفر بها هؤلاء، فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ـ أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدِه (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠). إِن هدى الله هو عند أهل الكتاب ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة؛ لاحظ تعبير ﴿الحُكم أي الحكمة، وقد استخدم بحرفه العبري والأرامي زيادة في الانتساب اليهم والى لغتهم. والحكمة في التعبير المتواتر ﴿الكتاب والحكمة هي الإنجيل. فهدى الله هو عند الذين يقيمون التوراة والإنجيل معاً بدون تفريق بينهما، وهم النصارى من بني إسرائيل. فعلى محمد أن ﴿يقتدي في القرآن العربي بهداهم. فليس هدى القرآن العربي نازلاً من السماء مباشرة، بل هو من هدى النصارى من بني إسرائيل ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة معاً. والأمر لمحمد أن ﴿يقتدي بهداهم برهان على أن هداه من هداهم، والتنزيل اليه من تنزيلهم؛ فلو كان من السماء مباشرة لَمَا صحّ لهذا الأمر من معنى.

٧ ـ القرآن يشهد للاسلام بشهادة أولي العلم المقسطين

منذ رؤيا غار حرّاء جاءَه الأمر أن ينضمّ الى المسلمين من قبله، وأن يتلو قرآن الكتاب على طريقهم: ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢). فإسلام المسلمين من قبله هو القرآن كله. وهذا الإسلام هو الدين عند الله. بذلك يشهد الله وملائكته ﴿وأولو العلم قائماً بالقسط ـ وأولو العلم مرادف لأهل الذكر، وأهل الكتاب. لكنه يقسمهم الى طائفتين: المقسطين منهم وهم النصارى من بني إسرائيل، والظالمين وهم اليهود (العنكبوت ٤٦). فالقرآن يشهد بشهادة هـؤلاء النصارى ﴿أن الـدين عند الله الإسلام: ﴿شهد الله أن لا إله إلاّ هو، والملائكة، وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم ـ أن ٢٧ الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩).

قالوا إن آخر آية عهداً بالعرش آيةُ الدين هذه، فهي آخر ما نزل على محمد. لكن القرآن يشهد أن آية الدين هي شهادة النصارى الإسرائيليين، وشهادتهم للاسلام من شهادة الله وملائكته.

ولذلك اختلف أهل الكتاب من اليهود بعد ﴿العلم الذي جاءَهم به المسيح في الإنجيل؛ وأخذوا يقتلون النصارى المقسطين بسبب شهادتهم بالإسلام النصراني، كما كانوا يقتلون النبيّين بغير حق: ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب (اليهود) إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم، بغيّاَ بينهم! ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب... إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيّين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فبشّرهم بعذاب أليم (آل عمران ١٩ و ٢١).

إن النصارى من بني إسرائيل يشهدون مع الله وملائكته أن الدين عند الله الإسلام؛ ويأمرون الناس بالقسط؛ فهم أولو العلم قائماً بالقسط؛ لذلك يقتلهم بنو قومهم اليهود، فيموتون شهداء الإسلام الذي له يشهدون. والقرآن كله يشهد بشهادتهم: فهو تنزيل من تنزيلهم.

والقرآن تأييد لهؤلاء النصارى من بني إسرائيل حتى ظهورهم على عدوّهم اليهود: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، كما قال عيسى، ابن مريم، للحواريين: مَن أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل، وكفرت طائفة: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين بالحجاز والجزيرة (الصف ١٤). فالقرآن يشهد للاسلام بشهادة النصارى من بني إسرائيل، أولي العلم المقسطين؛ ويؤيّد دعوتهم، وينتصر لهم على عدوهم. فالدعوة القرآنية دعوة ﴿نصرانية. النتيجة الحاسمة: إن التنزيل يعني في اصطلاحه ﴿التفصيل.

هذا هو التنزيل القرآني، بتعابيره المتشابهة. ويصرّح بتواتر إن هذا التنزيل القرآني إنما هو ﴿تفصيل الكتاب وتصريفه وتيسيره وبيانه للعرب، على طريقة النصارى من بني إسرائيل، ﴿الذي يتلونه حقَّ تلاوته، ويشهدون مع الله وملائكته بالإسلام، فيشهد به معهم محمد بالقرآن العربي، فقد ﴿أُمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢) على ﴿المثل الذي معهم: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠). فتنزيل القرآن هو ﴿تفصيل الكتاب. ويسمى القرآن العربي نفسه تنزيلاً لأنه تفصيل التنزيل عن ﴿مثله الذي عند النصارى من بني إسرائيل. وتنزيل هو ﴿تفصيل التنزيل الكتابي، هل يكون من الإِعجاز بذاته في التنزيل؟

بحث عاشر

التنزيل ما بين القرآن والإنجيل

نختم هذا الفصل ببحث التنزيل ما بين القرآن والإنجيل، على هدى القرآن والإنجيل. نرى فيه مدى التفاوت الواسع ما بين التنزيل القرآني والتنزيل الإنجيلي.

أولاً ـ يجزم القرآن عن نفسه أنه تنزيل بالواسطة: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين (الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤)؛ ﴿قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق (النحل ١٠٢). وبمـا أنه تنزيل بالواسطة فهـو كلام الملاك باسم الله لا كلام الله مباشرة: ﴿يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء (الشورى ٥١).

أمّا الإنجيل فهو وحي مباشر من الله، بدون وسيط، ولا حجاب؛ فهو كلام الله نفسه. وبحسب الإنجيل إنه كشف من الله بالمشاهدة العيان. فالسيد المسيح، في الإنجيل والقرآن هو ﴿كلمة الله، من ذاته؛ فكأن كلام الله صار فيه ﴿كلمة الله ذاته: فالوحي والذات فيه واحد.

ثانياً ـ إن التنزيل القرآني من وَسَطٍ قائم بين الله وبين نبيّه: فهـو على ﴿لوح محفوظ، في ﴿كتاب مكنون، ضمن ﴿صحف مطهّرة، بأيدي سفرة، كرام برَرة.

أمّا بين الله ومسيحه فليس من وسيط ولا وَسَط، ولا كتاب ولا حجاب: ﴿إننا نشهد بما شاهدنا يقول كلمة الله النازل من ذات الله (يوحنا ١١:٣).

ثالثاً ـ بحسب الحديث المتواتر المشهور كان جبريل يعارض القرآن كل سنة في رمضان مع محمد. وهذه العرْضات السنوية للقرآن تدل حتماً على تنقيحه.

أما الإنجيل، فليس في القرآن والإنجيل، ولا في الأخبار والآثار، من عرْض له على مخلوق؛ فهو ليس بحاجة الى تنقيح.

رابعاً ـ كان القرآن، على ما يقولون وكما هو المشاهَد فيه، ينزل بحسب الحاجة الطارئة، ﴿نزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم (عن ابن عباس)، على مقتضى الحال، كما يصرّح: ﴿ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً (الفرقان ٣٣) فكأن جبريل يتبارى مع العرب في الإِعجاز والبيان.

أما الإنجيل، وإن جاء فيه بجواب كلام العباد وأعمالهم أحيانا، فهو ينزل مبتدِئاً بكشف من الله، وتشريع يفرضه فرضاً على العباد بحسب مقتضى الحال والمآل.

لمّا نزلت في القرآن آية المحاسبة على الوسوسة (البقرة ٢٨٤) قالوا لمحمد: نزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، فنسخها للحال. ولمّا نسخ السيد المسيح الطلاق وتعدد الزوجات بحسب شريعة موسى، استنكر ذلك صحابته قبل غيرهم، فقال لهم: ﴿مَن استطاع أن يحتمل فليحتمل (متى ١:١٩ ـ ١٢).

خامساً ـ في التنزيل القرآني ناسخ ومنسوخ في آيه. وقد رفع جبريل في العرضة الأخيرة، على ما يقولون، كثيراً من المنسوخ. وعند جمع القرآن أسقط عثمان المنسوخ الباقي الذي أثبته علي في مصحفه. وبقي في المصحف العثماني ناسخ ومنسوخ يؤلفون فيه الكتب الى اليوم.

أما الوحي الإنجيلي فليس فيه ناسخ ومنسوخ. وليس من شاهد في الإنجيل، ولا في الأخبار والآثار، على شيء من ذلك. فقد نزل الإنجيل بالوحي مبتدئاً محكماً.

سادساً ـ يقسم القرآن التنزيل فيه الى محكم ومتشابه: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات، هنّ أمّ الكتاب؛ وأُخر متشابهات (آل عمران ٧). والمتشابهات أكثر القرآن؛ فكأنهنّ من المهملات، أو من الوسائل التدعيمية.

ولا ينص الإنجيل على أن فيه ﴿آيات محكمات وأخر متشابهات. فكله محكم. قد يفصّل الإنجيل بعضه بعضاً ويفسّر بعضه بعضاً؟ ولكن ليس فيه آيات متشابهات يجب الرجوع فيها الى المحكمات لبيان مدلولها ومعانيها. فآيات الإنجيل كلها محكمات.

سابعاً ـ حديث صحيح نقله واحد وعشرون صحابيّاً ٢٨ : ﴿إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ. واختلفوا في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً، لما فيه من شبهات على صحة التنزيل وصحة الحفظ وصحة الإِعجاز. لكن أكثر العلماء على تفسير الطبري أنه ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني أي سبعة نصوص أو سبعة قرائين. يقول الطبري ٢٩ : ﴿فإن قال قائل: ما بال الأحرف الستة غير موجودة؟ إن كان الأمر على ما وصفت أو قد أقرّهن رسول الله ﷺ، وأمر بالقراءَة بهنّ الأمة، وهي مأمورة بحفظها، فلذلك تضييع ما قد أُمروا بحفظه؟ أم ما القصة في ذلك؟ ـ قيل له: لم تُنسخ فترفع؛ ولا ضيّعتها الأمة؛ ولكن الأمة أُمرت بحفظ القرآن، وخُيّرت في قراءته وحفظه بأيّ تلك الأحرف شاءت. فرأت، لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد، قراءَته بحرف واحد، ورفض القراءَة بالأحرف الستة الباقية (٥٩:١). والعلة الموجبة كانت اختلاف الأمة المبكر على نص القرآن، واقتتال الغلمان في المدارس، والجيوش في ساحات القتال (٦٢:١). ثم ﴿إن الأحرف الستة الأخر أسقطها عثمان ومنع من تلاوتها (٦٦:١) وأتلفها بالحديد والنار. فحفظ القرآن على حرف أي نص واحد ليس بمعجزة في الحفظ ولا في الأمانة لتنزيل الله.

ودوّن صحابة المسيح الإنجيل على أربعة أحرف: الإنجيل بحسب متى، وبحسب مرقس، وبحسب لوقا، وبحسب يوحنا. وحفظها المسيحيون جميعاً، لأنهم لم يختلفوا فيها ولم يقتتلوا عليها، مع تفرّقهم طوائف وشيعاً. ثم رأى بعض المسيحيين من التابعين كتابة أحاديث وردت عن صحابة المسيح وآل بيته، فوضعوها وسمّوها أناجيل، ونحلوها الى رسل المسيح، فسمّيت ﴿الاناجيل المنحولة. وهذه أيضاً لم يتلفها المسيحيون لأنهم لم يخشوا منها على ﴿الاناجيل الأربعة الصحيحة.

وهكذا نزل القرآن على سبعة أحرف أتلف صحابة محمد منها ستة!

ونزل الإنجيل على أربعة أحرف فحفظها صحابة المسيح جميعاً!

ففي تلك المقارنات السبع في التنزيل، ما بين القرآن والإنجيل، أين هو الإِعجاز الإلهي الحق في التنزيل؟

خاتمة

شبهات عشر على الإِعجاز في التنزيل

تلك أبحاث عشرة في التنزيل القرآني.

أجل إن في القرآن إِعجازاً. لكن الإِعجاز الأول للتحدي ليس الإِعجاز في اللفظ والنظم والبيان. إنما الإِعجاز الحق والأوّل للتحدي هو الإِعجاز في التنزيل.

وتنزيل متشابه في لغته: تنزيل مخلوق في حرفه (والحرف موضوع التحدي بإِعجازه)؛ تنزيل قد يكون بالحرف أم بالمعنى؛ تنزيل على سبعة أحرف لم يسلم منها إلا واحد؛ تنزيل من ميزاته النسيان، وإمكان فتنة النبي فيه عن الوحي، وإمكان ترك النبي لبعض الوحي منه بسبب عجزه عن معجزة كالأنبياء الأولين، تنزيل ميزته التبديل في آية، والمحو من التنزيل، والنسخ في أحكامه، والتشابه في أوصافه وأخباره، تنزيل يمكن للشيطان أن يُلقي فيه، وتفرض فيه الاستعاذة من الشيطان قبل قراءَته؛ تنزيل تلك صفاته ويخضع لعرضات سنوية لتنقيحه من التحريف؛ تنزيل فيه ناسخ ومنسوخ لم يسلم كله بتصفية النبي له، وتصفية الصحابة عند جمعه؛ تنزيل بوسيط ووسط يضعه نبيه في أدنى طرق الوحي؛ تنزيل يصف نفسه أنه ﴿تفصيل الكتاب من قبله؛ ﴿وإنه لفي زبر الأولين. تنزيل كهذا هل هو الإِعجاز في التنزيل؟ والإِعجاز في التنزيل هو المعجزة الأولى للتحدّي في كل تنزيل.

الجزء الثاني

الإِعجاز في التأليف

توطئة عامة

حسن التأليف ناحية من الإِعجاز البياني

لحسن التأليف شروط أجمعت عليها آداب اللغات كلها، مع تفاوتها في تحقيق ذلك. فمن حسن التأليف وحدة الموضوع في الفصل والكتاب؛ وترتيب الأجزاء، لتنسيق الأقسام وحدات منسجمة، في وحدة كبرى شاملة؛ ومراعاة الوحدة الزمانية وتطوّرها في التنزيل والتبليغ، والبيان والتبيين. فيسلم حسن التأليف من التداخل بين مواضيعه واغراضه؛ ومن التكرار في تعليمه وأخباره؛ ومن التفكك بين أجزائه وفصوله؛ ومن الاختلاف في أوصافه من فصل الى فصل. فلا يأتي التعليم متقطعاً، ولا التشريع متفتّتاً، بحسب المناسبة من ظروف الزمان والمكان في السيرة والدعوة.

فمن الإِعجاز في التأليف وحدة الموضوع واستيفاؤه حقه، قبل العبور الى غيره. ومن الإِعجاز في التأليف عدم تداخل المواضيع في فصل واحد. ومن الإِعجاز في التأليف حسن الترتيب. وهذا قد يكون تنسيقيّاً، أو تاريخيّاً. لكن في الدين، ومعرفة حقيقة الوحي وتطور التنزيل، يفضّل الترتيب التاريخي، على الترتيب التنسيقي لئلا يفوت علينا تاريخ السيرة والدعوة، وحقيقة الشريعة المنزلة، اذا اعتراها تبديل ونسخ. فالإِعجاز في التأليف ناحية من الإِعجاز في النظم والبيان.

بحث أوّل

تأليف القرآن في تنزيله

أولاً: تنزيله آيات

ينقل السيوطي (الإتقان ٤٤:١) ﴿الذي استقرِئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أنّ القرآن كان ينزل بحسب الحاجة، خمس آيات، وعشر آيات، وأكثر وأقل. وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملةً، وصح نزول عشر آيات من أول (المؤمنين) جملةً، وصح نزول ﴿غير أولي الضرر وحدها، وهي بعض آية، وكذا قوله ﴿وإن خفتم عيلةً الى آخر الآية نزلت بعد نزول أول الآية وذلك بعض آية.

﴿عن عكرمة: أنزل الله القرآن نجوماً ثلاث آيات، وأربع آيات، وخمس آيات.

﴿وقال النكزاوي: كان القرآن ينزل مفرّقا: الآية والآيتين والثلاث والأربع، وأكثر من ذلك.

ثانياً: تعليمه آيات

وقد عمل الصحابة في تلقين القرآن وتعليمه بحسب مبدأ نزوله:

﴿وما أخرجه ابن عساكر قال: كان أبو سعيد الخدري يعلّمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي. ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات.

﴿وما أخرجه البيهقي عن عمر قال: تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي ﷺ خمساً خمساً. ومن طريق ضعيف عن علي قال: أُنزِل القرآن خمساً خمساً ـ إلاّ سورة الأنعام ٣٠ ـ ومَن حفظ خمساً خمساً لم ينسه.

﴿فالجواب ان معناه ـ إن صح القاؤه الى النبي ﷺ هذا القدر ـ حتى يحفظه ثم يلقى اليه الباقي، لا إنزاله بهذا القدر خاصة.

فالشهادة المتواترة عن الصحابة ان القرآن كان ينزل مفرّقاً، نجوماً، من آية الى اثنتين فما فوق؛ ولم يتجاوز العشر آيات مرة واحدة. ولم يذكروا نزول عشر آيات جملة إلا مرتين في حديث الإفك من سورة (النور)، وفي مطلع سورة (المؤمنين). وهكذا فإن أسلوب التنزيل نفسه، بحسب مناسبات السيرة وظروف الدعوة، دليل على التفكّك في تأليفه الخاضع لظروف المناسبات المختلفة. والتأليف في التنزيل بحسب المناسبات المختلفة شبهة على الإِعجاز في التأليف.

بحث ثان

ترتيب الآيات في السورة

أوّلاً: الواقع التاريخي

قال السيوطي في (الإتقان ٦٢:١)، ﴿الاجماع، والنصوص المترادفة، على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك. أمّا الاجماع فنقله غير واحد. منهم الزركشي في (البرهان) وأبو جعفر بن الزبير في مناسبة؛ وعبارته: ﴿ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه ﷺ وأمره، من غير خلاف في هذا بين المسلمين.

ثم يقول: ﴿فبلغ ذلك مبلغ التواتر. نعم يشكل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود في (المصاحف) عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة (براءَة) فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله ﷺ ووعيتُهما. فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما؛ ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتُها سورة على حدة؛ فانظروا آخر سورة من القرآن فالحقوها في آخرها. قال ابن حجر: ظاهر هذا أنهم يؤلفون آيات السورة باجتهادهم، وسائر الأخبار تدل على أنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بتوقيف.

هذه الحادثة وهذا الاستنتاج الصحيح يدلان: أولاً على أن القرآن لم يكن كله مكتوباً على زمن الرسول؛ ثانياً ويشهد لذلك أنه عند جمع القرآن، كما أخرج ابن أبي داود، ﴿أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءَكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ـ رجاله ثقاة مع انقطاعه.

والخلاف على هذين الشاهدين: هل هما الحفظ والكتاب، أم الحفظ وحده، والكتاب وحده؟ ﴿قال ابن حجر: وكأن المراد بالشاهدين: الحفظ والكتاب... وقد أخرج ابن اشته في (المصاحف) عن الليث بن سعد، قال: أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد. وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل؛ وأن آخر سورة (براءَة) لم توجد إلاَّ مع خزيمة بن ثابت، فقال: اكتبوها، فإن رسول الله ﷺ جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وأن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده. فالمعوّل اذن على الحفظ.

وهذا واقع متعارض: اذا كان القرآن مكتوباً على زمن النبي، فما الحاجة الى شهود القراءَة؟ ثم ما الحاجة الى الجمع نفسه من حملة القرآن الحافظين؟ ثم ما الحاجة الى تعدّد مصاحف الصحابة والخلفاء وأمهات المؤمنين؛ ومن بعد الجمع العثماني الى اتلافها جميعاً؟ ثم ما معنى الضرورة القصوى التي حملتهم على الجمع الثاني، مع عثمان، والسبب المتواتر اقتتال أهل العراق وأهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان على قراءَة القرآن، واقتتال الغلمان والمعلمين في الحجاز، ﴿فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال: عندي تكذبون به، وتلحنون فيه، فمن نأى عني كان أشد تكذيباً وأكثر لحنا! يا أصحاب محمد، اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً؛ فاجتمعوا فكتبوا.

فواقع جمع القرآن على مراحل شاهد عدل بأنه لم يكن مكتوباً على زمن الرسول: ولو كان مكتوباً لما احتاجوا الى جمع! وجمعه من الرقاع المبعثرة في بيت الرسول عند موته، لا يحتاج الى قراء يحفظونه، ولا إلى شهود عدل يشهدون بسماعه. ولو كان القرآن مكتوباً على زمن الرسول في رقاع مبعثرة، لَمَا جمعوا منه مصاحف مختلفة بين الخلفاء والصحابة وأمهات المؤمنين؛ ثم عمدوا الى اتلافها جميعاً بعد الجمع العثماني!

وأدوات التدوين، كما رأينا، تحتاج الى قافلة جمال تحمل القرآن المكي الى المدينة عند هجرة الرسول. ولا تذكر الاخبار والآثار شيئاً من هذه القافلة، أو حمل شيء مدون في مكّة الى المدينة: فالقرآن المكي كان كله في صدور القراء. وعند وفاة النبي، لا خبر ولا أثر يشهد بأن في بيت النبي أو بيوت الصحابة أحمال أجمال من تلك الأدوات التي دوّن عليها القرآن! وهل كان في المدينة متسع من الوقت لمثل ذلك التدوين على تلك الأدوات؟ لا ننكر أنه في المدينة تم بعض التدوين على مثل تلك الأدوات البدائية، كما يرشح من الأخبار والآثار. لكن ذلك لا يعني تدوين القرآن كله، ولا جلّه.

فالنتيجة الحاسمة مزدوجة:

إن القرآن جُمع من صدور الناس، بعد تفرّقه سبعة أحرف، وعلى ألسنة العرب المختلفة. وبما أن القرآن نزل مفرّقاً، بين آية، وخمس، وعشر، قد لا يتجاوزها، فقد حمله القراء أيضاً مفرّقاً، ﴿حتى قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدّى ذلك بعضهم الى تخطئة بعض. فلم يكن جمع الآيات في السور توقيفاً عن النبي؛ بل باجتهاد الجامعين. هذا هو الواقع التاريخي؛ والمراء فيه من المكابرة على الحقيقة والواقع.

ثانياً: الواقع القرآني

وواقع القرآن في المصحف العثماني الباقي الى اليوم ـ بعد النشرة الثانية للحجاج ـ يشهد بأن ترتيب الآيات في السور كان بتوفيق الصحابة واجتهادهم.

١) إن جمع سورة (براءَة)، وهي من آخر القرآن نزولاً، الى سورة (الأنفال) وهي الثانية نزولاً في المدينة، بدون فاصل البسملة يدل على أنهم اعتبروها سورة واحدة من السبع الطوال. ﴿أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان والحاكم ـ أي جامعو الحديث جميعهم ـ عن ابن عباس قال: قلتُ لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم الى (الأنفال) وهي من المثاني، والى (براءَة) وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر ﴿باسم الله الرحمان الرحيم ووصفتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله ﷺ تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان اذا أُنزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: صفوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت (براءَة) من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننتُ أنها منها، فقُبض رسول الله ﷺ ولم يبيّن لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر ﴿باسم الله الرحمان الرحيم. ووضعها في السبع الطوال.

فاعتبار السورتين واحدة لأن ﴿قصتها شبيهة بقصتها دليل على أن ترتيب السورة كان باجتهاد الصحابة.

٢) المناقلة الظاهرة بين سورة (آل عمران) وسورة (المائدة)؛ بين حديث آل عمران في جدال الوفد المسيحي النجراني، وحديث جدال اليهود في (المائدة) دليل آخر. إن سورة (المائدة) نزلت بعد تصفية اليهود من المدينة ـ فلا جدال معهم بعد ـ وبعد خضوعهم المطلق في شمال الحجاز، وبعد فتح مكّة الأكبر والسيطرة عل الحجاز كله: فلا مجال لجدال اليهود في زمن نزول سورة المائدة. ثم إن جدال وفد نجران كان من عام الوفود سنة ٦٣١م، فلا مكان له في زمن نزول ما أسموه (آل عمران) من عام ٦٢٤م. لذلك فإن الآيات (٣٣ ـ ٦٤) من سورة آل عمران، وهي مقحمة اقحاماً ٣١ على جدال اليهود في السورة كلها، ليست من السورة، بل كان اقحامها على السورة باجتهاد الجامعين، لجمعهم في جدال النبي، كجمعهم في الفتح الإسلامي القائم على قدم وساق. ولذلك فإن الآيات (١٢ ـ ٨٩) من سورة المائدة في جدال اليهود والمنافقين وموالاتهم بعضهم لبعض، وهي مقحمة اقحاماً على جدال المسيحيّين في السورة، ليست من السورة ولا من زمانها. والحديث إن ذلك كان بأمر النبي وتوقيفه هو حديث غير مثبت. فتلك المناقلة المفضوحة برهان على أن جمع الآيات في السور كان باجتهاد الجامعين.

٣) ويشهد أن جمع الآيات في السورة كان باجتهادهم، ما نقلوه في ﴿معرفة أول ما نزل (الإتقان ٢٤:١). فهناك شبه اجماع على أنه مطلع سورة (العلق): ﴿إقرأ (١ ـ ٥). يقول الجلالان: ﴿وهي أول ما نزل من القرآن، وذلك بغار حرّاء ـ رواه البخاري). والقسم الثاني (العلق ٦ ـ ١٩) تنديد بردع عمه أبي جهل للنبي عن الصلاة، فقد نزل بعد سورة (المدثر): ﴿فبيّن أن سورة (المدثر) نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة ﴿إقرأ ﴿فإن أول ما نزل منها صدرها.

فجمع قصة أبي جهل الى مطلع نزول القرآن في سورة واحدة كان باجتهاد الجامعين، كما يدل عليه أيضاً اختلاف الفاصلة.

٤) وكان القرآن يعتمد الفواصل المتقاربة في السورة الواحدة، كما يدل على ذلك أطول سورة فيها (البقرة). لذلك نستطيع أن نقرّر بأن اختلاف الفاصلة المتقاربة في السورة الواحدة دليل جمع المتفرّقات، الذي لم يكن بأمر النبي وتوقيفه لأنه يخل بنظم القرآن، والنظم أم الإِعجاز البياني فيه. ومثال صارخ على ذلك سورة (مريم) فإنها كلها على روي واحد. لكن يقطع قصة مريم وابنها على روي واحد متواتر، حديث مقحم من زمن آخر (مريم ٣٤ ـ ٣٩) بفاصلة مختلفة، وبموضوع مختلف. فجمع سورة مريم أو سواها كان باجتهاد الجامعين، كما يدل عليه اختلاف الفاصلة، وهي ركن في إِعجاز النظم. فالآيات التي تأتي بفاصلة مختلفة عن فاصلة السورة هي مقحمة على السورة، وسلكُها في السورة من الجامعين لا من الرسول.

٥) وبما أن النظم أم الإِعجاز في السورة والقرآن كله، فاختلاف النظم أيضاً في السورة الواحدة هو عنوان جمع المتفرقات في وحدة مختلفة. وهذا واقع ﴿المفصل كله تقريباً.

فالسورة التي تأتي بأقسام على فاصلة مختلفة، هي وحدة مصطنعة من اصطناع الجامعين، لا من أمر النبي وتوقيفه. خذ مثالاً على ذلك سورة (الغاشية)، وسورة (الانشقاق)، وسورة (الطارق)، وسورة (الفجر)، وسورة (البلد) .. الخ. ومثال واضح على الجمع المتفاوت في النظم، سورة (المزمّل)، فإنها تأتي بنظم واحد، وفاصلة متقاربة واحدة، وتشعر بختام السورة في قوله: ﴿إن هذه تذكرة، فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً (١٩). ثم يأتونك بآية واحدة (٢٠) تكاد تكون على قدر السورة لطولها: فهذه الآية الطويلة تختلف نظماً وفاصلة وموضوعاً عن السورة كلها فهي ليست منها، بل من زمن آخر ألحقت فيها باجتهاد الجامعين. وهذا الاختلاف في الجمع ليس من الإِعجاز في تأليف السورة.

٦) ويشهد أيضاً أن جمع الآيات في السورة كان باجتهاد الجامعين، قولهم ﴿في أوائل مخصوصة (الإتقان ٢٧:١).

أول ما نزل في القتال. روى الحاكم في (المستدرك) عن ابن عباس قال: أول آية نزلت في القتال ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ـ وهي في سورة (الحج)، فجعلتهم يختلفون هل السورة مكية أم مدنية لذكر القتال والحج فيها؛ وهي متبعّضة، بعضها مكي وبعضها مدني كما هو ظاهر. وجمعها اصطناعي من عمل الجامعين.

ثم اختلفوا في أول ما نزل في القتال بالمدينة. أخرج ابن جرير ـ الطبري ـ عن أبي العالية قال: أول آية نزلت في القتال بالمدينة ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم. وفي (الاكليل) للحاكم: إن أول ما نزل في القتال ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم. فتأمل: إن الأولى هي الآية (١٩٠) من البقرة، وفي (أسباب النّزول) للسيوطي، كما أخرج الواحدي عن ابن عباس، والطبري عن قتادة إنها نزلت في صلح الحديبية: فكيف تكون أول آية في القتال بالمدينة؟ وكيف يضعونها في سورة (البقرة)؟ والآية الثانية ﴿إن الله اشترى... هي الآية (١١١) من سورة التوبة، فكيف تكون أول آية في القتال، وكيف يضعونها في آخر سورة؟

ففي (أسباب النّزول) دلائل يؤيدها واقع القرآن على أن الآيات في السور جُمعت باجتهاد الجامعين.

وفي اختلافهم على أول آية نزلت من سورة (براءَة) برهان كاشف على أن سورة براءَة، مثل غيرها، كان جمعها باجتهاد الجامعين: عن مجاهد أول ما أنزل الله من سورة براءَة قوله ﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة (٢٥)؛ وعن أبي الضحى قال: أول ما نزل من براءَة ﴿انفروا خفافاً وثقالاً ثم نزل أولها (في فتح مكّة) ثم نزل آخرها (في غزوة تبوك). وأخرج ابن أشته في كتاب (المصاحف) عن أبي مالك قال: كان أول براءَة ﴿انفروا خفافاً وثقالاً سنوات، ثم أُنزلت براءَة أول السورة فألفت فيها أربعون آية. وأخرج أيضاً من طريق داود عن عامر في قوله ﴿انفروا خفافاً وثقالاً قال: وهي أول آية نزلت في (براءَة) في غزوة تبوك؛ فلما رجع من تبوك نزلت (براءَة) إلاّ ثمانياً وثلاثين آية من أولها. فيستثني آية البراءَة (١) وآية الأذان يوم الحج الأكبر (٣). وهذا شاهد ماثل للعيان على أن ترتيب الآيات في سورة براءَة ليس على ترتيب النزول، وبين أقسامها ﴿سنوات: فالنتيجة الحاسمة على أن ترتيب الآيات فيها، وتصديرها بآية براءَة أو قطع الآية بآية الأذان (٣)، ليس من ترتيب الرسول بل باجتهاد الجامعين.

وإذا كان هذا الأمر الواضح في آخر السور نزولاً، فكم بالحري في ما سبقها؟

٧) ويشهد أيضاً على اجتهادهم في جمع الآيات في السورة، وفي ترتيب الآيات في السورة، ما رووه ﴿في معرفة آخر ما نزل (الإتقان ٢٧:١)، مثل آية الربا ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا (البقرة ٢٧٨). فقد أخرج البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله. وعند أحمد وابن ماجه عن عمر: من آخر ما نزل آية الربا. وعند ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر فقال: ﴿إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا ـ فكيف جعلوها في سورة البقرة؟ لقد نزل أولاً تحريم الربا الذي جعل المرابين من ﴿أصحاب النار هم فيها خالدون (البقرة ٢٧٥). ثم استثنى من أصحاب النار المرابين الذين آمنوا وعملوا الصالحات (البقرة ٢٧٧). فالحقوا بهما آخر آية نزلت! وهذا دليل اجتهادهم في جمعه.

وهناك اجماع أشمل على أن آخر آية نزلت هي ﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله (البقرة ٢٨١)، ﴿وكان بين نزولها وبين موت النبي ﷺ أحد وثمانون يوماً أو ﴿وعاش النبي ﷺ بعد نزول هـذه الآية تسع ليال، ثم مـات ليلة الاثنين، لليلتين خلتا من ربيع الأول. ويقولون: كأنه نعيت اليه نفسه. ونقول: إذا كانت آخر آية نزلت فما داعي الإِعجاز لوضعها في أول سورة نزلت بالمدينة؟ وما داعي الإِعجاز لوضعها بين آية الربا (٢٧٨) وبين آية الكاتب بالعدل (٢٨٢)؟ هذا الواقع القرآني المشهود شاهد عدل على أن تأليف الآيات في السورة كان باجتهاد الجامعين.

وهناك أيضاً روايات أخرى عن آيات أخرى كانت آخر ما نزل، وهي منثورة في السور، ممّا يشهد شهادة قاطعة بأن تأليفها في سورها من جمع الجامعين.

وهكذا فالواقع التاريخي، والواقع القرآني، يشهدان جميعاً بأن ترتيب الآيات في السور لم يكن كله من توقيف النبي عليه، بل كان أيضاً باجتهاد الجامعين. وبما أن ترتيب الآيات في السورة ناحية من إِعجازها البياني في التأليف، فهذا التأليف والجمع الذي تمّ باجتهاد الجامعين، فيه شبهة قائمة على الإِعجاز في التأليف.

بحث ثالث

ترتيب السور في المصحف العثماني

أوّلاً: الإجماع بأنه من الصحابة

جاء في (الإتقان ٦٣:١): ﴿وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي؛ أو هو باجتهاد من الصحابة؟ ـ فيه خلاف! فجمهور العلماء على الثاني.

﴿ولذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور: فمنهم من رتبها على النزول؛ وهو مصحف علي... وكان أول مصحف ابن مسعود: البقرة ثم النساء ثم آل عمران، على اختلاف شديد؛ وكذا مصحف أُبي وغيره.

ومَن قال منهم بأن ترتيب السور توقيفي عن النبي قال: ﴿فمن قدَّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن.

والبرهان المزدوج الذي أعطاه السيوطي هو القول الحق في أن ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة: فجمهور العلماء عليه، واختلاف مصاحف السلف قبل الجمع العثماني شاهد عليه.

وكان اختيار الصحابة لترتيب السور على مبدأ التنسيق في الطول: الطوال، فالمئين (لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها)، فالمثاني (ما ولى المئين لأنها ثَنَتْها)، فالمفصَّل (سمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة).  ﴿للمفصل طوال وأوساط وقصار. قال ابن معن: فطواله الى (عم)؛ وأوساطه منها الى (الضحى)؛ ومنها الى آخر القرآن قصاره.

وربما اختاروا في ترتيب السور مبدأ التنسيق في الطول لأن السبع الطوال فيها التشريع والجهاد وجدال أهل الكتاب أي جوهر القرآن ومحوره؛ وربما لتحدّي العرب في المعلّقات السبع بالسور السبع.

ثانياً: شهادة التاريخ والواقع القرآني

وهكذا فاعتبار تنسيق القرآن الحالي، حيث ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول، توقيفاً على النبي وبأمره، ينقضه التاريخ والواقع القرآني.

فالتاريخ يشهد بأن القرآن لم يكن مجموعاً ولا مكتوباً كله على عهد النبي، كما في حديث زيد: ﴿قُبض النبي ﷺ ولم يكن القرآن جُمع في شيء. ولو جرت محاولة من النبي في آخر أمره، كما يشهد زيد أيضاً، على شرط الشيخين: ﴿كنّا عند رسول الله ﷺ نؤلف القرآن من الرقاع. فلو كان مجموعاً، لما احتاجوا الى جمع من بعده؛ ولا تفرّق الى سبعة أحرف؛ ولا اختلفت مصاحف الصحابة في ترتيبه؛ ولا قال زيد قوله المشهور: ﴿فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان عليَّ أثقل ممّا أمراني به من جمع القرآن.

والسبب الذي يعطيه الخطابي مذهل: ﴿إنما لم يجمع ﷺ القرآن في المصحف، لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته. فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك. ٣٢ فلم يدوّن القرآن على حياة النبي لأنه كان يترقب رفع تلاوة بعضه، ونسخ أحكام بعضه.

والواقع القرآني يشهد بأن أكثر سوره جمع متفرّقات موضوعاً وزمناً. فالسور المتبعّضة، التي بعضها مكي وبعضها مدني، لا يعقل أن يكون جمعها على هذه الحال بتوقيف عن النبي. وسور العهد المكي الثالث، التي يختلف العلماء على ترتيبها بحسب النزول في العهد المكي الأول أم العهد المكي الثالث، إنما هي تجمع قسمين من العهدين، يدل عليهما اختلاف الأسلوب ما بين العهد الأول والعهد الثالث، وأحيانا اختلاف الموضوع. والسور التي يختلفون فيها، أهي مكية أم مدنية (الإتقان ١٢:١ ـ ١٤) شاهد آخر على أن جمع السور في القرآن كان باجتهاد الصحابة. والسور المكية التي فيها آيات مدنية (الإتقان ١٥:١ ـ ١٧) شاهد خاص على أن جمع الآيات في السور، وجمع السور في القرآن كانا كلاهما بتوفيق الصحابة.

ثالثاً: النتائج الحاسمة لهذا الواقع القرآني في المصحف العثماني

١ ـ إن ترتيب القرآن على مبدأ التنسيق في الطول أضاع علينا الترتيب التاريخي بحسب النزول. وهم ربما عمدوا الى التنسيق بدل التاريخ لاستحالة جمعه بحسب نزوله. قال محمد بن سرين لعكرمة: ﴿ألّفوه كما أنزل الأول فالأول. قال: لو اجتمعت الانس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا ٣٣ ومما لا ريب فيه أن الإِعجاز الحق في تأليف القرآن أن يكون بحسب تاريخ نزوله. فلمّا ضاع علينا هذا الترتيب الزمني، ضاعت ناحية من الإِعجاز في تأليف القرآن.

٢ ـ إن ترتيب القرآن الحالي، على التنسيق بحسب الطول، مزج سور القرآن مزجاً، فخلط بين أزمانها ومواضيعها. والمبدأ المتواتر عندهم أنه ﴿مَن قدّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن. فكما يصح أن يقوله أهل التنسيق، يصح أيضاً أن يقوله أهل الترتيب التاريخي. وبما أن الترتيب التنسيقي موضوع نظر؛ وبما أن الترتيب التاريخي مستحيل؛ فعلى كلا الحالين ضاع الإِعجاز الحق في تأليف القرآن ﴿كما أنزل، الأول فالأول.

٣ ـ وأخيراً بما أن ترتيب السور في القرآن توفيقي من الصحابة ـ والترتيب المنزل في سوره ناحية من إِعجازه ـ فهل من إِعجاز في التأليف، في ترتيب المصحف الأميري الشريف؟

بحث رابع

في مناسبة الآيات والسور (الإتقان ٢: ١٠٨)

أوّلاً: ﴿علم المناسبة

من الإِعجاز في التأليف المناسبة ما بين الآيات في السورة، والمناسبة ما بين السور بعضها مع بعض. وقد قام في التفسير ﴿علم المناسبة الذي عمل به فخر الدين في تفسيره الكبير حيث يقول: ﴿أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط. وأول من أظهر علم المناسبة الشيخ أبو بكر النيسابوري الذي كان يسأل في تدريسه: ﴿لِمَ جُعلت هذه الآية الى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة؟.

ويفسر السيوطي أركان علم المناسبة فيقول: ﴿المناسبة، في اللغة، المشاكلة والمقاربة. ومرجعها في الآيات ونحوها الى معنى رابط بينها عام أو خاص، عقلي أو حسّي، أو غير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهني كالسبب والمسبَّب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين ونحوه ـ وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير حاله حال البناء المتلائم الأجزاء.

﴿فنقولُ ذكرُ الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلّق الكلم بعضه ببعض وعدم تمامه بالأولى، فواضح؛ كذلك اذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل ـ وهذا القسم لا كلام فيه.

﴿وإمّا أن لا يظهر الارتباط، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى وأنها خلاف النوع المبدوء به. فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشتركة في الحكم ـ أوْ لا. فإن كانت معطوفة فلا بدّ أن يكون بينها جهة جامعة... وإن لم تكون معطوفة فلا بدّ من دعامة تؤذن باتصال الكلام: وهي قرائن معنوية تؤذن بالرَبْط.

من هذه القرائن المعنوية أولاً التنظير فإن الحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء. الثاني المضادّة، كما قيل: وبضدّها تتبيّن الأشياء. الثالث الاستطراد؛ ويقرب منه حسن التخلص حتى لا يكادان يفترقان... وقال بعضهم الفرق بين التخلص والاستطراد أنك في التخلّص تركت ما كنت فيه الكلّية وأقبلت على ما تخلصت اليه؛ وفي الاستطراد تقصده وانما عرض عروضاً ثم ترجع الى ما كنت فيه. ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث الى آخر تنشيطاً للسامع مفصولاً بهذا؛ قال ابن الأثير فيه: ﴿هذا (الانتقال) في هذا المقام من الفصل الذي هو أحسن من الوصل. ويقرب منه أيضاً حسن المطلب، وهو الخروج الى الغرض بعد تقدم الوسيلة من المقدّمات ومراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين أجزاء القرآن.

ثانياً: علم المناسبة ينقضه تاريخ التنزيل وتاريخ الجمع

ذلك هو علم المناسبة وأحكامه في عرفهم. لكن فاتهم في نظم القرآن أمران يجعلان المناسبات بين الآيات صنعةً وتصنّعاً.

الأمر الأول طريقة النظم عند العرب، وهي تختلف عن العجم ـ وأهل علم المناسبة من الأعاجم الذين يريدون تطبيق أسلوبهم على أسلوب القرآن ـ قال أحدهم: ﴿إن القرآن، إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال الى غير ملائم. فهو يجمع الموضوعات الشتى جمعاً فنّياً لا موضوعياً، كما في الشعر الجاهلي.

الأمر الثاني طريقة نظم القرآن. نقل السيوطي (الإتقان ١٠٨:٢) مقالة الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ﴿المناسبة علم حسن. لكن يُشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره. فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط. ومن ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلاّ بربط ركيك يُصان عن مثله حسن الحديث، فضلاً عن أحسنه. فإن القرآن نزل في نيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شُرعت لأسباب مختلفة. وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض.

وبما أن ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول، فإن استنباط مناسبات لربط سورة بسورة، كما هي في المصحف العثماني، من التصنّع الذي يأباه منطق التاريخ والبيان.

وبما أن السورة، كالقرآن كله، نزلت نجوماً أي مفرّقة ﴿في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة، فمن التصنّع والتكلّف ربط أجزائها بعضها ببعض. فالاجماع المتواتر أن الآيات نزلت آية بآية، أو اثنتين اثنتين، أو أكثر حتى الخمس أو العشر، وقد لا يتجاوزها. وعن ابن عباس القول المشهور: ﴿نزل بجواب كلام العباد وأعمالهم؛ وفسره بقوله: ﴿ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً؛ وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مكث، ونزّلناه تنزيلاً. قال السيوطي (الإتقان ٤٤:١) ﴿الذي استُقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات، وأكثر وأقل. وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملةً، وصح نزول عشر آيات من أول المؤمنين جملة. وأن (أسباب النّزول) المختلفة تشهد باختلاف مناسبات الآيات في السورة.

والسورة المجموعة من آيات نزلت متفرقة بحسب الحاجة، بجواب كلام العباد وأعمالهم، لا تشكّل وحدة موضوعية، وإن جمعت بينها وحدة فنّية بالنظم والفاصلة.

فالوحدة الموضوعية مفقودة في السورة القرآنية، كما في معلقات الشعر الجاهلي. والوحدة الموضوعية المفقودة هي أم الإِعجاز في التأليف.

بحث خامس

من الإقحامات النافرة في الآيات والكلمات

نجد في بعض الآيات أجزاء منها ليست منها في شيء، وهي تتنافر معها موضوعاً ومناسبةً، ولا تدري ما الحكمة في اقحامها في غير موضعها.

١ ـ من ذلك قوله: ﴿واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، في قصة إبراهيم واسماعيل والبيت العتيق: ﴿واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ـ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى ـ وعهدنا الى إبراهيم واسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكَّع والسجود (البقرة ١٢٥) ومن المعروف في (أسباب النّزول) أنها نزلت كما قال بها عمر بن الخطاب: فما دخلُها في قصة أمر الله لإبراهيم ببناء الكعبة؟

٢ ـ ومن ذلك قوله: ﴿وأمرهم شورى بينهم في صفات المؤمنين: ﴿وما عند الله خير وأبقى، للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أو الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة ـ وأمرهم شورى بينهم ـ وممّا رزقناهم ينفقون (الشورى ٣٦ ـ ٣٨). فما معنى اقحام نظام الشورى في الحكم الإسلامي بصفات المؤمنين التي يقوم عليها المصير ما بين الجنة والنار؟ فهل نظام الشورى من ضرورة صفات المؤمنين؟ والمسلمون الذي عاشوا بدون نظام الشورى في الحكم، فهل يكفَّرون باسم الشورى، وهل سقطت عنهم صفة من صفات المسلمين الضرورية لصحة الإيمان والإسلام؟ إن مقالة الشورى دخيلة من وحي آخر على الآية وتتنافر معها موضوعاً ومعنى.

٣ ـ ومن ذلك قوله: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وهو من حجة الوداع عام ٦٣١ م، في آية تشريع الحرام في الأنعام وهو من حجة القضاء عام ٦٢٩ م: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ لغير الله به... وما ذُبح على النُصب، وأن تستقسموا بالأزلام، ذلك فسق ـ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون! اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ـ فمن اضطر في مَخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (المائدة ٣). فالإقحام النافر ظاهر لا يحتاج الى بيان. وهذا الاقحام أفسد المعنى مرتين: أولاً لأنه يُشتبه بأن كمال الدين والإسلام في هذه التحريمات. ثانياً لأنه يُشتبه بأن من اضطر الى المروق من الإسلام، فإن الله غفور رحيم.

٤ ـ ومن ذلك اقحامهم ﴿الأذان في البراءَة من المشركين، ﴿إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين (براءَة ٣ ـ ٤)، في ﴿براءَة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أَنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (١ ـ ٢) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (٥). إن الأذان بمنى يوم الحج الأكبر يستثني من البراءَة المعاهدين من المشركين؛ أمّا البراءَة الكبرى من المشركين فهي مطلقة، وتنص على البراءَة ﴿إلى الذين عاهدتم من المشركين. فاقحام الأذان في البراءَة يفسد التأليف موضوعاً وتشريعاً.

٥ ـ وهناك اقحام كلمة ﴿النصارى على اليهود في آيات إقحاماً تنقضه القرائن القريبة والبعيدة. منها آية تحريم الموالاة: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء! بعضهم أولياء بعض (المائدة ٥١). وفي السورة عينها يجمع اليهود والمشركين في أشد العداوة للمسلمين، ويجمع النصارى والمسلمين على أقرب مودة (المائدة ٨٢). فالتناقض بين الآيتين مكشوف، لأنهم استبدلوا في الآية (٥١) كلمة المشركين بكلمة ﴿النصارى. والقرآن والسيرة وتاريخ الجزيرة تشهد بأن اليهود والنصارى لم يكونوا على الإطلاق ﴿بعضهم أولياء بعض، فالاقحام والاستبدال ظاهر مفضوح.

وفي رده على محاولة اليهود من أهل الكتاب ردّ المسلمين عن إيمانهم (البقرة ١٠٩ ـ ١١٣) بادعائهم، ﴿وقالوا: لن يدخل الجنة إلاّ مَن كانوا هوداً ـ أو نصارى ـ تلك أمانيهم! قل: هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين (البقرة ١١١)، فقد أقحموا ﴿أو نصارى، والاقحام ظاهر: فإن الخطاب لليهود وحدهم (١٠٩ ـ ١١٣)؛ واليهود وحدهم يتآمرون في المدينة على الإسلام؛ ويستحيل أن يقول اليهود: لن يدخل الجنة إلاّ مَن كانوا نصارى! ويرد القرآن عليهم: ﴿بلى مَن أسلم وجهه لله، وهو محسن، أفله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة ١١٢). فهو يقسم أهل الكتاب الى محسنين وظالمين؛ فالظالمون هم اليهود الذين يصح جدالهم بالسيف، أما النصارى المحسنون فلا يصح جدالهم إلاّ بالحسنى (العنكبوت ٤٦). فالنصارى هم المقصودون باصطلاحه: ﴿مَن أسلم وجهه لله وهو محسن. فهذه الآية (البقرة ١١٢) تنقض أيضاً اقحام ﴿أو نصارى في الآية السابقة (١١١).

٧ ـ وفي جدال اليهود على الهدى، أهو في اليهودية أم في ملـّة إبراهيم، أقحمـوا ﴿أو نصارى في قولهم: ﴿وقالوا: كونوا هوداً ـ أو نصارى ـ تهتدوا! قلْ: بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين (البقرة ١٣٥). فالجدال قائم مع اليهود وحدهم، ولا خطاب فيه للنصارى، فلِمَ اقحامهم؟ ويستحيل أن يقول اليهود: كونوا نصارى تهتدوا! إنما يشتقون الهدى من اسمهم ﴿وقالوا: كونوا هوداً تهتدوا فالجناس والمعنى برهانان على اقحام ﴿أو نصارى. وتأتي الآية التالية (١٣٦) بإعلان الإيمان ﴿بما أوتي موسى وعيسى، وبالإسلام القائم عليه ﴿لا نفرق بين أحد منهم ونحن لهم مسلمون. فاليهود كانوا يفرّقون، والنصارى يجمعون فهم من أهل الإيمان على ملّة إبراهيم. فالقرائن كلها شواهد على الاقحام المفضوح.

٨ ـ وفي الجدال ذاته مع اليهود، يستشهدون، ﴿أم تقولون: إن إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا ـ أو نصارى ـ قلْ: أأنتم أعلم أم الله؟ ومَن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله؟ (البقرة ١٤٠). إن اليهود يدعون أن الآباء والأسباط كانوا هودا فالهدى في اتباعهم على يهوديتهم. ولا اليهود يقولون بأنهم كانوا نصارى؛ ولا النصارى يقولون بأنهم كانوا نصارى؛ ولا القرآن يقول بأنهم كانوا نصارى. إنما هي دعوى اليهود وحدهم للشهادة على أن هداهم هو هدى اليهود، لا هدى سواه. فيستشهد القرآن بالتوراة التي تذكرهم قبل الموسوية التي هي دين اليهود. فإقحام ﴿أو نصارى ظاهر مفضوح.

ففي سورة البقرة ليس من جدال بين القرآن والنصارى، إنما الجدال المتواصل هو بين القرآن واليهود، فإقحام النصارى في هذا الجدال دخيل عليه تنقضه كل قرائن السورة، ونص الآيات التي ورد فيها.

وهكذا نجد في تأليف الآيات اقحام بعضٍ من أجزاء الآية، أو كلمة ﴿النصارى في بعض الآيات، ممّا يجعل نص الآية يتنافر معنى وموضوعاً ونظماً، كما فسد الجناس في قولهم ﴿كونوا هودا تهتدوا باقحام ﴿أو نصارى.

فهل هذه الاقحامات من الإِعجاز في التأليف؟

بحث سادس

ما بين الوحدة الموضوعية والوحدة الفنية في السورة

ليس لدينا من آثار يمكن المقارنة معها سوى الشعر الجاهلي، في أروع مظاهره، المعلّقات: ﴿إن الأدب الجاهلي ـ وخاصة الشعر ـ هو المنظور إليه في معرض التحدّي؛ وهو الذي يقع الإِعجاز عليه، اذ كان هذا الأدب، وهذا الشعر، غاية ما يمكن أن يرقى اليه فن القول، في مجال العمل الانساني، في استصحاب الكلمة والتعامل بها ٣٤ .

ويشهد الواقع أن القصيدة المعلّقة من الشعر الجاهلي وحدة فنية بنظمها وقافيتها ـ لا وحدة موضوعية: فهي مجموعة متفرّقات. وعلى طريقة نظمهم جاءَ نظم السورة في القرآن: فقد تجمعها وحدة فنية في النظم والفاصلة، مثل سورة البقرة؛ ولكن لا تجمعها الوحدة الموضوعية، أو ﴿الوحدة العضوية كما يقول العقاد. فالسورة القرآنية ـ مع ما فيها من إِعجاز في النظم والتأليف ـ هي مجموعة متفرقات، يشوبها التفكك في وحدة الموضوع، وهذه أم الإِعجاز في التأليف. وقد يأتي الاختلاف في الفاصلة، محط النظم وقاعدته، فيظهر التفكك حينئذ نظماً وموضوعاً: فنفقد الوحدة الموضوعية والوحدة الفنية جميعاً.

أولاً: مثال من السور الأولى

خذ مثلاً السورة الأولى، (العلق)؛ فهي تذكر أولاً أمر الوحي للنبي بالقراءة والتعلّم بالقلم، على فاصلة أو فاصلتين (١ ـ ٥). ثم تذكر (٦ ـ ١٩) حادثة أخرى، وقعت بعد زمن، وفي غير موضع، وفي غير موضوع، وبغير فاصلة في النظم: نهي عمه أبي جهل له عن الصلاة. فمن السهل خلق القرائن المعنوية واللفظية لتعليل المناسبة في الجمع بين القسمين. ولكن هذه الوحدة لا تستقيم في سورة (العلق)؛ لا زماناً، ولا مكاناً، ولا موضوعاً، ولا نظماً.

والسورة الثالثة (المزمّل) في قسمها الأول وحدة فنية ينقضها القسم الأخير (٢٠). وفي الوحدة الفنية تختلف المواضيع: فهو يذكر دعوة محمد الى قيام الليل وترتيل القرآن (١ ـ ٩) ثم دعوته الى الصبر على ما يقولون؛ ونعرف أن الدعوة كانت سرية بين أفراد قلائل لم تظهر بعد حتى يتصدّى لها المكذبون أولو النعمة (١٠ ـ ١٣). فإن شفع النظم والروي للوحدة الفنية، فلن يشفع للوحدة الموضوعية التي تختلف موضوعاً وزماناً ومكاناً.

والسورة الرابعة (المدثر)، مجموعة متفرقات يدل عليها تنوّع الموضوعات، وتنوّع الفاصلة، وخرق وحدة النظم في الآية الحادية والثلاثين التفسيرية الدخيلة على السورة من وحي آخر.

هذا مطلع التأليف في النظم القرآني، والكتاب يُعرف من عنوانه.

ثانياً: مثال التأليف في سورة (البقرة)

ننتقل الى سورة (البقرة)، وهي ﴿فسطاط القرآن، و﴿سنام القرآن. و﴿قال الإمام الرازي في سورة البقرة: مَن تأمل في لطائف نظم هذه السورة، وفي بدائع ترتيبها، علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته. ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك ٣٥ .

ولبيان ذلك جعلوا من حسن المناسبة: الاستطراد ثم التخلص ثم الانتقال. وهذه الفنون التي استنبطوها للمناسبة البيانية إنما هي تقطع الموضوع، وتجعل السورة مجموعة متفرّقات، تدل عليها أسباب النّزول. فهي تجمع آخر ما نزل بالمدينة الى أول ما نزل فيها؛ وتجمع أحكاماً مختلفة من أزمنة مختلفة بالمدينة؛ ولو جمعت بينها الوحدة الفنية من نظم وفاصلة. فهو مثلاً يقطع براهين التوحيد (٢٢ ـ ٢٩) ببيان على مواقفهم المختلفة من الدعوة (٢٣ ـ ٢٧). وهو يقطع خطابات اليهود الثمانية (٤٠ ـ ١٦٨) بخطاب أول مقحم للمسلمين في تحذيرهم من مناورات اليهود (٧٥ ـ ٨١) وبخطاب ثان مقحم في تحذيرهم من دس اليهود والمنافقين على النسخ في القرآن (١٠٥ ـ ١١٠)؛ ثم بمجموعة متفرقات (١١١ ـ ١٢١) من مناظرة النصارى في عام الوفود (١١١ ـ ١١٣). وظلم الذين يصدون عن الحج، نزلت لمّا صدوا النبي عام الحديبية عن مكّة (١١٤ ـ ١١٥) مع ردّ على نسبة الولد الى الله (١١٧ ـ ١١٨)، ويختم القسم الأول منها، الدعوة للتوحيد، بمجموعة متفرقات أخرى: في قتلى بدر (١٥٣ ـ ١٥٧) وفي السماح بالطواف بالصفا والمروة (١٥٨).

والقسم الثاني من (البقرة) تشريع مجموع من أزمنة مختلفة (١٨٨ ـ ٢٤٢): يقطعه بعد مطلعه بجملتين على اليهود (١٧٤ ـ ١٧٧)؛ ويقحم فيه تشريع القتال ليوم الحديبية (١٩٠ ـ ١٩٥)؛ ويجمعون فيه شرعة الحج الأولى من عام الحديبية (١٩٦) الى شرعة الحج النهائية من بعد فتح مكّة (١٩٧ ـ ٢٠٣). ويقطع التشريع بقصة المنافق الأخنس بن شريف (٢٠٤ ـ ٢٠٦) وقصة صهيب المؤمن المضطهد المهاجر (٢٠٧) وقصة النفر السبعة من اليهود الذين تردّدوا في اسلامهم مع ابن سلام اليهودي (٢٠٨ ـ ٢١٣). وتتبع مجموعة فتاوى مختلفة (٢١٥ ـ ٢٢٥) قبل تفصيل احكام الطلاق (٢٢٦ ـ ٢٤٢).

ويأتي القسم الثالث في التحريض على الجهاد (٢٤٣ ـ ٢٧٤)، يقطعه بسورة مستقلة في توحيد الحي القيوم (٢٥٥ ـ ٢٦٠). والحقوا بالسورة ﴿آخر ما نزل من القرآن: آية الربا (٢٧٥) مع ملاحقها، ثم آية الدّيْن عند كاتب بالعدل (٢٨٢)، وفصلوا بينهما بالآية التي فيها نُعيت نفس محمد اليه ومات بعدها (٢٨١). فما وجه الإِعجاز في الجمع بين هذه الخواتيم الثلاث؟

ويختمون السورة بآية المحاسبة على الوسوسة (٢٨٤) ثم بالآية الناسخة لها (٢٨٦). فقد نفهم الجمع بين المنسوخ والناسخ؛ لكن ما وجه الإِعجاز بختم التحريض على الجهاد بهذه الآيات؟

ثالثاً: مثال التأليف في سورة (المائدة)

وسورة (المائدة) ـ وهي من أواخر القرآن نزولاً ـ مثال قائم على التفكّك في التأليف، مهما استنبطوا له من استطراد وتخلص وانتقال، في فنون المناسبة، للحفاظ على الوحدة الموضوعية في التأليف.

إن وحدة السورة القرآنية، كوحدة القصيدة الجاهلية، تقوم قبل الموضوع على وحدة النظم والروي. وهذا واقع قرآني متواتر. لذلك فاختلاف النظم والروي دليل على الجمع المتنافر نظماً، علاوة على اختلاف الموضوع.

تستفتح السورة بآية العقود (١) وهي فاتحة فصل في الوفاء لعهد الحديبية (٧ ـ ١١). لكنهم أقحموا بين الفاتحة (١) والفصل (٧ ـ ١١) بمجموعة تشريعات من زمن عمرة القضاء سنة ٦٢٩م (٢ ـ ١٠). وفي آية تحليل الأنعام (١) ـ والمقصود الإبل خاصة، وكان أهل الكتاب اليهود يحرمونها ـ إشارة الى ما حُرّم منها: ﴿إلاّ ما يتلى عليكم؛ والاشارة الى الماضي، بينما آية التحريم تأتي بعد (٣). وفي آية التحريم هذه، من زمن عمرة القضاء، أقحموا ﴿ما نزل يوم عرفة، عام حجة الوداع (الجلالان)، وهي قوله: ﴿اليوم يئس... اليوم أكملت لكم دينكم، وهي عامة، فجعلها الاقحام مخصوصة بآية التحريم (٣) كأن كمال الدين والإسلام فيها! فأضر إقحامها بالنظم والشرع.

وأقحموا على السورة فصلاً في جدال اليهود، من زمن آل عمران (المائدة ١٢ ـ ٨٦). وفي هذا الاقحام العام أقحموا شذرات من جدال وفد نجران: نسي هؤلاء النصارى حظا ممّا ذكروا به (١٤)؛ تكفيرهم لقولهم بتأليه المسيح (١٧)؛ تكفيرهم لتأليه المسيح والقول بالثلاثة (٧٢ ـ ٧٧). وهذا الخلط بين جدال اليهود وجدال النصارى كان من تأثير السياسة، في الفتوحات الإسلامية على جمع القرآن، لجمع اليهود والمسيحيين في حملة اسلامية واحدة. فأوقعهم ذلك في تعارض مكشوف بين الآية (٨٢) التي تجعل ﴿أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، وتجعل ﴿أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى  ـ وبين الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أوليـاء بعض (٥١). والتاريخ والسيرة والقرآن شهود بأن اليهـود والنصارى لم يكونـوا ﴿بعضهم أولياء بعض. فما بين الآيتين تناقض مفضوح، لأنهـم أنزلوا ﴿والنصارى بدل ﴿والمشركين في الآية (٥١) كما تنص الآية (٨٢).

وفي فصل التشريعات الأخيرة من بعد فتح مكّة (٨٧ ـ ١٠٨) أقحموا أيضاً شذرات من جدال وفد نجران المسيحي عام ٦٣١ م؛ في تكفير الغلو بتأليه المسيح والقول بالثلاثة (٧٢ ـ ٧٧). وكان أولى لهم جمع جدال وفد نجران في فصل واحد (١٣ و١٧ و٧٢ و٧٧ و١٠٩ و١٢٠) بدل اقحامه في جدال اليهود ـ وهو في غير موضعه ـ وفي قسم التشريع من بعد فتح مكّة. وكان أولى لهم لصحة التاريخ ولصحة التأليف وضع جدال اليهود في موضعه من آل عمران، ووضع جدال وفد نجران (آل عمران ٣٣ ـ ٦٤) في موضعه من سورة المائدة، بدل توزيعه على آل عمران والنساء والمائدة ضد الحقيقة وضد التاريخ، مما يجعل تنافراً ظاهراً في وحدة السور.

فسور البقرة وآل عمران والمائدة هي أمهات القرآن؛ وظاهرة التنافر في الجمع والتأليف بادية عليها موضوعاً وتاريخاً وأسلوباً. وذلك لأنهم جمعوا هذه السور على غير نزولها.

وهكذا نرى أن ما أسموه بالإِعجاز في التأليف استطراداً وتخلّصاً وانتقالاً، إنما هو تفكّك وتداخل وجمع متفرقات لا يجمع بينها الموضوع ولا الزمان ولا المكان؛ وإن جمعت بينها وحدة فنية في النظم والفاصلة. وقد لحظ الأقدمون تلك الظاهرة في القرآن. فنقلها الخطابيّ في (بيان إِعجاز القرآن) محاولاً الرد عليهم: ﴿وأما قولهم: لو كان نزول القرآن على سبيل التفصيل والتقسيم، فيكون لكل نوع من أنواع علومه حيّز وقبيل، لكان أحسن نظماً وأكثر فائدة ونفعاً. فالجواب: إنما نزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة الواحدة، وفي الآي المجموعة القليلة العدد، لتكون أكثر لفائدته وأعم لنفعه، ولو كان لكل باب منه قبيل، ولكل معنى سورة مفردة، لم تكثر فائدته... ولكان الواحد من الكفّار والمعاندين المنكرين، اذا سمع السورة منه، لا تقوم عليه الحجة به إلاّ في النوع الواحد الذي تضمنته السورة الواحدة فقط. فكان اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة أوفر حظاً وأجدى نفعاً من التمييز والتفريد ٣٦ .

والرد على الخطابي بعد طول الزمن نأخذهُ منه: إن اقامة الحجة بإِعجاز القرآن في نوع واحد يُغني بمعجزته عن سائر الأنواع، من حيث البيان والتبيين. وكان غيره أصدق نظراً في وصف ذلك النظم المتفرّق بأنه طريقة العرب في تأليفها، كما يظهر من الشعر الجاهلي في نظم القصيدة منه.

خاتمة

الاختلاف الواقع في الجمع والنظم والموضوع

وهكذا قلّما تجتمع الوحدة الفنية بالنظم والفاصلة مع الوحدة الموضوعية وهذا قانون الإِعجاز في التأليف. وكثيراً ما يكون الاختلاف في النظم والفاصلة دليلاً على الاختلاف في الموضوع. وإن قامت في السورة وحدة فنّية، فلا تقوم فيها وحدة موضوعية، بل تستر وحدة الظاهر مجموعة متفرقات في الباطن. وما حاولوا استنباطه من مناسبات بين الآيات في السورة، وبين السور في القرآن، تنقضها (أسباب النّزول) وواقع التنزيل، ﴿فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة، في أحكام مختلفة، شُرعت لأسباب مختلفة. وما كان كذلك لا يتأتّى ربط بعضه ببعض ٣٧ في وحدة التأليف. والاختلاف قائم في جمع الآيات والسور، والنظم والموضوع.

ففي هذا الواقع القرآني ـ تنزيلاً وجمعاً ـ هل من إِعجاز في التأليف؟

١.  راجع بحثاً سابقاً في الموضوع، من ناحية أخرى

٢.  السيوطي: الإتقان ١: ٤٤.

٣.  تفسير الطبري: اخراج الأخوين شاكر، ج ١. 

٤. في كتابه: الناسخ والمنسوخ.

٥. في كتابه: عن القرآن ص ١٠١ الذي ينقل عن: الأدب الجاهلي ص ٢٩.

٦. الإتقان ١: ٢١.

٧. قابل السيوطي أيضاً: أسباب النّزول على (الأنعام ٩٣).

٨.  عن دروزة: القرآن الكريم، ص ٥٩.

٩. الإتقان: ١: ٤١ ـ في آخر الصفحة.

١٠. القرآن المجيد، ص ٩٠

١١. هل كان الصحابة أنبياء مثل محمد حتى يكونوا معصومين؟!

١٢. السيوطي: الإتقان ٢: ٢٥

١٣. البرهان في علوم القرآن، ج ٢، ص ٤٤.

١٤. الإتقان ١: ٢٥ ـ ٢٧.

١٥. الإتقان ١: ٢٤

١٦. الإتقان ١: ٢٤

١٧. السيوطي: الإتقان ٢٥:٢.

١٨. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ٤٣٧:١.

١٩. السيوطي: الإتقان ٢٧:١.

٢٠. السيوطي: الإتقان ٢٢:١.

٢١. إِعجاز القرآن ١: ٤٥٤ ـ ٤٥٥.

٢٢. إعجاز القرآن ١: ٤٣٥ ـ ٤٧٢.

٢٣. الزركشي: البرهان ٤٤:٢.

٢٤.  الإتقان ٤٠:١.

٢٥.  الإتقان ٤٣:١.

٢٦. الإتقان ٢١:١ ـ ٢٢.

٢٧. أنّ؛ هناك قراءَة أخرى على الاستئناف: ﴿إنّ، لكنها لا تغيّر المعنى لأن الإسلام هو الشهادة ﴿أنْ لا إله إلاّ هو.

٢٨. السيوطي: الاتقان ٤٦:١ ـ ٤٨.

٢٩. الطبري: تفسير القرآن ـ نشر الأخوين شاكر ٥٩:١؛ ٦٢:١؛ ٦٦:١.

٣٠. يظنون أن سورة الأنعام نزلت جملة. وواقعها يشهد أنها متبعّضة، بعضها من مكّة وفي أدوارها، وبعضها من المدينة، فلم تنزل جملة.

٣١. إن تعبير ﴿اقحام المتواتر في لغتنا لا يعني عدم الصحة، بل يقصد اقحام تنزيل في تنزيل من زمن آخر.

٣٢. الإتقان ٥٨:١.

٣٣. الإتقان ٥٩:١.

٣٤. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن: ١١٨:١.

٣٥. الإتقان ١٠٨:٢.

٣٦. ثلاث رسائل في إِعجاز القرآن ص ٤٩.

٣٧. الإتقان ١٠٨:٢.

الفصل الخامس

المعجزة الظرفية

توطئة عامة

هل في ظروف الدعوة القرآنية من معجزة؟

قد لا تكون المعجزة في الحدث النبوي نفسه، بل في ظروفه، من حيث البيئة أو الزمان أو لغة النبوّة، أو حال النبي الداعية.

بيئة النبوّة التي لا شيء ينبئ عن منبتها قد تكون ظرفاً معجزاً. أمّا قيام نبوّة على دعوة قائمة سبقتها ورافقتها فكانت الدعوتان واحدة، فهذا ليس من إِعجاز البيئة في شيء. والتحقيق بأن القرآن دعوة ﴿نصرانية يرفع عنها إِعجاز البيئة.

زمن ظهور النبوّة، بلا أسباب لها ولا مقدمات، قد يكون أيضاً ظرفاً معجزاً. أمّا متى كانت البيئة مهيّأة للدعوة، فليس في زمن ظهور صاحبها من معجزة: إنما هو تسلسل التاريخ المحتوم.

قد تكون لغة أفضل من لغة من بعض نواحيها. أمّا أن تكون هناك لغة أدعى الى استخدام الله لها لوحيه وتنزيله، فتاريخ الوحي والتنزيل بلغات مختلفة يكذّب هذه المقولة. إن الله يكلّم الإنسان بكل لسان؛ وكل لسان يختاره الله يكون أهلاً لبيان وحيه وتنزيله.

وفي اختيار الله بشراً لرسالته يكون ذلك فضلاً منه على نبيه المصطفى، لا معجزةً في اصطفائه. وتاريخ النبوّة عند بني إسرائيل يشهد بأن الله اختار الملك العليم الحكيم، كما اختار ابن الشعب الأمّي.

فكلّ هذه الظروف مناسَبات لقيام النبوّة، إذا أرادها الله تعالى رحمة بعباده.

فهل للقرآن من معجزة ظرْفية حقيقية؟

الجزء الأول

الإِعجاز القرآني من حيث البيئة

توطئة

الإِعجاز من حيث الزمان والمكان معجزة

﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته (الأنعام ١٢٤)

منذ أن قال الجاحظ، الفارسي المستعرب، بإِعجاز القرآن في لفظه ونظمه، أخذوا يستنبطون المناسبة في معجزة موسى وعيسى ومحمد. فوجدوا إشاعة السحر في زمن موسى، وإشاعة الطب، أو الطب الروحاني، في زمن عيسى، وإشاعة سحر الكلمة في زمن محمد وبيئته. فكانت معجزات موسى ممّا يشبه السحر ويُعجزه، ومعجزات عيسى مما يشبه الطب والابراء ويُعجزه، ومعجزة محمد ممّا يشبه سحر الكلمة ويُعجزها.

وفي هذه المناسبة ﴿زمان المعجزة ومكانها كما يقول عبد الكريم الخطيب ١ : ﴿كان من تدبير الحكيم العليم وتقديره أن تقع معجزات الرسل موقعها المناسب، كي تطلع الثمر المرجو منها (ص ٨٣). والذي كان يرصد مجرى الحياة العربية قُبيل البعثة النبوية، كان يرى أن أوضح ظاهرة في هذه الأمة، وأقوى قوة عاملة فيها هي الكلمة... فما عرفت الحياة أمة من الأمم كانت الكلمة مالكة زمامها، ومصرّفة أمرها، ومنطلق حياتها ومسبح آلامها وآمالها، كالأمة العربية منذ جاهليتها الى أن طلع عليها الإسلام ونزل عليها القرآن (ص ٨٧). وهنا يأتي دور الكلمة فتؤدّي رسالتها العظيمة في هذا المجال. إذ لا يملك العربي إذ ذاك شيئاً غيرها: فلا رسم ولا نحت، ولا تصوير، ولا تمثيل، ممّا تسمح به الحياة المستقرة المطمئنة، الأمر الذي لم يكن ليتاح لأهل البادية وسكان الصحراء ـ ليس غير الكلمة إذن... ونستطيع أن نؤكد أن العرب وحدَهم من بين سائر الأمم هم الذين استطاعوا أن يصوغوا الحياة كلها في تلك الكلمات التي أصبحت لغة مكتملة البناء راسخة الأركان، بما أبدعوا وولدوا من أمهاتها وأصولها. ونستطيع أن نؤكد أيضاً أن العرب قد استطاعوا أن يحمّلوا لغتهم كل ما تحمل الفنون الجميلة كلها من ملهمات وأسرار. فالموسيقى بألوانها وأنغامها ومقاماتها قد حواها الشعر العربي في تفاعيله وبحوره وقوافيه (ص ٩١). فإن كان ما في الحياة من معطيات الفنون والآداب قد ضمته العربية اليها وجعلته بعضا منها... فالشعر الجاهلي الذي أدرك الإسلام أو أدركه الإسلام هو الصورة الكاملة للبيان العربي، وهو الشهادة القاطعة لما بلغته الكلمة في اللسان العربي من امتلاكها كل ما يمكن من قدرة على الإبانة عن أدق المشاعر الانسانية، وأعمق الأحاسيس، بما لا تقدر عليه وسائل الابانة من لغة ورسم ونحت وتصوير وتمثيل متفرقة أو مجتمعة (ص ٩٢). ومن الواضح أن الشعر الجاهلي الذي حُفظ عن تلك الفترة اعتُبر الصورة الكاملة للشعر الجاهلي (ص ٩٤).

﴿اللغة العربية ومكانتها بين اللغات. ولعلك تذكر هنا بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند، في القديم! كما تذكر أساليب البيان الأوربّي وما نبغ فيه من كتاب وشعراء في العصر الحديث. لعلك تذكر هذا فتعترض على ما قلناه في البيان العربي وفي تفرّده بمنزلة لا يشاركه فيها غيره. لعلك تذكر هذا، وربما نذكره نحن أيضاً معك فإننا لا نبخس الناس حقهم حين نتمسك بحقنا وندافع عنه. ولكنا مع هذا لا نرى أن بلاغة اليونان وحكمة فارس والهند، وبلاغة الأدب الأوربي الحديث، لا نرى شيئاً من هذا يعلو البيان العربي أو يساويه!‍ وإن وقفت منه بعض تلك الآداب موقفاً مدانياً مقارباً وشاهدنا على هذا قائم بين أيدينا على مرّ الايام والسنين: وهو القرآن الكريم (ص ١١٣).

بعد تلك المقدمات يخلص الى القول: ﴿ونستطيع بعد هذا أن ننتهي الى مقرّرات. أولاً: أن القرآن الكريم معجزة في ذاته، وأن معجزته محمولة في كلماته التي نزل بها. ثانياً: أن المعجزة القرآنية جاءَت في زمانها ومكانها... ولعل في قوله تعالى: ﴿الله اعلم حيث يجعل رسالته ما يشير الى هذا المعنى. فان كلمة ﴿حيث يعبّر بها عن المكان. والمكان يحويه زمان. ويعيش فيه أشخاص. وبهذا يكون استعمال القرآن لهذه الكلمة ﴿حيث معجزة تنطلق منها اشارات مضيئة، تشير الى الرسول، والى المرسل إليهم، والى زمن الرسالة ومكانها. فقد أصابت الرسالة مكانها في شخص الرسول، وفي العرب المرسل اليهم، في زمان ومكان معلومين. ثالثاً: إن الأدب الجاهلي، وخاصة الشعر ـ هو المنظور اليه في معرض التحدي. وهو الذي وقع الإِعجاز عليه، إذ كان هذا الأدب، وهذا الشعر، غاية ما يمكن أن يرقى اليه فنّ القول في مجـال العمل الإنساني، في استصحاب الكلمة والتعامل بها (ص ١١٧ ـ ١١٨).

إنّ تعميمات الشيخ عبد الكريم الخطيب عن الآداب العالمية تجاه الأدب العربي، وعن البيان العالمي تجاه الشعر الجاهلي ليس لها من أساس علميّ. ولسنا ندري هل يقرّه علماء الآداب واللغات العالمية على سيادة اللغة العربية عليها، خصوصاً في الأدب الجاهلي وبيانه. فهل يقاس بما أعطته جاهلية اليونان من آداب وفنون من الياذة هوميروس، أو إنياذة فرجيل، أو فردوس دانته، أو أسطورة الدهور لفكتور هوجو؟ ولا أظن أن الأدباء العرب يقرونه على تفضيل الشعر الجاهلي على الشعر العربي كله بدون استثناء. فالمقدمتان الكبرى والصغرى من قياسه ساقطتان.

والآن نبحث وجه الحكمة ١) في اختيار الجزيرة العربية ٢) واختيار لسان العرب ٣) وفي توقيت الرسالة المحمدية، لنرى هل من معجزة في بيئتها: إذ ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته.

بحث أول

هل من معجزة في اختيار الجزيرة العربية للقرآن؟

يصف القرآن عهد العرب قبله ﴿بالجاهلية (١٥٤:٣؛ ٥٠:٥؛ ٣٣:٣٣؛ ٢٦:٤٨). وهو تعبير نصراني يطلقونه على البلاد والشعوب التي لم يصلها نور الكتاب والإنجيل كما قال بولس الرسول في ندوة أثينا: ﴿لقد اغضى الله عن أزمنة الجاهلية، وها هو الآن ينذر جميع الناس، في كل مكان أن يتوبوا (سفر الاعمال ٣٠:١٧).

فجاهلية العرب لم تكن جهلاً بالثقافة والأدب، بل جهلاً بالدين والتوحيد الخالص. وفي التوحيد كانت دعوة أهل الكتاب، من يهودية ومسيحية، قد عمت أطراف الجزيرة، حتى تغلغلت الى الحجاز، فحولته من الوثنية الى الشرك أي عبادة الله الواحد الأحد مع شريك من خلقه. وقد أمسى شركهم ظاهرياً بشهادة القرآن: ﴿ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا الى الله زلفى (الزمر ٣). ونتيجة الدعوة الكتابية أن ﴿عبادة أهل مكّة هي عبادة محمد، وتوحيدهم توحيد اسلامي، أو توحيد قريب من التوحيد الإسلامي ٢ . فليس في اختيار الجزيرة العربية للدعوة القرآنية من معجزة. يكفي شهادة على ذلك حديث ورقة بن نوفل، قس مكّة، واستاذ محمد مدة خمسة عشر عاماً قبل مبعثه؛ وكان يدعو في مكّة الى نصرانيته بترجمة الإنجيل من حرفه العبراني الى العربية، بحضور محمد، زوج خديجة، ابنة عمه، في بيتها. وما كانت الدعوة القرآنية إلا ﴿تفصيل الكتاب للعرب (يونس ٣٧). غفلوا عن دراسته: ﴿أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنّا عن دراستهم لغافلين (الأنعام ١٥٦)؛ فدرسه محمد ليفصله لهم: ﴿وكذلك نصرّف الآيات! وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون (الأنعام ١٠٥). فسكوته عن الرد على تهمة الدرس، وعدوله الى بيان حكمته، دليل على صحة الدرس والتدريس. ولذلك تتواتر الشهادات القرآنية إن الدعوة القرآنية إنما كانت ﴿ليعلمهم الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل (١٥١:٢ و١٢٩؛ ١٦٤:٣؛ ٢:٦٢).

فدين الكتاب، دين إبراهيم وموسى وعيسى، هو الدين الذي يشرعه القرآن للعرب: ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (الشورى ١٣). ودين موسى وعيسى ديناً واحداً هو دين النصرانية الإسرائيلية التي تقيم التوراة والإنجيل معاً، كما يدعو القرآن (المائدة ٦٨)؛ وكما يردّد: ﴿لا نفرّق بين أحد من رسله، ونحن له مسلمون (١٣٦:٢ و٢٨٥؛ ٨٤:٣؛ ١٥٠:٤).

فالإسلام هو محور الدعوة القرآنية. وهذا الإسلام كان قائماً في الحجاز، بمكّة والمدينة، قبل القرآن؛ وذلك بنص القرآن القاطع: ﴿هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا القرآن (الحج ٧٨). فقد ﴿شهد الله أنه لا إله إلاّ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم ـ أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩). وفي اصطلاح القرآن، أولو العلم هم أهل الكتاب؛ والقائمون منهم بالقسط هم النصارى من دون اليهود الظالمين لكفرهم بالمسيح ثم لمحمد. ويسميهم أيضاً الراسخين في العلم، ويميّزهم عن المؤمنين من العرب بمحمد ودعوته، وعن اليهود بقوله: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم... لكن الراسخون في العلم منهم، والمؤمنون، يؤمنون بما أنزل إليك (النساء ١٠٦ ـ ١٦٢) ـ وهؤلاء النصارى الراسخون في العلم هم الذين يؤمنون بمتشابه القرآن مثل محكمه: ﴿والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كلٌ من عند ربنا (آل عمران ٧). فالدعوة للاسلام هي دعوة النصارى الراسخين في العلم المنزل القائمين بالقسط في الإيمان بالمسيح والإنجيل، وبمحمد والقرآن لأن دعوته من دعوتهم. فكان الإسلام القرآني قائماً في مكّة والحجاز قبل الدعوة القرآنية. وما الدعوة القرآنية سوى انتصار له لظهوره على اليهودية هناك: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري الى الله، قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة: فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين (الصف ١٤). فانتصرت النصرانية الإسرائيلية على اليهودية بفضل الدعوة القرآنية. فما الإسلام في القرآن سوى النصرانية الإسرائيلية التي تشهد مع الله وملائكته ﴿أن الدين عند الله الإسلام. والقرآن يشهد بشهادتهم.

فليس من معجزة في اختيار الجزيرة العربية للدعوة القرآنية. بل هي امتداد للدعوة النصرانية الإسرائيلية القائمة في مكّة والحجاز، وذلك بشهادة القرآن القاطعة.

بحث ثان

هل من معجزة في اختيار لسان العرب للقرآن؟

تنزيل الله معجز بحد ذاته بأيّ لسان أُنزل. وقد نزل وحي الله باللسان العبري فالأرامي فاليوناني، قبل أن يُفصّل في القرآن العربي. فمن حيث الأوّلية في التنزيل ليس من معجزة لاختيار لسان العرب للقرآن. وليس اختيار لسان العرب للقرآن لأنه أحق بالشفعة والامتياز للإِعجاز اللغوي والبياني.

فالقرآن نفسه يشهد للكتاب بالإمامة في التنزيل، ويشهد لنفسه بأنه تابع: ﴿أفمن كان على بيّنةٍ من ربه ـ ويتلوه شاهد منه؛ ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً ـ اولئك يؤمنون به؛ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده: فلا تكُ في مرية منه، إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (هود ١٧). إن القرآن يأمر محمداً بأن لا يشك من القرآن البالغ له لثلاثة أسباب: لأن مَن هم على بيّنة من ربهـم في الوحي والتنزيل يؤمنـون به؛ ثم لأن ﴿من قبله كتاب موسى إماماً، فإمامة الكتاب للقرآن العربي برهان على صحته؛ ويتلو القرآن العربي على محمد شاهد من قِبَله تعالى؛ وهو مثل قوله: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠) فمثل القرآن العربي عند بني إسرائيل النصارى ـ نقول النصارى لأنه على خلاف دائم مع اليهود، ولأن القرآن يقسم بني إسرائيل الى طائفتين (الأنعام ١٥٦)، ﴿فآمنت طائفة (بالمسيح) وكفرت طائِفة (الصف ١٤) ـ ﴿ويتلوه شاهد منه.

ما على محمد أن يشك بلقائه بالكتاب في القرآن العربي، لأن أئمته يهدون محمداً اليه بأمر الله: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب، فلا تكن في مرية من لقائه، وجعلناه هدى لبني إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا (السجدة ٢٣ ـ ٢٤). فما على محمد أن يشك بلقاء الكتاب في القرآن لأن الله جعل من بني إسرائيل النصارى أئمة يهدون الى هدى الكتاب الذي معهم. فمحمد بالقرآن العربي يهتدي الى هدى الكتاب بواسطة أئمة بني إسرائيل النصارى. لذلك فهو يسمّي هؤلاء الأئمة ﴿الراسخين في العلم، وهو يستشهد بإيمانهم ﴿بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك (النساء ١٦٢)، ويستشهد بإيمانهم بمتشابه القرآن كما بمحكمه: ﴿والراسخون في العلم يقولون: آمنّا به كلٌ من عند ربنا (آل عمران ٧).

وهذا كله لأن القرآن العربي ليس إلاّ تصديقاً للكتاب بلسان عربي: ﴿قل: أرأيتم إنْ كان من عند الله، وكفرتم به ـ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ـ إن الله لا يهدي القوم الظالمين... ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربيّاً، لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (الأحقاف ١٠ ـ ١٢). فالقرآن من عند الله لأن شاهداً من بني إسرائيل النصارى ﴿شهد على مثله، ولأن ﴿من قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، فإمامة الكتاب للقرآن، بعد ﴿المثل النصراني هما البرهان على أن القرآن العربي من الله، وصفته الكبرى إنه ﴿كتاب مصدق لساناً عربياً فميزته الخاصة تصديق الكتاب بلسان عربي، ليس فيه سوى هذا. وهذا المعنى متواتر في القرآن. ففي هاتين الآيتين سر القرآن كله: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠)، ﴿ويتلوه شاهد منه (هود ١٧). إن ﴿مثل القرآن عند النصارى من بني إسرائيل، ويتلوه على محمد شاهد منهم بأمره تعالى. وبما أن ميزة القرآن العربي تصديق الكتاب، عن طريق ﴿المثل، بلسان عربي، فليس من معجزة لاختيار لسان العرب للقرآن، فهو ليس سوى مصدّق.

فتعريف القرآن العربي أنه ﴿تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (يونس ٣٧). إنه ﴿تفصيل الكتاب أي تعريبه بلغة القرآن. فالميزة باختيار اللسان ليست للمفصِّل، بل للمفصَّل؛ وحسب النسخة المعرَّبة أن تكون مثل الإمام الأصْل، طبق ﴿المِثْل الذي ﴿يتلوه شاهد منه، ﴿شاهد من بني إسرائيل على مثله. وهذا المعنى متواتر أيضاً في القرآن: فهو ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧)؛ ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير (هود ١)؛ وتنزيل من الرحمان الرحيم ﴿كتاب فُصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون (فصلت ٢ ـ ٣). فالتنزيل هو أولاً في الكتاب الإمام، وفي ﴿المثل، ثم تُرجمت آياته قرآناً عربياً، بواسطة حكيم خبير. لذلك فهو يجزم: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين... وإنه لفي زبر الأولين: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل النصارى (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٧). فالقرآن هو تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين، أي ﴿كتبهم كالتوراة والإنجيل (الجلالان). وآية محمد أن الراسخين في العلم يعلمون ذلك، ويشهدون به، ويؤمنون به. وهذه الشهادة تكفيه: ﴿ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قل: كفى بالله شهيداً ومن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣). فشهادة القرآن لنفسه أنه تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين؛ وأنه ﴿تفصيل الكتاب؛ وأنه تصديق الكتـاب ﴿لساناً عربياً؛ وأن إمامه الكتاب في الهدى والبيان؛ وأن ﴿مثل القرآن عند بني إسرائيل النصارى يتلونه على النبي ويفصله له حكيم خبير ـ كلها ميزات يشهد بها القرآن ان الفضل للسان الإمام قبل أن يكون للسان المفصَّل قرآناً عربياً.

قد يقولون: إنَّ التحدي باللسان لم يقع في الكتاب الإمام، بل بالقرآن العربي، فالفضل للسان العربي على السنة العالمين. يُردّ عليه بأن التحدي بإِعجاز القرآن لم يكن بلسانه بل بهداه: ﴿قل فاتوا بكتاب من عند الله هو اهدى منهما أتّبعه، إن كنتم صادقين (القصص ٤٩). والفضل في الهدى للكتاب المفصَّل، لا للكتاب المفصِّل.وقد رأينا أن التحدّي بإِعجاز القرآن كان بمكّة وحدها للمشركين؛ فلمّا تحوّل الخطاب في القرآن المدني لأهل الكتاب سكت عنه بعد (البقرة ٢٣)، ونسخه بالنسخ في أحكامه (البقرة ١٠٦) والمتشابه في أخباره وأوصافه (آل عمران ٧) وهو أكثر القرآن. فالواقع القرآني نفسه يشهد بأنه ليس من معجزة في اختيـار اللسان العربي للقرآن، فهـو ﴿تفصيل الكتـاب للعرب، وتعليمهم ﴿الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل.

بحث ثالث

هل من معجزة في توقيت الرسالة القرآنية؟

فضل الرسالة القرآنية على العرب لا ينكره إلاّ أعمى لا يرى النور. فقد أنشأ منهم أمة عظيمة، ودولة عظيمة؛ وأتحفهم بالإسلام ديناً؛ وأودعهم القرآن دستور الدين والدولة والأمة. لكن ليس في توقيت الرسالة القرآنية من معجزة فيهم.

فقد يظن بعضهم ويحلو لهم أن يقولوا بأن القرآن نقل العرب من ﴿جاهليتهم الى الإسلام؛ ويفسّرون ذلك بأنه نقلهم من الوثنية والهمجية الى التوحيد والحضارة التي دوّخت العالم دهراً من الزمن. وفاتهم جميعاً ان كلمة ﴿الجاهلية اصطلاح قرآني موروث عن النصارى من أهل الكتاب. فقد كانوا يقسمون العالم، مثل اليهود، الى أهل الكتاب والأميّين الذين ليس لهم الكتاب المنزل كما في قوله: ﴿وقلْ للذين أوتوا الكتاب والأميّين: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا (آل عمران ٢٠)؛ وكما في تسمية محمد ﴿النبي الأمّي (الأعراف ١٥٧ و ١٥٨) أي من الأميّين الذين ليس لهم كتاب منزل: ﴿هو الذي بعث في الأميّين (العرب) رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل (الجمعة ٢). وقد كان النصارى يسمون زمن الأمم قبل الإيمان بالكتـاب والإنجيل ﴿جاهلية الأمم، لا الجهل في المعرفة، بل الجهل بالعلم المنزل، ولذلك يسمون أنفسهم أهل الكتاب وأولي العلم، كما وصفهم القرآن أيضاً. وفي تسمية القرآن ـ والنصارى ـ زمن العرب قبل الإيمان بالعلم المنزل ﴿الجاهلية لا يقصد الجهل بالمعرفة، بل الجهل في الدين والإيمان والإسلام.

وكانت جاهلية العرب بالحجاز في نهضة عارمة قومية وثقافية وتجارية، مهّدت السبل لقيام الدعوة القرآنية في ذروتها، كما يشهد بذلك الواقع القرآني. فقد تمّيزت مكّة، بعد تضعضع اليمن بخراب سد مأرب واحتلال الحبشة مرتين لليمن، وبالتجارة الدولية بين اليمن والشام وبين الشرق والغرب. وقد أشاد القرآن بفضل الله ﴿لإيلاف قريش، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف. وقد ازدهرت هذه التجارة الى دولة الفرس والى دولة الروم. بفضل الحياد الايجابي العربي بين الدولتين. ولمّا شعروا أن في الدعوة القرآنية ميلاً إلى أهل الكتاب فدولة الروم، ردّوا على دعوة القرآن: ﴿إن نتّبع الهدى معك نُتَخطّف من أرضنا (القصص ٥٧). فاستقلالهم السياسي يقتضي استقلالهم الديني عن أهل الثنوية: ﴿لا تتّخذوا الهين اثنين (النحل ٥١)، وعن أهل التثليث: ﴿ولا تقولوا: ثلاثة (النساء ١٧١). فصراع أهل مكّة مع محمد سياسي ديني؛ لذلك يبين لهم القرآن أن التوحيد الإسلامي ينفي الثنوية وتبعيتها، والتثليث وتبعيته. وهذه النهضة القومية والتجارية يرافقها نهضة ثقافية تمثلت في الشعر الجاهلي، في القرنين الخامس والسادس م. كما قامت أسواق الأدب الى جانب أسواق التجارة، في مواسم الحج. وهذا هو المظهر الأكبر للنهضة الجاهلية في مظاهرها الثلاثة القومي والتجاري والثقافي. ومواسم الحج دليل أيضاً على النهضة الدينية. ويفيض القرآن بوصف نعمة الله عليهم بالبلد الحرام، والبيت الحرام، وموسم الحج الذي يفيض عليهم بالخير بالبركات: ﴿وقالوا: إن نتّبع الهدى معك نُتخطّف من أرضنا! ـ أولم نمكّن لهم حَرَمْاً آمنّاً ـ يُجبى اليه ثمرات كل شيء، رزقاً من لدنّا، ولكن أكثرهم لا يعلمون (القصص ٥٧)؛ ﴿أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً، ويتخطّف الناس من حولهم (العنكبوت ٦٧).

بتلك النهضات الأربع، صارت مكّة ﴿أم القرى، حول الحرم (القصص ٥٩).

لكن تلك النهضة الدينية كانت تدرجاً من الوثنية الى التوحيد الكتابي. والبرهان الأثري الأكبر هو الشعر الجاهلي الخالي من الوثنية والشرك. والقرآن خير برهان على بلوغهم الى التوحيد: ﴿ولئن سألتهم: مَن خلق السماوات والأرض، وسخَّر الشمس والقمر؟ ـ ليقولُنّ الله (العنكبوت ٦١؛ قابل ٢٥:٣١؛ ٣٨:٣٩؛ ٩:٤٣)؛ ﴿فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجّاهم الى البرّ، إذا هم يشركون (العنكبوت ٦٥). لقد بلغوا الى التوحيد، لكنه لم يزل مشوباً بشرك. مع ذلك فهو شرك ظاهري أكثر ممّا هو حقيقي، فهو من رواسب الماضي: ﴿ألا لله الدين الخالص! والذين اتّخذوا من دونه أولياء ـ ما نعبدهم إلاّ ليقربونا الى الله زلفى (الزمر ٣). فالقرآن يدعوهم الى الإخلاص في الدين والتوحيد، كما يدعـو محمداً نفسه: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق: فاعبد الله مخلصاً له الدين (الزمر ٢).

تلك هي حال أهل مكّة حين الدعوة القرآنية في نهضتهم الدينية والثقافية والسياسية والقومية: فهل من معجزة في توقيت الدعوة القرآنية الى التوحيد الخالص؟

وهنا نتساءَل: ما هو سر هذه النهضة الجاهلية الشاملة؟ قد يفسرونها بسيطرة مكّة على طرق المواصلات والتجارة الدولية، بعد ضعف اليمن وانشغاله بالحرب السجال بين الفرس والحبشة على احتلاله، ومحاولة الحبشة من اليمن احتلال الحجاز، في عام الفيل سنة ٦٧٠، سنة مولد محمد. لكن هذا السبب لا يفسّر كل مظاهر النهضة الجاهلية، خصوصاً من الناحية الدينية. والقرآن في خطاب اليهود والنصارى يشهد بوجودهم النافذ في مكّة والمدينة والحجاز كله. وفي تضامن القرآن والدعوة ﴿النصرانية، حلُّ سرّ النهضة الجاهلية كلها بالحجاز.

لقد انقسم أتباع المسيح، على زمن الرسل الحواريين، الى شيعة وسُنّة. فالذين اهتدوا الى الإنجيل من الأمميّين سُمّوا ﴿مسيحيّين في العالم كله؛ والذين اهتدوا الى الإنجيل من بني إسرائيل دُعوا ﴿نصارى. ومؤتمر الرسل الحواريين عام ٤٩ م. حرَّر ﴿المسيحيّين من شريعة موسى والختان شعارها، وترك النصارى من بني إسرائيل أحراراً لم يبتّ في أمرهم، فكانوا يقيمون التوراة والإنجيل معاً، والعماد المسيحي والختان الموسوي معاً؛ وقد أمّروا عليهم أساقفة آل بيت المسيح. وهكذا تشيّعوا لآل البيت وللتوراة. فكان النصارى من بني إسرائيل شيعة؛ وكان المسيحيون من سائر الامم سُنّة لاتباعهم سُنّة الرسل الحواريين في مؤتمرهم. وهذا كله موجود في سفر ﴿اعمال الرسل من العهد الجديد.

ولمّا ثار اليهود على الرومان في الثورة الأولى عام ٧٠ م، وفي الثورة الثانية عام ١٣٣، أجلى الرومان اليهود و﴿النصارى من اورشليم، فتشتتوا في البلاد. ووقع النصارى بين نارين: نار بني قومهم اليهود، ونار بني دينهم المسيحيين.

ولمّا اهتدت الدولة الرومانية الى المسيحية، فكاد لها اليهود، وكانوا الطابور الخامس للفرس عند العرب والروم، أمر القيصر ثاوضوسيوس بإجلاء اليهود وشيعة النصارى عن دولة الروم، في منتصف القرن الخامس. فهاجر اليهود الى فارس. ولم يبق أمام النصارى من بني إسرائيل سوى الحجاز، لأن أطراف الجزيرة العربية كانت في غالبيتها على المسيحية. فهاجر النصارى من بني إسرائيل الى الحجاز. وفي خبر سلمان الفارسي بالسيرة الهاشمية دلائل على انسحاب آخر النصارى الى الحجاز. وفي حديث ورقة بن نوفل قسّ مكّة النصراني، وخبر ترجمته الإنجيل من الحرف العبراني الى العربية ـ وهو الإنجيل الوحيد الذي كانوا يعترفون به، أي الإنجيل بحسب متى في حرفه العبراني، ولغته الأرامية كما دوّن في الأصل، قبل ترجمته الى اليونانية ـ الخبر اليقين على إقامة النصارى وتنظيمهم بمكّة جماعة دينية مستقلة، تدعو أهلها الى ﴿النصرانية. وزعامة ورقة بن نوفل للجماعة النصرانية، وترجمة الإنجيل للعربية، البرهان على تغلغل ﴿النصرانية، في قريش، وعلى سيطرتها بمكّة. فقد كانت السيدة خديجة، ابنة عم ورقة، سيدة تجار قريش، وكانت تجارتها تعدل تجارة قريش. ففي يد آل نوفل ﴿النصارى الزعامة الدينية والتجارية بمكّة حين البعثة المحمدية.

ففي مدة قرن ونصف توصّل النصارى من بني إسرائيل الى السيطرة الدينية والتجارية والثقافية على مكّة. وفي انخراط محمد في تجارة خديجة، بأمر عمه، ثم في تثقّفه بالتوحيد الكتابي و﴿النصراني بجوار ابن عمها ورقة قس مكّة، بعد زواجه منها، مدة خمس عشرة سنة قبل مبعثه، دلائل على ذلك.

ومن الدلائل على ذلك أيضاً ﴿بناء الكعبة على الطراز الحبشي، في سنة ٦٠٨ ميلادية، ووجود الصـور المسيحية التي كانت تحلّي باطنهـا، وقيـام معمار حبشي ببنائها ٣ . وبحسب السيرة النبوية كان من روم الشام، وقد أمروه: ﴿ابنها لنا ببناء أهل الشام أي على شكل كنيسة ـ وقد كانت الكعبة على عهد محمد ودعوته كنيسة مسيحية، للنصارى من بني إسرائيل فيها الحجر الأسود رمز المسيح الى جوار صورة مريم العذراء تحتضن السيد المسيح ٤ على عادة المسيحيين الشرقيين في كنائسهم. واشتراك المسيحيين والنصارى من بني إسرائيل في مقام الكعبة دليل على سيطرة الفريقين في مكّة وعلى الصراع الخفي بينهما، وهو من أسباب مقاومة قريش للدعوة الإسلامية ﴿النصرانية.

فهجرة النصارى من بني إسرائيل الى مكّة والحجاز كانت سبب النهضة الجاهلية الشاملة، وسبب تخلّص أهل مكّة من الوثنية وتحولهم الى التوحيد. فقد أطلق هؤلاء النصارى على دعوتهم أولاً اسم ﴿الحنيفية أي الميل عن الوثنية لإيلاف قريش والعرب. وهذا سبب الترادف الذي نراه في المصادر في صفة ورقة بن نوفل تارة بالحنيف وتارة بالنصراني. وقبيل الدعوة القرآنية، ربما على زمن ورقة بن نوفل، وصفوا ﴿نصرانيتهم بالإسلام، وسموا أنفسهم ﴿المسلمين، كما يتّضح من القرآن نفسه الذي يشهد مع الله وملائكته وأولي العلم قائماً بالقسط، أي الراسخين في العلم، ـ وهم النصارى من بني إسرائيل، بحسب القرائن القرآنية كلها ـ ﴿أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٧ ـ ١٨) ولذلك خالفه اليهود من أهل الكتاب ﴿من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم (آل عمران ١٨)، ولذلك أيضاً كانوا ﴿يقتلون الذين يأمرون بالقسط كما كانوا يقتلون النبيّين من قبلهم (آل عمران ٢٢). فالقرآن يشهد للاسلام بشهادة النصارى من بني إسرائيل، بعد أن جاءَه الأمر بالانضمام اليهم وقراءَة قرآن الكتاب معهم: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (النمل ٩٠ ـ ٩١). فالمسلمون موجودون بمكّة قبل محمد وهو يُؤمر بالانضمام اليهم، ليشهد معهم ﴿أن الدين عند الله الإسلام.

فالإسلام كان قائما بمكّة قبل محمد، وقد أُمر محمد برؤيا غار حرّاء بالهداية النهائية اليه والدعوة له (الشورى ٥٢ مع ١٥). وجاءَت الدعوة القرآنية نصرة ﴿للنصرانية على اليهودية في الحجاز، بنص القرآن القاطع: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: مَن أنصاري الى الله؟ وقال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل (النصارى) وكفرت طائفة (اليهود): فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين (الصف ١٤). لقد ظهرت النصرانية على اليهودية في الحجاز بفضل الدعوة القرآنية. فما إسلام القرآن سوى إسلام هؤلاء ﴿النصارى.

هذا هو الواقع التاريخي والقرآني. فهل من معجزة في توقيت زمن الدعوة القرآنية؟ والرسالة المحمدية؟ إن القرآن دعوة ﴿نصرانية.

بحث رابع

اصطفاء محمّد للدعوة القرآنية فضل من الله أم معجزة شخصية؟

أجل إنه لفضل عظيم من الله تعالى على محمد باصطفائه للدعوة القرآنية بالإسلام. ولهذا الاصطفاء الفضل الكبير بنجاح الدعوة وسيطرتها على العرب. فقد عجزت اليهودية ثم المسيحية ثم النصرانية الإسرائيلية عن السيطرة التامة على الحجاز، عرين العرب. ولكن، بعد اصطفاء الله محمداً، فطرتُه ونشأته وزواجه من السيدة خديجة، وتلمذته على علاّمة مكّة ورقة بن نوفل مدة خمس عشرة سنة، جعلت محمداً أهلاً وقابلاً لاصطفاء الله له، ﴿واللّه أعلم حيث يجعل رسالته (الأنعام ١٢٤). فقلّما عرفت البشرية بطولة كبطولة النبي العربي.

وعين اللّه الساهرة عليه لغايتها دبّرت له نشأة سليمة على الفصحى الخالصة. يقول الأستاذ العقاد ٥ : ﴿ثم عُهد به الى حليمة بنت ذؤيب تستتم رضاعته في بادية قَومها بني سعد، على سُنّة العلية من أشراف مكّة، يبتغون النشأة السليمة واللغة الفصحى بعيداً من اخلاط مكّة وأهوائها. ولم يكن الطفل اليتيم على يسار لأن أباه مات في مقتبل الشباب، ولكن أسرة أبيه وأسرة أمه تكفّلتا بنشأته كما ينشأ أبناء السراة في قريش... ولبث معها الى الخامسة أو قبلها بقليل. وتكلّم وجرى لسانه بالعربية الفصحى وهو بين بني سعد، فذاك فخره بعد النبوّة اذ يعجب الصحابة من فصاحته، فلا يرى عليه السلام عجباً في فصاحة عربي نشأ في بني سعد، وتربى في الذؤابة من قريش.

وعين اللّه الساهرة عليه لغايتها، دبّرت له زواجه من السيدة خديجة التي كانت تجارتها تعدل تجارة قريش، فجاءَه معها المال والجمال وهناء البال. وتروي السيرة النبوية لابن هشام أن السيدة خديجة قد استشارت ورقة  بن نوفل بصفته ابن عمها، وبصفته قسّ مكّة، في أمر زواجها من محمد. ﴿فقال ورقة: لئن كان هذا حقاً، يا خديجة، إن محمداً لنبيُّ هذه الأمة ٦ . يقول ورقة ذلك قبل مبعث محمد بخمس عشرة سنة. فهل كان ورقة نبيّاً ليعرف مصير محمد بعد خمس عشرة سنة؟ وبعد خمس عشرة سنة يرى محمد رؤياه في غار حرّاء، فيرجع الى خديجة ترتعد فرائصه. ﴿فقالت: أبشرْ يا ابن عم واثبتْ، من الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة ٧ . فهل كانت خديجة أيضاً نبية لتعرف قبل محمد أنه نبي هذه الأمة؟ ففي موافقة ورقة وخديجة على زواجها من محمد تصميم على تهيئة محمد لمهمة الدعوة، وتسلّمها من ورقة والقيام بها من بعده.

وقد بيّنا في كتاب آخر أن أميّة محمد قول ٨ لا نستطيع الأخذ به. ولا تضير الثقافة النبوّة، فقد كان موسى قبل مبعثه قد تثقّف بكل ثقافة المصريين في بيت فرعون، وثقافة الكنعانيين مدة أربعين سنة في مدين، قرب شيخها وكاهنها، وهو يرعى له أنعامه.

وفي حديث ورقة بن نوفل في صحيح البخاري وغيره، نرى صلة محمد بورقة وتلمذته للقس العلامة مدة خمس عشرة سنة، من زواجه بخديجة الى مبعثه في سن الأربعين. وذلك في قوله في ختام الحديث: ﴿وما نشب أن توفّي ورقة وفتر الوحي. فهو يجعل وفاة ورقة سبب فتور الوحي. وما هذا سوى دليل على تأثير ورقة البالغ في محمد ودعوته.

ويأتي القرآن بالقول الفصل، فيشهد أن محمداً درس الكتاب ليعلمه للعرب: وكذلك نصرّف الآيات! وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون (الأنعام ١٠٥). فهو لا يرد التهمة، وسكوته عنها وعدوله الى بيان غاية الدرس برهان على صحة واقع الدرس. غفلوا هم عن دراسة الكتاب (الأنعام ١٥٦) فدرسه محمد ليدَرّسهم إياه، ﴿ويعلّمهم الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل (البقرة ١٢٩؛ آل عمران ١٦٤؛ الجمعة ٢)، ﴿ويعلّمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (البقرة ١٥١). لذلك كان يستعلي على المشركين بعلم الكتاب المنير وهداه: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير هدى ولا علم ولا كتاب منير (الحج ٨؛ لقمان ٢٠). ويتحدى المشركين بقوله: ﴿أم لكم كتاب فيه تدرسون (القلم ٣٧)، فهو عنده الكتاب فيه يدرس. ويتحداهم أيضاً بقوله: ﴿أم عندهم الغيب فهم يكتبون (القلم ٤٧؛ الطور ٤١)؛ فهو عنده الغيب في الكتاب يكتب منه. وهذا ما لاحظه أهل مكّة وقالوه له: ﴿وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً (الفرقان ٥). وكان استعلاؤه الدائم على المشركين قوله: ﴿وما آتيناهم من كتب يدرسونها (سبأ ٤٤) ممّا يوحي بأنه هو كان له كتب يدرسها.

أجل إن محمداً على أثر رؤيا في غار حرّاء اهتدى نهائيّاً الى الإيمان بالكتاب (الشورى ٥٢)؛ وأُمر بالانضمام الى المسلمين، النصارى من بني إسرائيل، يدعو بدعوتهم الى قرآن الكتاب: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢)؛ وكان يشهد معهم ﴿أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩).

وهذا الواقع التاريخي والقرآني يشهد بأنه ليس من معجزة في اصطفاء محمد للدعوة القرآنية بالإسلام، إلاّ الاصطفاء والرؤيا؛ وهذه حال كل أنبياء الله. فما عدا الاصطفاء بالرؤيا للإيمان بالكتاب، (الشورى ٥٢)، والأمر بالدعوة له ولاسلامه (النمل ٩١)، كان محمد في شخصيته عبقرية دينية، وعبقرية سياسية، وعبقرية دبلوماسية، وعبقرية عسكرية، وعبقرية إدارية، وعبقرية تشريعية، وعبقرية أدبية ٩ . وهذه العبقريات هي التي أهلته للقيام بالدعوة القرآنية خير قيام. وهذه العبقريات التي قد لا تجتمع لرجل ليست من الوحي والتنزيل في شيء. لذلك نستطيع أن نقرّر أن محمداً ليس معجزة من معجزات القرآن، ولا وجهاً من وجوه إِعجازه. ولا دليلاً من أدلة هذا الإِعجاز ١٠ .

خاتمة

معجزات ليس النبي ولا القرآن بحاجة اليها

أجل ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته. وقد فطر محمداً على مجموعة من العبقريات، تجعله يقوم بمجموعة من البطولات. ولكن اصطفاء الله للمصطفى لا يجعله معجزة شخصية ﴿من معجزات القرآن. وليس في توقيت الرسالة المحمدية، والدعوة القرآنية من معجزة زمانية. وليس في اختيار لسان العرب للقرآن العربي من معجزة لغوية. وليس في قيام الدعوة القرآنية بالحجاز في جاهلية العرب من معجزة مكانية. إن القرآن والحديث والسيرة تشهد بأن بيئة القرآن والنبي كانت ناضجة لقيام محمد بالدعوة القرآنية، بعد فضل الله عليه باصطفائه لها. فليس من معجزة للقرآن في بيئة النبي والقرآن. انما إِعجاز القرآن في ذاته، بالنسبة الى المشركين.

الجزء الثاني

الإِعجاز في شمول الدعوة القرآنية وكمالها

توطئة

الشمول والكمال في الدعوة القرآنية

من الإِعجاز في دعوة دينية شمولها وكمالها. وهم يرون في الدعوة القرآنية شمولاً في النبوّة والعقيدة، جاء مصحّحاً متمّماً لكل نبوّة وعقيدة سبقتها، شمولاً في موضوع الدعوة، فالإسلام دين ودنيا، دين ودولة، دنيا وآخرة؛ شمولاً في عالمية الدعوة، وكانت كل دعوة قبلها قومية. إن ﴿عقيدة الشمول هي الصفة التي امتازت بها الدعوة الإسلامية ١١ . فكمالها في شمولها وفي عالميتها.

وقد فات العقاد حقيقة الواقع القرآني. فقومية الدعوة القرآنية ظاهرة في تصاريحها: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك (الزخرف ٤٤)؛ ﴿لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم، أفلا تعقلون (الأنبياء ١٠)، ﴿بل آتيناهم بذكرهم، منهم عن ذكرهم معرضون (المؤمنون ٧٢). فالدعوة القرآنية قومية عربية؛ وانتهت عالمية بالفتوحات الإسلامية. والشمول محدود بأمر الوحي لمحمد: ﴿أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده (الأنعام ٩٠)؛ ومقيّد ﴿بالمثـْل الذي يتّبعه: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠). والكمال يقتصر على الدعوة ﴿النصرانية: فمحمد يشهد بشهادة ﴿أولي العلم قائماً بالقسط... إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩). فهو يمنع الجدل مع أهل الكتاب النصارى إلاّ بالحسنى، وهذه الحسنى هي الأمر لأمته أن يقولوا: ﴿آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم، والهنا والهكم واحد، ونحن له مسلمون (العنكبوت ٤٦)، فالإله واحد، والتنزيل واحد، والإسلام واحد. فأين الشمول والكمال في الدعوة القرآنية؟

بحث أوّل

الشمول في التصحيح والتتميم

يقول العقاد ١٢ في كتابه للمؤتمر الإسلامي: ﴿ومن ثمَّ كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصحّحة متمِّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات، أو مذاهب الفلسفة، ومباحث الربوبية... والواقع أن النبوّة الإسلامية جاءَت مصحِّحة متمِّمة لكل ما تقدمها من فكرة عن النبوّة، كما كانت عقيدة الإسلام الالهية مصحّحة متمّمة لكل ما تقدمها من عقائد بني الانسان في الإله.

وفات الأستاذ المعلم أن الواقع القرآني ينقض قوله في هذين التصحيح والتتميم. إن القرآن صريح بأن الكتاب ﴿إمامه: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة؛ وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢. كذلك هود ١٧). فميزة القرآن، بنصه القاطع، أنه تصديق الكتاب؛ وفي هذا التصديق ليس عنده من جديد سوى اللسان العربي. فليس ما عنده تصحيح ولا تتميم. والقرآن يستعلي على المشركين بالكتاب المنير، الإنجيل: ﴿ومن الناس مَن يجادل في الله بغير هدى ولا علم ولا كتاب منير. وهو يردّ ذلك في مكّة (لقمان ٢٠) وفي المدينة (الحج ٨). فمحمد يجادل في دعوته بهدى وعلم الكتاب المنير. فليس ما عنده تصحيح ولا تتميم. فالتوراة والإنجيل هما دين موسى ودين عيسى اللذين شرعهما للعرب ديناً واحد، ﴿لا نفرّق بين أحد من رسله، ونحن له مسلمون (البقرة ٢٨٥ قابل البقرة ١٣٦؛ آل عمران ٨٤؛ النساء ١٥٠). يقول ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الـدين ولا تتفرّقوا فيه (الشورى ١٣). فإقامة توراة موسى وإنجيل عيسى معاً هي الإسلام في القرآن، وهي الدين الذي شرعه الله للعرب. فليس من جديد في القرآن، بل ﴿هذا ذكر من معي وذكر مَن قبلي (الأنبياء ٢٤). فليست الدعوة القرآنية مصحّحة متممة لدين التوراة والإنجيل، بل تبليغ له الى العرب.

إنّ ﴿الكتاب والحكمة في اصطلاح القرآن كناية عن التوراة والإنجيل (٦٣:٤٣؛ ٤٨:٣؛ ٥٤:٤ و١١٣؛ ١١٠:٥): ﴿لقد مَنَّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين (آل عمران ١٦٤)؛ ﴿كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم، ويعلّمكم الكتاب والحكمة، ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون (البقرة ١٥١)؛ ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (الجمعة ٢). لاحظ دقة التعبير وتواتره: فهو أولاً ﴿يتلو عليهم آيات الله في الكتاب الإمام وفي الكتاب المنير؛ ثم يفصّلها لهم بسور القرآن؛ وبذلك يعلمهم الكتاب والحكمة، التوراة والإنجيل. فليس القرآن العربي سوى تعليم الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل. فليس فيه تصحيح ولا تتميم للتوراة والإنجيل.

والأمر لمحمد صريح بالاقتداء بأهل الكتاب والحكمة: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة... أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدِه (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠) على محمد أن يقتدي بهدى أهل الكتاب والحكمة ـ لاحظ استعمال التعبير العبراني الأرامي بحرفه ﴿الحُكم أي الحكمة، دليلاً على التبعية في التعبير والتفكير ـ فلا يكون ما أتى به مصحّحاً متمّماً لكل ما تقدمه من عقائد بني الانسان في الإله.

وأهل ﴿الكتاب والحكمة معاً هم المسلمون الذين أُمر أن ينضمّ اليهم وأن يتلو قرآن الكتاب معهم، على طريقتهم: ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢). فهو يتلو على العرب قرآن الكتاب مع المسلمين، النصارى من بني إسرائيل، الذين عندهم ﴿مثل القرآن العربي: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠). فليست الدعوة القرآنية تصحيحاً ولا تتميماً لما سبقها. إنما الدعوة القرآنية هي الدعوة ﴿النصرانية باسمها ومضمونها. فهو يسمّي هؤلاء ﴿المسلمين من قبله أولي العلم المقسطين، أو الراسخين في العلم (آل عمران ٧، النساء ١٦٢). ويصرّح: ﴿شهد الله أن لا إله إلاّ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط... أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩). وهذا الإسلام هو تنزيل الله على إبراهيم وموسى وعيسى، ﴿لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون: ومَن يبتغ غير الإسلام (هذا) ديناً فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين (آل عمران ٨٤ ـ ٨٥). فإسلام النصارى ﴿المسلمين هو اسلام القرآن نفسه: فما جاءَت عقيدة الإسلام الإلهية مصححة متممة لكل ما تقدمها من عقائد بني الانسان في الإله؛ فهي اسماً وعقيدة مِمّن يسميهم ﴿أولي العلم قائماً بالقسط، ﴿الراسخين في العلم، الذين أُمر بأن ينضمّ اليهم، ويقتدي بهداهم.

فأين الشمول بالتصحيح والتتميم في النبوّة والعقيدة؟ فالقرآن يصرح بأنه ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧)، وليس فيه من جديد سوى التصديق لساناً عربياً: ﴿وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢). هذه الصفات تقضي على مقولة الشمول، والقول بالكمال، فكل تحدّيه ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين (القصص ٤٩).

بحث ثان

الشمول في موضوع الدين

تلك المواقف القرآنية الصريحة، وغيرها كثير، تحدّد الشمول والكمال في موضوع الدين في الإسلام والدعوة القرآنية. إنه شمول وكمال مقصوران على ﴿تفصيل الكتاب، وتعليم ﴿الكتـاب والحكمة للعرب، وتصديق الكتـاب الإمام، والكتاب المنير بين العرب: ﴿وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً.

فمهما كان الشمول في الإسلام، ومهما كان الكمال في الدعوة القرآنية، فهما شمول وكمال من إسلام أولي العلم المقسطين، والراسخين في العلم، الذين أُمر محمد بأن يقتدي بهداهم (الأنعام ٩٠).

أولاً: الشمول في توحيد شئون الدنيا والآخرة

يقول العقاد ١٣ : ﴿كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة. فالإسلام يهتم بشؤون الدنيا كما يهتم بشؤون الآخرة. وفي هذا كمال وشمول. لكن هل الاهتمام بشؤون الدنيا من أغراض الوحي والتنزيل؟ إن الله تعالى خلق العقل، وجعل في كتاب الخلق ميداناً للعقل يتدبّر به الإنسان أمور دنياه، ويتدبرها بحسب تطور البشرية في الحضارة والثقافة. فالدنيا عالم الشهادة لا يحتاج الى وحي يكشفه لنا. فالعقل هو نبي كتاب الخلق يقرأه كلما اتّسع ادراكه واتسعت معرفته.

والقرآن يقرّر: ﴿إن النفس الأمّارة بالسوء (يوسف ٥٣)؛ ﴿لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين (التين ٤ ـ ٥). فبانقلاب الإنسان من أحسن تقويم الى أسفل سافلين، صارت فيه النفس أمّارة بالسوء. هذا التعليم القرآني هو تعليم المسيحية في الخطيئة الموروثة عن آدم، في ميلها الفطري الى السوء.

فهل الشمول والكمال في التحريض على الزهد في الدنيا، أم في التحريض على الأخذ بالنصيب من الدنيا: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسَ نصيبك من الدنيا (القصص ٧٧) ﴿إن النفس الأمّارة بالسوء، فهل من الكمال والشمول تحريضها على الاستمتاع بطيبات الدنيا، بتشريع يزداد في التحريض: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم! (البقرة ١٧٢) ﴿يسألونك: ماذا أُحلَّ لهم؟ ـ قل: أُحلَّ لكم الطّيبات (المائدة ٤) ﴿اليوم أحلَّ لكم الطّيبات (المائدة ٥) ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أُحلَّ لكم، ولا تعتدوا (أمر الله) إن الله لا يحب المعتدين (المائدة ٨٧). قال الجلالان: ﴿نزل لمّا هم قوم من الصحابة أن يلازموا الصوم والقيام (في الليل للصلاة)، ولا يقربوا النساء والطيب، ولا يأكلوا اللحم، ولا يناموا على الفراش. (ولا تعتدوا) ولا تتجاوزوا أمر الله. ﴿وكلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيباً (المائدة ٨٨) فقد نسخ القرآن المدني بهذه الدعوة لاستباحة الطّيبات من الدنيا، دعوة القرآن المكي الى الزهد.

ومن طيبات الدنيا المرأة: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء: مثنى وثلاث ورباع ـ فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. ذلك أدنى ألاّ تعولوا أي تجوروا (النساء ٣). إباحة الجمع بين أربع نساء معاً من طيبات الحياة. أمّا التسري بملك اليمين من الإماء فلا حدّ له ولا قيد. والحدّ في أربع نساء معاً يخرقه إباحة الطلاق، فيعود الزواج بالنكاح والطلاق بلا حد ولا قيد. أماّ تعبير ﴿ما بحق النساء، وهو يُستعمل لغير العاقل، فالخوف أن يستشفّ من أن المرأة شيء لمتعة الرجل.

ومن تسهيل الدين في سبيل الدنيا: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج (الحج ٧٨).

فهل في رفع الحرج من الدين في طيبات الدنيا، وإباحة الطّيبات من الرزق ومن النساء بالطلاق والتسري، وأخذ النصيب من الدنيا، هو من الشمول والكمال في جمع شؤون الدنيا الى شؤون الآخرة؟

ثانياً: الشمول في الجمع بين الجسد والروح في الدين

يقول العقاد ١٤ : ﴿كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة، وبين الجسد والروح؛ ولا يعاني هذا الانفصام الذي يشق على النفس احتماله، ويحفزها في الواقع الى طلب العقيدة، ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام... وينبغي أن نفرّق بين الاعتراف بحقوق الجسد وانكار حقوق الروح، فإن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم انكار الروحانية... إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح.

هنا يعرِّض العقاد بالموسوية وماديتها على حساب الروح، وبالمسيحيّة وروحانيتها على حساب الجسد، كما يقولون. والشمول يجده في الإسلام الذي يعترف بحقوق الجسد، كما يعترف بحقوق الروح.

أجل يقول الإنجيل: ﴿لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون! ولا لأجسادكم بما تلبسون (متى ٢٥:٦). لكن هذا لا يعني التنكّر لحقوق الجسد، بل الفصل كله تقييم لحقوق الروح وحقوق الجسد: يستفتح بالمبدأ: ﴿لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال لأن عبادة المال وثنية على حساب عبادة الله: ﴿لا يستطيع أحد أن يخدم سيدين: فإنه إمّا يبغض الواحد ويُحب الآخر، أو يلزم الواحد ويرذل الآخر (متى ٢٤:٦). ويستنتج من ذلك: ﴿من أجل ذلك أقول لكم: لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون، ولا لأجسادكم بما تلبسون: أليست النفس أعظم من الطعام، والجسد أعظم من اللباس (متى ٢٥:٦) فالقضية قضية تقييم لحقوق الروح وحقوق الجسد، وحق الروح أفضل من حق الجسد. فالذي يقوت طير السماء، ويلبس زنابق الحقل، ﴿كم بالأحرى يلبسكم أنتم، يا قليلي الإيمان؟ فلا تقلقوا إذن قائلين: ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ ـ فهذا كله يطلبه الأمّيون، وأبوكم السماوي عالم بأنكم تحتاجون الى هذا كله (متى ٢٦:٦ ـ ٣٢). والنتيجة المطلوبة هي هذا التعليم السامي الذي يضع شؤون الروح وشؤون الجسد كلاًّ في مكانها: ﴿فاطلبوا أولاً ملكوت الله وبِرَّه، وهذا كله يُزاد لكم (متى ٣٣:٦). ففي سبيل الله يجب الاهتمام أولاً بالروح، من دون اهمال للجسد؛ لأن حق الروح علينا أفضل من حق الجسد. وهذا التقييم ليس انكاراً لحق الجسد، ولا يجعل انفصاماً في الانسان يشق عليه احتماله، فيهيم بين الحيرة والانقسام. لكن هذا التقييم يعصم الانسان من الانزلاق في شهوات الجسد على حساب الروح.

فالروح قائم في الجسد، غارق في الحسّ وفي دنيا المحسوسات، حتى صارت ﴿النفس أمّارة بالسوء؛ فقد ﴿زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث ـ ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب (آل عمران ١٤).

فليس الانسان بحاجة الى تذكيره بحقوق الجسد، فإنه متكالب عليها. إنما هو بحاجة الى حمله على القيام بحقوق الروح في سبيل الله واليوم الآخِر: ﴿وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو، وللدّار الآخرة خير للذين يتّقون، أفلا تعقلون (الأنعام ٣٢). فليس الانسان بحاجة الى تخفيف في أحكام الجسد، ليلة الصيام: ﴿أحلَّ لكم، ليلة الصيام، الرَّفَث الى نسائكم: هنَّ لباس لكم، وأنتم لباس لهن. علم الله أنكم كنتم تختانون (تخونون) أنفسكم، فتاب عليكم وعفا عنكم: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا واشربوا حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (البقرة ١٨٧). وهكذا يُبطل الليل ما حرّم النهار.

وليس بحاجة الى تخفيف في كيفية مباشرة النساء. قال: ﴿فإذا تطهّرن فأتوهنَّ من حيث أمركم الله (البقرة ٢٢٢). فاعترض عمر ومَن معه فنزل للحال: ﴿نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم (البقرة ٢٢٣). وفي (أسباب النّزول) نقل السيوطي إنها ﴿رخصة في إتيان الدير ونقل أيضاً أن الأنصار كانوا ﴿يرون لأهل الكتاب فضلاً عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم. وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلاّ على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة. وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك؛ وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً، ويتلذّذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرت عليه وقالت: إنّما كنّا نؤتى على حرف. فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم!

فميزة القرآن التخفيف من سنن أهل الكتاب: ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم... يريد الله أن يخفّف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً (النساء ٢٦ و٢٨).

إن مسايرة الضعف الانساني، في أحكام الله، للتخفيف منها، هل هو من الإِعجاز في التشريع؟ وهل تخفيف أحكام الله في سبيل حقوق الجسد، من الإِعجاز في الجمع بين حقوق الروح وحقوق الجسد؟ أجل إن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم إنكار الروحانية، في الدعوة القرآنية. أجل أيضاً ﴿لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد، كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح! لكن هل يوصف بالشمول والكمال دين يركّز دعوته على حقوق الجسد، كما يركّزها على حقوق الروح؟ أليس الشمول والكمال في تقييم حقوق الروح والجسد في سلّم القِيم؟

إن في رفع الحرج في الدين ﴿بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح خطر على الروح وعلى الآخرة: ﴿إن النفس لأمّارة بالسوء. وهذا ما تنبّه له الأستاذ العقاد ١٥ في كتابه الى المؤتمر الإسلامي: ﴿في تنبيه المتدين الى حقيقتين لا ينساهما الانسان في حياته الخاصة أو العامة إلاّ هبط الى درك البهيمية في هموم مبتذلة لا فرق بينهما وبين هموم الحيوان الأعجم، إن صح التعبير عن شواغل الحيوان الأعجم بكلمة الهموم. ﴿إحدى الحقيقتين التي يُراد من العبادة المثلى أن تنبّه اليها ضمير الانسان على الدوام هي وجوده الروحي الـذي ينبغي أن تشغله على الدوام مطالب غير مطالبه الجسدية وشهواته الحيوانية.  ﴿والحقيقة الأخرى التي يُراد من العبادة المثلى أن تنبه اليها ضميره، هي الوجود الخالد الباقي، الى جانب وجوده الزائل المحدود في حياته الفردية. ولا مناص من تذكر الفرد لهذا الوجود الخالد الباقي، إذا أُريد فيه أن يحيا حياة تمتد بآثارها الى ما وراء معيشته اليومية، ووراء معيشة قومه، بل معيشة أبناء نوعه.

أليس هذا هو التقييم الذي أراده الإنجيل بتفضيل الروح على الجسد، مع اعطائه حقه؛ وتفضيل الآخرة على العاجلة، مع أخذ النصيب الصالح منها؟

فليس الشمول والكمال في جمع وتوحيد شؤون الجسد والروح معاً.

ثالثاً: الشمول في جعل الإسلام ديناً ودولة معاً

يقولون: ومن الشمول في الإسلام أنه دين ودولة معاً؛ فهو نظام حياة كامل. ففي المدينة: ﴿أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعملية التي يجب أن تقوم عليها الدولة ١٦ ؛ ﴿وانه تعرَّض لشؤون الحياة الدنيوية العملية بأكثر مما تعرَّض للأعمال التعبدية كما نقلوا عن الامام حسن البنّا ١٧ .

لكن اذا كان القرآن المدني تشريعاً لبناء الدولة، وجهاداً لحمايتها، فيكون كله تنزيلاً لقيام دولة أكثر مما هو وحي لقيام دين. وهل البشر بحاجة الى وحي وتنزيل لقيام الدولة، أم بحاجة الى كلام الله لقيام الدين؟ فليس الكمال في تحويل الدين الى دولة دينية، يكون الدين فيها رهين الدولة، وعرضة لتقلباتها. وليس الشمول في توحيد الدين والدولة في عقيدة واحدة ونظام واحد؛ لأن الدولة قومية، والدين عالمي فوق القوميات والدول، ممّا يجعل صراعاً مستديماً بين الدين والقومية، وبين الدين والدولة؛ وممّا يجمّد الدولة على أحكام للدين نزلت في بيئة بدائية.

يقول العقاد ١٨ : ﴿ومن هنا (شمول العقيدة للدين والدولة) لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر... وإنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين، وهو قادر على تطويع قيصر لأمر الله.

وفات الأستاذ أن الإنجيل ﴿لم يذهب مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر، بل مذهب التمييز لاعطاء قيصر حقه في الحكم واعطاء الله حقه في الدين، حتى ولو كان قيصر خليفة الله في أرضه، وأمير المؤمنين. فالتمييز بين الدين والدولة ـ لا التفرقة ـ هو الكمال لأنه يُعطي كل ذي حق حقه. فقد يأتي يوم يكون فيه قيصر أحمر، لا يستطيع المتدين تطويع قيصر لأمر الله. وفي تطور البشرية قد يأتي يوم تصطدم فيه أحكام الدين مع ضرورات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتصطدم الدولة مع الدين في تشغيل رأس المال بالبنوك كما في التجارة؛ وفي قطع يد السارق وقد يكون السارقون في الأمة كثيرين؛ وفي قبول تعدد الأديان والمذاهب في الدولة الواحدة؛ وفي ضرورة تحديد النسل ﴿خشية املاقٍ وارهاقٍ لطاقات الأمة؛ وضرورة تحديد الطلاق ووحدة الزوجة. ففي وحدة الدين والدولة تقييد لتطور الأمم والدول، لأن أحكام الدين لا ينسخها إلاّ لله، أمّا أحكام الدولة فيضعه دستورها حسب حاجاتها وطاقاتها، فيقوم دستور مكان دستور.

فليس الشمول، ولا الكمال في جمع الدين والدولة معاً، بل في تمييز الدين عن الدولة، وفي تنزيل أحكام الدين دستورية فوق الزمان والمكان، لا قانونية مرهونة بزمان ومكان. فلن تقبل البشرية على الدوام أن يكون ﴿حظ الذكر مثل حظ الانثيين! ولا تكون الأمة طبقات: ﴿وهو الذي... رفع بعضكم فوق بعض درجات (الأنعام ١٦٥)؛ ولا أن يكون الطلاق في عصمة الرجل يجري فيه على هواه...

إن الكمال في تمييز الدين عن الدولة، لا في دمج الدين بالدولة. ودمج الدين بالدولة شمول مشبوه.

بحث ثالث

الكمال في تحرير الدين من كل سلطة في الدين

يقولون: إن الدين علاقة عبد بربه. وكلما خلا الدين من واسطة بين العبد وربه كان الدين كاملاً في ذاته، شاملاً في المتعبدين به. فهل خلوّ الدين من سلطة بين العبد وربه كمال أم نقص؟

إن السلطة التي تفرض ذاتها بين العبد وربه في الدين شبهة على هذه السلطة وعلى هذا الدين. أمّا السلطة التي يقيمها الله حتى تفقّه الناس في الدين، وحتى تقيم أحكام الدين، وحتى ﴿كلما عتق الدين جدّدوه ـ هذا التأسيس كمال لا نقص.

فالقرآن نفسه يشرع تخصّص فرقة بالفقه بالدين والدعوة له: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة ـ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ـ ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم (التوبة ١٢٢). والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيمة كل مؤمن؛ لكن القرآن نفسه يشرع تخصّص أمة من المؤمنين بهذا الأمر: ﴿ولتكن منكم أمّة يدعون الى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون (آل عمران ١٠٤). بهذا العمل يرى في المسلمين خير أمة أُخرجت للناس (آل عمران ١١٠). ويرى في رهبان عيسى ﴿أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون؛ يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين (آل عمران ١١٣ ـ ١١٤)؛ إنهم الصالحون، عباد الرحمان، الذين يطلبون: ﴿وجعلنا للمتقين إماماً (الفرقان ٧٤).

فتأسيس الأئمة في الأمة تدبير الهي، به اهتدى محمد نفسه الى الإيمان بالكتاب ولقائه: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب، فلا تكن في مرية من لقائه. وجعلناه هدى لبني اسرائيل. وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا (السجدة ٢٣ ـ ٢٤). وبنو إسرائيل يهود ونصارى؛ وبما أنه على خلاف دائم مع اليهود، فهو يقصد هنا أئمة النصارى: فالله جعل منهم أئمة يهدون بأمره تعالى. لكن القرآن الذي أمر بتخصص أمة من آله بالتفقّه في الدين وتفقيه الآخرين، لم يجعل لهم سلطة على أحكام الدين وشعائره، كما فعل السيد المسيح، ليفسّروها للناس جيلاً بعد جيل. لذلك لمّا شعرت الأمة، بعد النبي، بحاجة الى أحكام تفصّل القرآن، لجأت الى السُنّة في الحديث: فوضعوا آلاف الأحاديث على لسان النبي. فانقسمت الأمة الى سُنّة تقول بالكتاب والسنة، والى شيعة تقول بالكتاب وحده من دون السنة. ولمّا لم تكف السنة في تطوّر الأمة لتفصيل أحكام الدين، لجأوا أيضاً إلى اجماع الأئمة كمصدر للتشريع، من دون أن يكون له صفة الإلزام في الدين. ولمّا لم تكف السنة ولا الاجماع، لجأوا الى الرأي والقياس، فقامت المذاهب الأربعة أو الخمسة في الفقه. وهذا التطور في تلمّس مصادر التشريع في الإسلام برهان على ضرورة قيام سلطة في الأمة لإقامة أحكام الدين وشعائره.

فهل السلطة في الدين واسطة بين العبد وربه؟ قد يكون فيها شيء من ذلك. ولكن أليست الملائكة الحفظة واسطة بين الله وعبيده، وهو وحده الحفيظ العليم؟ أليست النبوّة أيضاً واسطة بين الله والناس لهداية الناس الى الله؟

أليست الخليقة نفسها واسطة بين الخالق والمخلوق، ليعرف المخلوق من الخليقة خالقه؟ وهذا برهان التوحيد كله في القرآن! فليس الكمال في الدين تجريده من سلطة يتيه بدونها الشعب في دينه، والبشرية ستظل في معظمها شعباً الى ما شاء الله.

يقول العقاد ١٩ : ﴿لقد ظهر الإسلام في إبان دولة الكهانة والمراسم، وواجه أناساً من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود الى حالة كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة... لا دين بمعزل عن المعبد والكاهن والأيقونة، سواءٌ في العبادة الوثنية أو في عبادة أهل الكتاب، الى ما بعد القرن السابع بأجيال متطاولة. فلمّا ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه يُصلّي حيث شاء، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد من الكهّان.

العبادات لها شعائر في كل دين، وهي توقيفيّة، قد يقوم بها المؤمن بنفسه، أو يساعده فيها مَن انتدب نفسه لها، أو اختاره الله بسلطة لها، بالنص والوصية. وعند أهل الكتاب ليس ﴿المعبد والكاهن والايقونة من مقوّمات العبادة في حدّ ذاتها. فالإنجيل صريح بأن العبادة فرض شخصي يقوم بها المؤمن بنفسه، في كل زمان ومكان. وقد علم المسيح اتباعه صلاة ﴿أبانا الذي في السماوات كفاتحة لكل صلاة. لكن المسيح رسم مراسمَ ورموزاً دينية، هي شعائر المسيحية التي تميّزها، وأوقف على صحة القيام بها تطهيراً وتقديساً؛ فلا بدَّ لها بمن يقوم بها، وهذا هو الكاهن المسيحي الذي أوتي سلطاناً من المسيح للقيام بتلك المراسم والعبادات التوقيفية؛ ولا بدَّ لها من مكان تُقام به، وهو المعبد. فالحياة الدينية الخاصة ليست مقيّدة بمعبد وكاهن وأيقونة، إنما الحياة الدينية العامة الاجتماعية هي التي تقتضي الكاهن والمعبد. وكل حياة اجتماعية منظّمة، دينية أم مدنية، لا بدَّ لها من إمام يؤمُّها. وقيام إمام بالوصية والنص أفضل من الحرية الفوضوية.

والإسلام الذي يزعمونه دين التحرير من المراسم، قد انتحل مراسم الحج الى كعبة مكّة، وتركها على حالها كما في وثنية العرب، مع تغيير روحها بالتوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر. فهل في مراسم الحج كمال أفضل من كمال غيره؟ وما معنى الحج الى بيت يلثمون فيه حجراً؟ وما معنى هذا الحجر في التوحيد الخالص؟ والصلاة الإسلامية وكيفياتها أليست ملأى بالمراسم؟ وكيف لمس المتوضئ للصلاة ليد امرأة للسلام ينقض الوضوء؟ إلاّ أن تكون المرأة المسلمة نَجَساً ينقض لمس يدها الوضوء؟

لكن العقّاد ٢٠ يعود، في كتابه الى المؤتمر الإسلامي، فيقول في العبادات ومراسمها: ﴿لا مناص في النهاية من أسباب توقيفية يكون التسليم بها أقرب الى العقل من المجادلة فيها. لهذا يقل الخلاف بين أصحاب الأديان في شعائر العبادة، حيث يكثر في كل كبيرة وصغيرة من شؤون العقائد الفكرية أو عقائد الضمير. وهكذا فلم يتحرر الإسلام نفسه من المراسم والشعائر في العبادات، ولم يتحرّر من كل سلطة في الدين: ﴿يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (النساء ٥٩) وسلطة بالنص والوصية أفضل من إمامة في العلم والدين بلا نص ولا وصية تكون أقرب الى الحرية الفوضوية، منها الى النظام الحر المنتظم.

فليس الجمع والتوحيد في شؤون الدنيا والآخرة، وفي مشاكل الجسد والروح، وفي مسائل الدين والدولة، وتحرير الدين من كل سلطة مع بقاء دولة الإسلام بسلطة، من الشمول، برهان الكمال. إنما الدين سبيل الى الله، لا الى الدنيا أو الجسد أو الدولة. وفي السبيل الى الله من الأفضل والأكمل تمييز الدين عن الدولة وتمييز الروح عن الجسد، وتمييز الآخرة عن الدنيا ـ التمييز، لا التفرقة. وذلك لئلا يتيه الدين في متاهات الجسد والدولة والدنيا؛ وتصير الدنيا والدولة والجسد قيوداً وحدوداً للدين والروح والآخرة. فلنُطلق الدين والروح من تلك العُقالات، التي ليست في مقياس الكمال، وقسطاس الشمول، من معجزات.

بحث رابع

الدعوة القرآنية قومية أم عالمية؟

يستفتح القرآن بتسمية الله تعالى ﴿الرحمان الرحيم، رب العالمين (الفاتحة)؛ ويقول عن نفسه: ﴿إن هو إلاّ ذكر للعالمين (١٠٤:١٢؛ ٨٧:٣٨؛ ٢٧:٨١؛ ٥٢:٦٨)؛ ويقول في نبيّه: ﴿قلْ، يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً (الأعراف ١٥٨)، ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين (الأنبياء ١٠٧)، ﴿وما أرسلناك إلاّ كافةً للناس (سبأ ٢٨)، ﴿قلْ، يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين (الحج ٤٩)، ﴿يا أهل الكتاب قد جاءَكم رسولنا يبيّن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا: ما جاءَنا من بشير ولا نذير! ـ فقد جاءَكم بشير ونذير، والله على كل شيء قدير (المائدة ١٩). ألا تكون هذه التصاريح دلائل على عالمية الدعوة القرآنية؟ إنما هي أساليب بيانية قامت عليها شبهة العالمية في الدعوة القرآنية. إنما الدعوة القرآنية دعوة قومية، بنص القرآن القاطع في تصاريحه الصريحة، ومبادئه المتواترة.

أولاً: تصاريح القرآن في قومية دعوته ـ سبع مجموعات

١) ثلاثة تصاريح تحصر رسالة محمد في ﴿أم القرى وما حولها

يصرّح في سورة الأنعام: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك، مصدّق الذي بين يديه، ولتنذير أمّ القرى ومن حولها (٩٢). فالدعوة القرآنية مكية حجازية. ويصرح في سورة الشورى: ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها (٧). فالدعوة القرآنية مكية حجازية. ويصرّح في سورة القصص: ﴿وما كان ربك مهلك القرى، حتى يبعث في أمّها رسولاً (٥٩). فمحمد هو أولاً رسول مكّة، ثم رسول قراها؛ فدعوته مكية حجازية والتصريح المتواتر بحصر الدعوة ﴿بأم القرى وما حولها (الأنعام ٩٢) يفسّر ما تشابه في قوله ﴿وأُوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به، ومَن بلغ (الأنعام ١٩). فالآية (٩٢) من السورة نفسها تفسر ما تشابه في الآية (١٩) من السورة ذاتها.

٢) خمسة تصاريح تجعل القرآن ذكراً قوميّاً

في الزخرف: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك (٤٤). فالقرآن دعوة قومية. وفي المؤمنين: ﴿بل آتيناهم بذكرهم، فهم عن ذكرهم معرضون (٧١). فالقرآن ذكر يخص العرب من دون سواهم، فهو دعوة قومية. وفي الأنبياء: ﴿لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم، أفلا تعقلون (١٠). فالقرآن ذكر الى العرب، نزل اليهم وحدهم، فهو دعوة قومية. وفي الأنبياء أيضاً: ﴿هذا ذكر مَن معي، وذكر من قبلي (٢٤). فالقرآن ذكر مَن مع محمد من العرب، يخصهم ولا يخص سواهم، فهو دعوة قومية. وفي الطلاق: ﴿قد أنزل الله إليكم ذكراً، رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبيِّنات (١٠ و١١). فالقرآن قومي، والرسول قومي. فهذا التصريح الصريح المتواتر برهان على عقيدة قائمة في قومية الدعوة القرآنية، وتزيل بتخصيصها ما تشابه في قوله: ﴿إن هو إلاّ ذكر للعالمين.

٣) سبعة تصاريح تجعل القرآن عربيّاً للعرب

في يوسف: ﴿تلك آيات الكتاب المبين: إنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون (١ ـ ٢). فالكتاب المبين نزل قرآناً عربيـاً لكي يعقله العرب؛ فهو دعـوة قومية. وفي الرعد: ﴿والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك؛ ومن الأحزاب من ينكر بعضه... وكذلك أنزلناه حُكْما عربيّاً، ولئن اتبعت أهواءَهم بعد ما جاءك من العلم، ما لك من الله من وليّ ولا واق (٣٦ ـ ٣٧). إنه يعدّد المخاطبين بالقرآن، أهل الكتاب العرب، وأحزاب القبائل العربية، والمشركين العرب الذين يحذره من ﴿أهوائهم. فلهؤلاء جميعاً من مؤمنين ومترددين وكافرين ﴿أنزلناه حكماً عربيّاً أي حكمة عربية للعرب. وفي طه: ﴿وكذلك أنزلناه قرآناً عربيّاً، وصرفنا فيه من الوعيد لعلّهم يتقون، أو يحدث لهم ذكراً (١١٣). نزل قرآناً عربياً ليحدث للعرب ذكراً ولعلهم يتقون. وفي الزمر: ﴿ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلّهم يتذكرون، قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلّهم يتقون (٢٧ ـ ٢٨). إن صفته، ﴿قرآناً عربياً تحدّد معنى ﴿الناس النازل اليهم، لعلهم يتذكرون، ولعلهم يتقون: عربية القرآن تدل على عربية قومه. وفي فُصّلت: ﴿حم. تنزيل من الرحمان الرحيم: كتاب ـ فُصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون (١ ـ ٣). إن تنزيل الله في الكتاب قـد فُصلت آياته قرآناً عربياً حتى يعلمها العرب. فهو دعـوة عربية قومية. وفي الشورى: ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً، لتنذر أم القرى ومن حولها (٧). هذا نص قاطع على أن عربية القرآن تدل على عربية قومه المخاطَبين به، فقد نزل عربيّاً لأم القرى، مكّة، ومَن حولها من الأعراب. وفي الزخرف: ﴿حم. والكتاب المبين: إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون (١ ـ ٣). يقسم بالكتاب المبين إنه جعل الكتاب المبين قرآناً عربياً لكي يعقله العرب. فهو دعوة قومية عربية.

وهكذا فإن عربية القرآن برهان على رسالته العربية وقوميته العربية؛ كما يدل عليها أيضاً تواتر تعابير الفهم والعلم والعقل من عربيته؛ وكما يدل عليها تصريحه المتواتر بأن القرآن عربي لأم القرى، مكّة، ومَن حولها من الأعراب؛ وكما يدل عليها قوله: ﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً، لقالوا: لولا (هلاّ) فُصّلت آياته؟ أأعجمي وعربي؟  (فصلت ٤٤) أي ﴿أقرآن أعجمي ونبي عربي (الجلالان). فعروبة النبي تقتضي عروبة القرآن وعروبة رسالته. فالنبي عربي والقرآن عربي: فالدعوة قومية عربية. وذلك بنص القرآن القاطع الذي لا مراء فيه.

٤) لسان النبي والقرآن برهان على قوميتهما

يصرّح: ﴿وانه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين... ولو نزّلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٩). نزل القرآن بلسان عربي مبين لكي يفهموه ويؤمنوا به؛ فلو نزل على أعجمي بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين، لأنهم لا يفهمونه. فتعريب التنزيل بلسان عربي مبين كان ليفهم العرب ويؤمنوا به. فالدعوة القرآنية ترجمة عربية لكتاب الله لكي يفهموه ويؤمنوا به. فلسانه العربي دليل على رسالته العربية القومية.

وبعروبة القرآن يردّ على من اتهمه بتعلّمه من أعجمي: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر! ـ لسان الذي يُلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين (النحل ١٠٣). فليس القرآن من أعجمي، لأنه بلسان عربي مبين.

نبي عربي، وقرآن عربي، لتعريب الكتاب الإمام للعرب: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة؛ وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً: لينذر الذين ظلموا، وبشرى للمحسنين من العرب (الأحقاف ١٢) فلسان النبي، ولسان القرآن، برهان مزدوج على قوميتهما.

٥) رسالة الرسول بين قوم تدل على قومية رسالته

المبدأ العام: ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته (الأنعام ١٢٤). لذلك ﴿لكل أمة رسول (يونس ٤٧)؛ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً (النحل ٣٦)؛ ﴿وما كنّا معذَبين (المشركين العرب) حتى نبعث رسولاً (الإسراء ١٥)؛ ﴿وجاهدوا في الله حقَّ جهاده: هو اجتباكم (اختاركم)... ليكون الرسول شهيداً عليكم، وتكونوا شهداء على الناس في ديار العرب (الحج ٧٨). فرسالة الرسول بين العرب تدل على أن رسالته قومية عربية.

تلك شهادة القرآن المتواترة بالتخصيص لرسالة محمد والقرآن بالعرب: ﴿لقد جاءَكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم، حريص عليكم (١٢٨:٩)؛ كما طلب إبراهيم واسماعيل: ﴿ربنا وابعث فيهم، رسولاً منهم، يتلو عليهم آياتك (١٢٩:٢)؛ وقد فعل الله: ﴿كما أرسلنا فيكم، رسولاً منكم، يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم (١٥١:٢) ـ لاحظ تواتر التخصيص. بمحمد والقرآن مَنَّ الله على العرب: ﴿لقد منَّ الله على المؤمنين (من العرب) إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم (١٦٤:٣). فمحمد رسول الى أم القرى: ﴿وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً، يتلو عليهم آياتنا (القصص ٥٩)؛ ﴿قد أنزل الله إليكم ذكراً، رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبيّنات (الطلاق ١٠ ـ ١١). ومحمد رسول الى العرب شاهد عليهم: ﴿إنّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم؛ كما أرسلنا الى فرعون رسولاً (المزمّل ١٥)؛ ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطّا لتكونوا شهداء على الناس (العرب) ويكون الرسول عليكم شهيداً (البقرة ١٤٣). فتواتر التخصيص المتواصل في رسالة محمد برهان فاصل على أن دعوته قومية ورسالته عربية.

٦) إن رسالة محمد هي تعليم العرب الكتاب والحكمة

لقد طلب إبراهيم واسماعيل الى الله: ﴿ربنا وابعث فيهم (ذريتنا) رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم (البقرة ١٢٩) لذلك ﴿فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة (النساء ٥٤)؛ ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً (النساء ١١٣). وهذا كله كان، حتى يعلّم محمد العرب الكتاب والحكمة: ﴿كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (البقرة ١٥١). فالقرآن هو تعليم العرب الكتاب والحكمة. بهذا مَنَّ الله على العرب: ﴿لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (آل عمران ١٦٤).

إن محمداً من العرب أنفسهم لكي يعلم العرب الكتاب والحكمة: فليس أصرح ولا أوضح دلالة على قومية الرسالة (الجمعة ٢).

٧) فمحمد هو ﴿النبي الأمّي للعرب الأميّين

صفة محمد أنه ﴿النبي الأمّي (الأعراف ١٥٧)، وهذا ﴿النبي الأمّي يؤمن بالله وكلمته (الأعراف ١٥٨)، فهو على صراط عيسى كلمة الله. وإنه ﴿النبي الأمّي لأنه من الأميّين العرب، وللأميّين العرب: ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين (الجمعة ٢). هذا التصريح يقطع كل مراء ومكابرة: إن محمداً نبي أمّي أي عربي، للأميّين العرب: ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم.

ثانياً: سبعة مبادئ قرآنية تجعل القرآن دعوة قومية

١) المبدأ القرآني الأول: ﴿لكل أمة رسول، ومحمد رسول الى العرب. المبدأ القرآني المتواتر، المؤيد بالواقع النبوي المتواتر، أن ﴿لكل أمة رسول، فإذا جاءَ رسولهم، قُضي بينهم بالقسط، وهم لا يُظلمون (يونس ٤٧). هذا المبدأ واقع تاريخي أيضاً: ولقد بعثنا في كلّ أمة رسولاً (النحل ٣٦). إنه مبدأ قائم متواتر الى آخر العهد: ﴿ولكل قوم هاد (الرعد ٧)؛ وواقع قائم متواتر: ﴿وإنْ من أمّةٍ إلاّ خلا فيها نذير (فاطر ٢٤). ويطبق المبدأ والواقع على محمد مع العرب: ﴿إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد (الرعد ٧) فهو هادي قومه، فهدايته قومية. ورسالته شهادة لقومه وعلى قومه: ﴿ويوم نبعث في كل أمّة شهيداً عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء (النحل ٨٩). فدعوته قومية: ﴿تنزيل العزيز الرحيم، لتنذر قوماً ما أُنذِر آباؤهم فهم غافلون (يس ٥ ـ ٦).

هذه النظرية القرآنية الأولى المتواترة أن ﴿لكل قوم هاد ومحمد شهيد على قومه، تجزم بأن الدعوة القرآنية قومية.

٢) المبدأ القرآني الثاني: قومية الرسول تحدّد قومية رسالته. يعمل بوحي هذا المبدأ بمكّة: ﴿ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء (النحل ٨٩). فمحمد رسول من العرب، فهو رسول الى العرب. وهذه النظرية تدوم في المدينة: ﴿لقد منَّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة (آل عمران ١٦٤). فمحمد رسول من العرب أنفسهم ليعلّم العرب كتاب الله. وهذه القومية في الرسول والرسالة تدوم الى يوم الدين: ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ يومئذٍ يودَ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض (النساء ٤١ ـ ٤٢).

هذه النظرية القرآنية الثانية تجزم أيضاً بتلازم قومية الرسول وقومية الرسالة. فمحمد رسول عربي: فرسالته قومية عربية في اليوم الحاضر، وفي اليوم الآخر.

٣) المبدأ القرآني الثالث: لغة الرسول تحدّد قومية رسالته. إن المبدأ عام وصريح: ﴿وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبيّن لهم (إبراهيم ٤). فلسان الرسول دليل على قومية رسالته. وجاء القرآن ﴿بلسان عربي مبين (الشعراء ١٩٥) لأنه نزل ﴿بلسان قومه ليبيّن لهم. والقرآن يركّز جدله معهم على عروبته وعروبة رسوله لكي يؤمنوا به: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين. ولو نزّلناه على بعض الأعجمين؛ فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٩). فقد نزل قرآناً عربياً لكي يفهموه ويعقلوه، ولا يحتجوا عليه بلسانه: ﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً (كالتوراة والإنجيل) لقالوا: لولا فُصّلت آياته؟ أأعجمي، وعربي؟ (فصّلت ٤٤) أي ﴿أقرآن أعجمي، ونبي عربي (الجلالان). فعروبة النبي تقتضي عروبة القرآن، وعروبة النبي والقرآن تقتضي عروبة رسالته وقوميتها. فهم إنما غفلوا عن دراسة التوراة والإنجيل لأنهما بغير لسانهم، فهذا كتاب لهم بلسانهم: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك، فاتّبعوه واتّقوا لعلكم ترحمون؛ أنْ تقولوا: إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإنْ كنا عن دراستهم لغافلين (الأنعام ١٥٥) لأنهما ليسا بلسان العرب. فهذا كتاب بلسان العرب، يتلو عليهم آياته ﴿رسول من أنفسهم وهذه مِنّة الله على العرب: ﴿لقد منَّ الله على المؤمنين (العرب) إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإنْ كانوا من قبل لفي ضلال مبين (آل عمران ١٦٤).

فلسان الرسول يحدّد قومية رسالته؛ وعروبة لسان محمد تحصر رسالته في بني قومه العرب. هذا هو مبدأ القرآن وبرهنته في هذه النظرية الثالثة.

٤) المبدأ القرآني الرابع: لغة القرآن تحدّد رسالته القومية العربية. في اثني عشر وضعاً يصرّح بأن القرآن نزل ﴿عربيّاً لكي يفهمه العرب. منها: ﴿حم. والكتاب المبين، إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون (الزخرف ١ ـ ٣). فقد نزل قرآناً عربياً لأم القرى ومن حولها. ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى (مكّة) ومّن حولها (الشورى ٧). وما نزل القرآن عربياً إلاّ لأنه ذكر لمحمد وقومه: ﴿وانه لذكر لك ولقومك، وسوف تُسألون (الزخرف ٤٤).  فمحمد هو ﴿النبي الأمّي أي العربي، لأن رسالته مختصة بالعرب، محصورة فيهم: ﴿هو الذي بعث في الأميّين (العرب) رسولاً منهم (الجمعة ٢).

فهذه النظرية القرآنية الرابعة تجزم بأن لغة القرآن تحصر رسالته في العرب، وتقتصرها عليهم.

٥) المبدأ القرآني الخامس: القرآن دعوة الى ﴿ملّة إبراهيم باسماعيل، جدّ العرب المستعربة. يفتتح القرآن المدني دعوته بصلاة إبراهيم، ﴿إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، واسماعيل: ربنا تقبّل منا، إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم ـ ومَن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ مَن سَفِه نفسه (البقرة ١٢٧ ـ ١٣٠)، والدعوة القرآنية الى ملّة إبراهيم، جد العرب باسماعيل، متواترة في القرآن. فهو يجعل اسلام القرآن، على ملّة إبراهيم باسماعيل، اسماعيليّاً عربيّاً، للاسماعيليين العرب. فاسلام القرآن هو لذرية اسماعيل، على ملّة إبراهيم.

٦) المبدأ القرآني السادس: القرآن دعوة الى الحنيفية، دين إبراهيم، جد العرب باسماعيل يصرح: ﴿إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله، حنيفاً، ولم يكُ من المشركين... ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين (النحل ١٢٠ ـ ١٢٣). ويؤكد: ﴿أقم وجهك للدين حنيفاً (يونس ١٠٥؛ الروم ٣٠). ويدعو الى حنيفية إبراهيم: ﴿وقالوا؛ كونوا هوداً ـ أو نصارى ـ تهتدوا؛ بل ملّة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين (البقرة ١٣٥)، ﴿قلْ: صدق الله، فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين (آل عمران ٩٥)؛ ﴿ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، وهو محسن، واتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً، واتّخذ الله إبراهيم خليلاً (النساء ١٢٥). فالحنيفية الإبراهيمية هي في اتباع ملّة إبراهيم، على طريقة المحسنين من آله. هذا هو الدين القيّم: ﴿قلْ إنني هداني ربي الى صراط مستقيم، ديناً قيّماً، ملّة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين (الأنعام ١٦١). وحنيفية إبراهيم هي الإسلام؛ ﴿ما كان إبراهيم يهودياً، ولا نصرانياً (بمعنى مسيحي)، ولكن كان حنيفاً مسلماً ـ وما كان من المشركين (آل عمران ٦٧). وهذا الإسلام الحنيف يدعو اليه القرآن مع أولي العلم المقسطين، أي النصارى من بني إسرائيل، الذين يشهدون مع الله وملائكته: ﴿إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩). فجماعة محمد من العرب هم مسلمون لأنهم على ملة أبيهم إبراهيم، وهو الذي سماهم المسلمين في الكتاب والقرآن: ﴿وجاهدوا في الله حقّ جهاده: هو اجتباكم (اختاركم)... ملة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم، وتكونوا شـهداء على الناس من العرب (الحج ٧٨). فالإسلام الذي يدعو اليه القرآن هو الحنيفية المسلمة، ملة أبيهم إبراهيم. فالدعوة القرآنية قومية للعرب، على ملة أبيهم إبراهيم. فالدعوة والداعي والمدعوّون، قوم إبراهيم باسماعيل، جد العرب.

٧) المبدأ القرآني السابع: شعائر الإسلام القرآني تجعله ديناً قومياً عربياً اسماعيلياً. كعبته هي كعبة إبراهيم واسماعيل: ﴿واذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، واسماعيل (البقرة ١٢٧). قبلته هي قبلة إبراهيم واسماعيل، ﴿ولكل أمة جعلنا منسكاً، ليذكروا اسم الله (الحج ٣٤)؛ ﴿ومن حيث خرجتَ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره، لئلاّ يكون للناس عليكم حجة (البقرة ١٥٠). فالقبلة تميّزهم عن سواهم من الناس، فلا يحتجون عليهم بها. وهذه القبلة هي شعار ﴿الأمة الوسط، لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً: ﴿وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ ليعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه (البقرة ١٤٣). فتحويل القبلة الى كعبة مكّة تميّز العرب المسلمين من سواهم.

وحجه هو حج إبراهيم واسماعيل: ﴿واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا... وعهدنا الى إبراهيم واسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكّع السجود (البقرة ١٢٥).

والبلد الحرام هو بلد إبراهيم واسماعيل، وذريته المسلمة: ﴿واذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا بلداً آمناً، وارزق أهله من الثمرات، مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر (البقرة ١٢٦).

فشعائر الإسلام في القرآن تجعله ديناً قوميّاً عربيّاً إبراهيميّاً اسماعيليّاً. والقول الفصل: ﴿إنه ذكر لك ولقومك في كل مبادئه وتصاريحه؛ وإن محمداً هو ﴿النبي الأمّي، أي العربي، لأن الله ﴿هـو الـذي بعث في الأميّين (العرب) رسولاً منهم. فمحمد رسول الى ﴿الأميّين العرب: فرسالته قومية عربية. وهكذا فإن مبادئ القرآن كلها، وتصاريح القرآن كلها، تشهد بلا مراء ولا ريب، أن الدعوة القرآنية قومية عربية، لا عالمية في نصّها؛ إنما أمست عالمية بالفتوحات الإسلامية.

ثالثاً: آيات متشابهات في عمومية الدعوة وعالميتها

من تلك المبادئ الجازمة، وتلك التصاريح الحازمة، وكلها قاطعة جامعة مانعة، نأتي الى بعض آيات متشابهات يُظن فيها تنويهاً بعمومية الدعوة القرآنية وعالميتها، يفسّرها التفسير الصحيح أسلوب القرآن في البيان والتبيين.

١) منها قوله المتواتر: ﴿إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين (١٠٤:١٢؛ ٨٧:٣٨؛ ٢٧:٨١؛ ٥٢:٦٨). فتعبير ﴿العالمين في هذه المواطن عام يُقصد به الخاص، وهو أسلوب متواتر في القرآن، كما تدل عليه القرائن القريبة والبعيدة. هكذا قوله في سورة يوسف: ﴿وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين. وما تسألهم عليه من أجر، إنْ هو الاّ ذكر للعالمين. وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون (١٠٣ ـ ١٠٦) ـ فالقـرائن اللفظية والمعنوية، من قبلُ ومن بعدُ، إن تعبـير ﴿العالمين عام مراد به الخصوص في الحجاز والجزيرة. وهكذا قوله: ﴿إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين، لمَنْ شاء منكم أن يستقيم. وما تشاؤون، إلاّ أن يشاء الله رب العالمين (التكوير ٢٧ ـ ٢٩) ـ فتعبير ﴿ذكر للعالمين مقيد للحال بما يليه: ﴿لمن شاء منكم فالعالمون هم المخاطبون من العرب؛ أما تعبير ﴿رب العالمين فهو مطلق لا يقيده شيء، فهو عام.

٢) منها قوله: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزِّل اليهم ولعلهم يتفكّرون (النحل ٤٤)؛ وقوله: ﴿قلْ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً... فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي (الأعراف ١٥٨). هذه الصفة ﴿جميعاً لا تدل على أن المقصود ﴿بالناس جميع البشر، بل هو أسلوب بياني مضطرد في القرآن، حيث العام فيه يراد به الخصوص، ومن العام ما هو مخصوص. وللسيوطي في (الإتقان ١٦:٢ ـ ١٨) فصل قيم على النوعين، قال: ﴿ومن أمثلة العام المراد به الخصوص قوله تعالى (الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) والقائل واحد، نعيم بن مسعود الأشجعي، أو أعرابي من خزاعة... وممّا يقوّي أن المراد به واحد قوله: (انما ذلكم الشيطان) فوقعت الإشارة بقوله (ذلكم) الى واحد بعينه، ولو كان المراد به جمعاً لقال: (انما أولئكم) الشيطان، فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ. ومنه قوله: (أم يحسدون الناس) أي رسول الله ﷺ. ومنها قوله: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) ٢١ . أما العام المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جداً، وهي أكثر من المنسوخ، إذ ما من عام إلاّ وقد خُصّ. ثم المخصّص له إمّا متّصل، وإمّا منفصل، والمنفصل آية أخرى في محل آخر.

هكذا في حديث ﴿النبي الأمّي حيث يقول: ﴿يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً... فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي (الأعراف ١٥٨) فالمخصص له المنفصل هو قوله: ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم (الجمعة ٢). فليس محمد رسولاً للبشرية جمعاء، بل للأمي‍ّين العرب.

٣) ومنها قوله: ﴿وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً (سبأ ٢٨). فقد يظن أن معناه ﴿للناس كافة، فيظن أن رسالة محمد عالمية. لكنّ الصفة في العربية لا ترد قبل الموصوف. جاءَ أيضاً في (الإتقان ٨٤:٢): ﴿نقلت من خط شيخ الإسلام ابن حجر، إن من التورية في القرآن قوله (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس) فان ﴿كافة بمعنى مانع أي تكفهم عن الكفر والمعصية، والتاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب المتبادر أن المراد (جامعة) بمعنى (جميعاً)، لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكّد؛ فكما لا تقول (رأيت جميعاً الناس) لا تقول (رأيت كافة الناس). ويدعم هذا التفسير قوله في الحديث: ﴿أيها الناس إن الله قد بعثني رحمة وكافة أي كافّا عن الشرك، والتاء المربوطة للمبالغة.

والقرائن القريبة والبعيدة للآية ﴿كافة للناس (سبأ ٢٨) ترفع كل شبهة. فهو قبلها يعلن أن رسالة محمد محصورة ﴿بأم القرى ومن حولها (الأنعام ٩٢)، ويؤكد ذلك بعدها، فيحصرها ﴿بأم القرى ومَن حولها (الشورى ٧).

٤) ومنها قوله في سورة الأنبياء: ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين (١٠٧) ـ فلا يدل على عالمية الدعوة، لأنه في السورة عينها يصرّح مرتين بأنها خاصة للعرب: ﴿لقد أنزلنا إليكم كتـاباً فيه ذكركم، أفلا تعقلون (الأنبياء ١٠)؛ ﴿هذا ذكر مَن معي وذكر مَن قبلي (الأنبياء ٢٤)، ومن كان معه في مكّة سوى نفر من أهلها؟

٥) ومنها قوله: ﴿تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً (الفرقان ١). هـو عـام يُراد به الخاص، بحسب أسلوب القرآن البيـاني. ولا تأتي كلمة ﴿العالمين على اطلاقها الى مضافة الى الله، رب العالمين.

جاء في تفسير الطبري ٢٢ : ﴿قال أبو جعفر: العالمون جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه. والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالم. وأهل كل قرن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالم، وكل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان. وكذلك سائر أجناس الخلق، كل جنس منه عالم زمانه. وهذا القول هو معنى قول عامّة المفسرين، ثم يعطي على ذلك مثلاً في وصف اليهود: ﴿وإني فضلتكم على العالمين (البقرة ٤٧) ويقول: ﴿أخرج جلّ ذكره قوله مخرج العموم، وهو يريد به خصوصاً، لأن المعنى: إني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه أي فضلهم على عالم ذلك الزمان.

هكذا فإن اقتران النبي أو القرآن بلفظ ﴿العالمين يقصد به المخاطبين من العرب والنتيجة الحاسمة في مثل تلك الآيات المتشابهات التي يدل ظاهرها على عمومية الدعوة القرآنية، أنها تخضع في مدلولها لأساليب البيان العربي والقرآني. منها أسلوب اخراج الخاص مخرج العام، كما مرّ بنا. ومنها الإخبار عن الواحد بمذهب الجمع ٢٣ ، كما في تفسير الطبري أيضاً: ﴿فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب (آل عمران ٣٩)، إذ قالت الملائكة يا مريم (آل عمران ٤٥) ـ قيل جبريل. فإن قال قائل: كيف جاز أن يقال على هذا التأويل (الملائكة) وهي جمع لا واحد ـ قيل: ذلك جائز في كلام العرب بأن تُخبر عن الواحد بمذهب الجمع. كما يقال في الكلام: (خرج فلان على بغال البرد) وانما ركب بغلاً واحداً؛ (وركب السفن)، وانما ركب سفينة واحدة؛ وكما يقال (ممن سمعت هذا الخبر)؟ فيقال: (من الناس) وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قيل إن منه قوله: (الذين قال لهم الناس؛ ان الناس قد جمعوا لكم ـ آل عمران ١٧٣) والقائل كان فيما ذُكر واحداً. وقوله: (اذا مسَّ الناس ضرٌّ ـ الروم ٣٣) والناس بمعنى واحد منهم. وذلك جائز عندهم.

نلاحظ في لهجة الطبري نزعته الآرية تجاه السامية، والايرانية تجاه العربية، في بيان الفارق في التعبير والتفكير، بين البيان العربي والبيان الآري. وقد أوجز ذلك منذ القديم ابن قتيبة في كتابه (مشكل القرآن). قال: ﴿وللعرب المجازات في الكلام. ففيها... مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع؛ والجميع خطاب الواحد؛ والواحد والجميع خطاب الاثنين. والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص. وهذا ما جاء به القرآن في آياته المتشابهات التي توهم عمومية الدعوة القرآنية. فالتشابه في الآيات التي قد يظهر منها عمومية الدعوة القرآنية، انما يرجع الى أساليب البيان العربي والقرآني. إنها آيات متشابهات في عمومية الدعوة وعالميتها، وهي دعوة قومية عربية، كما تبرهن تصاريح القرآن ومبادئه المتواترة.

رابعاً: من دلائل التاريخ الخاص والعام

١ـ قيل: إن مكاتبة الملوك والامراء قيصر وكسرى والمقوقس وولاتهم، خير دليل على أن الدعوة الإسلامية كانت عامة عالمية لكل الناس. لكن يطعن في صحة تلك المكاتبات أنها مذكورة بالاجماع قبل فتح مكّة. لم يكن النبي قد فتح الحجاز، فكيف به يكاتب قيصر وكسرى ليدينوا بالإسلام، كقوله الى هرقل عظيم الروم: ﴿أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أَسلمْ تسلمْ، كما أخرجه صحيح البخاري وصحيح مسلم عن ابن عباس. إن منطق الأحداث يدفع هذه الغلواء عن النبي الحصين. وليس في القرآن كله، قبل فتح مكّة، ما يشير الى مثل تلك الرغبة في فتح العالم للإسلام.

٢ـ قيل: إن في غزوة مؤتة، وغزوة تبوك، الى مشارف الشام، دليلاً على أمل فتح دولة الروم للاسلام. لكن ظروف الغزوتين التاريخية تدل على أن محمداً كان يبغي نصارى العرب عند مشارف الشام والعراق، لا الروم ولا دولتهم؛ لا الفرس ولا دولتهم. ولا شك أن العصبية العربية ستحملهم على قبول دعوته الدينية والقومية، في سبيل الاستقلال الديني والقومي عن الشرق وثنائيته في مجوسيته، وعن الغرب وتثليثه في مسيحيته، كما يقول في فتح شمال الحجاز: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله (الفتح ٢٨). ولم تكن فكرة المغانم ببعيدة عن أهدافه، كما يقول أيضاً: ﴿وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه (الفتح ٢٠). وكان محمد يعلم أن أمراء الحيرة وبصرى كانوا حينئذٍ على خلاف مع أسيادهم. فأرسل الى ذات الطلْح خمسة عشر من رجاله يدعون للإسلام. فقتلوهم جميعاً، لم ينج منهم إلاّ رئيسهم، رجع فأخبر النبي. فعرضت الفرصة النادرة لتسيير أول غزوة الى بلاد الروم. فجهَّز ثلاثة آلاف لتأديب الغادرين بدعاته. وكثر الزعماء بين المحاربين، فسُمّي الجيش جيش الأمراء، والسرية سرية الأمراء.

سار القوم حتى بلغوا معان، من أرض البلقاء. فتصدّى لهم من بصرى شرحبيل بن عمرو الغسّاني، عامل هرقل، في جموع غفيرة من نصارى العرب، عند مآب من البلقاء، والتقى الجمعان في قرية ﴿مشارف. فشعر المسلمون أن لا قِبَلَ لهم بقتال هذا الجيش العرم، فانحازوا الى مؤته، قرب معان، يتحصنون بها من ملاقاة العدو. لكن جيش العرب النصارى أحاط بهم، فكان لا بدّ من القتال. فدارت رحى الحرب على المسلمين، وقتل الأمراء الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة. فاستلم القيادة المسلم الجديد خالد بن الوليد، وأظهر مقدرة فائقة في تدبير انسحاب جيشه من المعركة. واقتنعوا من الهزيمة والغنيمة بالإياب.

هذا هو التاريخ الحق. لكن، لكي يُظهر نية الفتح الإسلامي في الغزوة، قالوا: ﴿فلمّا وصل المسلمون الى معان، عرفوا أن في انتظارهم ماية ألف من الروم، وماية ألف أخرى من نصارى العرب ٢٤ وكان الجيش بقيادة هرقل نفسه. والمؤرخ الرومي ثوفانس ٢٥ يذكر أن جيش الشام كان من العرب النصارى وحدهم، المقيمين على الثغور لحمايتها من الأعراب؛ وهو لا يمكن أن يبلغ ماية ألف. وهرقل الذي غزا الفرس وكسرهم لم يكن معه ماية ألف، حتى يجمع للأعراب ماية ألف من الروم غير ماية ألف من العرب! فتلك المبالغات والمغالطات تحريف للتاريخ. والقضية كلها تنحصر بين عرب الحجاز وعرب بني غسان النصارى، لغاية قومية دينية، لا تخلو من روح الغزو والغنيمة. وبما أن غزوة مؤتة وقعت في ايلول سنة ٦٢٩ م. قبل فتح مكّة في كانون الثاني سنة ٦٣٠ م. فليس في منطق الأحداث ما يدل على نقل الإسلام الى الروم.

وبعد فتح مكّة، حاول محمد فتح الطائف. فامتنعت ثقيف في حصونها. واضطرّ محمد أن يرفع الحصار وأن يرحل عنها خائباً. وإنها لخُطّة ثابتة في سيرة النبي من أنه إذا فشل في جهة استعاض بحملة الى جهة أخرى. وبعد أن استتب له الأمر في الحجاز كله، واطمأن بتصفية اليهود، وجّه أنظاره في آخر أيامه الى العرب المسيحيين في الشام واليمن. وبدأ بالشمال لأن دويلاتهم كانت أضعف من اليمن، وأضعف من أن تقاومه، وقد استطاع أن يجمع لغزوهم جيشاً عظيماً بلغ ثلاثين ألفاً قاده بنفسه. وسبب الحملة الثأر من فشل غزوة مؤتة، وتأمين طريق القوافل، فإن قبائل العرب المسيحيين على حدود الشام تجرّأت أكثر من ذي قبل على القوافل بعد ما كان من فشل غزوة مؤتة. وفي (أسباب النّزول) ٢٦ : ﴿أخرج الطبراني عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: اغزوا تغنموا بنات الأصغر! فقال ناس من المنافقين: إنه ليفتنكم بالنساء، فنزلت.

﴿ووصل النبي ﷺ تبوك بعد عشرين يوماً وعسكر فيها ولم يتعدَّها ٢٧ . ﴿ولكن الروم لم يتعرّضوا للرسول. فعقد الرسول معاهدات مع البلدات المتاخمة للحجاز كأيلة (العقبة) وأذرح وجرباء ومَقْنا، وفرض على كل بلدة جزية معينة ٢٨ .

إن عدم تعرض جيش الروم، القافل من سحق جيش كسرى، للعرب؛ واكتفاء النبي بتلك المعاهدات مع الإمارات العربية، دليل على أن الروم لم يفكّروا بغزو الحجاز واكتفوا بعملائهم من العرب المسيحيين على حماية الثغور من الأعراب؛ ودليل أيضاً على أن محمداً لم يكن يفكّر بغزو الروم، بل كان يفرح بنصرهم على الفرس الوثنيين (سورة الروم ٢ ـ ٣). إنما حصر همه كله في جمْع كلمة العرب في وحدة دينية وقومية.

٣ ـ قيل أخيراً: إن فتح المسلمين لدولة الأكاسرة ودولة القياصرة برهان على أن الإسلام منذ تأسيسه دعوة عالمية.

إن الفتوحات العربية في صدر الإسلام لم تكن جديدة على عرب الجزيرة. فمنذ خمسة آلاف سنة، تقوم على رأس كل ألف هجرة كبرى من الجزيرة الى الهلال الخصيب وتؤسس فيه أمماً ودولاً. وفي الألف الأخير قبل الإسلام هاجرت قبائل عديدة الى أطراف الهلال الخصيب فكانت لهم ديار ربيعة، وديار بكر؛ وأسست بعض القبائل دويلات مستقلة في تدمر (الزّباء) والبلقاء (دولة الأنباط) والحيرة (دولة المناذرة) وبصرى (دولة بني غسان). ولكن الهجرة العربية الكبرى الى الهلال الخصيب في العراق والشام كانت حملة الخلفاء الراشدين. فهي في منطق سابقاتها. ولم تكن لحمل الإسلام الى غير العرب. إنما كانت كمخرج لحروب الردّة، خشية انقسام العرب بعد وحدتهم الإسلامية. وكان الاغراء بالفتوحات لصرفهم عن الاقتتال الأهلي الى الغزو والفتح. ولا يُستبعد بعد الفتوحات العظيمة، أن تطورت الفكرة الى الفتح الديني بالدعوة العسكرية والسلمية الى الإسلام. فكانت الدعوة الدينية نتيجة الفتوحات، لا سببها، ولو جدّد الإسلام فيهم روح العزّة العربية.

خاتمة

القول الفصل في تصاريح القرآن

وفي الختام، مهما يكن من أمر التاريخ، فلدينا القول الفصل في القرآن الكريم. إن جميع تصاريحه، وجميع مبادئه تقضي بأن الدعوة القرآنية كانت دعوة قومية، لا دعوة عامة عالمية في ذاتها ـ صارت عالمية بعد محمد بالفتوحات الإسلامية ـ فهل من إِعجاز في شمول الدعوة لتصحيح وتتميم ما سبقها من جميع الدعوات الكتابية والأميّة؟ وهل من إِعجاز في شمول الدعوة في موضوعها ليشمل شؤون الدنيا والآخرة، ومشاكل الجسد والروح، ومسائل الدين والدولة؟ وهل من إِعجاز في شمول الدعوة ﴿للعالمين؟

الجزء الثالث

معجزة حفظ القرآن

توطئة

إِعجاز القرآن في نظمه قائم على معجزة ﴿حفظه في حرفه

الإجماع على أن إِعجاز القرآن في نظمه، كما نادى بذلك أهل الإِعجاز منذ الجاحظ. والإِعجاز في النظم واللفظ يقتضي معجزة ﴿حفظ القرآن سالماً كما نزل.

ويقولون: ان القرآن تنبّأ بمعجزة ﴿حفظ القرآن سالماً كما نزل بقوله: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون (الحجر ٩). والواقع التاريخي في تدوين القرآن بالحرف العثماني شاهد على تتميم النبوّة بحفظه، وقيام المعجزة بحفظ القرآن بحرفه سالماً كما نزل.

لكن ليس في آية ﴿الحفظ ركيزة قرآنية للقول بنبوءة ومعجزة في حفظ القرآن؛ وليس في وسائل حفظ القرآن قبل جمعه من ضمانة كافية للقول بمعجزة في حفظه؛ وليس في الرخص النبوية لقراءة القرآن قبل جمعه من طُمأنينة كافية للقول بمعجزة في حفظة؛ وليس في تاريخ تدوين القرآن ما يمكّن القول بمعجزة في حفظه. فقوله: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون (الحجر ٩) ليس بمعجزة له.

لذلك فإن ما حُفظ من القرآن جليل يستحق التقدير، لكن ليس في ﴿حفظ القرآن معجزة إلهية تميّزه وينفرد بها على كل تنزيل.

بحث أول

معنى آية الحفظ

إن معجزة إِعجاز القرآن في حرفه تقوم على معجزة حفظه سالماً كما أنزل. ويقولون إن في قوله: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون (الحجر ٩) نبوءة عن حفظه، وشهادة بمعجزة حفظه. وفاتهم أن القرائن القريبة والبعيدة لا تقتصر ﴿الذكر على القرآن، بل هو مرادف للكتاب، كما أن ﴿أهل الذكر مرادف ﴿لأهل الكتاب.

ترد آية الحفظ في ردّه عليهم في تهمة الجنون: ﴿وقالوا: يا أيها الذي نزّل عليه الذكر، إنك لمجنون! لو ما تآتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!

(ردّ اول) ـ ما نزّل الملائكة إلاّ بالحق، وما كانوا إذاً منظَرين!

(جملة معترضة) ـ إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون

(ردّ ثانٍ) ـ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزِئون. كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به، وقد خلق سُنّة الأولين.

(ردّ ثالث) ـ ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا: ﴿إنما سُكّرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون! (٦ ـ ١٥).

يعتبر المشركون ادعاء تنزيل الذكر على محمد جنوناً، ويطلبون شاهداً على صحة ادعائه من إتيان الملائكة معه. فيردّ عليهم أولاً بأن نزول الملائكة مع القرآن سبب بلاء عظيم لهم (٨). ويرد عليهم ثانياً بأن الاستهزاء بالرسل مرض قديم وأن سُنّة اللهِ هي تعذيبهم بتكذيب أنبيائهم (١٠ ـ ١٣). ويرد عليهم ثالثاً بأنه اذا فتح الله باباً من السماء فظل الملائكة فيه يعرجون، لقالوا: انما سُكّرت أبصارنا! بل نحن قوم مسحورون! (١٤ ـ ١٥).

فالأجوبة الثلاثة متناسقة مترابطة في الردّ عليهم. لكن ما صلة حفظ الذكر بالرد على تهمة الجنون أو تنزيل الملائكة؟ إنها آية مقحمة على السياق، فهي في غير موضعها.

ثم نلاحظ الإطلاق في تعبير ﴿الذكر في الآية (٩) كما في الآية (٦). فليس التعبير خاصاً بالقرآن حتى يكون تعهّد الله بحفظه خاصاً بالقرآن وحده. فالذكر، في لغة القرآن، مرادف للكتاب. وعلى الحصر، فهو مخصوص بالتوراة، كقوله: ﴿ولقد كتبنا في الزبور، من بعد الذكر، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (الأنبياء ١٠٥)؛ كما هو مخصوص بالإنجيل كقوله: ﴿ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم (آل عمران ٥٨). ﴿ذلك أي قصص عيسى وآل عمران (٣٣ ـ ٥٨). فالذكر الحكيم، خلافاً لما يتوهمه العامة، مرادف للإنجيل. وتخصيص الذكر بالكتاب، أي التوراة والإنجيل، يتّضح من تسمية القرآن ﴿أهل الكتاب ﴿أهل الذكر: ﴿فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر (النحل ٤٣ ـ ٤٤)؛ كقوله دائماً: ﴿فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون (الأنبياء ٧). فالذكر على الإطلاق هو الذي عند أهل الكتاب، أهل الذكر. وما الذكر الذي نزل على محمد سوى تفصيل للذكر الحكيم، كما أن القرآن هو ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧). فإنه بعد استشهاده بأهل الذكر يقول للحال: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزل اليهم ولعلّهم يتفكرون (النحل ٤٤). فالذكر نزل في الكتاب الإمام، ﴿والذكر الحكيم نزل في الإنجيل؛ والقرآن انما هو بيان الذكر الذي نزل من قبل للناس. فتعهد الله بحفظ الذكر المنزل إنما يتعلّق أولاً بالكتاب ثم بالقرآن.

ومطلع سورة الحجر يشهد بذلك: ﴿آلر. تلك آيات الكتاب، وقرآن مبين. إن النبي، كما يظهر من الاشارة ﴿تلك قد تلا ﴿آيات الكتاب في قرآن عربي مبين لها، ثم علّق عليها بما تيسّر في سورة الحجر. فاسم الاشارة ﴿تلك يتعلق بما سبق، لا بما يأتي. فالذكر الذي يتعهد الله بحفظه هو ﴿آيات الكتاب وقرآنٍ مبين، قبل ما يأتي في سورة الحجر، وسائر سور القرآن العربي.

وتنزيل ﴿الذكر الى النبي العربي، تعبير متشابه لا يجزم بكيفيّة، كقوله في السورة عينها: ﴿وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه، وما ننزّله إلاّ بقدر معلوم. وأرسلنا الرياح لواقح، فأنزلنا من السماء ماء، فأسقيناكموه، وما أنتم له بخازنين (الحجر ٢١ ـ ٢٢). فالله أنزل القرآن العربي، كما أنزل من السماء ماء، وكما ينزّل من كل شيء بقدر معلوم. فتنزيل القرآن هو ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧)، وهو ﴿تيسير القرآن أي الكتاب للذكر، كما يردّد: ﴿ولقد يسّرنا القرآن للذكر (القمر ١٧ و٢٢ و٣٢ و٤٠)؛ وكما يُقسم: ﴿والقرآن ذي الذكر (ص ١)، فلا يكون القرآن العربي المقسَم به والمقسَم عليه معاً: فهو يقسم ﴿بالقرآن ذي الذكر على أمرٍ ما، ﴿وجواب هذا القسم محذوف (الجلالان). فالقرآن ذو الذكر هو الكتاب الإمام! ﴿والذكر الحكيم هو الإنجيل. فالذكر على الإطلاق الذي تعهّد الله بحفظه هو أولاً الكتاب، أي التوراة والإنجيل، ثم القرآن العربي، لأنه ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧) وتلاوة من آي ﴿الذكر الحكيم. هذا معنى آية ﴿الحفظ في قرائنها القريبة والبعيدة. فليس فيها برهان على نبوءة بحفظ القرآن العربي، ولا على معجزة في حفظه سالماً.

وحفظ القرآن العربي قد يقوم بتواتر معناه من دون حرفه. فقد أجاز النبي، وعمل الخلفاء الراشدون بإجازة قراءَة القرآن العربي بالمعنى من دون الحرف. وهم إنما أجازوا قراءَة القرآن العربي بالمعنى من دون الحرف، لأنها في نظرهم ﴿لم تختلف في شيء من شرائع الإسلام؛ ولا يتنافى هذا مع قوله جلّ شأنه (إنّا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون) لأن المراد بالحفظ مفهوم الألفاظ لا منطوقها... لأن الألفاظ ما صِيغتْ إلاَّ ليُستَدلّ بها على معانٍ مخصوصة، قُصد بها أوامر ونواه، وعبادات ومعاملات. وجميعها مصان محفوظ مهما تقادم الدهر وتطاول العمر ٢٩ .

فحفظ القرآن العربي لا يقتضي حفظ حرفه، بل حفظ معناه. وهذه النتيجة الحاسمة، القائمة على رخصة قراءَة القرآن بالمعنى من دون الحرف، قبل جمعه، شبهة قائمة على سـلامة حفظ حرف القرآن من التحريف أو على إِعجـاز الحرف العثمـاني. فليس في آية ﴿الحفظ (الحجر ٩) نبوءة بحفظ القرآن العربي؛ وليس فيها شهادة بمعجزة حفظه سالماً كما نزل.

بحث ثان

أدوات حفظ القرآن قبل جمعه ليست مأمونة

في بيئة بدائية بدوية، كبيئة النبي والقرآن، كان الاعتماد في الحفظ أولاً على الذاكرة، ثم على بعض الأدوات البدائية التي لا تكاد تحفظ شيئاً.

نحن في عصر الطباعة والكتب المكتوبة لا نقدّر حفظ الذاكرة من الحفظ حقَّ تقديره. فكل كتب الأقدمين، منزلة وغير منزلة، قد وصلت الينا أولاً عن طريق الحفظ بالذاكرة. لكن الذاكرة قد استعانت بأدوات مادية للحفظ لم تتيسّر في الحجاز الجاهلي.

ومهما كانت الذاكرة، كذاكرة البدائيين، في قوة الحفظ؛ فإنها لم تكن مأمونة لنقل حرف القرآن كما نزل. والذاكرة، حتى ذاكرة النبي، لم تكن المثال الأعلى للحفظ والنقل. فالقرآن يؤكد لنا بأن النبي كان ينسى من الوحي (الأعلى ٦). ويجاهد في حفظ الوحي، ويضرع الى ربه أن لا ينسى (الكهف ٢٤).

ويأتيه الجواب أنه لا بدَّ من أن ينسى، وقد يُنسيه الله نفسه (البقرة ١٠٦). وفي (أسباب النّزول) على آية البقرة: ﴿ما ننسخ من آية أو نُنسِها (البقرة ١٠٦) ورد: ﴿ربما نزل الوحي على النبي بالليل، ونسيه بالنهار! (السيوطي). ونقل الطبري: ﴿إن نبيَّكم أُقرِئَ قرآنا ثم نسيه (٤٧٣:١ ـ ٤٨٠). وكان محمد يصلّي: ﴿اللهمّ ذكّرني منه ما نسيت، وعلمني منه ما جهلت ٣٠ . فإذا كان وسيط الوحي المصطفى قد ينسى الوحي، ما بين ليلة وضحاها، فكم بالأحرى المستمعون عَرَضاً واتفاقًا، أو عن متابعة واستظهار!

وهناك ظاهرة ثانية تاريخية: كان حفظ القرآن موزّعاً على الصحابة، وإن انفرد بحفظه بعض القراء. يقول محمد صبيح ٣١ : ﴿ولا بدَّ لنا هنا من أن نسأل سؤالاً آخر: هل كان الصحابة جميعاً يحفظون القرآن كله؟ ورد في (فجر الإسلام) للأستاذ أحمد أمين: ﴿ولم يكن شائعا في عهد النبي حفظ القرآن جميعه كما شاع بعد؛ إنما كانوا يحفظون السورة، أو جملة آيات، ويتفهمون معانيها؛ فإذا حذفوا ذلك، انتقلوا إلى غيرها. فكان حفظ القرآن موزّعاً على الصحابة. قال أبو عبد الرحمان السلمي: ﴿حدَّثنا الذين يقرأون القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، أنهم كانوا، إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. وقال أنس: ﴿كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ في أعيننا ـ رواه أحمد في مسنده. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين، ذلك أنه إنما كان يحفظ، ولا ينتقل من آية الى آية حتى يفهم.

فهذه الآثار والأخبار دلائل على الشبهة القائمة على صحة حفظ الحرف القرآني بواسطة الذاكرة؛ وعلى تفرّق القرآن بين الصحابة والقراء، في ذاكراتهم.

٢ ـ والوسائل الأثرية لحفظ القرآن من الضياع كانت هي أيضاً بدائية تعجز عن حفظه. فقد نقل البخاري حديث زيد أول من كُلّف بجمع القرآن، قال: ﴿فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمراني به من جمع القرآن... فتتبّعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللِخَاف، وصدور الرجال ٣٢ أي جريد النخل، وصفائح الحجارة. وزاد السيوطي: ﴿وقد تقدم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف. وفي رواية: والرقاع. وفي أخرى: وقطع الأديم. وفي أخرى: والأكتاف ٣٣ . وفي أخرى والأضلاع. وفي أخرى: والأقتاب. فتأمل القرآن المكي، موزعاً على الحجارة، وأكتاف الجمال والشاه، وعلى أخشاب البعران، بين جماعة مضطهدة مُلاحقة، تسهر على حفظ كيانها قبل قرآنها، كم حفظت لنا تلك الوسائل البدائية من القرآن المكي؟ وكم كان يتقضي من جمل لحمل القرآن المكتوب على تلك الوسائل البدائية. يقول محمد صبيح ٣٤ تعليقاً على هذه الوسائل البدائية في حفظ القرآن: ﴿كتابة القرآن المكي على هذه الأدوات الخشنة كان مصحفاً يحتاج الى عشرين بعيراً لحمله. ولم نعلم من أنباء الهجرة أن قافلة من الأحجار فرّت قبل النبي أو مع النبي، ومعها هذا الحمل الغريب. وكانت هذه الوسائل الخشنة هي المستعملة في المدينة أيضاً. وهل كان لهم في المدينة بين الغزوات والحروب المتواصلة حتى آخر يوم من حياة محمد، من فراغ كاف لتدوين القرآن المكي فالمدني عليها؟ تلك هي أدوات حفظ القرآن قبل جمعه.

٣ ـ وهذه هي حال القرآن عند وفاة النبي.

يقول الأستاذ دروزة ٣٥ : ﴿إن هناك أقوالاً وروايات تفيد أن النبي توفي ولم يكن القرآن قد جُمع في شيء، وأن جمعه وترتيبه إنّما تمّا بعد وفاته. وان ما كان يدوّن منه في حياته كان يدوّن على الأكثر على الوسائل البدائية مثل أضلاع النخيل ورقائق الحجارة وأكتاف العظام وقطع الأديم والنسيج. وان المدوّنات منه على هذه المواد لم تكن مضبوطة ولا مجموعة. وكانت على الأكثر متفرّقة عند المسلمين. وان المعوّل في القرآن كان على القراء وصدور الرجال. وقد رأينا أن آفة الذاكرة النسيان، كما يصف القرآن حال نبيه.

فليس في وسائل حفظ القرآن قبل جمعه، وسط حياة حافلة بالاضطهاد في مكّة، والقتال المتواصل في المدينة، من ضمانة كافية، ولا من طمأنينة وافية، لحفظ الحرف القرآني، أو حفظ القرآن نفسه، كما نزل. والشهادة المتواترة أنه ﴿ذهب منه قرآن كثير، وأن عثمان ﴿غيَّر المصاحف. فأين هي ركائز المعجزة في حفظ القرآن سالماً؟

بحث ثالث

الرخص النبوية الأربع لقراءة القرآن قبل جمعه

بعد الشهبة القائمة على وسائل حفظ القرآن، تأتي الشبهة الضخمة على سلامة حرفه، من الرخص النبوية الأربع لقراءَة القرآن قبل جمعه. وهذه الرخص الأربع قائمة على الشبهة الأساسية في نزول القرآن على سبعة أحرف، وفي إجازة قراءَته على تلك الأحرف السبعة بهذه الرخص النبوية الأربع.

أولاً: قراءَة القرآن بالمعنى، من دون الحرف، قبل جمعه

لقد نقلت الأخبار والآثار المتواترة أن النبي رخّص لجماعته قراءَة القرآن بالمعنى، من دون حرف التنزيل؛ وذلك على أحرفه السبعة التي نزل بها. وإن الصحابة، من بعده، قد أجازوا هم أيضاً القراءَة بالمعنى، وعملوا بها. فابن عباس، ترجمان القرآن، كان يجيز قراءَة القرآن بالمعنى ٣٦ . وهو مذهب الصحابة كمجاهد وأُبي بن كعب الـذي كان يقرأ بدل ﴿انظرونا (الحديد ١٣): ﴿أمهلونا، أخّرونا، ارقبـونا! وبدل ﴿مشوا فيه (البقرة ٢٠): ﴿مروّا فيه، سعوا فيه ٣٧ . والخلفاء الراشدون أنفسهم أجازوا تلك الطريقة وعملوا بها ٣٨ .

ويُبرّر ابن الخطيب ٣٩ القراءَة بالمعنى، وخروجها على مبدأ ﴿حفظ الذكر (الحجر ٩) بقوله: ﴿المراد بالحفظ مفهوم الألفاظ، لا منطوقها، لأن الألفاظ ما صِيغتْ إلاَّ ليُستدَلَّ بها على معان مخصوصة، قُصد بها أوامر ونواه، وعبادات ومعاملات؛ وجميعها مصان محفوظ، مهما تقادم الدهر، وتطاول العمر. وفات الأستاذ الخطيب أن صحة التنزيل في سلامة حرفه، وأن صحة الإِعجاز في القرآن في سلامة حرفه الذي يضيع في القراءَة بالمعنى. فإباحة القراءَة بالمعنى قد تقضي على حرف التنزيل القرآني، وبالتالي على صحة التحدي بإِعجازه. والإِعجاز القرآني قائم على حرفه، في فصاحة ألفاظه، وبديع نظمه، ومحكم أسلوبه. فإذا ضاع الحرف المنزل، في القراءَة بالمعنى، ضاع معه الإِعجاز.

وقد تنبّه لهـذا الأمر الخطير العلمـاء المسلمون ٤٠ والمستشرقون. قال الأستاذ بلاشير ٤١ ، أحد أئمة مترجمي القرآن: ﴿إن نظرية قراءَة القرآن بالمعنى كانت بلا ريب أخطر قضية في التاريخ الإسلامي، لأنها أسلمت النص القرآني الى هوى كل شخص يثبته على ما يهوى. ففي الرخصة بقراءَة القرآن بالمعنى، مدة ثلاثين الى خمسين سنة قبل جمعه وتدوينه، شبهة لا تردّ على سلامة النص المنزل من التحريف، وبالتالي على إِعجازه.

ثانياً: إباحة القراءات المختلفة للنص الواحد

إن حديث الأحرف السبعة يجرّ وراءَه إباحة القراءات المختلفة على تلك الأحرف المختلفة. وحديث القراءات المختلفة للقرآن قبل عثمان غير قصة القراءات المتواترة للنص العثماني.

قال ابو شامة ٤٢ : ﴿ظنَّ قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث (الأحرف السبعة)؛ وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة. وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل. فقد قرأ الصحابة، بحضرة النبي، القرآن، بقراءات مختلفة، وأقرَّها جميعاً. وهذه التوسعة في قراءَة القرآن عمل بها الخلفاء الراشدون. وما اتفقوا على قراءَة واحدة، قبل التوحيد العثماني. ونقل ابن الخطيب ٤٣ أمثلة متعدّدة على اختلاف القراءَة عند أبي بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان؛ ويليهم أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وابن عبّاس وابن الزبير. ويقول: ﴿وهذه القراءات ثابتة في مصاحف أصحابها ومنقولة عنها... وكذا مصاحف التابعين. وقد بلغ اختلاف الخلفاء الراشدين في القرآن واختلاف الصحابة والتابعين الى الأمصار البعيدة! ﴿فأخذ أهل البصرة القرآن عن أبي موسى الأشعري؛ وأهل الكوفة عن عبد الله بن مسعود؛ وأهل دمشق عن أُبي بن كعب؛ وأهل حمص عن المقداد بن الأسود. وكان كل قطر من هذه الأقطار يدّعي أنه أهدى سبيلاً، وأقوم طريقاً ٤٤ .

ولنا خير شاهد على فوضى قراءَة القرآن قبل عثمان، من الفوضى التي نشأت بعد جمع عثمان الأمة على حرف واحد وقراءَة واحدة. فقد قامت قراءات مختلفة للحرف العثماني، بلغت عند الإمام ابن مجاهد سبع قراءات، وعند غيره عشر قراءات؛ وأوصلها بعضهم الى أربع عشرة. ﴿وذكروا في مصنفاتهم أضعاف تلك القراءات ٤٥ . قال الزمخشري من قبله: ﴿إن القراءات اختيارية تدور مع اختيار الفصحاء واجتهاد البلغاء. والى اليوم بعد انتشار الخط ثم الطباعة، ﴿قد بلغ الاختلاف في القراءات حدّاً لا مزيد عليه.

فتلك الحال من الفوضى، بعد التوحيد العثماني للحرف القرآني أكبر شاهد على الفوضى البالغة في قراءَة القرآن قبل عثمان، مع وجود الأحرف السبعة لنصه، والرخص النبوية الأربع لقراءَة القرآن على كل من تلك الأحرف السبعة!

فإباحة قراءَة القرآن بالقراءات المختلفة إنما هي شبهة ضخمة على سلامة النص القرآني كما أنزل، وخصوصاً كما أثبته عثمان، وعلى سلامة إِعجاز القرآن في حرفه الباقي.

ثالثاً: الرخصة في قراءة القرآن بجميع لغات العرب

لم تكن اللغة العربية واحدة في الجزيرة، ولا شعوبها واحدة؛ ومهما اختلف الباحثون، فقد أصبح واضحاً جليّاً أن اللغة العربية في الجاهلية لم تكن لغة واحدة يتفق نطقها وصرفها ونحوها. لم يبق هناك شك في أن جزيرة العرب كانت مستقر شعوب، لا شعب واحد. وكانت هذه الشعوب تنطق بلغات كثيرة، قد تتفق بينها بعض الألفاظ، كما تتفق اليوم بعض ألفاظ اللغة الفرنسية والانجليزية، ولكن كل لغة قائمة بنفسها مستقلة استقلالاً لا شك فيه ٤٦ .

وكانت رخصة نبوية بقراءَة القرآن بجميع لغات العرب، قبل الجمع العثماني. ﴿أمّا جمع عثمان. فلم يكن إلاّ لكثرة اختلافهم في وجوه القراءَة، حتى إنهم قرأوه بسائر لغاتهم، على اتّساع تلك اللغات. فلما خشي عثمان تفاقم الأمر جمع المصحف مقتصراً على لغة قريش، محتجّاً بأنه قد نزل بلغتهم ٤٧ . نرى إذن كم اتسعت الفوضى في قراءَة القرآن بجميع لغات العرب المختلفة، وكم يجب من معجزة وعصمة، لا شاهد عليهما، للاهتداء الى النص المنزل الصحيح.

وفي الحرف العثماني الموحّد على لغة قريش نجد ثلاث ظواهر تنبئ بما كان عليه أمر النص المنزل قبل التوحيد العثماني من فوضى: ١) غريب القرآن ٢) ما وقع فيه بغير لغة الحجاز ٣) ما وقع فيه بغير لغة العرب ٤٨ . والاختلافات في قراءَة النص العثماني خير شاهد على سعة الاختلافات قبله، لمّا ﴿كانت المصاحف بوجوه من القراءات مطلقات، على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن. جاءَ في (شرح المواقف ص ٤٩٠) أن في النص العثماني الموحّد ﴿من الاختلافات ما يزيد على اثني عشر ألفاً. فكيف كان الأمر من الفوضى الضاربة أطنابها في قراءَة القرآن قبل توحيد النص العثماني على حرف واحد وقراءَة واحدة؟

أيجوز بعد ذلك الزعم بأن الحرف العثماني هو الحرف المنزل الصحيح سالماً من التحريف؟ إن سلامة النص العثماني من التحريف معجزة لا شاهد لها من قرآن ولا من حديث صحيح. فالرخصة في قراءَة القرآن بجميع لغات العرب، نيّفاً وثلاثين سنة قبل الجمع العثماني، القت على صحة النص المنزل شبهة عظمى لا مردَّ لها، وبالتالي على صحة التحدي بإِعجازه.

رابعاً: بعد نزول القرآن على سبعة أحرف، إباحة القراءَات بها

على أساس إباحة قراءَة القرآن، قبل عثمان، قراءات مختلفة بسائر لغات العرب المختلفة، نجد حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وما يتبعه من إباحة قراءَته بهذه الأحرف السبعة، وكل حرف منه بجميع لغات العرب. قال السيوطي ٤٩ : ﴿ليس المراد بالأحرف السبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة. فالعدد الحقيقي أكثر من سبعة.

وكانت القراءات، قبل عثمان، مطلقات على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. يقول ابن الخطيب ٥٠ : ﴿ويرجع تاريخ الاختلاف بالقراءات الى زمن الصحابة. وهذا الذي حدا بعثمان الى كتابة مصحفه وجمْع الناس على قراءَة واحدة... ولم يكتب عثمان المصحف إلاَّ خشية الاختلاف في القراءَات والتغالي فيها وتفضيل احداها على الأخرى... فأمّا قبل عثمان فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءَات مطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن. وهكذا مع تفرّق القرآن على سبعة أحرف وأكثر، جاءَت القراءَات المختلفة على كل حرف منها، فزادت في فوضى النص المنزل، حتى خشي عثمان من ضياع القرآن. فجمع القرآن على حرف واحد، وجمع الأمة على قراءَة واحدة، بالحديد والنار.

ولكن بعد تلك الفوضى في القراءَات المختلفة، على الفوضى في الأحرف السبعة المختلفة، أنّى لعثمان ولجانه المتتابعة من العثور على النص الصحيح المنزل، بدون تحريف؟ وليس ثمَّتَ من شاهد في القرآن، ولا من أثر أوجز في الحديث، ينص على أن كتبة الوحي، أو القراء، أو الصحابة، أو الخلفاء الراشدين، أو جامعي القرآن من لجان عثمان، كانوا معصومين ليهتدوا الى النص المنزل. فلا ضامن لاختيار عثمان الحرف المنزل الصحيح، ولا عصمة لهم في صحة اختيار الحرف الصحيح والقراءَة الصحيحة. واذا كان كل حرف أي نص من القرآن، ظل يُقرأ نحو نصف قرن قبل عثمان، بجميع لغات العرب، نرى الفوضى التي لا مثيل لها، والتي وصل اليها النص المنزل. قال ابن عبد البرِّ في اختلاف نصوص القرآن وفي شرط القراءَة بها: ﴿إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، أنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافاً ينفه ويضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده. فالشرط الوحيد لاختلاف الأحرف القرآنية وإباحة القراءَة بها أن لا يكون في شيء منها معنى وضده، كآية عذاب بدل آية رحمة. فهل من ضابط بعد هذه التوسعة لحفظ نص القرآن المنزل؟ وهل يمكن بعدها، وبعد وفاة كتبة الوحي وأكثر القراء الأوائل، العثور على النص الأصلي بدون تحريف؟ إن ذلكم ضرب من المعجزة ومن العصمة لا شاهد لهما من قرآن أو من حديث.

وهذه شواهد قاطعة نقلوها لقراءات القرآن المختلفة عن الأئمة. نقل الطبري ٥١ مثلاً على تصرف أنس بن مالك في قراءَته. قرأ ﴿إن ناشئة الليل هي أشدّ وطأً وأصوب قيلاً (المزّمل ٦). فقال له بعضهم: ﴿يا أبا حمزة، إنما هي: أقوم! فقال: أقوم وأصوب وأهيا، كلها واحد. ونقل السيوطي ٥٢ عن أبي بكر أنه كان يقرأ: ﴿كلما أضاءَ لهم مشوا فيه، مرّوا فيه، سعوا فيه... وكان ابن مسعود يقرأ: ﴿للذين آمنوا، انظرونا، أمهلونا، أخرونا. فهذه الشواهد تدل على أنهم تصرّفوا بنص القرآن على هواهم وبحسب سليقتهم العربية، وألسنتهم المختلفة. وهذا التصرف بقراءَة القرآن على سبعة نصوص مختلفة فما فوق، وبجميع لغات العرب المختلفة، أضاع النص الأصيل، أو أدخل عليه التحريف الطويل. لذلك، لمّا كلّف أبو بكر وعمر، لأول مرة، زيد بن ثابت بجمع القرآن، صُعِق وقال: ﴿فوالله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمراني به من جمع القرآن ٥٣ .

ففي هذه الإباحة والرخصة بقراءَة القرآن بجميع لغات العرب المختلفة، على كل حرف من نصوصه السبعة، شبهة قائمة دائمة على صحة النص المنزل، وعلى إِعجاز القرآن نفسه في الحرف العثماني.

والنتيجة المذهلة الحاسمة القاطعة التي نصل اليها بعد تلك الرخص الأربع لقراءَة القرآن، على سبعة أحرف، وقراءات مختلفة، وبجميع لغات العرب، وبالمعنى من دون الحرف واللفظ، هي: ١ ـ الشبهة القتّالة على سلامة النص المنزل من التحريف؛ ٢ ـ الشبهة المريبة على ﴿حفظ القرآن، الذي يعتبرونه معجزة؛ ٣ ـ الحجة القائمة التي لا مردّ لها لاستحالة التحدي بإِعجاز القرآن، لأن هذا الإِعجاز يقوم، في نظرهم، لا على المعنى، بل على اللفظ والنظم والأسلوب أي على الحرف، وهذا الحرف لا يمكن أن يسلم في تلك الفوضى، مدة نصف قرن تقريباً، التي خلقتها الرخص الأربع لقراءَة القرآن قبل أن يجمع عثمان الأمة على حرف واحد وقراءَة واحدة، بلغة واحدة. فهذا الحرف العثماني الباقي، لم يكن هناك من معجزة تعصمه في صحة الاختيار بين سبعة أحرف، على قراءات مختلفة، بجميع لغات العرب، وأحياناً بالمعنى من دون اللفظ المنزل، وذلك مدة ثلاثين الى خمسين سنة قبل جمعه وتدوينه.

فأين الإِعجاز في التنزيل المعصوم من التحريف؟ وأين المعجزة في حفظه كما نزل؟ فحق لهم أن يقولوا: إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة!

بحث رابع

في معرفة حفّاظه ورواته (الإتقان ٧٢:١)

إن واقع البيئة، وواقع السيرة النبوية، يدلاّن على أن حفظ القرآن قام على حفظه في الصدور، لا على تدوينه في الأحجار والقشور. فصحة حفظه تقوم على ﴿معرفة حفّاظه ورواته. وقد جمع السيوطي من الأحاديث ما يحمل على الشبهة والريبة.

الواقع الأول: ﴿روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ النبي ﷺ يقول: خذوا القرآن من أربعة (من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبَي بن كعب). أي تعلموا منهم. والأربعة المذكورون اثنان من المهاجرين، وهما (ابن مسعود وسالم) واثنان من الأنصار (معاذ وأبي). وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة؛ ومعاذ هو ابن جبل.... وقد قتل سالم، مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة؛ ومات معاذ في خلافة عمر؛ ومات أبي وابن مسعود في خلافة عثمان. وقد تأخر زيد بن ثابت وانتهت اليه الرئاسة في القراءَة، وعاش بعدهم زمناً طويلاً. فالنتيجة الحاسمة لهذا الحديث الصحيح أن زيد بن ثابت لم يوصِ النبي بأخذ القرآن عنه. ولم يحضر نزول القرآن بمكّة، لحداثة سنه، وهو أنصاري. فإسناد رئاسة قراءَة القرآن وجمعه اليه موضوع نظر. ولمّا جمع زيد بن ثابت القرآن الجمع الأخير على زمن عثمان كان القراء الأربعة الذين أوصى بهم النبي قد توفوا. فلم يبق له من سند لا شبهة عليه.

الواقع الثاني: أجل لا نحصر حفظة القرآن بالأربعة الموصى بهم. لكن جاء ﴿في الصحيح في غزوة بئر معونة إن الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القراء. وكانوا سبعين رجلاً... وقال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي ﷺ ببئر معونة مثل هذا العدد. فعلى عهد النبي ثم في حروب الردّة على أيام أبي بكر كان قد قُتل من القراء نحو أربعين وماية قارئاً. وذلك قبل أن يباشر زيد بن ثابت بأمر أبي بكر، على نصيحة عمر، بجمع القرآن. فالنتيجة الحاسمة الثانية أن أكثر حفظة القرآن قد ماتوا قبل جمعه وتدوينه. وحفظته من الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين كانوا يحفظون شذرات، ولا يحملون القرآن كله، وأنّى لهم الفراغ مع النبي وبعده.

الواقع الثالث، في ثلاثة أحاديث متعارضة:

﴿روى البخاري أيضاً عن قتادة قال: سألتُ أنس بن مالك، مَن جمع القرآن على عهد النبي ﷺ؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار، أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قلتُ: مَن أبو زيد؟ قال أحد عمومتي. وروى أيضاً من طريق ثابت عن أنس: مات النبيولم يجمع القرآن غير أربعة، أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (عم أنس بن مالك). وفيه المخالفة لحديث قتادة من وجهين حدهما التصريح بصيغة الحصر في الأربعة. والآخر ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب. وقد استنكر جماعة من الأثمة الحصر في الأربعة.

والظاهر أنه جمع حفظ، لا جمع تدوين ـ وإلاّ فلا معنى لتدوين زيد بن ثابت. والمشكل أنهم ﴿كلهم من الأنصار، لم يشهدوا التنزيل في مكّة؛ وليس بينهم عبد الله بن مسعود ولا سالم، وكلاهما من المهاجرين. والتعارض الأكبر بين هذين الحديثين، والحديث البخاري الأول أنه ليس بينهم أحد ـ سوى أبي زيد ـ ممن أوصى النبي بأخذ القرآن عنهم. ولا ذكر لأبي زيد في قصة تدوين القرآن. وفي قول أنس أنه ﴿لم يجمعه غيرهم. وهو متعارض مع حديث وصية النبي بأخذ القرآن عن غيرهم. فممّن أخذوا القرآن؟

ويأتي الحديث الثالث فيغمرنا بالظلمة: ﴿أخرج ابن اشته بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: مات أبو بكر ولم يُجمع القرآن؛ وقتل عمر ولم يُجمع القرآن. قال ابن اشته: قال بعضهم يعني لم يُقرأ جميع القرآن حفظاً؛ وقال بعضهم هو جمع المصاحف. وحديث ابن سيرين ينقض قصة جمع القرآن وتديونه بواسطة زيد بن ثابت على أيام أبي بكر وعمر.

والنتيجة الحاسمة الكبرى أن حفظ القرآن ثم جمعه يقومان على أكتاف زيد بن ثابت، وهو فتى أنصاري على حياة النبي؛ ولم يوصِ النبي بأخذ القرآن عنه. فرئاسته في قراءَة القرآن وجمعه وتدوينه محل شبهة، بسبب سنه على حياة النبي، وبسبب وصية النبي في أخذ القرآن عن غيره. فهل التاريخ الثابت من الحديث الصحيح يدل على معجزة في حفظ القرآن؟

بحث خامس

من تاريخ جمع القرآن وتدوينه

إن تاريخ جمع القرآن يُلقي ظلاً ثقيلاً على سلامة حرفه، موضوع إِعجازه.

بعد وفاة النبي ظهرت محاولات فردية ثم رسمية لجمع القرآن.

أولاً: المحاولات الفردية لجمع القرآن

إن تعدّد أنواع الجامعين، وتنوّع المصاحف المجموعة المختلفة تثير شبهات.

١ ـ في المحاولات الفردية اختلفوا في أول مَن حاول جمع القرآن.

قيل أن أول مَن حاول جمع القرآن علي بن أبي طالب. بعد بيعة أبي بكر قعد في بيته. فقيل لأبي بكر: كره بيعتك! فأرسل إليه فقال: أكرهتَ بيعتي؟ قال: لا واللهِ! قال: ما أقعدك عني؟ قال: رأيتُ كتاب الله يُزاد فيه فحدّثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلاّ لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر: فإنك نِعم ما رأيت! ـ هذا حديث محمد بن سيرين عن عكرمة. وقيل جمع علي القرآن كما أنزل الأول فالأول، بحسب تاريخ نزوله. وأخرجه ابن أشـته في (المصاحف) من وجـه آخر عن ابن سيرين أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ ٥٤ .

ويُرجع أهل السنة الفضل في جمع القرآن لأبي بكر الصديق. ﴿أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) بسند حسن عن عبد خير قال: ﴿سمعت عليّاً يقول: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر. رحمة الله على أبي بكر هو أول مَن جمع كتاب الله! لكن ابن أبي داود ينقل أيضاً الحديث المناقض لابن سيرين عن عكرمة أن عليّاً كان أول من جمع القرآن ٥٥ .

﴿وأخرج ابن أبي داود من طريق الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية في كتاب الله فقيل: كانت مع فلان قُتل يوم اليمامة. فقال: إنّا لله! وأمر بجمع القرآن فكان أول مَن جمعه في المصحف. يفسّره السيوطي: ﴿المراد بقوله (فكان أول مَن جمعه) أي أشار لجمعه ٥٦ .

وهكذا ينسبون الأولية في جمع القرآن الى كلٍّ من الخلفاء الراشدين الأربعة.

لكن لم يكن لهم في مهام خلافتهم متّسع من الوقت للاهتمام شخصياً بجمعه. لذلك أخرج ابن اشته في كتاب (المصاحف) عن ابن بريدة قال: ﴿أول من جمع القرآن في مِصحف سالم، مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه. ثم ائتمروا ما يسمونه. فقال بعضهم سمّوه: السفر. قال؛ ذلك تسمية اليهود، فكرهوه، فقال: رأيتُ مثله في الحبشة يُسمى المصحف، فاجتمع رأيهـم على أن يسـموه المصحف. فسّره السيوطي: ﴿وهو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر ٥٧ .

لاحظ الاختلافات وكثرة الاحتمالات في قصة جمع القرآن.

والحديث المعتمد عن صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق، بإشارة عمر، أمر زيد بن ثابت في جمع القرآن؛ ﴿فتتبعت القرآن أجمعه من العُسب واللخاف وصدور الرجال... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفـاه الله، ثم عند عمر حيـاته، ثم عند حفصة بنت عمر ٥٨ . فيكون زيد بن ثابت هو أول جامع للقرآن. والشبهة الكبرى في ذلك أن زيداً، على حياة النبي، لم يكن قد بلغ الحلم بعد.

٢ ـ وذكروا أيضاً أنّ أمهات المؤمنين، أزواج النبي، قد حاولن هنّ أيضاً جمع القرآن. فذكروا أن عمر بن رافع، مولى حفصة، بنت عمر وزوج النبي، جمع لها مصحفاً، عُرف باسمها. وهذا يُلقي شبهة أخرى على الصحف التي جمعها زيد بأمر أبي بكر وعمر، ﴿فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر كما نقل البخاري من حديث زيد بن ثابت.

وذكروا أيضاً أن أبا يونس، مولى عائشة، بنت أبي بكر وزوج النبي المفضّلة، جمع لها مصحفاً عُرف أيضاً باسمها. وقد روى عروة بن الزبير حديثاً عن عائشة: ﴿إن سورة الأحزاب كانت تُقرأ في زمن النبي مئتي آية. فلما كتب عثمان المصاحف لم نُقدر منها إلاّ ما هو الآن، أي (٧٣ آية). وروي عن حميدة بنت أبي أوس قالت: ﴿قرأ عليَّ أبي، وهو ابن ثمانين، في مصحف عائشة: (يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً ـ وعلى الذين في الصفوف الأولى)، وذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف.

فعليُّ يشهد بأن كتاب الله يُزاد فيه؛ وعائشة تشهد بأن عثمان غيّر المصاحف.

فهناك تيّار ينسب جمع القرآن الى كل من الخلفاء الراشدين. وهناك تيار ينسبه الى موالي أمهات المؤمنين.

٣ ـ وهناك تيار ثالث ينسب مصاحف أخرى لأئمة القراء الذين أوصى بهم النبي: مصحف عبد الله بن مسعود، ومصحف أُبي بن كعب، ومصحف معاذ، ومصحف سالم، مولى حذيفة. وأشهرهما مصحف ابن مسعود، ومصحف أُبي. ﴿وإن المصحفين ظلاّ موجودين يُقرأان إلى ما بعد عثمان بمدة طويلة، وإن ترتيب سور كل منهما مغاير لترتيب الآخر من جهة، ومغاير لترتيب المصحف العثماني من جهة أخرى. وإن في أحدهما زيادة، وفي أحدهما نقص ٥٩ . فلم تكن الفاتحة، ولا خاتمة القرآن (المعوذتان) في مصحف ابن مسعود، وكان يحكهما ويقول؛ إنهما ليستا من كتاب الله ٦٠ . فابن مسعود يشهد بأن (الفاتحة) ليست من القرآن.

وفي مصحف أُبي، كانت سورة اسمها ﴿الحفد وأخرى اسمها ﴿الخلع وكان عليّ يعلّمهما الناس، وعمر بن الخطاب يُصلّي بهما. وقد أسقطهما عثمان في الجمع الأخير ٦١ .

٤ ـ وهذا هو الواقع القائم بين هذه التيارات: كان الناس في الأقطار يقرأون القرآن بقراءَة القرّاء المختلفة. روى ابن الأثير (٨٦:٣) أن الأمة قبل عثمان كانت تقرأ القرآن في أربع نسخ مختلفة: نسخة أُبي في دمشق، ونسخة المقداد في حمص، ونسخة ابن مسعود في الكوفة، ونسخة الأشعري في البصرة. وممّا يدل على اختلافها البعيد اقتتال أهل الشام وأهل العراق في معارك أذربيجان، بسبب قراءاتهم المختلفة للقرآن الواحد. وهذا ما أفزع القائد حذيفة (وكان مولاه سالم قد جمع له قرآناً) ففزع الى عثمان بن عفان يحرّضه على توحيد المصاحف.

وحديث الأحرف السبعة، يرفع النصوص المختلفة من أربعة الى سبعة.

قال حذيفة بن اليمان: ﴿غزوتُ مرج أرمينية فحضرها أهل العراق والشام. فإذا أهل الشام يقرأون بقراءَة أُبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع به أهل العراق، فتكفرهم أهل العراق. وإذا أهل العراق يقرأون بقراءَة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام، فتكفّرهم أهل الشام ٦٢ .

وهذا الاختلاف والاقتتال والتكفير في حرف القرآن، في الثغور والفتوحات، قد وصل الى الغلمان والمعلمين في بيوت حفظ القرآن. ﴿وقد رُوي حديث عن أنس بن مالك جاء فيه: إنّ الناس اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون. فبلغ ذلك عثمان، فقال: عندي تكذبون وتلحنون فيه! فمن نأى عني كان أشدّ تكذيباً ولحناً! يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً ٦٣ .

فالتكفير والاقتتال في مدارس القرآن، وفي غزوات الفتح، على صحة حرف القرآن، شهادة قائمة على وقوع التحريف في نص القرآن، قبل الجمع العثماني. وأنى لعثمان ولجانه المختلفة الوصول الى النص الأصلي المنزل، بعد أن أمسى قبل جمعه سبعة أحرف، أي سبعة نصوص، بقراءات مختلفة. إن إتلاف عثمان، برضى الصحابة لجميع المصاحف سوى مصحفه، برهان قاطع على اختلافها في حرف القرآن، ودليل قائم على استحالة الوصول الى النص الصحيح المنزل المعجز.

ففي الوضع القائم للقرآن على سبعة أحرف، عند وفاة النبي، شبهة أولى ضخمة على صحة حرف القرآن. وفي الوضع الذي انتهوا إليه عند الجمع العثماني شبهة أخرى ضخمة على صحة حرف القرآن. وهذه الشبهات التاريخية القائمة لا يصح معها ادّعاء وسلامة الحرف القرآني، موضوع التنزيل، وموضوع التحدي بإِعجاز القرآن. فالتحدي بإِعجاز حرف القرآن، لا أساس له. والواقع التاريخي ﴿لحفظ القرآن ينقض معجزة ﴿حفظه المزعومة.

ثانياً: المحاولات الرسمية لجمع القرآن

إن المحاولات الرسمية لجمع القرآن تمت على مراحل تثير أيضاً الشبهات.

١ ـ الاصدار الرسمي الأول للقرآن، في زمن أبي بكر.

يؤخذ من حديث زيد بن ثابت، في صحيح البخاري أنه كان أول جامع للقرآن، بأمر أبي بكر الصديق، بناءً على نصيحة عمر بن الخطاب، ﴿فإن القتل قد استمرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء في المواطن ٦٤ . وشعور زيد بهذا التكليف يدل على استحالة الجمع بعد أن استمر القتل بقراء القرآن: ﴿فوالله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مِمّا أمراني به، من جمع القرآن!

والشبهة الثانية على هذا الجمع الأول هي في تكليف زيد بن ثابت، وقد كان غلاماً لم يبلغ الحلم بعد على حياة النبي. لذلك أيضاً قال قوله السابق! فما السر في تكليف زيد بن ثابت بجمع القرآن على عهد أبي بكر، ثم على عهد عمر، ثم على عهد عثمان، ولم يكن زيد من الذين أوصى النبي بأن يأخذوا القرآن عنهم؟ فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن العاص قال: ﴿سمعت النبي يقول: خذوا القرآن من أربعة؛ من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب. وهما اثنان من المهاجرين واثنان من الأنصار. وقد قُتل سالم مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة. ومات معاذ في خلافة عمر. ومات أبي بن كعب وابن مسعود في خلافة عثمان وكانا يشنّعان عليه في طريقة جمعه للقرآن، وتولية زيد بتلك المهمة؛ ﴿فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن. هو، فيما كان يقول، قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد ٦٥ .

ففي سنّ زيد، جامع القرآن الرسمي، شبهة ضخمة على صحة جمعه. وفي ما أسندوه اليه من عمل شبهة أخرى. جاء عنه في صحيح البخاري: ﴿فتبعت القرآن أجمعه... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عنـد عمر حياته، ثم عنـد حفصة بنت عمر ٦٦ . وينقل البخاري عنه حديثاً ثانياً ينقضه: ﴿قال ابن حجر: ووقع في رواية عمارة بن غزية أن زيد بن ثابت قال: فأمرني أبو بكر فكتبتُه في قطع الأديم والعُسُب؛ فلما توفّي أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده ـ قال: والأول أصح؛ إنما كان في الأديم والعُسُب أولاً قبل أن يُجمع في عهد أبي بكر، كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة ٦٧ .

فهل كان القرآن الذي جمعه زيد، على زمن عمر، في صحف أم في صحيفة واحدة؟ ثم، لمّا توفي عمر، هل كانت الصحف عند حفصة بنت عمر، كما في صحيح البخاري، أم كانت في ربعة عمر، من حيث جاءَ بها عثمان؟ كما أخرج أبو داود في سنته ٦٨ . وهذا الجمع الأول لم يوقف الخلاف في حروف القرآن، حتى عمّ التكفير والاقتتال.

٢ ـ الاصدار الثاني للقرآن كان على زمن عثمان بن عفان، عام ٢٥ بعد الهجرة.

رأينا أن سبب جمع عثمان الجديد للقرآن كان بسبب اقتتال الغلمان والمعلمين في المدارس، واقتتال وتكفير المحاربين بعضهم بعضا في الحروب والفتوحات.

ولدينا روايتان على الجمع العثماني. الرواية الأولى إن اللجنة العثمانية لجمع القرآن كانت من أربعة: زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمان بن الحارث. روى البخاري: ﴿فأرسل الى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك. فأرسلت بها حفصة. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: اذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف الى حفصة. وبعث الى كل أُفق بمصحف ممّا نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق ٦٩ .

الرواية الثانية أن اللجنة العثمانية كانت من اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، وأن صحف زيد كانت في ربعة عمر، لا عند حفصة. ﴿أخرج أبو داود حديثاً جاء فيه: ﴿لمّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف، جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها ٧٠ .

وهنا تنهال علينا الشبهات تترى في الجمع العثماني.

أولاً: بما أن عمل اللجان العثمانية يقتصر على نسخ مصحف زيد، فلِم وصية عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: ﴿إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم ـ فالخلاف في القرآن واقع، والاختلاف في تدوين حرفه منتظر. فهذه شهادة على شبهة مزدوجة: إن في مصحف زيد قرآنا ليس بلسان قريش؛ وأنّ بمصادر القرآن التي يجمعونه منها ما ليس بلسان قريش الذي نزل به.

ثانياً: إذا كان الجمع العثماني مجرد نسخ للصحف التي كتبها زيد على زمن أبي بكر، أو الصحيفة التي كتبها على زمن عمر، فكيف يمكن الاختلاف فيما بين الجامعين؟ فلم يكن الأمر إذن مجرد نسخ، بل هو جمع جديد للقرآن، كما قال: ﴿يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً (الطبري ٦٠:١). والجمع الجديد دليل الشبهة على الجمع الأول، كما أن الجمع الأول دليل الشبهة على الجمع الثاني: فلو كان الجمعان واحداً، لما وقع الخلاف.

ثالثاً: في الروايتين على الجمع العثماني تعارض في تكوين اللجنة من أربعة أم من اثني عشر رجلاً، وفي وجود صحف زيد في بيت حفصة أم في ربعة عمر.

رابعاً: إذا كان الخلاف محذوراً في اللجنة الرباعية، فهل يكون مأموناً في اللجنة الاثنعشرية؟

خامساً: والشبهة الكبرى في إمامة زيد للجان العثمانية، ولم يكن زيد قد بلغ الحلم في زمن النبي؛ ولم يكن من الأربعة الذين أوصى بأخذ القرآن عنهم.

يقول طه حسين ٧١ : ﴿وقد يمكن أن يُعترض عليه في أنه كلّف كتابة المصحف نفراً قليلاً من أصحاب النبي، وترك جماعة من القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه، وعلّموا الناس في الأمصار. وكان خليقاً أن يجمع هؤلاء القراء جميعاً ويجعل إليهم كتابة المصحف. ومن هنا نفهم غضب ابن مسعود. فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن وهو فيما كان يقول قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد! فإيثار عثمان لزيد بن ثابت وأصحابه، وتركه لابن مسعود وغيره من الذين سبقوا إلى استماع القرآن من النبي وحفظه عنه، قد أثار عليه بعض الاعتراض. وهذا شيء يفهم من غير مشقة ولا عناء.

سادساً: إن أمر عثمان في طريقة جمع القرآن وتدوينه كانت أمره للرهط القرشيين الثلاثة: ﴿إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنمـا نزل بلسانهم. وإِعجاز القرآن يقوم على التحدي ﴿بمثله. وعند اختلاف الجامعين كانوا يكتبون القرآن بلسان قريش، فهم اذن في تدوين القرآن قد أتوا ﴿بمثله.

سابعاً: والشبهة الضخمة على المصحف العثماني هي تحريق ما عداه من المصاحف، حتى مصاحف الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين. وهذه الشبهة الضخمة ذات حدين: فهي تلحقه لأنه قضى عليها؛ وهي تلحقها لأنه يعارضها. ولو كانت المصاحف واحدة لما احتاج عثمان إلى تحريقها!

وكان الصحابة يتمسكون بمصاحفهم بسبب الحديث الشريف: ﴿نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف! ﴿فعثمان حين حظر ما حظر، وحرَّق ما حرّق من الصحف، إنما حظر نصوصاً أنزلها الله، وحرَّق صحفاً كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله. وما ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفاً أو يحرق من نصوصه نصاً ٧٢ . وهذا، في رأينا، سبب الفتنة البعيد الذي أودى بحياة عثمان في الثورة عليه وقتله. فقد ﴿أنكر ابن مسعود، وأنكر معه كثير من الناس ما كان تحريق المصاحف. واشتد نقد ابن مسعود لعثمان. وكان يخطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع. وكان يقول في ما يقول. ﴿إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدى وكل ضلالة في النار! ٧٣ فكأنه أفتى باغتياله.

فكان ما كان مما لستُ أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر!

ثامناً: وهذه هي ميزات توحيد النص العثماني:

١) شهد علي بن أبي طالب: ﴿رأيت كتاب الله يزاد فيه فنقّحه، فلم يأخذ عثمان بذلك.

٢) وكتب علي في مصحفه الناسخ والمنسوخ كله، فأسقط عثمان من المنسوخ كثيراً.

٣) شهد ابن عمر أنه بعد الجمع العثماني ﴿ذهب منه قرآن كثير!

٤) وشهدت عائشة أنه كان من القرآن ﴿قبل أن يغيّر عثمان المصاحف.

٥) وعدل عثمان عن الترتيب التاريخي الذي أخذ به علي وآل البيت، الى الترتيب التنسيقي بحسب الطول فالقصر، كما اعتمد جماعة بني أمية. والترتيب ناحية من الإِعجاز فتلك الميزات في التوحيد العثماني للنص القرآني شبهات عليه.

تاسعاً: يقول السيوطي بأن في الحرف العثماني الناجي ما هو ﴿بغير لغة الحجاز، وما هو ﴿بغير لغة العرب، مع أن القرآن نزل بلغة قريش، وقد أمر عثمان بكتابته بلسانهم. وهذه الرواسب دلائل على أن حرف التنزيل لم يبق سالماً في المصحف العثماني مع ما بذلوه من حرص حين جمعه وتدوينه.

عاشراً: ما معنى تعدّد جمع القرآن؟ يقول محمد صبيح ٧٤ : ﴿لماذا لم يأمر أبو بكر أو عمر بنسخ صور ممّا كتب زيد بن ثابت؟...ولماذا لم يحرص كبار الصحابة على أن يكون لكل واحد منهم، أو لدى بعضهم على الأقل، نسخ من هذه الصحف؟ ـ الجواب على هذا السؤال عسير. وأعسر منه الجواب على هذا السؤال: لماذا فُضّل مصحف زيد بن ثابت، وكان غلاماً لم يبلغ الحلم بعد في حياة النبي، على مصحف عليّ بن أبي طالب، وهو الشاهد الأسبق للقرآن والدعوة والسيرة؟ وعلى مصحف ابن مسعود، وهو الذي ﴿لزم النبي لزوماً متصلاً في سفره وإقامته، حتى كاد يُعدّ من أهل بيته. فكان أثناء إقامة النبي صاحب اذنه؛ وكان اذا قام النبي ليخرج ألبسه نعليه ومشى بين يديه بالعصا فإذا بلغ مجلسه خلع نعليه فوضعهما في كمه ودفع إليه العصا وقام على إذنه. وكان في السفر صاحب فراش النبي وصاحب وضوئه. وكان النبي يحبه حباً شديداً ويوصي بحبه ٧٥ . فكأن محمداً يسلك سلوك أسقف النصارى في جماعته، وابن مسعود ﴿قوّاصه!

وأعسر أكثر الجواب على هذا السؤال أيضاً: لقد رضى أبو بكر ثم عمر بمصحف زيد: فَلِمَ يرفضونه في زمن عثمان، كما يظهر من وصيته لجامعي الحرف العثماني: ﴿اذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن، ويفرضون بالحديد والنار المصحف العثماني؟ يحق لنا أن نقول: ألا يترك هذا التصرف شبهة لا تزول على مصحف زيد ثم على المصحف العثماني الناجي معاً؟

أخيراً، بعد نزول القرآن على سبعة أحرف، وبعد الرخص النبوّية الأربع بقراءة القرآن على سبعة أحرف، ﴿وقد كانت المصاحف بوجوه القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أُنزل بها القرآن ٧٦ ، وإجازة القراءات المختلفة، على الحروف المختلفة بلغات العرب جميعها، وإباحة القراءَة بالمعنى من دون الحرف، وذلك مدة أربعين سنة، منذ بدء التنزيل حتى الجمع العثماني سنة خمس وعشرين للهجرة كما روي عن ابن حجر ٧٧ ، بعد هذا كله واختلافهم في حرف القرآن حتى التكفير والاقتتال قبل التوحيد العثماني ـ هل كان بإمكان اللجان العثمانية، وقد مات أكثر حفظة القرآن وقرائه، وجميع الجامعين غير معصومين، أن تصل الى النص المنزل الذي لا تشوبه شائبة؟ إن البرهان القاطع على أنه لا يمكن أن تصل اليه أن عثمان قد أتلف سائر المصاحف ليحمل الأمة على مصحفه. وقد استأذن السيدة حفصة في خرق الصحف التي جمعها زيد بأمر أبي بكر وعمر، وكانت أمانة عندها من أبيها عمر بن الخطاب. كلها شبهات يحار فيها العقل والإيمان، ولا جواب لها. والنتيجة الحتمية لهذا كله شبهة على صحة الحرف العثماني، وعلى صحة التحدّي بإِعجازه.

٣ ـ الموقف التاريخي من الجمع العثماني

إننا نوجز الموقف التاريخي من الجمع العثماني بما قاله أبو جعفر النحاس ٧٨ : ﴿إن رسول الله قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف). فرأى عثمان أن يزيل منها ستة، وأن يُجمع الناس على حرف واحد. فلم يخالفه أكثر الصحابة... وأراد عثمان أن يختار من السبعة حرفاً واحداً هو أفصحها ويزيل الستة. وهذا من أصح ما قيل فيه، لأنه مروي عن زيد بن ثابت.

فيحق لنا أن نتساءَل: هل اتلاف ستة أحرف منزلة من الأمانة لحفظ القرآن؟ هل كانت لجان عثمان معصومة لاختيار ﴿أفصح الأحرف السبعة؟ يصح الجزم بأنها لم تكن معصومة، والنبي وحدَه كان يعلم الأفصح، ولم يبيّنه، بل أطلق القراءَة بها جميعاً لأن كل حرف منها ﴿كافٍ شافٍ. فإن اتلافها شبهة قائمة على صحة الإِعجاز في الحرق العثماني.

قال الحارث المحاسبي في كتاب (فهم السنن) ٧٩ : فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يُبدون عن تأليف معجز ونظم معروف قد شاهدوا تلاوته من النبي ﷺ عشرين سنة. فكان تزوير ما ليس منه مأموناً، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه. إنّما لو صحّ أنهم ﴿يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف قد شاهدوا تلاوته من النبي لما اختلفوا في حرف القرآن حتى الاقتتال والتكفير؛ ولما أتلف عثمان الأحرف الستة وسائر المصاحف غير مصحفه.

أجل لم يخالف عثمان ﴿أكثر الصحابة. لكنه خالفه أئمتهم كعلي بن أبي طالب وابن مسعود. ويذكرون أنه أبى كابن مسعود أن يُسلّم نسخته الى عثمان لينقحها أو يتلفها، بحجة أنها كانت كاملة وكان ابن مسعود يقول ﴿يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلّقوها ٨٠ . وكذلك أبى أُبَي بن كعب أن يسلّم مصحفه. وأنس بن مالك يُهمل المصحف العثماني ويصطنع لنفسه مصحفاً على مثال مصحف ابن مسعود، ومصحف أُبي. وهذه المصاحف الأربعة كانت متقاربة في اختلافها مع المصحف الأميري العثماني المفروض. وفي تقاربها بعضها لبعض أو في اختلافها جملة مع المصحف العثماني شهادة عليه.

وهذا الموقف، بعد الجمع العثماني، يلقي الشبهة على عصمة الحرف العثماني وصحته وإِعجازه، فلا يصح التحدي به.

وتلك المصاحف الأربعة سلمت من الاتلاف العثماني لتقع في غيره.

٤ ـ الإصدار الأخير القائم للقرآن هو من الحجّاج

كان الحجاج بن يوسف، من بني ثقيف، عميل الأمويين المروانيين على العراق. وأحد دهاة السياسة العالميين عبر التـاريخ، ومن أكبر جزّاري البشرية. يقـول دروزة ٨١ : ﴿هناك رواية أن المصحف المتداول، إنما هو مصحف الحجاج وجمعه وترتيبه... وأن الحجاج قد جمع المصاحف المتداولة، ومصاحف عثمان وأبادها. ويقول ابن الخطيب (الفرقان ٤٩ ـ ٥٠): ﴿قيل: إن أول من أمر بنقطه وشكله هو عبد الملك ابن مروان. فتصدّى لذلك عامله الحجاج بن يوسف الثقفي. فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر ففعلا ذلك. وقيل إن أول من نقطه أبو الأسود الدؤلي. وقيل: نصر بن عاصم الليثي. وقيل غير ذلك. والقول الأول هو الأرجح.

واختلافهم في صاحب تنقيط القرآن وتشكيله، يهدم هدم الأستاذ دروزة ٨٢ لرواية مصحف الحجاج: ﴿ولعل الرواية محرفة من حادثة عناية الحجاج بإعجام القرآن أو نقطه، ممّا صار نساخ المصاحف بعدها يأخذون به. ينقضه أيضاً ما ثبت أنه ﴿قد غيّر الحجاج بن يوسف الثقفي في المصحف اثني عشر موضعاً ٨٣ . فلم يقتصر دور الحجاج على التنقيط والتشكيل.

وقد سمعتُ من بعض الراسخين في العلم أن جمع الحجاج الجديد للقرآن إنما كان لإسقاط ما بقي بعد إسقاط عثمان ممّا لا يليق بحق بني أمية، وخصوصاً لإقحام آية الإسراء في مطلع سورة ﴿بني إسرائيل، وذلك لتحويل حج أهل الشام من مكّة إلى بيت المقدس، اتقاءً للفتنة المستعرة بمكّة على بني أمية. فصارت سورة ﴿بني إسرائيل سورة ﴿أسرى ثم ﴿الإسراء. وفي آية الإسراء شاهد على هذا الاقحام فهي لا تمت بصلة الى السورة، ولا إلى ما قبلها في النسق أو في ترتيب النزول.

والبرهان الأكبر على أن إصدار الحجاج للقرآن لم يقتصر على إعجام القرآن وتنقيطه هو إتلاف المصاحف العثمانية وسائر المصاحف المتداولة. فلو لم يكن في جمع الحجاج من تصحيف أو تحريف، لما كان من داع لاتلاف المصاحف العثمانية وهي في حرفها واحدة مع نسخ الحجاج! وليس من المعقول أن تضيّع الأمة نسخ المصحف الإمام!

ولا أن تسهر عليها كأثمن ما في الوجود! إن ضياعها من الوجود جميعاً كان بقدرة قادر، هو الحجاج! يقول الأستاذ دروزة ٨٤ : ﴿من المحتمل أن لا تكون إحدى نسخ مصاحف عثمان الأصلية موجودة اليوم؟ ـ مع ما يُقال عن وجود بعضها قولاً غير مؤيَّد بشاهد، ووصف عياني، موثوقين. ويقول الدكتور صبحي الصالح ٨٥ : ﴿وإن الباحث ليتساءَل: أين أصبحت المصاحف العثمانية اليوم؟ ـ ولن يظفر بجواب شاف عن هذا السؤال، فوجود الزركشة والنقوش الفاصلة بين السور، أو المبيّنة لأعشار القرآن، ينفي أن تكون المصاحف الأثرية في دار الكتب بالقاهرة عثمانية، لأن المصاحف العثمانية كانت مجرّدة من كل هذا.

والنتيجة الحاسمة لفقدان النسخ العثمانية ـ وهي المصحف الأميري الذي أجمع الأمة على تلاوته الخلفاء الراشدون ـ أن الحجاج قد أتلفها، وما أتلفها إلاّ ليحرّف فيه!

ومن لا يتورع عن هدم الكعبة، بيت الله، هل يتورّع عن مسّ القرآن، كتاب الله؟ مَن يُعدّون من ضحاياه نحواً من ماية وثلاثين ألفاً أسلمهم للجلاّد، ومَن مات وسجونه تعج بنحو خمسين ألفاً من الرجال، وثلاثين ألفاً من النساء، هل يتورّع في تصفية القرآن من الإشارات الجارحة لبني أمية؟ ومن إقحام ما اقتضت مصلحتهم بإقحامه كآية الإسراء؟

لا شك إن الخصومة التي قامت في الجاهلية بين بني أمية وبني هاشم، ثم امتدت الى الإسلام، وكان من نتائجها انقسام الأمة والحروب الأهلية المتواصلة، التي نخرت عظام الدولة الإسلامية منذ قيامها حتى القضاء عليها. وخروجها من يد العرب؛ وكان من نتائجها أيضاً دون شك إصدار القرآن الأول على يد زيد بن ثابت من دون أئمة الصحابة كعلي وابن مسعود، واصدار القرآن الثاني على يد عثمان والثورة عليه وقتله، وإصدار القرآن الثالث والأخير، الحي الباقي، على يد الحجاج ـ قد لعبت دورها في تصفية القرآن كما وصل الينا. فليس في العالم اليوم، بعد الحجاج، إلاّ ﴿القرآن المصفّى.

وبما أن القرآن الحالي المتداول هو أخيراً من جمع الحجّاج وإخراجه ـ كما يتضح من إتلاف أو ضياع المصاحف العثمانية ـ فكفى بالحجاج شبهة دائمة على صحة الحرف القرآني وعلى صحة إِعجازه.

وإننا لنصرّح: إن هذا التحفّظ لا يمنع صحة القرآن الجوهرية التي ندين بها، ونشهد لها.

لكن بما أن إِعجاز القرآن قائم على صحة حرفه المنزل، فبعد نزوله على سبعة أحرف وإتلاف ستة منها، وبعد قراءَته بحسب الرخص النبوية الأربع، وبعد تصفيته بالعرضات النبوية السنوية، والاصدارات الثلاثة التاريخية التي كان مسك الختام فيها إصدار الحجّاج، وبعد الاتلاف الشامل لسائر النسخ الأخرى على يد عثمان، والاتلاف الكامل على يد الحجاج، فلا يصح القول بإِعجازه منزل في حرف القرآن، ولا بمعجزة في ﴿حفظه. وادعاء ذلك إنما هو التجنّي على التاريخ الثابت من المصادر الإسلامية نفسها.

بحث سادس

﴿القرآن المصفّى

إن القرآن الحالي ليس القرآن كله نزل على محمد؛ بل هو ﴿القرآن المصفّى، بعد التصفيات الثلاث التاريخية التي تنطق بها الأخبار والآثار.

التصفية الأولى للقرآن كانت التصفية النبوية عينها التي كان يقوم بها النبي العربي كل سنة، في عرْضات القرآن السنوية مع جبريل، كما نقلوا. وظواهرها متعدّدة، من نسيان الى تبديل الى محو؛ ومن رفع قرآن من التلاوة الى اسقاط منسوخ منه، حتى ﴿ذهب منه قرآن كثير كما سبق تفصيل ذلك.

التصفية الثانية للقرآن كانت التصفية العثمانية التي أتلف فيها الخليفة الثالث ستة أحرف من ﴿الأحرف السبعة التي أقرأ بها النبي القرآن للناس؛ والتي أبدل فيها ترتيب القرآن التاريخ بالترتيب التنسيقي، فظهر تيّار بني أمية في ﴿حفظ القرآن على تيار أهل البيت؛ والتي أسقط فيها عثمان كثيراً من المنسوخ الذي كان يحتفظ به مصحف الإمام علي بن أبي طالب، حتى اتهموه بأنه ﴿غيّر المصاحف، وأتلف مصاحف الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين، ومصاحف التابعين لهم بإحسان.

التصفية الثالثة هي تصفية الحجاج بن يوسف، عامل الأمويين وعميلهم، الذي أسقط من القرآن كل ما كان فيه بحق بني أمية، وغيّر بعض المواطن كما ذكروا بعضها الى اليوم؛ والذي أتلف المصاحف العثمانية نفسها، وقد أجمع الصحابة على جعلها ﴿إمامًا للناس. وتصفية تأتي على يد الحجاج إنما هي موضوع شبهة قتّالة لا تزول.

فبعد هذه التصفيات الثلاث لم يبق بين أيدي المسلمين إلاّ ﴿القرآن المصفّى. وإِعجاز التنزيل ومعجزته يقومان على ﴿حفظه كما نزل. وبما أن القرآن الحالي هو ﴿القرآن المصفّى فلا يصح التحدّي به. وكم كان صادقا قول المعتزلة: إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

خاتمة

هل في ذلك الواقع التاريخي من معجزة في ﴿حفظ القرآن؟

ذلك ما نقلته لنا الأخبار والآثار الإسلامية عن جمع القرآن وتدوينه. فبعد ظواهر التنزيل من نسيان وإسقاط وتبديل ونسخ ومحو؛ وبعد الرخص النبوية الأربع في قراءَة القرآن، تلك التي جعلت النص المنزل سبعة أحرف أي نصوص ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، وقد تُقرأ بالمعنى لا بالحرف؛ ﴿وقد كانت المصاحف بوجوه من القراءَات المطلقات على الحروف المسبعة؛ وبعد الاصدارات الثلاثة المختلفة التي يُحرِّق بعضها بعضاً، حتى لم يسلم إلاّ ﴿القرآن المصفّى بتصفيات ثلاث نبوية وعثمانية وحجاجية، هل من معجزة في ﴿حفظ القرآن سالماً كما نزل؟ وبما أن إِعجاز القرآن في نظمه قائم على سلامة حرفه كما نزل؛ وبما أن القرآن الحالي هو ﴿القرآن المصفّى؛ فلا يصح التحدّي بإِعجازه في حرفه ونظمه.

والقول الفصل، إننا لا نشك في حفظ القرآن وصحته الجوهرية. إنما نقول: ليس من معجزة في ﴿حفظ القرآن. وتاريخ جمعه وتدوينه في تصفيات ثلاث خير شاهد عليه.


١. إِعجاز القرآن ٨٣:١ ـ ١١٨.

٢. الدكتور جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام ٤٢٤:٥ و ٤٢٨.

٣. العقاد: العبقريات الإسلامية. دار الآداب في بيروت. مطلع النور ص ٥٠، وهو ينقله عن المجلة التاريخية المصرية، عدد أكتوبر سنة ١٩٤٩ التي تنقل كلام المؤرخ كرزويل.

٤. قابل الأزرقي: أخبار مكّة

٥. العبقريات الإسلامية: نشر دار الآداب في بيروت. (مطلع النور) ص ١١٣.

٦. السيرة لابن هشام ٢٠٣:١.

٧. السيرة لابن هشام ٢٥٤:١.

٨. القرآن والكتاب ١٠٥٨:٢.

٩. انظر كتابنا: القرآن والكتاب ١٠٦٤:٢ ـ ١٠٦٧.

١٠. قابل مغالطة السيد عبد الكريم الخطيب. إِعجاز القرآن ١٣٥:٢.

١١.  عباس محمود العقاد: الإسلام في القرن العشرين ص ٢٣.

١٢. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص ٥٥ ثم ٦١.

١٣. الإسلام في القرن العشرين ص ٢٦.

١٤. الإسلام في القرن العشرين ص ٢٦ و ٢٨.

١٥. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص ١١٠.

١٦. عمر فرّوخ: العرب والإسلام ص ٤٢.

١٧. أحمد محمد جمال: دين ودولة ـ المقدمة الأولى.

١٨. الإسلام في القرن العشرين ص ٢٧.

١٩. الإسلام في القرن العشرين ص ٢٣ ـ ٢٤.

٢٠. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص ١٠٩.

٢١. هو خطاب لقريش بالأفاضة من حيث يفيض سائر العرب في الحج.

٢٢. تفسير الطبري ـ تحقيق الأخوين شاكر ١٤٣:١.

٢٣. أو لمذهب المثنّى كما رأى الفراء في (معاني القرآن) في قوله: ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان ـ وقد يكون من العربية جنة واحدة تثنيها العرب. وقد يستعمل المفرد في مكان الجمع: ﴿سيُهزم الجمع ويولون الدبر أي الأدبار.

٢٤. محمد الغزالي: فقه السيرة ٣٩٦.

٢٥.  Cf. Blachère: le Problème de Mahomet, p 113

٢٦. السيوطي، أسباب النّزول على الآية (٤٩) من سورة التوبة

٢٧. السيرة لابن هشام ١٦٢:٤.

٢٨. عمر فرّوخ: العرب والإسلام ص ٥٤.

٢٩. ابن الخطيب: الفرقان ص ٥٢.

٣٠. الأرجاني: فضائل القرآن.

٣١. عن القرآن ص ٨٧ ـ ٨٨.

٣٢. السيوطي: الإتقان ٥٩:١، والعُسُب جمع عسيب وهو جريد النخل؛ كانوا يكشطون الخوص، ويكتبون في الطرف العريض. واللِّخَاف ـ بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة، آخره فاء ـ جمع مُخفة (بفتح اللام وسكون الخاء) وهي الحجارة الدقاق. وقال الخطابي: صفائح الحجارة.

٣٣. عن السيوطي: ﴿والرقاع جمع، وقد يكون من جلد أو ورق أو كاغد. والأكتاف جمع كتف وهو العظم الذي للبعير أو الشاة ـ كانوا اذا جفّ كتبوا عليه. والاقتاب جمع قتب، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليُركب عليه (الإتقان ٦٠:١).

٣٤. عن القرآن ص ٨٧ ـ ٨٨.

٣٥. القرآن المجيد ص ٥٣.

٣٦. ابن الخطيب: الفرقان ص ١٠٩.

٣٧. ابن الخطيب: الفرقان ص ١١٣.

٣٨. ابن الخطيب: الفرقان ص ١١٥.

٣٩. ابن الخطيب: الفرقان ص ٥٢.

٤٠. صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص ١٣٧.

٤١. Introduction, p.6

٤٢. قابل ابن الخطيب: الفرقان ص ١٢٣.

٤٣. ابن الخطيب: الفرقان ص ١٠٦.

٤٤. ابن الخطيب: الفرقان ص ٣٨.

٤٥. الدكتور صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص ١٤٨.

٤٦. محمد صبيح: عن القرآن ص ١١٣.

٤٧. ابن الخطيب: الفرقان ص ١٢٠.

٤٨. السيوطي: الإتقان ١١٥:١ و١٣٤ و١٣٧.

٤٩. الإتقان ٤٧:١.

٥٠. ابن الخطيب: الفرقان ص ١١٨ ـ ١١٩؛ وهو ينقل عن السيوطي: الإتقان ٦٢:١.

٥١. تفسير الطبري ـ اخراج الاخوين شاكر ٥٢:١.

٥٢. الإتقان ٤٨:١.

٥٣. دروزة: القرآن المجيد ص ٥٣. قابل السيوطي: الإتقان ٥٩:١.

٥٤. السيوطي: الإتقان ٥٩:١؛ قابل تفسير الطبري ٦٣:١؛ قابل دروزة: القرآن المجيد ٥٥.

٥٥. المصادر نفسها.

٥٦. الإتقان ٥٩:١.

٥٧. الإتقان ٥٩:١.

٥٨. صحيح البخاري. قابل السيوطي: الإتقان ٥٩:١.

٥٩. دروزة: القرآن المجيد ٥٦.

٦٠. دروزة: القرآن المجيد ٥٧.

٦١. دروزة: القرآن المجيد ٥٧.

٦٢. تفسير الطبري ٦٠:١ قابل دروزة: القرآن المجيد ص ٦٣.

٦٣.  المصدر نفسه.

٦٤. السيوطي: الإتقان ٥٩:١.

٦٥. طه حسين: الفتنة الكبرى: ١ عثمان ص ١٨٣.

٦٦. السيوطي: الإتقان ٥٩:١.

٦٧. السيوطي: الإتقان ٦٠:١.

٦٨. دروزة: القرآن المجيد ٦٤.

٦٩. دروزة: القرآن المجيد ٦٣.

٧٠. دروزة: القرآن المجيد ٦٤.

٧١. الفتنة الكبرى ـ عثمان ص ١٨٣.

٧٢. طه حسين: الفتنة الكبرى ـ عثمان ص ١٨١ ـ ١٨٢.

٧٣. طه حسين: الفتنة الكبرى ـ عثمان ص ١٦٠.

٧٤. الإتقان ١٣٤:١ و١٣٦

٧٥. عن القرآن ص ١٨٤

٧٦. طه حسين: الفتنة الكبرى: عثمان ص ١٥٩.

٧٧. الإتقان ٦٢:١.

٧٨. الإتقان ٦١:١ قابل ابن الخطيب ص ٤٠ ـ وبعضهم يقول سنة ثلاثين بعد الهجرة.

٧٩. كتاب الناسخ والمنسوخ ص ٣٧ و١٥٩.

٨٠. قابل الإتقان ٦٠:١.

٨١. جامع الترمذي، أبواب التفسير، في آخر سورة التوبة.

٨٢. المصدر نفسه.

٨٣. القرآن المجيد ص ٨٣.

٨٤. القرآن المجيد ص ٨٤.

٨٥. ابن الخطيب: الفرقان ص ٥٠.

الفصل السادس

المعجزة الموضوعية

توطئة عامة

المعجزة الحقيقية تكون في المعنى قبل الحرف

ندرس في هـذا الفصل أربعـة أنواع من المعجزة: في العقيدة وفي الشـريعة وفي ﴿العلم وفي التاريخ.

من المشهور أن إِعجاز القرآن الأسمى هو نظمه وبيانه أي حرفه. وبما أن القرآن كتاب وحي ودين، فمن البديهة أن تكون معجزته الحقيقية في المعنى قبل المبني، في الروح قبل الحرف، في الموضوع قبل الأسلوب. لذلك فالإِعجاز الأول في كتاب وحي ودين هو الإِعجاز في الهدى. فمهما كانت منزلة القرآن من التبيين والبيان، فغاية الله والإنسان هي العقيدة والإيمـان. هـذه هي المعجزة الكبرى. والقرآن يشـهد لنفسه أنه تابع لا متبـوع: ﴿فبهداهم اقتدِهْ (الأنعام ٩٠)؛ ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً (هود ١٧؛ الأحقاف ١٢). فالقرآن يأتم بالكتاب وأهله.

وبما أن التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن، فقد نادى بعضهم باختصاص القرآن بالإِعجاز في التشريع. ووجد بعضهم معجزة له فريدة في ﴿العلم. وذهب بعضهم، بسبب ﴿أمية محمد إلى القول بالإِعجاز في التاريخ، أي في القصص القرآني. وفاتهم جميعاً تصريح القرآن عن مصادره، في التشريع: ﴿يريد الله ليبيّن لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم (النساء ٤٦)؛ وفي ﴿العلم: ﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً (الإسراء ٨٥)، وهذا القليل ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم من قبله (العنكبوت ٤٩)؛ وفي التاريخ، فإن قصص القرآن ﴿من أنباء الغيب المنزل في الكتاب قبله (آل عمران ٤٤؛ هود ٤٩؛ يوسف ١٠٢)، فهو ﴿من أنباء الرسل (هود ١٢٠)، ﴿من أنباء ما قد سبق (طه ٩٩).

فهذا الواقع القرآني المشهود يشهد هل في القرآن من معجزة موضوعية في تعليمه. والمضمون يأتي قبل المنظوم.

الجزء الأول

الإِعجاز في الهدى والعقيدة

توطئة

سرّ الإِعجاز في النظم أم في الهدى؟

إن النبوّة والتنزيل رسالة دين وإيمان وهدى؛ وسرّ كتاب من الله في موضوعه ومعناه، قبل أن يكون في حرفه ونظمه: فاللفظ جسم والمعنى روحه، والعبرة بالأرواح قبل الأجسام. فإن كان في القرآن معجزة، فيجب أن تكون في هداه قبل نظمه. والقرآن نفسه إنما يتحدّى بهداه: ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه، إن كنتم صادقين (القصص ٤٩) ـ فكانت، بحسب تاريخ النزول، الآية الأولى في التحدي بالقرآن، وعنوان تحديه بإِعجازه. لذلك يردّ فريد وجدي قول الأمة والجماعة بأن معجزة القرآن في نظمه، ويراها هو في ﴿روحانيته العالية. يقول ١ : ﴿أما ما ولع به الناس من أن القرآن معجز لبلاغته، وتجاوزه حدود الإمكان حتى وقف الإِعجاز ببلاغته دون وجوه إِعجازه الأخرى، فلم نقف له على أثر في ذات القرآن، مع أنه قد ورد ذكر القرآن في آيات عِدّة، فلم نرَ في واحدة فيها ما يذهب إليه الآن الأكثرون... وصف الله كتابه في هذه الآيات الكريمة بأوصاف كثيرة، وليس من بينها واحد يشير الى بلاغته اللفظية... ذلك أن البلاغة من الصفات الثانوية التي لا يصح أن يُمتدح بها الله في كتابه. ولو كانت البلاغة في أساس تحديه للكفار بالإتيان بسورة من سوره، أما كان يشير إلى تلك البلاغة ولو في آية واحدة؟ وقد أتى بعشرات منها في التنويه بحقيقته وحكمته وروحانيته.

نحن في قضية الدين، لا في حلبة الأدب والبيان. لذلك فالإِعجاز المفروض في القرآن، قبل غيره، هو الإِعجاز في حقيقته وحكمته وروحانيته أي في الهدى.

لكنّ القوم لمّا رأوا أن القرآن يتحدى ﴿بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أي من الكتاب والقرآن (القصص ٤٩) وأن ﴿من قبله كتاب موسى إماماً ورحمة (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧)، فليس التحدّي بالهدى ميزة ينفرد بها، عدلوا الى فهم تحديه بالنظم والبيان، فحرّفوا بذلك معنى التحدي بإِعجاز القرآن. إن التحدي الأول، في كتاب الله، بعد التنزيل، هو التحدي بالهدى.

فهل في هدى القرآن إِعجـاز في الهـدى؟ هدى العقيدة؟ أم هدى التشريع؟ أم هدى ﴿العلم؟ أم هدى القصص؟ والقول الفصل في ذلك: ﴿فبهداهم اقتدِهْ.

بحث أوّل

القرآن يتحدّى المشركين بهدى الكتاب

أوّلاً: القرآن يحصر التحدّي بالهدى وبالمشركين

إن مطلع التحدّي بإِعجاز القرآن كان التحدّي بالهدى، في قوله: فلمّا جاءَهم الحق من عندنا قالوا: لولا أُوتي مثل ما أوتي موسى! ـ أولم يكفروا بما أُوتي موسى من قبل؟ قالوا: سحْران تظاهرا! وقالوا: إنّا بكلٍّ كافرون! قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه، إن كنتم صادقين! فإن لم يستجيبوا لك، فاعلمْ أنّما يتّبعون أهواءَهم... الذين آتيناهم الكتاب من قبله، هم به يؤمنون وإذا يُتلى عليهم قالوا: آمنّا به، إنه الحقّ من ربنا، إنّا كنّا من قبله مسلمين؛ أولئك يؤتون أجرهم مرتين... (القصص ٤٨ ـ ٥٤).

في هذا الفصل يفصّل القول في موقف الأميّين العرب وأهل الكتاب (النصارى من بني إسرائيل) من الدعوة القرآنية، فالمشركون يكفرون بالكتاب والقرآن، فيتحداهم ﴿بكتاب هو من عند الله أهدى منهما، ويعلن عن عجزهم. هذا هو التحدّي القرآني الحق، لا التحدي بالنظم والبيان. وهو تحدٍّ للكافرين، لا لأهل الكتاب. وفي قوله: ﴿أهدى منهما يحصر التحدي في الهدى، ويجمع الكتاب والقرآن في إِعجاز واحد بالهدى. وبما أنه يعتبر الكتاب ﴿إمامه في الهدى (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧)، فلا يمكن أن يوجه تحدّيه للكتاب وأهله.

وأهل الكتاب (النصارى من بني إسرائيل) يتضامنون مع القرآن في الدعوة للإسلام، لأن اسلام القرآن من اسلامهم: ﴿إنا كنّا من قبله مسلمين. والقرآن يعتز بإيمانهم به ويعطيه حجة للمشركين، ويعلن فضل هؤلاء الكتابيين على جماعة محمد أنفسهم: ﴿أولئك يؤتون أجرهم مرتين، لإيمانهم الأول بإسلامهم، ولإيمانهم أيضاً بالدعوة القرآنية. ومن كانوا مسلمين قبل القرآن، ولهم مع القرآن الأجر مرتين، فلا يصح توجيه التحدي بالهدى، أو بإِعجاز القرآن لهم. إن هدى القرآن من هداهم، واسلامه من اسلامهم، وإِعجاز القرآن من إِعجاز الكتاب. فالتصريح واضح: ﴿أهدى منهما... إنا كنا من قبله مسلمين... أولئك؟ يؤتون أجرهم مرتين.

فهل يصح، بعد هذا النص القاطع، تحدّي الكتاب وأهله بهدى القرآن؟

ثانياً: ظهور الإسلام ﴿على الدين كلّه هو ظهور ﴿للإسلام من قبله

يقول: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون (التوبة ٣٣؛ الفتح ٢٨؛ الصف ٩). لكن هذا التحدّي ﴿بالهدى ودين الحق على ﴿الدين كله ليس مطلقاً؛ إنما هو مقصورٌ نصّاً على المشركين: ﴿ولو كره المشركون! ويرد التحدي لأول مرة في سورة (الفتح ٢٨) ما بين الفتح القريب لشمال الحجاز والفتح الأكبر لمكّة (الفتح ٢٧)؛ ممّا يدل على أنه مقصور على المشركين العرب؛ فهو تخصيص في معرض التعميم. ولو جاءَت الآية نفسها في معرض قتال أهل الكتاب (التوبة ٣٤) فلا تعنيهم لأن صفة ﴿المشركين لا يطلقها القرآن أبداً على أهل الكتاب.

ثالثاً: جدال القرآن كان بالكتاب المنير

يؤيد ذلك تحديه للمشركين: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان ٢٠؛ الحج ٨). وهذا التحدي يرد في مكّة وفي المدينة. فالناس كناية عن العرب المشركين: إنهم يجادلون بغير هدى الكتـاب، ولا عِلم الإنجيل، أي بلا سند من ﴿الكتاب المنير. أما محمد فهو يجادلهم بعلم وهدى ﴿الكتاب المنير. وهذا الجدال دليل على معنى التحدي ﴿بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.

رابعاً: الكتاب من قبله ﴿هدى للمتّقين من العرب

والكتاب المنير هو أيضاً هدى للمتقين من العرب: ﴿ذلك الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين... الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون (البقرة ١ ـ ٤). فالإشارة ﴿ذلك الكتاب تشير إلى البعيد المجهول، فلا تعني القرآن العربي، بل الكتـاب ﴿الإمام: فكأنه تلا منه آيات، ويعلـّق عليهـا بآيات القرآن العربي. و﴿المتقون في اصطلاحه كناية عن ﴿الذين آمنوا من العرب، كما كان عند أهل الكتاب من يهود ونصارى كناية عن غير أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتاب وليسوا في الأصل من أهله. فالمتقون من العرب مع محمد يؤمنون بالتنزيل القرآني كما يؤمنون بالتنزيل الكتابي. فهدى الكتاب هو ﴿هدى للمتقين؛ فلا يكون تحدي القرآن بالهدى لأهل الكتاب، بل لغيرهم.

خامساً: هدى القرآن من هدى الكتاب

يقول: ﴿قلْ: إن هدى الله هو الهدى (البقرة ١٢٠؛ الأنعام ٧١)، ﴿قلْ: إن الهدى هدى الله (آل عمران ٧٣). لكن هذا الهدى من قبله: ﴿ولقد آتينا موسى الهدى (غافر ٥٣)؛ وهو في الكتاب: ﴿وآتينا موسى الكتاب، وجعلناه هدى لبني إسرائيل (الإسراء ٢)، وللناس أجمعين: ﴿وما قدروا الله حقَّ قدره، إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء! ـ قلْ: مَن أنزل الكتاب الذي جاءَ به موسى نوراً وهدى للناس؟  (الأنعام ٩١). فالهدى في الكتاب قبل أن يكون في القرآن.

سادساً: هدى القرآن من هدى ﴿المسلمين من قبله

والقرآن تثبيت للجماعة، وهدى وبشرى، أي توراة وإنجيل بحسب اصطلاحه، للمؤمنين المسلمين من قبله: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزّل ـ قالوا: إنما أنت مفتر! ـ بل أكثرهم لا يعلمون. قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق، ليثبّت الذين آمنوا، وهدى وبشرى للمسلمين (النحل ١٠١ ـ ١٠٢). لاحظ التمييز الصريح بين ﴿الذين آمنوا وهم جماعة محمد، و﴿المسلمين. فإسم ﴿المسلمين في القرآن لا يعني جماعة محمد الذين يصفهم بتواتر ﴿بالمتقين و﴿الذين آمنوا؛ بل الطائفة المسلمة من قبله التي أُمر بأن ينضم إليهـا ويتلو معهـا قرآن الكتـاب (النمل ٩١). والقرائن القرآنية تدل على أنهـم ﴿النصارى من بني إسرائيل (قابل الصف ١٤). فالقرآن تثبيت لجمـاعة محمد؛ بينمـا هو ﴿هدى وبشرى للمسلمين؛ إنه هدى الكتاب وبشرى الإنجيل معاً.

سابعاً: القرآن يشهد للاسلام بشهادة أهله ﴿الراسخين في العلم

فالقرآن لا يتحدّى بالهدى هؤلاء ﴿المسلمين من قبله (القصص ٤٩)، بل يُؤمر بالانضمام اليهم وتلاوة قرآن الكتاب معهم: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢). والقرآن العربي كله يشهد بهذا الإسلام الذي يشهد به هؤلاء المسلمون من قبله، الذين يسميهم ﴿الراسخين في العلم (آل عمران ٧)، ﴿وأولي العلم قائماً بالقسط، يقول: ﴿شهد الله أن لا إله إلاّ هو، والملائكة، وأولو العلم قائماً بالقسط... أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩). فالقرآن يشهد بشهادة النصارى، أولي العلم المقسطين ﴿أن الدين عند الله الإسلام ـ فلا يمكن أن يفكّر بتحديهم بإِعجاز القرآن في الهدى. وهكذا فإن القرآن يتحدّى بالهدى غير أهل الكتاب. فتحديه محصور مقصور، مقطوع ممنوع. فليس الإِعجاز القرآني في الهدى تحدياً للكتاب وأهله. بل هو يتحدى المشركين بالكتاب والقرآن معاً: ﴿أهدى منهما (القصص ٤٩) فهما متضامنان متكافلان في الهـدى وإِعجـازه. والنبي العربي هو في الهـدى تابع لا متبـوع: ﴿فبهداهم اقتدهْ (الأنعام ٩٠).

بحث ثان

الكتاب ﴿إمام القرآن في الهدى

لا يتحدى القرآن الكتاب وأهله بالهدى، ولا يدّعي القرآن نسخ الكتاب في الشرع والهدى؛ بل يعتبر القرآنُ الكتاب ﴿إمامه في الهدى، و﴿سنن الذين من قبلكم (النساء ٢٦).

أولاً: ليس في هدى القرآن على الكتاب سوى اللسان العربي

يقول: ﴿وإذ لم يهتدوا به، فسيقولون: هذا إفك قديم ـ ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً، لينذر الذين ظلموا، وبشرى للمحسنين (الأحقاف ١١ ـ ١٢). يردّ على تهمة افترائه (٨) وعلى قولهم ﴿هذا إفك قديم بانتسابه الى الكتاب الذي يعتبره إمامه، فاذا كان الكتاب إمامه، فالإِعجاز في الهدى هو في ﴿الإمام قبل أن يكـون في النسخة العربية عنه. وعند الشك في صحة الهـدى في النسخة العربية، يردّ الى ﴿الإمام فعنده الخبر اليقين. لأنه ليس في النسخة العربية ما يزيد على ﴿الإمام سوى اللسان العربي: ﴿وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً. وأنت تلاحظ أنه لا يجعل إِعجازه في هذا اللسان العربي، بل في كونه تصديق الكتاب الإمام في الهدى. وهذا الهدى القرآني إنذار للظالمين من يهـود ومشركين، و﴿بشرى للمحسنين أي ﴿النصـارى: فإذا كان القـرآن ﴿بشرى للمحسنين فلا يكون تحدّياً لهم بإِعجازه. يؤكد ذلك في ردّه الأول على تهمة الإفتراء والكفر به: ﴿قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ـ وشهد شاهد من بني إسرائيل (النصارى) على مثله فآمن واستكبرتم ـ إن الله لا يهدي القوم الظالمين (الأحقاف ١٠). فهو يستشهد على أن القرآن من عند الله بشهادة شاهد من بني إسرائيل النصارى ﴿على مثله. فإذا كان ﴿مثل القرآن عند هؤلاء النصارى، وهذا نص القرآن القاطع، فقد سقط كلّ تحدٍّ بالقرآن وهداه وإِعجازه.

ثانياً: صحّة الهدى في القرآن مبنية على إمامة الكتاب له

يعود للتصريح نفسه في قوله: ﴿أفمن كان على بيّنةٍ من ربه ـ ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ـ أولئك يؤمنون به. ومَن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده. فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (هود ١٧). هذا التصريح يكشف عن سر القرآن وهداه وإِعجازه: شاهد من قِبَل الله ـ وهو نفس الشاهد من بني إسرائيل (النصارى) على مثله ـ يتلو القرآن على محمد في ﴿مثله، فيفصّله محمد ﴿لساناً عربياً (يونس ٣٧ والأحقاف ١٢)؛ ويشهد على صحة ﴿المِثـْل النصراني، وعلى صحة ﴿المِثـْل القرآني المفصِّل له لساناً عربياً أن ﴿من قبله كتاب موسى إماماً. فإمامة الكتاب، ووجود ﴿مثل القرآن عند النصارى من بني إسرائيل، هما البرهانان على صحة القرآن العربي في ﴿تفصيل الكتـاب الإمام. وهؤلاء النصارى من بني إسرائيل هـم ﴿على بيّنة من ربهم، لذلك فهم يؤمنون بالدعوة القرآنية وإن كفرت بها الأحزاب من مشركين ويهود. وهذا الإيمان دليل وحدة الكتاب، ووحدة الإيمان، ووحدة الدعوة، ووحدة الأمة (المؤمنون ٥٢؛ الأنبياء ٩٢). أيصح اذن أن يكون في القرآن العربي وهداه وإِعجازه تحدٍّ لهم؟ فحسب النسخة أن تكون كإمامها وكمثْلها. وفي هذا التصريح ردّ على الكافرين بالقرآن العربي، وردع لمحمد نفسه عن الشك في قرآنه: ﴿فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك. والقرآن العربي ﴿هو الحق من ربك لأنه نسخة عربية عن ﴿المِثـْل الذي يتلوه شاهد من بني إسرائيل النصارى على محمد، ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً. فهدى القرآن وإِعجازه من هدى ﴿المِثْل وإمامه. وبذلك، بنص القرآن القاطع، تسقط عنه دعوى التحدي بإِعجازه في الهدى والبيان.

ثالثاً: محمد يؤمر أن يقتدي في القرآن بهدى الكتاب وأهله

والأمر في القرآن العربي أن يقتدي محمد فيه بهدى الكتاب وأهله. فهو يذكر الأنبياء من نوح الى إبراهيم الى موسى الى عيسى، ويذكر ﴿من آبائهم وذريتهم وأخوانهم؛ واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم: ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده (الأنعام ٨٤ ـ ٨٨). ثم يقول: أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحُكم (الحكمة) والنبوّة ـ فإن يكفر بها هؤلاء، فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ـ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (٨٩ ـ ٩٠). فقوله ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحُكم ٢ والنبوّة هو اصطلاح قرآني متواتر كناية عن ﴿الذين يُقيمون التوراة والإنجيل معاً، من أهل الكتاب، وهم النصارى من بني إسرائيل فهو يصرّح بأنهم على الصراط المستقيم، وأن هدى الله معهم: ﴿ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده. ويأيه الأمر صريحاً محكماً: ﴿أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده. وهكذا فإن محمداً يُؤمر منذ رؤياه في غار حرّاء، في الرسالة والدعوة، أن يقتدي بهدى النصارى من بني إسرائيل. فالإِعجاز في الهدى هو اذن عندهم ومنه يستمد محمد هداه.

رابعاً: ما القرآن سوى تعليم العرب ﴿الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل

إن دعوة محمد، بنص القرآن القاطع، هي تعليم العرب ﴿الكتاب والحكمة ـ والحكمة في مثل هذا التعبير اصطلاح خاص، كناية عن الإنجيل: ﴿ولمّا جاء عيسى بالبيّنات قال: قد جئتكم بالحكمة (الزخرف ٦٣)؛ كما أن ﴿الكتاب كناية عن توراة موسى، كما في قوله لعيسى: ﴿واذ علمتك الكتاب والحكمة ـ والتـوراة والإنجيل (المـائدة ١١٠)، حيث ﴿الواو بين التعبيرين عطف بيان. هذا ما يؤكده القرآن مراراً: ﴿كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم، ويعلّمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (البقرة ١٥١)، كما طلب إبراهيم واسماعيل: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنّك أنت العزيز الحكم (البقرة  ١٢٩). وهكذا ﴿لقد مَنّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (آل عمران ١٦٤).

إن هذا التصريح المتواتر بالحرف الواحد يدل على توقيف الدعوة القرآنية على حرف موروث ومحوره الدعوة أن ﴿يعلمهم الكتاب والحكمة كما تعلَّمهما ودرسهما: ﴿وكذلك نصرّف الآيات! وليقولوا: درست! ـ ولنبينه لقوم يعلمون (الأنعام ١٠٥). فإن سكوته عن الرّد على تهمة الدرس، وعدوله الى بيان حكمته دليل على صحته: فقد ﴿درس محمد ﴿الكتاب والحكمة لأنهم ﴿كانوا عن دراستهم غافلين، وهو يعلمهما للعرب في القرآن العربي، ﴿تفصيل الكتاب. فالإِعجاز في الهدى والبيان، إنما هو في ﴿الكتاب والحكمة، قبل القرآن، بشهادته الصريحة القاطعة.

خامساً: القرآن يشرّع للعرب دين ﴿موسى وعيسى ديناً واحداً

إن النصارى من بني إسرائيل ـ من دون اليهود والمسيحيين ـ كانوا يقيمون التوراة والإنجيل. والقرآن يدعو بدعوتهم ويشرع للعرب ﴿نصرانيتهم بتصريحه: ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه (الشورى ١٢). إن ما وصى به الله نوحاً وإبراهيم نعرفه من توراة موسى التي جدّدت دينهما؛ فالأمر يقتصر على موسى وعيسى. فنص القرآن القاطع أن القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى ديناً واحداً، على طريقة النصارى من بني إسرائيل. هذا هو الأمر القرآني لمحمد نفسه: ﴿قلْ: آمنا بالله... وما أوتي موسى وعيسى، والنبيون من ربهم، لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون (آل عمران ٨٤)؛ كما هو الأمر لأمته: ﴿وقولوا: آمنا بالله... وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ـ كما يُفرّق اليهود والمسيحيون (البقرة ١٣٦) لذلك يتحداهم بقوله: ﴿قل: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ـ وما أنزل إليكم من ربكم (المائدة ٦٨). هذه هي ﴿النصرانية عينها؛ وهذا هو الدين الذي يشرعه للعرب.

سادساً: ﴿عباد الرحمان هم ﴿إمام المتّقين من العرب

يصرّح: ﴿وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا... والذين يبيتون لربهم سجّداً وقياماً... والذين يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرّة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً (الفرقان ٦٣ ـ ٧٤). اصطلاح ﴿المتقين يعني المهتدين من ﴿الأميّين العرب. واصطلاح ﴿عباد الرحمان، بما أنه مقابل ﴿للمتقين فلا يعني أبداً جماعة محمد، ولا اليهود، بل رهبان عيسى ﴿النصارى، كما تدل عليه أيضاً صفتهم التي ينفردون بهـا: ﴿يبيتون لربهم سجداً وقياماً. فعباد الرحمان هؤلاء هم ﴿إمام المتقين من العرب في الدين والهدى، فهم أهل الإِعجاز في الهدى لأنهم ﴿الإمام، والقرآن وأهله تبعٌ لهم في الهدى.

سابعاً: ﴿ما لم ينزل من القرآن على أحد قبل النبي

عقد السيوطي في (الإتقان ٣٩:١) فصلاً: ﴿ما أُنزِل منه على بعض الأنبياء، وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي ﷺ... من الثاني: الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة (البقرة). مع خلاف في هذه الخاتمة أهي آيتان أم ثلاث. فيكون ما اختص به محمد في التنزيل والهدى سبع آيات (الفاتحة)، وآية الكرسي (البقرة ٢٥٥) وثلاث آيات من خاتمة (البقرة). أي نحو عشر آيات. فهب الأمر كذلك، هل يقتصر الإِعجاز في التنزيل والهدى عليه؟ وهذا دليل جهل كبير بالكتاب: (فالفاتحة) وردت بموضوعها، الهداية الى ﴿الصراط المستقيم، وبأسماء الله الحسنى فيها، في زبور داود وفي سفر أشعيا (ف ٤٠ ـ ٥٠). وآية الكرسي فهي هذه: ﴿الله، لا إله إلاّ هو، الحيّ القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات والأرض... وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤده حفظهما، وهو العلي العظيم (البقرة ٢٥٥). فأي إِعجـاز فيها على زبور داود؟ والتعبير العبراني الأرامي، ﴿الحي القيوم دليل مصدره. واذا كان ﴿كرسيه قد ﴿وسع السماوات والأرض فأي محل بقي لغيره ممّا ذكره القرآن فيها؟ أجل هو تعبير مجازي لا يؤخذ على حرفه، لذلك فهو من المتشابه الذي لا إِعجاز فيه.

وهذه آيات (البقرة): ﴿لله ما في السموات والأرض: وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كل شيء قدير (٢٨٤). آمن الرسول بما أُنزِل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ـ لا نفرّق بين أحد من رسله ـ وقالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير (٢٨٥). لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصْراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرْنا على القوم الكافرين (٢٨٦) ـ فمن قال إن هذا الإيمان وهذا الدعاء ليس ﴿مثلهما في الكتاب فهو جاهل به. وآية المحاسبة على الوسوسة (٢٨٤) تذمّر منها الصحابة، فنسختها الآية (٢٨٦) فلا إِعجاز في تنزيل منسوخ وناسخ!

والقول الفصل في هـذا كله تصاريح القرآن: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فالقرآن ﴿تفصيل الكتاب لذلك أُمِر محمد: ﴿فبهداهم اقتدِهْ فالكتاب التابع لا يكون معجزاً في الهدى أكثر من الكتاب المتبوع.

بحث ثالث

من ظواهر تحدّي القرآن بالهدى

ظاهرة غريبة، من ظواهر تحدي القرآن بالهدى، هي تلك الأزمات الإيمانية التي فصلناها في فصل سابق، ونعود اليها هنا بإيجاز، لنرى أين يكون الإِعجاز في الهدى والعقيدة.

أوّلاً: التحدّي بالقرآن يلازمه ردْع النبي عن الشرك

إن تحدّي المشركين ﴿بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أي من الكتاب والقرآن (القصص ٤٩) يليه للحال ردْع النبي عن الانزلاق الى الشرك: ﴿قلْ: ربي أعلم مَن جاءَ بالهدى، ومن هو على ضلال مبين، وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب، إلاّ رحمة من ربك: فلا تكوننَّ ظهيراً للكافرين! ولا يصدّنُّك عن آيات الله بعد إذ أُنزلت إليك! وادعُ الى ربك، ولا تكوننَّ من المشركين! ولا تدعُ مع الله الهاً آخر، لا إله إلاّ هو! كل شيء هالك، إلا وجهه، له الحكم وإليه تُرجعون (القصص ٨٥ ـ ٨٨).

تلك صورة قاتمة من صور الأزمات النفسية الإيمانية المتواصلة التي كانت تنتاب محمداً. وحاشا لله أن يحذّر عبده من الشرك على أنواعه، لو لم يكن فيه شيء من تجربة الشرك! فإِعجاز الدعوة في الهدى تظهر آثاره أولاً على نبيّه، لأن هدى النبي من هدى نبوته ودعوته، وهذا لا ينسجم مع الإِعجاز في الهدى.

ثانياً: التحدّي بالقرآن والركون شيئاً قليلاً الى المشركين

في سورة (الإسراء) يتحدى ﴿الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن... ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (٨٨)! ثم يعتزّ بإيمان ﴿الذين أوتوا العلم من قبله، إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّداً (١٠٧). وإذا به في الوقت نفسه يُعاَتَب على فتنته عن الوحي القرآني التي كادوا يوقعونه فيها: ﴿وإنْ كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، واذاً لاتّخذوك خليلاً! ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن اليهم شيئاً قليلاً! (٧٣ ـ ٧٤).

لقد كاد محمد يركن ﴿شيئاً قليلاً الى فتنتهم، لو لم تتداركه رحمة الله بمثل ﴿الذين أوتوا العلم من قبله. فالفضل في إِعجـاز الهدى لهم. ولا مراء في ركون محمد ﴿شيئاً قليلاً الى المشركين، لأنه حاشا للوحي أن يخبر بغير الحقيقة والواقع. فأين إِعجاز النبي الذي يعصمه من الفتنة: إن التحدي بالقرآن (الإسراء ٨٨) لا يستقيم مع إمكانية فتنة نبيه عنه، لأن هدى الرسول من هدى نبوته.

ثالثاً: التحدّي بالقرآن وهداه، والشك من تنزيله

يصرّح القرآن بأنه ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧) ثم يتحدى ﴿بسورة مثله (يونس ٣٨). فالتحدّي لا يطال أهل الكتاب، لأن القرآن ﴿تفصيل الكتاب إنما هو للمشركين وحدَهم. مع ذلك، فإنه بعد ذلك التصريح وذلك التحدي يعلن: ﴿فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأُون الكتاب من قبلك: لقد جاءَك الحق من ربك، فلا تكوننَّ من الممترين! ولا تكوننَّ من الذين كذّبوا بآيات الله، فتكون من الخاسرين (٩٤ ـ ٩٥). إن الافتراض من الوحي لا يكون عبثاً، إنما هو برهان الواقع: فمحمد انتابته موجة شك من تنزيل القرآن عليه، وهذا الشك لا يستقيم مع التحدي ﴿بسورة مثله، بل يحدّه. ويظل الإِعجاز في الهدى عند الذين يحيله الوحي اليهم، لا عند الذي يحذّره من الشك في صحة التنزيل اليه.

رابعاً: التحدّي بالقرآن ومحنة المِرْية منه

في سورة (هود ١٢ ـ ١٧) ظاهرة غريبة، يأتي التحدّي ﴿بعشر سور مثله بين الفتنة بترك ﴿بعض ما يوحى إليك وبين ﴿مرية منه. فهو يصرّح: ﴿فلعلّك تارك بعض ما يُوحى إليك، وضائق به صدرك، أن يقولوا: لولا أُنزل عليه كنز، أو جاءَ معه ملك! ـ إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل (١٢). ثم يقول للحال: أم يقولون: افتراه! ـ قلْ: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا مَن استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين... (١٣). ويختم بهذا التصريح المذهل: ﴿أفمن كان على بيّنة من ربه ـ ويتلو شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً ـ أولئك يؤمنون به؛ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده! فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (١٧). يُدعى محمد الى عدم الشك من حقيقة ما يُوحى اليه، لأنه وإن كفر به ﴿الأحزاب أي ﴿أكثر الناس في مكّة، فهناك مَن يؤمنون به، وهم على ﴿بيّنة من ربهم لأن لديهم ﴿كتاب موسى إماماً ورحمة؛ وهو كقوله: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠) حيث الشاهد ﴿النصراني يصير جماعة النصارى من بني إسرائيل؛ فهم الذين يشهدون للنبي ويرفعون ﴿المرية من نفسه: فالهدى هداهم، والإِعجاز إِعجازهم.

لكن ما هذا التردّد المتواصل بين الإيمان والشك من نفسه ومن أمره ومن وحيه! هل تردّد الرسول في هداه من ﴿دلائل الإِعجاز في هدى رسالته؟

خامساً: التحدّي بالقرآن وتحذير النبي من مخالطة المشركين

سورة (الأنعام) ـ وهي متبعّضة من أزمنة مختلفة ـ تثبيت لمحمد في رسالته ودعوته، وجدال عنها مع المشركين. لكن الظاهرة الغريبة المتواترة تظهر فيها، حيث في آية واحدة يجتمع الإعلان بزعامة محمد للاسلام والتحذير له من الشرك: ﴿قلْ: إني أُمرُتُ أن أكون أول مَن أسلم، ولا تكونَنَّ من المشركين!  (١٤). ويلي التحذير له من الشرك تحذير آخر من المشركين. يعلن: ﴿قلْ: إني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله! قلْ: لا أتّبع أهواءَكم! قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين! قلْ: إني على بيّنةٍ من ربي وكذّبتم به (٥٦ ـ ٥٧). هنا يصرّح أيضاً عن نفسه بأنه ﴿من المهتدين، لا من الهادين! فهذه الأوامر المتلاحقة ﴿قلْ تأتيه إذاً من الذين يهدونه ويشهدون معه وله (هود ١٧). لكن للحال يأتيه التحذير من القعود مع المشركين لئلا يسقط في التجربة: ﴿واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وإمّا ينسينّك الشيطان، فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (٦٨). لقد نُصب لدعوتهم بالقرآن، وها هو يُؤمر بعدم القعود مع الباحثين فيه: فما هذا؟ وقعوده مع ﴿الظالمين منسوب الى عمل من الشيطان: فما هذا السلطان الشيطاني على النبي المعصوم؟ وهل يُخشى عليه من القعود مع المشركين؟ وهل يُخشى على الوحي القرآني من خوض ﴿الظالمين فيه؟ أأمر بدعوتهم، وأمر بعدم مخالطتهم؟

سادساً: التحدّي بهدى القرآن، وتحذير النبي من الضلال

في سورة (الأنعام) نفسها مواقف أخرى متعارضة. فمن جهة يقابل بين المؤمنين بدعوته وبين الكافرين بها من أهل الكتاب: فالنصارى من بني إسرائيل ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة أي التوراة والإنجيل والنبوّة كلها، ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدهْ لأنهم الوكلاء على هدى الله، ﴿وإن يكفر بها هؤلاء أي أهل مكّة، واذ قال اليهود: ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء (٨٩ ـ ٩٠). ومن جهة أخرى يحذّره من الضلال بحق القرآن، وهو ﴿الكتاب مفصّلاً: ﴿أفغير الله أبتغي حكماً، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً ـ والذين آتيناهم الكتاب (النصارى) يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، فلا تكوننَّ من الممترين ـ وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته، وهو السميع العليم. وإنْ تُطعْ أكثر من في الأرض (المشركين واليهود في الحجاز) يضلّوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلاّ الظن، وإنْ هم إلاّ يخرصون (١١٤ ـ ١١٦). فكأن محمداً يتردّد بين الفريقين، فيؤكد له الذين أُمر بالاقتداء بهداهم (٩٠) وهم أهل الكتاب المؤمنون به وبدعوة محمد أن القرآن هـو ﴿الكتاب مفصلاً وقد ﴿تمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته؛ وهم يعلمون أن الكتاب الأول هو المنزّل، وأن القرآن هو ﴿الكتاب مفصلا. فهذا الكتاب المفصَّل يستمد تنزيله وهداه من الكتاب الأول. بهذا يشهد ثقاته. فإن أطاع محمد اليهود والمشركين أضلّوه عن سبيل الله. فهل يستقيم هذا الامكان بإضلال محمد، وهذا التحذير المتواتر من الشك في القرآن نفسه، مع الإِعجاز في الهدى عند الرسول؟

سابعاً: التحدّي بهدى القرآن، والأمر المتواصل للإخلاص في الدين

سورة (الزمر) حملة متواصلة لحمل محمد على الإخلاص في الدين: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، فاعبدِ الله مخلصاً له الدين (٢)... قلْ: إني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأُمرت لأن أكون أول المسلمين. قل: إني أخاف، إنْ عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قلْ: الله أعبد مخلصا له ديني (١١ ـ ١٤)... ولقد أُوحي إليك والى الذين من قبلك: لئن أشركت ليحبطنّ عملك، ولتكوننَّ من الخاسرين (٦٥). فهذا التهديد المتواصل لمحمد حتى التخويف من عذاب يوم عظيم؛ وهذا الأمر المتواصل له بالإخلاص في الدين؛ وهذا الاغراء بجعله ﴿أول المسلمين؛ هل هي من ﴿دلائل الإِعجاز في الهدى عنده؟

ثامناً: التحدّي بالقرآن وهداه، والأمر المتواتر بالاستقامة على الهدى

يتحدى بالقرآن، بحديث مثله، بعشر سور مثله، بسورة مثله؛ ويتحدى بهداه. ثم يأتيه الأمر بالاستقامة على الهدى الذي اهتدى اليه. فهو يعلن: ﴿شرع لكم من الدين... وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم اليه (الشورى ١٣). فالهدى القرآني هو دين موسى وعيسى الذي يشرعه للعرب ديناً واحداً ـ لأن ما وصى به نوحاً وإبراهيم تجدّد بموسى. هذا هو الكتاب كله الذي آمن به محمد: ﴿وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب (١٥). وهذا هو العدل بين المؤمنين: ﴿وأمرتُ لأعدل بينكم (١٥). بعد هذا الإيمان، وهذا الجزم بالدين الذي يشرعه، يأتيه الأمر المكرَّر: ﴿فلذلك فادع واستقم كما أُمرت، ولا تتبع أهواءَهم (١٥).

فهل يُخشى على محمد من الميل عن الاستقامة في دعوته، حتى يأتيه الأمر المكرّر بالاستقامة على الهدى؟ والتحذير المكرّر من أتباع أهواء المشركين؟ وهل هذا كله من ﴿دلائل الإِعجاز في هديه وهداه؟

تاسعاً: التحدّي بالقرآن والنهي عن اتباع أهواء المشركين

في مكّة يتواتر التحدي بالقرآن، ويتواتر أيضاً التحذير نفسه لمحمد من الشرك والمشركين، مع بيان الصراط المستقيم في الهدى والدين، على طريقة الذين يؤمنون بالكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل ديناً واحداً ـ وهم النصارى من بني إسرائيل. يقول: ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوّة... وآتيناهم بيّنات من الأمر... ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون أي المشركين (الجاثية ١٦ ـ ١٨). لقد جُعل محمد على طريقة ﴿من الأمر في الدين الذي يقيمه النصارى ﴿من بني إسرائيل الـذين ﴿يعلمون، ﴿أولي العلم قائماً بالقسط، فمـا عليه إلاّ أن يستقيم على هذه ﴿الشريعة من الأمر ولا يتبع أهواء المشركين. فليس التحذير المتواتر له طوال العهد بمكّة من المشركين، من ﴿دلائل الإِعجاز في الهدى والدين.

عاشراً: التحدّي بالقرآن والاستعاذة قبل قراءَته من الشيطان

آخر تحدٍّ بالقرآن وهداه إعلانه: ﴿أم يقولون: تقوّله! ـ بل لا يؤمنون! فليأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين (الطور ٣٣). هنا صار التنزيل ﴿حديثاً. فهو يتحدى بالقرآن جملةً. لكنه في الوقت نفسه يُؤمر بالاستعاذة من الشيطان، عند قراءَة القرآن، لئلا يُلقي فيه، عند تبديل آية بآية: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم... واذا بدّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزِّل ـ قالوا: إنما أنت مفترٍ! بل أكثرهم لا يعلمون (النحل ٩٨ ـ ١٠١).

ظاهرة سببت رِدّة بعض المسلمين لمّا عرفوها، وهي تبديل آية بآية في القرآن. ومحمد نفسه لا يعلم سرّ ذلك، ﴿والله أعلم بما ينزّل. لكن هل هذه الظاهرة الغريبة المريبة التي جعلت بعضهم يقول للنبي: ﴿إنما أنت مفتر، هي من الإِعجاز في التنزيل والبيان والهدى؟ والشبهة الأخرى أغرب وأنكي، وهي الاستعاذة من الشيطان قبل قراءَة القرآن: إن كلام الله هو استعاذة بحدّ ذاته، فما معنى هذه الاستعاذة؟ وهل من خطر على الوحي ان يُلقي الشيطان فيه عند تنزيله؟ وهل في ﴿تبديل آية بآية من صلة بهذه الاستعاذة. إن التبديل في التنزيل ليس من ﴿دلائل الإِعجاز في الهدى والبيان والتنزيل.

حادي عشر: التحدي بالقرآن وهداه، والإثبات والمحو في مبناه

ينهي العهد بمكّة على صورة المحو والاثبات في تنزيل القرآن: ﴿لكل أجل كتاب: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب (الرعد ٣٨ ـ ٣٩). ﴿أم الكتاب أصلُه عند الله. وهذا الأصل لا شك واحد. فكيف يُنزل الله منه ثم يمحو ما أنزل؟  لذلك احتج الناس على هذه الظاهرة الغريبة المريبة، ﴿ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قل: كفى بالله شهيداً، ومَن عنده عِلْم الكتاب (٤٣). إن شهادة الله على الرسالة هي المعجزة، فأين هي؟ يكتفي النبي من المعجزة والإِعجاز بشهادة ﴿مَن عنده علم الكتاب أي ﴿الراسخين في العلم، ﴿أولي العلم قائماً بالقسط، وهم النصارى من بني إسرائيل. الى هنا ينتهي التحدي بالإِعجاز والهدى. فمن يشهد على نفسه بالمحو في التنزيل والهدى، ومَن حجته شهادة ﴿مَن عنده علم الكتاب، هل يكون على الإِعجاز في الهدى؟

تلكم اثنتا عشرة شهادة من التحدي بالقرآن وهداه، مقرونة بالأزمات النفسية والإيمانية. إنه يتحدى، ويشك من نفسه ومن أمره ومن وحيه ومن القرآن نفسه! وهو على ذلك طوراً يعاتبه، وطوراً يؤدبه؛ تارة يدعوه الى الإخلاص في الدين، وتارة يحذره من اتباع أهواء المشركين. وعلى الدوام يدعوه الى الاستقامة في الهدى، حتى كان محمد يقول: ﴿شيبتني هود. أفتقر الى الله بصحة العزم!

فهل هذا كله من ﴿دلائل الإِعجاز في الهدى والعقيدة؟

بحث رابع

هل من إِعجاز في الدعوة الى التوحيد بمكّة؟

يقولون: إن رجلاً ﴿أمّياً، لا يقرأ ولا يكتب، وذلك في الحجاز المحجوز عن المعمورة برماله وصحاريه، في بيئة جاهلية وثنية، يقوم ويدعو للتوحيد الخالص، تلك هي المعجزة الكبرى في الرسول والرسالة. فهل في ظروف ﴿النبي الأمّي، وظروف الزمان والمكان في البيئة، وظروف الدعوة نفسها، ما يفرض القول بالإِعجاز في الدعوة للتوحيد بمكّة؟

أوّلاً: هل من إِعجاز في حال ﴿النبي الأمّي

لقد رأينا أن أمية محمد ينقضها القرآن كله. وقد رأينا أن محمداً ﴿درس الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل، على يد نسيبه ورقة بن نوفل، قسّ مكّة وعلاّمتها الذي يدعو الى نصرانيته بترجمة الإنجيل الى العربية وقد رأينا أن محمداً في القرآن ﴿يعلمهم الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل.

فليس من إِعجاز في حال محمد.

ثانياً: هل من إِعجاز في ظروف البيئة؟

إن التاريخ المتصل بالمشاهدة العيان يشهد، كما نقلنا عن الأستاذ دروزة، أن الحجاز لم يكن محجوزاً عن الحضارة والثقافة. بل كان أهل مكّة، ومحمد على رأسهم، منذ زواجه حتى مبعثه، صلة الوصل بين حضارة الشرق في الهند وحضارة الغرب في الشام وعند الروم، لسيطرهم على طريق القوافل. وقد أشاد القرآن نفسه بنعم الله على بني قومه، ﴿لايلاف قريش، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف ما بين اليمن وما وراءه، وبين الشام وما وراءه. واتصالهم بحضارتين عظيمتين، بفارس والروم، جعلهم ميدان الصراع لهما حتى في الدين. فنادى القرآن ﴿ولا تعبدوا الهين اثنين، ﴿ولا تقولوا: ثلاثة.

والقرآن نفسه خير شاهد على أن البيئة الحجازية، وعلى رأسها مكّة، لم تكن على الوثنية في شيء. بل، بفضل الدعوة الكتابية فيها، قد تحولت وثنية العرب الى شرك، أي الى عبادة الله مع شريك له من خلقه. وشيئاً فشيئاً أُفرغ هذا الشرك من معناه، فأمسى شركاً شكلياً؛ كما يعلن القرآن نفسه على لسانهم: ﴿ما نعبدهم إلاّ ليقربونا الى الله زلفى (الزمر ٣).

والدكتور جواد علي، من المجمع العلمي العراقي، ينهي كتابة (تاريخ العرب قبل الإسلام ٤٢٤:٥ و ٤٢٨) بهذه النتيجة الحاسمة: ﴿إن عقيدة الجاهليين في الله، وحجّهم الى البيت وقسمهم به، نتيجة تطور طويل مرّ على الحياة الدينية لعرب الجاهلية، اختُتم بظهور الإسلام، ودخول أكثرهم فيه. فقد كان أهل مكّة على مقالة من التوحيد والدين، وعلى تيقّظ وشك في أمر الشفعاء والشركاء والأصنام، حمل الكثيرين على الشك في ديانة قومهم، وعلى الدعوة الى الاصلاح... فعبادة أهل مكّة هي عبادة محمد؛ وتوحيدهم توحيد اسلامي، أو توحيد قريب من التوحيد الإسلامي.

وقد تغلغل الصراع بين المسيحية واليهودية، من أطراف الجزيرة كلها الى قلب الحجاز، وقام بين اليهودية والمسيحية فرقة ﴿النصارى من بني إسرائيل، التي هاجرت الى مكّة، وكانت على أساس نهضتها التجارية والثقافية والدينية. وكانوا يدعون العرب الى دين موسى وعيسى معاً، الى إقامة التوراة والإنجيل معاً، حتى أمست مكّة والحجاز كله مستعدين للدعوة القرآنية. فجاءَ أمر الله الى محمد بالانضمام اليهم والدعوة بدعوتهم: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (النحل ٩١ ـ ٩٢)، ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧).

فبحسب التاريخ والقرآن نفسه ليس في ظروف البيئة، والزمان والمكان؛ وليس في ظروف محمد الشخصية والعائلية والقومية من معجزة في الدعوة للتوحيد بمكّة والحجاز.

ثالثاً: هل من إِعجاز في الدعوة للتوحيد نفسه؟

تقتصر الوعود القرآنية على التوحيد: ﴿قل: إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى. ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة، إنْ هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد (سبأ ٤٦). فليس فيه من وحي سوى هذا التوحيد: ﴿قلْ: إنما أنا بشر مثلكم يُوحى اليّ إنما الهكم اله واحد. فاستقيموا له واستغفروه! وويل للمشركين! (فصلت ٦). هذا توحيد ظاهري، لا يكشف شيئاً عن سرّ الله. والإسلام كله تنزيه عن الشرك: ﴿فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، وأنْ لا اله إلاّ هو، فهل أنتم مسلمون؟ (هود ١٤). فليس في القرآن من كشف عن سر الله سوى توحيده: ﴿والهكم اله واحد، لا إله إلاّ هو، الرحمان الرحيم (البقرة ١٦٣). وسنرى أن التوحيد غارق في التشبيه، ليس فيه تجريد. إنما إعلانه الصارخ المتواصل هو دائماً: ﴿الهكم اله واحد (٢٢:١٦؛ ١١٠:١٨؛ ١٠٨:٢١؛٦:٤١؛ ٣٤:٢٢؛ ١٦٣:٢). لذلك كانت الشهادة الإسلامية على وجه الزمان: ﴿لا إله إلاّ الله. فهي تقتصر على توحيد خارجي ظاهري، لا يكتشف شيئاً عن ذات الله. بل اعتبروا البحث في ذات الله اشراكاً.

فهل من إِعجاز في الدعوة لهذا التوحيد، وقد سمعه العرب، حتى في مكّة، من أهل الكتاب، قبل محمد والقرآن، بعشرات ومئات السنين؟ وقد دان به محمد قبل مبعثه ومنذ زواجه بالسيدة خديجة. بأمر من ابن عمها ورقة بن نوفل، قسّ مكّة وعلامتها، الذي ﴿درّسه الكتاب والتوحيد مدة خمسة عشر عاماً، قبل الدعوة لهما؟

رابعاً: القرآن نفسه يشهد بأنّ توحيده من توحيد الكتاب

فالكتاب إمامه في التوحيد والهدى:﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧) فليس فيه من جديد سوى اللسان العربي. وهو يجادل العرب بهدى وعلم الكتاب المنير، إذ ﴿من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان ٢٠؛ الحج ٨). ويجادل اليهود بوحدة التوحيد معهم: ﴿قلْ: أتحاجوننا في الله، وهو ربنا وربكم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ونحن له مخلصون (البقرة ١٣٩). ويمنع الجدال مع النصارى لوحدة الاله ووحدة التنزيل ووحدة الإسلام: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ـ إلاّ الذين ظلموا منهم (اليهود) ـ وقولوا: آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم، والهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون (العنكبوت ٤٦). والأمر صريح بالشهادة بهذه الوحدة بين القرآن والنصارى. والأمر صريح الى محمد بالإسلام على طريقة موسى وعيسى معاً: ﴿قلْ: آمنا بالله وما أنزل علينا... وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (آل عمران ٨٤). والأمر صريح الى جماعة محمد بهذا الإسلام عينه: ﴿قولوا: آمنا بالله، وما أنزل إلينا... وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم: لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (البقرة ١٣٦). فالإله واحد، والتوحيد واحد، والإسلام واحد فهل من إِعجاز بهذه الدعوة للتوحيد بمكّة؟

بحث خامس

هل من إِعجاز في العقيدة الإلهية في القرآن؟

يقول العقاد، في كتاب المؤتمر الإسلامي (الإسلام وأباطيل خصومه ص ٥٤ ـ ٥٥). ﴿فالله؛ رب العالمين، ملك يوم الدين، لم يكن نسخة محرفة من صورة الله في عقيدة من العقائد الكتابية. بل كان هو الأصل الذي يثوب اليه مَن ينحرف عن العقيدة في الإله، كأكمل ما كانت عليه، وكأكمل ما ينبغي أن يكون. ومن ثم كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصحّحة متمّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات، أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية Theology .

أوّلاً: التوحيد القرآني تنزيه عن الشرك، لكنه غارق في التشبيه والمتشابه

إن التوحيد القرآني سلبي قائم على التنزيه من الشرك، كما تعلن الشهادة: لا إله إلاّ الله. وهذا التوحيد السلبي قد جاء أيضاً بأسلوب غارق في التشبيه. أجل يعلن: ﴿ليس كمثله شيء. لكنه في تعابير التوحيد يشبّه الله بالإنسان: ﴿إن ورد في القرآن ممّا يتصل بذات الله السامية من تعابير اليد والقبضة واليمين والشمال والوجه والاستواء والنزول والمجيء، وفوق وتحت وأمام، وطي وقبض ونفخ ـ إنما جاء بالأسلوب والتعابير والتسميات التي جاءَت من قبيل التقريب لأذهان السامعين ٣ . وهذا التقريب أغرقها في التشبيه حتى جاءَت صورة الله في القرآن كصورة إنسان أكبر من الإنسان.

وما عدا عقيدة التوحيد الخالص سلبياً، فكل تعليم القرآن في صدد الذات الإلهية من المتشابه فيه الذي ﴿ما يعلم تأويله إلاّ الله: ﴿وكل ما ورد في صدد الذات الإلهية من أسماء وأفعال وصفات أخرى قد توهم مماثلة لأسماء وصفات وأفعال البشر، إنما جاء كذلك على سبيل التقريب والتشبيه ٤ . وتوحيد غارق في التشبيه، يأتي ببيان متشابه للعقيدة الإلهية، أيكون هو الأصل الذي تثوب اليه كل عقيدة في الإله؟ أتكون هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصححة متممة لعقيدة الله في الكتاب ﴿الإمام، وفي ﴿الكتاب المنير كما يسميهما القرآن؟

إن توحيد القرآن سلبي يقوم على تنزيه الله عن الشرك، لا كشف فيه عن غيب الله، وعن سر الله في ذاته وحياته. فيظل الإله في القرآن، مع الشهادة له بالتوحيد الخالص، مجهولاً في ذاته، محجوباً في غيبه. والبحث في ذات الله إشراك. ففي ذاته، وفي سر حياته، الله أكبر، بحسب القرآن، هو المجهول الأكبر.

ثانياً: حرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن

هذا هو الإخلاص في التوحيد، كما يعلنه القرآن: ﴿قلْ: هو الله أحد، الله الصمد، لم يلدْ ولم يُولدْ، ولم يكن له كفواً أحد. كلها صفات تنزيه عن الشرك: فالله واحد أحد، وهو الصمد المتعالي المتجلّي فوق عباده، لا كفوء له من خلقه، ﴿وليس كمثله شيء.

وقوله ﴿لم يلدْ ولم يُولد لا يدل على امتناع صفة من ذاته، لذاته، إنما يدل على استحالة الولادة والاستيلاد من غيره تعالى، كقوله ﴿ما اتّخذ صاحبة ولا ولداً (الجن ٣). فهذه هي فلسفته في استحالة الولد والولادة: ﴿بديع السماوات والأرض، أنّي يكون له ولد ولم تكن له صاحبة (الأنعام ١٠١). فكل ولادة في عرْفه لا تقوم إلاّ على ﴿صاحبة! حاشا لله الواحد الأحد، الله الصمد! وبما أن البحث في ذات الله إشراك، فلا ينظر القرآن الى ولادة روحية عقلية نطقية، يصدر بها نطق الله الذاتي، من ذاته، في ذاته، لذاته. فهذا غيب الله المحجوب.

وفات القوم إن قوله: ﴿هو الله أحد نقل حرفي للتوحيد الكتابي في التوراة والإنجيل. ففي التوراة: ﴿اسمع، يا إسرائيل، إن يهوه (الله) الهنا هو يهوه أحد (التثنية ٤:٦). وكانت شهادتهم مدى الدهر: ﴿يهوه أحد أي الله أحد، وترجمها حرفيّا ﴿هو الله أحد. وسأل السيد المسيح أحد العلماء: ﴿أي وصية هي أولى الوصايا جميعاً؟ فأجاب يسوع: الأولى هي ﴿اسمع يا إسرائيل: إن الله إلهنا هو الله أحد (مرقس ٢٨:١٢ ـ ٢٩). لقد ردّ عليه بالشهادة التوراتية التي بها يشهدون كل مرة الله، سبحانه وتعالى.

فحرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن. فكيف تكون العقيدة الإلهية في القرآن مصحّحة متمّمة لعقيدة الإنجيل والتوراة في الله تعالى؟ والإِعجاز للمتبوع للتابع.

ثالثاً: إنّ التوحيد في القرآن هو دين موسى وعيسى

إن التوحيد في القرآن هو دين موسى وعيسى الذي يشرعه للعرب: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه! كبر على المشركين ما تدعوهم اليه (الشورى ١٣). نقتصر على هذه الشهادة، وهي متواترة في القرآن. فكيف تكون صورة الله في القرآن هي الأصل؟ والقرآن يصرح بعكس ذلك.

رابعاً: إسلام القرآن هو إسلام من قبله اسماً ومعنى

في بعثته لدعوته جاءه الأمر: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢). فانضم الى المسلمين من قبله ودعا بدعوتهم للاسلام. فإسلامه من اسلامهم لفظاً واسماً: ﴿هو سماكم المسلمين من قبل (في الكتاب) وفي هذا القرآن (الحج ٧٨).

وهذا الإسلام يقوم على عدم التفريق بين موسى وعيسى (البقرة ١٣٦؛ آل عمران ٨٤) وعلى إقامة التوراة والإنجيل معاً (المائدة ٦٨)، على طريقة النصارى من بني إسرائيل الذين يسميهم أولي العلم المقسطين أو القائمين بالقسط أو ﴿الراسخين في العلم.

وإسلامه من إسلامهم معنى وموضوعاً: ﴿شهد الله أنه لا إله إلاّ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط... أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ٨٨ ـ ٨٩). فالقرآن يشهد للاسلام بشهادتهم، ويعتبر شهادتهم من شهادة الله وملائكته. فكيف تكون عقيدته مصححة متممة لعقيدة ﴿الراسخين في العلم من أهل الكتاب. فالإِعجاز للاسلام المتبوع قبل الإسلام التابع.

فهل من إِعجاز في العقيدة الإلهية في القرآن على الكتاب وأهله؟

بحث سادس

الإِعجاز في الشريعة

سنفرد فصلاً للإِعجاز في الشريعة. نقدم له هنا بكلمة في الشريعة كهدى سماوي.

يقول عبد الكريم الخطيب ٥ ، معلقاً على قول ابن خلدون: ﴿واعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم...لاتحاد الدليل والمدلول عليه؛ ﴿ومعنى هذا الذي يقوله ابن خلدون إن النبيحمل الى الناس أمراً واحداً فقط هو الشريعة، وفي الشريعة نفسها المعجزة التي تشهد له بأنه رسول الله الصادق في ما يقول عن الله. وفاته وأمثاله تصريح القرآن: ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (النساء ٢٦). فالهدى في التشريع القرآني هو هداية الى شريعة الكتاب وسنن أهله. ويعطينا مثلاً صريحاً في تشريع الصيام: ﴿يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم، لعلّكم تتّقون (البقرة ١٨٣)، فمن تقواهم في توبتهم من الشرك أن يصوموا مثل أهل الكتاب: فالشريعة واحدة.

وقد يقول قائل: هل شريعة الزواج في القرآن مثل الكتاب، التوراة أو الإنجيل؟ نجيب: إنه يهديهم الى ﴿سنن الذين من قبلكم. كان الطلاق وتعدد الزوجات مباحاً في التوراة على اطلاقه. لكن بتأثير المسيحية جعل التلمود عدد الزوجات مقصوراً على أربع معاً. فوقف النصارى من بني إسرائيل على هذا الشرع التلمودي، كأمّة وسط بين التوراة والإنجيل، في إقامتهم للتوراة والإنجيل معًا. فنزل القرآن على ما يقول ﴿أولو العلم قائماً بالقسط: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألاّ تعولوا (النساء ٣).

إن القرآن في الهدى والشريعة ﴿يقتدي بأمر الله بهدى ﴿الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠)، أي النصارى من بني إسرائيل، الذين بإقامة ﴿الكتاب والحكمة ـ التوراة والإنجيل معاً كانوا أمة وسطاً بين اليهودية والمسيحية، في العقيدة والشريعة والصوفية والدين والإسلام كله. وشرع يهتدي بسُنن أولي العلم المقسطين من أهل الكتاب، ليس هداه من الإِعجاز في الشريعة. إنما الإِعجاز التشريعي في ﴿إمامه.

بحث سابع

الإِعجاز في الدين

في كتاب ديني سماوي، إنما يكون الإِعجاز المطلوب في الدين. ويأتي القرآن صريحاً في الدين الذي يشرعه للعرب: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم اليه... فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتّبع أهواءَهم! وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب؛ وأمرتُ لأعدل بينكم (الشورى ١٣ ـ ١٥).

فالدين الذي يشرعه الله للعرب في القرآن هو دين موسى وعيسى معاً، بنص القرآن القاطع. قد يقولون: وما بال نوح وإبراهيم؟ نقول: دينهما هو دين موسى وعيسى في الكتاب؛ وقد أُمر محمد أن يؤمن ﴿بما أنزل الله من كتاب مباشرة. ومُنع محمد من أتباع أهواء اليهود والمشركين في الدين؛ وأُمر مراراً أن يستقيم على دين موسى وعيسى معاً ﴿على شريعة من الأمر. وطريقته في اتباع دين موسى وعيسى معاً إنما هي طريقة النصارى من بني إسرائيل، الأمة الوسط: ولقد آتينا بني إسرائيل الكتب والحكم والنبوّة... وآتيناهم بيّنات من الأمر... ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتّبعها، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون أي المشركين (الجاثية ١٦ ـ ١٨). فقد جُعل محمد على طريقة من أمر الدين هي طريقة الذين يقيمون ﴿الكتاب والحكمة ـ التوراة والإنجيل معاً، وهم النصارى من بني إسرائيل، أولي العلم المقسطين. ويؤمر بتواتر أن يستقيم عليها وهذا هو العدل الذي جاءَهم به في أمر الدين: ﴿وأُمرت لأعدل بينكم، بين اليهود الذين اختلفوا من بعد ما جاءَهم العلم مع السيد المسيح، وبين المشركين، ﴿الذين لا يعلمون.

هذا هو الإخلاص في الدين أُمر به محمد، ﴿مخلصاً له الدين (الزمر ٢ و١١ و١٤)؛ والذي يأمر به، ﴿مخلصين له الدين (٢٩:٧؛ ٢٢:١٠؛ ٦٥:٢٩؛ ٣٢:٣١؛ ١٤:٤٠ و٦٥؛ ٥:٩٨). وبما أن القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى معاً، بإقامة التوراة والإنجيل معاً، في أمة وسط، على طريقة أولي العلم المقسطين من بني إسرائيل، فهل يكون فيه الإِعجاز في الدين؟

 

بحث ثامن

الإِعجاز في الإسلام

﴿دين الحق، ﴿دين القيّمة ملّة إبراهيم حنيفاً، الدين الذي يشرعه القرآن للعرب، يسميه الإسلام. ويظنون أن الإسلام في لفظه، كما في معناه، من الإِعجاز في التنزيل القرآني. وفاتهم أن الإسلام في لفظه ومعناه، بنص القرآن القاطع، هو من قبل محمد القرآن: ﴿هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا القرآن (الحج ٧٨).

نستنتج من القرائن القرآنية والتاريخية أن النصارى من بني إسرائيل، بعد هجرتهم المرغمة الى الحجاز، أخذوا يدعون العرب الى دينهم. ولإيلاف العرب الى دعوتهم سموها أولاً الحنيفية، ملّة إبراهيم، جدَ العرب المستعربة في الحجاز بواسطة اسماعيل. فلمّا أينعت الدعوة أطلقوا عليها اسم ﴿الإسلام قبيل الدعوة القرآنية. فجاء القرآن ـ ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ـ يشهد بشهادتهم أن الدين عند الله الإسلام: ﴿شهد الله أن لا إله إلاّ هو، والملائكة، وأولوا العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ـ أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩).

نعرف من اصطلاح القرآن المتواتر أن ﴿أولي العلم مرادف لأهل الكتاب من يهود ونصارى. وهو يقسم أهل الكتاب، أولي العلم، الى طائفتين: أولي العلم الظالمين وهم اليهود، وأولي العلم المقسطين، وهم النصارى من بني إسرائيل. فهؤلاء النصارى هم الذين يشهدون مع الله وملائكته ﴿أن الدين عند الله الإسلام وذلك بنص القرآن القاطع، الذي يعتبر شهادتهم من شهادة الله وملائكته. والقرآن يدعو الى شهادتهم في الإسلام. لذلك يختلف معه أهل الكتاب من اليهود في الاسم ومعناه: ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب، إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم ـ ومَن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب. فإن حاجّوك فقل: أسلمتُ وجهي ومَن اتّبعني (آل عمران ١٩ ـ ٢٠).

والدعوة لاسلام النصارى من بني إسرائيل، أولي العلم المقسطين، هي التي يوجهها لليهود والمشركين الأميّين: ﴿قل للذين أوتوا الكتاب (اليهود) والأميّين: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا؛ وإن تولّوا، فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعبادِ (آل عمران ٢٠). وبما أن القرآن يدعو للاسلام بدعوة النصارى من بني إسرائيل، أولي العلم المقسطين، فهل في دعوته من الإِعجاز في الإسلام؟

خاتمة

القرآن في الهدى والعقيدة تابع لا متبوع

والقول الفصل، في هذا الفصل، إن الإِعجاز الحق يكون أولاً في التنزيل ثم في هداه. وفي الهدى يدعو القرآن الى إسلام ﴿أولي العلم قائماً بالقسط الى دين موسى وعيسى معاً الذي يشرعه للعرب، لكي يهديهم ﴿إلى سنن الذين من قبلكم؛ فليس فيه من كشف جديد في العقيدة الإلهية التي تقتصر على الإخلاص في التوحيد، بالخلاص من الشرك. وليس من إِعجاز في الدعوة للتوحيد، بمكّة. وليس من إِعجاز في قيام محمد نفسه بهذه الدعوة، فقد ظل طول العهد بمكّة يتردّد بين الإيمان والشك من نفسه ومن أمره ومن صحة قرآنه. وقد كان الكتاب ﴿إمامه في الهدى والبيان، على ﴿المثل الذين شهد به شاهد من بني إسرائيل النصارى. فالقرآن يتحدى بالإِعجاز في الهدى، قبل التحدي بالإِعجاز في حرفه: قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين (القصص ٤٩). فنص التحدّي بالهدى، ﴿أهدى منهما يسقط عنه دعوى الإِعجاز في الهدى. إن الإِعجاز في الهدى هو في ﴿الإمام الذي أُمر أن ﴿يقتدي ﴿بالمثل عنه. إن القرآن في الهدى والعقيدة تابع لا متبوع. والإِعجاز هو للمتبوع قبل التابع.

الجزء الثاني

الإِعجاز في الشريعة

توطئة

وجه جديد من إِعجاز القرآن: الإِعجاز في الشريعة

بعد العقيدة، يكون الإِعجاز في الشريعة. والسيوطي، خاتمة المحققين الأقدمين، لم يذكر في (الإتقان في علوم القرآن)، من وجوه الإِعجاز، وجه التشريع. وفي عصرنا، طلع علينا الأستاذ محمد أبي زهرة، أستاذ الشريعة بكلّية الحقوق بجامعة القاهرة، بهذا الوجه الجديد من الإِعجاز، في التشريع القرآني. يقول ٦ ، بعد بيان وجوه الإِعجاز البياني والعيني والعلمي؛ ﴿ولكن وجهاً آخر لم يبيّنه العلماء بإطناب، ونعتقد أنه أقوى دلالة في خطاب الناس أجمعين من كل ما ذكر، وهو شريعة القرآن. وقد أشار الى هذا الوجه، إشارة عابرة، القرطبي، فقال في كتابه (أحكام القرآن) في وجوه إِعجاز القرآن: (ومنها ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام الأنام في الحلال والحرام، وسائر الأحكام). هذا كلام القرطبي، وهو يشير الى أن شريعة القرآن وما اشتملت عليه من أحكام منظمة للأسرة، والتعامل الإنساني، هي وجه من وجوه الإِعجاز... ولذلك نقول: إن شريعة القرآن هي أقوى وجوه إِعجاز القرآن؛ وهي القائمة الدالة على الإِعجاز إلى يوم القيامة، وهي قائمة الى اليوم حجة على العربي والأعجمي، لا يفترق في قبولها من يعرف لسان القرآن، عمّن لا يعرفه. فهي شفاء لأدواء المجتمع في كل العصور والأزمان. وظن وظنوا أنه فتح جديد في إِعجاز القرآن، يفوق ما تعارف عليه القوم في الإِعجاز البياني والغيبي والعلمي؛ وأنه ﴿أقوى وجوه إِعجاز القرآن يفحم العربي والأعجمي معاً.

ومن الغريب المذهل، لو كان ذلك حقاً، أن يسهو عنه علماء الإِعجاز حتى اليوم! وأن يقوم مَن يردّد زعم الأستاذ أبي زهرة، مثل الأستاذ عبد الكريم الخطيب ٧ : ﴿إن النبي حمل الى الناس أمراً واحداً فقط هو الشريعة، وفي الشريعة نفسها المعجزة التي تشهد له بأنه رسول الله الصادق في ما يقول عن الله. ﴿فكيف ينسى هو أيضاً نفسه ويرى إِعجاز القرآن في ﴿الصدق المطلق الذي نزل به ـ علو الجهة المنزل منها ـ حسن الأداء: النظم والفاصلة ـ روحانية القرآن ٨ ؟ أم هي شهوة الابتداع، ولو كان بدعة، لتسفيه آراء الأقدمين، كما فعل الرافعي في (إِعجازه).

فهل إِعجاز القرآن في شريعته المعجزة؟

بحث أوّل

الشريعة القرآنية ﴿مدنية: لا تحدّي فيها بإِعجازها

إن الإجماع منعقد على أن الشريعة القرآنية نزلت بالمدينة. وهذا أمر مشهود في القرآن المكي. فلا تشريع في مكّة. ﴿أخرج البخاري عن عائشة قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سور من (المفصّل) فيها ذكر الجنة والنار؛ حتى إذا ثاب الناس الى الإسلام نزل الحلال والحرام ٩ . ولم يثب الناس الى الإسلام إلاّ في المدينة، ولم يدخلوا في دين الله أفواجاً إلاّ في آخر العهد بالمدينة. فالتشريع القرآني من زمن متأخر في الدعوة، وقد نزل من القرآن أكثره. وظاهرة كبرى أخرى في التشريع القرآني، ما قاله ابن حزم: ﴿إعلم أن نزول المنسوخ بمكّة كثير، ونزول الناسخ بالمدينة كثير.

نستنتج من هاتين الظاهرتين:

أولاً: أنه لا تشريع بمكّة. وبما أن ﴿أقوى وجوه إِعجاز القرآن في شريعته، فليس من إِعجاز في القرآن المكي.

ثانياً: إن القرآن يتحدّى ﴿بسورة مثله (يونس ٣٨) ﴿بسورة من مثله (البقرة ٢٣)؛ وبما أن أكثر القرآن لا تشريع فيه، فليس إِعجاز القرآن في تشريعه وشريعته.

ثالثاً: إن أكثر المنسوخ بمكّة، وإن الناسخ من المدينة: فالقرآن المدني ينسخ من القرآن المكي. والنسخ ليس دليلاً على الإِعجاز في التشريع. فالناسخ والمنسوخ في القرآن كله شبهة قائمة على الإِعجاز في التشريع القرآني.

رابعاً: وهكذا، فإن تأخر نزول الشريعة القرآنية حتى المدنية، وهي وجه الإِعجاز الأقوى، وربما الأوحد، في القرآن؛ فإن الإِعجاز في القرآن ليس من أصل التنزيل فيه ومن غايته.

خامساً: بما أن التحدي بإِعجاز القرآن، كما هو مشهود فيه، كان من أواخر العهد بمكّة، بعد أن عجز عن معجزة كالأنبياء الأولين، وفي مطلع العهد بالمدينة (البقرة ٢٣)، ثم سكت عنه في العهد المدني كله في مجابهة أهل الكتاب، أي في زمن نزول الشريعة القرآنية؛ فليس في القرآن من تحدّ بإِعجاز الشريعة على الإطلاق.

بحث ثان

أحكام الشريعة المحكمة قليلة، فليست دليلاً على إِعجاز القرآن كلّه

أوّلاً ـ الإِعجاز التشريعي يكون في آيات القرآن المحكمات، لا في آياته المتشابهات، لأن المحكمات هن أم الكتاب: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب، وأخر متشابهات (آل عمران ٧). وبما أن المتشابه من القرآن، وهو أكثره، ﴿ما يعلم تأويله إلاّ الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا، كلٌّ من عند ربنا (آل عمران ٧)، فليس فيه من الإِعجاز في التشريع شيء. وبما أن الآيات المحكمات هي ﴿أوامره الزاجرة، على حدّ قولهم في شبه إجماع ١٠ ، ﴿عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضاً؛ وعن الربيع قال: المحكمات هي أوامره الزاجرة ـ فإن أحكام الشريعة هي في أوامره الزاجرة في الحلال والحرام، المبيّنة في الآيات المحكمات.

ثانياً ـ وآيات الأحكام المحكمات قليلة: ﴿قال الغزالي وغيره: آيات الأحكام خمسماية آية. وقال بعضهم: مائة وخمسون. قيل: ولعلّ مرادهم المصرّح به، فإن آيات القصص والأمثال يُستنبط منها كثير من الأحكام ١١ . والأحكام القرآنية على نوعين: ﴿من الآيات ما صُرّح فيه بالأحكام، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط، إما بلا ضمّ إلى آية أخرى... وإمّا به. ﴿ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة، وهو ظاهر؛ وتارة بالاخبار.

بناءً عليه، هذه هي النتيجة المذهلة في إِعجاز القرآن:

١ ـ بما أن القرآن يعلن أن آياته المحكمات هنّ أم الكتاب، فهن إذن موضوع إِعجازه. وهذه الآيات المحكمات هي آيات الأحكام الخمسماية في الحلال والحرام من أصل ستة آلاف وستماية وستين آية. نقل النحاس ١٢ عن الحافظ الفارسي: ﴿وبعد فهذا كتاب جمعت فيه جميع ما في القرآن من الآيات الناسخة والمنسوخة، موجزة على حسب آيات القرآن: ألف آية أمر؛ وألف آية نهي، وألف آية وعد، وألف آية وعيد، وألف آية عبر وأمثال، وألف آية قصص وأخبار، وخمسماية حلال وحرام، وماية آية دعاء وتسبيح، وست وستون منسوخ. الجملة ٦٦٦٠ آية. وهكذا لا يصح التحدي بإِعجاز القرآن، لأن آيات المحكمات، في أحكام الحلال والحرام، هي ٥٠٠ من أصل ٦٦٦٠.

٢ ـ لا يصح التحدّي بالإِعجاز التشريعي إلاّ بالأحكام المحكمة المصرح بها. ولا يصح التحدّي على الإطلاق بالأحكام المستنبطة استنباطاً.

والمشهود في أحكام القرآن المحكمة المصرّح به أنها مائة وخمسون. قال السيوطي: ﴿قال الغزالي وغيره: آيات الأحكام خمسماية آية. وقال بعضهم: مائة وخمسون؛ قيل: ولعل مرادهم المصرح به.

فإذا كانت أحكام القرآن المحكمة المصرّح بها هي فقط مائة وخمسين، من أصل ٦٦٦٠ آية هي القرآن كله، فلا يصح التحدي بإِعجاز القرآن كله، بسبب ماية وخمسين آية. كما لا يصح التحدي بتشريع القرآن بسبب ماية وخمسين آية محكمة مصرح بها. فلا يصح الحكم بالبعض على الكل، وبالجزء على سائر الأجزاء. والإصرار بالحكم على هذه الطريقة، لا منطق فيه، ولا حكمة، ولا إِعجاز.

٣ ـ أحكام القرآن عن طريق التصريح والاستنباط هي خمسماية آية أو حكم. أما أحكام التوراة فهي ست مائة وثلاثون آية أو حكماً. والكتاب إمام القرآن في العقيدة وفي الشريعة. فليس الإِعجاز التشريعي في القرآن ميزة انفرد بها، حتى يصح التحدي به عن طريق القياس والمقابلة.

٤ ـ ناحية من الشـريعة هي الدستور الأخلاقي. والشرعة الأخلاقية في القرآن هي ﴿الكلمات العشر لموسى على سيناء: ﴿قال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخُذْ ما آتيتُك وكن من الشاكرين. وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة، وتفصيلاً لكل شيء (الأعراف ١٤٤ ـ ١٤٥). وتلك الكلمات العشر يردّدها القرآن بصور مختلفة، مع هذه الفاتحة: ﴿قلْ: تعالوا أتلُ ما حرَّم ربّكم عليكم (الأنعام ١٥١). فحتى في التشريع الأخلاقي يقتدي القرآن ويهتدي بهدى الكتاب الإمام، والكتاب المنير، التوراة والإنجيل.

وعليه، فليس التشريع القرآني وجهاً من وجوه الإِعجاز في القرآن. ولا يقوم تحدٍّ بإِعجاز القرآن بسبب ماية وخمسين آية من أحكامه المحكمة المصرح بها في ﴿آياته المحكمات (اللواتي) هنّ أم الكتاب!

بحث ثالث

تشريع بحسب الحاجة، ولا ينزل مبتدئاً

ميزة التنزيل والتشريع في القرآن أنه نُزّل تنزيلاً وفُرّق تفريقاً، من بعض الآية، حتى خمس آيات أو عشر: ﴿وقال الذين كفروا: لولا أُنزل عليه القرآن جملة واحدة! ـ كذلك، لنثبت به فؤادك، ورتلناه ترتيلاً؛ ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً (الفرقان ٣٢ ـ ٣٣)؛ ﴿وقرآنا فرّقناه لنقرأه على الناس على مكث، ونزّلناه تنزيلاً (الإسراء ١٠٦). فبحسب نص القرآن القاطع، إن القرآن نزل مفرّقاً ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم كما قال ابن عباس ١٣ ، واستشهد بقوله: ﴿ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً. والسر والحكمة في تنزيل القرآن نجوماً، مفرّقاً، ما نقله أيضاً السيوطي: ﴿إنما لم ينزل جملة واحدة، لأن منه الناسخ والمنسوخ ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرّقا. ومنه ما هو جواب لسؤال. ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فِعل فُعل. وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس: نزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم. فكان التنزيل القرآني والتشريع فيه بحسب الحاجة وظروف الحال.

وهذه هي الظاهرة الكبرى في الشريعة القرآنية. قال محمد صبيح: ﴿أورد كتاب (تاريخ التشريع): كانت الآيات التشريعية، وهي آيات الأحكام، تنزل على رسول الله ﷺ في الغالب جواباً لحوادث في المجتمع الإسلامي. وتعرف هذه الحوادث (بأسباب النّزول). وقد اعتنى بها جماعة من المفسرين وألفوا فيها كتباً وجعلوها أساساً لفهم القرآن. وأحياناً كانت تنزل الآيات جواباً على أسئلة يسألها بعض المؤمنين. وقليلاً ما كانت تنزل الأحكام مبتدئة... فقلّما ترى حكماً لم يذكر له المفسرون حادثاً أُنزل الحكم مرتّبا عليه ١٤ . فميزة التشريع القرآني الذاتية مزدوجة: إنه تشريع المناسبة الطارئة؛ وقليلاً ما كان ينزل مبتدئاً. والنتيجة الحاسمة لتلك الميزة هي أيضاً مزدوجة: تشريع يأتي بحسب الحاجة الطارئة وظروف الحال العابرة، لا يكون من الإِعجاز في التشريع الذي يتحدّى كل تشريع، حتى يصح أن يكون معجزة. والأصل في التشريع المنزل أو الوضعي أن يأتي مبتدئاً، يوضع وتسير الدعوة والسيرة على هداه. فالشريعة نور وهدى في النبوّة والرسالة تسيران على ضوئهما، لا تتسكعان وراءَهما. وما يرفع الإِعجاز عن التشريع القرآني قوله: ﴿ولا يأتونك بمثل، إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً (الفرقان ٣٣)؛ كأن جبريل والكفّار في سباق على أفضل مثل وأحسن تفسير. فالتشريع المعجز الذي يصح التحدّي به هو الذي ينزل مبتدئاً، وتجري السيرة والنبوّة على هداه، لا الذي يأتي طارئاً بحسب الحاجة وضرورة الحال. فالتشريع التوراتي نزل مبتدئاً على موسى في سيناء، في الكلمات العشر، وسارت الرسالة على هداه. والتشريع الإنجيلي وضع السيد المسيح دستوره في خطبته التأسيسيّة على الجبل (متى ٥ ـ ٧)، وسارت الدعوة على هداه، وعلى نوره يقضي السيد المسيح في المسائل والمشاكل الطارئة. وتشريع لا ينزل مبتدئاً، بل بحسب الحاجة وظروف الحال، هل هو من الإِعجاز في التشريع!

بحث رابع

التشريع القرآني دستور أم قانون؟

التشريع القانوني ابن بيئته، وابن ساعته، يرعى ضرورة الحال، لا مصلحة الاستقبال. والتشريع الدستوري مبادئ عامة تتخطّى ظروف الزمان والمكان، لكي يكون صالحاً لكل زمان ومكان. وواقع الحال في القرآن، وكتب (أسباب النّزول) تشهد أن التشريع القرآني كان ابن بيئته، وابن ساعته. فهو لا يتخطى ظروف الزمان والمكان ليصلح لكل زمان ومكان. ظل التشريع القرآني ينزل ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم، ويتطور بين تبديل ومحو، واسقاط ونسخ، حتى فاجأه موت الرسول ولم يكتمل. يقول الأستاذ دروزة ١٥ : ﴿إن جُلَّ الآيات والفصول التشريعيّة، إن لم نقل كلها، قد نزلت إجابة على أسئلة واستفتاءات، أو بمناسبة حوادث ووقائع وظروف متصلة بالسيرة النبوية، ومواقف وتصّرفات المسلمين وغير المسلمين في أثنائها: فكانت من جهة حلاًّ لمشاكل ومسائل واقعية، ومن جهة تشريعاً مستمر الحكم والتلقين والمدى. وفي التشريع القرآني بعض التطورات: نعني أن هناك أحكاماً أو أوامر ونواهي أبكر من أحكام وأوامر ونواه: وأن من المتأخر ما جاءَ ناسخاً أو معدّلاً للمتقدم على حسب ما اقتضته الحكمة من مراعاة الظروف أو التطابق معها سلباً وإيجاباً، وتخفيفاً وتشديداً وضيقاً وسعة.

وتشريع كهذا هو تشريع قانوني، لا دستوري. لأن التشريع الدستوري، في مدة عشر سنوات وما دون، لا ينزل متأخراً عن النبوّة والرسالة، ولا يعتريه نسخ أو تعديل.

وهاك مثلاً على قيـام التشريع الديني في القرآن، من شِرْعة الصيام. قال دروزة ١٦ ﴿هناك روايات أن النبي ﷺ قد صام عاشوراء، وحضّ على صيامه، قبل نزول آيات فرض صيام رمضان (البقرة ١٨٣ ـ ١٨٧). ولقد قال بعض العلماء والمفسرين بوجود ناسخومنسوخ في آيات الصوم، إذاستدلّوا، من الآية الثانية على أن الصيام فُرض في أوَّل الأمر بصورة عامة، وبدون تحديد شهر كامل، مع تخيير المسلمين القادرين عليه بين الصيام والفداء عنه بإطعام مسكين عن كل يوم. ثم أُكّدت الفريضة بالآية (١٨٥)، إذ جعلت كامل شهر رمضان وحتِّم صيامه على غير المريض والمسافر، ونسخ التخيير بين الصوم والفداء بالنسبة الى القادرين. وفي هذا مظهر من مظاهر التطور. والآية الأخيرة (١٨٧) تدل على أن المسلمين وقعوا في شيء من الحرج أو الإثم في صدد قرب نسائهم في ليالي الصوم؛ وبعض العلماء يقولون إنها ناسخة لأمر كان يعتبره المسلمون واجباً (عدم الجماع ليلة الصوم) فخفّف الله عنهم حينما ظهر الحرج.

أما الحجّ فيقول عنه أيضاً دروزة: ﴿إن تشريع الحج (الحج ٢٥ ـ ٣٥) تشريع مدني (البقرة ١٥٨ و١٨٩ و١٩٦ ـ ٢٠٣ ثم آل عمران ٩٦ ـ ٩٧ ثم المائدة ١ ـ ٢ مع ٩٤ ـ ٩٧). وجلّ المناسك والطقوس التي أشارت إليها الآيات وشرعتها ـ إن لم نقل كلها ـ قد أُقر على ما كان عليه قبل البعثة، بعد تهذيبه من المناظر القبيحة وتجريده من شوائب الشرك والوثنية. وفي الآيات صور واقعية وخطوات تطورية. ويُفهم من آية البقرة (١٩٨) أن المسلمين تحرّجوا من الاشتغال بالتجارة في أثناء أشهر الحج ـ وقد كان العرب يقيمون الأسواق التجارية في هذه الأثناء ـ فأباحت الآية لهم ذلك. ويُفهم من آيات المائدة (٩٤ ـ ٩٥) أن العرب كانوا يحرّمون صيد البَر والبحر في أشهر الحج المحرَّمة فأباحت صيد البحر للتخفيف عن الناس. كما أنها جعلت حالة التحريم مقصورة على وقت الإحرام الذي حدّدته السُنة بلبس الثياب غير المخيّطة حين دخول المسلم منطقة الحرم. ويفهم من آيات الحج (٢٥ ـ ٣٥) أن العرب كانوا يتحرّجون من أكل لحوم قرابينهم فأباحت لأصحابها الأكل منها وإطعام غيرهم وخاصة الفقراء. تشريع كهذا هو ابن بيئته وابن ساعته، يخضع لظروف الزمان والمكان، ولا يتخطاها الى التاريخ والبشرية كلها. وتشريع قانوني ابن ساعته، وابن بيئته، ويكون على مقتضى ظروف الزمان والمكان، قد لا يصلح لكل زمان ومكان في تطور البشرية المستديم. فقوله مثلا: ﴿للذكر مثل حظ الانثيين في الميراث؛ وقوله مثلاً في مواقيت الصيام ﴿حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود (البقرة ١٨٧)، سيأتي زمن لا تطيق البشرية ذلك، في عهد المساواة بين الرجل والمرأة، وفي عهد الساعة التي تحدّد وقت الصوم بدقة أكثر من شريعة الخيط الأبيض أو الأسود. وهل سترضى المدنية بالتيمّم بتراب طهور، بدل الوضوء بالماء؟ وتشريع قانوني، ﴿بجواب كلام العباد وأعمالهم، كما يصفه ابن عباس، ترجمان القرآن، هل هو من الإِعجاز في التشريع الدستوري لكل زمان ومكان؟

بحث خامس

مصادر التشريع الإسلامي

١ ـ المصدر الأول للتشريع الإسلامي هو القرآن.

وكان يجب أن يكون المصدر الوحيد، لو كان التشريع القرآني كاملاً شاملاً، يصلح لكل زمان ومكان، حتى يصح التحدّي بإِعجازه. لكن بما أن التشريع القرآني ناقص، لا يفي بحاجة الأمة والجماعة في تطورها عبر الزمان والمكان، أُلجئوا الى التفتيش له عن مصادر أخرى.

٢ ـ فالمصدر الثاني للتشريع الإسلامي، بعد القرآن، هو السُنّة الرسولية. وغالى بعض أهل السُنّة بصواب هذا المصدر الثاني فقالوا أحيانا بنسخ القرآن بالسنة. وتشريع في كتاب الله تنسخه سُنّة رسوله، هل هو من الإِعجاز في التشريع؟

ثم ان السُّنّة مبيّنة في الحديث: فهل الحديث مصدر صحيح موثوق لا شبهة عليه؟ قال النووي في شرح صحيح مسلم: ﴿قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلاّ بشرطهما فيها، ونزلت عن درجة ما التزماه. وقال ابن خلدون: إنني أعتقد صحة سند حديث، ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن، وإن وثّقوا رجاله. فرُبّ راوٍ يُوَثّق للاغترار بظاهر حاله، وهو سيء الباطن. ولو انتقدت الروايات، من جهة فحوى متنها، كما تُنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض.

وأهـل المدرسة الحديثة يكـادون يشكون في الحديث كله. يقول عبد الله السمّان ١٧ : ﴿واذا تركنا السيرة الى كتب الحديث ألفينا أنفسنا إزاء مشكلة معقّدة تجعل الباحث في حيرة لا تنتهي ولا تقف عند حد. ففي عهد النبي لم يُدوّن الحديث (وقد منع من تدوينه)، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، وذلك خشية أن يختلط الحديث بالقرآن. ولم يكد يتولّى الخليفة الثالث عثمان حتى بدأت تتولّد الخلافات السياسية، وظهر وضع آلاف الأحاديث ونسبتها الى النبي، لتكون مؤيدا لحزب سياسي، أو ناقضاً لحزب آخر، وانتهز اليهود والزنادقة فرصة هذه الخلافات التي تدثّرت بالدماء في معظم الأحايين، وراحوا يختلقون الأحاديث ليهدموا بها الإسلام ويُشغلوا العامة عن أصوله، لتنصرف الى شكلياته. كما تطوّع كثير من السذّج والبسطاء فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، ظنّاً منهم أن في هذا خدمة للدين؛ ولو عقلوا لأدركوا أنهم أساؤوا إلى الدين أكبر اساءَة... ولم يبدإِ التدوين إلاّ في عهد المأمون؛ وذلك بعد أن اختلط الحديث الصحيح في الحديث الكذب، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، كما يقول الدار قطني، أحد جامعي الحديث المعروفين.

لذلك قام الخلاف الأكبر بين السنة والشيعة على صحة الحديث، وعلى صحة اعتباره مصدراً للتشريع الإسلامي. فقال أهل السنة بأن مصدر التشريع الكتاب والسنة؛ وقالت الشيعة بأن الكتاب وحده مصدر الشريعة، وأنكروا السُنّة كمصدر للتشريع.

ومصدر مشبوه كالحديث في متنه، وسنده، ومصدره، هل يصح مصدراً للتشريع؟ وتشريع مبني على مصدر مشبوه، هل هو من الإِعجاز في التشريع؟

٣ ـ وتطورت الحياة الإسلامية، وتطورت معها الحاجة الى مزيد من التشريع لقيام مصالحها. وتلفتوا الى الكتاب والسنة، فلم يجدوا فيهما كل ما تحتاجه الأمة من تشريع. فلجأوا إلى مصدر ثالث للتشريع الإسلامي: الرأي، أي اتفاق أهل النظر في المصالح العامة، دون سواد الأمة، لأنه اجماع أهل العلم، في العلم.

وعن الأستاذ الأكبر، محمود شلتوت، شيخ الجامع الأزهر، في كتابه (العقيدة والشريعة)، ينقل ناقده ١٨ : ﴿ذكر فضيلة الأستاذ الأكبر عند الكلام عن الرأي ـ كمصدر للتشريع ـ أن عهد الرسول قد تركّز فيه مصدران للتشريع هما القرآن والسنة، وكان أصحابه من بعده يرجعون الى القرآن والسنة؛ فإن لم يجدوا حاجتهم بحثوا مستلهمين روحالشريعة. وكان أخذ الرأي بطريق الاستشارة مصدراً جديداً ظهر العمل به بعد وفاة الرسول، في ما لا نص فيه من كتاب أو سُنة، أو في ما فيه نص محتمل. وترجيح حجّية الرأي في التشريع الى تقرير القرآن مبدأ الشورى، وأمره بردّ المتنازع فيه إلى أولي الأمر؛ ثم بعد ذلك ثبوت إقرار النبي لأصحابه الذين كان يبعثهم الى الأقاليم على الاجتهاد والأخذ بالرأي.

وتشريع بحاجة ﴿الى الاجتهاد والأخذ بالرأي هل هو من الإِعجاز في التشريع؟

٤ ـ وهناك مصادر أخرى الجأتهم الحاجة الى استنباطها لإكمال مصادر التشريع الإسلامي. فهل الحاجة المستمرة، في تطور حياة الجماعة، الى استنباط مصادر أخرى للتشريع، غير المصدر المنزل، دليل على إِعجاز التشريع المنزل وكفايته؟ إن الاعتماد المتواتر على مصادر أخرى، غير الكتاب، في مصادر التشريع الإسلامي، لخير دليل على عدم كفاية التشريع المنزل: فكيف تكون الشريعة القرآنية معجزة للتحدي؟

بحث سادس

﴿أكثر الأحكام الإسلامية من النوع الاجتهادي

لكي يصح التحدي بشريعة كأنها معجزة، يجب أن تكون أحكامها من الشرع المنزل المحكم الذي لا مجال فيه لرأي أو اجتهاد.

١ ـ والتشريع القرآني بحاجة الى السنّة لبيانه؛ ﴿وقد تكفلت بذلك السُنة النبوية شأن كثير من الحدود والقواعد ١٩ . ويقول بعضهم: وقد تنسخ السُنة القرآن. وتشريع منزل بحاجة الى سنة الرسول، في حديث مشبوه، لبيانه، ليس من الإِعجاز في التشريع.

٢ ـ والتشريع القرآني، بعد الكتاب والسنة، بحاجة الى الرأي والاجتهاد لبيانه. وتشريع منزل يفتقر بعد الكتاب والسُنة الى الرأي والاجماع بالاجتهاد لبيانه، كمصدر ثالث لأحكامه، ليس بالتشريع الجامع المانع، الشامل الكامل، التشريع المعجز بذاته الذي يصح التحدي به.

٣ ـ فمصادر التشريع الإسلامي المتعدّدة تجعله تشريعاً اجتهاديّاً. إن الشيخ الأكبر؛ محمود شلتوت، شيخ الجامع الأزهر ﴿يقسم الحكم في الشريعة الى نوعين: حكم نص عليه القرآن والسنة نصّاً صريحاً لا يحتمل التأويل، ولا يحتمل الاجتهاد ـ وهو قليل؛ والنوع الآخر حكم لم يرد به قرآن ولا سُنة، أو ورد به أحدهما، ولم يكن الوارد به قطعيّاً فيه، بل محتملاً له ولغيره، وكان ذلك محلاًّ لاجتهاد الفقهاء والمشرّعين: فاجتهدوا فيه، وكان لكل مجتهد رأيه ووجهة نظره. وأكثر الأحكام الإسلامية من هذا النوع الاجتهادي. ٢٠

وتشريع أكثر الأحكام فيه من النوع الاجتهادي، هل يكون معجزة الشريعة الى يوم القيامة؟ وهل يصح أن نجعله، مع الشيخ أبي زهرة وغيره، معجزة الإِعجاز القرآني الكبرى؟ ألا يكفي القرآن إِعجاز نظمه وبيانه؟

٤ ـ ويرى الدكتور السنهوري ٢١ أن الفقه الإسلامي، المبني على الشرع الإسلامي، بحاجة الى تطوير ليصلح للعصر الذي نعيش فيه. قال: ﴿والهدف الذي نرمي إليه هو تطوير الفقه الإسلامي، وفقاً لصناعته، حتى نشتق منه قانوناً حديثاً يصلح للعصر الذي نعيش فيه. وليس القانون المصري أو القانون العراقي الجديد، إلاّ قانوناً مناسباً في الوقت الحاضر لمصر أو للعراق. والقانون النهائي الدائم لكل من مصر والعراق، بل ولجميع الدول العربية، إنما هو ﴿القانون المدني الذي نشتقه من الشريعة الإسلامية بعد أن يتم تطوّرها.

وشريعة بحاجة الى تطوير لتصلح للعصر الذي نعيش فيه ليست بمعجزة الشريعة. وتشريع أكثر الأحكام فيه من النوع الاجتهادي ليس من الإِعجاز في التشريع المنزل.

بحث سابع

تشريع يعتريه التبديل والمحو والإسقاط والنسخ

إن التشريع المنزل الذي يصلح للتحدي هو التشريع المحكم الذي ينزل مبتدئاً، ولا يعتريه تبديل ولا محو ولا اسقاط ولا نسخ.

١ ـ والتشريع القرآني يعتوره التبديل، بنص القرآن القاطع: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزّل ـ قالوا: إنما أنت مفترٍ! (النحل ١٠١). هذه الظاهرة من مكّة، وقد دامت الى وقت التشريع بالمدينة، كما يؤيدها مبدأ النسخ وواقعه (البقرة ١٠٦)، والى العرضة الأخيرة. وتشريع يعتوره تبديل في مدى عشر سنوات لا يكون معجزاً بذاته.

٢ ـ والتشريع القرآني يلحقه المحو، بنص القرآن القاطع: ﴿لكل أجل كتاب: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب (الرعد ٣٨ ـ ٣٩). وتنزيل بالتشريع، مثبت في أم الكتاب، أي أصله الذي لا يتغير منه شيء، كيف يلحق به المحو مثبتاً أو منزلاً؟ وتشريع يقتضي المحو بعد تنزيل، في مدى عشر سنوات، لا يكون معجزاً بذاته.

٣ ـ والتشريع القرآني آفته الاسقاط منه ٢٢ ، بعد تنزيله. بحسب الحديث المتواتر كان يجري اسقاط من القرآن في عرضاته السنوية على جبريل؛ وفي العرضة الأخيرة سقط منه منسوخ كثير رفعت تلاوته وأحكامه. وعند جمع القرآن ﴿ذهب منه قرآن كثير؛ ﴿قبل أن يغيّر عثمان المصاحف، على قول ابن عمر والسيدة عائشة ٢٣ . وتشريع يقتضي الاسقاط منه لتقويمه، في مدى عشر سنوات، لا يكون معجزاً بذاته.

٤ ـ والتشريع القرآني يعتريه النسخ في أحكامه (البقرة ١٠٦). وقد يقع النسخ فيه بين المدني والمكي؛ وفي المدني بين السورة والسورة، وفي السورة نفسها بين آية وآية، وأحياناً في الآية الواحدة. قال السيوطي ٢٤ : ﴿النسخ ممّا خصَّ الله به هذه الأمة. وقد وقع النسخ أثناء التنزيل. وفي العرضة الأخيرة للقرآن رُفع من المنسوخ كثير. ومع ذلك فقد احتوى مصحف علي كثيراً من المنسوخ، قضى عليه عثمان عند جمعه القرآن. وفي المصحف العثماني بقي ناسخ ومنسوخ تُؤلف فيه الكتب الى اليوم. وتشريع يعتريه النسخ في جميع أطواره لا يكون معجزاً بذاته.

وتشريع يتّصف بذاته بالتبديل والمحو والاسقاط والنسخ هل يكون من الإِعجاز في التشريع؟

بحث ثامن

تشريع يشوبه متشابه ويعوزه تفسير

للقرآن أسلوب مطّرد في بيانه، وهو التعميم في معرض التخصيص، والتخصيص في معرض التعميم. ومن أساليبه اطلاق الحكم مع قيده باستثناء أو سواه. ومن أساليبه اصدار الحكم عن الخاص الى العام مستمر التلقين، لمن كان بمنزلة الشخص المعين. وقد تصدر الأحكام فيه على ﴿رتبة متوسطة، دون السبب (المخصُوص وفوق التجرّد؛ فتلك ثلاثة أنواع. وقد يأتي الحكم العام تالياً للخاص في الرسم متراخياً عنه في النزول. لذلك قال بعضهم: لا يصح تفسير الكتاب إلا بعد معرفة ﴿أسباب النّزول.

ومعرفة (أسباب النّزول) لها فوائد ٢٥ : ﴿منها معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. ومنها تخصيص الحكم به، عند مَن يرى أن العبرة بخصوص السبب. ومنها أن اللفظ قد يكون عاماً ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عُرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته. ومنها الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال. قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تميمة: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبِّب... ومنها دفع توهم الحصر. ومنها معرفة اسم النازل فيه الآية، وتعيين المبهم فيها. واختلف أهل الأصول: هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب.

ومن الأحكام المتشابهة التي لا يُعرف حدّها إلاّ بسبب نزولها مثل قوله: ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا فظنها بعضهم مبيحة لشرب الخمر، وهي مقصورة على أناس قُتلوا في سبيل الله قبل تحريمها؛ ومثل قـوله: ﴿فأينما تولوا فثِمَّ وجه الله، فمدلول اللفظ يقتضي أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفراً ولا حضراً، وهو خلاف الاجماع، فلمّا عُرف سبب نزولها عُلِمَ أنها في نافلة السفر أو فيمن صلّى بالاجتهاد وبان له الخطأ، على اختلاف الروايات؛ ومثل قوله: ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله فإن ظاهر لفظها لا يقتضي أن السعي فرض، وقد ذهب بعضهم الى عدم فريضته تمسكاً بذلك؛ ولكن سبب نزولها يدل على فرضها، وهو أن الصحابة تأثّموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية، فنزلت...

وهكذا يظهر على كثير من أحكام القرآن تشابه لا يُرفع إلاّ بغيره من القرائن القرآنية أو من (أسباب النّزول). وتشريع يشوبه تشابه في لفظه هل هو من الإِعجاز في التشريع؟

بحث تاسع

من ميزات التشريع القرآني

للتشريع القرآني ميزات يختص بها، هي دلائل على مدى إِعجازه.

١ ـ ميزته الأولى: التخفيف في أحكام أهل الكتاب، وفي أحكام الجاهلية نفسها. بتشريع القرآن ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم... يُريد الله أن يخفِّف عنكم، وخُلق الانسان ضعيفاً (النساء ٢٦ و٢٨). من ذلك تحليل ﴿الرفث الى النساء ليلة الصيام (البقرة ١٨٧)، وكان محظوراً عند أهل الكتاب. ومن ذلك، في الصيام، العِدّة من أيام أُخر لمن كان مريضاً أو على سفر، إذ ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة ١٨٥)...

وقد يأتي التخفيف في أحكام الجاهلية نفسها، كالتي في مناسك الحج في إباحة التجارة. (البقرة ١٩٨)، أو في ما ﴿استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام عشرة أيام (البقرة ١٩٦) أو قبول جميع المواقف في مناسك الحج تألّفا لأصحابها كالسعي بين الصفا والمروة (البقرة ١٥٨)، أو العفو عن القصاص في القتلى، ﴿ذلك تخفيف من ربكم (البقرة ١٧٨).

ومبدأ التخفيف في الأحكام قد يطبقه القرآن على محرّماته، عند الضرورة، كقوله: ﴿إنما حُرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير... فمن اضطُرّ غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه (البقرة ١٧٣). ويطبّقه في الإيمان والتوحيد، بإظهار الشرك عند الحاجة: ﴿من كفر بالله، بعد إيمانه ـ إلاّ مَن أُكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان ـ ولكن مَن شرح بالكفر صدراً، فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم (النحل ١٠٦) فهذا المبدأ يلغي الاستشهاد الحق في سبيل الإيمان. وكان المبدأ الفقهي: الضرورات تبيح المحظورات.

وتشريع سمته التخفيف في أحكامه عن أمته، هل هو من الإِعجاز في التشريع لخلق خير أمة أخرجت للناس؟

٢ ـ ميزته الثانية: التسهيل في مداورة الأحكام بفرض التحلة والكفّارة، أو الفدية.

يقول في القسم: ﴿ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم (البقرة ٢٢٤)؛ ﴿واحفظوا أيمانكم (المائدة ٨٩)؛ ﴿ولا تتّخذوا إيمانكم دَخَلاً بينكم، فتزل قدم بعد ثبوتها... ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً (النحل ٩٤ و٩٥). ثم يقول: ﴿قد فرض الله لكم تحلّة إيمانكم (التحريم ٢)، وكان ذلك مقدَّمة لتحلة محمد من قسمه الى بعض أزواجه. كذلك: ﴿لا يُؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الإيمان؛ فكفارته: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتُهم، أو تحرير رقبته؛ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ـ ذلك كفّارة أيمانكم اذا حلفتم ـ واحفظوا أيمانكم ـ كذلك يُبيّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون (المائدة ٨٩).

وقد شرع الفدية في الصوم: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية: طعام مسكين (البقرة ١٨٤). قال البيضاوي: ﴿رُخص لهم في ذلك أوّل الأمر، لمّا أُمروا بالصوم، فاشتدَّ عليهم لأنهم لم يتعوّدوه ثم نُسخ... (وهناك قراءات أخرى للآية)، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانياً، وهو الرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده، وهم الشيوخ والعجائز، في الافطار والفدية، فيكون ثابتاً، وقد أُوّل به القراءَة المشهورة أي يصومونه جهدهم وطاقتهم. والفدية لمن كان مريضاً أو على سفر في الصيام لم تُنسخ (البقرة ١٨٤ ـ ١٨٥).

كذلك شرع الفدية في الحج بحلق الرأس للمضطرّ (البقرة ١٩٦).

ومتى وُضع مبدأ التحلة والكفّارة والفدية للتخلّص من أحكام الشريعة، جازت مداورتها لمن يريد ويهوى. فإذا جاز مداورة الشريعة بمبدأ الكفّارة أو الفدية فكيف تصير أخلاق المؤمن؟

٣ ـ ميزته الثالثة: رفع الحرج في الدين وشعائره وأحكامه. فكان هذا المبدأ: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج (الحج ٧٨). وطبّقه بالتيمّم بتراب طهور، بدل الوضوء بالماء (المائدة ٦). وطبّقه حتى في التظاهر بالكفر والشرك عند الضرورة، ﴿لمن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان (النحل ١٠٦). وكان النبي نفسه ﴿أسوة حسنة (الأحزاب ٢١) برفع القرآن الحرج عنه في حدود شريعة الزواج وقيودها. فقد ألغى شريعة التبنّي الجاهلية ـ وهي عالمية حتى اليوم ـ وأخذ محمد مطلقة متبنّاه زيد ﴿لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم... ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له (الأحزاب ٣٧ ـ ٣٨). وأحلّ له جميع قريباته، فوق نسائه، ﴿وامرأة مؤمنة، إن وهبت نفسها للنبي، إن أرد النبي أن يستنكحها، خالصة لك من دون المؤمنين: قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت إيمانهم. لكيلا يكون عليك حرج، وكان الله غفوراً رحيماً (الأحزاب ٥٠). ورفع عنه حدود الطلاق والعزل والعدل بين نسائه: ﴿ترجئ مَن تشاء، وتؤوي إليك مَن تشاء. ومن ابتغيت ممن عزلت، فلا جُناح عليك (الأحزاب ٥١).

وقد وصل رفع الحرج حتى في القرآن نفسه، فنزل: ﴿طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (طه ١ ـ ٢)؛ ﴿كتاب أنزل إليك، فلا يكن في صدرك حرج منه (الأعراف ٢). ورفع الحرج عن النبي في تنزيل القرآن يفسّر لنا بعض مظاهره من تبديل أو محو أو نسخ.

وقد استخلص الفقهاء من ذلك أن الحرج في الدين وأحكامه والشريعة وأحكامها مرفوع شرعاً، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات. إن التكليف بالشريعة يلازمه الحرج في تطبيقها. ومتى رُفع الحرج، بتقدير المكلَّف وقدرته، زالت حرمتها وقدسيّتها! ومتى كان الحرج في التكليف بالشريعة مرفوعاً شرعاً، ومتى كانت الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات، فعلى الشريعة وأحكامها السلام.

٤ ـ ميزته الرابعة: مبدأ الكَسْب في الإثم والخطيئة والسيئة

المبدأ في القرآن: ﴿بلى، مَن كسب سيئة، وأحاطت به خطيئته، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (البقرة ٨١)؛ واتقوا يوماً تُرجَعون فيه الى الله، ثم تُوفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون (البقرة ٢٨١). ويقول: ﴿ومن يكسب إثماً فإنما يكسِبه على نفسه، وكان الله عليماً حكيماً (النساء ١١١). مع ذلك فهو يقول: ﴿لا يكلَّف الله نفساً إلاّ وسعها: لها ما كَسَبَت، وعليها ما اكتسبت (البقرة ٢٨٦). فليس من كسب أو اكتساب في التكليف إلاّ على وُسْع الانسان. وهذا تقدير ذاتي قد يذهب بالتكليف ذاته.

يقول أيضاً: ﴿وذروا ظاهر الإثم وباطنه: إن الذين يكسبون الإثم، سيُجزون بما كانوا يقترفون (الأنعام ١٢٠). وبناءً عليه يقول: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، والله غفور حليم (البقرة ٢٢٥)؛ ويقول ﴿إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله (البقرة ٢٨٤) أي يشرع المحاسبة على الوسوسة. ثم ينسخها بقوله: ﴿لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعهاً (البقرة ٢٨٦). إن باطن الاثم كالوسوسة بالشر إخفاء له نُحاسب عليه، فكيف لا يكلف الله نفساً إلا وسعها بالكسب العملي الظاهر؟

ثم ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم (البقرة ٢٢٥). كأن اللغو باسم الله العظيم لا كسب فيه للإثم! لذلك درجت العادة بالقسم باسم الله (بدون كسر الهاء) كأنه لا إثم فيه. ولا تمنع اليمين من الاصلاح بين الناس عن طريق الكذب الظاهر (البقرة ٢٢٥)؛ أو عمل ما هو أفضل من الأمور المقسوم عليها ﴿كقوله عليه السلام لابن سمرة: اذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيراً منها فأتِ الذي هو خير، وكفّر عن يمينك (البيضاوي).

فالكسب للإثم هو طوراً ﴿ظاهر الاثم وباطنه؛ وهو طوراً ﴿بما كسبت قلوبكم؛ وهو طوراً مَن ﴿أحاطت به خطيئته من ظاهر العمل. فالكسب في الإثم متشابه، وهذا ممّا يجعل درء حدود الأحكام سهلا. وعلى كل حال، يصح درء الحدود بالشبهات. وتشريع لا تتضح فيه معالم الشر والاثم والذنب هل هو من الإِعجاز في التشريع؟

٥ ـ ميزته الخامسة: استباحة ﴿اللمم في الإثم والفواحش

من صفات المحسنين، في القرآن، استباحة اللمم في الآثام والفواحش: ﴿ولله السماوات وما في الأرض، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلاّ اللمم: إن ربك واسع المغفرة (النجم ٣١ ـ ٣٢). فصغائر الاثم واللمم في الفواحش لا تمنع الحسنى لدى الله.

فالمحسنون، في عرْف القرآن، هم ﴿الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش (الشورى ٣٧).

والمبدأ في الجزاء: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه، نكفّر عنكم سيئاتكم، وندخلكم مدخلاً كريماً (النساء ٣١)؛ مع أن كتاب الحساب في يوم الدين لا يترك صغيرة ولا كبيرة: ﴿ووضع الكتاب، فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه، ويقولون: يا ويلتنا، ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحداً (الكهف ٤٩)؛ ومع أن ﴿الحسنات يذهبن السيئات (هود ١١٤).

ومبدأ آخر في الجزاء: إن عباد الرحمان ﴿الذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر، ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، ولا يزنون ـ ومَن يفعل ذلك يلق آثاماً، يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً، إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحاً، فأولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً (الفرقان ٦٨ ـ ٧٠). فعباد الرحمان جزاؤهم مضاعف، وتوبتهم تبدِّل سيئاتهم حسنات.

فالخلْق الحسن، والثواب الحسن، في اجتناب ﴿كبائر الاثم والفواحش. أمّا صغائر الآثام، واللمم في الفواحش، فلا عبرة له في الجزاء. وتشريع يستبيح صغائر الآثام، واللمم في الفواحش، هل هو من الإِعجاز في التشريع الديني والخلقي؟ وهل يعطي ﴿خير أمة أُخرجت للناس أسوة حسنة للعالمين؟

٦ ـ ميزته السادسة: الشرك هو الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له

إن الشرك اثم عظيم: ﴿إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ومَن يُشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً (النساء ٤٨). وإن الشرك ضلال بعيد: ﴿إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومَن يُشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً (النساء ١١٦). وهذا التعليم ينسبه القرآن للمسيح: ﴿وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم. إنه مَن يُشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار (المائدة ٧٢).

لا شك أن الشرك إثم عظيم وضلال بعيد ومأواه النار. ولكن مَن خُلق مشركاً، وهو قانع من وجدانه أنه على حق، فهل يكون مصيره النار؟ ألا يقول: ﴿وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أُمّها رسولاً فيتلو عليهم آياتنا! وما كنّا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون (القصص ٥٩)، ﴿ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، وأهلها غافلون (الأنعام ١٣١) فتلك الأشراط الثلاثة للإهلاك تجعل المشرك غير مسؤول عن شركه، فلا يُحاسب عليه. إن الشرك المسؤول هو الشرك الظالم الذي يعرف نفسه وظلمه. فليس جميع المشركين الغافلين وغير الظالمين، مأواهم النار! وليس الشرك الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له. إن صاحب الكبيرة غير التائب لا مغفرة له أيضاً؛ وإن اختلفوا هل هو في النهاية من أهل الجنة أم مِن أهل النار، أم في منزلة بين المنزلتين. واستنتاجهم من آية الشرك (النساء ٤٨) أنه لا يخلّد في النار مؤمن، ولا ينجو من النار مشرك، ليس بمنطق ولا صواب. والقول: ﴿لا يخلّد في النّار مؤمن هو باب فساد وإفساد للمؤمن. والقول الحق قوله: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين: مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة ٦٢). فشرط النجاة من النار ليس الإيمان وحده، بل الإيمان المقرون بالعمل الصالح. فإذا كان الشرك هو الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له، وكان المسلم صاحب الكبيرة لا يُخلّد في النار، جاز له أن يستبيح أحكام الشريعة كلها: فهل هذا من الإِعجاز في التنزيل والتشريع؟

تلك هي ميزات التشريع القرآني الذاتية. ونتساءَل أين فيها معجزة الشريعة التي يصح بها تحدي العالمين؟ فهل التخفيف في أحكام أهل الكتاب والجاهلية والقرآن نفسه؛ هل التسهيل بمداورة أحكام القرآن بالتحلة والكفّارة والفدية؛ وهل رفع الحرج في أحكام الدين والشريعة؛ وهل حصر الكسب في الإثم والخطيئة والسيئة بالعمل الظاهر من دون المحاسبة على السوء من فكر أو شهوة أو رغبة لم تقترن بعمل؛ وهل استباحة الصغائر في الآثام واللمم في الفواحش؛ وهل اقتصار الاثم الوحيد الذي لا مغفرة له على الشرك وحده من دون سائر الكبائر، هي كلها من دلائل الإِعجاز في التشريع؟

بحث عاشر

التشريع القرآني هداية الى التشريع الكتابي

إن التشريع القرآني هداية الى التشريع الكتابي، وذلك بنص القرآن القاطع: ﴿يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليكم حكيم (النساء ٢٦). إن صراحة هذا التصريح تدلنا على سعة مدلول التحدي في قوله: ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتّبعه، ان كنتم صادقين (القصص ٤٩). إنه يتحدى المشركين بهدى الكتاب والقرآن معاً أي بعقيدتهما وشريعتهما. فالتحدي بالشريعة لا ينفرد به القرآن حتى يكون معجزة له، إنما هو ميزة الكتاب والقرآن معاً. وكما أن القرآن تابع في هداه لكتاب الإمام، فهو تابع له في الشريعة أيضاً: فالإِعجاز في الشريعة والسُنن يكون في الإمام المتبوع قبل التابع. بذلك تزول عن القرآن صفة التحدي بشريعته كمعجزة له.

والقرآن في الدين كله، سواء العقيدة والشريعة والصوفية، في سننه وأحكامه، إنما يشرع للعرب دين موسى وعيسى معاً، أمةً واحدةً: شرع لكم من الدين... ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه (الشورى ١٣). فدين الكتاب، دين موسى وعيسى معاً، هو الدين للعرب: ﴿تلك أمتكم أمة واحدة (الأنبياء ٩٢؛ المؤمنون ٥٢) في وحدة الأمة والدين والشريعة. فلا ميزة للقرآن وأهله بها ينفردون، وبها يتحدّون. فإن الأمر، منذ رؤيا غار حرّاء، جاءَ محمداً أن يقتدي بهداهم: أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة... أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدِهْ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠) في العقيدة والشريعة، في الأحكام والسنن. فالإِعجاز في الهدى، من عقيدة وشريعة، الذي به يقتدي في الدعوة القرآنية. ﴿والذين آتيناهم الكتاب والحكم هم الذين يقيمون ﴿الكتاب والحكمة معاً، دين موسى وعيسى معاً، النصارى من بني إسرائيل، الذين يختصّهم باسم ﴿مسلمين، ويُؤمر بأن ينضم اليهم ويتلو قرآن الكتاب على طريقتهم: ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن (النحل ٩١ ـ ٩٢). فالإِعجاز في العقيدة والشريعة هـو عند هؤلاء ﴿المسلمين: فمـا محمد سوى تلميذ لهم في ﴿الإسلام. وهؤلاء ﴿المسلمون هم ﴿أولو العلم المقسطون الذين يشهدون مع الله وملائكته ﴿ان الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩). فشهادتهم من شهادة الله وملائكته. والقرآن يشهد بشهادة هؤلاء ﴿الراسخين في العلم بالإسلام في عقيدته وشريعته. فالإِعجاز الحق في الشريعة، كما في العقيدة والهدى، هو عند هؤلاء ﴿المسلمين. لذلك فالتشريع القرآني هداية الى التشريع الكتابي. ومَن كانت هدايته في الحقيقة والشريعة من هدى غيره، فالإِعجاز الحق الذي به يتحدى هو عند غيره: ﴿ليهديكم سُنَنَ الذين من قبلكم.

خاتمة

الشبهات التشريعية ودلائل الإِعجاز

وهكذا فتشريع يهتدي بشريعة الكتاب وأهله، من أولي العلم المقسطين؛ تشريع ميزاته الذاتية التخفيف والتسهيل ورفع الحرج في الدين؛ تشريع يشوبه متشابه ويعوزه تفسير؛ تشريع يعتريه التبديل والمحو الاسقاط والنسخ في أحكامه؛ تشريع أكثر الأحكام فيه من النوع الاجتهادي؛ تشريع منزل لا يفي بالحاجة في تطور الجماعة، إلاّ بمصادر أخرى تفصّله؛ تشريع قانوني، ابن بيئته وابن ساعته، أكثر منه دستوريّاً يتخطّى ظروف الزمان والمكان ليصلح لكل عصر وأمة؛ تشريع أحكامه المحكمة جزء ضئيل من القرآن فلا تصح دليلاً على إِعجاز القرآن كله؛ تشريع نزل بعد سكوت القرآن عن التحدي بإِعجازه، فلا تحدّي به في القرآن؛ هذا التشريع هل هو من الإِعجاز في الشريعة؟

الجزء الثالث

الإِعجاز في العلم

﴿بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم (العنكبوت ٤٩)

﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنّه الحقّ من ربّك (الحج ٥٤)

﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً (الإسراء ٨٥)

توطئة

تعبير ﴿العلم في لغة القرآن واصطلاحه

يرد تعبير ﴿العلم اسـماً وفعلاً مع مشتقاتهمـا كثيراً في القرآن. ويظهر بين هـذا ﴿العلم، و﴿أولي العلم و﴿الراسخين في العلم  ـ وبين القرآن صلة متواصلة متأصلة كأنه يستشهد بهم، ويستعلي بهم، ويتحدّى بهم، كما في قوله: ﴿بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون (العنكبوت ٤٩)؛ ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك، فيؤمنوا به، فتخبت له قلوبهم (الحج ٥٤)؛ ﴿والراسخون في العلم يقولون: آمنا، كلٌ من عند ربنا (آل عمران ٧).

وكأن أولي العلم يشهدون مع القرآن ﴿إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٩) فظن فريق أول أن القرآن، كما هو كتاب دين، هو أيضاً كتاب علم. وأفرط بعضهم في الظن فرأوا فيه جميع علوم الأولين والآخرين. وانتهي الأمر ببعضهم فقالوا بإِعجاز القرآن في العلم، فقد سبق القرن العشرين الى الكشف عن علم الذرة، لأن كلمة الذرة اللغوية وردت فيه. وقام فريق آخر منذ الشاطبي يردعون الناس عن ذلك الاسراف، وينادون بأن القرآن كتاب دين لا كتاب علم. وقام فريق ثالث، مثل عبد الكريم الخطيب في (إِعجاز القرآن) يقف في منزلة بين المنزلتين، فيرى ﴿ان العلم هو الذي يخدم قضية القرآن، إذ هو الذي يكثر له من القوى المبصرة التي ترى ما فيه من حِكم وأسرار... وفي هذا يتجلّى وجه جديد من وجوه الإِعجاز في القرآن، وهو خلوده على الزمن، مع احتفاظه بمكانه من السمو والهيمنة على كل ما تبلغه العقول من مدركات، وما تلده الحياة من أسرار (٢٧:١).

وهذا الخبط كله فيما بينهم قائم على سوء فهم التعبير القرآني: ﴿العلم و﴿أولي العلم. انهم يفهمونه على حرف اللغة، وهو اصطلاح قرآني ذو مدلول خاص. واصطلاح القرآن لتعابير ﴿العلم و﴿أولي العلم، وموضوع صلتهم بالقرآن، يجعل صلة القرآن بالعلم، بحسب حرفه اللغوي والعلمي، لا وجود لها؛ ويجعل ما قالوه من إِعجاز القرآن في العلم من دون أساس: ﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً (الإسراء ٨٥). فالقرآن كتاب دين، لا كتاب علم.

بحث أوّل

القرآن كتاب دين، لا كتاب علم ﴿الكونيات

إن تعابير ﴿العلم، وتصاريح القرآن: ﴿ما فرّطنا في الكتاب من شيء، ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء، كلها جعلت بعض القوم يرون في ﴿الكونيات القرآنية معجزة علميّة.

أوّلاً: التطرّف قديماً وحديثاً

١ ـ عقد السيوطي، آخر المحققين القدماء، فصلا من (الإتقان ١٢٥:٢) ﴿في العلوم المستنبطة من القرآن، حيث يجعلونه موسوعة العلوم الحاضرة والماضية والمستقبلة، من لغوية وعلمية وفلسفية. ونقل عن الطبري قوله: ﴿وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء. أما أنواع العلوم، فليس منها باب، ولا مسألة هي أصل، إلاّ وفي القرآن ما يدل عليها. وفيه عجائب المخلوقات، وملكوت السماوات والأرض، وما في الأفق الأعلى، وتحت الثرى، وبدء الخلق... وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبْر والمقابلة والنجامة وغير ذلك... وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء... حتى لقد قال قائل: إن علوم القرآن خمسون وأربعماية وسبعة آلاف علم. أو سبعون ألف علم على عدد كَلِم القرآن مضروبة بأربعة إذ لكل كلمة فيه ظهر وبطن وحد ومطلع. وقال قائل: لكل آية ستون ألف فهم. حتى قال ابن عباس: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله.

٢ ـ وقد زاد بعض أهل العصر على تلك الخوارق والمخاريق: ﴿أما بعد فيقول عبد ربه تعالى خادم الكتاب والسنة، محمد العرب العزّوزي ٢٦ : إن أوسع دائرة للمعارف تناولتها البشر القرآن الكريم. والسيد عفيف عبد الفتاح طبّارة، في كتابه (روح الدين الإسلامي) يعدّد ﴿معجزات القرآن العلمية، ويجد في بعض آياته النظريات العلمية الحديثة. والسيد عبد الرزاق نوفل، في كتابه (القرآن والعلم الحديث) يرى فيه: أسرار علم النفس، وأسرار علم الفيزياء الطبيعية، وأسرار نظرية اينشتاين في النسبية، وأسرار علم الوراثة، وأسرار علم الحياة، وأسرار العالم غير المنظور في قوله في ٧٣ آية ﴿رب العالمين، كقوله: ﴿وقد سبق القرآن علم الذرة وتفجيرها كما قال فيها: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس، هذا عذاب أليم... وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا: سحاب مركوم). فقد وضعت سورة الدخان تفجير الذرة ومفعولها قبل ١٤٠٠ سنة ونيف. وقوله أيضاً: ﴿وأهم حدث في القرن العشرين، إن لم يكن في حياة الأرض، هو الأقمار الصناعيّة التي تنبأ بها القرآن الكريم في سورة النمل (٨٢): ﴿واذا وقع القول عليهم، أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.

ثانياً: الاعتدال قديماً وحديثاً

القرآن مثل الكتاب والإنجيل، كتاب دين، لا كتاب علم. فهو صريح كل الصراحة في اقتصار وحيه على الدين: ﴿قلْ: إنما يوحى إليَّ إنما إلهكم اله واحد، فهل أنتم مسلمون؟ (الأنبياء ١٠٨). فليس من وحي في القرآن سوى التوحيد وأحكام الدين والشريعة: ﴿إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله! (سبأ ٤٦). ويركّز دعوته كلها على حصر الوحي القرآني في التوحيد وعقيدته وشريعته: ﴿قل: إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليَّ أنما الهكم اله واحد، فاستقيموا إليه واستغفروه (فصلت ٦).

١ ـ وقديماً رأى ذلك بعض العلماء، مثل الإمام الشاطبي ٢٧ الغرناطي، قال: ﴿إن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يُذكر للمتقدمين والمتأخرين، من علوم الطبيعيات، والتعاليم ـ أي العلوم الرياضية ـ والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأسبابها. ﴿وهذا اذا عرضناه على ما تقدم (من أن القرآن إنما خاطب العرب بما كان واقعاً في حياتهم)، لم يصح. والى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه، وما أودع فيه. ولم يبلغنا أنه تكلّم أحد منهم في شيء من هذا المدّعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة... ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدل على أصل المسألة... إلاّ أن ذلك لم يكن، فدلّ على أنه غير موجود عندهم... وذلك دليل على أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير شيءٍ ممّا زعموا. نعم، تضمّن علوماً هي من جنس علوم العرب، أو ما يُبنى على معهودها.

٢ ـ وحديثاً أبدى بعض العلماء رأيهم كذلك:

يقول عبد المتعال الصعيدي ٢٨ في مقاصد القرآن: ﴿مقاصد القرآن لا تخرج عن الوظيفة الدينية للقرآن، لأنه نزل لتشريع العقائد والأحكام. فيجب أن يقف عند حدودها. فلا يُقصد منه غير هذا من بيان مسائل التاريخ أو الطب أو غيرها من العلوم، لأنه لم ينزل لغرض من هذه الأغراض. وإنما نزل للأغراض السابقة التي لا سبيل الى معرفتها إلا بالوحي. أما هذه الأغراض العلمية فإنها تُعرف بالعقل، ولا تتوقف معرفتها على الوحي. فلا يصح أن يخلط بينها وبين الأغراض السابقة في كتاب ديني كالقرآن أو غيره.

والأستاذ دروزة ٢٩ يرى أن ﴿الكونيات في القرآن هي من المتشابه فيه، لا من إِعجازه، واستخراج النظريات العلمية منها إنما هو تمحّل لا يليق بقدسية القرآن. قال: ﴿لعلَّ في تعبير الأوتاد عن الجبال، والسقف المبني عن السماء، والمصابيح المضيئة التي زينت بها السماء عن النجوم، وجريان الشمس ومنازل القمر، والسراج الوهّاج للأولى، والمصباح المنير للثاني، وفي ذكر انزال الماء من السماء، وتسيير السحاب وتصريف الرياح، وارسال البرق والرعد والصواعق، وإثبات مختلف الزرع والأشجار، وتسخير الدواب والأنعام، وتسيير البحار والأنهار والفلك، وجعل الأرض بساطاً، وتصويرها مركزاً للكون، والانسان قطباً للأرض، حيث سخّر له كل ما في السماوات والأرض، وسوّاه الله بيده، ونفخ فيه من روحه... ما جاءَ متّسقاً مع مشاهد ومدركات مختلف فئات الناس الذين يوجه اليهم الكلام. وان ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه قد استهدف العظة والتدعيم دون أن ينطوي على قصد تعزيز ماهية الكون، وأطوار الخلق والتكوين ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنيّة... وهذه النقطة متصلة بالمبدأ العام الذي ما فتئنا نقرّره من أن القرآن خاطب الناس بما يتّسق في أذهانهم إجمالاً من صور ومعارف، لما يكون من قوة أثر الخطاب فيهم بمثل هذا الأسلوب. وملاحظة ذلك جوهرية جداً، لأنها تحول دون التكلّف والتجوّز والتخمين، ومحاولة استخراج النظريات العلمية والفنّية، في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منهـا، والتمحّل والتوفيق والتطبيق، ممّا يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته.

فالقرآن كتاب دين ـ وكفاه ذلك فخراً ـ لا كتاب علم. ومن انتهاك حرمته، جعله كتاب علم، والكلام فيه عن الإِعجاز في العلم.

بحث ثان

﴿العلم و﴿أولو العلم في اصطلاح القرآن

إن القرآن يأخذ اسم ﴿العلم وفعل ﴿علم ومشتقاتهما، أحيانا بحسب حرف اللغة؛ ولكن أحياناً بحسب اصطلاح خاص يتّضح من القرائن. وهذا الاصطلاح الخاص هو الذي غفل عنه القوم في صلة ﴿العلم والذي يعلمون بالقرآن؛ وبنوا عليه نظريات لا أساس لها في القرآن.

إن الاصطلاح ﴿أولي العلم مرادف لأهل الكتاب الذين كانوا يسمّون المشركين الذين لا كتاب لهم، وليس عندهم ﴿العلم المنزل: ﴿الذين لا يعلمون، فهم أهل الجهل والجاهلية، لا بالعلم المعروف والمعارف البشرية، بل بالعلم المنزل في الكتاب.

في خطاب بولس الرسول في جامعة أثينا يقول: ﴿ولقد أغضى الله عن أزمنة الجاهلية وها هو الآن ينذر جميع الناس، في كل مكان، أن يتوبوا؛ لأنه قد حدّد يوماً سيدين فيه المسكونه بالعدل، بذلك الإنسان الـذي عيّنه، مقدّماً للجميع ضمانة بإقامته من بين الأموات (سفر الاعمال ٣٠:١٧ ـ ٣١).

وانتقل تعبير ﴿الجاهلية الى القرآن ومنه إلى الأدب العربي: ﴿يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية (آل عمران ١٥٤)؛ ﴿أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون (المائدة ٥٠)؛ ﴿وقرْنَ في بيونكن، ولا تبرّجْن تبرّج الجاهلية الأولى (الأحزاب ٣٣)؛ ﴿إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية (الفتح ٢٦). فهو يقرن الكفر بالجاهلية. ويقابل بين أهل الكتاب ﴿الذين يعلمون، والمشركين ﴿الذين لا يعلمون: ﴿وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء! وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء! وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم... وقال الذين لا يعلمون: لولا يكلمنا الله أو تآتينا آية؟ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم: تشابهت قلوبهم! (البقرة ١١٣ و١١٨). فالنص صريح بأن ﴿الذين لا يعلمون كناية عن المشركين؛ وبالعكس ﴿فالذين يعلمون أو ﴿أولو العلم كناية عن أهل الكتاب، كما جاء في الآية: ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر ٩). وهو اصطلاح قرآني للمقابلة بين أهل الكتاب ﴿الذين يعلمون والمشركين ﴿الذين لا يعلمون.

والقرآن يستشهد ﴿بالذين يعلمون، ويستعلي على المشركين بهؤلاء ﴿العلماء بكتاب الله، كما في قوله: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر ٢٨) أي ﴿مَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣).

هل كان في الحجاز قبل الإسلام علماء بالطبيعيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وسائر العلوم الطبيعية، حتى يخاطبهم القرآن ويستشهد بهم، ويستعلي بهم، ويكون معهم ﴿أمة واحدة في الدعوة القرآنية؟

إن ﴿الذين أوتوا العلم في اصطلاحه المتواتر كناية عن أهل الكتاب، كما في قوله: ﴿قلْ: آمنوا به أو لا تؤمنوا؛ إن الذين أوتوا العلم من قبله، إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سُجّدًا (الإسراء ١٠٧). فالعلم على الإطلاق، العلم المنزل، هو عند أهل الكتاب؛ ومعهم في القرآن، الـذي ﴿هو آيات بيّنات في صدور الـذين أوتوا العلـم (العنكبوت ٤٩). لذلك ﴿يرى الذين أوتوا العلم الـذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد (سبأ ٦). فالقرآن يستشهد بطائفة قائمة على صحة تنزيل القرآن ودعوته.

والقرآن يقسم أولي العلم الى طائفتين: اليهود أولي العلم الظالمين، والنصارى من بني إسرائيل أولي العلم المقسطين أو المحسنين. وقد تأتي صفتهم صراحةً أو ضمناً في القرائن اللفظية أو المعنوية. والتقسيم والصفة ظاهران في قوله: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ـ إلاّ الذين ظلموا منهم (العنكبوت ٤٦).

قبل الإنجيل، ﴿الذين أوتوا العلم هم أهل الكتاب على العموم: ﴿إن قارون كان من قوم موسى... وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير (القصص ٧٦ و٨٠). وظلوا بعد الإنجيل حتى القرآن كذلك على العموم، كما في قوله بحق اليهود: ﴿ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك، قالوا للذين أُوتوا العلم ماذا قال آنفاً (محمد ١٦). ولكن تعبير ﴿أولي العلم يخصّه بالنصارى من بني إسرائيل الذين هم ﴿أمة واحدة مع محمد. إنه يميّزهم، في خطاب إلقاء الشيطان في الوحي، من ﴿الذين في قلوبهم مرض (المنافقين) والقاسية قلوبهم (المشركين)، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (اليهود). وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك، فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاد الذين آمنوا (جماعة محمد من العرب) الى صراط مستقيم (الحج ٥٣ ـ ٥٤). فهؤلاء ﴿الذين أوتوا العلم، النصارى من بني إسرائيل، هم الذين يشهدون للقرآن، ويستشهد بهم النبي على الدوام: ﴿وقال الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قل: كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣). وشهادتهم تدوم الى يوم الدين: ﴿ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول: أين شركائي الذين كنتم تشاقّون فيهم؟ قال الذين أوتوا العلم: إنّ الخزي اليوم والسوء على الكافرين (النحل ٢٧). فتعبير ﴿الذين أوتوا العلم أو ﴿أولي العلم عند الثناء والاستشهاد، هو مخصوص بالنصارى من بني إسرائيل.

وقد يقترن التعبير بصفة تميّزهم عن اليهود، أولي العلم الذين ﴿اختلفوا من بعد ما جاءَهم العلم، بغياً بينهم ـ بالمسيح ثم بمحمد. فهم أهل العلم والإيمان: ﴿وقال الذين أوتوا العلم والإيمان (للمجرمين): لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنّكم كنتم لا تعلمون (الروم ٥٦). وهم الراسخون في العلم: ﴿لكن الراسخون في العلم منهم (من أهل الكتاب) والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك (النساء ١٦٢). وهـؤلاء ﴿الراسخون في العلم يؤمنون بالقرآن، ويؤمنون بالمتشابه فيه كمـا بالمحـكم: ﴿والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كلٌ من عند ربنا (آل عمران ٧). فهو يضع في منزلة واحدة، كأمة واحدة، ﴿الذين آمنوا من العرب، ﴿والذين أوتوا العلم كقوله: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم، درجات (المجادلة ١١)؛ لاحظ التمييز والعطف والجمع، فهم أمة واحدة (الأنبياء ٩٢؛ المؤمنون ٥٢).

وهم خصوصاً أولو العلم المقسطون الذين يشهدون مع الله والملائكة ـ والقرآن يدعو بشهادتهم ـ أن الدين عند الله الإسلام: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم ـ أن الدين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب (اليهود) إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم (آل عمران ١٨ ـ ١٩). لذلك فاليهود الذين كانوا ﴿يقتلون النبيّين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط: فبشرهم بعذاب أليم (٢١).

وهذا هو القول الفصل، في هذا الفصل: إن ﴿أولي العلم قائماً بالقسط هم النصارى من بني إسرائيل. وهم يدعون الى الإسلام قبل محمد (الحج ٧٨)، والقرآن يدعوبدعوتهم الى الإسلام، ويشهد بشهادتهم ﴿أن الدين عند الله الإسلام. هذا هو ﴿علم القرآن كله.

والنتيجة الثـانية أن ﴿العلم في القرآن هـو العلـم المنزل على الإطلاق، والعـلم ﴿النصراني على التخصيص الذي جاءَ به المسيح في الإنجيل، فاختلف فيه اليهود من أهل الكتاب: ﴿وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءَهم العلم (١٩:٣؛ ١٤:٤٢؛ ١٧:٤٥). وهـذا ﴿العلم الإنجيلي ﴿النصراني هو الذي وصل الى محمد في القرآن: ﴿بعد الذي جاءَك من العلم (البقرة ١٢٠)، ﴿من بعد ما جاءَك من العلم (البقرة ١٤٥؛ آل عمران ٦١)، ﴿بعد ما جاءَك من العلم (الرعد ٣٧).

وبعلم الإنجيل، وهدى الكتاب يجادل القرآن المشركين: ﴿ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان ٢٠؛ الحج ٨). أما محمد فهو يجادل في الله بعلم وهدى الكتاب المنير، ويتحداهم بالكتاب والعلم المنزل: ﴿قل: أرأيتم ما تدعون من دون الله؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض، أم لهم شرك في السماوات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا، أو إثارة من علم، إن كنتم صادقين (الأحقاف ٤). فالعلم الحق هو العلم المنزل في الإنجيل، وينادي به النصارى من بني إسرائيل.

وهكذا، ففي اصطلاح القرآن، إن ﴿العلم الذي ينادي به هو علم الكتاب، ﴿ومَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣). فليس القرآن اذن معجزة في علم المعارف البشرية. وليست هي من مقاصد القرآن. إنهم يقولون بمعجزة لا أساس لها في القرآن.

والإِعجاز في ﴿العلم الذي يتحدّى به القرآن هو الإِعجاز في ﴿علم الكتاب الذي هو مع ﴿مَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣)، مع ﴿الراسخين في العلم (آل عمران ٧؛ النساء ١٦٢) مع ﴿الذين أوتوا العلم من قبله (الإسراء ١٠٧)، مع ﴿الذين أوتوا العلم والإيمان (الروم ٥٦)؛ يقول: ﴿فبهداهم اقتدِ (الأنعام ٩٠)، ﴿وأُمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن معهم. (النمل ٩١ ـ ٩٢).

إن الإِعجاز في العلم هو إِعجاز ﴿علم الكتاب.

بحث ثالث

﴿الكونيّات القرآنية من متشابه القرآن

لقد ثبت لنا، في البحث السابق، أن الإِعجاز القرآني في ﴿العلم مردود شكلاً ولفظاً، لأن ﴿العلم الذي يذكر، ويتحدّى به، هو علم ﴿أولي العلم، وهم في اصطلاحه المتواتر النصارى من بني إسرائيل.

ونقول أيضـاً: إن الإِعجـاز القرآني في ﴿العلـم مردود أيضاً موضوعاً لأن ﴿الكونيات القرآنية هي من متشابه القرآن، فلا تصح معجزة للتحدّي. وكون هذه ﴿الكونيات أو العلوم الكونية في القرآن، هي من متشابه القرآن، أنّ أحداً لم يذكرها في المحكم منه. قال السيوطي في (الإتقان ٢:٢): ﴿وقد اختلف في المحكم والمتشابه: ﴿عن ابن عباس، قال: المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه؛ ما يؤمن به ويعمل به. والمتشابهات منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه: ما يؤمَن به ولا يُعمل به. وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد. والمتشابه القصص والأمثال. وعن مجاهد: المحكمات ما فيه الحلال والحرام. وما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضاً. وعن الربيع: المحكمات هي أوامره الزاجرة. وهكذا فالمحكمات من آيات القرآن هي الأحكام المحكمة في شريعته. وبما أن ﴿الكونيات القرآنية أي العلوم الكونية فيه، ليست من شريعته ولا من أحكامها المحكمة، ولا من محكم التنزيل فيه، بل من متشابه القرآن، فلا يصح التحدي بها كعلم منزل في القرآن.

والتحدّي بها قد يرتد على القرآن نفسه: فإن تصوير الأرض مركزاً للكون وجعل الأرض بساطاً، بحسب نظرية الأقدمين التي جاءَ عليها القرآن، يُخرجه من دائرة العلم المعروف. ﴿وأن ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه قد استهدف العظة والتدعيم، دون أن ينطوي على قصد تعزيز ماهية الكون وأطوار الخلق والتكوين ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنية... وملاحظة ذلك جوهرية جداً، لأنها تحول دون التكلّف والتجوز والتخمين، ومحاولة استخراج النظريات العلمية والفنية في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منها، والتمحّل والتوفيق والتطبيق، ممّا يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته ٣٠ .

فليس في ﴿الكونيات القرآنية من نظريات علمية وفنية يصح القول بها. فلا يجوز بحالٍ التحدي بإِعجاز العلم في القرآن، لأنه ليس من أغراضه، ولا من أعراضه.

بحث رابع

﴿العلم الوحيد في القرآن هو ﴿علم الكتاب

ظل القرآن يستشهد طول العهد بمكّة بمن عنده علم الكتاب: ﴿ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قلْ: كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣). فهو يكتفي بالشهادة على صحة رسالته وصحة دعوته بشهادة مَن عنده علم الكتاب؛ لذلك يسميهم ﴿أولي العلم فهم أهل ﴿العلم من دون العالمين. وهم ﴿الذين أوتوا العلم من قبله (الإسراء ١٠٧): ﴿فالعلم على الإطلاق هو علمهم ـ لاحظ التعريف والإطلاق في تعبيره: ﴿العلم. فهذا هو ﴿العلم الوحيد الذي يذكره القرآن، وبه يستشهد، وبه يتحدى: ﴿قلْ: آمنوا به أو لا تؤمنوا: إن الذين أوتوا العلم من قبله، إذا يُتلى عليهم، يخرّون للأذقان سجداً (الإسراء ١٠٧). فيكفيه إيمانهم وتكفيه شهادتهم.

وشهادتهم للاسلام من شهادة الله وملائكته، والقرآن كله يشهد بشهادتهم ﴿أن الدين عند الله الإسلام؛ بهذه الشهادة هم ﴿أولو العلم قائماً بالقسط (آل عمران ١٨ ـ ١٩). وفي هذه الشهادة علم القرآن كله، وسرّ القرآن كله. فالإسلام الـذي ينادي به القرآن هـو اسلام ﴿أولي العلم من قبله (الحج ٧٨)؛ وهو العلم الوحيد الذي يتحدى القرآن بإِعجازه؛ إنه علـم ﴿مَن عنده علم الكتاب في الإسلام، علم ﴿الراسخين في العلم (آل عمران ٧؛ النساء ١٦٢). إن علم القرآن علمهم؛ واسلام القرآن اسلامهم؛ وإِعجاز القرآن في العلم والإسلام هو إِعجازهم: ﴿قلْ: كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣).

هذا هو العلم الوحيد الذي جاءَ محمداً في القرآن: ﴿بعد الذي جاءَك من العلم (البقرة ١٢٠)، ﴿من بعد ما جاءَك من العلم (البقرة ١٤٥؛ آل عمران ٦١). وهذا هو ﴿العلم الإنجيلي، ﴿النصراني، الذي اختلف فيه اليهود من أهل الكتاب، مع المسيح ثم مع محمد: ﴿وما اختلفوا إلاّ من بعدما جاءَهم العلم (١٩:٣؛ ١٤:٤٢؛ ١٧:٤٥). وبهذا ﴿العلم المنزل الإنجيلي ﴿النصراني يجادل القرآن اليهود ثم المشركين الذين يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان ٢٠؛ الحج ٨). فالإسلام هو علْم القرآن كله، وهذا الإسلام من علْم الكتاب، ﴿ومَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣). لذلك يخص القرآن اسم ﴿المسلمين بأولي العلم المقسطين وحدهم. والقرآن نفسه ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم (العنكبوت ٤٩)؛ ﴿يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم معرفة مصدرية (البقرة ١٤٦؛ الأنعام ٢٠).

فالعلم الوحيد في القرآن هو علم الكتاب، وأهله ﴿من عنده علم الكتاب.

خاتمة

﴿وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً (الإسراء ٨٥)

وهكذا فالعـلم، في لغـة القرآن، اصطلاح مقصـور على أهله، ﴿أولي العـلم، ﴿الراسخين في العلم. ومصدر هذا ﴿العلم هو هدى الكتاب الإمام، و﴿علم الكتـاب المنير فلا يرى القرآن خارج التنزيل في الكتاب ﴿علمـاً. و﴿علم القرآن من ﴿علم الكتاب، بشهادة ﴿مَن عنده علم الكتاب لكنه في نقل هذا ﴿العلم الى العرب، ﴿ما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً. وهذا ﴿العلم القليل القرآني الكتابي هو كل إِعجازه في العلم. ولا إِعجاز عنده في ﴿العلم سواه.

الجزء الرابع

الإِعجاز في التاريخ

القصص القرآني

﴿نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن (يوسف ٣)

﴿فاقصص القصص، لعلـّهم يتفكّرون (الأعراف ١٧٦)

﴿لقد كان في قصصهم (الرسل) عبرة لأُولي الألباب

﴿ما كان حديثاً يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء (يوسف ١١١)

توطئة

خطورة موضوع التاريخ في الإِعجاز القرآني

إن القصص هواية عربية فطرية.

﴿كان للعرب قصص. وهو باب كبير من أبواب أدبهم. وفيه دلالة كبيرة على عقليتهم. وهذا القصص في الجاهلية أنواع... وهناك نوع من قصص العرب أخذوه من أمم أخرى وصاغوه في قالب يتّفق وذوقهم ٣١ .

فلم يخلق القرآن فنّ القصص، لكنه جعله ناحية من نواحي الدعوة فيه. ومتى عرفنا أن القصص القرآني يشمل نحو ثلثي القرآن، أدركنا خطورة موضوعه في الإِعجاز القرآني. وإذا أضفنا الى القصص الأمثال، وهي نوع آخر منه، وأخبار اليوم الأول في الخلق، وأخبار اليوم الآخر في السعة ويوم الدين ووصف الجنة والنار، كان موضوع التاريخ القرآن كله تقريباً.

والقرآن نفسه يقرّ بذلك: ﴿نحن نقصّ عليك أحسن القصص، بما أوحينا إليك هذا القرآن (يوسف ٣). والشعب لا يرى في القرآن سوى قصص: ﴿واذا قيل لهم: ماذا أنزل ربكم؟ ـ قالوا: أساطير الأولين (النحل ٢٤). وظلوا على هذا الموقف العنيد منذ السورة الأولى (القلم ١٥)، حتى حكم السيف فيهم في بدر، أول نصر (الأنفال ٣١). ويرى القرآن في نفسه ﴿أحسن القصص (يوسف ٣)؛ وكانوا هم يرون فيه ﴿أساطير الأولين: ﴿ما هذا إلاَ أساطير الأولين (الأحقاف ١٧) في موضوعه وأسلوبه، ﴿حتى إذا جاؤوك يجادلونك، يقول الذين كفروا: إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين (الأنعام ٢٥).

لذلك، إذا كان في إِعجاز القرآن معجزة له، يجب أن تكون أولاً في قصصه. فهل في القصص القرآني إِعجاز ومعجزة؟

بحث أول

موضوع القصص القرآني وهدفه

يأتي القصص القرآني كبرهان للتوحيد والنبوّة، من تاريخ البشرية، بعد الاستشهاد بمشاهد الخليقة التي تشهد لخالقها: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق (فصلت ٥٣).

أولاً: هدفه تثبيت النبي وذكرى للعرب

ففي نظرية القرآن يُوجَز تاريخ البشرية بسيرة النبوّة مع أقوامها، كأنه صراع متواتر بين الإيمان والكفر. ويرمي القرآن، من وصف هـذا الصراع الديني، الى غايتين: الأولى ﴿لنثبّت به فؤادك (٣٢:٢٥؛ ١٢٠:١١)؛ الثانية اتعاظ أهل مكّة بمثل الماضين: ﴿فاقصصالقصص لعلّهم يتفكرون (الأعراف ١٧٦)؛ ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم (غافر ٢١ و٨١)؛ ﴿انظرْ كيف كان عاقبة المنذَرين (الصافات ٧٣)؛ ﴿انظر كيف كان عاقبة المكذبين (الزخرف ٢٥).

فهدف القصص القرآني المزدوج يدل على أنه ليس في إِعجازه معجزة له: فغايته الأولى تثبيت فؤاد النبي في أزماته النفسية والإيمانية التي تملأ القرآن المكي؛ فلو كان في إِعجاز القصص معجزة لكان ثبت فؤاد محمد منذ القصة الأولى. والواقع القرآني يشهد بأن أزمات الإيمان ظلت تساور محمداً، وهو يتلو القصص القرآني بتواتر. فحتى أواخر العهد المكي يُقال له: ﴿فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك: لقد جاءَك الحق من ربك، فلا تكوننَّ من الممترين! ولا تكوننَّ من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين! (يونس ٩٤ ـ ٩٥). والواقع القرآني يشهد أيضاً بأن إِعجاز القرآن في قصصه لم يكن معجزة لهم، فقد ظلوا طول العهد بمكّة، قبل إحكام آية السيف فيهم بالمدينة، ﴿اذا قيل لهم: ماذا أنزل ربكم؟ ـ قالوا: أساطير الأولين! (النحل ٢٤). ويتهمونه في مصدر تنزيله وقصصه: ﴿قال الذين كفروا: انْ هذا إلاّ إفك افتراه، وأعانه عليه قوم آخرون! ـ فقد جاؤوا ظلماً وزوراً! وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا! ـ قلْ: أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً (الفرقان ٤ ـ ٦). وكانت هذه مقالتهم طول العهد بمكّة جملة (٢٥:٦؛ ٨٣:٢٣؛ ٦٨:٢٧) وأفراداً (٥:٢٥؛ ٢٤:١٦)، حتى بعد نصر بدر بآية السيف (الأنفال ٣١). فكان هذا موقفهم من إِعجاز القصص القرآني: ﴿واذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا! لو نشاء لقلنا مثل هذا! إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين (الأنفال ٣١). فلم يرَ المخاطَبون بإِعجاز القصص القرآني معجزة له، موضوعاً: ﴿إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين؛ وأسلوباً: ﴿لو نشاء لقلنا مثل هذا! ونلاحظ أن القرآن لا يردّ تحدّيهم الأخير هذا.

ثانياً: موضوع القصص القرآني محدود ومكرّر

والظاهرة الكبرى في القصص القرآني هي التكرار. قال سيد قطب ٣٢ : ﴿نشأ عن خضوع القصة في القرآن لأغراضه أن يعرض شريط الأنبياء والرسل الداعين الى الإيمان الواحد، والانسانية المكذّبة بهذا الدين الواحد، مرّات متعدّدة بتعدّد هذه الأغراض؛ وأن يُنشئ هذا ظاهرة التكرار في بعض المواضع، ولكنّ هذا أنشأ جمالاً فنّياً من ناحية أخرى. فهذه قصة إبراهيم ترد في حوالي عشرين موضعاً. وقصة موسى ترد أكثر من ذلك؛ وهذه قصة عيسى، ابن مريم، ترد وروداً أساسياً في ثمانية مواضع؛ وقصة سليمان في ثلاثة مواضع. ويأتي هذا التكرار بخصائص فنّية، منها تنوّع طريقة العرض، وتنوّع طريقة المفاجأة، وتنوّع التصوير في التعبير.

ولكن هذا التنوّع في التعبير، لا يمنع التكرار في التفكير، وهو موضوع الوحي والتنزيل، كما لاحظوا ذلك قديماً وحديثاً.

في البيان والبديع يسمّى التفنّن أو التنوّع في التعبير عن المعنى الواحد والموضوع الواحد بالاقتدار: ﴿الاقتدار هو أن يُبرز المتكلم المعنى الواحد في عدّة صور اقتداراً منه على نظم الكلام، وتركيبه على صياغة قوالب المعاني والأغراض. فتارة يأتي في لفظ الاستعارة، وتارة في صور الأرداف، وحيناً في مخرج الايجاز، ومرة في قالب الحقيقة. قال ابن أبي الاصبع: وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن؛ فإنك ترى القصة التي لا تختلف معانيها تأتي في صور مختلفة، وقوالب من ألفاظ متعدّدة حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه، ولا بدَّ أن تجد الفرق ظاهراً ٣٣ . فموضوع القصة الواحدة في القرآن ﴿لا تختلف معانيها. والذي يهمنا في كلام الله ما يريده منه أي موضوع كلامه، والموضوع واحد يتكرّر، مع تنوّع في التعبير بعض الشيء، مثل قصة آدم وابليس: ﴿وقد أورد القرآن قصة آدم وابليس سبع مرات، ستاً منها في سور مكية، وهي الأعراف (١٩ ـ ٢٧) والحجر (٢٨ ـ ٤٠) والإسراء (٦١ ـ ٦٥) والكهف (٥٠) وطه (١١٦ ـ ١٢٣) وصاد (٧١ ـ ٨٥)؛ وواحدة في البقرة (٣٤ ـ ٣٨). والقصة كما يُفهم من سياقها في كل مرة قد استهدفت العظة والتمثيل والتنبيه، كما أنها تنوّعت في أسلوبها ومحتوياتها بعض الشيء، وهو شأن القصص القرآنية المتكررة بصورة عامة كما لا يخفى ٣٤ .

ثالثاً: القرآن بين الدين والفنّ

قيل: إن معجزة القرآن أن يجمع الدين والفن في حرفه، بلفظه ونظمه. وهل يهمّنا الإِعجاز بالفن في أمور الدين؟ ننسى أن القرآن هو كتاب دين، قبل أن يكون كتاب فن؛ وأن ما يهم البشرية في كلام الله هو الدين لا الفن. قيل: ان القرآن ﴿يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني فيخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنّية ٣٥ . فهل الله في كلامه مع البشر خطيب مثلهم يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني فيهم؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. إنما يتنازل الله ويكلّم الناس ليعلّمهم حقيقة سره وغاية أمره؛ ويهمه كما يهمنا أولاً حقيقة الدين، لا إِعجاز الفنّ. وجعل الإِعجاز البياني والفني من مقاصد الله في كلامه هو قلب للمفاهيم وهو جعل العَرَض مكان الجوهر. وهب أن ميزة القرآن على كل تنزيل هو في إِعجاز الحرف مع إِعجاز المعنى، ومعجزة العرض مع معجزة الجوهر، لتكون معجزته منه وفيه؛ فإن معجزة لغوية بيانية فنيّة، هي للخاصة من العرب، لا للعامة منهم، فكيف بعامة البشر! فيفوت على الله الغاية الأولى من تنزيله وكلامه، لو كان الإِعجاز في نظم القرآن مقصده ومعجزته. وحاشا لله أن يخاطب عامة العرب والبشر بمعجزة لا يفقهونها! ﴿ما لا يمكن الوقوف عليه لا يُتصوَّرالتحدي به ٣٦ .

إن التحدي بحرف التنزيل هو معجزة عند البعض، لا عند سائر الناس. وما نراه في القرآن وقصصه إِعجازاً واقتداراً، يراه سائر الناس في كل آدابهم عجزاً وافتقاراً، كلّما زاد تكراراً.

فالقصص القرآني، وهو أكثر القرآن، مع ما فيه من إِعجاز بياني، هل هو معجزة في هدفه وموضوعه؟

بحث ثان

هل القصص القرآني للتاريخ أم للتمثيل؟

والمشكل الأكبر في القصص القرآني، هل هو للتاريخ أم تمثيلي؟

أوّلاً: واقع مزدوج

إن القصص القرآني هو برهان النبوّة والتوحيد من تاريخ البشرية مع الأنبياء والرسل: فالعظة منه في الواقع التاريخي، لا في التمثيل البياني، كالإنجيل في أمثاله. واذا سلبنا القصص القرآني واقعيته التاريخية، سلبناه استشهاده بتاريخ النبوّة والبشرية على صحة نبوته وتنزيله.

هذا هو موقف أهل السنة والجماعة. لذلك لمّا حاول السيد محمد أحمد خلف الله سنة ١٩٤٧ في كتابه (الفن القصصي في القرآن الكريم) أن يخرج على هذا الاجماع، ﴿للوصول الى قاعدة أو نظرية يمكن تطبيقها من حل المشكلات، وردّ الاعتراضات، والخروج بالقصص القرآني من دائرة المتشابه (ص ٢٦٠) أفتى علماء الأزهر الشريف بتكفير الكتاب وصاحبه ٣٧ .

والواقع القرآني يشهد بالتمثيل في تاريخيته: ﴿وكلاّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك، وجاءَك في هذه الحق وموعظة وذكرى (هود ١٢٠). فهو يقص ﴿الحق في ﴿أنباء الرسل، وان كان الهدف الموعظة والذكرى. فالعبرة عنده بالتاريخ للتمثيل: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (يوسف ١١١). والقول الفصل: ﴿إن الحكمُ إلاّ لله، يقص الحق، وهو خير الفاصلين (الأنعام ٥٧). فلا يضرب القرآن أمثالاً في قصصه، إنما ﴿يقصّ الحق التاريخي.

ثانياً: الشبهات الناجمة عن هذا الواقع المزدوج

لكن، على تاريخية القصص القرآني، شبهات حملت المدرسة العصرية على القول بالتمثيل في القصص القرآني، أكثر منه بالتاريخ.

الشبهة الأولى أن قصص القرآن أكثره توراتي، لكنه يختلف أحياناً عمّا في التوراة. ومن السخف ضرب الكتاب بعضه ببعض. فما سبب الفوارق القصصية ما بين القرآن والكتاب؟ يقول دروزة ٣٨ : ﴿القصص القرآني، منه ما كان عربياً غير توراتي كقصص هود وعاد، وصالح وثمود ومدين؛ ومنه ما كان توراتياً كقصص نوح ولوط وموسى وفرعون مع بني إسرائيل، وداود وسليمان ويوسف، الخ... وما ورد خصوصاً في القرآن ولم يرد في التوراة من قصص إبراهيم ﷺ مع أبيه وقومه وأقواله ومواقفه ودعائه، وهي في سور (الأنعام وابرهيم والأنبياء والشعراء والصافات والزخرف والعنكبوت). وعدم ورودها في التوراة، ممّا يسوّغ القول أنها كانت متداولاً معروفاً في أوساط العرب كمرويات ومنقولات عربية عن الآباء الى الأبناء.

أجل، كانت متداولة معروفة في أوساط العرب، لكن ليس ﴿كمرويات ومنقولات عربية عن الآباء الى الأبناء ـ بل عن أهل الكتاب من يهود ونصارى إسرائيليين، الذين كانوا يروونها عن حرف التلمود أكثر منه عن حرف الكتاب. وهذا ما فات الأستاذ دروزة وأمثاله. فما انفرد به قصص إبراهيم ﴿مع أبيه وقومه وأقواله ومواقفه ودعائه عن التوراة، قد ورد مثله في التلمود. لذلك جاء القصص القرآني ابن بيئته الكتابية العربية، أقرب الى التلمود منه الى الكتاب.

وهذا المصدر الشعبي للقصص القرآني يحمل معه شبهة أخرى: بعد قصة نوح الشهيرة يقول: ﴿تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين (هود ٤٩). وبعد قصة يوسف الشهيرة يقول: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك. وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (يوسف ١٠٢). وبعد قصة مريم، في آل عمران، وقد طبّقت آفاق الجزيرة، من ألوف النصارى والمسيحيين، يقول: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك. وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون (٤٤). فكيف يقول بأنها ﴿من أنباء الغيب نوحيه إليك؟ وقد كانت متداولة بينهم من التوراة والإنجيل، ومن التلمود والأناجيل المنحولة. وكيف يقول: ﴿ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا القرآن؟ إنه إشكال ضخم كما يقول دروزة ٣٩ : ﴿إن في الآيات الثلاث اشكالاً يدعو الى الحيرة، ولا يُستطاع النفوذ الى الحكمة الربانية فيه نفوذاً تاماً.

أجل، من يعتبر القرآن، لفهم خاطئ في بعض تعبيره، منزلاً من لوح محفوظ في السماء، لا يستطيع النفوذ الى الحكمة الربانية في تلك الآيات المتشابهات. أمّا مَن يعتبر القرآن ﴿تفصيل الكتاب على حدّ تعبيره (يونس ٣٧)، كما فصّله أيضاً التلمود وبعض الاناجيل المنحولة، فيعرف أنه ﴿من أنباء الغيب المنزل في الكتاب، عند أهل الكتاب؛ وما كان محمد، ولا قومه من قبله، يعرفونه، قبل تفصيل أهل الكتاب له فيما بينهم، كما يصرّح بذلك في قوله: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب: فلا تكن في مرية من لقائه! وجعلناه هدى لبني إسرائيل (من يهود ونصارى). وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا (السجدة ٢٣ ـ ٢٤). فما على محمد أن يشك في لقاء الكتاب بواسطة أئمته الذين يهدون محمداً اليه بأمر الله. فالقرآن يتلو ﴿أنباء الغيب المنزل في الكتاب من قبله؛ لكنه يفصّلها على حسب هدى أئمة الكتاب الذين يفصلون التوراة والإنجيل بحسب التلمود والاناجيل المنحولة التي لديهم. ولا ننس القول الفصل: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠).

وهناك شبهتان أخريان تشكلان مشكلتين. يقول أيضاً دروزة ٤٠ : ﴿وقد بقيت مسألتان قد تبدوان مشكلتين. أولاهما ما إذا كان ما احتواه القرآن من قصص صحيحاً في جزئيات وقائعه، وحقائق حدوثه. وثانيتهما ما بين بعض القصص القرآنية المتصلة بنبي أو أمّة، من بضع الخلاف، مثل وصف عصا موسى بالحية في سورة، وبالثعبان في سورة أخرى، ومثل ذكر وقت ما كان يقع على بني إسرائيل من فرعون، من قتل الأنبياء واستحياء النساء، حيث ذُكر هذا الوقت في سورة أنه قبل بعثة موسى، وفي سورة أنه بعد بعثة موسى. فنحن كمسلمين نقول أن كل ما احتواه القرآن حق وواجب الإيمان، وإنّا آمنا به ﴿كلٌ من عند ربنا. كما إننا نقول بوجوب ملاحظة كون القرآن في قصصه استهدف العظة والتذكير فحسب (لا التاريخ)، وهما لا يتحقّقان إلاّ فيما هو معروف ومسلّم به إجمالا من السامع، وان هذا أيضاً من الحق الذي انطوى فيه حكم التنزيل؛ وبوجوب الوقوف من هذه القصص عند الحد الذي استهدفه القرآن، وعدم الاستغراق في ماهياتها على غير طائل ولا ضرورة، لأنها ليست ممّا يتصل بالأهداف والأسس.

تجاه تلك الشبهات، أخرجت المدرسة الحديثة في تفسير القرآن، منذ الامام محمد عبده، القصص القرآني من دائرة التاريخ الى دائرة التمثيل. نقل صاحب المنار ٤١ نظرية إمام المدرسة الحديثة، بمناسبة أسطورة هاروت وماروت التي وردت في (البقرة ١٠٢)؛ فيقول محمد عبده كما نقل رشيد رضا: ﴿بيّنا غير مرة أن القصص جاءَت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار، لا لبيان التاريخ، ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الاخبار عن الغابرين. وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار. فحكاية القرآن لا تعدو موضوع العبرة.

فالقصص القرآني لم يرد لـذاته التاريخية، والبحث العلمي، بل للمـوعظة والعبرة. ﴿وهذه الملاحظة مهمة وجوهرية جداً، لأن من شأنها أن تحول دون استغراق الناظر في القرآن في ماهيات ووقائع ما احتوته القصص التي لم تُقصد لذاتها؛ وأن تغنيه عن التكلّف والتجوّز في التخريج والتأويل والتوفيق، أو الحيرة والتساؤل في صدد تلك الماهيات والوقائع؛ وأن تجعله يُبقي القرآن في نطاق قدسيته من التذكير بالمعروف والارشاد والموعظة والعبرة، ولا يخرج به الى ساحة البحث العلمي، وما يكون من طبيعته من الأخذ والرد والنقاش والجدل والتخطئة والتشكيك، على غير طائل ولا ضرورة ٤٢ . فليس في القرآن تاريخ مقصود لذاته، ولا بحث علمي في تاريخ الأنبياء. فالقصص القرآني، ليس للتاريخ، بل للتمثيل والعبرة، كما يقول أيضاً السيد محمد خلف الله ٤٣ : ﴿وفي الجملة، إن أسلوب القرآن في التعبير عن أفكار الأنبياء والمرسلين أو الأقوام، لا يشاكل الواقع، وإنما يمشي على وتيرة واحدة... والحوار فيه إنما يمثّل أكثر من كل شيء الدعوة الإسلامية ونفسية محمد ﷺ. فالقصص القرآني، في موضوعه كما في أسلوبه، لا يشاكل الواقع والتاريخ، بل يمثل الدعوة الإسلامية ونفسية محمد، في أسلوب بياني قصصي.

والعبرة في الواقع التاريخي، لا في التمثيل البياني، حين الاستشهاد على صحة النبوّة والدعوة بتاريخ الأنبياء وسيرتهم بين أقوامهم. فهل القصص القرآني من الإِعجاز  في  التاريخ؟

بحث ثالث

القصص القرآني من متشابه القرآن

إن النتيجة الحاسمة التي وصلوا اليها، تجاه الشبهات على تاريخية القصص القرآني، أنه من متشابه القرآن. فقد أجمع ﴿أئمة الدين والتفسير، منذ الصحابة، على اعتبار القصص القرآني من المتشابه فيه ٤٤ .

وهذا ما يبيّنه السيوطي في (الإتقان ٢:٢) عند استجماع أقوالهم في المحكم والمتشابه منه. قال: ﴿المحكم لا تتوقف معرفته على البيان، والمتشابه لا يُرجى بيانه. وقد اختُلف في تعيين المحكم والمتشابه على أقوال... قيل المحكم ما لم تتكرر ألفاظه، ومقابله المتشابه. وقيل المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال... وعن ابن عباس قال المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، ما يؤمن به ويعمل به؛ والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه. ما يؤمَن به ولا يُعمل به. وعن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضاً. وعن الربيع قال: المحكمات هي أوامره الزاجرة.

فالاجماع أن المحكم من القرآن هو فقط أحكامه، وما سوى ذلك فهو من متشابه القرآن ﴿الذي لا يُرجى بيانه، ﴿ما استأثر الله بعلمه.

فقصص القرآن من المتشابه فيه. وأمثال القرآن من المتشابه فيه. وأخبار الملائكة والجن من المتشابه فيه.

ومشاهد الكون ونواميسه من المتشابه فيه. قال دروزة ٤٥ : ﴿وبتعبير آخر: (إن ما ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه) وقد استهدف العظة والإرشاد والتنبيه والتلقين والتدعيم والتأييد دون أن ينطوي على قصد تقرير ماهيات الكون وأطوار الخلق والتكوين، ونواميس الوجود، من الناحية العلمية والفنية.

ومشاهد الحياة الأخروية وصورها من المتشابه فيه. وهذه الملاحظة ﴿من شأنها أن تجعل الناظر في القرآن يتجنب الاستغراق في الجدل حول مشاهد الحياة الأخروية وصورها، والتورط والتكلّف والتزيّد في صدد ما يقوم في سبيل الماهيات والحقائق لذاتها، ويذكر أن هدف القرآن في ما جاءَ من التعابير والأوصاف هو العظة والتنبيه وإيقاظ الضمائر... ويتذكر أن ماهية هذه الحياة وحقيقتها مغيّبتان لا يُستطاع فهم شيء عنهما إلاّ بالأوصاف الدنيوية، وأن حكمة الله اقتضت وصفهما بهذه الأوصاف على سبيل التقريب والتشبيه ٤٦ .

وأوصاف ذات الله في القرآن من المتشابه فيه. ﴿إن ما ورد في القرآن ممّا يتصل بذات الله السامية من تعابير اليد والقبضة واليمين والشمال والوجه والاستواء والنزول والمجئ، وفوق وتحت وأمام، وطي وقبض ونفخ، إنما جاء بالأسلوب والتعابير والتسميات التي جاءَ بها من قبيل التقريب لأذهان السامعين... حيث يصح أن يقال: إن ورودها في القرآن كذلك على سبيل التقريب والتشبيه ٤٧ .

وبكلمة موجزة: إن القرآن يدعو الى الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ﴿أما ما عدا ذلك ممّا احتواه القرآن من مواضيع مثل القصص والأمثال والوعد والوعيد والترهيب والترغيب والتنديد والجدل والحجاج والأخذ والرد، والتذكير والبرهنة والإلزام، ولفت النظر الى نواميس الكون ومشاهد عظمة الله وقدرته، ومخلوقاته الخفية والعلنية ـ فهو وسائل تدعيمية وتأييدية الى تلك الأسس والأهداف وبسبيلها ٤٨ .

فإذا كان القرآن كله، ما عدا أحكامه التشريعية، من المتشابه فيه، فكيف يكون قصصه، وأمثاله، وأخباره عن الخلق، وأخباره عن اليوم الآخر، من الإِعجاز في التاريخ؟ والإِعجاز في النبوّة؟

خاتمة

قصصه تصديق وتفصيل

الواقع المشهود في القرآن أن قصصه العربي قليل، من أساطير الأولين؛ وقصصه الآخر كتابي، على رواية التلمود. وفي مطلع سورة يوسف صفة القصص القرآني: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن (٣). ومثاله قصة يوسف. وهي مشهورة في الكتاب. لذلك يعتبر القرآن نفسه أنه ﴿ما كان حديث يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه (قبله) وتفصيل كل شيء، كما يقول في ختامها (١١١). ونعرف أن ﴿التفصيل في اصطلاحه يعني التعريب (حم فصّلت ٤٤). فإذا كان أحسن القصص عنده تصديقاً وتفصيلاً للقصص الكتابي، فهل في ذلك إِعجاز في التاريخ؟

القسم الثاني

إِعجاز القرآن

هل يعتبر القرآن إِعجازه معجزة له؟

تمهيد

١ ـ الإِعجاز بديل المعجزة، أي المعجزة اللغوية

في القسم الأول ثبت لنا، بعد الاستقراء والتحليل، فراغ القرآن من كل أنواع المعجزة. وهذا ما اضطر أهل القرآن للتكلّم عن معجزة أخرى، أسموها ﴿إِعجاز القرآن؛ واعتبار هذا الإِعجاز ﴿معجزة القرآن؛ لأن المعجزة دليل النبوّة الأوحد، في اعتقاد أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل القرآن. وهكذا قام الإِعجاز بديل المعجزة.

فنادى القوم قديماً وحديثاً بأن القرآن وحده معجزة محمد. وقد نقلنا حكم شيخ أهل الإِعجاز قديماً، الباقلاني: ﴿ان نبوّة النبي صلعم معجزتها القرآن وأضاف: ﴿وذلك أنه احتجّ عليهم بنفس هذا التنزيل، ولم يذكر حجة غيره (ص ١٦). فتنافسوا في بيان إِعجاز القرآن، حتى ختم ابن خلدون مقالتهم جميعاً بقوله: ﴿إن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها القرآن، لاجتماع الدليل المدلول عليه (المقدمة السادسة). وهذا حكم شيخ أهل السيرة حديثا، حسين هيكل: ﴿لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على اختلاف عصورهم برسالة محمد إلاّ القرآن (حياة محمد). فالاجماع قائم في الأمة أنه ﴿لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة، وأن القرآن وحده معجزة محمد، بإِعجاز لفظه ونظمه، أي أنه ﴿المعجزة اللغوية التي تشهد بصحة النبوّة وصحة التنزيل.

ونحن نعلن: لا جدال في إِعجاز القرآن. إنما الجدل، كل الجدل، في اعتبار إِعجاز القرآن معجزة له. والسؤال الواجب أولاً، هل يعتبر القرآن نفسه إِعجازه معجزة له؟ ثم هل اتفق القوم على ﴿وجه الإِعجاز لاعتباره معجزة؟ يقول عبد الكريم الخطيب ٤٩ : ﴿وانما الأمر الذي يحتاج الى بحث ونظر، بل الى كثير من البحث والنظر، هو دلائل الإِعجاز ووجوهه؛ حيث أن الأمر لا يقع موقع المشاهدة والحس؛ وانما هو حقيقة مضمرة في كلمات القرآن وآياته. والكشف عنها ليس ممّا يتيسّر لكل طالب... من أجل هذا ذهب الناس مذاهب شتى في وجوه الإِعجاز. فليس الإِعجاز معجزة ظاهرة لكل ذي بصيرة وبصر. وهذا الاختلاف القائم الدائم في ﴿دلائل الإِعجاز ووجوهه هو البرهان القاطع على أن إِعجاز القرآن ليس بمعجزة له. جاء في (الإتقان ١١٧:٢) للسيوطي: ﴿ما لا يمكن الوقوف عليه، لا يُتصوّر التحدي له فلا يقوم الإِعجاز مقام المعجزة دليلاً على النبوّة والتنزيل.

٢ ـ ﴿القرآن المصفىّ

ولصحة الحكم في إِعجاز القرآن، في النظم والبيان، كان لا بدَّ من وجود القرآن كما نزل على النبي. لكن القرآن مرّ بتصفيتين، قبل أن يصلنا بحرفه العثماني والحجّاجي.

١) التصفية الأولى على يد محمد نفسه، في عرْضات القرآن السنوية. جاءَ في (الإتقان ٥١:١): ﴿أخرج ابن اشته، عن ابن سيرين، قال: كان جبريل يعارض النبي ﷺ كل سنة في شهر رمضان مرة. فلما كان العام الذي قُبض فيه عارضه مرتين. فيرون أن تكون قراءَتنا على العرضة الأخيرة. وقال البغوي في (شرح السُنّة): يقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي... ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاّه عثمان كتابة المصاحف... ذكر ابن جرير (الطبري): لا شك أن القرآن نُسخ منه في العرضة الأخيرة ـ بالفعل المبني للمجهول ـ فاتفق رأي الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة، وتركـوا ما سوى ذلك. وفي موضع آخـر: ﴿والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به طول السنة (الإتقان ٤١:١).

ما هـذه القصة في عرْضات القرآن السنوية؟ والقرآن تنزيل في روع النبي، فكيف ﴿شهد زيد بن ثابت العرضة الأخيرة؟ حديث وضعوه يصف تنقيح النبي للقرآن كل سنة. ويدور هذا التنقيح النبوي على تصفية المنسوخ منه في بحر السنة. و﴿القرآن المصفّى نفسه يشهد ﴿بالمحو و﴿التبديل واقعين فيه (النحل ١٠١).

مع هذه التصفيات النبوية السنوية، كان القرآن يُقرأ على عهد النبي نفسه ﴿على سبعة أحرف ـ والعدد للرمز لا للحصر ـ ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كما نقل الطبري. لذلك ما كان التنقيح النبوي السنوي ليأتي على ﴿اختلاف الألفاظ في ﴿الأحرف السبعة. وبعد وفاة محمد، ظل هذا الاختلاف في أحرف القرآن قائماً.

٢) التصفية الثانية على يد عثمان به عفان والصحابة

في صدر الإسلام انشغل القوم بحروب الردة في الداخل، ثم بالفتوحات في الخارج. فتحولت الرخصة النبوية بقراءَة القرآن على سبعة أحرف، والرخصة بقراءته بلغات العرب كلها، والرخصة بقراءَته أحياناً بالمعنى من دون الحرف، الى فوضى أفزعت القوم من ضياع القرآن، فلجأوا الى وضع ﴿إمام مبين. فكانت التصفية الثانية، بأمر عثمان والصحابة، على يد اللجان المتعدّدة . فأتلف الأحرف الستة، ليسلم الحرف العثماني الموحد.

جاء في (الإتقان ١٨٦:١): عن ابن اشته: ﴿فهذا الخبر يدل على أن القوم كانوا يتخيّرون أجمع الحروف للمعاني، وأسلسها على الألسنة، وأقرنها في المأخذ، وأشهرها عند العرب، للكتاب في المصاحف.

وقد شملت التصفية العثمانية أموراً كثيرة.

لقد اسقط عثمان ستة أحرف، كما ينقل الطبري، ليسلم الحرف ﴿العثماني وحده. فهل كان عثمان والصحابة ولجانهم معصومين ليختاروا النص الصحيح؟ وقد مرت بنا الشهادة في حقيقة تصفيتهم لنص القرآن: ﴿إن القوم كانوا يتخيرون!

وفي الحرف المختار المصفّى أسقطوا كثيراً من المنسوخ، الذي كان يحتفظ به علي بن أبي طالب في مصحفه، كما يقولون.

وأسقطوا كذلك بعض القرآن من التلاوة، حتى ﴿ذهب منه قرآن كثير كما نُقل. وقد قيل أيضاً: ﴿غيّر عثمان المصاحف!

ومن التصفية العثمانية، ما ورد على لسان الامام علي: ﴿ما في قريش أحد إلاّ وقد نزلت فيه آية (الإتقان ١٥١:٢): فأين هذا كله؟

وجعل عثمان ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول، واعتمد مبدأ الطول في الترتيب، فتداخلت السور المكية بالمدنية، والآيات المدنية بالمكية، وضاع الترتيب التاريخي في الآيات وفي السور، وهو أساس لصحة الحكم بالإِعجاز في القرآن وتطور البيان.

مع ذلك بقي في الحرف العثماني ما بقي. نقل الرازي: ﴿روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا: إن في المصحف لَحَنا، وستقيمه العرب بألسنتها!

وهكذا، بعد التصفية النبوية، وبعد التصفية العثمانية، لم يبق للحكم في إِعجاز القرآن إلاّ ﴿القرآن المصفّى الذي أقامته العرب بألسنتها، قبل جمعه وتدوينه، على نص واحد، ولغة واحدة. مع ذلك لم يسلم من ﴿اختلاف القراءات حتى اليوم.

فهذا ﴿القرآن المصفّى هو ﴿القرآن المصطفى بواسطة اللجان العثمانية: فهل يصح منه حكم شامل كامل في إِعجاز القرآن؟ وهل الإِعجاز الباقي هو للحرف المنزل، ام للحرف المصفى؟

مع كل تلك الشبهات القائمة على صحة حرف القرآن، ما زلنا نقول بصحته الجوهرية، التي نحتكم اليها في قيام الإِعجاز بديل المعجزة، وفي صحة اعتبار إِعجاز القرآن معجزة له.


١.  قابل: دائرة معارف القرن العشرين. مادة: قرأ ـ المصنف الأول من المجلد ٧ ص ٦٧٧. ثم مقدمة ﴿تفسير القرآن لوجدي

٢. الحكم أي الحكمة (الجلالان) فقد أخذ التعبير العبراني الأرامي بحرفه شهادة في الانتساب اليهم تعبيراً وتفكيراً.

٣. دروزة: القرآن المجيد ص ١٩٠ ـ ١٩٢.

٤. دروزة: القرآن المجيد ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

٥. إِعجاز القرآن ٨٠:١ ـ ٨١.

٦. مصادر الفقه الإسلامي ١٩٥٦ ص ٢٤ و ٣٢.

٧. إِعجاز القرآن ٨٠:١ ـ ٨١.

٨. إِعجاز القرآن ١٩٣:٢ ـ ٢٥٠.

٩. السيوطي: الإتقان ٤٤:١.

١٠. السيوطي: الإتقان ٢:٢ ـ ٣.

١١. السيوطي: الإتقان ١٣٠:٢.

١٢. أبو جعفر النحاس: الناسخ والمنسوخ ص ٢٦٠.

١٣. السيوطي: الإتقان ٤١:١ و٤٣.

١٤. عن القرآن.

١٥. سيرة الرسول ٣٠٦:٢ .. الخ.

١٦.  سيرة الرسول ٣٠٦:٢ .. الخ.

١٧. محمد الرسول البشر ١٢ ـ ١٣.

١٨. في ﴿نقد وتعريف به للسيد عبد الله السمان: مجلة الأزهر، ديسمبر ١٩٥٩ ص ٦٣٣.

١٩. دروزة: سيرة الرسول ٣٤٣:٢ ـ ٣٤٤.

٢٠. مجلة الأزهر، فبراير ١٩٦٠ ص ٨١٨ في مقال للاستاذ الشرقاوي: الشريعة والناس.

٢١. مجلة الأزهر، نوفمبر ١٩٥٩ ص ٤٢١ في مقال للدكتور محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي.

٢٢. ﴿قال: اسقطت فيما أُسقِط من القرآن الإتقان ٢٥:٢.

٢٣. قابل دروزة: القرآن المجيد ٥٨؛ قابل الإتقان ٢٥:٢.

٢٤. الإتقان ٢١:٢.

٢٥. السيوطي: الإتقان ٢٩:١ ـ ٣٠.

٢٦. وهو أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية، في ﴿دليل مباحث علوم القرآن المجيد ـ المقدمة ص ١٢.

٢٧. الموافقات ٨١:١.

٢٨. النظم الفني في القرآن ص ٣٦ ـ ٣٧.

٢٩. القرآن المجيد ص ١٩٠ ـ ١٩٢.

٣٠. دروزة: القرآن المجيد ص ١٩٠ ـ ١٩٢.

٣١. أحمد أمين: فجر الإسلام ـ طبعة سادسة ص ٦٦ ـ ٦٨.

٣٢. التصوير الفني في القرآن ص ١٤١ ـ ١٥٦.

٣٣. السيوطي: الإتقان ٨٨:٢

٣٤. دروزة: عصر النبي وبيئته ص ٢٩٠.

٣٥. سيد قطب: التصوير الفني في القرآن ص ١٤١.

٣٦. الإتقان ١١٧:٢.

٣٧. تجد قصة التكفير في مجلة الرسالة عدد ٧٤٢ ص ١٠٣٤؛ و ٧٤٦ ص ١١٦٤؛ و ٧٤٩ ص ١٢٣٤.

٣٨. سيرة الرسول ٢٠٤:١.

٣٩. القرآن المجيد ص ١٧٠.

٤٠. القرآن المجيد ص ١٨٤.

٤١. تفسير المنار ٣٩٩:١.

٤٢. دروزة: القرآن المجيد ص ١٦٨.

٤٣. الفن القصصي في القرآن الكريم ص ٢٣٩ ـ ٢٤١.

٤٤. محمد خلف الله: الفن القصصي في القرآن الكريم ص ٨ و ٢٦٢.

٤٥. القرآن المجيد ص ١٩٠.

٤٦. القرآن المجيد ص ١٩٦ ـ ١٩٧.

٤٧. القرآن المجيد ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

٤٨. القرآن المجيد ص ١٦٠.

٤٩. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ٥٥٥:٢ ـ ٥٥٦.

الفصل الأوّل

>أسس اعتبار الإِعجاز معجزة

توطئة

أسس اعتبار الإِعجاز معجزة غير متينة

واقعان قائمان في القرآن: فراغه من معجزة تشهد له، بتصريحه عن محمد ان المعجزة منعت عنه منعاً قاطعاً، في المبدأ وفي الواقع؛ وقوله بإِعجاز فيه يتحدى به المشركين. وبما أن واقع امتناع المعجزة ثابت، فما معنى تحديه بإِعجازه؟ سنراه في الفصل التالي. لكن بما أن القرآن يشهد بامتناع المعجزة على محمد، فلا يصح مبدئياً بحال من الأحوال اعتبار إِعجازه معجزة له.

مع ذلك فقد حاول القوم منذ ألف سنة اعتبار الإِعجاز معجزة. فباءَت هذه المحاولات الألفية بالفشل، حتى اضطر أهل عصرنا أن يتبرّأوا من حجّية المعجزة لصحة النبوّة، ضاربين عرض الحائط  بضرورة المعجزة لصحة النبوّة بحسب أهل  ﴿الكتب  السماوية أجمعين.

فبنوا قولهم بالإِعجاز على ﴿أمية محمد. وهذا موقف مغالطة قرآنية مشهود. فتعبير ﴿النبي الأمّي (الأعراف ١٥٧) اصطلاح قرآني، أخذوه على حرفه ولغته.

شك بعضهم بهذا الأساس المشبوه، فقالوا: القرآن كلام الله، فهو معجز بذاته للمخلوق. فوقعوا في مغالطة منطقية مكشوفة، إذ أقاموا المدلول عليه مقام الدليل.

وفتش الجميع عن وجه الإِعجاز في القرآن، فاختلفوا فيه، وما زالوا مختلفين. واختلاف الأمة في ﴿دلائل الإِعجاز ووجوهه برهان قاطع على أنه أساس مشبوه.

ونحن ندرس الآن في أبحاث ثلاثة هذه الأسس لاعتبار الإِعجاز معجزة: ﴿أمية محمد؛ القرآن كلام الله، فهو معجز بذاته وجه الإِعجاز في القرآن مختَلَفٌ فيه.

بحث أول

﴿أمّيّة محمّد. وهي الأساس الأوّل للإِعجاز

محمد درس وتعلّم

١) وليقولوا: درست (١٠٥:٦) درس محمد كما درس أهل الكتاب

٢) المشركون ما درسوا: كتاب فيه تدرسون (٣٧:٦٨)؛ من كتب يدرسونها (٤٤:٣٤)؛ كنا عن دراستهم لغافلين (١٥٦:٦).

٣) أهل الكتاب يدرسون الكتاب وبما كنتم تدرسون (٧٩:٣)؛ ﴿ودرسوا ما فيه (١٦٩:٧).

محمد تعلم الكتاب والحكمة، وهو يعلم الكتاب والحكمة

محمد تعلم الكتاب والحكمة مثل عيسى (٤٨:٣)؛ عليك الكتاب والحكمة (١١٣:٤)؛ علمتك الكتاب والحكمة (١١٠:٥)؛ آل إبراهيم الكتاب والحكمة (٥٤:٤)

١) آتيناهم الكتاب والحكم (لفظ عبراني) (٨٩:٦)؛ آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة (١٦:٤٥)؛ أتيتكم من كتاب وحكمة (٨١:٣) من الكتاب والحكمة (٢٣١:٢).

٢) أدع الى سبيل ربك بالحكمة (١٢٥:١٦)؛ أوحى إليك ربك من الحكمة (٣٩:١٧)؛ من آيات الله والحكمة (٣٤:٣٣).

٣) ويعلمهم الكتاب والحكمة (١٦٤:٣؛ ٢:٦٢)؛ ويعلمكم الكتاب والحكمة (١٥١:٢)؛ من الآيات والذكر الحكيم (٥٨:٣)؛ تلك آيات الكتاب الحكيم (١:١٠؛ ٢:٣١)؛ والقرآن الحكيم (١:٣٦).

محمد تعلّم التأويل

ويعلمك من تأويل (٦:١٢)؛ ولنعلمه من تأويل (٢١:١٢)؛ وعلمتني من تأويل (١٠١:١٢)؛ هل ينظرون إلاّ تأويله؛ يوم يأتي تأويله (٥٣:٧)؛ وابتغاء تأويله؛ وما يعلم تأويله إلا الله (٧:٣).

إن الأساس الأول للقول بإِعجاز القرآن معجزة هو ﴿أمية محمد.

وقد عبّر الدكتور أحمد أحمد بدوي ١ عن مقالة الجميع في قوله: ﴿وممّا أكّده القرآن من صفات محمد الأمّية، يصفه بها في قوله: ﴿قلْ: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً، الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلاّ هو يُحيي ويميت. فآمن بالله ورسوله، النبي الأمّي، الذي يؤمن بالله وكلماته (كلمته) واتبعوه لعلكم تهتدون. ويبيّن حكمة اختياره. ﴿أمّيّاً في قوله: ﴿وما كنت تتلو من قبله من كتاب، ولا تخطّه بيمينك: إذاً لارتاب المبطلون. واذا كانت الأمّية ممّا يُعاب، فهي المعجزة بين رسالة النبي والشكّ فيها. ولو أنه كان يقرأ ويكتب لكان للمبطلين مجال للريب في صدْق رسالته.

أولاً: اصطلاح ﴿الأمّي في القرآن

تُنْسَخ ﴿أمّيّة محمد على هذه الصفة القرآنية: ﴿النبي الأمّي، على أساس اللغة، لا بحسب الاصطلاح القرآني المتواتر.

١ ـ كان أهل الكتاب يقسمون الناس الى كتابيّين وأمّيين أي الأمم الذين لا كتابَ منزلاً لهم؛ وكانوا يقولون: ﴿ليس علينا في الأميّين سبيل (آل عمران ٧٥). فقسمهم القرآن في الجزيرة مثلهم: ﴿وقلْ للذين أوتوا الكتاب والأميّين: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا (آل عمران ٢٠). فالعرب المشركون كلهم أمّيون لأنهم ليسوا من أهل الكتاب، ولا كتاب منزلاً لهم.

٢ ـ ومحمد هو ﴿أمّي لأنه من العرب الأميّين، غير الكتابيين: ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإنْ كانوا من قبل لفي ضـلال مبين (الجمعة ٢). فهـذه الآية تقطع بأن ﴿الأمي اصطـلاح قرآني يعني ﴿العربي الذي ليس له كتاب منزل. فمحمد هو ﴿النبي الأمّي (الأعراف ١٥٧ ـ ١٥٨) أي النبي العربي، لأنه من العرب الأميّين واليهم. وليس في التعبير أدنى معنى للأمية اللغوية في العلم والمعرفة والثقافة والدرس والتدريس. قال الأستاذ دروزة ٢ : ﴿تكرر وصف النبي ﷺ بالأمي؛ وهو الوصف الذي جاءَ في القرآن لغير الكتابي، أو للعرب لأنهم غير كتابييّن.

فالواقع القرآني كله يشهد بأن ﴿النبي الأمّي اصطلاح قرآني؛ ولا يرد في القرآن كله تعبير ﴿الأمي لغةً إلاّ في موضع واحد بحق بعض الكتابيين من اليهود: ﴿ومنهم أمّيون، لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني، وإنْ هم إلاّ يظنون (البقرة ٧٨). فالاستناد الى القرآن نفسه في تعبيره ﴿النبي الأمّي للقول بأمية محمد هو إفتراء على القرآن.

ومحمد هو ﴿النبي الأمّي لأنه قبل الأمر اليه في رؤيا غار حرّاء: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢) ـ حيثُ أمر أن ينضم الى المسلمين الموجودين بمكّة من قبله وأن يتلو معهم ﴿القرآن الذي يتلون ـ ﴿ما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك: إذاً لارتاب المبطلون (العنكبوت ٤٨). فالآية لا تشهد بأمية محمد المطلقة بل بأمية محمد بالنسبة الى الكتاب المقدس، ﴿القرآن على الإطلاق، قبل مبعثه وهدايته الى الإيمان به: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان؛ ولكن جعلناه نوراً نهدي به مَن نشاء من عبادنا، وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم، صراط الله (الشورى ٥٢ ـ ٥٣). فمحمد قبل هدايته الى الإيمان بالكتاب المقدس، ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان! وما كان يتلوه ولا يخطه بيمنه مثل أهل الكتاب. لكنه لمّا أُمر بالانضمام إلى الكتابيين المسلمين من قبله، وبتلاوة قرآن الكتاب معهم، أخذ يتلو الكتاب، وربما يخطه بيمنه مثلهم ومعهم، ﴿فدرس، ﴿وعلمهم الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل.

فلما ﴿درس محمد الكتاب (الأنعام ١٠٥) تعلّم ﴿القرآن أي الكتاب وتعلّم البيان، كما في قوله: ﴿الرحمان علّم القرآن خلق الانسان علّمه البيان. فالإنسان كناية هنا عن محمّد، وينسب تعلم البيان الى الرحمان كمـا ينسب الى الكاتب بالعدل ﴿أن يكتب كما علمه الله (البقرة ٢٨٢).

ثانياً: شهادة القرآن بثقافة محمّد

١ ـ إن أول آية نزلت من القرآن العربي تشهد بأن محمداً كان يقرأ ويكتب:

﴿إقرأ باسم ربك الذي خلق .. خلق الإنسان من علق

إقرأ وربك الأكرم .. الذي علّم بالقلم

علّم الإنسان ما لم يعلم

(العلق ١ ـ ٥)

إن الوحي يأمره بأن يقرأ ما يُعرض أمامه: وهذا عبث إلهي ـ استغفر الله ـ إذا لم يكن محمد قارئاً. وقوله: ﴿علّم بالقلم شاهد على أن محمداً تعلّم بالكتابة، فكان يكتب. وقوله لمحمد ﴿علَّم يدل على أنه تعلّم فكان عالماً. فالآية الأولى تشهد بثقافة محمد وعلمه.

ويأتي الحديث الصحيح في رواية غار حرّاء يروي أن ما عُرض عليه في غار حرّاء للقراءة كان ﴿درجًا مكتوباً أُمر ثلاث مرات بقراءَته فقرأه.

٢ ـ وفي السورة الثانية (القلم) إشارة صريحة الى كتابة الوحي ودراسة الكتاب المقدس! فهو يستعلي على بني قومه المشركين بقوله: ﴿أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكل كتاب فيه تدرسون؟... أم عندهم الغيب فهم يكتبون (٣٥ ـ ٣٧ مع ٤٧). محمد وحيد لا جماعة له بعد، فالمسلمون المذكورون هم الذين أُمر أن ينضمَّ اليهم وأن يتلو القرآن معهم (النمل ٩١ ـ ٩٢). وهو يستعلي على المشركين المجرمين بانتسابه إلى أهل الكتاب ﴿المسلمين أي النصارى من بني إسرائيل، جماعة ورقة بن نوفل وعداس القسّين في مكّة على النصارى العرب، والنصارى الأجانب؛ ويستعلي عليهم بالكتاب الذي يدرسه مع هذه الجماعة، وبالغيب المنزل فيه، ومنه يكتب معهم. وهذه شهادة مبكرة جداً وصريحة بدراسته وثقافته الكتابيتين. وهي شهادة متواترة: ﴿أم آتيناهم كتاباً، فهم على بيّنة منه؟ (فاطر ٤٠) فهو عنده كتاب، وهو على بيّنة منه؛ ﴿وما آتيناهم من كتب يدرسونها (سبأ ٤٤)، فهو عنده كتب يدرسها.

٣ ـ لا يكتفي محمّد بدرس الكتاب الإمام، بل يؤمر بترتيله في قيام الليل:

﴿يا أيها المزمّل قم الليل إلاّ قليلاً .. نصفه أو انقصْ منه قليلاً

أو زدْ عليه ورتّل القرآن  ترتيلاً         .. إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً

(المزمل ١ ـ ٥)

لم ينزل من القرآن العربي بعد سوى عشر آيات في مطلع (العلق والقلم). ولم يُعرف حتى يُعرّف على الإطلاق: ﴿القرآن المشهور. فقد اهتدى محمد الى الإيمان بالكتاب (الشورى ٥٢)؛ وهنا يُؤمر بترتيل قرآن الكتاب: فالكتاب هو ﴿القرآن على الإطلاق. وقيام الليل للصلاة وترتيل آيات الله ليست عادة عربية، ولا يهودية، بل نصرانية رهبانية: فمحمد يؤمر بترتيل الكتاب مع جماعة النصارى بمكّة في صلاة الليل، بعد درسه وكتابة الوحي منه. فقرآن الكتاب هو دراسة محمد، وصلاته في قيام الليل.

٤ ـ وأهل مكّة يعرفون أن محمداً يدرس الكتاب ويكتبه: ﴿وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، فهي تُملى عليه بُكرَةً وأصيلاً (الفرقان ٥). لا يردّ على هذه التهمة؛ انما يردّ قبل هذه الآية على إفتراء القرآن العربي: ﴿وقال الذين كفروا: إنْ هذا إلاّ إفك افتراه! وأعانه عليه قوم آخرون! ـ فقد جاؤوا ظلماً وزوراً (الفرقان ٤). فمن الظلم والزور أن ينعتوا القرآن العربي ﴿إفكاً افتراه. لكنه لا يردّ إعانة القوم الآخرين التي يؤكدونها في الآية التالية: ﴿أساطير الأولين اكتتبها، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً (الفرقان ٥). فهذا الاكتتاب لا يمنع تنزيل القرآن: ﴿قلْ: أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض (الفرقان ٦).

فما كان القرآن العربي لينقل تهمة كتابته للكتاب الذي يصفونه ﴿أساطير الأولين، لو لم تكن كتابته للكتاب أمراً مشهوداً.

٥ ـ إن محمداً ﴿درس الكتاب، كما ﴿يدرسه أهل الكتاب

يقول: ﴿وكذلك نصرّف الآيات ـ وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون (الأنعام ١٠٥). لا يردّ على تهمة الدرس؛ إنما يبيّن الغاية منها، وهي تبيان الكتاب الذي يدرس ﴿لقوم يعلمون. إذا كانوا يعلمون فليسوا بحاجة الى بيان. إنما هو تعبير اصطلاحي كناية عن ﴿أولي العلم أي النصارى من أهل الكتاب: فقد درس الكتاب ليبيّنه لأهله، كأنه إمامهم؛ وليبيّنه أيضاً للعرب الذين غفلوا عن دراسته: ﴿أنْ تقولوا: إنما نزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإنْ كنّا عن دراستهم لغافلين (الأنعام ١٥٦). يظهر محمد كأنه إمام النصارى، ومعلّم العرب.

وقد ﴿درس الكتاب كما ﴿يدرسه أئمته: ﴿ودرسوا ما فيه (الأعراف ١٦٩).

٦ ـ والقرآن العربي يكشف عن أئمة الكتاب الذين يدرّسون محمداً: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب: فلا تكن في مرية من لقائه! وجعلناه هدى لبني إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا، لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (السجدة ٢٣ ـ ٢٤).

القرآن العربي يقسم بني إسرائيل الى طائفتين: النصارى واليهود (الصف ١٤). فالنصارى، في لغة القرآن، هم حصراً النصارى من بني إسرائيل، وهـو معهم ﴿أمة واحدة (الأنبياء ٩٢؛ المؤمنون ٥٢). واليهود هم الذين كفروا بالمسيح، ويكفرون بمحمد، فليسوا هم أساتذة محمد في علم الكتاب هم علماء النصارى من بني إسرائيل.

٧ ـ وعلماءُ النصارى من بني إسرائيل هم ﴿أولو العلم قائماً بالقسطي الذين يشـهدون مع الله وملائكته ﴿أن الـدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩). ويسميهم ﴿الراسخين في العلم (آل عمران ١٧؛ النساء ١٦٢)، بل ﴿العلماء على الإطلاق: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر ٢٨) وكلها اصطلاحات قرآنية يُخطئ من يأخذها على حرف اللغة.

والنبي الأمّي يُؤمن بالله وكلمته بهداية هؤلاء الأثمة النصارى من بني إسرائيل: ﴿ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (الأعراف ١٥٩ قابل ١٨١) لأنهم هم الذين عندهم ﴿علم الكتاب (الرعد ٤٣)، والقرآن العربي نفسه ﴿هو آيات بيّنات في  صدور الذين أوتوا العلم (العنكبوت ٤٩).

هؤلاء الأئمة النصارى من بني إسرائيل الذين يعلمون الكتاب والقرآن العربي هم الذين اليهم يحيل محمداً في مشكلاته وشكوكه: ﴿فإن كنت في شك ممّ أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك: لقد جاءَك الحق من ربك، فلا تكوننَّ من الممترين، ولا تكوننَّ من الذين كذّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين (يونس ٩٤ ـ ٩٥).

فمحمد يقرأ الكتاب على يد أساتذته الذين يقرأون الكتاب من قبله. لذلك فقوله: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر! ـ لسان الذي يلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين (النحل ١٠٣)، لا ينفي التعلّم والدرس، إنما ينفي كون القرآن العربي تعليم بشر، مع كونه ﴿آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم (العنكبوت ٤٩). أجل ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين... وإنه لفي زبر الأولين: أولم تكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل النصارى (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٧). فآية محمد أن علماء النصارى من بني إسرائيل يعلمون أن القرآن العربي تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين أي ﴿كتبهم كالتوراة والإنجيل (الجلالان).

٨ ـ ومحمد يستشهد على صحة دعوته ﴿بمن عنده عِلْم الكتاب (الرعد ٤٣). ويعلم الكتاب يجادل المشركين ويستعلي عليهم: ﴿ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم، ويتّبع كل شيطان مريد (الحج ٣)، ﴿ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (الحج ٨؛ لقمان ٢٠) ـ فمحمد يجادل المشركين بهدى الكتاب المنير والعلم الذي اقتبسه منه، بتعليم ﴿من عنده علم الكتاب.

٩ ـ فبهذه الثقافة الكتابية التي تعلمها محمد ممن عنده علم الكتاب كان يجادل العرب المشركين ويستعلي عليهم، لأن له في علم الكتاب سلطاناً مبيناً ليس لهم: ﴿أم لكم سلطان مبين، فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين (الصافات ١٥٦ ـ ١٥٧). لذلك يتحداهم: ﴿ائتوني بكتاب من قبل هذا، أو أثارة من علم، إن كنتم صادقين (الأحقاف ٤). فهو عنده كتاب من قبل القرآن العربي، وعنده علْم الكتاب: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة (هود ١٧)، ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢): فليس في القرآن العربي، بالنسبة الى الكتاب الإمام، سوى اللسان العربي المبين.

١٠ـ ان محمداً في القرآن العربي يُؤمر أن يقتدي بهدى أهل ﴿الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة أي من هم أهل ﴿الكتاب والحكمة، التوراة والإنجيل معاً: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة... أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠) ـ فثقافة محمد في القرآن العربي كتابية بكل معنى الكلمة، بل ﴿نصرانية.

١١ـ وما القرآن العربي سوى تفصيل وتصديق للكتاب الإمام (هود ١٧؛ الأحقاف ١٢) بين العرب: ﴿وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله؛ ولكنْ تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين (يونس ٣٧). إن محمداً، بأمر الله في غار حرّاء، يفصّل الكتاب للعرب في القرآن العربي. والتفصيل بلغة القرآن يعني الترجمة بلغتنا: ﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً، لقالوا: لولا فُصّلت آياته (فصلت ٤٤). فالقرآن العربي ترجمة مفصّلة لقرآن الكتاب الذي عند بني إسرائيل النصارى: ﴿وقد شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقـاف ١٠). وهـذا التفصيل يقتضي العلـم الغزير. ولا ننس أن ﴿التنزيل في لغة القرآن تعبير متشابه لا يعرف معناه ومداه إلاّ بالقرائن القرآنية كلها، ومنها التفصيل والترجمة.

١٢ـ يدل على ذلك صلة القرآن المصدرية بالكتاب الإمام: ﴿إن هذا (القرآن) لفي الصحف الأولى (الأعلى ١٨)، وإنه في زُبر الأولين، وإن كان تنزيل رب العالمين: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين... وإنه لفي زبر الأولين (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٦). وهاتان الصفتان للقرآن العربي تدلاّن على أن تنزيل القرآن العربي كان من تنزيل الكتاب الإمام، فهو تنزيل التنزيل أي تفصيله. ويشهد بذلك أيضاً، معرفة أولي العلم المقسطين أي النصارى من بني إسرائيل: ﴿أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل النصارى (الشعراء ١٩٧)؛ أنهم يعرفون تفصيل الكتاب في القرآن العربي معرفة الوالد ولده: ﴿يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم (البقرة ١٤٦)، ﴿وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم؛ ومَن بَلَغ... الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم ـ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (الأنعام ١٩ ـ ٢٠). لذلك ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، أئمة النصارى (العنكبوت ٤٩). فهذه الصلة المزدوجة بين القرآن والكتاب، وبين أهل الكتاب النصارى والقرآن، حيث هم ﴿أمة واحدة (الأنبياء ٩٢؛ المؤمنون ٥٢) يؤمنون أن التنزيل واحد، والاله واحد، والإسلام بينهم واحـد (العنكبوت ٤٦)، دليـل حاسـم على أن القـرآن العربي ﴿درس و﴿تدريس للكتاب الإمام.

١٣ـ إن القرآن العربي ﴿درس و﴿تدريس للكتاب الإمام كما يُستدل أيضاً من هذه التصاريح. إن ﴿الحكمة على التخصيص في لغة القرآن كناية عن الإنجيل: ﴿قال (عيسى): قد جئتكم بالحكمة (الزخرف ٦٣)؛ والكتاب كناية عن التوراة والنبيّين؛ لذلك يقول لعيسى: ﴿وإذ علمتك الكتاب والحكمة ـ والتوراة والإنجيل (المائدة ١١٠). والله تعالى قد آتى ﴿آل إبراهيم الكتاب والحكمة (النساء ٥٤)؛ ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلّمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً (النساء ١١٣). علّمه الكتاب والحكمة، التوراة والإنجيل، بواسطة أولي العلم المقسطين أي علماء النصارى من بني إسرائيل: ﴿فلا تكن في مرية من لقائه... وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا (السجدة ٤٣ ـ ٤٤) فإنّك ﴿ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به مَن نشاء من عبادنا، وإنك لتُهدى الى صراط مستقيم (الشورى ٥٢). فقد تعلم محمد بواسطتهم الكتاب والحكمة ـ التوراة والإنجيل، وجعل يعلّمهم للعرب في دعوته: ﴿ويُعلمهم الكتاب والحكمة (البقرة ١٢٩؛ آل عمران ١٦٤؛ الجمعة ٢)، ﴿ويعلمكم الكتاب والحكمة (الأحزاب ٣٤).

١٤ـ فالقرآن العربي هو معاً تنزيل وتفصيل، وتعلّم وتعليم، لأن العلم لا يمنع التنزيل. فقد أمِرَ أن يتّبع في دعوته علم أولي العلم الذين ﴿آتيناهم الكتاب والحكم ٣ والنبوّة... وآتيناهم بيّنات من الأمر. فما اختلفوا إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بيناً بينهم... ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها، ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون أي المشركين (الجاثية ١٦ ـ ١٨). فهو يميّز بين الذين لا يعلمون، والذين يعلمون أي أهل الكتاب، وبين هؤلاء يميز بين الذين اختلفوا لمّا جاءَهم ﴿العلم الإنجيلي مع المسيح أي اليهود، وبين النصارى من بني إسرائيل، ﴿أولي العلم على التخصيص. فهؤلاء على محمد أن يتّبع طريقتهم في أمر الدين. وعليه أيضاً أن يقتدي بعلمهم وهداهم: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة... أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدِهْ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠).

١٥ـ فقد عاش محمد قبل بعثته، وفي دعوته في بيئة ﴿أولي العلم. إن ﴿العلم على التخصيص، في اصطلاح القرآن، هو علم الإنجيل والنصارى من بني إسرائيل، هذا ﴿العلم الذي اختلف فيه اليهود ﴿من بعد ما جاءَهم العلم بغيّاً بينهم (١٩:٣؛ ١٤:٤٢؛ ١٧:٤٥). أما محمد فقد ﴿درس علم أولي العلم المقسطين (الأنعام ١٠٥) وأخذ يعلم العرب الكتاب والحكمة ﴿بعد الذي جاءَك من العلم (البقرة ١٢٠)، ﴿من بعد ما جاءَك من العلم (البقرة ١٤٥؛ آل عمران ٦١)، ﴿بعد ما جاءَك من العلم (الرعد ٣٧). فهو ﴿أمة واحدة مع ﴿الراسخين في العلم الذين يشهدون مع الله وملائكته ﴿أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩) ويؤمنون على سواء بمحكم القرآن والمتشابه فيه (آل عمران ٧). فالقرآن الكتابي آيات بيّنات في صدر محمد، كما أن القرآن العربي ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم (العنكبوت ٤٩). لذلك ﴿يرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدي الى صراط العزيز الحميد (سبأ ٦)، وإن كان ﴿ما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً (الإسراء ٨٥). ومحمد يعتزّ دائماً بشهادة ﴿من عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣)، ﴿الذين أوتوا العلم (٢٧:١٦؛ ٨٠:٢٨؛ ٥٦:٣٠). لذلك أيضاً ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم درجات (المجادلة ١١).

فبيئة محمد قبل بعثته، وفي دعوته، هي بيئة ﴿أولي العلم؛ وثقافة محمد هي ثقافة ﴿أولي العلم؛ وبهذا ﴿العلم يجادل العرب الذين يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتـاب منير (٨:٢٢؛ ٢٠:٣١)، ويشهد لهـم في القرآن العربي بشهـادة الله وملائكته ﴿وأولي العلم قائماً بالقسط... أن الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩).

١٦ـ والقرآن يشهد أخيراً بأن محمداً تعلّم البيان مع الكتاب. يقول: ﴿الرحمان علم القرآن، خلق الانسان علّمه البيان (الرحمان ١ ـ ٤). يقصد ﴿بالانسان محمداً نفسه لضرورة حمله على ﴿علّم القرآن، فهـو تخصيص في معرض التعميم. وقوله ﴿علمه البيان قد يُحمل على ﴿علم القرآن؛ لكن يمنع من ذلك ربطه بما قبله مباشرة وهو ﴿خلق الانسان: فكما أنَّ الخلق بالولادة ليس معجزة، كذلك تعليم البيان المربوط به ليس عن طريق المعجزة أو عن طريق التنزيل. فالله خلق محمداً وعلمه البيان كسائر أهل البيان؛ ثم ﴿الرحمان علّم القرآن. فتعلم البيان لا يقوم على تعلم القرآن؛ بل هو سابق له مربوط بخلق محمد قبل تنزيل القرآن.

وهكذا فالقرآن يشهد بصراحة أن محمداً ﴿درس وتعلم ﴿البيان. وهو يدعو أهل مكّة ويجادلهم بهدى وعلم الكتاب المنير، مع ﴿الراسخين في العلم.

وهكذا فجميع القرائن القرآنية الصريحة ـ التي توضح معنى بعض الآيات المتشابهات ـ تشهد شهادة جامعة مانعة بأن محمداً كان ﴿عالماً في صحبة ﴿الراسخين في العلم.

ثالثاً: شهادة التاريخ بثقافة محمّد الواسعة

إن التفسير الصحيح للقرآن، والحديث الصحيح، والتاريخ الصحيح، كلها تؤيد شهادة القرآن، بثقافة محمد الكتابية والعامة الواسعة.

١ ـ بيئة النبي والقرآن العلمية والكتابية

علّق الأستاذ دروزة ٤ على القرائن القرآنية بقوله: ﴿والقرائن القرآنية تلهمنا من جهة، والتاريخ المتّصل بالمشاهدة من جهة أخرى يخبرنا بأن آلافا مؤلفة من العرب كانوا نصارى، ومنهم البدو ومنهم الحضر... وفيها دلائل على ما كان عند عرب الحجاز، وعرب مكّة خاصة من إلمام غير يسير بالنصرانية وعقائدها وقصصها واشكالات ولادة المسيح ص ونبوته وصلبه، وما كان فيها من مذاهب وآراء. وطبيعي أن يكون لهذا كله ردّ فعل في نفوسهم ومعارفهم وعقولهم وعقائدهم. ويدل على التأثر بهم بطبيعة الحال. واذا أريد أن يقال إنه لم يكن في بيئة النبي ﷺ الخاصة من النصارى ما يمكن أن يكون له أثر بالغ في العرب، كالذي يمكن أن يكون لليهود بسبب كثرتهم فينبغي أن لا ننسى أنه كان في مكّة من النصارى الذين هم فطنة علم وتعليم ما يكفي لتأثير نابهيها الذين قادوا حركة المعارضة للنبي ﷺ والذين حكي القرآن على الأغلب مواقفهم وأقوالهم؛ وأن مشركي مكّة ذهبوا فيما ذهبوا اليه أن النبي قد تعلّم وتأثر بهم (النحل ١٠٣ فرقان ٤).

﴿وان لا ننسى تلك الألوف المؤلفة من متنصرة العرب الذين كان الحجازيون خاصة يغدون ويروحون اليهم في أسفارهم ورحلاتهم، ويخالطونهم مخالطة الشقيق، ويتفاهمون معهم بلسانهم القومي المشترك. وأن لا ننسى أيضاً أن كثيراً منهم كانوا يشهدون مواسم الحج وأسواقه، ومنهم مَن كان يبشر ويخطب كقس بن ساعدة. وأن الصلات والتقاليد القبلية كانت تجمع النصراني من العرب برابطة الآباء والأجداد ربطاً وثيقاً تتّصل أواصره وتستمر. وأنه كان كثير من العرب غير النصارى، وخاصة الحجازيين يصهرون الى عرب النصارى، وبالعكس، فتزداد هذه الأواصر والمظاهر قوة ولحمة. وان هذا كله من شأنه أن يُهييء لعرب الحجاز الفرص الكثيرة الوافية للاطلاع والاستماع والدرس والتأثر.

واستطرد الى ترجمة التوراة والإنجيل الى العربية، فقال: ﴿إن القرآن يحكي مواقف حجاج ومناظرة دينية بين النبي ﷺ من جهة والنصارى واليهود من جهة أخرى... والقرائن القرآنية تلهمنا من جهة، والتاريخ المتصل بالمشاهدة من جهة أخرى يخبرنا بأن آلافاً مؤلفة من العرب كانوا نصارى، ومنهم البدو ومنهم الحضر! واستتباعاً لهذا فإن السائغ أن يقال: إنه لا بد من أن يكون بعض أسفار العهد القديم والعهد الجديد، إن لم يكن جميعها قد ترجمت الى العربية قبل الإسلام، وضاعت فيما ضاع من آثار عربية مدوّنة في غمرات الثورات والفتن والحروب. ولعلّ ما في القرآن من أسماء وكلمات معرّبة كثيرة، ومن تعابير مترجمة متصلة بمحتويات هذه الأسفار، ممّا تصح أن تكون قرائن على ذلك. ونرى أن هذا هو الذي يستقيم مع وجود عشرات ألوف العرب النصارى، وآلاف الرهبان، والقسيسين العرب، ومئات الكنائس والأديار العربية.

وصحيح البخاري (٢:١ ـ ٣) ينقل لنا أن العالم النصراني، ورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة، زوج النبي، كان في مكّة يترجم التوراة والإنجيل الى العربية، ويدعو بترجمته الى نصرانيته. وقد حضر محمد هذه الترجمة، بعد زواجه من خديجة، ابنة عم ورقة وبإرشاده، مدة خمسة عشر عاماً مبعثه.

وفيما يخص النبي محمد مباشرة يقول الأستاذ دروزة ٥ : ﴿ولقد أثبتنا بالاستدلالات القرآنية في كتابنا (عصر النبي ﷺ وبيئته قبل البعثة) أن أهل بيئة النبي ﷺ كانوا على اتصال بالأمم الكتابية وغير الكتابية، عن طريق المستقرين منهم في الحجاز وعن طريق الرحلات المستمرة الى البلاد المجاورة. وأن كثيراً من أخبارهم ومعارفهم وعقائدهم ومقالاتهم وأحوالهم قد تسرّبت الى العرب وشاهدوا مشاهدها التاريخية والمعاصرة؛ وليس من الطبيعي، ولا من المعقول أن يبقى النبيفي عزلة، أو غفلة عن هذا كله. حقيقة قد علّم الله النبي بوحيه وتنزيله أموراً متنوعة كثيرة كان غافلاً عنها هو وقومه، ولكن ذلك لا يقتضي أنه كان غافلاً عن كل ما حوله من أمور، وما يدور في بيئته وعلى ألسنة معاصريه من كتابيين وغير كتابيين، عرب وغير عرب، من أنباء وقصص وظروف وحالات: فإن هذا يناقض طبائع الأشياء... وفي القرآن إشارات الى أمور كثيرة جداً مما كان عليه الناس في بيئة النبي ﷺ ودائراً فيها من شؤون وظروف وحالات دينية واجتماعية وأخلاقية ومعاشية ومعارف وأنباء تناولها القرآن بالذكر جدلاً وعظة وتعليماً وتنديداً واصلاحاً وتشريعاً وحظراً وإباحة. ولو يقول أحد بطبيعة الحال أن هذه الأمور جاءَت في القرآن جديدة. أو أن النبي ﷺ كان أو يمكن أن يكون في غفلة أو عزلة عنها قبل بعثته، وكثير منها متصل بتاريخ وأحوال وتقاليد ظروف عربية وغير عربية. وليس هناك فرق فيما نعتقد، في المدى، بين الحالتين.

وعلى الخصوص يشهد التاريخ والقرآن أن محمداً انخرط قبل بعثته في الحركة الحنيفية، التي كانوا يسمونها ﴿ملّة إبراهيم: ﴿ثم أوحينا إليك أن اتبع ملّة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين (النحل ١٢٣)؛ فاتبعها ودعا اليها وصبغ ملته بصبغتها: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم (الحج ٧٨). قال أيضاً دروزة ٦ : ﴿فهذه الآيات وأمثالها تلهم أن ملّة إبراهيم. التوحيدية الحنيفية كانت ممّا تتداوله الألسن قبل البعثة، وعنواناً على الملة المثلى لمعرفة الله وعبادته... والذي نعتقده، وهو ما وصلنا الى استنتاجه في كتابنا (عصر النبي ﷺ وبيئته قبل البعثة)، ونرى أن الآيات القرآنية تلهمه: أن النبيكان من هؤلاء الأفراد الذين أنفوا من تقاليد الآباء الشركية والجاهلية، واعتنقوا فكرة الوحدانية وأخذوا يعبدون الله على ملّة إبراهيم ص. أو ما ظنوه كذلك أو أخذوا يبحثون عنها، ولم يعتنقوا اليهودة ولا النصرانية... وأنه كان كذلك منذ أن نضج شبابه... وأن اقترانه بالسيدة خديجة ر. ساعده على التفرّغ لاتجاهه وحياته الروحية، هذه التي كان من مظاهرها تلك الرياضات أو الاعتكافات الروحية السنوية في رمضان وفي غار حرّاء خاصة... الى أن خصه الله بفضله، فاصطفاه دون غيره من أهل طبقته لما علم فيه من مواهب عظمى جعلته أهلاً للرسالة. والحنيفية مثل الإسلام اسمان أشاعهما النصارى في الحجاز لإيلاف أهله.

إن الرياضات النسكية الروحية السنوية عادة رهبانية أخذها الحنفاء عن مرشديهم الرهبان مثل القس ورقة بن نوفل؛ والإسلام معروف اسماً وموضوعا قبل القرآن: ﴿هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا القرآن (الحج ٧٨).

وقد تمت هداية محمد وتعليمه ﴿الكتاب والحكمة على مرحلتين: الأولى بمناسبة زواجه من خديجة: ﴿ألم يجدك يتيما فآوى! ووجدك ضالاً فهدى! ووجدك عائلاً فأغنى (الضحى ٦ ـ ٨) كان عائلاً فقيراً فاغتنى بزواجه من الشريفة خديجة. وهدايته المذكورة هنا كانت في زواجه؛ فمن الواضح أنها كانت الى التوحيد الحنيفي النصراني. والهداية الثانية كانت للدعوة الى التوحيد الكتابي على طريقة ورقة بن نوفل في بعثته وفي رؤيا غار حرّاء: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي بن مَن نشاء من عبادنا، وأنك لتهدى الى صراط مستقيم (الشورى ٥٢) فاهتدى وآمن: ﴿وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب (الشورى ١٥) فانضم الى أهل الكتاب المسلمين وتلا قرآن الكتاب معهم: وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢)، وصار معهم ﴿أمة واحدة (الأنبياء ٩٢ المؤمنون ٥٢).

وعلى هامش انضمام محمد الى الحركة الحنيفية، ﴿منذ أن نضج شبابه كان له حلقة رفاق يجتمع اليهم ويبحثون في الأدب والدين والتوحيد. قال أيضاً الأستاذ دروزة ٧ : ﴿في سورة النحل آية تحكي دعوى بعض الكفّار أن شخصاً أجنبياً معيناً كان يعلّم النبي، وتردّ هذه الدعوى. وهذه هي الآية (ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر! ـ لسان الذي يلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين) ـ (١٠٣). والآية تنفي التعليم الذي أراد ناسبوه في ادعائهم جحود نزول الوحي الرباني بالقرآن على النبي ﷺ. غير أنها لا تنفي اتصالاً ما بينه وبين أحد أفراد الجالية الأجنبية كما هو ظاهر. والمتبادر أن الجاحدين لم يكونوا ليقولوا ما قالوه لو لم يروا أو يعرفوا أن النبي ﷺ كان يتردّد على شخص من أفراد هذه الجالية في مكّة، هو أهل علم وتعليم ديني، وله وقوف على الكتب الدينيةالسماوية... وأنه كان يستمع أحياناً الى ما يُقرأ من تلك الكتب. وليس من المستبعد، إن لم نقل من المرجح، أن يكون هذا الاتصال قبل البعثة ثم امتد الى ما بعد البعثة.

﴿وفي سورة الفرقان آية تحكي كذلك دعوى بعض الكفّار أن النبي ﷺ كان يستعين في نظم القرآن ﴿بقوم آخرين كما ترى (وقال الذين كفروا: إنْ هذا إلاّ إفك افتراه، وأعانه عليه قوم آخرون! ـ فقد جاؤوا ظلماً وزوراً ـ (٤) ـ والآية إنما تنفي كذلك دعوى الاستعانة ولا تنفي اتصالاً أو صحبة بين النبي ﷺ وفريق من الناس، كما أن تعبير ﴿قوم آخرون، يلهم أن المنسوب اليهم أكثر من واحد. وبالتالي يسوغ القول إنه غير الشخص الأعجمي المعني في آية النحل (١٠٣). والذي يتبادر الى الذهن أن الكفّار لم يكونوا ليقولوا ما قالوه، مما حكته الآية، لو لم يروا أو يعرفوا أنه كان للنبي ﷺ حلقة، أو رفاق يجتمعون اليه ويجتمع اليهم، ويتحدثون في الأمور الدينية. وليس من المستبعد ـ إن لم نقل من المرجح ـ أن هذا كان قبل البعثة ثم امتد الى ما بعدها. وأن يكون من هؤلاء الرفاق أفراد من الجالية الكتابية.

٢ ـ حاشية محمّد قبل البعثة وبعدها كانت حاشية علم وتوحيد كتابي

قبل البعثة كان محمد حنيفاً يؤمن بالتوحيد ويبحث عنه وفيه مع زملائه. وكان له أيضاً رفقة من أهل الكتاب ومن العرب يجتمعون ويبحثون في الدين والتوحيد.

وبعد البعثة نرى في حاشية محمد جلّة القوم من الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعليّ وكلّهم من أهل العلم والمعرفة بشؤون الدين والدنيا. وخاصته من أهل الكتاب سلمان الفارسي النصراني الخبير بالدين وشؤون الحرب وهو صاحب فكرة الخندق حول المدينة للدفاع عنها؛ وصهيب الرومي الثري؛ وبلال الحبشي مؤذن النبي؛ ثلاثة نصارى من بلاد مختلفة، ذوي معارف مختلفة، يحلّون ويرحلون مع محمد؛ ومعه اثنان من علماء اليهود، كعب الأحبار وعبد الله بن سلام. فهذه الحاشية الكريمة، والصحابة اللامعة دليل بيئة متثقفة في الأدب والدين والكتاب المقدس، أكفاء لحمل الدعوة الكتابية مع الداعي الأكبر.

ونقل محمد صبيح ٨ أن ﴿الذين كانوا يعرفون القراءَة والكتابة من أصحابه الأُوَل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير. وقد أحصى كتاب الإسلام والحضارة العربية اثنينوأربعين كاتباً كانوا يؤلفون الديوان النبوي... وتقول دائرة المعارف الإسلامية، نقلاً عن البقلاذري أن حفصة وأم كلثوم كانتا تعرفان القراءَة والكتابة، وأن عائشة وأم سلمة كانتا تعرفان القراءَة ولا تعرفان الكتابة... وعن الأزرقي أن بلداً مثل مكّة كانت تكثر فيه التجارة مع الخارج، ما كان يمكن أن يخلو من كثيرين يكتبون ويقرأون: فالتجارة تحتاج الى حساب والحساب يحتاج الى تدوين.

من هذا يتضح أن الأرستقراطية المكية كانت تقرأ وتكتب، وعلى ثقافة واسعة. ومحمد تربي عند عمه أبي طالب، الذي ثقّف عليّاً ثقافة عالية، فكان كاتباً وخطيباً شق (نهج البلاغة) للعرب: أيكون محمد، وهو أمانة عند عمه، دون ابن عمه؟

٣ ـ يدلّنا على ثقافة محمد ظاهرتان أخريان: التجارة والثقافة

أجمعت المصادر أن محمداً تعلم التجارة بين اليمن والشام على يد عمه. ولمّا برع فيها استخدمته السيدة خديجة بنت خويلد في تجارتها، فأعجبها فعرضت عليه الزواج منها وكان ذلك. ﴿ثم خرج على تجارة خديجة، التي كانت قيمتها تعادل قيمة تجارة قريش مجتمعة. أي إنه كان يخرج على نصف تجارة قريش كلها ٩ . تجارة كهذه تحتاج الى الحساب الدقيق، والحساب الكبير يحتاج الى تدوين. من هذا الوجه، هذا دليل أول على أن محمداً لم يكن أمّيّا. ومن وجه آخر، هذه الرحلات المتواصلة الغنية ما بين اليمن والشام، كانت سبب اتصالات مالية وثقافية نادرة، سمحت لمحمد الحنيف اللقاء بالمفكرين وعلماء الدين. فكان محمد بعد زواجه أكبر تاجر دولي في قريش، وأوسع أهلها ثقافة عربية وأجنبية.

والظاهرة الثانية أن محمداً بحكم تجارته كان يعرف لغات أجنبية، ويؤثر الاتصال بالأجانب المقيمين في مكّة. قال محمد صبيح ١٠ : ﴿ومن هنا يمكن أن نقرّر أن أهل مكّة عرفوا لغات أجنبية، الى جانب لغتهم الأصلية؛ وأن اللغة الأصلية نفسها تأثرت بهذه اللغات التي تنتقل الى مكّة من الأجانب المقيمين بها، أو تنتقل اليها مكّة في متاجرها. وقد كونت هذه الرحلات وهذه الاتصالات، الى جانب التأثير اللغوي ثقافة غير هينة، كما وجدت حركة تدوين وقراءَة... ولم يقل أحد إن رسول الله لم يكن يعلم شيئاً من أمر هذه اللغات التي تأثرت بها مكّة، وأمر هذه الثقافات التي ذابت فيها.

﴿بل أكثر من هذا، فإن لدينا من الحوادث ما يؤكد اتصال رسول الله، وهو في مكّة بهؤلاء الأجانب الذين كانوا يقيمون فيها، وكان يزورهم ويطيل صحبتهم. فقد روي عن عبيد الله بن مسلم قال: كان لنا غلامان روميّان يقرأان كتاباً لهما بلسانهما، فكان النبي ﷺ يمرّ بهما فيقوم فيسمع منهما. وروي عن ابن اسحاق أن رسول الله كثيراً ما كان يجلس عند المروة الى سبيعة ـ غلام نصراني يقال له جبر ـ عبد لبعض بني الحضرمي. وعن ابن عباس أن النبي كان يزور، وهو في مكّة، أعجمياً اسمه بلعام، وكان المشركون يرونه يدخل عليه ويخرج من عنده. وفي رواية أخرى أن غلاما (كان لحويطب بن عبد العزّى) اسمه عائيش أو يعيش، وكان صاحب كتّيب! وقيل هو جبر، وقيل هما اثنان جبر ويسار، كانا يصنعان السيوف بمكّة ويقرأان التوراة والإنجيل: فكان رسول الله اذا مرّ عليهما وقف يسمع ما يقرأان. واذن فقد كان رسول الله يسمع ما يقرأ في الكتب بلغة غير لغة مكّة، وكان يفهم ما يُتلى عليه.

وهكذا كان محمد يعرف اللغة الحميرية والحبشية الشائعة في اليمن، ويعرف اللغة السريانية لغة سوريا مع الرومية الشائعة فيها، والفارسية التي تتاجر فيها معها. واستشهاد القرآن بالكتاب وأهله في مكّة، وجداله لليهود في المدينة، وتحديهم أن يأتوا بالتوراة فيتلوها أمام الناس، دليل على اطلاعه على العبرية أيضاً. فقد كان محمد لغوياً عالميّاً يعرف الحبشية والحميرية والسريانية والرومية والفارسية والعبرية، أو يعرف بعضها ويلمّ ببعضها. والقرآن شاهد عدل بما فيه بغير لغة الحجاز من لغات العرب المختلفة، وبما فيه بغير لغة العرب، كما جمعها السيوطي في (الإتقان ١٣٤:١ و١٣٦). ﴿وقد ذكر ابن النقيب في (خصائص القرآن) أن القرآن احتوى جميع لغات العرب؛ وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير ١١ . ﴿وقد فهم الصحابة القرآن إجمالاً، ولكن ألفاظاً غير قليلة استغلقت عليهم، بل أن بعضها لا يزال مستغلقاً علينا الى اليوم على الرغم من أن وسيلة العلم ببعض اللغات القديمة قد توفرت لدينا ١٢ .

فتلك التعابير بغير لغة الحجاز، أو بغير لغة العرب؛ سواءٌ دخلت لغة قريش قبل القرآن، أو أدخل القرآن معظمها في لغته ليبهرهم بإِعجازه اللغوي، إنما هي شواهد قرآنية ملموسة، على سعة علم محمد قبل مبعثه، وعلى اطلاعه على لغات العرب وعلى لغات أجنبية عديدة.

قال أيضاً الأستاذ دروزة ١٣ : ﴿في القرآن بعض آيات تذكر أنّ النبي ﷺ كان غافلاً قبل نزول القرآن عليه كما ترى في الآية التالية (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن، وإن كنت من قبله لمن الغافلين ـ يوسف ٣). وأن الله قد علمه ما لم يكن يعلم: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلّمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً ـ النساء ١١٣). وأنه لم يكن يتلو قبل القرآن من كتاب ولا يخطه بيمينه: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك: إذًا لارتاب المبطلون ـ العنكبوت ٤٨) وقد سبق هذا للتدليل على عدم وجاهة ارتياب الجاحدين في صحة التنزيل والوحي الرباني. فهذه الآيات وأمثالها قد حملت على ما يبدو بعض علماء المسلمين على نفي الاكتساب العلمي عن النبي ﷺ قبل البعثة، بل على بذل الجهد في هذا النفي وتوكيده... ونحن لا نرى حكمة أو ضرورة تحمل هؤلاء العلماء على نفي الاكتساب العلمي عن النبي ﷺ قبل بعثته وبذل الجهد في هذا النفي. كما أننا لا نرى هذه الآيات تتعارض مع صحة القول بأن النبي ﷺ قد اكتسب معارف كثيرة مما كانت تحتويه الكتب الدينية وغيرها من مبادئ وأسس وتشريعات وقصص، ممّا كان يدور على ألسنة الناس من مثل ذلك، كتابيين كانوا أو غير كتابيين: بسبب تلك الاتصالات التي تلهم وقوعها الآيات القرآنية؛ وبسبب الرحلات التي اجمعت الروايات على أن النبي ﷺ قد قام بها؛ وبسبب طبيعة وجوده في بيئة تلم إلماماً غير يسير بهذه المعارف، وكل ما في الأمر أن هذه الآيات هي بسبيل توكيد صحة الوحي الرباني والتنزيل القرآني؛ والتنبيه على أن النبيلم يكن قد فكّر قبل الوحي والتنزيل بالدعوة، أو أمَّل بأن يكون هو الذي اصطفاه الله ورآه أهلاً لوحيه وتنزيله، ممّا يمكن أن تكون الآيات التالية قد أرادت تقريره، كما ترى فيها: ﴿قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثتُ فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون ـ يونس ١٦)؛ وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك ـ القصص ٨٦)؛ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ـ الشورى ٥٢.

وأضاف: ﴿أما الدعوى بأن ما اكتسبه النبي ﷺ من معارف كثيرة، كتابية وغير كتابية، وتاريخية وجغرافية واجتماعية وكونية ودينية، تتوقف على معرفة الكتابة والقراءَة فمنشأها في نظرنا أن الباحثين ينظرون بعين الحاضر وعقله أكثر مما ينظرون بعين زمن مضى منذ أربعة عشر قرناً، وعقله في بيئة مثل بيئة الحجاز بنوع خاص. وقليل من التفكير يكفي لتبين الغلو في هذه النظرة: فلا مطابع، ولا مكاتب، ولا وراقة، ولا كتب منتشرة متيسرة. وكل ما هناك بعض كتب ورسائل وصحف دينية مكتوبة على الأعم الأغلب بغير اللغة العربية، وفي نطاق محدود جداً. ومن المعقول جداً أن يكون الاعتماد في مثل هذه الظروف على الذاكرة الواعية؛ وليس بدعاً ولا غريباً أن يكون السماع والحفظ هما طريق اكتساب المعارف التي اكتسبها النبيقبل بعثته وبعدها ـ إن لم يكن اكتساب بالوحي الرباني ـ ومثل هذا غير نادر الوقوع في كل زمان ومكان في اليوم، ومن الأولى أن يكون هو الأكثر حدوثاً في عصر النبي ﷺ وبيئته.

وأصحاب الشعر الجاهلي ورواته، وحفظة القرآن نفسه هم خير دليل.

فالتاريخ والتفسير والحديث تؤيّد تلقينات القرآن وتصاريحه بأن محمداً لم يكن على شيء من الأمية. فليست الأمية التي ينسبها القرآن إلى محمد لغوية علمية، بل قومية بحسب اصطلاح الكتاب والقرآن. لم يكن من أهل الكتاب، بل عربيّاً من الأمم التي ليس لها الكتاب المنزل.

٤ ـ دور ورقة بن نوفل في ثقافة محمد ودعوته

والسر الخطير في ثقافة محمد ودعوته هو وجود العالم النصراني ورقة بن نوفل، ابن عم السيدة خديجة، واستاذ محمد الأكبر. كان ولي خديجة وهو الذي أزوجها محمداً لِمَا توسَّم فيه من المزايا التي تجعله أهلاً للرسالة التي يقوم بها في مكّة والحجاز. كان يترجم التوراة والإنجيل الى العربية، ويدعو بترجمته الى التوحيد الكتابي النصراني.

وقصة علاقة محمد بورقة بواسطة خديجة ينقلها صحيح البخاري (٢:١ ـ ٣) وصحيح مسلم، وطبقات ابن سعد، ومروج الذهب للمسعودي، وغيرهم.

تاجر محمد لخديجة ثم تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي ابنة أربعين. وعاش محمد، صهر ورقة، في جوار العالم النصراني وصحبته خمسة عشر عاماً قبل بعثته. يطّلع أثناءَها على ما يترجم ورقة الى العربية من التوراة والإنجيل. وكان محمد ذاته يفهم لغتهما. وكم من أحاديث عن التوحيد الكتابي والنصرانية، وقصص الأنبياء، كانت تدور بينهما وتلك العشرة الكريمة العلمية هي التي أوصلت محمداً من التوحيد الحنيفي الى التوحيد الكتابي النصراني الذي اعتنقه في رؤيا غار حرّاء: ﴿وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢). ﴿قل: آمنت بما أنزل الله من كتاب (الشورى ١٥).

ودليل على صلة محمد الدينية العلمية بورقة بن نوفل، ما رواه البخاري من نزع السيدة خديجة بالفطرة الى ابن عمها العالم الفقيه، اذ رجع محمد مضطرباً بعد رؤيا حراء، تروي له ما جرى لزوجها الكريم، ثم كيف قادت محمداً الى ورقة يقص عليه قصته. ﴿فقال له ورقة: هذا هو الناموس الذي نزل على موسى ! ثم ثبّته في هدايته، وحمله على الدعوة لها في لقاء ثانٍ في فناء الكعبة. وأكبر دليل على ذلك ما تختم به عائشة حديثها عن تلك الصلة الكريمة: ﴿ثم لم ينشب أن توفي ورقة وفتر الوحي! فما سرّ علاقة فتور الوحي بوفاة ورقة؟ أليس أنه من بواعثه؟ ويذكر الحديث أن محمداً حزن لوفاة ورقة حزناً بليغاً أوصله الى القنوط واليأس، حتى لقد همّ مراراً بالانتحار، لولا أن تداركه الله، وعاد اليه وحيه. ألا يدل هذا الهوس على أن محمداً كان يعتبر ورقة استاذه الأكبر؟ أجل إن شيئاً من سر محمد في ثقافته وهدايته وبعثته ودعوته قائم على وجوده في جوار ورقة أستاذه في التوراة والإنجيل. وكان ورقة قسّ مكّة، بلغة السريان، أو أسقفها ومطرانها بلغة الروم.

وهكذا يظهر محمد قبل بعثته: تاجراً دوليّاً ما بين اليمن والشام وما اليهما، عالماً لغويّاً بلغات العرب ولغات الأجانب في أطراف الجزيرة العربيّة، حنيفاً وبحاثة دينياً يجوب البلاد في سبيل التجارة والعلم والدين، مطلعاً على التوراة والإنجيل، ينتسب إليهما، ويفهم لغتهما ويسمع قراءَتهما بارتياح.

فالثقافة لا تمنع النبوّة. ولكن ثقافة محمد العالية تقضي على أساس عميق من أسس معجزة الإِعجاز: أمية محمد. فمعجزة إِعجاز القرآن لا أساس لها في القرآن والسيرة، من حيث أمية محمد. فهي معجزة مشبوهة في عرْف المنطق والتاريخ. إن النبوّة تأتلف مع العلم والثقافة.

بحث ثان

القرآن كلام اللّه. فهو معجز في ذاته

(الأساس الثاني للإِعجاز)

ان الأساس الثاني لإِعجاز القرآن هو أنه كلام الله، وكلام الله معجز في ذاته للمخلوقين أجمعين.

أولاً: كلام الله في القرآن

وهذا الأساس تفرّع الى ثلاث مقالات:

المقالة الأولى: إن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات الإلهية. قال السيوطي في (الإتقان ١١٨:٢) ينقل المقالة ويرد عليها: ﴿فزعم قوم أنّ التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات؛ وأن العرب كُلّفت في ذلك ما لا يُطاق، به وقع عجزها. وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يُتصوَّر التحدي به! والصواب ما قاله الجمهور إنه وقع بالدالّ على القديم، وهو الألفاظ.

المقالة الثانية: إنه حكاية عن كلام الله القديم. هذه مقالة الجمهور، بحسب السيوطي، في إِعجاز القرآن. قال أحمد أحمد بدوي ١٤ : ﴿كما لا نقبل قول مَن قال: إن وجه الإِعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن كلام الله القديم. لأنه لو كان كذلك، لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله معجزات في النظم والتأليف، وما قال بذلك أحد، ولا ذكرته تلك الكتب نفسها ١٥ . وكذلك كان من الواجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها منفردة ـ وذلك ما لم يقل به أحد.

المقالة الثالثة: كلام الله المنزل معجز في ذاته. هذا قول ابن حزم في كتابه (الفِصَل). وعنه تناقلوه الى اليوم. قال: ﴿لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز. لكن لمّا قاله الله تعالى وجعله كلاماً له، أصاره معجزاً ومنع من مماثلته... وهذا برهان كافٍ لا يحتاج الى غيره.

وفي أيامنا يقول عبد الكريم الخطيب ١٦ : ﴿إن القرآن، وهو كلام الله، لا يمكن أن يوازن به كلام، فهو لهذا معجز في ذاته.

وقد ردّ هذه المقالة مصطفى صادق الرافعي ١٧ : ﴿قال (ابن حزم): ﴿وهذا برهان كاف لا يحتاج الى غيره ـ نقول: بل هو فوق الكفاية، وأكثر من أن يكون كافياً أيضاً، لأنه لمّا قاله ابن حزم وجعله رأياً له، أصاره كافياً لا يحتاج الى غيره... وهل يُراد من اثبات الإِعجاز للقرآن، إلاّ إثبات أنه كلام الله تعالى؟ يعني أنه منطق معكوس. إنه يثبت ما يُراد إثباته بدون برهان.

ثانياً: البيّنة على كلام الله بالمعجزة لا بالإِعجاز

أجل إن كلام الله معجز في ذاته للمخلوقين أجمعين. ولكن ما البرهان على أنه كلام الله؟ وما البيّنة على صدق النبي أنه ينقل كلام الله ذاته؟

فالسر، كل السر، في الجزم أنه كلام الله، للاقرار بإِعجازه. وبما أن كلام الله لا يصلنا إلاّ بواسطة بشر، وبكلام بشر، فالبيّنة على أنه كلام الله لا تكون في ذاته. ولا تكون أيضاً في واسطته، لئلا يشتبه الأمر علينا بين كلام الخالق وكلام المخلوق؛ فالحقيقة في ذاتها واحدة، سواء كانت كلام الخالق أم كلام المخلوق، وخصوصاً أنها في الحالين تأتينا بواسطة المخلوق.

إن كلام الله يأتينا على لسان بشر، وبلغة البشر؛ فلم يعد معجزاً في ذاته. والقول بأن إِعجاز القرآن معجزة له، لأنه كلام الله، منطق معكوس، فهو يثبت بدون برهان ما يُراد اثباته. فما البرهان أنه كلام الله؟ وما الدليل على صدق النبي في زعمه أنه كلام الله؟ ﴿قلْ: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين!

والبرهان خارج بطبيعته عن الكلام المزعوم لله، وعن النبي الذي يدّعيه. قال الجويني في (الارشاد ص ٣٣١): ﴿لا دليل على صدق النبي غير المعجزة. فإن قيل: هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة؟ ـ قلنا: ذلك غير ممكن.

لذلك كان قول ابن خلدون: ﴿إن أعظم المعجزات دلالة القرآن... لاجتماع الدليل والمدلول عليه، فيه مغالطتان بل تناقضان: المدلول عليه هو كلام الله وهذا ما يُراد إثباته! والدليل عليه هو إِعجاز هذا الكلام إِعجازاً إلهياً، فما هو برهان إِعجازه؟ وهكذا فالمدلول بحاجة الى برهان؛ والدليل بحاجة أيضاً الى برهان. والبيّنة التي تحتاج الى بيّنة، لا تكون بيّنة كافية من ذاتها. إنها بحاجة إلى بيّنة أخرى لا تتصل بها في الذات. ولإثبات قول نبي أنه كلام الله فهو بحاجة الى ﴿معجزات خارقة لا تتصل به في الذات ١٨ .

ثالثاً: كلام الله والإِعجاز

والقول بأن القرآن معجزة لأنه كلام الله، ليس ميزة له وحده، لأنه في هذا هو التوراة والإنجيل سواء؛ كلها في نظر القرآن كلام الله المنزَّل تنزيلاً: ﴿آلم. الله لا إله إلاّ هو، الحيّ القيوم نزّل عليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان (آل عمران ١ ـ ٤).

فبحسب منطق القرآن، إن كل كتب الله معجزة لأنها كلام الله. فليس للقرآن ميزة عليها، من حيث هو كلام الله، في الإِعجاز والمعجزة. بل الميزة للكتاب على القرآن لأن القرآن جاء ﴿مصدقا لما بين يديه، بل هو ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧)؛ والكتاب إمامه في الهدى والبيان: ﴿ومن قبله كتاب موسى (وعيسى) إماماً ورحمةً؛ وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢)، فالإمام هو الكتاب؛ وما القرآن سوى نسخة عربية عنه ليس فيها من مزيد سوى اللسان العربي المبين: وحسب النسخة في الإِعجاز والمعجزة أن تكون مثل إمامها.

يردّ الباقلاني على هذا بقوله: ﴿فإن قيل: فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عزّ وجلّ معجز كالتوراة والإنجيل والصحف؟ قيل: ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف ـ وإن كان معجزاً كالقرآن في ما يتضمن من الإخبار بالغيوب ـ وإنما لم يكن معجزاً لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن (من الإِعجاز)؛ ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدّي اليه كما وقع التحدي الى القرآن. وبمعنى آخر وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي الى حدّ الإِعجاز.. ومعنى آخر، وهو أنّا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإِعجاز لكتابهم، ولا ادّعى لهم المسلمون. فعُلم أن الإِعجاز ممّا يختص به القرآن.

هذا الذي جاءَ به الباقلاني ما زال يتردّد الى اليوم. وهو متناقض في ذاته: كيف يكون كلام الله معجزاً في كتاب وغير معجز في كتاب آخر؟ وهل ينزل كلام الله بدون نظم ولا تأليف؟ وهل يمكن أن نفصل كلام الله، وهو بمثابة الروح، من الألفاظ والنظم والتأليف، التي هي جسده؟

ووصف الكتاب أي الإنجيل والتوراة أنه ﴿إمام القرآن، أبلغ من التحدّي. ومن علـَّم الباقلاني أن العبرية التي نزلت بها التوراة، وأن اليونانية التي نزل بها الإنجيل، ﴿لا يتأتى فيهما من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي الى حدّ الإِعجاز؟

ومَن قال للباقلاني إن أهل التوراة والإنجيل لم يدّعوا الإِعجاز في الهدى والبيان لكتابهم؟ وقد تحدّى أهل الكتاب محمداً على حياته بإِعجاز الكتاب في التأليف، وبتفضيله في التأليف على القرآن: ﴿إنّا لا نراه يتناسق، كما تناسق الكتاب ١٩ ! واستشهاد القرآن المتواتر على صحته بأهل الكتاب، وإحالة النبي حين الشك من نفسه ومن قرآنه (يونس ٩٤ ـ ٩٥) على أساتذته من ﴿الراسخين في العلم، دلائل على إِعجاز الكتاب قبل القرآن.

والقرآن نفسه يتحدّى بالكتاب والقرآن معاً: ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه، إن كنتم صادقين! فإن لم يستجيبوا لك، فاعلم أنما يتبعون أهواءَهم! ومَن أضلّ ممّن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين (القصص ٤٩ ـ ٥٠).

والقول الفصل أن القرآن يتحدّى ﴿بمثله. وها إن ﴿مثله عند أولي العلم من أهل الكتاب: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠). فليس ﴿الإِعجاز ممّا يختص به القرآن، كما يدّعي الباقلاني. إن الإِعجاز في ﴿المثل وفي ﴿الإمام قبل النسخة التي هي ﴿تفصيل الكتاب. والمحكّ الأكبر هو الترجمة الى لغات العالم. فهل يبقى من إِعجاز القرآن في الترجمة كما يبقى من إِعجاز الإنجيل؟

رابعاً: الجدل في أزليّة القرآن

ويتعلّق بالقول بإِعجاز القرآن معجزة إلهية، الجدل الشهير: هل القرآن، بصفته كلام الله، مخلوق أم غير مخلوق، محدث أم قديم في ذات الله؟

يقولون: كلام الله صفة ذاتية في الله؛ والقرآن هو كلام الله؛ فالقرآن إذن صفة ذاتية في الله، فهو قديم غير مخلوق.

وهذا القياس يشتمل على مغالطة أساسية: بين عمل الله في ذاته، وعمل الله خارجاً عن ذاته. فالقدرة على الخلق صفة ذاتية في الله؛ أمّا الخلق فهو عمل في خارج الله. وكذلك كلام الله؛ فهو بكونه صفة ذاتية فهو في ذات الله؛ أمّا التنزيل فهو عمل في خارج الله، وكما أن الخلق بكلام الله وأمره محدث، كذلك تنزيل كلام الله، أو كلام الله المنزل خارج الله، محدث. فالخلق والتنزيل من صفات الله وأعماله: فمن حيث القدرة الذاتية والصفة الذاتية هما من ذات الله؛ أما من حيث العمل خارج الذات الإلهية فالتنزيل محدث كالخلق؛ وكلام الله المنزل محدث كأمر الله في الخلق.

فلا يكون القرآن ـ ولا غيره من الكتب المنزلة ـ بصفته كلام الله، غير مخلوق، ومعجزاً بذاته كصفات الله الذاتية. والاعتماد على إِعجاز القرآن بصفته كلام الله منطق معكوس. فكلام الله على نوعين: كلام الله الذاتي، وهو صفة القديم؛ وكلام الله المنزل وهو محدث كالخلق.

نشأت هذه المسألة من جدال المسيحيين للمسلمين في المسيح الذي يصفه الإنجيل (يوحنا ١:١) والقرآن (النساء ١٧١) انه ﴿كلمة الله ألقاها الى مريم وروح منه. يقولون: إن السيد المسيح، لا بصفته عيسى، ابن مريم، بل بصفته ﴿كلمة الله وروح منه هو قديم قائم في ذات الله، من ذات الله، كنطقه الذاتي في ذاته. فردّ المسلمون أن القرآن هو أيضاً كلام الله، فهو قديم في القديم وغير مخلوق. وفاتهم أن المسيح، بصفته ﴿كلمة الله؛ ذات؛ وأن كلام الله شيء. وفاتهم الفرق الجوهري بين كلام الله في ذاته، وكلام الله في التنزيل: فكلام الله المنزل هو غير ذات الله؛ وكلام الله الذاتي هو ذاته، أو من ذاته في ذاته، فلا هو عين الذات ولا هو غيرها.

ولم يكن احتجاج المعتزلة على أهل السنة والجماعة كفراً، ولا سَخَفاً. نقل الجاحظ استجواب الإمام أحمد بن حنبل، بحضرة المعتصم: ﴿أن أحمد بن أبي داود قال له:

أليس لا شيء إلاّ قديم أو حديث؟

ـ قال: نعم.

قال: أوليس لا قديم إلاّ الله؟

ـ قال: نعم.

قال: فالقرآن اذن حديث!

ـ قال: ليس أنا متكلّم.

وسُئل جعفر بن محمد عن القرآن: ﴿أخالق أم مخلوق؟

ـ فقال: ﴿ليس خالقاً ولا مخلوقاً؛ ولكنه كلام الله عز وجل ٢٠ .

إن القديم وغير المخلوق هو من ذات الله، في ذات الله؛ فلا ينفصل عن ذات الله في التنزيل، كما ينفصل كلام الله المنزل. وكلام الله المنزل ليس كلام الله القديم في ذاته تعالى ليكون غير مخلوق ومعجزاً في ذاته.

إن قضية قدم القرآن أم حدوثه مسألة طارئة على البحث في إِعجاز القرآن بصفته كلام الله. واعتبار كلام الله المنزل صورة لكلام الله الذاتي النفسي لاثبات الإِعجاز الذاتي لكلام الله المنزل، هو ما أورد القوم ذلك المورد المشبوه. فليس كلام الله المنزل هو عين كلام الله في ذاته، من ذاته، لذاته. فكما أن الخلْق هو عمل الخالق وليس الخالق، فكذلك كلام الله المنزل هو عمل الله وليس الله. فلا مجال لإثبات الإِعجاز الذاتي لكلام الله المنزل، لأنه كلام الله؛ فهو يأتينا بواسطة بشر، وبلغة البشر؛ وما هو بشري في جهة من جهاته لا يلزمه إِعجاز الله في ذاته البشرية. فلا بدّ من برهان خارج عن ذاته يدل على أنه من الله. ومتى ثبت أنه من الله ثبتت قدسيته، ودانت له النفوس والعقول والقلوب والأجسام. فقبل التقرير بأن القرآن كلام الله، فهو معجز في ذاته، يجب البرهان على أنه كلام الله، بإثبات صدق النبي الذي ينقله عن الله. وهذا عمل المعجزة، لا صفة الإِعجاز في ذاته. فالأساس الثاني لإِعجاز القرآن كمعجزة متهافت مشبوه.

بحث ثالث

وجه الإِعجاز في القرآن

(الأساس الثالث في الإِعجاز)

أوّلاً: الإِعجاز لغز وسر

إن الأساس الثالث في إِعجاز القرآن هو معرفة وجه الإِعجاز فيه. وهذا هو ﴿اللغز الذي حيّر الناس، كما يقول محمد زغلول سلام ٢١ .

لقد عرف الناس بالفطرة ثم بالمنطق أن المعجزة دليل النبوّة الأوحد. وبما أن علماء الكلام المقسطين لم يجدوا في القرآن معجزة حسيّة، ﴿سُنّة الأنبياء الأولين، وقد لحظوا فيه تحدياً ﴿بمثله للمشركين، فسمّوه إِعجازاً، واتخذوا هذا الإِعجاز معجزة لغوية على صحة النبوّة والقرآن.

وصارت معجزة القرآن اللغوية شبه عقيدة عندهم، لو لم يقم المعتزلة قديماً، وبعض أهل المدرسة العصرية في أيامنا، يقولون: لم يجعل الله القرآن دليلاً على النبوّة! وبرهانهم القاطع في ذلك أن الناس لا يعرفون وجه الإِعجاز فيه. يقول عبد الكريم الخطيب ٢٢ : ﴿إن إِعجاز القرآن ـ في نظرنا ـ سرّ محجوب عن الأنظار؛ ﴿غير أن هناك دراسات اتجهت اتجاهاً مباشراً للبحث عن وجوه الإِعجاز ودلائله في القرآن، فلم يكن من همّها شيء إلاّ أن تكشف النقاب عن هذا السر المحجب.

إن ﴿سراً محجوباً عن الناس، وإن ﴿لغزاً حيّر الناس لا يكون معجزةً لهم. فهو مثل متشابه القرآن ﴿لا يعلم تأويله إلاّ الله! والراسخون في العلم يقولون: آمنا! (آل عمران ٧).

ثانياً: اختلاف دائم على وجه الإِعجاز

وقد عقد السيوطي في (الإتقان ١١٨:٢) فصلاً قيّماً يعدّد فيه المحاولات المتعدّدة المتعارضة لمعرفة وجه الإِعجاز في القرآن. قال: ﴿لمّا ثبت كون القرآن معجزة نبيّنا ص، وجب الاهتمام بمعرفة وجه الإِعجاز. وقد خاض الناس في ذلك كثيراً، فبين محسن ومسيء.

١ ـ ﴿فزعم قوم أن التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات.

٢ ـ ﴿ثم زعم النظام أنه بالصرفة ـ أي أن الله صرف الناس عن معارضته، وكان ذلك مقدوراً لهم.

٣ ـ ﴿وقال قوم: وجه إِعجازه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة.

٤ ـ ﴿وقال آخرون: ما تضمّنه من الأخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها.

٥ ـ ﴿وقال آخرون: ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر، من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل.

٦ ـ ﴿وقال القاضي أبو بكر (الباقلاني): وجه إِعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف؛ وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتادة في كلام العرب، ومباين لأساليب خطاباتهم.

٧ ـ ﴿وقال الإمام فخر الدين (الرازي): وجه الإِعجاز الفصاحة، وغرابة الأسلوب، والسلامة من جميع العيوب.

٨ ـ ﴿وقال الزملكاني: وجه الإِعجاز راجع الى التأليف الخاص به، لا مطلق التأليف، كل فنّ في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى.

٩ ـ ﴿وقال ابن عطية: والذي عليه الجمهور والحذّاق في وجه إِعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه، وتوالي فصاحة الفاظه... فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة.

١٠ـ ﴿وقال حازم: وجه الإِعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها، في جميعه، استمراراً لا يوجد له فترة.

١١ـ ﴿وقال المراكشي: الجهة المعجزة في القرآن تُعرف بالتفكير في علم البيان... لأن جهة إِعجازه ليست مفردات ألفاظه، والاّ كانت قبل نزوله معجزة؛ ولا مجرّد تأليفها، وإلاّ كان كل تأليف معجزاً؛ ولا بالصرف عن معارضتهم. إنه في أحوال تركيبه. فعلى إِعجازه دليل إجمالي وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها.

١٢ـ ﴿وقال الأصفهاني: إن إِعجاز القرآن ذكر من وجهين: احدهما إِعجاز متعلق بنفسه، والثاني بصرف الناس عن معارضته. فالأول يتعلق بالنظم المخصوص، وهذا النظم مخالف لنظم ما عداه؛ والقرآن جامع لمحاسن جميع أنواع الكلام، على نظم غير نظم شيء منها: لا يصح أن يُقال له رسالة أو خطابة، أو شعر أو سجع. والثاني عجزت كافة البلغاء عن معارضته، مصروفة في الباطن عنها.

١٣ـ ﴿وقال السكاكي: إِعجاز القرآن يُدرك ولا يمكن وصفه!

١٤ـ ﴿وقال أبو حيّان التوحيدي: القرآن لا يُشار الى شيء منه إلاّ وكان ذلك المعنى آية، لذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده.

١٥ـ ﴿وقال الخطابي: إن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظام وتأليف، مضمّنا أصح المعاني، جامعاً في ذلك الدليل والمدلول عليه. وقد قلت في إِعجاز القرآن وجهاً ذهب عنه الناس، وهو صنيعه في القلوب، وتأثيره في النفوس.

١٦ـ ﴿وقال ابن سراقة: ذكروا في إِعجازه وجوهاً كثيرة كلها حكمة وصواب: الايجاز مع البلاغة، البيان والفصاحة، الوصف والنظم، خروجه عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر، قارئه لا يكل وسامعه لا يمل.

١٧ـ ﴿وقال الزركشي: الإِعجاز وقع بجميع ما سبق من الكلام، لا يكل واحد على انفراد، مع روعته وجمعه بين صفتي الجزالة العذوبة، وكونه آخر الكتب غنيّاً عنها، وهي ترجع اليه.

١٨ـ ﴿وقال الرماني: وجوه إِعجاز القرآن تظهر من جهات: ترك المعارضة، والتحدّي للكافة، والصرفة، والبلاغة، والإخبار عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة.

١٩ـ ﴿وقال القاضي عياض في (الشفاء): إن القرآن منطوٍ على وجوه من الإِعجاز كثيرة. وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها أربعة: الأول حسن تأليفه والتئام كَلِمِه وفصاحته ووجوه ايجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب. الثاني صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومنها نظمها ونثرها. الثالث ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيِّبات. الرابع ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة.

وكان السيوطي آخر مَن تكلّم في الإِعجاز.

وجاءَ أهل العصر يرون فيه وجوهاً جديدة من الإِعجاز:

١ـ فكان مصطفى صادق الرافعي أول من تكلّم في (إِعجاز القرآن) من أبناء العصر. ﴿فالرافعي لم يخرج في إِعجاز القرآن عن هذا الوجه الذي جرى عليه مَن سبقه من القائلين بأن النظم هو سر الإِعجاز فيه ٢٣  ـ وهو من القائلين بالإِعجاز المطلق في القرآن. ﴿إن الناس كلهم يعجزون عن مثله. ومعجز في أثره الانساني، ومعجز كذلك في حقائقه ٢٤ . والخطيب يرد هذه الوجوه الثلاثة من حيث هي وجوه الإِعجاز ٢٥ .

٢ ـ فريد وجدي لا يرى أجمع عليه القوم أن إِعجاز القرآن في نظمه البياني؛ بل هو في ﴿روحانية خاصة هي عندنا جهة إِعجازه والسبب الأكبر في انقطاع الإنس والجن عن محاكاة أقصر سورة من سوره. وناهيك بروحانية الكلام الإلهي. ﴿نعم إن جهة إِعجاز الكتاب الإلهي الأقدس هي تلك (الروحانية العالية) التي قلبت شكل العالم. وهو يستند الى قوله: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا (الشورى ٥٢). وفاته أن ﴿الروح هنا هو ملاك الوحي، بحسب قوله: ﴿يلقي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده (غافر ١٥).

٣ ـ محمد أبو زهرة يرى أن التشريع في القرآن أفضل وجوه الإِعجاز فيه، وأن العلماء لم يذكروه مع أنه أقواها، وبه يكون معجزاً لكل الناس، لا للعرب وحدهم.

٤ ـ عبد الرزاق نوفل يرى وجه الإِعجاز في علم القرآن الذي سبق علوم المتقدمين والمتأخرين. فهو مثلا يرى علم الذرة العصري في كلمة ﴿ذرة اللغوية الواردة في القرآن. فخلط بين اللغة والعلم التقني.

٥ ـ عبد الكريم الخطيب يرى من (الإِعجاز في مفهوم جديد) أنه أقام الحجة البالغة المعجزة على العرب المشركين، وعلى أهل الكتاب من يهود ونصارى؛ وأن شخصية محمد إحدى معجزات القرآن؛ وأن وجوه الإِعجاز الذاتية فيه هي: الصدق المطلق الذي نزل به، وعلو الجهة المنزل منها، وحسن الأداء في النظم والفاصلة، وروحانية القرآن.

٦ ـ الدكتور أحمد أحمد بدوي يرى أن ﴿البلاغة هي سر هذا الإِعجاز.

٧ ـ وسيد قطب يرى أن وجه الإِعجاز في ﴿التصوير الفني في القرآن.

وهناك دراسات لا تأتي بجديد في الكشف عن ﴿سر الإِعجاز.

ثالثاً: الإِعجاز في نظم القرآن

والجميع يرجعون الى مقالة الجاحظ أن سر الإِعجاز في نظم القرآن مبني ومعنى. ولذلك فهو معجز في ذاته، لا بمعجزة حسية مضافة اليه. ولذلك يعتبرونه مع ابن خلدون أعظم المعجزات دلالة على صدق النبوّة وصحة الدعوة لاجتماع الدليل والمدلول عليه فيه.

قال شيخ القائلين بإِعجاز القرآن ذاته معجزة له، الباقلاني: ﴿إن نبوّة النبيمعجزتها القرآن: والذي يوجب الاهتمام بمعرفة إِعجاز القرآن أن نبوّة نبينا عليه السلام بنيت على هذه المعجزة... وذلك يكفي في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء... فبان أن بناء نبوته ﷺ على دلالة القرآن ومعجزاته؛ وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يُعلم أنه كلام الله تعالى. وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على نفسها إلاّ بأمر زائد عليها، ووصف مضاف اليها، لأن نظمها ليس معجزاً وان كان ما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزاً. وليس كذلك القرآن لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها أن نظمه معجز، فيمكن أن يدل به عليه. وحلّ في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم.

لكن اختلاف القوم في وجه الإِعجاز، وحيرتهم التاريخية في معرفة سر إِعجازه، جعلهم يعتبرون إِعجاز القرآن ﴿سراً محجوباً، واللغز الذي حيّر الناس.

يقول عبد الكريم الخطيب ٢٦ : ﴿فلو أن سر الإِعجاز قد انكشف ـ وهيهات ـ لعرفه الناس! ومن ثَم لم يعد بعيداً عن متناول أيديهم... وكان في مستطاعهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن.

وهذا الخلاف المتواتر المتواصل على وجه الإِعجاز دليل الحيرة في العقيدة، والعقيدة لا تكون في حيرة؛ والمعجزة لها وجه مشرق لا يختلف الناس فيه: فإن اختلفوا في وجه الدلالة ضاعت المعجزة ـ فإن ﴿اللغز الذي حيّر الناس لا يكون معجزة لهم. ولجوؤهم في ختام المطاف الى اعتباره ﴿سراً محجوباً  و﴿اللغز الذي حيّر الناس فيه القضاء المبرم على اعتبار الإِعجاز في القرآن معجزة له: لأنه من البديهة أن ﴿ما لا يمكن الوقوف عليه، لا يتصور التحدّي به ٢٧ . وهكذا ينهار الأساس الثالث في اعتبار الإِعجاز القرآني معجزة.

خاتمة

لا يقوم اعتبار الإِعجاز معجزة على أساس صحيح

تلك هي الأسس الثلاثة التي قام عليها اعتبار إِعجاز القرآن معجزة له. وكلها أسس مشبوهة، لا يقوم له قائمة، تصلح قاعدة لعقيدة هي دليل النبوّة الأوحد.

فليس محمد ﴿بالنبي الأمّي. لقد كان علاّمة بلده، وتلميذ علاّمة، ابن عمه ورقة بن نوفل، قسّ مكّة، في ﴿علم الكتاب.

ولا يشك أحد بأن كلام الله معجز بذاته للمخلوق. لكن القرآن، كلام الله، هو المدلول عليه بدليل الإِعجاز. فلا يقوم المدلول عليه بدل الدليل. إنها مغالطة منطقية.

ووجه الإِعجاز مختلف فيه. ولا يصح اختلاف في أساس العقيدة والإيمان، بالقرآن، كلام الله. فهذا الاختلاف القائم برهان قاطع على أنه لا يصح اعتبار الإِعجاز معجزة.

فبناء معجزة القرآن والنبوّة على تلك الأسس الثلاثة، بناء غير قويّ.

وبعد، فتبقى شهادة القرآن لحقيقة إِعجازه، ففيها ﴿القول الفصل، وما هو بالهزل (الطارق ١٣ ـ ١٤).


١. من بلاغة القرآن، ص ٢٧١.

٢. سيرة الرسول ١٦:١ و ٤٥.

٣. الحكم يعني الحكمة: فقد نقل القرآن العربي تعبيرهم العبري والأرامي بحرفه.

٤. عصر النبي وبيئته، ص ٤٥٦ ـ ٤٥٨.

٥. سيرة الرسول ٣٩:١ ـ ٤١.

٦. سيرة الرسول ٣١:١.

٧. سيرة الرسول ٣٦:١ ـ ٣٧.

٨. عن القرآن ص ٧٨.

٩. عبد الرزاق نوفل: محمّد رسولاً نبيّاً ص ٩٧.

١٠. عن القرآن ص ١١٦ ـ ١١٧.

١١. عن القرآن ص ١١٩.

١٢. عن القرآن ص ١١٧.

١٣. سيرة الرسول ٣٨:١ و٤٦.

١٤. من بلاغة القرآن ص ٤٩.

١٥. إن الكاتب واهم في الأمرين معاً. قابل كتاب الأستاذ يوسف درة الحداد: مصادر الوحي الإنجيلي: الدفاع عن المسيحية

١٦. إِعجاز القرآن ٣٤٠:١.

١٧. الرافعي: إِعجاز القرآن ص ١٦٤.

١٨. دروزة: سيرة الرسول ٢٧٩:١.

١٩. قابل (أسباب النّزول) للسيوطي، على سورة البقرة.

٢٠. عن (إِعجاز القرآن) لعبد الكريم الخطيب ٤٣٠:١ ـ ٤٣١.

٢١. أثر القرآن في تطور النقد العربي، ص ٣٥٧.

٢٢. إِعجاز القرآن ٣٦:١ و١٢٥.

٢٣. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ٣٠٢:١ و٣٠٤ و٤٠٥.

٢٤. الرافعي: إِعجاز القرآن، ص ١٧٥.

٢٥. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ٣٠٦:١ ـ ٣١٥.

٢٦. من بلاغة القرآن، ص ٥٣.

٢٧. الخطيب: إِعجاز القرآن ١٥٢:١.

الفصل الثاني

حقيقة شهادة القرآن لإِعجازه

﴿قل: لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (الإسراء ٨٨)

﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠)

﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة (هود ١٧؛ الأحقاف ١٢)

توطئة

واقع التحدّي بالإِعجاز وحقيقته

إن التحدّي بإِعجاز القرآن أمر صريح واقع فيه: ﴿قلْ: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (الإسراء ٨٨).

لكن السورة التي بدأ بها هذا التحدّي، هي نفسها تشهد بامتناع المعجزة عن محمد، امتناعاً مبدئياً مطلقاً: ﴿وما منعنا أن نُرسل بالآيات، إلاّ أن كذّب بها الأولون (الإسراء ٥٩). فهذا التصريح يمنع من ان نرى في تحدي القرآن بإِعجازه معجزة له.

وتأتي ظواهر القرآن لترينا التحدّي بإِعجازه على حقيقته وقرائن آيات التحدّي بالإِعجاز تُظهر حدود الواقع القرآني. فلقد كان التحدّي بالإِعجاز للمشركين بمكّة؛ فلمّا اصطدمت الدعوة في المدينة بأهل الكتـاب توقف التحدّي بإِعجـازه، بل نسخه القرآن نفسه ﴿بمتشابه القرآن في أوصافه وأخباره (آل عمران ٧)، وبتقرير مبدأ النسخ في أحكامه (البقرة ١٠٦). فكانت فترة التحدّي بالإِعجاز طارئة عابرة انهيت بنسخه منذ مطلع الدعوة بالمدينة، حتى: ﴿واذا تُتلى عليهم آياتنا؛ قالوا: قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلاّ أساطير الأولين (الأنفال ٣١). فلا يرد جواب على هذا التحدّي في موقعه. وكان نصر بدر، فاعتبره ﴿يوم الفرقان بين الحق والباطل (الأنفال ٤١)، ورأى فيه معجزته: ﴿إن تستفتحوا فقد جاءَكم الفتح (الأنفال ١٩). لقد انتهى التحدّي بالقرآن الى التحدّي بهذا ﴿الفرقان: ﴿يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله يجعل لكم فرقاناً (الأنفال ٢٩).

وتكتنف فترة التحدّي بالإِعجاز شبهات عشر من القرآن تقضي على اعتباره معجزة؛ ويصح معها قول المعتزلة: ﴿إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة. هذا هو واقع التحدّي بالإِعجاز على حقيقته.

بحث أوّل

ظواهر التحدّي القرآني بالإِعجاز

الظاهرة الأولى: مدّة التحدّي بإِعجاز القرآن

جاءَ التحدّي بإِعجاز القرآن عابراً، في السنة الأخيرة بمكّة والسنة الأولى في المدينة، على قول عبد المتعال الصعيدي ١ : إن أول ﴿تحد صريح بالقرآن في الآية ٨٨ من سورة (الإسراء): ﴿قلْ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. وسورة (الإسراء) هي الخمسون من السور التي نزلت بمكّة! وكانت نزولها في حادثة الإسراء، وكانت هذه الحادثة قبل الهجرة بسنة أي في السنة الثانية عشرة من البعثة. فتكون هي السنة التي اتّخذ فيها التحدّي شكله الصريح. وكان هذا بعد أن نزل منه خمسون سورة، وهو قدر صالح للتحدي في أول الأمر.

ثم تحداهم بسورة مثله (يونس ٣٨) ثم بعشر سور مثله (هود ١٣) ثم بحديث مثله (الطور ٣٤). وفي المدينة ﴿بسورة من مثله (البقرة ٢٣). ثم يقـول الأسـتاذ عبد المتعال: ﴿وسورة (البقرة) هي أوّل سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة من مكّة. وكان هذا آخر تحدّ ورد في القرآن. ولكنهم لم يكفّوا بعد هذا التحدّي عن الطعن في القرآن.

الظاهرة الثانية: التحدّي بالإِعجاز جواب على التحدّي بالمعجزة

كان تحدّي القرآن بإِعجازه جواباً على تحدّي المشركين المتواصل، مدة العهد كله بمكّة، بعد أن أزعجوه وأعجزوه بمعجزة كالأنبياء الأولين. ﴿ولقد تكرّر طلب الآيات من جانب الجاحدين، أو بالأحرى زعمائهم كثيراً حتى حكى القرآن المكي ذلك عنهم نحو خمس وعشرين مرة صريحة عدا ما حكى عنهم من التحدّي الضمني، ومن التحدّي بالإتيان بالعذاب واستعجاله والسؤال عن موعده. ولا نعدو الحق اذا قلنا أن المستفاد من الآيات القرآنية المكية أن الموقف تجاه هذا التحدّي المتكرّر كان سلبيّاً ٢ .

الظاهرة الثالثة: ميزات التحدّي بالإِعجاز تحصر معناه ومداه

تحدّى المشركون محمداً بمعجزة مدة اثنتي عشرة سنة فعجز عن المعجزة وأعلن القرآن ان المعجزة مُنعت عن محمد منعاً مبدئياً مطلقاً (الإسراء ٥٩)، في السورة عينها التي بدأ بها في التحدّي بإِعجازه (الإسراء ٨٨). فجاءَ هذا الإِعجاز ستراً لعجزه عن معجزة.

والواقع القرآني يشهد أولاً أن التحدّي بالإِعجاز كان عابراً، مدة سنتين. ومن هذه الجهة لا يمكن ان يسمّى معجزة القرآن، لأنه لو كان كذلك لردَّ به عليهم مدة العهد كله بمكّة كلما تحدوه بمعجزة! ولردّ به بعد سورة البقرة مدة العهد كله بالمدينة. وتحدّي المشركين لمحمد بمعجزة، وتحدّي الكتابيين كذلك، داما مدة البعثة المحمدية كلها، في مكّة والمدينة، حتى وفاة النبي، بالرغم من معجزة ﴿الحديد التي أرغمتهم على الدخول في دين الله أفواجاً. فتلك الظاهرة تدل على أن الإِعجاز لم يكن في نظره معجزة النبي والقرآن.

والواقع القرآني يشهد ثانياً أن محمداً عجز عن ردّ تحديهم بمعجزة كالأنبياء الأولين، وأن العرب لم تقبل تحدي القرآن بالإِعجاز معجزة له، كما سنرى.

والواقع القرآني يشهد ثالثاً ان التحدّي القرآني للمشركين كان بالإِعجاز في الهدى، لا بالإِعجاز في النظم والبيان. ان القرآن يتحدى المشركين ﴿بمثله، وليس في نصوص التحدّي من قرينة تدل على أنه بالنظم والتأليف والبيان. لكن القرائن التي سبقت التحدّي بالإِعجاز تدل على أنه تحدّ بالهدى. ففي السورة ٤٥ نزولاً: ﴿وقالوا: لولا يأتينا بآية من ربه! ـ أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى (طه ١٣٣). فهو يتحداهم بالتوحيد الكتابي. وفي السورة ٤٧ نزولاً: ﴿أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل من النصارى؟ (الشعراء ١٩٧). فآيته ان ﴿تنزيل رب العالمين هو ﴿في زبر الأولين (الشعراء ١٩٢ و ١٩٦) بشهادة أولي العلم المقسطين. وفي السورة ٤٩ نزولاً، التي هي مطلع التحدّي بالإِعجاز في السورة الخمسين نزولاً يأتي التصريح الجازم أن التحدّي بالإِعجاز هو بالهدى: ﴿فلما جاءَهم الحق من عندنا قالوا: لولا أُوتي مثل ما أوتي موسى؟ ـ أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا: سحران تظاهرا! وقالوا: إنا بكل كافرون! ـ قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعه إن كنتم صادقين (القصص ٤٨ ـ ٤٩). فهذا التصريح الصريح القاطع يجزم بأن التحدّي بإِعجاز القرآن هو بهداه، لا بنظمه والبيان.

والحال أن التحدّي بالهدى كان بهدى الكتاب والقرآن معاً: ﴿أهدى منهما (القصص ٤٩). لا، بل كان الكتاب ﴿إمام القرآن في الهدى: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق، لساناً عربياً (الأحقاف ١٢؛ هود ١٧)، فلا يزيد القرآن على الكتاب سوى اللسان العربي؛ وحسبه أنه في هداه تصديق الكتاب إمامه.

لذلك نرى ان القول بالتحدّي في الإِعجاز بالنظم والبيان بدعة، آن للقوم أن يتخلوا عنها، ويستجيبوا للواقع القرآني.

وهذا الواقع القرآني يشهد أخيراً أنّ التحدّي ﴿بمثل القرآن، كان للمشركين، لا لأهل الكتاب، بدليل قوله الصريح: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠). والبرهان القاطع ان القرآن، لمّا اصطدم بالمدينة مع أهل الكتاب اليهود انقطع عن التحدّي بالإِعجاز، بعد الآية (٢٣) من سورة البقرة. وهذه الظاهرة تمنع ان يكون التحدّي بإِعجاز القرآن مطلقاً. لذلك ليس الإِعجاز بمعجزة القرآن.

الظاهرة الرابعة: التشخيص للتحدّي بالقرآن مغاير للواقع القرآني

وما صوّروه قديماً وحديثاً في معجزة الإِعجاز لا ينطبق على الواقع القرآني.

نقل السيوطي ٣ ، آخر من تكلم في الإِعجاز قديماً، عن كتاب (فتح الباري): ﴿ولا خلاف بين العقلاء ان كتاب الله تعالى معجز لم يقدر أحد على معارضته، بعد تحديهم بذلك. قال تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فاجره، حتى يسمع كلام الله): فلو أن سماعه حجة لم يقف أمره على سماعه؛ ولا يكون حجة إلاّ وهو معجزة ٤ . وقال تعالى (وقالوا: لولا أُنزل عليه آيات من ربه! ـ قلْ: إنما الآيات عند الله؛ وانما أنا نذير مبين! أولم يكفهم انّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم)؟ فأخبر ان الكتاب آيات من آياته كان في الدلالة، قائم مقام معجزات غيره وآيات من سواه من الأنبياء ٥ . ولمّا جاءَ به النبي ﷺ اليهم ـ وكانوا أفصح الفصحاء، ومصاقع الخطباء ٦ وتحداهم على أن يأتوا بمثله، وأمهلهم طول السنين ٧ فلم يقدروا كما قال تعالى (فليأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين). ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى (أم يقولون: افتراه، قلْ: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين؛ فإن لم يستجيبوا لكم، فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله). ثم تحداهم بسورة في قوله (أم يقولون: افتراه! ـ قل: فأتوا بسورة مثله). ثم كرر في قوله (وان كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله). فلمّا عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه، على كثرة الخطباء والبلغاء فيهم، نادى عليهم بإظهار العجز وإِعجاز القرآن، فقال (قل: لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)....

هذا التشخيص المتواتر للتحدي مخالف للواقع القرآني. فقد ختم قصة التحدّي بآية (الإسراء)، وهي التي بها افتتحه. ثم تراخى القرآن بالتحدّي بالإِعجاز الى أن أهمله نهائياً بعد الآية (٢٣) من البقرة. ولم ﴿يمهلهم طول السنين، بل دام التحدّي بالإِعجاز فترة وجيزة. ثم نسخه بآية النسخ في أحكامه (البقرة ١٠٦) وآية المتشابه في أوصافه وأخباره (آل عمران ٧): والنسخ في الأحكام والمتشابه في الأوصاف والأخبار، ليسا من الإِعجاز مهما كابر المكابرون.

الظاهرة الخامسة: دلالة الإِعجاز لدى العرب

كان الجاحظ، بعد معلمه النظّام، أول مَن أفرد لإِعجاز القرآن فصولاً، خاصة في رسالته ﴿حجج النبوّة. وما نقله السيوطي عنه ما زالوا يتقولونه الى اليوم، كما يفعل عبد الكريم الخطيب ٨ :

﴿بعث الله محمداً ﷺ أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عُدَّةً. فدعا أقصاها وأدناها الى توحيد الله، وتصديق رسالته. فدعاهم بالحجة. فلما قطع العذر، وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الاقرار الهوى والحمية، دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا له. وقتل من عِلّيتهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباح مساء الى أن يعارضوه إن كان كاذباً، بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة. فكلما ازداد تحدياً لهم وتقريعاً لعجزهم عنها، تكشّف عن نقصهم ما كان مستوراً، وظهر منه ما كان خفيّاً. فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف فلذلك يمكنك ما لا يمكننا. فهاتوها مفتريات!

ما يردّدونه عن الجاحظ هو ما يجعل معجزة الإِعجاز مشبوهة.

فمن المتواتر ان محمداً كان على ثقافة عالية ﴿يعرف من أخبار الأمم ما لا يعرفون.

الظاهرة السادسة: السيف أصدق إنباءً من الكتب

ومن المشهود في القرآن والسيرة والحديث ان التحدّي بالإِعجاز القرآني لم يحملهم على الإيمان بدعوته ورسالته، وانما ﴿حملهم على حظهم بالسيف، حينئذٍ فقط دخلوا في دين الله أفواجاً. فالفضل اذن في اسلام العرب للسيف، ليس للإِعجاز؛ هذا ما تشهد به آخر سورة نزلت، ﴿النصر.

وليس من المشهود في القرآن أنه كان ﴿يدعوهم صباح مساء الى أن يعارضوه. إنما كان التحدّي بمثل القرآن عابراً، في فترة وجيزة من الدعوة، وفي آيات معدودات، كما سنرى.

تلك هي ظواهر التحدّي للعرب بإِعجاز القرآن. فليس فيها ما يجعل الإِعجاز القرآني معجزة. بل تدل تلك الظواهر القرآنية، عند مَن يعتبر الإِعجاز معجزة، أنها معجزة مشبوهة، من متشابهات القرآن.

لذلك أخذ بعض القوم يرجعون الى مقالة المعتزلة، وكانوا هم أول من قال بالإِعجاز، وأول من قال: ﴿لم يجعل الله القرآن دليل النبوّة.

وكان موقف المعتزلة، وعلى رأسهم النظام والجاحظ، من إِعجاز القرآن، مشبوهاً: فهم أول من نادى بالإِعجاز، لكنهم جعلوا وجه الإِعجاز في ﴿الصرفة بقدرة الله عن معارضته، أي بشيء خارج عنه.

والواقع القرآني هو الذي منعهم من أن يروا في الإِعجاز معجزة.

بحث ثان

الإِعجاز في الواقع القرآني

يستهل القرآن تحدّيه للمشركين ﴿بمثل القرآن، بالتحدّي في هداه: ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه إن كنتم صادقين (القصص ٤٩).

فالتحدّي موجه للمشركين وحدهم؛ وهو يتحداهم بالقرآن والكتاب ﴿معاً، ﴿اهدى منهما؛ فلا يطال التحدّي القرآني الكتـاب المقدس أي التوراة والإنجيل؛ لأنه يعتبر الكتـاب ﴿إمامه في الهـدى (هود ١٧؛ الأحقاف ١٢)؛ ويعتبر ان عند أولي العلم من أهل الكتـاب ﴿مثل القرآن: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم (الأحقاف ١٠).

وهذا التحدّي بهدى القرآن، هو عنوان التحدّي بإِعجاز القرآن كله. فما اشتبه علينا بالتحدّي ﴿بمثله يُردّ الى هذا الأصل المحكم، والعنوان الواضح الصريح.

١ ـ فآية القصص (٤٩)، التحدّي بالهدى هي أول آية تحدٍ صريح بالقرآن. وليس كما يراوغون آية الإسراء (٥٩). فهي تحمل معنى التحدّي بالقرآن كله.

٢ ـ ففي سورة (الإسراء)، وهي الخمسون في تاريخ النزول، وتلي سورة القصص، يقول: ﴿قلْ: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (٨٨).

وهذا التحدّي للانس والجن، لا يشمل أهل الكتاب (الإسراء ١٠٧). وليس له معنى المعجزة كما تدل آيات الإسراء نفسها. فهو يقول من قبل: ﴿وما منعنا أن نرسل بالآيات، إلا أن كذّب بها الأولون (٥٩): فالمعجزات مُنعت عن محمد منعاً مبدئياً مطلقاً، لذلك لا يصح على الإطلاق اعتبار التحدّي بالإِعجاز معجزة للقرآن. وإن كذّب الأولون بمعجزات الأنبياء، فإن الله تعالى قد جعلها على الدوام شهادته الكبرى التي يشهد بها لهم. والعرب لم تقبل هذا التحدّي بالقرآن نفسه، فأجابوه للحال ﴿وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ـ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً ـ أو تسقط السماء، كما زعمتَ، علينا كسفاً ـ أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً ـ أو يكون لك بيت من زخرف ـ أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه! ـ قلْ: سبحان ربي، هل كنتُ إلا بشراً رسولاً! (٩٠ ـ ٩٣). إقرار بسيط صادق رائع بالعجز عن معجزة! فقبل آية التحدّي بإِعجاز القرآن (الإسراء ٨٨) يصرّح بأن المعجزة منعت عنه مبدئياً (٥٩)؛ وبعد آية التحدّي يعلن عجزه الواقعي عن كل معجزة، لأنه ليس ﴿إلا بشراً رسولاً. فكيف، بعد هذه القرائن الحاسمة يجوز أن نعتبر إِعجاز القرآن معجزة له؟ فالقرآن نفسه، بموجب هذه القرائن السابقة واللاحقة، لا يرى في إِعجازه معجزة. لذلك فهو لا يتمسك بتحديه بالإِعجاز، ويفضّل عليه شهادة أهل الكتاب له: ﴿قلْ: آمنوا به أو لا تؤمنوا! إن الذين أوتوا العلم من قبله، إذا يُتلى عليهم، يخرّون للأذقان سجداً! ويقولون: سبحان ربنا، إنْ كان وعد ربّنا لمفعولاً! ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً (١٠٧ ـ ١٠٩).

نلاحظ ﴿ان الذين أوتوا العلم من قبله، وبشهادتهم يعتز القرآن، هم النصارى من بني إسرائيل. فهم منذ مطلع الدعوة ﴿أمة واحدةً مع النبي، والدعوة دعوتهم، لذلك فهم يخشعون عند تلاوة القرآن عليهم.

٣ ـ ويعود الى التحدّي بالإِعجاز في السورة التالية، يونس، وهي الحادية والخمسون نزولاً: ليس القرآن بمفترى وأن يكون ذلك وهو تصديق الكتاب وتفصيله: ﴿وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق الذي بين يديه (قبله) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين (يونس ٣٧). ثم يتحداهم بسورة مثله: ﴿أم يقولون: افتراه! ـ قلْ فأتوا بسورة مثله، وادعوا مَن استطعتم من دون الله، إن كنتم صادقين (٣٨). بعد التحدّي بالقرآن كله، يتحداهم بسورة مثله. لكن هذا التحدّي مقرون بمهمة القرآن الأولى وهي تصديق الكتاب وتفصيله للعرب أي ترجمته. فالتحدّي يرجع الى الأصل قبل التفصيل، كما قال سابقاً: ﴿أهدى منهما (القصص ٤٩). والتحدّي بالأصل قبل التفصيل يوجّه للنبي نفسه في قوله: ﴿فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك: لقد جاءَك الحق من ربك، فلا تكوننَّ من الممترين! ولا تكوننَّ من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين (يونس ٩٤ ـ ٩٥). هذه الآية تكشف عن أمور كثيرة.

إن القرآن يُحيل نبيّه، حين الشك من نفسه ومن أمره، الى اساتذته ﴿الذين يقرأون الكتاب من قبله، وهم النصارى من بني إسرائيل. فتنزيل القرآن هو قراءَة عربية للكتاب على مثال قراءَة أولي العلم المقسطين. على هذا التنزيل يشهدون، ولا يمكنهم أن يشهدوا على تنزيل من السماء لا يستطيعون الوقوف عليه.

وهذا الانتساب الى الكتاب وأهله أولي العلم المقسطين، والاستشهاد بهم في حالة الشك، وشهادتهم له، دليل قاطع على أن التحدّي انما هو للمشركين وحدهم، لا يقصد الكتاب وأهله.

والشك عند محمد من تنزيل القرآن له برهان قاطع على أنه لا يعتبر تحدي المشركين بإِعجازه معجزة له. فمن البديهة ان يكون النبي أول المؤمنين بنبوته ودعوته، وأول المؤمنين بمعجزته، اذا وقعت: ومحمد تنتابه أزمات إيمانية، نقلنا بعض صورها، وهنا نشاهد أعظمها، وهي الشك من التنزيل نفسه؛ فلو كان إِعجاز القرآن معجزة، لما صح الشك بعدها.

والقرائن اللفظية والمعنوية في آية الشك، مثل قوله ﴿جاءَك الحق؛ وبيان طبيعة القرآن من أنه ﴿تفصيل الكتاب، كلها تدل على ان التحدّي للمشركين انما هو بالهدى، لا بالنظم والبيان. وفي الهدى، فالقرآن ﴿تفصيل الكتاب وتصديقه.

فالقرائن كلها تدل، وقرينة الشك حاسمة، على أن محمداً لم يعتبر إِعجاز القرآن معجزة له، لأن الشك والإيمان لا يجتمعان.

٤ ـ وفي السورة التالية، هود، الثانية والخمسين نزولاً، تتضح معالم التنزيل والتحدّي. فهم يتهمونه بالإفتراء، فيرد عليهم بإِعجاز القرآن: ﴿أم يقولون: افتراه! ـ قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، او ادعوا من استطعتم من دون الله، إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، وأن لا إله إلا هو، فهل أنتم مسلمون (هود ١٣ ـ ١٤).

فالتحدّي للمشركين، لا لأهل الكتاب. والتحدّي هو بالإِعجاز في الهدى، لا بالنظم والبيان. فالكتاب ﴿إمامه، وأهل الكتاب الذين على بيّنة من ربهم يشهدون على صحة النقل عن الكتاب الإمام: ﴿أفمن كان على بيّنةٍ من ربه ـ ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ـ اولئك يؤمنون به! ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده (١٧). فأهل الكتاب المقسطين الذين عندهم بيّنة من ربهم يؤمنون بالقرآن لسببين: الأول ان شاهداً منهم ﴿يتلوه على محمد باسم الله، وهو مثل قوله: ﴿أولم تكن لهم آية ان يعلمه علماءُ بني إسرائيل من النصارى (الشعراء ١٩٧)؛ ومثل قـوله: ﴿أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى (طه ١٣٣): فالبيّنة التي عند الشاهد الكتابي، انتقلت الى القرآن (هود ١٧)؛ ومثل قوله: ﴿بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم (العنكبوت ٤٩). والسبب الثاني ان الكتاب هو ﴿إمام القرآن. وهذا دليل على ان الإِعجاز المقصود هو بالهدى لا بالنظم والبيان. فإذا كان الكتاب ﴿إمام القرآن فهو أهدى وأعجز؛ وحسب النسخة المفصّلة ان تكون مثل إمامها.

وليس في هذا التحدّي بالقرآن معجزة له، لأن المعجزة ترفع كل شك من نفس النبي؛ والإِعجاز الذي به يتحدى المشركين لم يرفع الشك من نفس محمد في قرآنه وتنزيله: ﴿فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك! ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (هود ١٧). فإِعجاز القرآن لا يحمل معه السكينة لنفس محمد، ولا الإيمان للمشركين: فأين هي معجزة الإِعجاز؟!

إن محمداً نفسه يشك في معجزة الإِعجاز، ويردعه وحيه عن المِراء في صدق نبوته وصحة رسالته ومطابقة قرآنه للكتاب الإمام. فهو لا يطمئن بإِعجاز القرآن، بل بشهادة أهل الكتاب المقسطين على مطابقة القرآن العربي للكتاب الإمام.

فإن كان ثمة إِعجاز فهو في الكتاب الإمام، قبل أن يكون في القرآن الذي يفصله للعرب (قابل يونس ٣٧).

٥ - وفي سورة (الأنعام)، الخـامسة والخمسين نزولاً، تحـدٍ ضمني يردون عليـه: ﴿وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون (١٠٥). فلا يردّ التهمة، بل يبيّن الغاية منها: لقد درس الكتاب ليبيّنه بالقرآن. وهذه الشهادة بالدرس والتدريس ترفع عن إِعجاز القرآن صفة المعجزة الالهية. وهو قد درس الكتاب لهم لأنهم غفلوا عن دراسته: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه لعلكم ترحمون، أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب علىطائفتين من قبلنا، وان كنّا عن دراستهم لغافلين (الأنعام ١٥٥ ـ ١٥٦). وفي هذه الصورة القرآنية من درس وتدريس سرّ الرسالة وسر الدعوة وسر الإِعجاز. ففي الكتاب تفصيل كل شيء تماماً على الذي أحسن، تلك صورة الإِعجاز الصريحة موضوعاً ونظماً: ﴿ثم آتينا موسى الكتاب، تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (الأنعام ١٥٤). ﴿وكتبنا له في الألواح، من كل شيء موعظة، وتفصيلاً لكل شيء (الأعراف ١٤٥) وبهذا التفصيل الكتابي يقتدي القرآن ويتحدّى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. ما كان حديثاً يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (يوسف ١١١). فالتحدّي القرآني بالإِعجاز يقوم على انه ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧).

والقرآن في تحدّي المشركين بإِعجازه، إنما يقتدي بالكتاب إمامه، وبأهله: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة ـ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ـ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠). فالقرآن يقتدي بهدى الكتاب، ويتحدّى بالهدى مع الكتاب: ﴿أهدى منهما (القصص ٤٩). فالقرائن كلها تدل على أن الإِعجاز الذي به يتحدى هو الإِعجاز بالهدى، لا الإِعجاز بالنظم والبيان. وما التحدّي بالنظم والبيان سوى بدعة بحق القرآن.

٦ ـ ونفهم ان التحدّي بإِعجاز القرآن انما هو بهداه ولأنه من هدى الكتاب الأقدس، من استعلائه على المشركين بالإمام الذي به يقتدي: ﴿أم لكم سلطان مبين، فأتوا بكتابكم، إن كنتم صادقين (الصافات ١٥٦ ـ ١٥٧). أمّا محمد فعنده سلطان مبين في الكتاب الأقدس الذي به يجادل العرب بعلم وهدى: ﴿ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان ٢٠). هذا التصريح المتواتر في مكّة والمدينة (الحج ٨) يدل على أن التحدّي كان بالهدى لا بالنظم والبيان. بذلك يشهد له أهل العلم من النصارى: ﴿ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد (سبأ ٦). فيستعلي محمد على المشركين بالكتاب الأقدس الذي يدرسه؛ أما هم ﴿ما آتيناهم من كتب يدرسونها! وما أرسلنا اليهم قبلك من نذير (سبأ ٤٤). فكأن القرآن نسخة ثانية بالعربية تشبه الكتاب الأول: ﴿الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني (الزمر ٢٣). فبروح من أمر الله اهتدى الى الإيمان بالكتاب الأقدس (الشورى ٥٢) وجعل يعدل به بين قومه: ﴿وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأُمرتُ لأعدل بينكم (الشورى ١٥)؛ ويستعلي عليهم به: ﴿أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون (الزخرف ٢١). فهو عنده علم من علم الكتاب وأهله المقسطين، أما هم فليس لهم أثارة من علم: ﴿إئتوني بكتاب من قبل هذا، أو أثارة من علم، إن كنتم صادقين (الأحقاف ٤).

٧ ـ ويأتي التصريح الكاشف عن سرّ التحدّي بإِعجاز القرآن.

إنه معجز أولاً لأنه نسخة عربية لا غير عن الكتاب الأقدس الإمام، بحسب قراءَة أولي العلم المقسطين: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢) فليس في القرآن من مزيد سوى اللسان العربي: فهل يتحدى المشركين بهذا اللسان العربي أم بهدى الكتاب الإمام وعلمه؟

وإنه معجز ثانياً لأنه نسخة طبق الأصل عن ﴿مثله الذي عند النصارى أولي العلم من بني إسرائيل ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم (الأحقاف ١٠).

هذه الآية تكشف ان ﴿مثل القرآن العربي موجود عند ﴿مَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣)، من بني إسرائيل النصارى. وبما ان التحدّي بالقرآن ينصب على تعبير ﴿مثله؛ وبما ان ﴿مثله موجود قبله، فقد زال التوهم الضخم في تحدّي القرآن ﴿بمثله.

لذلك أيضاً على محمد ألاّ يشك بلقاء الكتاب الإمام من خلال هذا ﴿المثل، لأن أئمة أولي العلم المقسطين يهدون بأمر الله اليه: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب: فلا تكن في مرية من لقائه؛ وجعلناه هدى لبني إسرائيل؛ وجعلنا منهم آئمة يهدون بأمرنا (السجدة ٢٣ ـ ٢٤).

٨ ـ مع ذلك فالعرب لا تقبل التحدّي بالقرآن، وينسبونه الى تقوّله على الله: ﴿أم يقولون: تقوّله! ـ بل لا يؤمنون! فليأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين (الطور ٣٣ ـ ٣٤) لاحظ التراخي في التحدّي: كان بسورة مثله (يونس ٣٨) فصار بعشر سور مثله (هود ١٣)، وأمسى ﴿بحديث مثله (الطور ٣٤)؛ وهذا التطور في التحدّي دليل التردّد.

وإن كان ثمّة من إِعجاز ومعجزة، فهما في الكتاب الامام قبل القرآن الذي به يقتدي في الهدى والبيان، كما يستعلي عليهم: ﴿أم عندهم الغيب فهم يكتبون (الطور ٤١). ممّا يدل على أن محمداً عنده غيب الكتاب الإمام الذي به يتحداهم.

٩ ـ حتى نهاية العهد بمكّة، ظل روح التحدّي بالقرآن للمشركين قائماً على دعامتين:

الأولى ﴿تفصيل الكتاب الأقدس للعرب في القرآن؛ وهذا ما يسميه تنزيلاً: ﴿أولم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم؟ قل: كفى بالله بيني وبينكم شهيداً (العنكبوت ٥١ ـ ٥٢). الله يشهد بذلك، وأولو العلم المقسطون يشهدون؛ فإن القرآن العربي ﴿هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، النصارى من بني إسرائيل (العنكبوت ٤٩). لذلك ففضل الإِعجاز يرجع الى الكتاب الأقدس، والى ﴿من عنده علم الكتاب.

الثانية شهادة هؤلاء العلماء النصارى من أهل الكتاب للقرآن ونبيّه، تلك الشهادة التي هي من شهادة الله نفسه: ﴿ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قلْ: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم، ومَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣).

وهكذا، فالبيّنة الكافية على صحة النبوّة والدعوة تنزيل الكتاب الأقدس اليه أي تيسيره بلسانه، وتفصيله؛ والبرهان الأخير على ذلك هو شهادة ﴿مَن عنده عِلم الكتاب، حيث القرآن نفسه ﴿آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم. فلا معجزة ولا إِعجاز كبيّنة وشهادة.

١٠ ـ وكانت الهجرة الكبرى الى المدينة. ونزلت سورة البقرة في مطالع العهد المدني. وهي سورة مخضرمة بين عهدين. ومن رواسب العهد المكي فيها هذا التحدّي بالقرآن الذي كان الأخير في المدينة: ﴿وان كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا، فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءَكم من دون الله إن كنتم صادقين (البقرة ٢٣).

لكن أهل المدينة، مثل أهل مكّة، لم يقبلوا الإِعجاز معجزة تشهد للقرآن والنبي: ﴿وقال الذين لا يعلمون (المشركون)، لولا يكلمنا الله، أو تآتينا آية! ـ كذلك قال الذين من قبلهم (أهل مكّة) مثل قولهم، تشابهت قلوبهم! قد بيّنا الآيات (الخطابية) لقوم يوقنون؛ إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً (البقرة ١١٨ ـ ١١٩). والبشير النذير بالحق عليه بيان الحق، وما عليه أن يأتي بمعجزة مُنعت عنه.

فالقرآن يتحدى المشركين ﴿بالحق أي بالإِعجاز في الهدى، لا بالإِعجاز في النظم والبيان، وذلك في كل مظاهر التحدّي حتى آخر مظهر منه.

وأنى للمشركين، سواء في مكّة أم في المدينة، من رد التحدّي ﴿بالحق والهدى الكتابي القرآني؟ فالباطل مهما كان معجزاً في البيان والتبيين لا يصير حقاً؛ وهذا سر عجزهم عن ردّ تحدي القرآن لهم، لا عجزهم عن أسلوبه في النظم والبيان، الذي لا يشهد القرآن أنه كان موضوع أخذ وردّ بينهم. يقول عبد المتعال الصعيدي ٩ : ﴿واذا كانت الهداية لا بدَّ من دخولها في التحدّي بالقرآن، ما كان لها من التأثير في إِعجازه، مثل ما كان لأسلوبه؛ فإنها كانت تنقص أولئك المشركين لأنهم كانوا منغمسين في الشرك والضلال، وهذا باطل لا يمكنهم أن ينصروه بقوة بيانهم ولو بلغت ما بلغت. ولكنهم كانوا من هذا أمام أمر مستحيل كل الاستحالة، ولا ينفعهم فيه ما امتازوا به من فصاحة وبلاغة، ﴿لأن الباطل لا يمكن أن ينقلب حقاً، والضلال لا يمكن أن ينقلب هداية ورشداً. وهذه هي العقبة التي وقفت دونهم في ذلك التحدّي، والصخرة التي عجزت أمامها محاولاتهم، فوقفوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، ولا يجدون إلاّ أن يُداروا عجزهم بالطعن في القرآن.

وقوله: إن هداية القرآن كانت ﴿العقبة التي وقفت دونهم في ذلك التحدّي يتعارض مع قوله: ﴿واذا كانت الهداية لا بدَّ من دخولها في التحدّي بالقرآن، ما كان لها من التأثير في إِعجـازه، مثل ما كان لأسلوبه. فلم يكن أسلوب القرآن موضوع تحدّ، بل دعوته وحقيقته، ﴿والباطل لا يمكن ان ينقلب حقاً، والضلال لا يمكن ان ينقلب هداية ورشداً.

إن عجز المشركين عن رد تحدّي القرآن لهم بإِعجازه في ﴿الحق والهدى، كان مشهوداً. ولكنهم ما طعنوا في القرآن لستر عجزهم عن إِعجازه في الهدى أم في النظم والبيان بل لأنهم طالبوه ﴿بالسلطان المبين في المعجزات التي يشهد بها الله لأنبيائه: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا ـ إذ جاءَكم الهدى ـ... إلاّ أن تأتيهم سُنّة الأولين (الكهف ٥٥). فهو يتحداهم بالهدى من الله، بدون سُنّة المعجزة؛ ﴿وقالوا: لن نؤمن حتى نُؤتى مثل ما أوتى رسل الله (الأنعام ١٢٤). وإذا عجز محمد عن معجزة طعنوا في القرآن كل طعن، ﴿بل قالوا: أضغات أحلام! بل افتراه! بل هو شاعر! فليأتنا بآية كما أُرسل الأولون (الأنبياء ٥).

بحث ثالث

القرآن ينسخ التحدّي بإِعجازه

وكانت آية البقرة (٢٣) آخر عهد للتحدي العابر بإِعجاز القرآن، بعد عجز محمد عن معجزة تشهد له ويدينون بها. ولمّا اصطدم القرآن بأهل الكتاب من اليهود، وقف التحدّي بالقرآن عند حدّه.

والتحدّي بإِعجاز القرآن يوجّه بيسر الى المشركين؛ ولكنه لا يوجه بحال الى أهل الكتاب، لأن القرآن ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧)، ولأن الكتاب ﴿إمام القرآن في الهدى والبيان (هود ١٧؛ الأحقاف ١٢). لذلك لمّا وجّه الدعوة الى أهل الكتاب، نسخ القرآن للحال تحدّيه بالإِعجاز في الهدى والبيان.

أوّلاً: نسخ القرآن تحدّيه بالإِعجاز في الهدى والأحكام

يذكر أهل الكتاب أن ﴿التبديل في آي القرآن (النحل ١٠١) و﴿المحو فيها (الرعد ٣٩) سبّبا رِدة أولى وثانية بين جماعة محمد في مكّة. ولاحظوا في المدينة واقع النسخ في أحكامه، والنسيان المقصود من الله أو النبي في آية، فأخذوا يشنّعون على النبي بين جماعته، ويقولون: ﴿إن محمداً يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهي عنه غداً (الجلالان)، فنزلت: ﴿ماننسخ من آية ـ أو ننسها ـ نأتِ بخير منها، أو مثلها؛ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (البقرة ١٠٦).

قال السيوطي: ﴿النسخ، ممّا اختصّ الله به هذه الأمة ١٠ . وهذه الظاهرة القرآنية تنسخ إِعجاز القرآن في الأحكام. أجل إنه تعالى على كل شيء قدير؛ لكنه حكيم عليم يعرف ما ينزّل من أحكام: فكيف به ينزّلها اليوم وينسخها غداً؟ ينزّلها في سورة وينسخها في أخرى؟ ينزّلها في آية وينسخها في آية أخرى من السورة نفسها، وحتى في الآية التي تليها، كما نسخ آية الوسوسة (البقرة ٢٨٤) بآية التوسعة فيها (البقرة ٢٨٦).

من المعروف في التشريع العام ﴿إنما تبدّل الأحكام بتبدّل الأزمان: والزمن النبوي في المدينة واحد، من عشر سنين، فلا يصح النسخ فيه. فقد يصح النسخ من نبي الى نبي، ومن كتاب الى كتاب؛ ولكن لا يصح النسخ مع النبي نفسه، وفي القرآن ذاته لأحكامه، وأحياناً في السورة الواحدة. فلا مراء ان ظاهرة النسخ القرآنية تنسخ إِعجاز القرآن في الأحكام. ولذلك سكت القرآن نهائياً عن التحدّي بإِعجازه!

ثانياً: نسخ القرآن تحديه بالإِعجاز في البيان والتبيين

قارن أهل الكتاب من اليهود القرآن بالكتاب فوجدوا أكثره من المتشابه، فأخذوا يطعنون في صحة الرسالة وصحة القرآن. فردّ القرآن عليهم أولاً ان التوراة والإنجيل والقرآن هي الكتاب نفسه نزل على موسى وعيسى ومحمد، يصدّق بعضه بعضاً ﴿آلم. الله، لا إله إلاّهو، الحي القيوم، نزَّل عليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبلُ هدى للناس. وأنزل الفرقان (آل عمران ١ ـ ٤). فكتاب الله في التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وهداه واحد، وإِعجازه في جميعها واحد، لأنها جميعاً ﴿تنزيل الحي القيوم على حدّ تعبيره.

لكن القرآن امتاز على التوراة والإنجيل بالمتشابه في أوصافه وأخباره. واضطر الى إعلان هذه الظاهرة القرآنية: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب، وأخر متشابهات. فأمّا الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة. وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله إلاّ الله. والراسخون في العلم يقولون: آمنّا به، كلُ من عند ربنا. وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب (آل عمران ٧).

إن المتشابه من الأوصاف والأخبار، في البيان والتبيين، هو أيضاً ﴿ممّا اختص الله به هذه الأمة. فلا التوراة، ولا الإنجيل، ينسبان لنفسيهما أن فيهما ﴿آيات متشابهات. إنما ينسب القرآن لنفسه هذه الميزة، لأنها أمر واقع فيه.

ففي آية المتشابه من القرآن خمسة تصاريح تنسخ إِعجازه في البيان:

١) ففيه ﴿أخر متشابهات، ﴿لا يُفهم معناها بنفسها (الجلالان).

٢) ﴿ما تشابه منه الذي يتعقّبه الذين في قلوبهم مرض.

٣) التصريح الضخم: ﴿وما يعلم تأويله إلاّ الله ـ وكتاب لا يعلم تأويله إلاّ الله، ليس بمعجز للمخلوقين، لأنه من البديهة ان ﴿ما لا يمكن الوقـوف عليه، لا يتصوّر التحدّي به، ﴿ولا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها (البقرة ٢٨٦).

٤) حتى ﴿الراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كلٌ من عند ربنا. أي نؤمن بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه. (كل) أي المحكم والمتشابه من عند ربنا (الجلالان).

٥) ﴿وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب، بالتفويض به الى الله.

إن المتشابه في القرآن هو أكثره؛ وقد لا يتعدى المحكم آيات الأحكام ١١ من الماية والخمسين الى الخمسماية آية. فأكثر القرآن من المتشابه ﴿الذي لا يعلم تأويله إلاّ الله: ففي هذا الإعلان القضاء على كل دعوى إِعجاز في القرآن. فإذا كان ﴿الراسخون في العلم، اساتذة النبي في عِلْم الكتاب ﴿يقولون: آمنا أي يؤمنون بالمتشابه، ولا يعلمون معناه وتأويله، فسائر العالمين يكون القرآن عندهم مغلقاً لا معجزاً؛ والكلام البليغ المعجز ما تسابق معانيه ألفـاظه الى الادراك. فليس المتشابه في القرآن، الذي ﴿لا يعلم تأويله إلاّ الله والـذي يعجز ﴿الراسخون في العلم عن فهمه، من الإِعجاز البياني في شيء. وهو أكثر القرآن. وهذا الحكم ليس منا، بل بنص القرآن القاطع، الذي به نسخ دعوى الإِعجاز العابرة.

فبآية آل عمران (٧) نسخ القرآن إِعجازه في البيان. وبآية النسخ (البقرة ١٠٦) نسخ القرآن إِعجـازه في الأحكام والتشريع. وليس القرآن بمعجزة في الهدى، لأنه تـابع للكتـاب ﴿إمامه وهكذا نسخ القرآن نفسه دعوى إِعجازه العابرة.

فالواقع القرآني يشهد: أوّلاً: ان التحدّي بالإِعجاز جاءَ متأخراً، عقب العجز عن معجزة طول العهد بمكّة. ثانياً: ان دعوى الإِعجاز كانت عابرة، من آخر العهد بمكّة، وأول العهد بالمدينة. ثالثاً: ان القرآن نفسه سكت نهائياً عن التحدّي بإِعجازه لمّا اصطدم مع أهل الكتاب بالمدينة. فلا ذكر له بعد آية البقرة (٢٣). فكان التحدّي مقصوراً على المشركين. رابعاً: ان العرب لم تقبل التحدّي بالإِعجاز لأنه ليس فيه ﴿سلطان مبين مثل ﴿آية من الأنبياء الأولين. خامساً: ان محمداً نفسه شك من إِعجاز القرآن كمعجزة له. وفضّل على الإِعجاز من قبل ومن بعد شهادة ﴿مَن عنده علم الكتاب إذ هي عنده من شهادة الله. سادساً: ان القرآن نفسه نسخ التحدّي بإِعجازه حين اعلن واقع النسخ في أحكامه، والمتشابه في أخباره وأوصافه. وما كان النسخ صفته، والمتشابه ميزته لا يكـون معجزاً. سابعـاً: ان التحـدّي كان دائمـاً ﴿بمثله؛ والقرآن يصرّح بأن ﴿مثله موجود عند النصارى من بني إسرائيل (الأحقاف ١٠). وهذا الكشف الصريح عن سرّه يلغي سرّ إِعجازه. فالواقع القرآني يشهد أن لا معجزة في إِعجاز القرآن.

بحث رابع

شبهات على الإِعجاز من الواقع القرآني

في القرآن إِعجاز في الهدى، وفي النظم والبيان؛ لكن القرآن لا يعتبره معجزة له، كما يبدو من بعض المبادئ والمشاهد والمواقف. لذلك كان المعتزله يقولون: ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

والواقع القرآني غارق أيضاً في الشبهات على الإِعجاز كمعجزة.

أولاً: شهادة القرآن لإِعجازه متعارضة

ننقل هنا لمحة خاطفة مجملة في الإِعجاز القرآني، عن أحمد الرازي في كتابه (حجج القرآن لجميع أهل الملل والأديان) ١٢ : ﴿حجة مَن قال، القرآن كله محكم: ﴿كتاب أُحكمت آياته (في هود)؛ ﴿حجة من قال، القرآن كله متشابه: ﴿نزَّل أحسن الحديث، كتاباً متشابهاً (في الزمر)؛ ﴿حجة من قال، بعضه محكم وبعضه متشابه: ﴿منه آيات محكمات... وأُخر متشابهات (في آل عمران).

نعرف ان بعضهم يحاول تفسير آية (الزمر) تفسيراً يرفع التعارض؛ لكن آية (آل عمران) تقضى بالتفسير الحق: فمن جهة بعضه محكم وبعضه متشابه؛ ومن جهة اخرى كله محكم وكله متشابه. فشهادة القرآن لنفسه هي على العموم متعارضة. فهي مشبوهة لا يصح الاعتماد عليها لإقامة دعوى الإِعجاز. إن الواقع القرآني ينقض هذه الدعوى موضوعاً، كما رأينا في البحث السابق، وشكلاً كما نرى هنا. فالمقالة بالإِعجاز معجزة أمر طارئ على القرآن. فإن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

ثانياً: شهادة القرآن لإِعجازه منسوخة

لقد نسخ القرآن، كما رأينا، إِعجازه في الأحكام والشريعة، بآية النسخ (البقرة ١٠٦). ونسخ إِعجازه في الأوصاف والأخبار، وهي أكثر القرآن، بآية المتشابه (آل عمران ٧).  والقضاء القرآني المبرم على دعوى الإِعجاز هي قوله: ﴿وما يعلم تأويله إلاّ الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كلٌ من عند ربنا (آل عمران ٧). وكلام لا يعلم تأويله إلاّ الله، ليس بمعجز للخلق؛ وحاشا للرحمان الرحيم أن يكلّف النفس إلاّ وسعها (البقرة ٢٨٦).

وحاول بعضهم مداورة هذا الحكم المبرم على الإِعجاز بقراءَة تختلف عن قراءَة الجمهور. فقرأوا: ﴿وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم على العطف، لا على الاستئناف. وهذه قراءَة ضعيفة، وينقضها نص الآية كله. قال السيوطي في (الإتقان ٢: ٢ ـ ٤): ﴿اختُلف هل المتشابه ممّا يمكن الاطلاع على علمه، أو لا يعلمه إلاّ الله، على قولين، منشؤهما الاختلاف في قوله (والراسخون في العلم) هل هو معطوف و(يقولون) حال؛ أو مبتدأ خبرُه (يقولون) و (الواو) للاستئناف. وعلى الأول طائفة يسيرة... وأمّا الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومَن بعدهم، خصوصاً أهل السنة، فذهبوا الى الثاني (على الاستئناف)، وهو أصح الروايات عن ابن عباس. ويدل لصحة مذهب الأكثرين قراءَة ابن عباس، وأبي بن كعب: (وما يعلم تأويله إلاّ الله؛ ويقول الراسخون في العلم: آمنا به)؛ وقراءَة ابن مسعود: ﴿وإنْ تأويله إلاّ عند الله؛ والراسخون في العلم يقولون: آمنا به؛ وهناك أحاديث كثيرة تدل على صحة الاستئناف... فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلاّ الله، وأن الخوض فيه مذموم.

وهب ان قراءَة البعض على العطف صحيحة، فلا ترفع القضاء المبرم على دعوى الإِعجاز، لأن الكلام الذي ﴿لا يعلم تأويله الاّ الله والراسخون في العلم، لا يكون معجزاً لسائر الناس كما هي حال المعجزة. فالمكلّفون بالإيمان بكلام، لا يصح تكليفهم به إلاّ إذا عقلوه، ولا تساق البشرية سوق السوائم؛ ﴿ولا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها (البقرة ٢٨٦).

وفات هذا البعض معنى الاصطلاح القرآني؛ ﴿الراسخون في العلم. فهم يفهمون التعبير لغوياً، وهو اصطلاح متواتر في القرآن يعني أهل العلم المقسطين أي النصارى من بني إسرائيل. فإذا فهم هؤلاء معنى المتشابه في القرآن، وهو أكثره، فيكون الله خاطب العرب، ومن ورائهم سائر البشرية كلاماً يستحيل عليهم فهمه، إذ قد استأثر الله بفهمه. وحاشا للرحمان الرحيم أن يخاطب الناس بما لا يفهمون، وأن يطالبهم بالإيمان بما لا يفقهون، وأن يكلّفهم ما لا يعقلون. والمتشابه في القرآن هو كل القرآن. ما عدا ﴿الآيات المحكمات؛ وهي قلائل.

وقد يقول بعضهم أيضاً: إن غاية الدعوة القرآنية هي الشريعة، وهي في ﴿الآيات المحكمات. لكن فات هؤلاء حقيقة التحدّي بالإِعجاز، وموضوع هذه ﴿الآيات المحكمات.

نقل السيوطي في (الإتقان ٢: ٢) ان ﴿الآيات المحكمات هي ﴿عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضاً... وعن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه؛ وما يؤمن به ويعمل به؛ والمتشابهات: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به... وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال... وعن الربيع قال: المحكمات هي أوامره الزاجرة... وقد روي عن عكرمة وقتادة وغيرهما أن المحكم الذي يعمل به، والمتشابه الذي يؤمن به ولا يعمل به.

فالآيات المحكمات هي أوامره الزاجرة، وهي أحكام القرآن النواهي. والواقع ان أحكام القرآن الآمرة والناهية من دون الخمسماية آية. فقد قال السيوطي أيضاً في (الإتقان ٢: ١٣٠): ﴿قال الغزالي وغيره: آيات الأحكام خمسماية. وقال بعضهم ماية وخمسون. فالآيات المحكمات هي على الأكثر خمسماية من أصل ٦٢٣٦ آية. والآيات المتشابهات هي اذن ٥٧٣٦، آي القرآن كله تقريباً. وكتاب متشابه في مجمله كيف يكون معجزاً؟

وهكذا فالأحكام المحكمة في ﴿الآيات المحكمات قليلة جداً، إذ هي ممّا لا خلاف فيه ﴿أوامره الزاجرة؛ وهذه قد تقتصر أيضاً على أمر واحد، الشرك: ﴿إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وهكذا يكون الأمر الزاجر، والحكم المحكم واحداً. فماذا يبقى اذن من ﴿الآيات المحكمات التي لا شبهة عليها؟ وعلى إِعجازها؟

وكتاب في جملته متشابه، كيف يصح القول بإِعجازه؟ وكيف يجوز لهم اعتبار هذا الإِعجاز المشبوه معجزة له؟ إنها مقالة خرجوا بها عن الواقع القرآني، وأخرجوها ليستروا بها عجز القرآن عن معجزة ﴿كالأنبياء الأولين. فبهذه الشهادة لنفسه: ﴿وما يعلم تأويله إلا الله ـ إذ لا يُعتدّ بالقليل القليل من محكمه ـ قد نسخ القرآن دعوى إِعجازه، وأبطل هو نفسه القول بمعجزة إِعجازه. وهذا هو القول الفصل، في هذا الفصل. وبآية النسخ في أحكامه (البقرة ١٠٦) نسخ أيضاً صفة الإِعجاز عن أحكامه في ﴿الآيات المحكمات. فكان القرآن كله معجزة مشبوهة شكلاً وموضوعاً.

فقد صح ما قال المعتزله، وهم أول القائلين بالإِعجاز القرآني: إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

ثالثاً: صفات التبديل والمحو والإسقاط والنسيان تنقض الإِعجاز

إن النسخ في القرآن (البقرة ١٠٦) قضية مبدأ وقضية أمر واقع فيه؛ والمتشابه في آيه (آل عمران) قضية مبدأ وقضية أمر واقع فيه. وقضايا التبديل والمحو والاسقاط والنسيان هي أيضاً قضايا مبدأ وقضايا أمر واقع فيه. وكلها صفات تنقض دعوى الإِعجاز في القرآن.

١ـ قضية التبديل في آي القرآن

يصرّح القرآن مراراً: ﴿لا تبديل لكلمات الله (يونس ٦٤)؛ ﴿ولا مبدّل لكلمات الله (الأنعام ٣٤)؛ ﴿لا مبدّل لكلمـاته (الأنعام ١١٥؛ الكهف ٢٧). وقـد يتحدّونه بتبديل القرآن: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات، قال الذين لا يرجون لقاءَنا: ائتِ بقرآن غير هذا، أوبدّله ـ قلْ: ما يكون لي أن أبدِّله من تلقاء نفسي؛ إنْ أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ! إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (يونس ١٥). وها إن القرآن نفسه يصرح بمبدأ التبديل في آيه، ويصرح بواقعه: ﴿وإذا بدّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزّل ـ قالوا: إنما أنت مفتر! ـ بل أكثرهم لا يعلمون! قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق ليثبّت الذين آمنوا، وهدى وبشرى للمسلمين (النحل ١٠١ ـ ١٠٢).

فالنص القرآني يقطع بواقع التبديل في آي القرآن. وهو يبرّره باسناده إلى الله نفسه: ﴿والله أعلم بما ينّزل؛ ﴿قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق! ـ لكن هل يصح أن يبدّل الله آية مكان آية؟ قد تتبدّل الأحوال الطارئة فتنوّع الآيات المنزلة، لكنها لا تزول من التنزيل. وزوالها من التنزيل القرآني شبهة عليه، وسند صحيح لرفع الإِعجاز في التنزيل؛ فيكون هذا التبديل في آي القرآن مثار أزمات وشبهات لا تنتهي.

فقد أثار هذا التبديل صيحة المشركين: ﴿إنما أنت مفترٍ! لأن التبديل شبهة على صحة التنزيل. وقد سبّب هذا التبديل ردَّة بين جماعة محمد وصفها القرآن بعنفٍ: ﴿مَن كفر بالله، من بعد إيمانه ـ إلاّ منَ أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ـ ولكن منَ شرح بالكفر صدراً: فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم (النحل ١٠٦). علّق على هذه الحادثة الأستاذ دروزة ١٣ بقوله: ﴿روح الآيات ومضمونها... يُلهم أنه أوحي للنبي ﷺ ببعض الآيات لتكون مكان بعض آيات أخرى. فلما تلى الجديدة وأهمل الأولى، استغلّ زعماء الكفّار ذلك، فأخذوا يشنعون عليها ويهاجمون دعواه كون القرآن وحياً إلهياً، وينسبون اليه الإفتراء، والتعّلم من الشخص الأجنبي المعيّن. ولعلهم قالوا: إن الشيطان هو الذي يوسوس له، ويلقي عليه، لا الملك، وأن التبديل دليل على ذلك؛ فالشيطان محل خطإٍ، والملاك لا يصح أن يخطئ، واستغلوا الحادث في الصد والتأثير في بعض المسلمين. وتوسلوا بالإغراء، إلى جانب الاستغلال والتشويش. وكان من نتيجة ذلك أن ارتدّ بعضهم، استجابة لهذه الدعاية، واستحباباً لمنافع الدنيا معاً. فهذه الردة بين الجماعة، بعد تكفير المشركين، برهان واقعي على فساد حكمة التبديل في التنزيل.

ويقرن القرآن واقع التبديل في آي القرآن، بالأمر بالاستعاذة من الشيطان: ﴿فإذا قرأت القرآن، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (النحل ٩٨)، كأن للشيطان ضلعاً في تبديل القرآن، كما له ضلع في الإلقاء عند تلاوته: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ اللهُ ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته (الحج ٥٢). وهذا الواقع يجعل قرينة الاستعاذة عند القراءة، مجالاً للشك في نسبة التبديل الى الله: فقد يكون من الله، وقد يكون من غيره.

والقرينة الثانية بين التبديل، والتعلـّم من شخص أجنبي: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر! ـ لسان الذي يُلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين (النحل ١٠٣)، يثير الشبهة أن التبديل من التعلّم. ويزيد الشبهة رسوخاً أنّ المعلّم المزعوم أجنبي اللسان، لا يفصح إلاَّ بعد تبديل. انه يقول: ﴿وهذا لسان عربي مبين آي القرآن؛ فكيف يكون أكثره من المتشابه الذي لا يُبين؟!

ونلاحظ أخيراً الفرق بين الذين آمنوا والمسلمين في قوله: ﴿نزّله روح القدس من ربك بالحق، ليثبّت الذين آمنوا، وهدى وبشرى للمسلمين (النحل ١٠٢). فإن (الواو) في (وهدى وبشرى) للزيادة، لا عطف بيان. يؤيد قولنا أنه لا يعطف اسماً على جملة؛ واختلاف الغاية بين الفريقين: تثبيت ﴿الذين آمنوا؛ وهدى وبشرى للمسلمين؛ و﴿الذين آمنوا كناية متواترة عن جماعة محمد، مثل صفة ﴿المتقين؛ بينما ﴿المسلمون في القرآن اسم متواتر لغير جماعته؛ حيث القرآن لهم بمثابة التوراة التي يكني عنها بالهدى، وبمثابة الإنجيل الذي يعربه حرفياً ﴿البشرى. وهذه الجماعة الأخرى التي يقيم معها التوراة والإنجيل معاً هي جماعة النصارى من بني إسرائيل (قابل الصف ١٤) وفي وقوله: ﴿هدى وبشرى للمسلمين قرينة على أن الشخص الاجنبي الذي زعموا تلمذة محمد له، هو من يشير اليه بتواتر: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠)؛ ﴿قلْ: كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب (الرعد ٤٣). فزعمهم اذن ليس بباطل، مع لسانه الأعجمي.

فتبديل آية مكان آية أمر واقع في القرآن، وقضية مبدأ فيه. والتبديل في آي القرآن شبهة قائمة على إِعجازه: فالتنزيل المحكم المعجز، من الحكيم العليم جلَّ جلاله، لا يطرأ عليه التبديل، وإلاّ كان مثل كلام البشر.

٢ ـ قضية ﴿المحو في ﴿أم الكتاب

هنا المحو والاثبات في التنزيل يلحق الأصل السماوي نفسه للقرآن: ﴿لكل أجل كتاب. يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب (الرعد ٣٨ ـ ٣٩).

فسّره البيضاوي: ﴿لكل وقت وأمد حكم يُكتب على العباد، على ما يقتضيه استصلاحهم. يمحو الله ما يشاء، ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت ما تقتضيه حكمته... وقيل: يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء، ويترك غيره مثبتاً؛ أو يثبت ما رآه وحده في صميم قلبه. وقيل: يمحو قرناً ويثبت آخر. وقيل: يمحو الفاسدات، ويثبت الكائنات. (وعنده أمّ الكتاب) أي أصل الكتب، وهو اللوح المحفوظ، اذ ما من كائن إلاّ وهو مكتوب فيه.

وفسره الجلالان: ﴿لكل أجل، مدة، كتاب مكتوب فيه تحديده (يمحو الله ما يشاء) من الأحكـام وغيرها. (وعنده أم الكتاب) أصله الـذي لا يتغيّر منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل.

انهم يردّون معنى الآية الى التبديل في قضاء الله وقدره. والمعنى الأقرب الى الصواب هو التبديل في التنزيل، الذي يجري بحسب المكتوب في ﴿أم الكتاب أي اللوح المحفوظ الذي كتبه في الأزل. وهنا الطامة الكبرى، سواءٌ كان ﴿المحو في التنزيل أم في قضاء الله وقدره.

وبما أن التنزيل أم تقدير الله لعباده مكتوب منذ الأزل في ﴿أمّ الكتاب ـ فكيف يجرى ﴿المحو في اللوح المحفوظ؟ أم كيف يكون تنزيل بغير المكتوب في ﴿أم الكتاب يحتاج الى محو وتصحيح؟ أو تغيير في تقدير القدير على عباده؟ فالتغيير في ﴿أمّ الكتاب أم في التنزيل عن ﴿أم الكتاب شبهة لا مردّ لها على التنزيل وعلى إِعجازه. والشبهة هنا أخطر من سابقتها، فقد يقع تنزيل بغير ما في ﴿أمّ الكتاب، يقوّمه روح القدس بحسب ما في ﴿أمّ الكتاب، ويحكم الله آياته. والتنزيل الذي قد يختلف عن أصله السماوي، أو يعتريه محو في أصله السماوي، وإن أحكم الله آياته بعد المحو، ليس معجزاً في ذاته. فقضية المحو في ﴿أمّ الكتاب، أو في التنزيل عن ﴿أمّ الكتاب شبهة قائمة دائمة على إِعجاز القرآن، ونقض لاعتبار هذا الإِعجاز معجزة.

٣ ـ قضَّية الرفع والإسقاط من القرآن

هذه القضية تمت على عهدين: مع النبي نفسه؛ وعند جمع القرآن.

١) على عهد النبي نفسه

من الثابت، في الحديث المتواتر، أنه ﴿نزل عليه قرآن ورُفعت تلاوته ١٤ . ومن الثابت أيضاً أنه ﴿نزل عليه قرآن ونُسخ ١٥ . والنسخ في القرآن، والمحو، والتبديل، ظواهر يشهد بها القرآن نفسه (البقرة ١٠٦؛ الرعد ٣٩؛ النحل ١٠١).

قال الباقلاني: ﴿والذي نذهب اليه أن جميع القرآن الذي أنزل الله وأمر بإثباته ورسمه ـ ولم ينسخه، ولم يرفع تلاوته بعد نزوله ـ هو الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان ١٦ . نقول: إن إسقاط الأحرف الستة من الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، وحرق المصاحف ما عدا مصحف عثمان، تكذيب لمثل ذاك الادعاء.

إن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ١٧ ، ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كما بيّنه الطبري في تفسيره الكبير؛ وبقاء القرآن في المصحف العثماني على حرف واحد، شاهد تاريخي قائم على أنّ محمداً والصحابة أسقطوا من القرآن ستة أحرف؛ ولم يسلم لنا سوى الحرف العثماني. فهل الأحرف الستة التي سقطت غير معجزة فأسقطوها؟

والحديث الآخر في معارضة جبريل مع محمد للقرآن، كل سنة، في شهر رمضان؛ وحديث معارضته في السنة الأخيرة مرتين؛ وحديث إشهاد زيد بن ثابت العرضة الأخيرة مع النبي التي بيّن فيها جبريل ما نُسخ من القرآن وما بقي ١٨ ؛ كلها تلقي شبهة ضخمة على إِعجاز القرآن في تنزيله ذاته؛ فإن معنى هذه العرضة السنوية تنقيح القرآن المنزل. وما هو بحاجة الى تنقيح لا يكون معجزاً.

٢) على عهد جمع القرآن

قد أسقطوا من القرآن كثيراً عند جمعه، على حسب ما نقلت الروايات الثابتة.

قالوا: إنّ عليّاً كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ؛ وأن عثمان رفع المنسوخ من مصحفه ١٩ . ومع ذلك يكتبون إلى اليوم في الناسخ والمنسوخ الذي أفلت من رقابة عثمان. فهل كان المنسوخ الذي أسقطوه محكماً معجزاً؟ أم غير معجز حتى أسقطوه؟

وهناك سُوَر أسقطت برمتها: ﴿روي عن أبي موسى الأشعري: كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ممّا نسيناها. وروى مسلم هذا الحديث الآخر بقوله: ﴿إن أبا موسى الأشعري قال مرة لخمسماية من القراء بالبصرة: إنا كنا نقرأ سورة بطول السهم وحدها؛ أمّا الآن فقد نسيتها ما عـدا بعض الآيات ٢٠ . وعنه أيضـاً: ﴿نزلت سورة نحو براءَة ثم رفعت. ٢١ ومشهور أمر سورة ﴿النـورين في عليّ، التي قيل إن عثمان أسقطها من مصحفه ٢٢ . وكان مصحف أبي قد أثبت سورتي ﴿الحفد و﴿الخلع، فأسقطهما عثمان. فهل إسقاط مثل تلك السور من دلائل إِعجازها أم عدمه؟

وهناك قسم أُسقِط من بعض السور. لقد نقل السيوطي عن عائشة: ﴿إن سورة الأحزاب كانت تُقرأ في زمن النبي مئتي آية. فلما كتب عثمان المصاحف، لم نقدر منها إلاّ ما هو الآن. وعن أُبَي: ﴿إنْ كانت لتعدل سورة البقرة، وإنْ كنّا لنقرأ فيها آية الرجم ٢٣ . وسورة الأحزاب في أحداث بيت النبي.

وقريب من ذلك الأحاديث عن سورة البيّنة: كانت من الطوال، فصارت من القصار. فهل أسقطت تلك الاقسام لأنها لم تكن من الإِعجاز القرآني؟

وهناك بعض من آيات أسقط. ﴿روي عن حميدة بنت أبي أوس قالت: قرأ عليَّ أبي وهو ابن ثمانين سنة، في مصحف عائشة: (إن الله وملائكته يصلون على النبي! يا أيها الذين آمنوا، صلوا عليه وسلموا تسليماً ـ وعلى الذين يُصلّون في الصفوف الأولى). وذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف.

إن عائشة تتهم عثمان بتغيير المصاحف: فهل هذا التغيير كان من إِعجاز القرآن، أم لا؟

وجاءَ في موطأ الامام مالك، انه كان في مصحف عائشة، ومصحف حفصة، ختام الآية على هذه الصورة: ﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ـ وصلاة العصر. فأسقط عثمان الختام.

أخرج الحاكم في (مستدركه) أنهم أسقطوا في مصحف عثمان آية ﴿وادٍ من المال، كانت في مصحف أبي. وكذلك هذه الآية: ﴿إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من مصحف أبي ٢٤ .

﴿وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ آية الكهف هكذا: (وكان وراءَهم ملاك يأخد كل سفينة ـ غصباً). وآية البقرة هكذا: (لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم ـ في المواسم). وروي عن ابن الزبير أنه كان يقرأ آية آل عمران هكذا: (ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ـ ويستعينون بالله على ما أصابهم). وروي عن ابن مسعود انه كان يقرأ آية آل عمران هكذا: (وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله ـ من أجل ما جئتكم به). ويقرأ آية النساء هكذا: (فما استمتعتم به منهنّ ـ إلى أجل مسمّى). ويقرأ آية الأحزاب هكذا: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ وهو أب لهم). ويقرأ آية المجادلة هكذا: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم... ـ إذا أخذوا في التناجي ٢٥ .

فهذه التعديلات، عند جمع القرآن بواسطة عثمان، تدل على نية في تنقيح نص القرآن. فهل تدل على إِعجاز في الأصل؟

﴿وروي عن عدي بن عدي، عن عمر قال: ﴿كنّا نقرأ: (ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم). ثم قال لزيد بن ثابت: (أكذلك؟ ـ قال: نعم)! فهذه شهادة من عمر. ومن كاتب الوحي وجامع القرآن زيد بن ثابت، أنه أُسقط من القرآن في جمع عثمان.

والشهادة بالاسقاط من القرآن في الجمع العثماني متواترة: ﴿روى المسوّر بن مَحْزَمة ان عبد الرحمان بن عوف قال: ألم نجد فيما أنزل علينا (جاهدوا كما جاهدتم أول مرة)، فإنا لا نجدها. قال: أُسقطت فيما أسقط من القرآن ٢٦ . إنه اقرار ضخم لا يحتاج الى تعليق.

فهل أسقطوا من القرآن لتنقيحه أم لإِعجازه؟

﴿وهناك روايات عديدة تفيد أن بعض الصحابة كانوا يقرأون كلمات بدل كلمات. ويعطون على ذلك اثني عشر مثلاً ٢٧ . فهذه شهادة على أن نص القرآن لم يكن ثابتاً قبل الجمع العثماني. وهذه شبهة أخرى على إِعجازه.

ونقلوا عن عثمان نفسه، لمّا عُرض عليه النص الموحد المنقح: ﴿أرى في القرآن لَحَناً وستقيمه العرب بألسنتها! وعن عكرمة أنه لمّا كتب المصاحف عُرضت عليه فقال: ﴿لا تغيّروها، فإن العرب ستغيّرها (ستعربها) بألسنتها!

وهذه شهادة بأن النص القرآني قد أصقلته العرب في تلاوتها. يؤيد ذلك قول الجاحظ، لمّا عارض القرآن في (الفصول والغايات)، فقيل له: اين هذا من القرآن؟ فقال: دعوا الألسن تصقله في المحاريب، وترون بعد ذلك ما سيكون!

وهكذا يحق لنا، بعد هذه الشهادات، ان نرى في إِعجاز القرآن الباقي إِعجاز أمّة أكثر منه إِعجاز فرد. فلا يصح أن يكون هذا الإِعجاز معجزة إلهية تشهد للقرآن والنبي. والقول الفصل ما ﴿روي عن ابن عمر: لا يقولن أحدكم: أخذتُ القرآن كله، وما يدريه ما كله؛ قد ذهب منه قرآن كثير! ولكن ليقل! قد أخذت منه ما ظهر ٢٨ .

فهذا القرآن الذي ذهب وأسقطوه، أكان معجزاً أم غير معجز، لا يدل اسقاطه على إِعجازه. وما ظهر من القرآن قد نقحوه وأصقلته الألسن في التلاوة، فليس إِعجازه معجزة إلهية.

٤ ـ النسيان من القرآن

هذه ظاهرة قرآنية أخرى تمس الإِعجاز كظاهرة الزيادة والنقصان في القرآن. ينعى القرآن على أهل الكتاب أنهم ﴿نسوا حظاً مِمّا ذُكّروا به (المائدة ١٣ و ١٤)؛ ﴿فلما نسوا ما ذُكّروا به لم يرض الله (الأنعام ٤٤؛ الأعراف ١٦٥). وها إن النبي نفسه كان ينسى من القرآن، فيُقال له: ﴿سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله (الأعلى ٦ ـ ٧). فقد يشاء الله أن ينسى النبي من القرآن. ويجعل القرآن مسأله النسيان منه مثل مسألة النسخ: قضية أمر واقع وقضية مبدأ، في قوله: ﴿ما ننسخ من آية ـ أو نُنْسها ـ نأتِ بخير منها أو مثلها (البقرة ١٠٦). فالله نفسه يُنسى نبيه بعض القرآن. فالنسيان من القرآن، مثل النسخ، شبهة على إِعجازه.

ونجـد في القرآن المكي والمدني معـاً الاقرأر المتواتر بنسيان القرآن. على قـوله: ﴿سنقرئك فلا تنسى، إلاّ ما شاء الله علّق الطبري: ﴿أخبر أنه يُنسي نبيّه منه ما شاء. فالذي ذهب منه هو الذي استثناه الله.

وعلى قوله: ﴿واذكرْ ربك اذا نسيت، وقـلْ: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رَشَداً (الكهف ٢٤)، علّق البيضاوي: ﴿اذا فرط منك نسيان لذلك... واذكر ربك وعقابه اذا تركت بعض ما أمرك به، ليبعثك على التدارك؛ واذكره اذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي.

والغرابة كل الغرابة في قوله: ﴿أو نُنسها (البقرة ١٠٦): فالله ينسي نبيّه القرآن! قال الطبري: ان النسيان يعرض للنبي، وقد يفعله الله فيه.

ويأتي الحديث فيبيّن لنا ظاهرة النيسان. نقل الطبري ٢٩ عن قتادة: ﴿كان ينسخ الآية بالآية بعدها. ويقرأ نبي الله ﷺ الآية أو أكثر من ذلك، ثم تُنسى وتُرفع! وعن قتادة أيضـاً: ﴿كان الله، تعالى ذكره، يُنسي نبيّه ما شاء، وينسخ ما شاء! وعلى آية البقرة (١٠٦) عن مجاهد. كان عبيد الله بن عمر يقول: (نُنسها: نرفعها من عندكم)! وعن الحسن: ان نبيّكم ﷺ أقرِئ قرآنا ثم نسيه. وعن الربيع: (ننسها: نرفعها) ـ وكان الله أنزل أموراً من القرآن ثم رفعها.

ويضيف الطبري: ﴿وما أشبه بذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب. وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبر، أن يُنسي الله نبيه ﷺ بعض ما كان قد أنزل عليه. فإذ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز!

واذا نسي النبي، أو أنساه الله، أو أنساه الشيطان، من القرآن؛ فكم بالحري عرض ذلك للقرّاء وحملة القرآن.

فهل تدل ظاهرة النيسان من القرآن على الإِعجاز في المنسي؟ والمنسي كالباقي؟

فتلك الظواهر القرآنية الأربع، من تبديل ومحو واسقاط ونسيان، لا تدل على إِعجاز في القرآن، وتنقض دعوى الإِعجاز فيه. لذلك صح ما قالوا: إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

رابعاً: إلقاء الشيطان أو الناس في القرآن

١ ـ من أغرب الظواهر القرآنية، ظاهرة إلقاء الشيطان من عنده في الوحي والتنزيل من دون أن ينتبه النبي لذلك، حتى ينبّهه جبريل ويُحكم الوحي والتنزيل.

قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلاّ اذا تمنّى (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته! فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم: ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، وان الظالمين لفي شقاق بعيد... ولا يزال الذين كفروا في مرية منه (الحج ٥٢ ـ ٥٥).

إن (أسباب النّزول) كلها تربط آية (الحج ٥٢) بقصة الغرانيق التي وردت في سورة (النجم)، بطرق كثيرة، حتى قال الحافظ بن حجر: ﴿كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً.

جاء في تفسير الجلالين: ﴿وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي (إلاّ اذا تمنى) قرأ (القى الشيطان في أمنيته) قراءَته ما ليس من القرآن ممّا يرضاه المرسل اليهم. وقد قرأ النبي ﷺ في سورة النجم بمجلس من قريش بعد (أفرأيتم اللاّت العزّى، ومناة الثالثة الأخرى) بإلقاء الشيطان على لسانه من غير علمه ﷺ به: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتهن لتُرتجى) ففرحوا بذلك. ثم أخبره جبريل بما ألقى الشيطان على لسانه من ذلك، فحزن، فسُلّي بهذه الآيات. (وان الكافرين لفي شقاق بعيد) خلاف طويل مع النبي ﷺ المؤمنين، حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم، ثم أُبطل.

مهما كابر المكابرون في صحة قصة الغرانيق، فإن المبدأ القرآني في آية (الحج ٥٢) صريح، لا مراء فيه: إن الشيطان قد تدخّل في تنزيل القرآن، من غير علم محمد، لم يشعر بذلك حتى أعلمه جبريل، وأحكم آيات القرآن. ومجرّد التفكير بإمكانية تدخل الشيطان في الوحي والتنزيل شبهة مؤلمة على هذا الوحي والتنزيل، وعلى دعوى الإِعجاز فيه. فبحسب آية (الحج ٥٢) قد ضاهى الشيطان إِعجاز القرآن، ولم يشعر محمد من تلقاء نفسه بذلك؛ فليس القرآن إذن بمعجز للثقلين، الانس والجن.

إن هذه الظاهرة الغريبة تنقض معجزة الإِعجاز. ولا يقلّل من غرابتها أن ذلك وقع لكل رسول أو نبي. فالكتاب نفسه، وأهل الكتاب لا يعرفون ذلك لكتابهم. بل نرى في الإنجيل سيطرة السيد المسيح على الشياطين، حتى لتفزع منه وتستذل بحضرته. ودليل ذلك ان القرآن يأمر بالاستعاذة من الشيطان قبل قراءَة القرآن، لكن الكتاب ليس فيه شيء من ذلك.

٢ ـ وعقد السيوطي في (الإتقان ١: ٣٥) فصلاً: ﴿فيما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة. قال: ﴿والأصل فيه موافقات عمر. وقد أفردها بالتصنيف جماعة.

١) ﴿أخرج الترمذي عن ابن عمر ان رسول الله ﷺ قال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. قال ابن عمر: وما نزل بالناس أمر قط، فقالوا وقال، الاّ نزل القرآن على نحو ما قال عمر! وأخرج ابن مردويه عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن.

﴿وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال: ﴿قال عمر: وافقت ربي في ثلاث. قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى). وقلت: إن نساءَك يدخل عليهن البَرّ والفاجر فلو أمرتهن ان يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله ﷺ نساؤه في الغيرة فقلت لهنّ: (عسى ربه إن طلقكنّ، أن يبدله أزواجاً خيراً منكن) فنزلت كذلك.

﴿وأخرج مسلم عن ابن عمر عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسرى بدر، وفي مقام إبراهيم.

﴿وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي، أو وافقني ربي في أربع: نزلت هذه الآية (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين...) فلما نزلت قلت أنا: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فنزلت (فتبارك الله أحسن الخالقين).

﴿وأخرج عن عبد الله بن أبي ليلى ان يهودياً لقي عمر بن الخطاب فقال: ان جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو لنا! فقال عمر (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل، فإن الله عدو الكافرين). قال: فنزلت على لسان عمر!

٢) ﴿وأخرج سنيد في تفسيره عن سعيد بن جبير، أن سعد بن معاذ، لما سمع ما قيل في أمر عائشة قال (سبحانك هذا بهتان عظيم) فنزلت كذلك.

﴿وأخرج ابن أخى ميمي في (فوائده) عن سعيد بن المسيب قال: كان رجلان من أصحاب النبي ﷺ اذا سمعا شيئاً من ذلك قالا (سبحانك هذا بهتان عظيم) ـ وهما زيد بن حارثة وأبو أيوب ـ فنزلت كذلك.

٣) ﴿وأخرج بن أبي حاتم عن عكرمة قال: لمّا أبطأ على النساء الخبر في (أُحُد) خرجن يستخبرنَ، فإذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امرأة: ما فعل رسول الله ﷺ؟ قال: حي! قالت: فلا أبالي (يتخذ الله من عباده الشهداء) فنزل القرآن على ما قالت (ويتخذ منكم شهداء).

٤) ﴿وقال ابن سعد في (الطبقات): أخبرنا الواقدي: حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد فقطعت يده اليمنى، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وهو يقول: (وما محمد الاّ رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات، أو قُتل انقلبتم على اعقابكم) ثم قُطعت يده اليسرى فحنى اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، وهو يقول (وما محمد الاّ رسول...) ثم قُتل، ثم سقط اللواء. قال محمد بن شرحبيل: وما نزلت هذه الآية يومئذٍ حتى نزلت بعد ذلك.

في هذا الفصل الوجيز واقع مضاهاة الصحابة للقرآن، وأمثلة من ذلك على لسان بعضهم، خصوصاً على لسان عمر الذي ينقلون عنه خمس آيات؛ والذي كان يرى الرأي فينزل به القرآن. وهذا شاهد من القرآن والحديث على أن الإنس أيضاً يأتون بمثل القرآن، والقرآن يتمثل بهم، على حدّ قوله: ﴿وافقت ربي! أو وافقني ربي!

٣ ـ ويضيف السيوطي: ﴿يقرب من هذا ما ورد في القرآن على لسان غير الله كالنبي ﷺ وجبريل والملائكة، غير مصرّح بإضافته اليهم، ولا محكي بالقول، كقوله (قد جاءَكم بصائر من ربكم...) فإن هذا وارد على لسانه ﷺ لقوله في آخرها (وما أنا عليكم بحفيظ). وقوله (أفغير الله ابتغي حكما) فإنه وارد أيضاً على لسانه.

﴿وقوله (وما تتنزّل إلا بأمر ربك) وارد على لسان جبريل. وقوله (وما منّا الاّ له مقام معلوم. وإنا لنحن الصافّون، وإنا لنحن المسبّحون!) وارد على لسان الملائكة.

﴿وكذا (إياك نعبد، واياك نستعين) وارد على ألسنة العباد.

﴿إلاّ انه يمكن هنا تقدير القول أي (قولوا)؛ وكذا الآيتان الأوليان يصح ان يقدر فيهما (قل) بخلاف الثالثة والرابعة.

وهذا كثير في القرآن. ومنه يظهر ان محمداً، وصحابته ﴿والعباد قد ضاهوا القرآن في أقوالهم التي نقلها القرآن عنهم. فليس هو بمعجز للثقلين، والجن والانس.

تلك الأمثلة على مضاهاة الانس والجن للقرآن تجعل قول بعض المشركين في ردّه على تحدي القرآن العابر ﴿أن يأتوا بمثله أو ﴿بحديث مثله، سائغاً، حيث قال: ﴿سأنزل مثل ما أنزل الله (الأنفال) فقد نزل القرآن مراراً على ما قال عمر باللفظ والمعنى.

وهكذا فإيحاء الأرواح، وإيحاء البشر واقع في القرآن. وهذا الواقع دليل على أنه ليس بمعجز على الإطلاق للعالمين. فيصح قولهم: ﴿ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة!

خامساً: التنزيل بالمعنى يمنع من جعل إِعجازه البياني معجزة له

رأينا ان على أساس القول بإِعجـاز القرآن معجزة له، ما قاله ابن حزم في (الفِصَل): ﴿لم يقل أحد ان كلام غير الله تعالى معجز. لكن لمّا قاله الله تعالى، وجعله كلاماً له، أصاره معجزاً ومنع من مماثلته.

١ ـ الاختلاف في معنى الإنزال؛ التنزيل بالمعنى قولان من ثلاثة

وقد عقد السيوطي في (الإتقان ١: ٤٤) فصلاً ﴿في كيفية الإنزال والوحي: اتفق أهل السنة والجماعة على ان كلام الله منزل؛ واختلفوا في معنى الانزال... واختلفوا في المنزل على النبي ﷺ على ثلاثة أقوال: (احدها) أنه اللفظ والمعنى: وان جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. (والثاني) إن جبريل انما نزل بالمعاني خاصة. وانه ﷺ علم تلك المعاني وعبّر عنها بلغة العرب. (الثالث) ان جبريل ألقى اليه المعنى، وأنه (جبريل) عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب.

فقول واحد من ثلاثة ان التنزيل بالمعاني والألفاظ معاً؛ وقولان يحصران الوحي والتنزيل بالمعنى فقط. ولا تكفير، ولا تثريب على مَن يقول بالتنزيل بالمعاني فقط من دون الألفاظ؛ ولهم على صحة قولهم شاهد من حديث الأحرف السبعة، ومن رخصة النبي بقراءَة القرآن بلغات العرب كلها.

٢ ـ التنكّر للتنزيل بالمعنى

إن مقالة التنزيل بالمعنى وحده واردة في كتب المسلمين قديماً وحديثاً، ولو حاول بعضهم التنكّر لها لأنها تنقض القول بإِعجاز القرآن.

علق عليه الشيخ الزرقاني في كتـابه (مناهل العرفـان في علوم القـرآن ص ٤٣): ﴿وعقيدتي أنه مدسوس على المسلمين في كتبهم. وإلا كيف يكون القرآن معجزاً واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ أو كيف يصح نسبته الى الله، واللفظ ليس له؟ مع ان الله يقول: ﴿حتى يسمع كلام الله. ـ أجل يصح نسبة كلام الى الله انه منه تعالى وإن اقتصر التنزيل على المعاني فقط: فالمعاني ارواح، والألفاظ أجساد لها، والعبرة بالروح. ولكن لا يصح ان ﴿يكون القرآن معجزاً، واللفظ لمحمد أو لجبريل! وهما قولان من ثلاثة.

والتنزيل بالمعنى أقرب الى الواقع النبوي العام والخاص. تختلف الكتب السماوية من التوراة الى الزبور الى النبيّين الى الحكمة الى الإنجيل الى القرآن لفظاً وأسلوباً: فإذا اعتبرناها كلها كلام الله، مع اختلافها أسلوباً وبياناً، وجب ان نقول بالوحي والتنزيل بالمعنى، من دون الألفاظ، إلا فيما ندر. والواقع النبوي القرآني شاهد عدل على ذلك: يختلف أسلوب القرآن المكي عن أسلوب القرآن المدني، والأمر ظاهر: فلا يصح القول بالتنزيل مبنى ولفظاً وتعبيراً.

ويحاول أحمد محمد جمال ٣٠ إثبات حرفية القرآن في قوله: ﴿احتفظ القرآن بالتعابير الآتية الدالة على حرفيته:

١) ﴿كلمة (قلْ) وأمثالها (نبئ وأنذر وبشر). مثلاً: ﴿قل ما كنت بدْعاً من الرسل ـ قل انما انا بشر مثلكم ـ قل لا املك لنفسي نفعاً ولا ضراً ـ قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة ـ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم....

٢) ﴿نصوص عتاب الله لرسوله. مثلاً ﴿لِمَ أذنت لهم؟ حتى يتبيّن الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ـ ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض ـ يا أيها النبي لِمَ تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك....

٣) ﴿تعقيبات الله على ما يقصه على رسوله من قصص كقوله: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليـك ـ ذلك من أنبـاء القرى نقصه عليك ـ كذلك نقص عليك من أنبـاء ما قد سبق....

٤) ﴿تعابير خطابية تشير من جهة الى مَنّ الله على رسوله بأخبار الغابرين، وتعنى من جهة اخرى افحام الجاحدين برسالته بأنه انما يتلقى الوحي من لدن حكيم عليم كقوله: وما كنت لديهم اذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ـ وما كنت ثاوياً في أهل مدين ـ وما كنت بجانب الغربي ـ وما كنت تتلو من قبله من كتاب....

٥) ﴿تعابير زجرية، موجهة من الله لرسوله بالذات، وان كان قومه معنيين بها بالتبعية، كقوله: ﴿فلا تكوننَّ من الممترين ـ ولا تكوننَّ من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين، فلا تكوننَّ ظهيراً للكافرين ـ ولا تكوننَّ من المشركين.... تلك هي دلائله الخمس على حرفية التنزيل.

نجيب إنّ القول بحرفية القرآن أو أي كتاب منزل مسألة عقيدة إيمانية لا يصح القول بها الاّ بتصريح من كتاب الله؛ وليس في القرآن تصريح صريح بحرفيته في تنزيله: فليس القول بها واجب. انما هناك استدلالات؛ وتلك الأمثلة التي عدّدها السيد أحمد محمد جمال تعود كلها الى أسلوب القرآن: لكل كاتب فذّ أسلوب خاص في التعبير، وذاك هو أسلوب القرآن في تعبيره. والدليل على أنه أسلوب النبي، لا أسلوب التنزيل ضرورة، ان تلك الأقوال تحكي أقوال محمد لهم: ﴿إنما انا بشر مثلكم ـ لو شاء الله ما تلوتُه عليكم ـ لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ـ هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة. فالاستفتاح بها بكلمة (قل)، إنما هو أسلوب في التعبير لا يجعلها منقولة حرفيّاً. وعتاب الله لنبيه أو تعابيره الزجرية هي حديث النفس المردّد، أو حديث الضمير المعذّب، ينقلها الوحي ويظهرها بألفاظها وتعابيرها، دون ان يكون الوحي بها بحرفه من التنزيل.

٣ ـ آيات متشابهات في التنزيل بالحرف

وقد علّق الأستاذ دروزة ٣١ على مثل قوله: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك (يوسف ١٠٢)؛ تلك من انباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها انت ولا قومك من قبل هذا (هود ٤٩) ﴿ولقد يقال إن في القرآن آيات قررت أن النبي ﷺ وقومه لم يكونوا يعلمون ما جاءَت به القصص القرآنية ـ فهناك آيات كثيرة أخرى فيها مؤيدات على ان العرب لم يكونوا غافلين أو جاهلين لكثير مما كانوا يسمعونه من قصص القرآن وأخبار والأنبياء والأمم الغابرة وأحوالهم كما ترى في الآيات التالية: ﴿واذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا! لو نشاء لقلنا مثل هذا! إن هذا الاّ أساطير الأولين (الأنفال ٣١؛ الأنبياء ٥؛ القصص ٤٨؛ العنكبوت ٤٧؛ الصافات ٣٧)... فآيتا هود (٤٩) ويوسف (١٠٢) لا تقرّران شمول نفي علم النبي وقومه بكل قصة أو خبر قرآني قبل نزول القرآن، وانما هما بسبيل قصتي نوح ويوسف. اللتين جاءَت الآيتان عقبهما. فمن الجائز ان يكون في القصتين بعض المعاني أو المواقف الدقيقة التي غفل عنها النبي ﷺ والسامعون، وأن تكون الآيتان انما عنتا ذلك ٣٢ . لا سيّما أن قصتي نوح ويوسف. من القصص الواردة في التوراة بإسهاب، وقد كانت التوراة متداولة بين أيدي الكتابيين وخاصة اليهود الذين كان منهم جاليات كبيرة مستقرة في الحجاز كما هو معروف: وليس مما يصح فرضه أن تكون القصتان برمتهما مجهولتين جهلاً تاماً في بيئة النبي ﷺ، دون غيرهما من القصص القرآنية الواردة في التوراة.

فتلك ﴿الآيات المتشابهات سلباً وايجاباً، انما هي أيضاً من أساليب القرآن في التعبير لا تقطع بعقيدة، ولا تدل على حرفية التنزيل.

٤ ـ الرخص النبوية الأربع في قراءَة القرآن تنقض التنزيل بالحرف

وينقض نقضاً مبرماً حرفية التنزيل في القرآن الرخص النبوية الأربعة في قراءَة القرآن:

١) نزول القرآن على سبعة أحرف ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني وكلها شاف كاف، أيها قرأت أصبت (الطبري).

٢) اباحة القراءات المختلفة المتعددة، ﴿والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف وكيفيتها؛ قال: ﴿فاقرأوا ما تيسّر منه.

٣) الرخصة في قراءَة القرآن بجميع لغات العرب ﴿حتى انهم قرأوا بسائر لغاتهم على اتساع تلك اللغات. فلما خشي عثمان تفاقم الأمر جمع المصحف مقتصراً على لغة قريش محتجّاً بأنه قد نزل بلغة قريش ٣٣ .

٤) الرخصة بقراءَة القرآن بالمعنى دون اللفظ. وهو مذهب بعض الصحابة كابن عباس ومجاهد وأبَي بن كعب؛ وقد أجاز هذه الطريقة الخلفاء الراشدون، وعملوا بها عند الضرورة، حتى الجمع العثماني.

وهذه الرخص النبوية الأربعة كانت قائمة قبل جمع القرآن، وهي التي حملت عثمان على جمعه على حرف واحد، وقراءَة واحدة، ولغة واحدة، ولفظ واحد. ولكن هل توصلت لجنة عثمان الى الحرف الأصلي بعد العمل بتلك الرخص نحو نصف قرن؟ وهل كانت معصومة؟

فالقول بحرفية النص في التنزيل يناقض القرآن والتاريخ. فالأصح القول ﴿بمعنوية الوحي في القرآن، كما ذكرت بعض كتب المسلمين. ﴿وكتب المسلمين، هذه التي يشير اليها الشيخ الزرقاني، هي التي استند عليها الشاعر العراقي، معروف الرصافي، بمعنوية الوحي في القرآن حيث كان يعبّر في كتابه (رسائل التعليقات) بهذا التعبير: قال محمد في القرآن ٣٤ .

وبحسب نظرية نزول القرآن بالمعنى، من دون الحرف واللفظ والنص، ـ وهو القول الأصح المطابق لتاريخ النبوّة وتاريخ القرآن ـ لا أساس في القرآن لإِعجاز في النظم والبيان يجعله معجزة النبوّة الخالدة.

وهذا أيضاً يؤيد قولهم: ﴿إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

سادساً: خلق القرآن، في حرفه، شبهة على إِعجازه ومعجزته

التنزيل بالمعنى يقودنا الى مقالة ﴿خلق القرآن، في حرفه.

١ ـ في قصتهـا، قال الشيخ محمد أبو زهرة، اسـتاذ الشريعة بجامعة القـاهرة ٣٥ : ﴿مسألة خلق القرآن أثيرت في العصر الأموي، في جدال المسيحيين. كانوا يقولون: اذا كان كلام الله في القرآن غير مخلوق، فكم بالأحرى مَن يسميه القرآن ﴿كلمة الله القاها الى مريم وروح منه؟ فالمسيح كلمة الله أزلي غير مخلوق. قال الشيخ: ﴿وكان بين المسلمين طائفة قد تصدّت للرد على ما يثيره غير المسلمين للطعن في الإسلام، فوجدوا أنه من الواجب ان يقولوا: ان القرآن مخلوق، و﴿كلمة الله التي عبَّر بها عن المسيح هي مخلوقة، باعتبار ان مسمّاها، وهو المسيح، مخلوق... المأمون يضطهد مَن لا يقول بخلق القرآن... والمعتصم يجري على سنة أخيه... والحق ان المعتزلة لهم وجهة فيما يقولون وليس فيما يقولون كفر ولا زيغ. بل ان الذي دفعهم الى ذلك هو سد الطريق على الذين يحاولون إفساد عقول المسلمين بتأويل بعض العبارات القرآنية تأويلاً باطلاً.

والحق ان الشيخ أبا زهرة يقلب الحقيقة التاريخية: إن المسلمين قالوا بأزلية كلام الله في القرآن، رداً على قول المسيحيين بأزلية المسيح ﴿كلمة الله. ولا مجال على الإطلاق بالمقارنة بين المقالتين: إن ﴿كلمة الله ذات إلهية في الله ألقاها الى مريم روحاً منه تعالى؛ وكلام الله المنزل عمل مثل الخلْق يعمله الله في الزمن، فهو محدث. وليس من مقابلة بين كلام الله المنزل لعباده، وكلام الله الذاتي في نفسه، فجعل كلام الله المنزل أزلياً في ذات القديم فيه اذن مغالطتان.

وفي قضية أزلية القرآن المواقف ثلاثة: قال المعتزلة، كل شيء غير الله مخلوق، والقول بأزلية القرآن هو القول بقديمين الله والقرآن؛ وقال السلف الصالح من الأمة، كلام الله غير مخلوق سواءٌ كان عين كلام الله أو عبارة عنه؛ وقال الأشاعرة بمنزلة بين المنزلتين: معنى القرآن غير مخلوق، وحرفه الذي هو عبارة عنه محدث، فصارت مقالة أهل السنة والجماعة.

وفي القرآن تعابير استندوا اليها ليقولوا بقدم القرآن، كلام الله عينه؛ لكنها آيات متشابهات لا يصح ان تكون عمدة في عقيدة. وفيه تعابير تشير بأنه مخلوق. قال أحمد الرازي في (حجج القرآن لجميع أهل الملل والأديان):

٢ ـ ﴿في حجج القائلين بخلق القرآن. وهو مشتمل على فصول:

﴿الفصل الأول: في الخلق، وذلك في خمسة مواضع: (في الأنعام) وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم. (وفي الرعد) قل الله خالق كل شيء. (وفي الفرقان) وخلق كل شيء فقدره تقديراً. (وفي الزمر) الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل. (وفي حم المؤمن) ذلكم الله ربكم، خالق كل شيء، لا إله الاّ هو.

﴿الفصل الثاني: في الجعل، وذلك في موضعين: (في حم فصلت) ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا: لولا فصلت آياته. (وفي الزخرف) إنا جعلناه قرآناً عربياً، لعلكم تعقلون.

﴿الفصل الثالث: في الحدوث، وذلك في خمسة مواضع: (في الكهف) فلعلك باخع نفسك على آثارهم، أن لم يؤمنوا بهذا الحديث، أسفاً. (وفي الزمر) الله نّزل أحسن الحديث. (وفي الطلاق) لعلّ الله يحدث بعد ذلك امراً. (وفي الأنبياء) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث الاّ استمعوه وهم يلعبون. (وفي الشعراء) ما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث الاّ كانوا عنه معرضين. (وفي هود) كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير ـ وما صادفه فعل بعد فعل يكون محدثاً.

فبرهان القائلين بخلق القرآن على نوعين: من العقل، فالقول بأزلية القرآن هو القول بقديمين، وهذا كفر. ومن النقل، بنص القرآن القاطع، انه ﴿ذكر من ربهم محدث، ﴿ذكر من الرحمان محدث. وما قال أحد من اهل الكتب السماوية ان هذه الكتب تقول بأزليتها.

ومهما كان الأمر في أزلية معنى القرآن، فالقول بخلق حرف القرآن هو المعقول؛ وهو المنقول عن أكثر الأئمة، والمتواتر في الأمة؛ ويؤيده ما وصف به القرآن نفسه من جعْل وحدوث. والقول بخلق حرف القرآن ونصه يمنع من جعل إِعجازه في النظم والبيان معجزة له.

وهذا أيضاً يعزّز قولهم: ﴿ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

سابعاً: شهادة القرآن لإِعجازه محصورة بالعرب ولغتهم

قومية الرسالة، ولغتها، وقومية المرسل إليهم تجعل إِعجاز القرآن محصوراً بهم، لا بل بالخاصة منهم. وإِعجاز محصور محدود لا يكون معجزة للعالمين.

١ ـ ينص القرآن بمبادئ صريحة على قومية الرسالة المحمدية، واختصاصها بالعرب.

المبدأ القرآني العام أنه ﴿لكل امة رسول (يونس ٤٧) و﴿لكل قوم هاد (الرعد ٧). وهذه القومية تدوم الى يوم الدين: ﴿ويوم نبعث في كل امة شهيداً عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء (النحل ٨٩ كذلك النساء ٤١): فمحمد رسول من العرب والى العرب ﴿لقد مَنّ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة (آل عمران ١٦٤).

المبدأ الثاني: قومية الرسول تحدد قومية رسالته: ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم (الجمعة ٢). فمحمد هو ﴿النبي الأمّي المرسل الى الأميّين العرب (الأعراف ١٥٧).

المبدأ الثالث: لغة الرسول تحدد مدى رسالته: ﴿وما أرسلنـا من رسول إلاّ بلسان قومه (إبراهيم ٤) لذلك ﴿وانه لذكر لك ولقومك (الزخرف ٤٤).

المبدأ الرابع: لغة الوحي تحصر حدود رسالته وإِعجازها. ففي اثني عشر موضعاً يصرح بأنه نزل عربياً لكي يفهموه كقوله: ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى وما حولها (الشورى ٧).

المبدأ الخامس: دعوة القرآن للعرب الى ملّة إبراهيم، جدهم بواسطة اسماعيل؛ فهما يصليان يوم بناء الكعبة: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم (البقرة ١٢٩). فهم أولى الناس به (آل عمران ٦٨).

المبدأ السادس: تصريح القرآن المتواتر بأنه ذكر للعرب: ﴿لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم (الأنبياء ١٠)؛ ﴿وانه لذكر لك ولقومك (الزخرف ٤٤)؛ ﴿هذا ذكر من معي، وذكر مَن قبلي (الأنبياء ٢٤) وهذه التصاريح تدل على ان التعميم في مثل قوله: إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين (١: ١٠٤؛ ٣٨: ٨٧؛ ٨١: ٢٧) انما يقصد به التخصيص.

المبدأ السابع: جعل الإسلام العرب امة وسطا بين الموسوية والمسيحية: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس (البقرة ١٤٣).

تلك المبادئ تجعل الرسالة المحمدية قومية عربية، والقرآن قومياً عربياً للعرب، مخصوصاً بهم.

٢ ـ ولغة القرآن، بحسب مبادئ القرآن: ﴿وما أرسلنا من رسول الاّ بلسان قومه، ليبيّن لهم تحصره في أهل لغته. وبما أن الإِعجاز هو في النظم العربي والبيان العربي، فهو لخاصة العرب، لا لعامتهم، وبأولى حجة لعامة البشر. زدْ على ذلك ان أكثره من المتشابه الذي ﴿لا يعلم تأويله الاّ الله فقد نزل بلغة لا يفهم معناها الراسخون في العلم أنفسهم، فلا يكون معجزاً لهم ولا لسائر الناس.

والمرسل اليهـم محصورن، محدودن في الزمان والمكان: ﴿لتنذر ام القرى وما حولها (الشورى ٧)؛ ﴿فهو ذكر لك ولقومك (الزخرف ٤٤)؛ ﴿كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (البقرة ١٥١).

فهذه المبادئ القرآنية تجعل رسالة القرآن عربية وقد جاءَت بلغة عربية أكثرها من المتشابه الذي يعجز عنه الراسخون في العلم، فلا يصح ان يكون القرآن معجزاً لعامة العرب، بل لسائر البشرية. وإِعجاز متشابه محصور لا يكون معجزة للناس أجمعين.

فقد صح قولهم: ﴿ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

ثامناً: القرآن تابع لكتاب ﴿الإمام، والتابع لا يكون معجزاً

الإِعجاز هو أولاً في الهدى ثم في البيان والتبيين والنظم المبين.

١ ـ وما بين القرآن والكتاب انتساب ونسب. والقرآن يستشهد بهذا الانتساب، ويستعلي به على قومه.

وهو انتساب شامل: في الهدى ﴿بهداهم اقتده (الأنعام ٩٠)، وفي الدين الذي شرع الله مع إبراهيم وموسى وعيسى (الشورى ١٣)، وفي السنن التي يهديهم اليها (النساء ٢٦) وفي البيان والتبيين، فإن الحي القيوم أنزل القرآن كما أنزل التوراة والإنجيل فرقاناً للحق (آل عمران ١ ـ ٣).

٢ ـ فالكتاب هو ﴿إمام القرآن، في الهدى والبيان: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة... فلا تك في مرية منه (هود ١٧)؛ فليس بينهما سوى اللسان العربي: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢)، وليس في هذا اللسان العربي ميزة خاصة به.

٣ ـ وما القرآن سوى بيان للكتاب الذي نزل من قبل: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل اليهم (النحل ٤٤)؛ وتصديق له بين العرب: ﴿والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه ـ قبله (فاطر ٣١)؛ وتفصيل ـ والتفصيل في لغة القرآن يعني الترجمة: ﴿وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الناس، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب (يونس ٣٧)؛ فإسلام القرآن كله من اسلام الكتاب: ﴿وقولوا: آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم، والهنا والهكم واحد، ونحن له مسلمون (العنكبوت ٤٦) فلا نفرّق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون (البقرة ١٣٦؛ آل عمران ٨٤؛ النساء ١٥٢) فلا يفضلهم محمد بإِعجاز خاص في قرآنه، لأن القرآن ﴿بيّنة ما في الصحف الأولى (طه ١٣٣).

٤ ـ فالقرآن في الكتاب وفي صدور أهله: ﴿وان هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى (الأعلى ١٨ ـ ١٩). أجل ﴿انه لتنزيل رب العالمين، بلسان عربي مبين، ولكنه ﴿في زبر الأولين (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٦)؛ لذلك ﴿فهو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب (العنكبوت ٤٩)؛ ﴿يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم (البقرة ١٤٦؛ الأنعام ٢٠).

٥ ـ فإمامة الكتاب للقرآن مطلقة: ﴿وانه لتنزيل رب العالين... وإنه لفي زبر الأولين. فتنزيل القرآن نفسه من تنزيل الكتاب، وهو تابع لهذه الإمامة في كل أطواره وكل احواله. والتابع لا يكون معجزاً أكثر من ﴿إمامه: فليس إِعجاز القرآن ميزة له انفرد بها. لذلك قالوا بحق: ﴿ان الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

تاسعاً: تبعية القرآن للكتاب

١ ـ تظهر تبعية القرآن للكتاب الإمام عامة شاملة: فيه شرع لهم من الدين ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى (الشورى ١٣). لذلك ﴿اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة... اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠). فالقرآن ﴿تنزيل رب العالمين لكنه ﴿في زبر الأولين (الشعراء ١٩٦).

٢ ـ ولكن هذه التبعية متطورة جامعة. تتطور من تبعية لإبراهيم: ﴿ثم أوحينا إليك ان اتبع ملّة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين (النحل ١٢٣)؛ الى تبعية لموسى: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً (هود ١٧؛ الأحقاف ١٢)؛ الى تبعية للمسيح من حيث هو كلمة الله ﴿قل يا أيها الناس اني رسول الله إليكم جميعاً... فآمنوا بالله ورسوله، النبي الأمّي، الذي يؤمن بالله وكلمته (الأعراف ١٥٧ ـ ١٥٨)؛ الى الاستقلال في التبعية على أمة وسط بين حنيفية إبراهيم وموسوية الكليم ومسيحية كلمة الله: ﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس (البقرة ١٤٣). واستقر أخيراً على هذه ﴿الأمة الوسط ورأى فيها ﴿خير أمة أخرجت للناس (آل عمران ١١٠).

والتبعية والتطور ليستا من سمات الإِعجـاز لذلك ﴿فإن الله لم يجعل القرآن دليل النبوّة.

عاشراً: إِعجاز القرآن هو في الهدى لا في البيان

١ ـ في تسلسل السور التاريخي يأتي التحدّي للمشركين بالهدى لا بالبيان والنظم والأسلوب: ﴿فلما جاءَهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى! ـ أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟ ـ قالوا: سحران تظاهرا! وقالوا: إنا بكل كافرون! قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ان كنتم صادقين (القصص ٤٨ ـ ٤٩). يتحـداهم بهدى القرآن جوابـاً على كفرهم؛ وفي هذا التحـدّي بالهدى يتضامن مع الكتـاب ﴿إمامه. ثم يتواتر التحدّي بالإِعجاز في ثلاث سور متتالية، دون توضيح لنوعه؛ ولكن ورود التحدّي بالإِعجاز مطلقاً، بعد التحدّي بالهدى، يعني انه تحدٍّ بالإِعجاز في الهدى، على ضوء التحدّي الصريح الذي به استفتح فترة التحدّي بالإِعجاز.

٢ ـ ثم يأتي التحدّي بالإِعجاز على ضوء الاستفتاح. يستفتحه بقوله: ﴿وننّزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة... قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً (الإسراء ٨٢ و ٨٤). ثم يقول: ﴿قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (الإسراء ٨٨). إنه تحدّ مطلق، لا نعرف هل هو بالهدى أم بالبيان. فيردّونه رداً مطلقاً (الإسراء ٩٠ ـ ٩٤). فيجيبهم: ﴿قل آمنوا به! أو لا تؤمنوا! إن الذين أوتوا العلم من قبله، اذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجداً (الإسراء ١٠٧). فتصاريح السورة قبل التحدّي المباشر بالإِعجاز (٨٢ و ١٠٧) توضح انه تحدّ بالإِعجاز في الهدى لا بالبيان.

وفي السورة التالية تدل قرائن التحدّي بالإِعجاز على انه بالهدى لا بالبيان: ﴿وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله، ولكن تصديق الذي بين يديه (قبله) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين! أم يقولون: افتراه! ـ قل فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (يونس ٣٧ ـ ٣٨). فكل القرائن اللفظية والمعنوية: دفع الإفتراء، تصديق الكتاب، تفصيله، ثم تحدّي افترائهم بإِعجازه وعجزهم عن سورة مثله، كلها توضح انه تحدٍّ بالهدى لا بالبيان. يؤيد ذلك أيضاً آية الشك في التنزيل، وإحالة محمد الى اساتذته من أهل الكتاب ليرفع الشك من نفسه والتكذيب بما يوحى اليه (يونس ٩٤ ـ ٩٥) ـ ليس الإفتراء على النظم والبيان بل على الهدى والحق؛ والتصديق والتفصيل يكون للهدى لا للبيان الكتابي؛ والشك والتكذيب في التنزيل يكون في الهدى لا في البيان. فكل القرائن توحي انه تحد بالإِعجاز في الهدى، لا في الأسلوب والنظم والبيان والتبيين.

وفي السورة التالية أيضاً تدل القرائن اللفظية والمعنوية أن المقصود بالتحدّي هو الإِعجاز في الهدى: ﴿فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك، وضائق به صدرك أن يقولوا: لولا أُنزل عليه كنز أو جاءَ معه ملاك! ـ انما انت نذير، والله على كل شيء وكيل! أم يقولون: افتراه! ـ قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله ان كنتم صادقين؛ فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، وأن لا إله الاّ هو، فهل أنتم مسلمون؟... أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، أولئك يؤمنون به، ومَن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده: فلا تك في مرية منه، انه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (هود ١٢ ـ ١٧). فكل القرائن: ترك بعض الوحي، تهمة الإفتراء، توكيد التنزيل بعلم الله، توكيد التوحيد والإسلام، الاستشهاد بأهل الكتاب، الاستعلاء بإمامة كتاب موسى للقرآن، التحريض على ترك الشك، الإعلان انه الحق من ربك... كلها توحي بان التحدّي بالإِعجاز انما هو تحدّ بالهدى لا بالبيان. يؤكد ذلك صريحاً إمامة الكتاب للقرآن، التي بها يرفع الشك من نفسه، وبها يستشهد على رد الإفتراء. مع ذلك فالقرآن تابع لإمامه سواءٌ في الهدى أم في البيان.

٣ ـ وتتوارد التصريحات التي توحي بأن التحدّي كان بالهدى لا بالبيان: على محمد ان ﴿يقتدي بهدى الكتاب وأهله (الأنعام ٩٠)؛ وقد ﴿درس الكتاب ليبيّنه في قرآنه للعرب (الأنعام ١٠٥)؛ ويجادل المشركين بعلم الكتاب المنير ﴿وهداه (لقمان ٢٠)؛ وهو مستمسك بالكتاب من قبله، به آمن وبه نعدل بينهم (الشورى ١٣ ـ ١٥)؛ لأن كتاب موسى ﴿إمامَه على الدوام، وليس عنده من جديد سوى اللسان العربي: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربيّاً (الأحقاف ١٢)؛ وهـو في التنزيل والهدى والبيـان ﴿في زبر الأولين: ﴿وانه لتنزيل رب العـالمين... بلسان عربي مبين، وانه لفي زبر الأولين ـ كالتوراة والإنجيل (الجلالان) ـ (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٥).

٤ ـ وقول القرآن القاطع: ﴿وشهد شـاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم (الأحقاف ١٠) يدل صراحة انه في قـوله: ﴿فليأتوا بحديث مثله، ان كانوا صادقين (الطور ٣٤) إنما يتحدى المشركين، لا أهل الكتاب القادرين ﴿على مثله. وهذان النصّان يوحيان ان التحدّي القرآني بالإِعجاز هو شكلاً وموضوعاً التحدّي بالهدى لا بالبيان. وبما أن من أهل الكتاب مَن ﴿شهد على مثله فهذه شهادة، بنص القرآن القاطع، أولاً انه ليس في القرآن من تحدٍّ بالإِعجاز مطلق؛ وثانياً أن الإتيان ﴿بمثل القرآن وارد. وعلى هذا الواقع انتهى العهد بمكّة.

٥ ـ أخيراً جاءَ التحدّي الأخير بإِعجاز القرآن في مطلع العهد بالمدينة: ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم، والذين من قبلكم، لعلكم تتقون... وان كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله، إن كنتم صادقين (البقرة ٢١ ـ ٢٣). فالتحدّي بسورة من مثله انما هو تحدّ بالتوحيد الذي يدعو اليه ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم، لا بالأسلوب والنظم، ولا بالبيان والتبيين. والتحدّي انما هو ﴿للناس المشركين، لا لأهل الكتاب. فلمّا افترق عنهم بتأسيس ﴿أمة وسط بين الحنيفية والموسوية والمسيحية (البقرة ١٤٣)، أخذوا يطلعون الناس على عوراته من المنسوخ والمتشابه فيه. فنسخ القرآن للحال التحدّي بإِعجازه في الأحكام بمبدأ النسخ فيها وواقعه: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بأحسن منها أو مثلها (البقرة ١٠٦)؛ ونسخ التحدّي بإِعجازه في التعليم والأخبار والأوصاف، بمبدأ المتشابه فيها وواقعه: ﴿منه آيات محكمات... وأخر متشابهات... وما يعلم تأويله الاّ الله (آل عمران ٧). فاختفى التحدّي بإِعجاز القرآن منذ مطلع العهد في المدينة، لمّا اصطدم بأهل الكتاب من اليهود.

الخاتمة

إنّ مجموع التصاريح عن التحدّي بالإِعجاز، من نصوصها وقرائنها القريبة والبعيدة، يورث علماً ضرورياً نوجزه بهذه الكلمات:

أولاً: يتحدى القرآن، في فترة عابرة من تنزيله المشركين لا أهل الكتاب، بإِعجاز فيه.

ثانياً: يجعل القرآن هذا الإِعجاز في الهدى لا في الأسلوب والنظم والبيان.

ثالثاً: تحدّى القرآن بهداه المشركين، فهم في شركهم اعجز عن ﴿مثل هدى القرآن. ولكنه لم يتحدَّ بهداه أهل الكتاب لأنه في الهدى تابع للكتاب ﴿الإمام، ﴿يقتدي به، ويفصّله ويصدّقه؛ ويستشهد بأهله، ويطمئنّ في شك لديهم. فلا إِعجاز في الهدى: حسب النسخة ان تكون مثل ﴿الإمام وما القرآن سوى تعريب ﴿المثل الذي عند النصارى من بني إسرائيل.

رابعاً: ولا إِعجاز للتحدي في بيانه، لأن القرآن نفسه نسخ التحدّي بإِعجازه في الأحكام، بمبدأ النسخ وواقعه (البقرة ١٠٦)؛ ونسخ التحدّي بإِعجازه في التعليم والاخبار والأوصاف، بمبدأ المتشابه فيه وواقعه (آل عمران ٧).

خامساً: أجل إن القرآن ﴿بلسان عربي مبين وهذا إِعجاز واضح لكل ذي عينين. ولكن القرآن لا يجعله إِعجازاً للتحدي، ولا يصح ان يكون معجزة له. فالقرآن في التنزيل والهدى والبيان هو في ﴿زبر الأولين ﴿كالتوراة والإنجيل (الجلالان): ﴿وانه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين؛ وانه لفي زبر الأولين (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٦)، ﴿وهو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب (العنكبوت ٤٩).

سادساً: فمن حيث الواقع، ان قول القرآن القاطع: ﴿وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله (الأحقاف ١٠) ينقض التحدّي ﴿بمثل هذا القرآن (الإسراء ٨٨)، ﴿بسورة مثله (يونس ٣٨)، ﴿بعشر سور مثله (هـود ١٣)، ﴿بحديث مثله (الطور ٣٤)، ﴿سورة من مثله (البقرة ٢٣). ويقرّر أن الإتيان ﴿بمثله ارد عند أهل الكتاب.

سابعاً: ومن حيث المبدأ، إن كتاباً أكثره ﴿من المتشابه، سوى ﴿آيات محكمات يتحكّم النسخ في أحكامها، و﴿لا يعلم تأويله الاّ الله؛ والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كلُ من عند ربنا (آل عمران ٧) هو كتاب لا إِعجاز فيه للتحدي، على الإطلاق.

فإِعجاز القرآن لا إِعجاز فيه للتحدي ولا معجزة. أجل ﴿ان الله لم يجعل القرآن دليل لنبوّة. تلك هي شهادة القرآن القاطعة في إِعجازه، ومعجزة إِعجازه.


١. دراسات اسلامية، ص ٩٧.

٢. دروزة: سيرة الرسول ١ : ٢١٧.

٣. الإتقان ٢ : ١١٧.

٤. هذا جور في الاستنتاج، فسماع كلام الله لا يدل على أنه معجزة في النظم والبيان، بل في الارشاد والهدى.

٥. فاته ان الكتاب المنزل على محمد، وبه يتحداهم، هو الكتاب الذي من قبله: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً؛ وهو مثل قوله: ﴿أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى.

٦. هذه مبالغة ينقضها تاريخ الآداب العالمية.

٧. كان التحدّي بالإِعجاز في فترة وجيزة من آخر العهد بمكّة ومن أول العهد بالمدينة؛ فهناك عشر سنين بمكّة، وسائر العهد كله بالمدينة، بعد الآية (٢٣) من البقرة، لا تحدي فيها بالإِعجاز.

٨. إِعجاز القرآن ١ : ١٣٨.

٩. دراسات اسلامية، ص ٩٩.

١٠. الإتقان ٢ : ٢٠.

١١. السيوطي: الإتقان ٢ : ٢ ـ ٣.

١٢. نشر أحمد عمر المحمصاني، ص ٧٥.

١٣. سيرة الرسول ١: ٢٣٤ ـ ٢٤٤.

١٤. دروزة: القرآن المجيد ص ٦٣.

١٥. دروزة: القرآن المجيد ص ٩٠.

١٦. دروزة: القرآن المجيد ص ٧٣.

١٧. قابل السيوطي في الإتقان ١: ٤٦ ﴿المسألة الثالثة: في الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها.

١٨. دروزة: القرآن المجيد ص ٥٥.

١٩. عن دروزة: القرآن المجيد ص ٦٠.

٢٠. عن دروزة: القرآن المجيد ص ٩٠.

٢١. عن دروزة: القرآن المجيد ص ٥٥.

٢٢. عن دروزة: القرآن المجيد ص ٥٧.

٢٣. عن دروزة: القرآن المجيد ص ٦١.

٢٤. عن دروزة: القرآن المجيد ص ٦١.

٢٥. عن دروزة: القرآن المجيد ص ٦١.

٢٦. عن دروزة: القرآن المجيد ص ٥٩.

٢٧. ابن الخطيب: الفرقان ص ٩٠.

٢٨. عن دروزة: القرآن المجيد ص ٥٩.

٢٩. تفسير الطبري ـ تخريج الأخوين شاكر، نشر دار المعارف بمصر ٢ : ٤٧٤ ـ ٤٨٠.

٣٠. في كتابه: مع المفسرين والكتاب، ص ١٧٤.

٣٠. سيرة الرسول ١ : ٤٠ ـ ٤١.

٣٢. في القصص القرآني بعض المعاني أو المواقف وردت في التلمود أو المدراش اليهودي لم تنزل في التوراة، فعدّها القرآن من الغيب المجهول لدى العرب.

٣٣. ابن الخطيب الفرقان ص ١٢٠.

٣٤. احمد محمد الجمال: مع المفسرين والكتاب ص ١٧٤.

٣٥. مجلة العربي صفر ١٣٨٠ = اغسطس ١٩٦٠ ص ٩١ ـ ٩٣.

الفصل الثالث

إِعجاز القرآن في فصاحة لغته

﴿هو أفصح مني لساناً (القصص ٣٤)

﴿وهذا لسان عربي مبين (النحل ١٠٣)

﴿بلسان عربي مبين (الشعراء ١٩٥)

﴿وهذا كتاب مصدق، لساناً عربياً (الأحقاف ١٢)

توطئة

هل القرآن معجزة لغوية؟

إِعجاز القرآن في النظم والبيان، قضية لا يكابر فيها انسان تحلى بالنزاهة والعرفان. ونشهد أن إِعجاز القرآن، في النظم والبيان، هو معجزة اللغة العربية على كل لسان.

لكن هل يصح اعتبار هذا الإِعجاز اللغوي معجزة إلهية، حتى يصح وصف القرآن بأنه ﴿معجزة لغوية؟ سنرى عشر مجموعات من الشبهات على ذلك الاعتبار؛ وأن هذا الاعتبار لا أصل له في القرآن.

يقولون: ان إِعجاز القرآن في لفظه ونظمه. وفاتهم أن الألفاظ أجساد، والمعاني أرواح لها: أتكون معجزة القرآن بحرفه أكثر من روحه؟ أيتحدى الله الإنسان بحرف القرآن، أم بهدي القرآن؟

جاء في القرآن، على لسان محمد: ﴿قل: ما كنت بدْعاً من الرسل (الأحقاف ٩). واعتبار القرآن ﴿معجزة لغوية هو البدعة عينها في تاريخ الرسالات السماوية، التي قامت على المعجزة الحسية، فكانت ﴿سُنّة الأولين (فاطر ٤٣) و﴿السلطان المبين لهم بين الناس (هود ٩٦). فقولهم ﴿بالمعجزة اللغوية دليلاً على النبوّة، يجعل محمداً ﴿بدْعاً من الرسل.

وبعد، فهل القرآن ﴿معجزة لغوية الهية؟

بحث أوّل

التحدّي بالإِعجاز في اللغة والبيان لا أصل له في القرآن

﴿إن أكثر الذين أقاموا الحجة على إِعجاز القرآن، إنما نظروا إلى رأي الجاحظ واعتمدوا عليه وداروا حوله. قال: ﴿وفي كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق: نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد ١ .

وقد أجمعوا، في خلاف طويل على وجه الإِعجاز، ان إِعجاز القرآن في النظم والبيان.

وطلع بهذه المقالة أهل الإِعجاز من غير العرب، وقد بهرهم بيان القرآن، لأن العربية عندهم اكتساب لا سليقة وفطرة. أما العرب الذين سمعوه حين تنزيله فقالوا فيه: ﴿إن هذا إلا سحر يؤثر (المدثر ٢٤)، ﴿ويقولوا: سحر مستمر (القمر ٢). ولمّا تحداهم: ﴿قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما (الكتاب والقرآن) أتّبعه، إن كنتم صادقين؟ ﴿قالوا: سِحْران تظاهرا، وقالوا: إنا بكل كافرون (القصص ٤٩ و ٤٨). فهم يرون في بيان القرآن كما في بيان الكتاب، سحراً، لا إِعجازاً.

وتلقف أهل الكلام مقالة الإِعجاز البياني في القرآن ـ وقد أعجزتهم معجزة حسية، في السيرة والدعوة، كلأنبياء الأولين ـ فنادوا بالإِعجاز معجزة يردون بها على أهل الأديان الأخرى التي تجعل المعجزة دليل النبوّة. لكن التحدّي بالنظم والبيان لا أصل له في القرآن.

أولاً: آيات التحدّي بحسب تاريخ النزول

السورة الخمسون: ﴿قلْ: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (الإسراء ٨٨).

السورة الحادية والخمسون: ﴿أم يقولون: افتراه! ـ قل: فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين! بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله (يونس ٣٨ ـ ٣٩).

السورة الثانية والخمسون: ﴿أم يقولون: افتراه! ـ قلْ: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (هود ١٣).

السادسة والسبعون: ﴿أم يقولون: تقوّله! ـ بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (الطور ٣٣ ـ ٣٤).

الأولى في المدينة: ﴿وإن كنتم في ريب، مما نزلنا على عبدنا، فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءَكم من دون الله إن كنتم صادقين (البقرة ٢٣).

فهل يرشح من تلك التحديات تحدٍّ بحرف القرآن ونظمه وبيانه؟

ألا تدلّ القرائن اللفظية والمعنوية، بالأولى على تحدٍّ بتعليمه وهداه؟ فهو يرد على المشركين تهمة ﴿الإفتراء؛ ويجيب على ﴿ريبهم؛ ويصرح بأنه ﴿لما يأتهم تأويله ـ وهذا يعني معناه الحق. إنه يتحدى بمعنى القرآن وتعليمه. لا بل يستهل تلك التحديات بالتحدّي الصريح بالهدى، في سورة (القصص)، وهي التاسعة والأربعون نزولاً: فتكون كفاتحة التحدّي بالقرآن، وتكشف معناه: ﴿قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبْعه إن كنتم صادقين (٤٩). هذه الفاتحة المباشرة للتحدي بالقرآن تقطع بأنه قائم على هداه، لا على حرفه ونظمه. فالتحدّي بمثل القرآن كان دائماً التحدّي بمثل هداه. والقرآن والكتاب هما في الهدى سواء: ﴿أهدى منهما.

ثانياً: استفتاح التحدّي بالقرآن كان بهداه

يدل على ذلك أيضاً جوابهم له، في السورة عينها التي تستفتح التحدّي بالقرآن، سورة (القصص) ﴿وقالوا: إنْ نتّبع الهدى معك نُتخطّف من أرضنا (٥٧). فالتحدّي قائم، في حوارهم، على هدى القرآن.

ثالثاً: ختام التحدّي بالقرآن كان بهداه

وبعد آخر تحدِّ بالقرآن (البقرة ٢٣)، يعطينا تعريفاً بالقرآن، في خبر تنزيله: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبيّناتٍ من الهدى والفرقان (البقرة ١٨٥). تصريح مزدوج: فالقرآن أنزل هدى للناس، لا إِعجاز بيانٍ؛ وهو أيضاً ﴿بيّنات من الهدى والفرقان؛ أي، بحسب اصطلاحه، من الكتـاب وفرقانه الـذي يفصّله في السنة. فالقـرآن ﴿بيّنات من الهدى، لا بيّنات من البيان ـ وهذا آخر ما يخطر له ببال.

رابعاً: صفة ﴿الآيات البيّنات يطلقها على التوراة والإنجيل والقرآن

وهذا التعبير، ﴿البيّنات، يستخدمه القرآن لنفسه: ﴿أنزلنا إليك آيات بيّنات (٢: ٩٩)، ﴿أنزلناه آيات بيّنات (٢٢: ١٦)، ﴿ينزل على عبده آيات بيّنات (٥٧: ٩)، وبحق عيسى: ﴿وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات (٢: ٨٧ و ٢٥٣)، ﴿ولمّا جاءَ عيسى بالبيّنات (٤٣: ٦٣)؛ وبحق موسى: ﴿جاءكم موسى بالبيّنات (٢: ٩٢)، ﴿جاءَهم موسى بالبيّنات (٢٩: ٣٩)؛ وبحق الرسل أجمعين: ﴿تأتيهم رسلهم بالبيّنات (٤٠: ٢٢؛ ٦٤: ٦)، ﴿تأتيكم رسلكم بالبيّنات (٤٠: ٥٠)، ﴿أرسلنا رسلنا بالبيّنات (٥٧: ٢٥). فالإِعجاز بالبيان والبيّنات، ميزة التنزيل كله على جميع الرسل! وليس ميزة القرآن وحده، ليصح أن يتّخذه معجزة له.

خامساً: جوابهم على التحدّي: إنه أساطير الأولين

وجوابهم المتواتر على تحدي القرآن لهم برهان آخر على أنه كان بالهدى، لا بالبيان. يردُّون عليه: ﴿إنْ هـذا إلا أساطير الأولين (٦: ٢٥؛ ٨: ٣١؛ ٢٣: ٨٣؛ ٢٧: ٦٨)؛ ﴿واذا قيل لهم: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطير الأولين (النحل ٢٤)؛ ﴿وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً (الفرقان ٥). فليس، في الحوار، شيء ينبئ أن التحدّي كان بالإِعجـاز البياني؛ وكله يشير إلى أنه كان بالإِعجـاز الديني: تعليمه في القرآن ﴿أساطير الأولين اكتتبها، أو نزلت عليه.

سادساً: صفة القرآن بين الحق والسحر

وصفتهم المتواترة للقرآن برهان آخر على أنه بالهدى، لا بالبيان، ولو أن من البيان لسحراً. يردون عليه: ﴿ما هذا إلا سحر مفترى (القصص ٣٦) ـ وذلك في السورة عينها الذي بدأ فيها يتحداهم بالهدى (القصص ٤٩) ـ ﴿قالوا: سِحْران تظاهرا، وقالوا: إنّا بكل كافرون! ـ قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين (القصص ٤٨ ـ ٤٩). يردّون على هدى القرآن بأنه سحر، كما أن هدى الكتاب سحر. فهما في سحر الهدى سيّان؛ ﴿سحران تظـاهرا. ويستمر الـرد: ﴿إن هـذا إلا سحر يؤثر (المدثر ٢٤)، ﴿ويقولوا: سحر مستمر (القمر ٢). يردون عليه كما ردّ قوم فرعون على موسى: ﴿فلما جاءَكم الحق من عندنا، قالوا: إنّ هذا لسحر مبين! قال موسى: أتقولون للحق لما جاءكم: أسحر هذا؟ ولا يُفلح الساحرون (يونس ٧٦ ـ ٧٧). فهم يصفون ﴿الحق المنزل بالسحر، لا سحر البيان.

سابعاً: الاستشهاد المتواصل بالكتاب

إن نسبتهم القرآن، ﴿لمّا جاءَهم الحق من عندنا، بالسحر كسحر الكتاب؛ وتسمية ﴿ما أنزل ربكم بأساطير الأولين؛ ورده عليهم ﴿فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما؛ مع الاستشهاد المتواصل بالكتاب وأهله، الذي يغمر التحدّي بالإِعجاز، ويسبقه ويخلفه، برهان آخر على ان التحدّي كان بالإِعجاز الديني، لا بالإِعجاز البياني.

ثامناً: ماذا يهم الله وسوله؟

وهل يهمّ الله ورسوله الإِعجاز الديني، أم الإِعجاز البياني؟ اللباب، أم الثياب؟ الجوهر، أم المظهر؟ فقولهم إن الإِعجاز البياني هو معجزة القرآن، يدل على وثنية في الدين، فالقرآن صريح بأنه يتحدى المشركين ـ لا الكتابيين ـ بإِعجازه الديني، لا بإِعجازه البياني؛ بهداه، لا ببيانه؛ بمعناه، لا بحرفه؛ بروحه، لا بجسمه؛ بحقه، لا بنظمه. فنقدر أن نقرر، بناءً على الواقع القرآني المتواتر، وبناءً على تقدير العقل السليم، ان التحدّي بالنظم والبيان، لا أصل له في القرآن.

تاسعاً: الإِعجاز اللغوي لم يقل به السلف الصالح

السلف الصالح، من الأمة والأئمة، لم يعرفوا قضية الإِعجاز، ولم يقولوا بها. ولو كانت من صلب الإسلام، ومن صميم القرآن، لقال بها الصحابة والتابعون، والأئمة الأولون. إن قصة الإِعجاز البياني طلع بها المعتزلة. ولما قالوا: ﴿بمجاز القرآن ـ وهو أساس الإِعجاز في البيان ـ تحرج منه أهل السنة والحديث. ﴿والرأي عندهم أنه لا يصح التجوز في كلام الله؛ والمجاز من الضرورات التي لا يلجأ إليها القرآن ـ إذا صح وجودها ـ أو اضطر إليها البشر من الشعراء والبلغاء في كلامهم. وما ذلك إلا لقِصَر باعهم، وضعف أداتهم، ولا يأتي به الله في كلامه، وهو أعرف بموضع الكلِم ومواقفه. وهؤلاء يرون في المبالغة (بنت المجاز) كذباً؛ ولا يصح أن تقع في كلام الله؛ وخير الكلام، وخير الشعر عندهم، المذهب الوسط الذي يأتي لفظه على قياس معناه. ومن آرائهم أيضاً عدم وجود الزيادة أو النقصان في القرآن ٢ . فالإِعجاز المبني على المجاز، يقود في عرْفهم إلى المبالغة الكاذبة، وإلى الزيادة والنقصان، في بيان القرآن. وهذا كله وارد في المجاز، الذي هو أساس الإِعجاز. لذلك استنكر أهل السنة والحديث، في البدء، القول ﴿بمجاز القرآن، واعتبروا مقالة الإِعجاز في البيان، بدعة لا تقوم في الدعوة.

عاشراً: قول التاريخ

وجاءَ تاريخ الإِعجاز يؤيد مقالتهم، بإفلاس أهل الإِعجاز، في بيان وجه الإِعجاز. وفي خاتمة المطـاف، بعد ألف سنة، يعتبرون إِعجـاز القرآن ﴿سراً محجوباً عن الأنظـار ٣ . ﴿فقامت جهود العلماء، في دراسات القرآن، على جلاء تلك المسائل، لحل اللغز الذي حير الناس ـ وهو الإِعجاز. وكانت محاولات شتّى للوصول إلى حلّ له، والاهتداء إلى تعليل. علّلوه أولاً بمسائل فلسفية كلامية؛ لكنه لم يستقم، وقامت حوله اعتراضات ومطاعن. واجتنبوا به ناحية بيانية، فتوصلوا إلى نتائج خدمت الأدب والنقد جميعاً ٤ . لكنها لم تحلّ اللغز، ولا كشفت عن سر الإِعجاز. وما هو سر محجوب عن البشر، لا يكون معجزاً لهم. ﴿وما لا يمكن الوقوف عليه، لا يُتصور التحدّي به ٥ فالقول بالإِعجاز في البيان معجزة القرآن، لا أصل له في القرآن.

بحث ثان

الإِعجاز في أسماء القرآن

يسمّي القرآن العربي نفسه: القرآن والفرقان والكتاب والذكر والحكمة.

فهل هي اسماء عربية، أم دخيلة؟

نرجع في ذلك الى فصل قيم عند السيوطي في (الإتقان ١: ٥١ ـ ٥٣).

أولاً: اسم ﴿القرآن وفيه خمسة أقوال

١) ﴿هو اسم علم، غير مشتق، خاص بكلام الله؛ وغير مهموز. به قرأ ابن كثير. وهو مروي عن الشافعي. أخرج البيهقي والخطيب وغيرهما عن أنه يهمز (قراءَة) ولا يهمز(قرآن). ويقول: القرآن اسم، وليس بمهموز، ولم يؤخذ من (قراءَة). ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل.

ويُرد عليه، بشأن العَلَمِيَّة ان القرآن يسمى الكتاب والزبور أيضاً قرآناً.

٢) ﴿وقال قوم ـ منهم الأشعري ـ هو مشتق من (قرنت الشيء بالشيء) اذا ضممتَ أحدهما الى الآخر، وسُمِّيَ به لِقَران السور والآيات والحروف فيه.

ويردّ عليه بقوله: ﴿وإذا قرِئَ القرآن فاستمعوا له وانصتوا (الأعراف ٢٠٤)؛ ﴿واذا قرأتَ القرآن جعلنـا بينك وبين الـذين لا يؤمنون بالآخرة حجـاباً مستوراً (الإسراء ٤٥)! ﴿فاقرأوا ما تيسّر من القرآن (المزمل ٢٠).

٣) ﴿وقال الفرّاء: هو مشتق من القرائن، لأن الآيات منه يصدّق بعضها بعضاً ويشابه بعضها بعضاً، وهي قرائن. يضيف السيوطي: ﴿وعلى القولين (قول الأشعري، وقول الفراء) هو بلا همز أيضاً، ونونه أصلية.

يُرد عليه بأنه اشتقاق بعيد؛ وينفيه جمع القرآن إلى الفعل (قرأ) في آياته.

٤) ﴿وقال الزجاج: هذا القول (بلا همز) سهو؛ والصحيح أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف، ونقل حركة الهمز إلى الساكن قبلها... وهو وصف على فعلان مشتق من (القُرْء) بمعنى الجمع، ومنه (قرأت الماء في الحوض) أي جمعته. قال أبو عبيدة: ﴿وسُمّي بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض.

يُرد عليه بأن إثبات الهمز فيه هو الصحيح؛ لكن اشتقاقه من (القرء) بمعنى الجمع بعيد، ينفيه نص القرآن على جمع الفعل والوصف معاً: ﴿قرأت القرآن.

٥) واختلف القائلون بأنه مهموز (هل هو مصدر أم وصف). فقال قوم منهم اللحياني: ﴿هو مصدر (قرأتُ) كالرجحان والغفران؛ سُمِّي به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر.

يُرد عليه: بأن الاشتقاق من (قرأ) صحيح لغةً، ومنسجم مع قوله المتواتر: ﴿قرأت القرآن. ويضيف السيوطي: ﴿والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي.

ونقول: إن همّ المفسرين هو تفسير القرآن لغةً لا اصطلاحاً حيث الاصطلاح ظاهر. ويظهر لنا أن اسم القرآن عَلَمٌ اقتبسه القرآن العربي.

إن (دائرة المعارف الإسلامية) تميل إلى رأي المستشرقين شفالي (Schwally ) وولهاوزن (Wellhausen ) بأن اسم (القرآن) كلمة عبرية أو سريانية، لأن (قرأ) بمعنى (تلا) ليست كلمة عربية النسب، ولكنها دخيلة على اللغة. ﴿والواقع ان العرب قد عرفوا لفظ (قرأ) بمعنى غير معنى التلاوة. فهم يقولون: هذه الناقة لم تقرأ سلىً قط، يقصدون انها لم تضم، بمعنى لم تلد ولداً. أمّا قرأ بمعنى (تلا) فقد أخذها العرب من أصل آرامي وتداولوها. فمن المعروف كما يقول (برجشتراسر) ان اللغات الأرامية والحبشية والفارسية تركت في العربية آثاراً لا تُنكر لأنها كانت لغات الأقوام المتمدنة المجاورة للعرب في القرون السابقة للهجرة ٦ .

وعندنا ان القرآن العربي أخذها عن السريانية، كما كان يسمعها النبي من استاذه ورقة بن نوفل، قس مكّة النصراني، الذي كان يُصلي بالسريانية والعربية. والى اليوم تستفتح الكنيسة الشرقية تلاوة الكتاب أو الإنجيل بقولها: ﴿قريانا من الإنجيل بحسب متى، وباليونانية "το αναγνωσμα ". فالقرآن هو قرآن من الإنجيل، أو قرآن من الكتاب. وعلى هذا الاستعمال جـاءَ في مطلع القرآن العربي ـ بعد الأمر: ﴿اقرأ باسم ربك الـذي خلق ـ ﴿ورتل القرآن ترتيلاً (المزمل ٤). لم ينزل من القرآن العربي شيء بعد سوى خمس آيات (العلق): فما هو ﴿القرآن الذي يُدعى محمد في قيام الليل لترتيله؟ ولاحظ التعريف والإطلاق في قوله: ﴿القرآن. فهو كتاب معروف مشهور، قبل نزول سميِّه العربي. وفي السورة عينها يأتي هذا التخفيف: ﴿فاقرأوا ما تيسَّر من القرآن (المزمل ٢٠).

والقرآن اسم يطلقه القرآن العربي على الزبور: ﴿خفف على داود القرآن! وعلى الكتاب كله: ﴿ولقد آتيناك سبعاً من المثاني، والقرآن العظيم... كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عِضْين (الحجر ٨٧ و ٩٠ ـ ٩١) أي ﴿اليهود والنصارى الذين جعلوا كتبهم المنزله عليهم (عضين) أجزاء، حيث آمنـوا ببعض وكفروا ببعض (الجلالان). فالكتاب هو ﴿القرآن العظيم الـذي نزل أيضاً على محمد. ولقد أوتي أيضاً ﴿سبعاً من المثاني أي من ﴿المِشْنَة، السُّنّة التي تفصل الكتاب، ولذلك تسمى أيضاً الفرقان.

لـذلك يستفتح كثيراً من السور بالقسم: ﴿قَ. والقرآن المجيد؛ ﴿ص. والقرآنِ ذي الذكر؛ ﴿يسن. والقرآن الحكيم. إنه يقسم بالكتاب المقدس، ويسميه القرآن، على أن ما يقوله القرآن العربي في السورة التالية حق. ولا يصح أن يكون المقسَم به، والمقسَم عليه، واحداً.

ونرى أنه يعني الكتاب المقدس بقوله: ﴿وإذا قرئ القرآن (٧: ٢٠٤)، ﴿فإذا قرأت القرآن (١٦: ٩٨)، ﴿وإذا قرأت القرآن (١٧ :٤٥)، ﴿واذا قرِئ عليهم القرآن (٨٤: ٢١). كما يظهر من مطالع بعض السور، بحرف الإشارة الى البعيد الماضي، لا إلى ما يأتي في السورة: ﴿تلك آيات القرآن (٢٧: ١)، ﴿تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (١٥: ١).

وتظهر صحة ذلك من ذكر القرآن العربي بقرينة تميّزه وتدل عليه، كقوله: ﴿وأوحي الي هذا القرآن (٦: ١٩)، ﴿إليك هذا القرآن (١٢: ٣)، ﴿وقالوا: لولا نُزّل هذا القرآن (٤٣: ٣١)، ﴿وما كان هذا القرآن (١٠: ٣٧)، ﴿لا تسمعوا لهـذا القرآن (٤١: ٢٦)، ﴿إن هذا القرآن يهدي (١٧: ٩)، ﴿ولقد صرّفنا في هذا القرآن (١٧: ٤١)، ﴿بمثل هذا القرآن (١٧: ٨٨)، ﴿إن هذا القرآن يقص (٢٧: ٧٦)، ﴿اتخذوا هذا القرآن (٢٥: ٣٠)، ﴿لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذي بين يديه (٣٤: ٣١). فهو يطلق اسم القرآن على نفسه وعلى الكتاب. ولاحظ التعبير المعرف المطلق حين يقصد الكتاب المقدس، والاشارة، القرينة المميّزة، حين يقصد القرآن العربي. إن اختلاف الأسلوب المطّرد، دليل على اختلاف المدلول عليه. فمنذ غـار حرّاء جـاءَ الأمر بأن ينضم إلى المسلمين من قبله ويتلو معهـم القرآن: ﴿وأمرتُ بأن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن (النمل ٩١ ـ ٩٢). فالقرآن العظيم موجود قبل محمد، وهو يؤمر بأن يتلوه مع ﴿المسلمين من قبله. وبمقارنة قوله في القرآن العربي انه ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧)، مع قوله: ﴿ولقد يسّرنا القرآن للذكر (٥٤: ١٧ و ٢٢ و ٣٢ و٤٠)، يظهر أنه يقصد الكتاب المقدس بتعبير ﴿القرآن على الإطلاق. والبرهان يقوم على الشواهد والقرائن مجتمعة.

فالقرآن اسم علم، غير مشتق ـ وقد يصح اشتقاقه من (قرأ) السريانية لا العربية ـ يُطلق على الكتاب والإنجيل، أو على تلاوة كريمة منهما. وبهذا الاستعمال دخل في القرآن العربي الذي هو ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧).

فليس من إِعجاز في اسم القرآن، كما يظن الجاحظ، ومَن ينقلون عنه، كما نقل السيوطي: ﴿قال الجاحظ: سمى الله كتابه اسماً مخالفاً لما سمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل؛ سمى جملته قرآناً كما سموا ديواناً؛ وبعضه سورة كقصيدة؛ وبعضها آيه كالبيت؛ وآخرها فاصلة كقافية.

نرد عليه بقول محمد صبيح ٧ : ﴿وعبَّر عن القرآن أيضاً بأنه: آيات الله. وكلمة (آية) في الرأي الراجح عبرية لأنها تشبه الكلمة العبرية (أَوْت) ot . ومن معانيها المعجزة. وكذلك كلمة (سورة) تشبه كلمة (سورا) Sura ، وهي بنفس المعنى.

فسائر اسمائه معربة دخيلة. فليس في استعمالها من إِعجاز انفرد به.

ثانياً: اسم ﴿الكتاب

يطلق القرآن على نفسه اسم ﴿الكتـاب أيضاً، لأنه ﴿تفصيل الكتـاب (يونس ٣٧)، ﴿وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزَّل من ربك بالحق (الأنعام ١١٤). لاحظ ترادف الإسم الواحد بين القرآن والكتـاب، مثل قوله أيضـاً: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربيّاً (الأحقاف ١٢)؛ وقوله: ﴿فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعه (القصص ٤٩). فكلمة ﴿الكتاب ـ ﴿الكتاب، وألفاظ الكتابة من أصل آرامي ٨ - هي عَلَمٌ مختص أولاً بكتـاب الله الـذي عند ﴿أهل الكتاب، كما يسميهم بتواتر. فهم ﴿أهل الكتاب قبل العالمين.

وممـا تجدر الإشارة إليه أنه لا يطلق اسم ﴿كتاب الله إلا على كتـاب أهل الكتاب: ﴿يدعون إلى كتاب الله (٣: ٢٣)، ﴿بما استحفظوا من كتاب الله (٥: ٤٤)، ﴿في كتاب الله (٨: ٧٥؛ ٩: ٣٦؛ ٣٠: ٥٦؛ ٣٣: ٦)، ﴿نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم (البقرة ١٠١)، ﴿إن الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارة لن تبور (فاطر ٢٩) ـ وهو إشارة إلى قوم من أهل الكتاب.

لا يرد تعبير ﴿كتـاب الله إلاّ مرة واحدة بحق القرآن، باستعمال المصدر بدل الفعل: ﴿... والمحصنات من النساء، إلاّ ما ملكت إيمانكم ـ كتابَ الله عليكم ـ وأُحلَّ لكم ما وراء ذلكم (النساء ٢٤). فسره الجلالان: ﴿نُصب على المصدر أي كَتَبَ ذلك.

وعليه فتسمية القرآن: ﴿الكتاب اقتباس عن ﴿أهل الكتاب. والإِعجاز في الاسم يكون أولاً لما يسميه وحده بتعبير الاضافة: ﴿كتاب الله.

ثالثاً: اسم ﴿الذكر

يسمي القرآن العربي نفسه أيضاً: الذكر، كما في قوله: ﴿الذي نُزّل عليه الذكر (١٥: ٦)؛ ﴿أَأُنزل عليه الـذكر من بيننا (٣٨: ٨)، ﴿أَأُلقي الـذكر عليه (٥٤: ٢٥)؛ ﴿وأنزلنا إليك الذكر (١٦: ٤٤)، ﴿إنما تنذر من اتبع الذكر (٣٦: ١١)، ﴿لمّا سمعوا الذكر (٦٨: ٥١).

لكن ﴿الذكر على الإطلاق هو الكتاب المقدس الذي عند ﴿أهل الذكر (١٦: ٤٣؛ ٢١: ٧) أي ﴿أهل الكتاب. لذلك عندما يرد ﴿الذكر مطلقاً، غير مبَيّن بقرينة، فهو يقصد الكتاب المقدس، كقوله: ﴿فاسألوا أهل الذكر (١٦: ٤٣؛ ٢١: ٧)؛ وكما في هذا القسم الذي يستفتح السورة: ﴿والقرآن ذي الذكر (٣٨: ١) ـ ان ترادف الاسمين دليل على أنهما اسمان للكتاب المقدس، إذ لا يصح أن يكون المقسَم به والمقسَم عليه واحداً. لذلك أيضـاً فإن قـوله: ﴿إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون (الحجر ٩) يقصد الكتاب المقدس قبل القرآن العربي، بسبب اطلاق التعبير وقرينة ﴿أهل الذكر.

ومن الخطأ الشائع، كما يتردّد في الإذاعات، أن قوله: ﴿ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم (آل عمران ٥٨) يقصد القرآن العربي، وهو إنما يعني ﴿بالذكر الحكيم الإنجيل، لأن الآية تأتي في ختام ذكر آل عمران ومريم والمسيح (آل عمران ٣٣ ـ ٥٨).

فالقرآن العربي يستخدم اسم ﴿الذكر له، نقلاً عن ﴿أهل الذكر الذين يحيل سامعيه وسائليه إليهم: ﴿وانه لذكر لك ولقومك (٤٣: ٤٤)؛ ﴿لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم، أفلا تعقلون (الأنبياء ١٠)؛ ﴿بل آتيناهم بذكرهم، فهم عن ذكرهم معرضون (المؤمنون ٧١). فالذكر اسم مترادف بين الكتاب والقرآن: ﴿هذا ذكر مَن معي وذكر من قبلي (الأنبياء ٢٤).

وعليه فتسمية القرآن العربي ﴿بالذكر اقتباس عن ﴿أهل الذكر. والإِعجاز في الاسم يكون أولاً للكتاب الذي يصفه ﴿بالذكر الحكيم.

رابعاً: اسم ﴿الفرقان

إن القرآن العربي يأخذ تعبير الفرقان على نوعين. أولاً بحسب اللغة، كقوله: ﴿يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان (الأنفال ٤١)، لأن يوم بدر كان فارقاً بين الشرك والتوحيد. ولذلك يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً (الأنفال ٢٩) أي ﴿فرقاناً بينكم وبين ما تخافون، فتنجوا (الجلالان).

وثانياً اصطلاحاً، كما في قوله: ﴿وإذ آتينـا موسى الكتـاب والفرقان (البقرة ٥٣)، ﴿آتينا موسى وهارون الفرقان (الأنبياء ٤٨). فالفرقان أوتي موسى، وهو غير الكتاب. وكان يقصد به أهل الكتاب تفصيل الكتاب بالسُنّة المبيّنة له، ويسمونها ﴿المِشْنَة، ونقلها الى العربية بتعبير ﴿المثاني كما في قوله: ﴿ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم (الحجر ٨٧). فالقرآن والفرقان اللذان أُوتيهما موسى، نزلا على محمد في القرآن العربي. وهذا دليل على أن ﴿لفظ القرآن في الأصل آرامي ٩ .

لذلك يصف القرآن العربي نفسه نصاً: ﴿شهر رمضان الذي أُنِزل فيه القرآن هدى للناس، وبيّنات من الهدى والفرقان (البقرة ١٨٥). والهدى اصطلاحاً كتاب موسى: ﴿ولقد آتينا موسى الهدى (٤٠: ٥٣)؛ والفرقان تفصيله. فالقرآن العربي هو بيّنات من الكتاب والفرقان.

فكما أنزل الله الكتاب على محمد، ﴿نزّل الفرقان على عبده (الفرقان ١). ويخطئ من يظن الفرقان مرادفاً للقرآن، لأن القرآن العربي ﴿بيّنات من الهدى والفرقان.

والحي القيوم الذي أنزل القرآن والتوراة والإنجيل ﴿هدى للناس؛ وأنزل الفرقان (آل عمران ١ ـ ٣)، أنزل مع القرآن والتوراة والإنجيل: الفرقان الذي يفصلها. وكما ان القرآن العربي ﴿تفصيل الكتاب، فهو أيضاً تفصيل الفرقان. فقد ﴿آتيناك سبعاً من المثاني أي سبع قصص من الفرقان الذي في ﴿المشنة. وهذه قرينة حاسمة على ان قصص القرآن التوراتي يأتيه عن طريق التلمود، الذي منه ﴿المشنة أي المثاني التي تثني الكتاب أي تفصله فهي فرقان له.

وعليه فاسم الفرقان مترادف بين تفصيل الكتاب وتفصيل القرآن.

والإِعجاز في الاسم يكون أولاً لما سُمّي ﴿الكتاب والفرقان (البقرة ٥٣).

خامساً: اسم ﴿الحكمة

يأخذ القرآن كلمة ﴿الحكمة بمعنى لغوي، وبمعنى اصطلاحي فات الكثيرين.

بالمعنى اللغوي يقول: ﴿وآتيناه (داود) الحكمة (٣٨: ٢٠)؛ كذلك ﴿وآتاه الله الملك والحكمة (٢: ٢٥١)؛ ﴿ولقد آتينا لقمان الحكمة (٣١: ١٢)، ﴿يُؤتي الحكمة مَن يشاء، ومَن يُؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً (٢: ٢٦٩).

ومرة واحدة، بهذا المعنى اللغوي، يسمي القرآن نفسه ﴿حكمة بالغة في قوله: ﴿ولقد جاءَهم من الأنباء ما فيه مزدَجر، حكمة بالغة فما تُغْنِ النذر، فتولَّ عنهم (القمر ٤ ـ ٦).

فتأتي الكلمة بالمعنى اللغوي خمس مرات؛ لكن بالمعنى الاصطلاحي سبع عشرة مرة.

يقول في السيد المسيح: ﴿وإذ علمتك الكتاب والحكمة ـ والتوراة والإنجيل (المائدة ١١٠)؛ ﴿ويعلمه الكتاب والحكمة ـ والتوراة والإنجيل (آل عمران ٤٨). يظهر ان ﴿التوراة والإنجيل عطف بيان على ﴿الكتاب والحكمة كما سيتّضح مما يلي.

إن اصطلاح ﴿الحكمة كناية عن الإنجيل يثبت من قوله: ﴿ولمّا جاءَ عيسى بالبيّنات قال: قد جئتكم بالحكمة (الزخرف ٦٣). ويتضح ان الحكمة كناية عن الإنجيل، بأخذها بحرفها العبراني والآرامي: ﴿الحُكْمَ، في استعارة التعبير المتواتر عن النصارى من بني إسرائيل في قوله: ﴿اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحُكْم والنبوّة... اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدهْ (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠)، يؤمَر بأن يقتدي بهدى النصارى من بني إسرائيل، لا بهدى اليهود. وقد آتاهم الله التوراة والحكمة والنبوّة، تمييزاً لهم من الذين أوتوا فقط ﴿النبوّة والكتاب (٢٩: ٢٧؛ ٥٧: ٢٦) أي اليهود. وتنجلي الكناية في قوله: ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل (اليهود والنصارى) الكتاب والحكم والنبوّة، ورزقناهم من الطّيبات وفضلناهم على العالمين، وآتيناهم بيّنات من الأمر: فما اختلفوا (يهود) إلا من بعد ما جاءَهم العلم، بغياً بينهم (الجاثية ١٦ ـ ١٧) ـ والعلم أيضاً كناية عن العلم الإنجيلي الموجود مع ﴿الراسخين في العلم، ﴿أولي العلم قائماً بالقسط (آل عمران ٧ و١٧) ـ فهذه القرينة اللفظية والمعنوية دليل على ان أهل ﴿الكتاب والحكم والنبوّة هم النصارى من بني إسرائيل، وان ﴿الحكم، بحرفه الآرامي، كناية عن الإنجيل. والقول الفصل في الكناية بالحكمة او ﴿الحكم عن الإنجيل في قوله بحق المسيح: ﴿ما كان بشر أن يُؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة، ثم يقول للناس: كونوا عباداً لي من دون الله (آل عمران ٧٩). فيثبت من هذه المواطن الأربعة أن ﴿الحكمة كناية عن الإنجيل؛ وحرفها الآرامي ﴿الحكم خير شاهد. ويثبت كذلك ان الترادف في قوله بحق المسيح ﴿الكتاب والحكمة ـ والتوراة والإنجيل (آل عمران ٤٨؛ المائدة ١١٠) هو عطف بيان.

يؤيد ذلك تاريخ النبوّة والكتاب: ﴿فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة (النساء ٥٤) الى التوراة والإنجيل. كما أخذ الميثاق على الأنبياء وقومهم حتى محمد: ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين: لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جـاءَكم رسول مصدّق لما معكم، لتؤمنُنَّ به ولتَنصُرنّه (آل عمران ٨١). فما الذي نزل قبل محمد: أليس الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل؟ فالنبي الأمّي ﴿يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل أي الكتاب والحكمة (الأعراف ١٥٦). إن تواتر القرائن اللفظية والمعنوية شهادة جامعة مانعة.

لذلك كله، عندما يصرّح: ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم (النساء ١١٣)، ﴿واذكروا نعمة الله عليكم، وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة في القرآن (البقرة ٢٣١)، فهو يعني التوراة والإنجيل. كذلك عندما يصرح في دعاء إبراهيم واسماعيل: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم، يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك انت العزيز الحكيم (البقرة ١٢٩)، فهو يقصد التوراة والإنجيل.

وتتضح مهمة النبي والقرآن قوله المتواتر ثلاث مرات:

﴿كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم، يتلو عليكم آياتنا، ويزكيكم، ويُعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (البقرة ١٥١)؛ ﴿لقد مَنَّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين (آل عمران ١٦٤)؛ ﴿هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين (الجمعة ٢).

ونقارن أنه ﴿يعلمهم الكتاب والحكمة، لأنهم غفلوا عن دراستهما: ﴿أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإنْ كنا عن دراستهم لغافلين (الأنعام ١٥٦). فالكتاب الذي أنزل على طائفتين من قبلهم انما هو التوراة والإنجيل أي الكتاب والحكمة.

إن مهمة النبي الأمّي مزدوجة: يتلو عليهم آيات الله في الكتاب بصيغتيه التوراة والإنجيل؛ ثم ﴿يعلمهم الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل، في القرآن العربي. ونلاحظ ان التزكية، في المواضع الثلاثة تأتى بعد تلاوة آيات الله في الكتاب، وقبل ان ﴿يعلمهم الكتاب والحكمة بالقرآن. وهكذا فإن القرائن كلها مجتمعة تعطي شهادة جامعة مانعة بأن ﴿الكتاب والحكمة كناية عن التوراة والإنجيل. ﴿فالحكمة في اصطلاح القرآن الخاص هي كناية عن الإنجيل ١٠ .

والنتيجة الحاسمة أنه عندما يقول؛ ﴿ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة (الإسراء ٣٩) ـ في تعليمه السابق (الإسراء ٢٣ ـ ٣٩) ـ انما يقصد الإنجيل.

وعندما يقول: ﴿ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة (النحل ١٢٥)، فهو قد يقصد المعنى اللغوي، ولكن قد يعني بالحري المعنى الاصطلاحي: فدعوة القرآن وجداله بالتي هي أحسن، انما هما للإنجيل. يؤيد ذلك قوله مرتين: ﴿ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان ٢٠؛ الحج ٨). فقوله: ﴿أنزلناه حكما (حكمة) عربيّاً (١٣: ٣٧) يعني أنزلناه إنجيلاً عربياً: فدعوته ﴿نصرانية.

وعندما يقول لنساء النبي: ﴿واذكرن ما يُتلى في بيوتكنَّ من آيات الله، والحكمة (الأحزاب ٣٤)، فان اقتران ﴿الحكمة بآيات الله يدل على المعنى الاصطلاحي. لذلك فقد يكون ما يقصد القرآن؛ ولكن بالحري قد يعني آيات التوراة والإنجيل، لأن التلاوة للآيات متميزة عن تعليم ﴿الكتاب والحكمة كما مر بنا (البقرة ١٥١؛ آل عمران ١٦٤؛ الجمعة ٢). ففي بيـوت نساء النبي كانت تُتلى آيات الله في التوراة والإنجيل، ثم يتعلمن ﴿الكتاب والحكمة بالقرآن.

وهكذا فدعوة محمد كانت تعليم ﴿الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل معاً؛ كما يعلن: ﴿قل: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم (المائدة ٦٨)؛ فإنه هكذا قد أُمر: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوّة... اولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده (الأنعام ٨٩ ـ ٩٠).

فتعبير ﴿الحكمة اصطلاح ثابت، كناية عن الإنجيل، لا كما يقولون: ﴿ومعنى الحكمة في القرآن، في أكثر الاحيان، سنة النبي. ولا خلاف في تقرير هذا المعنى ١١ . فالقرائن القرآنية كلها تنقض هذا المعنى المتواتر عندهم.

وعليه فاسم ﴿الحكمة مترادف بين الإنجيل والقرآن؛ دخيل على القرآن بحرفه الآرامي نفسه: ﴿الحكم. والإِعجاز في الاسم يكون للأسبق.

خاتمة

أسماء القرآن مقتبسة، فلا إِعجاز فيها

فأسماء القرآن العربي: الحكمة والفرقان والذكر والكتاب والقرآن، كلها دخيلة لفظاً ومعنى، اقتبسها عن ﴿الراسخين في العلم الذين يستشهد بهم بتواتر. ﴿ولا بدَّ لنا من أن ننبّه الى أنه ليس مستحيلاً، ولا غريباً أن تدخل في القرآن ألفاظ من لغات أخرى... فسنعرض لما في القرآن من ألفاظ أعجمية جاءَته من اللسانين العبري والسرياني، ومن اللسان الحبشي وغيره ١٢ .

وبعد هذا كله، هل من إِعجاز في اسماء القرآن؟

بحث ثالث

الإِعجاز ما بين واقع القرآن والتاريخ

يقوم الإِعجاز في لغة القرآن على فصاحة مفرداتها، وعلى بلاغة تراكيبها، وعلى براعة نظمها في أسلوبها. وهذا قائم لا مراء فيه، ولا جدال. وهذا هو واقع الإِعجاز في نظم القرآن.

لكن تحول دون اعتبار هذا الإِعجاز القائم معجزةً اعتبارات أخرى في واقعه.

أولاً: المشكل القرآني

الواقع الأول في تنزيل القرآن وفي جمعه وتدوينه. يصرح القرآن أولاً: ﴿أنزلناه قرآناً عربياً (١٢: ٢؛ ٢٠: ١١٣)؛ ﴿أنزلناه حكماً (حكمة) عربيّاً (١٣: ٣٧)؛ ﴿قرآناً عربيّاً غير ذي عوج (٣٩: ٢٨)؛ ﴿قرآناً عربياً لقوم يعلمون (٤١: ٣)؛ فقد ﴿أوحينا إليك قرآناً عربياً (٤٢: ٧). تلك تصاريح خمسة في عروبة القرآن.

ويصرح ثانياً أنه نزل ﴿بلسان عربي مبين (الشعراء ١٩٥)؛ ﴿وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢)؛ فلا مجال لتهمة اعانة الآخرين: ﴿لسان الذي يلحدون اليه أعجمي، وهـذا لسان عربي مبين (النحل ١٠٣). وهذا الواقع يقوم على هذا المبدأ العـام: ﴿وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم (إبراهيم ٤). تلك تصاريح أربعة ان القرآن بلسان عربي مبين، وهي تشهد بإِعجاز بيانه في لسانه.

الواقع الثاني أن القرآن نزل على سبعة أحرف ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني كما يقول الطبري وأكثر العلماء معه ـ والعدد ليس للإحصاء بل للرمز ـ وقُرِئ بحضرة النبي، وعلى أيام الخلفاء الراشدين، أئمة الصحابة، بتلك الأحرف السبعة. وفسّروها بأنها سبع لغات مختلفة: ﴿لغة قريش، ولغة اليمن، ولغة جرهم، ولغة هوازن، ولغة قضاعة، ولغة تميم، ولغة طي ١٣ كما ذهب اليه كثير من العلماء مثل أبي عبيد وثعلب والزهري. ومن اعترض عليهم بان لغات العرب أكثر من سبع، أجابوا بان المراد هو أفصحها.

فكيف ينسجم هذا الواقع القرآني الثاني مع الواقع القرآني الأول؟

الواقع الثالث أن القرآن نزل بلغة قريش؛ وأنه جُمـع ودون بلغة قريش، بأمر عثمان: ﴿وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت (الانصاري) في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم. ففعلوا ١٤ .

﴿قال بن التين وغيره: وجمع عثمان كان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القراءَة، حتى قرأوه بلغاتهم، على اتساع اللغات... واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجّاً بأنه نزل بلغتهم، وان كان قد وُسّع في قراءَته بلغة غيرهم، رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر. فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة ١٥ .

فكيف ينسجم هذا الواقع الثالث ﴿فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم ـ مع الواقع الثاني أنه نزل وقُرئ على سبعة أحرف، أي سبع لغات، ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني؟

ثانياً: المشكل التاريخي

وهذا الواقع القرآني الثلاثي المتعارض يقوم على المشكل التاريخي في وحدة اللغة العربية أو اختلافها الى لغات، في زمن النبي العربي.

يقول البعض، مثل العقاد، بوحدة اللغة العربية في الحجاز، واليمن، والشمال، كما يظهر من الشعر الجاهلي: ﴿وليس أكثر من العسف الذي يلجأ اليه منكرو الوحدة في لغة الجزيرة قبل البعثة المحمدية بجيلين أو ثلاثة أجيال. وان اعتساف التاريخ هنا لأهون في رأينا من اعتساف الفروض الأدبية التي لا تقبل التصديق. فما من قارئ للأدب يسيغ القول بوجود طائفة من الرواه يلفقون أشعار الجاهلية كما وصلت الينا، ويفلحون في هذا التلفيق... فهذه النقائض التي تحاول أن تشكّكنا في وحدة اللغة العربية قبل الإسلام يرفضها العقل لأن قبولها يكلفه شططاً ولا يوجبه بحث جدير بالاقناع. فمما يتكلّفه العقل، اذا تقبلها، ان يجزم ـ كما تقدم ـ بانقطاع عرب اليمن عن داخل الجزيرة كل الانقطاع، وأن يجزم ببقاء لغة قحطانية تناظر اللغة القرشية في الجيلين السابقين للبعثة المحمدية، غير معتمد على أثر في ذاكرة لأحياء، ولا في ورق محفوظ. وأن يلغي كل ما توارثه العرب عن أنسابهم وأسلافهم، وهم أمه تقوم مفاخرها وعلاقاتها على الأنساب وبقايا الأسلاف. وان يفترض وجود الرواة المتآمرين على الانتحال بتلك الملكة التي تنظم أبلغ الشعر وتنوعه على حسب الأمزجة والدواعي النفسية والأعمار. وأن يفهم أن القول المنتحل مقصور على الأسانيد العربية مبطل لمراجعها، دون غيرها من مراجع الأمم التي صح عندها الكثير ممّا يخالطه الانتحال والكذب الصريح... أما المستحيل، أو شبه المستحيل، فهو تزوير أدب كامل يُنسب الى الجاهلية ١٦ .

أجل لا تختص الأمة العربية بالانتحال والكذب في أدبها وأسانيده، هذا واقع في أدب جاهلية سائر الأمم. لكن الانتحال في الشعر الجاهلي يُقارن بالانتحال في الحديث الشريف؛ وانتحال الشعر أخف وطأة من انتحال الحديث الشريف.

وبناء وحدة اللغة القحطانية واللغة القرشية، على الرحلات والهجرات بين بني قحطان وبني عدنان، بين العرب العاربة والعرب المستعربة، ينقضه تاريخ العرب قبل الإسلام، وواقع الحياة والمواصلات بين الأمم في أيامنا. ينزح قوم بلغتهم الى أرض غيرهم فيحافظون على لغتهم ويتعلمون لغة الوطن الجديد. والتجار الدوليون، قديماً وحديثاً يتعلمون لغات القوم الذين معهم يتاجرون؛ فلا غرو اذا عرف عرب الجنوب وعرب الحجاز وعرب نجد والشمال بعضهم لغات بعض، مع تمايزها واختلافها بالألفاظ والاعراب، للقيام خير قيام برحلات الشتاء والصيف ما بين الجنوب والشمال؛ وكانت قريش سادة القوم في ذلك، وكان محمد في تجارة خديجة سيد الاسياد في معرفة اللغات غير لغته القومية، كما سنرى عن قريب.

فإن القائلين بتعدد اللغات في الجزيرة العربية، حتى قبل البعثة المحمدية بجيلين أو ثلاثة أجيال، إنما يعتمدون على قيام دولة التبابعة في اليمن يتصارع عليها وعلى أرضها الاستعمار الحبشي والفارسي؛ وعلى النصوص الحميرية التي اكتشفها الأستاذ جويدي، والتي نرى فيها أنها تختلف اختلافات كثيرة جداً عن اللغة الحجازية القرشية التي نعرفها من القرآن.

ونحن نؤيد ما نقله الأستاذ محمد صبيح، ﴿عن القرآن من الدكتور طه حسين، والطبري، والسيوطي، في تعدّد اللغات العربية في الجزيرة، وتعدّد النص القرآني إلى سبعة أحرف أو لغات. يقول ١٧ : ﴿وأحدث هذه الدراسات وأقومها إلى الآن ما ذكره الدكتور طه حسين في كتابه (الأدب الجاهلي). فقد أحاط في موضوعه بآراء المحدثين والقدماء من المسلمين، كما أحاط بآراء المستشرقين. ﴿قال ١٨ : أثبت البحث الحديث خلافاً جوهرياً بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذه البلاد. ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو، والتصريف أيضاً ـ ويعود ذلك إلى تسمية أقوام مختلفة باسم جامع: العرب؛ الجزيرة العربية، وكلاهما يقصر ويمتد كما يشاؤون؛ حتى جمعوا الأنباط ولغتهم وحضارتهم إلى العرب؛ والبابليين في عصرهم الأول فكانت حضارة البابليين وتشريعهم من عهد حمورابي حضارة عربية وتشريعاً عربياً. وشتان ما بين الأصل الجامع والفرع الطالع، ما بين المطالع والمجامع.

يقول محمد صبيح ١٩ : ﴿ومهما اختلف الباحثون، فقد أصبح واضحاً جلياً أن اللغة العربية في الجاهلية لم تكن واحدة، يتفق نطقها وصرفها ونحوها، فبعد أن كشف الأستاذ جويدي عن نصوص اللغه الحميرية، وأثبت خلافها التام عن اللغة القرشية التي نعرفها اليوم، في بنية ألفاظها وفي تركيب جملها، لم يعد هناك شك في أن جزيرة العرب كانت مستقر شعوب لا شعب واحد. وكانت هذه الشعوب تنطق بلغات كثيرة قد تتفق بينها بعض الألفاظ، كما تتفق اليوم بعض ألفاظ اللغة الفرنسية والانجليزية؛ ولكن كل لغة منها قائمة بذاتها مستقلة استقلالاً، لا شك فيه... وقد عبّر أبو عمرو بن العلاء عن هذا المعنى في وضوح تام. ثم يقول: ﴿وكما كانت في الجنوب ـ حيث وُجدت دول ثابتة، وقامت حضارات بقيت آثارها إلى اليوم ـ لغات مختلفة منها الحميرية والسبئية والمعينية، فكم بالأحرى في الحجاز والشمال بين فوضى القبائل. إن ما يصدق على اليمن، يصدق أيضاً على البحرين، وما يصدق على هذه يصدق على الحجاز؛ وما يصدق عليها جميعاً يصدق على شمال الجزيرة حيث كان يقيم المناذرة الغساسنة يتصلون بحضارة فارس ومجوسيتها، وبحضارة بيزنطية ومسيحيتها.

والشاهد على اختلاف لغات قبائل الحجاز حديث الأحرف السبعة التي قُرِئَ بها القرآن: ﴿إن القرآن الذي تُلي بلغة واحدة، ولهجة واحدة، هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعدّدت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً... وليست هذه القراءات بالأحرف السبعة التي أُنزل عليها القرآن. وإنما هي شيء وهذه الأحرف شيء آخر. فالأحرف جمع حرف. والحرف: اللغة. فمعنى ﴿أنزل القرآن على سبعة أحرف أنه أُنزل على سبع لغات مختلفة في لفظها ومادتها... وقد اتفق المسلمون على أن القرآن ﴿أنزل على سبعة أحرف أي على سبع لغات مختلفة في الفاظها ومادتها. واتفق المسلمون على أن أصحاب النبي تماروا في هذه الأحرف والنبي بين أظهرهم. فنهاهم عن ذلك وألح في النهي فلمـا توفّي النبي استمر اصحابه يقرأون القرآن على هـذه الأحرف السبعة. يؤيد ذلك تفسير الطبري.

ثالثاً: المشكل القائم المستعصي على الحل

نزل القرآن بلغة قريش ولهجتها ـ ولا يُعقل سوى ذلك. فكيف أصبح سبعَ لغات مختلفة في الفاظها ومادتها؟ يقولون بأنه نزل على سبعه أحرف أي سبع لغات. وهذا خارق مخروق، لا يستسيغه عقل، ولا نقل. والحل السوي ان النص الواحد المنزل أصبح سبع نصوص، بسبب لغات القبائل المختلفة. وهذا رأي أبي شامة ينقله السيوطي: ﴿إن القرآن نزل بلغة قريش ثم أُبيح للعرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، على اختلافهم في الألفاظ والاعراب. ولم يكلف احد منهم الانتقال عن لغة الى لغة اخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد. وقيّد البعض هذا النقل بما سمع عن النبي عليه الصلاة والسلام ٢٠ . أي أيّد النبي هذا النقل من لغة قريش الى اللغات الاخرى.

ينتج من ذلك: أولاً وجود لغات مختلفة بين قبائل الحجاز، وثانياً تعدد نص القرآن الى سبعة نصوص مختلفة.

قد يقولون: إن عثمان أتلف كل النصوص إلاّ النص القرشي الذي نزل به وظل قائماً بين الصحابة من المهاجرين والانصار. والردّ على ذلك أن عثمان أتلف مصاحف الصحابة أنفسهم، حتى الصحف التي جمعها زيد بن ثابت أول مرة على عهد أبي بكرٍ، وثاني مرة على عهد عمر، وكانت أمانة عند السيدة حفصة زوج النبي وبنت عمر. فقد أتلفها عثمان بعد ان استأذن حفصة. فهل جمع وتدوين عثمان أصح وأقرب الى زمن النبي من جمع وتدوين عمر وأبي بكرٍ؟ ولو أسندوا الجمع في أطواره الى رئاسة زيد بن ثابت الانصاري.

وبسبب تعدد اللغات، هل يُبنى إِعجاز منزل، على لغة المصحف العثماني ٢١ ؟

بحث رابع

هل عرف ﴿النبي الأمّي وأهل مكّة لغات أجنبية؟

قضية ثانية في لغة القرآن: لغة مكّة ومعرفة محمد اللغات الأجنبية.

أولاً: شهادة القرآن

إن القرآن يشهد مباشرة بقيام لغات أعجمية في مكّة، ومداورة بأن النبي كان يعرف تلك اللغات الأعجمية.

الشهادة الأولى: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلّمه بشر! ـ لسان الذي يلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين (النحل ١٠٣).

الشهادة الثانية: ﴿ولو جعلنـاه قرآناً أعجمياً، لقالوا: لولا فُصلت آياته! أأعجمي وعربي؟ (فصلت ٤٤).

نلاحظ عابراً أن التفصيل، في لغة القرآن، يعني التعريب. فقوله: ان القرآن ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧) يعني تعريب الكتاب، بحسب اصطلاح القرآن.

يقول محمد صبيح ٢٢ : ﴿ومن هنا (الرحلات من وإلى مكّة والاستيطان فيها) يمكن أن نقرر: ان أهل مكّة عرفوا لغات أجنبية الى جانب لغتهم الأصلية. وان اللغة الأصلية نفسها تأثرت بهذه اللغات التي تنتقل الى مكّة من الأجانب المقيمين بها أو تنتقل اليها مكّة في متاجرها. وقد كوّنت هذه الرحلات وهذه الاتصالات، الى جانب التأثير اللغوي، ثقافة غير هينة؛ كما وُجدت حركة تدوين وقراءَة. هذا هو شأن مكّة، ولغة أهلها.

ثانياً: شهادة الحديث

ويأتي الحديث فيثبت لنا معرفة محمد باللغات الأجنبية الموجودة بمكّة، والتي كان يتصل بها في الجنوب والشمال، بحكم رحلاته التجارية، على رأس أضخم تجارة مكية.

يقول محمد صبيح ٢٣ : ﴿ولم يقل أحد إن رسول الله لم يكن يعلم شيئاً من أمر هذه اللغات التي تأثرت بها مكّة، وأمر هذه الثقافات التي ذابت فيها. بل أكثر من هذا، فإن لدينا من الحوادث ما يؤكد اتصال رسول الله، وهو في مكّة، بهؤلاء الأجانب، الذين كانوا يقيمون فيها، وكان يزورهم ويطيل صحبتهم. فقد روى عن عبيد الله بن مسلم قال ٢٤ : كان لنا غلامان روميان يقرأان كتاباً لهما بلسانهما، فكان النبي ﷺ يمر بهما فيقوم فيسمع منهما ـ (اذن كان محمد يعرف اليونانية) ـ ورُوى عن ابن اسحاق أن رسول الله كثيراً ما كان يجلس عند المروة الى سبيعة، غلام نصراني يقال له جبرْ، غلام لبعض بني الحضرمي، وعن ابن عباس ان النبي كان يزور، وهو في مكّة، أعجمياً اسمه بلعام، وكان المشركون يرونه يدخل عليه ويخرج من عنده ـ (وقد يكون حديثهما بالعربية، وقد يكون بالفارسية) ـ وفي رواية اخرى ان غلاماً كان لحويطب بن عبد العزّى، قد أسلم وحسن اسلامه، اسمه عائش أو يعيش، وكان صاحب كتيّب؛ وقيل هما اثنان جبر ويسار، كانا يصنعان السيوف بمكّة ويقرأان التوراة والإنجيل (بالعبرية واليونانية، أو بالسريانية)؛ فكان رسول الله اذا مرّ عليهما وقف يسمع ما يقرأان. واذن فقد كان رسول الله يسمع ما يُقرأ في الكتب، بلغة غير لغة مكّة، وكان يفهم ما يُتلى عليه.

هذه الروايات المتواترة تشهد بأن محمداً، بسبب اتصالاته في مكّة مع الاعاجم والسماع الى كتبهم ولغاتهم، وبسبب رحلاته التجارية مدة خمس عشرة سنة الى الجنوب حيث لغات اليمن، والى الشمال حيث الفارسية والسريانية واليونانية، كان يعرف عدة لغات أجنبية.

وهناك سبب أكبر يدل على معرفة محمد لغات أجنبية، وهو صحبته مدة خمس عشرة سنة لورقة بن نوفل، قس مكّة، الذي بزواج محمد من ابنة عمه، كان يعدّه لدينه ولخلافته على جماعته. وكل المصادر تشهد بأن ورقة كان علامة مكّة، يترجم التوراة والإنجيل الى العربية، من العبرية والسريانية واليونانية. وكان محمد يتتلمذ له، بدليل قصة فتور الوحي ومحاولة محمد الإنتحار، لدى وفاة ورقة. ألا تكفي محمداً نابغة العرب مدة خمس عشرة سنة، بجوار علامة كبير، ليأخذ عنه العبرية والسريانية واليونانية، لغات الكتاب الذي يترجمون؟

فالتاريخ والحديث يؤيدان ما جاءَ في القرآن من اتصال محمد بأهل الكتاب وسماع كتبهم في لغاتهم، زيادة على اتصالاته التجارية ومخاطبة الناس في أوطانهم بلغاتهم.

لكن هذه الثقافة الواسعة شبهة قائمة على إِعجاز القرآن كمعجزة منزلة.

ثالثاً: اللغات المختلفة في المصحف العثماني نفسه

إن الواقع القرآني يشهد بوجود كثرة الألفاظ الأعجمية في القرآن، وكثرة الألفاظ العربية المستعارة من قبائل غير قبيلة قريش، وذلك بعد التصفية العثمانية. وهـذا ما يسمونه ﴿غريب القرآن. وقد كتب فيه الأقدمون الكتب. ونسبوا الى النبي هذا الحديث مرفوعاً أو موقوفاً: ﴿أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه. ونقدر أن نقسم غريب القرآن وغرائبه إلى خمسة أقسام.

بحث خامس

غريب القرآن

(الإتقان ١: ١١٥ ـ ١٣٤)

يقول محمد صبيح ٢٥ : ﴿وقد نزل القرآن باللغة العربية القرشية، التي ذكرنا أن كثيراً من ألفاظ اللغات الأخرى، ولغات القبائل المجاورة ذابت فيها. وقد فهم الصحابة القرآن اجمالاً؛ ولكن ألفاظاً غير قليلة استغلقت عليهم، بل ان بعضها لا يزال مستغلقاً علينا الى اليوم، على الرغم من ان وسيلة العلم ببعض اللغات القديمة قد توفرت لدينا... ووردت روايات عن الفاظ في القرآن لم يكن بعض الصحابة يفهمونها لأنها مستعملة عند بعض القبائل، وليست مستعملة عند قريش... وقد شغف علماء المسلمين بتتبع الفاظ القرآن وغريبه. وذكر السيوطي أسماء كثيرين ألفوا فيه. فغرائب الفاظ القرآن أنها ﴿مستغربة في التأويل. وجملة ما عدده من ذلك في القرآن كله سبعمائة لفظة أو تزيد قليلاً.

نقل السيوطي مع غيره عن ابن عباس عشرات الألفاظ الغريبة. هذا بعض منها:

يؤمنون (أي) يصدقون ـ يعمهون: يتمادون ـ مطهرة: من القذر والأذى ـ الخاشعين: المصدقين بما أنزل الله ـ وفي ذلكم بلاء: نعمة ـ وفومها: الحنطة ـ إلاّ أماني: أحاديث ـ قلوبنا غلف: في غطاء ـ ما ننسخ: نبدل ـ أو ننسها: نتركها فلا نبدلها ـ يثوبون إليه: يرجعون ـ حنيفاً: حاجّاً ـ شطره: نحوه ـ فلا جناح: فلا حرج ـ خطوات الشيطان: عمله ـ أُهلّ به لغير الله: ذبح للطواغيت ـ ابن السبيل: الضيف ـ إن ترك خيراً: مالاً ـ جنفاً: إثماً ـ حدود الله: طاعة الله ـ لا تكون فتنة: شرك ـ فرض: حرّم ـ لاعنتكم: لأخرجكم ـ ما لم تمسوهن: المس الجماع ـ أو تفرضوا: والفريضة الصداق ـ فيه سكينة: رحمة ـ سِنَة: نعاس ـ ولا يؤوده: يثقل عليه ـ صفوان: حجر صلد ـ متوفيك: مميتك ـ حوباً كبيراً: إثما عظيماً ـ نحلة: مهراً ـ وابتلوا: اختبروا ـ آنستم: عرفتم ـ رشداً: صلاحاً ـ كلالة: من لم يترك والداً ولا ولداً ـ ولا تعضلوهن: تقهروهن ـ والمحصنات: كل ذات زوج ـ طولا: سعة ـ محصنات: غير مسافحات ـ عفائف: غير زوانٍ ـ ولا متخذات اخدان: أخلاء ـ فإذا احصن: تزوجن ـ العنت: الزنى ـ موالي: عصبة ـ قوّامون: أمراء ـ قانتات: مطيعات ـ الجبت: الشرك ـ مقيتاً: حفيظاً ـ اركسهم: أوقعهم ـ حصرت: ضاقت ـ أولى الضرر: العذر ـ نشوزاً: بغضاً ـ كالمعلّقة: لا هي أيمّ ولا هي ذات زوج ـ يجرمنّكم: يحملنّكم ـ شنآن: عداوة ـ البِرّ: ما أمرت به ـ التقوى: ما نهيت عنه ـ الأزلام: القداح ـ طعام الذين أوتوا الكتاب: ذبائحهم ـ اِفْرقْ بيننا: افصل ـ ومن يُرد اله فتنته: ضلالته ـ مهيمناً: أميناً ـ شرعة ومنهاجاً: سبيلاً وسنة ـ أذلّة على المؤمنين: رحماء ـ مدراراً: بعضها يتبع بعضاً ـ وينأون عنه: يتباعدون ـ مبلسون: آيسون ـ يصدفون: يعدلون ـ يدعون: يعبدون ـ جرحتم: كسبتم من الإثم ـ يفرطون: يضيعون ـ شيعاً: أهواء مختلفة ـ لكل نبأ مستقر: حقيقة ـ تبسل: تفضح ـ باسطوا ايديهم: البسط الضرب ـ إملاق: الفقر ـ دراستهم: تلاوتهم ـ مذؤوماً: ملوماً ـ ريشاً: مالاً ـ رجس: سخط ـ الصراط: الطريق ـ افتح بيننا: اقض ـ آسى: أحزن ـ متبر: خسران ـ آسفاً: الحزين ـ إن هي إلا فتنتك: عذابك ـ عزروه: حموه ووقروه ـ فانبجست: انفجرت ـ نتقنا الجبل: رفعناه ـ حفي عنها: لطيف بها ـ لولا اجتبيتها: أحدثتها ـ جاءَكم الفتح: المدد ـ جعلنا لكم فرقانا مخرجاً ـ يضاهئون: يشبهون ـ هو أذنٌ: يسمع من كل أحد ـ اغْلظ عليهم: اذهب الرفق عنهم ـ سَكَنَ لهم: رحمة ـ الأوّاه: المؤمن التواب ـ يثنون: يكنون ـ يستغشون ثيابهم: يغطون رؤوسهم ـ أخبتوا: خافوا ـ فار التنور: نبع ـ اقلعى: اسكني ـ حنيذ: نضيج ـ عصيب: شديد ـ زفير: صوت شديد ـ شهيق: صوت خفيف ـ شغفها: غلبها ـ حصحص: تبين ـ زعيم: كفيل ـ طوبى: الفرح وقرة العين ـ ييأس: يعلم ـ مهطعين: ناظرين ـ في الأصغاد: في وثاق ـ قطران: النحاس المذاب ـ حمأ مسنون: طين رطب ـ مسلمين: موحدين ـ تسيمون: ترعون ـ مواخر: جوارى ـ حفدة: الأصهار ـ الفحشاء: الزنا ـ فجاسوا: فمشوا ـ ولا تقْفُ: لا تقل ـ رفاتا: غباراً ـ فسينفضون: يهزّون ـ مثبوراً: ملعوناً ـ وقرآنا فرقناه: فصلناه ـ الرقيم: الكتاب ـ تزاور: تميل ـ كالمهل: عكر الزيت ـ عين حَمِئة: حارة ـ زبر الحديد: قطع الحديد ـ الصدفين: الجبلين ـ سويّاً: من غير خرس ـ حنانا من لدنّا: رحمة من عندنا ـ غيّاً: خسرانا ـ لَغْوَاً: باطلاً ـ ضدّاً: اعواناً ـ تؤزّهم أزّاً: تغويهم اغواءً ـ إداً: عظيماً ـ هداً: هدماً ـ ركْزاً: صوتاً ـ سيرتها: حالتها ـ وفتنّاك فتونا: اختبرناك اختباراً ـ ولا تَنِيَا: تُبطئاً ـ فيُسحتكم: يُهلككم ـ لننسفنّه في اليم: لَنُذرينه في البحر ـ قاعاً: مستوياً ـ صفصفا: لا نبات فيه ـ عِوَجاً: وادياً ـ خشعت الاصوات: سكنت ـ وعنت الوجوه: ذلّت ـ ينسلون: يقبلون ـ حصب: شجر ـ كطىّ السجل للكتاب: كطى الصحيفة على الكتاب ـ مَنِسكاً: عيداً ـ المُعْتر: السائل ـ اذا تمنى: حدّث ـ في أمنيته: حديثه ـ هيهات هيهات: بعيد بعيد ـ تتْرى: يتبع بعضها بعضاً ـ يجأرون: يستغيثون ـ تستأنسوا: تستأذنوا ـ غير أولى الاربه: المغفّل الذي لا يشتهي النساء ـ مشكاة: موضع الفتيلة ـ بقِيعة: أرض مستوية ـ هباءً منثوراً: الماء المهراق ـ قبضاً يسيراً: سريعاً ـ كالطود: الجبل ـ فكبكبوا: جُمعوا ـ الأيك: الغيضة ـ الجبلة: الخلق ـ أوزعني: اجعلني ـ طائركم: معائبكم ـ يُوزعون: يُدفعون ـ داخرين: صاغرين ـ جامدة: قائمة ـ إفكاً: كذباً ـ يصدعون: يتفرقون ـ العزور: الشيطان ـ منْسأته: عصاه ـ فاكهون: فرحون ـ سواء الجحيم: وسط ـ تلَّه: صرعه ـ فنبذناه بالعراء: القيناه بالساحل ـ أتراب: مستويات ـ غسّاق: الزمهرير ـ رواكد: وقوفاً ـ يوبِقُهُنَّ: يهلكهنَّ ـ وزخرفاً: الذهب ـ آسن: متغير ـ ذنوباً: دلواً ـ المسجور: المحبوس ـ ذو مرّة فاستوى: منظر حسن ـ أغنى وأقنى: أعطى وأرضى ـ العَصْف: التبن ـ الريحان: خضرة الزرع ـ آلاء ربكما: نعم الله ـ مارج: خالص النار ـ مَرَج: أرسل ـ برزخ: حاجز ـ شواظ: لهيب النار ـ ونحاس: دخان النار ـ لم يطمثهنَّ: يدنُ منهن ـ نضاختان: فائضتان ـ رفرف خضر: محابس ـ للمقوين: المسافرين ـ قاتلهم الله: لعنهم ـ (وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن) ـ زنيم: ظلوم ـ غسلين: صديد أهل النار ـ أمشاج: مختلفة الألوان (أخلاط) ـ مستطيراً: فاشياً ـ قمطريراً: طويلاً ـ سفرة: كتبة ـ عِلّيين: الجنة ـ يحور: يُبعث ـ الصَمَد: السيد كمل في سؤدده ـ إيلافهم: لزومهم.

ويختم السيوطي بقوله: ﴿هذا لفظ ابن عباس، أخرجه ابن جرير (الطبري) وابن أبي حاتم في تفسيرهما مفرقاً فجمعته. وهو وإن لم يستوعب غريب القرآن، فقد أتى على جملة صالحة. واستدرك عليه بجملة أخرى. ونقل أيضاً عن ابن عباس مسائل نافع بن الأزرق له، وفيها جملة أخرى من غريب القرآن.

كانوا يعتبرون تلك التعابير من غرائب القرآن. وباستعمال القرآن لها دخلت الفصحى، وكثيراً منها لم يعد يبدو غريباً. ولم يكن من البدءِ كذلك. وأساس الإِعجاز البياني فصاحة مفرداته. وليس من الفصاحة ما عدَّه العلماء ﴿غريب القرآن. فهل ﴿غريب القرآن من الإِعجاز في فصاحة لغته؟

بحث سادس

الوجوه والنظائر ٢٦

(الإتقان ١: ١٤٢ ـ ١٤٤)

هذا الاصطلاح له معنيان: خاص، وعام.

المعنى الخاص من كناية ﴿الوجوه والنظائر: ﴿فالوجوه: اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان، كلفظ ﴿الأمة. والنظائر كالألفاظ المتواطئة.

﴿وقيل: النظائر في اللفظ؛ والوجوه في المعاني.

﴿وهم يذكرون اللفظ الذي معناه واحد في مواضع كثيرة. فيجعلون (الوجوه) نوعاً لأقسام، و(النظائر) نوعاً آخر حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف الى عشرين وجهاً وأكثر وأقل.

وهكذا فهم يختلفون بما يقصدون؛ وقد يفهم بعضهم بالنظائر ما هو وجوه؛ وبالوجوه ما هو نظائر. ونحن نرى النظائر في اللفظ المشترك الذي يُستعمل في عدة معان. والوجوه في المعاني المتعدده تحت اللفظ الواحد.

أولاً: وجوه القرآن

وجوه الكلمة الواحدة أن تتصرّف الى عدة معان، الى عشرين وجهاً، وأكثر وأقل. يبنون ذلك على حديث مرفـوع الى النبي: ﴿لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقـرآن وجوهاً. وقد فسره بعضهم: المراد ان يرى اللفظ الواحد يتحمل معاني متعدّدة فيحمله عليها اذا كانت غير متضادة، ولا يقتصر به على معنى واحد.

ورووا ان علياً بن أبي طالبٍ أرسل ابن عباس الى الخوارج فقال: ﴿اذهب اليهم فخاصمهم، ولا تحاجّهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة... قال: يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل! قال: صدقت، ولكن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون؛ ولكن خاصمهم بالسنن فإنهم لن يجدوا منها محيصاً.

وفي موضع آخر ٢٧ ينقل السيوطي: ﴿الكراهة تحمل على من صرف الآية عن ظاهرها الى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ـ ولا يكون غالباً الا في الشعر ونحوه ـ ويكون المتبادر خلافها. وينقل أيضاً ٢٨ : ﴿وقال النسفي في (عقائده): النصوص على ظاهرها، والعدول عنها الى معان يدَّعيها أهل الباطن الحاد. وقال التفتزاني في (شرحه): سُميت الملاحدة باطنيّة لادعائهم ان النصوص ليست على ظاهرها بل لها معان باطنية.

وهذا ما يجعل القرآن متشابهاً ﴿لا يعلم تأويله إلا الله. مع أنه على حد قوله ﴿بلسان عربي مبين. واللسان العربي المبين هو السهل الممتنع الذي تسابق معانيه ألفاظه الى الفهم والادراك. فإذا تعدّدت معاني التعبير الواحد حتى العشرين ضاع بيان الله علينا، وزال إِعجازه لنا، لأننا لا نتثبت من صحة المعنى المقصود. يقول السيوطي: ﴿وقد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف الى عشرين وجهاً، وأكثر وأقل؛ ولا يوجد ذلك في كلام البشر. فهل من الإِعجاز في فصاحة الألفاظ وبيانها ان يتعدّد معناها، ونرى لها وجوهاً لا نقدر أن نقف على حقيقتها؟ ان استنباط المعاني المتعددة من تعبير واحد لا يدل على الإِعجاز فيه.

ثانياً: النظائر في القرآن

إن النظائر هو اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان. يقول السيوطي: ﴿وهذه عيون من أمثلة هذا النوع.

١) ﴿ومن ذلك الهدى يأتي على سبعة عشر وجهاً، بمعنى: الثبات: ﴿اهدنا الصراط المستقيم ـ والبيان: ﴿أولئك على هدى من ربهم ـ والدين: ﴿إن الهدى هدى الله ـ والإيمان: ﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ـ والدعاء: ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا.

وبمعنى الرسل والكتب: ﴿ولكل قوم هـاد، فإما يأتينّـكم مني هدى ـ والمعرفة: ﴿وبالنجم هم يهتدون.

وبمعنى النبي ﷺ: ﴿إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى الدالة على محمد.

وبمعنى القرآن: ﴿ولقد جاءَهم من ربهم الهدى ـ والتوراة: ﴿ولقد آتينـا موسى الهدى ـ والاسترجاع: ﴿وأولئك هم المهتدون ـ والحجة: ﴿لا يهدي القوم الظالمين بعد قوله تعالى: ﴿ألم تر الى الـذي حاج إبراهيم في ربه ـ أي لا يهديهـم حجة. ـ والتوحيد: ﴿إن نتّبع الهدى معك نُتخطّف من أرضنا ـ والسنة: ﴿فبهداهم اقتدهْ، ﴿وإنا على آثارهم مهتدون ـ والإصلاح: ﴿ان الله لا يهدي كيد الخائنين ـ والالهام: ﴿أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي ألهم المعاش. ـ والتوبة: ﴿إنا هدْنا إليك ـ وهنـا تورية فاتت الأستاذ الإمام: ﴿هدْنا من يهود، فهم يشتقون الهدى من اسمهم، كقولهم: هاد أي اهتدى ـ والارشاد: ﴿ان يهديني سواء السبيل. فتلك سبعة عشر وجهاً لتعبير واحد.

٢) ﴿ومن ذلك الصلاة تأتي على أوجه: ـ الصلوات الخمس: ﴿يقيمون الصلاة ـ وصلاة العصر: ﴿يحبسونهما من بعد الصلاة ـ وصلاة الجمعة: ﴿إذا نودي للصلاة ـ والجنازة: ﴿ولا تصلِّ على أحد منهم ـ والدعاء: ﴿وصلّ عليهم ـ والدين: ﴿أصلواتك تأمرك ـ والقراءَة: ﴿ولا تجهر بصلاتك ـ والرحمة والاستغفار: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي ـ ومواضع الصلاة: ﴿بيع وصلوات ـ ومساجد: ﴿لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى. ـ فتلك عشرة وجوه لتعبير واحد.

٣) ومن ذلك الرحمة وردت على أوجه: ـ الإسلام: ﴿يختص برحمته مَن يشاء ـ والإيمان: ﴿وآتاني رحمة من عنده ـ والجنة: ﴿ففي رحمة الله هم فيها خالدون ـ والمطر ﴿نشراً بين يدى رحمته ـ والنعمة: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ـ والنبوّة: ﴿أم عندهم خزائن رحمة ربك، ﴿أهم يقسمون رحمة ربك ـ والقرآن: ﴿قلْ: بفضل الله وبرحمته ـ والرزق: ﴿خزائن رحمة ربي ـ والنصر والفتح: ﴿إن أراد بكم سوءاً، أو أراد بكم رحمة ـ والمودة: ﴿رأفة ورحمة، ﴿رحماء بينهم ـ والسعة: ﴿تخفيف من ربكم ورحمة ـ والمغفرة: ﴿كتب على نفسه الرحمة ـ والعصمة: ﴿لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. ـ فتلك ثلاثة عشر وجهاً، في لفظ واحد.

ومن ذلك الروح ورد على أوجه: ـ الأمر: ﴿وروح منه ـ الوحي: ﴿ينزّل الملائكة بالروح ـ هنا الروح سيد الملائكة يُنزّلها بوحيه. ـ والقرآن: ﴿أوحينا إليك روحاً من أمرنا ـ هنا روح من عالم الأمر أي ملاك مخلوق. ـ والرحمة: ﴿وايدهم بروح منه (هنا كناية عن الملائكة الحفظة). ـ والحياة: ﴿فروح وريحان. ـ وجبريل: ﴿فأرسلنا اليها روحنا، ﴿نزل به الـروح الأمين. ـ وملاك عظيم: ﴿يوم يقـوم الروح ـ وجيش من المـلائكة: ﴿تنزَّل المـلائكة والروح فيهـا (هنا كنـاية عن الـروح سيد الملائكة). ـ وروح البـدن: ﴿ويسألونك عن الروح. هنا سها الإمام، ليس روح البدن. ـ فتلك تسعة أوجه في لفظ واحد.

ويذكر على هذا النمط ٦) السوء ٧) القضاء ٨) الذكر ٩) الدعاء ١٠) الاحصان.

ونحن نتساءَل، إن استخدام تعبير واحد لمعان مختلفة، هل يدل على إِعجاز، ولسان مبين، في فصاحة اللغة؟ إن فصل الوجوه والنظائر في لغة القرآن يفتح للتأويل أبواباً يتيه فيها البيان والتبيين. فهل في ﴿الوجوه والنظائر من إِعجاز في اللغة؟

بحث سابع

الأفراد في ألفاظ القرآن

(الإتقان ١: ١٤٤)

هذا الباب على نوعين: النوع الأول يستعمل فيه القرآن لفظاً بمعنى واحد في كل المواضع إلاّ في موضع واحد. والنوع الثاني يستعمل فيه القرآن تعبيراً على غير مألوف اللغة، فكأنه من باب الكناية أو الاستعارة.

أولاً: نقل السيوطي من النوع الأول ٢٩ :

﴿كل ما في القرآن من معنى الأسف فهو الحزن إلا ﴿فلمّا آسفونا فمعناه أغضبونا.

﴿وكل ما في القرآن من ذكر البروج فهي الكواكب إلاّ ﴿ولو كنتم في بروج مشيّدة فهي القصور الطوال المحصنة.

﴿وكل مـا فيه من ذكر البر والبحر فالمراد بالبحر المـاء، وبالبر التراب اليابس إلاّ ﴿ظهر الفساد في البر والبحر فالمراد به البرية والعمران.

﴿وكل ما فيه من بخس فهو النقص إلاّ ﴿بثمن بخس أي حرام.

﴿وكل ما فيه من البعل فهو الزوج إلاّ ﴿أتدعون بعلاً فهو الصنم.

﴿وكل ما فيه من البكم فالخرس عن الكلام بالأيمان إلا ﴿عمياً وبكماً وصماً في (الإسراء) وأحدهما ﴿أبكم في (النحل) فالمراد به عدم القدرة عن النطق مطلقاً.

﴿وكل ما فيه جثيّاً فمعناه جميعاً إلاّ ﴿وترى كل أمة جاثية فمعناه تجثو على ركبها.

﴿وكل ما فيه حسبان فهو العدد إلا ﴿حسباناً من السماء في (الكهف) فهو العذاب.

﴿وكل ما فيه حسرة فالندامة إلاّ ﴿ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم فمعناه الحزن.

﴿وكل ما فيه من الدحض فالباطل إلاّ ﴿فكان من المدحضين فمعناه من المقروعين.

﴿وكل ما فيه من رجز فالعذاب إلا ﴿والرجز فاهجر فالمراد به الصنم.

﴿وكل ما فيه ريب فالشك إلا ﴿ريب المنون يعني حوادث الدهر.

﴿وكل ما فيه من الرجم فهـو القتل إلا ﴿لأرجمنّك فمعناه لأشتمنّك؛ و﴿رجماً بالغيب أي ظناً.

﴿وكل ما فيه من الزور فالكذب مع الشرك إلاّ ﴿منكراً من القول وزوراً فإنه كذب غير الشرك.

﴿وكل ما فيه من زكاة فهو المال إلا ﴿وحنانا من لدنا وزكاةً أي طهرة.

﴿وكل ما فيه من الزيغ فهو الميل إلاّ ﴿واذ زاغت الأبصار أي شخصت.

﴿وكل ما فيه من سخر فالاستهزاء إلا ﴿سخريّاً في (الزخرف) فهو من التسخير والاستخدام.

﴿وكل سكينة فيه طمأنينة إلا التي في قصة طالوت فهـو شيء كرأس الهرة له جناحان ٣٠ .

﴿وكل سعير فيه فهو النار والوقود إلا ﴿في ضلال وسَعَر فهو العناء.

﴿وكل شيطان فيه فإبليس وجنوده إلا ﴿واذا خلوا الى شياطينهم.

﴿وكل شهيد فيه، غير القتلى، فمن يشهد في أمور الناس إلا ﴿وادعوا شهداءَكم فهو شركاؤكم.

﴿وكل ما فيه من أصحاب النار فأهلها إلاّ ﴿وما جعلنا أصحاب النار إلاّ ملائكة فالمراد خزنتها.

﴿وكل صلاة فيه عبادة ورحمة إلا ﴿وصلوات ومساجد فهي الأماكن.

﴿وكل صمم فيه ففي سماع الإيمان والقرآن خاصة إلا الذي في (الإسراء).

﴿وكل عذاب فيه فللتعذيب إلاّ ﴿وليشهد عذابهما فهو الضرب.

﴿وكل قنوت فيه طاعة إلاّ ﴿كلٌ له قانتون فمعناه مقرون.

﴿وكل كنز فيه مال إلاّ الذي في (الكهف) فهو صحيفة علم.

﴿وكل مصباح فيه كوكب إلاّ الذي في (النور) فالسراج.

﴿وكل نكاح فيه تزّوج إلاّ ﴿حتى إذا بلغوا النكاح فهو الحلم.

﴿وكل نبأ فيه خبر إلاّ ﴿فعميت عليهم الأنباء فهي الحجج.

﴿وكل (ما ورد) فيه دخول إلاّ ﴿ولمّا ورد ماء مدين يعني هجم عليه ولم يدخله.

﴿وكل ما فيه من ﴿لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها فالمراد منه العمل، الاّ التي في (الطلاق) فالمراد منه النفقة.

﴿وكل يأس فيه قنوط إلاّ التي في (الرعد) فمن العلم.

﴿وكل صبر فيه محمود إلاّ ﴿لولا أن صبرنا عليها و﴿اصبروا على آلهتكم ـ هذا آخر ما ذكره ابن فارس.

واستدرك عليه غيرهم:

﴿كل صوم فيه فمن العبادة إلا ﴿نذرت للرحمان صوماً أي صمتاً.

﴿وكل ما فيه من ﴿الظلمات والنور فالمراد الكفر والإيمان، الاّ التي في أول (الأنعام) فالمراد ظلمة الليل ونور النهار.

﴿وكل انفاق فيه فهو الصدقة الاّ ﴿فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا فالمراد به المهر.

﴿ليس في القرآن (بعد) بمعنى قبل الاّ حرف واحد: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ٣١ . ومنه ﴿والأرض بعد ذلك دحاها. قال أبو موسى: معناه هنا (قبل) لأنه تعالى ﴿خلـق الأرض في يومين ثم استوى الى السـماء ﴿فعلى هذا خلـْق الأرض قبل خلق السماء ٣٢ .

﴿كل آية في القرآن يذكر فيها حفظ الفرج فهو من الزنا، إلاّ قوله تعالى ﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم فالمراد ان لا يراها أحد.

﴿في القرآن كله وراء: أمام، غير حرفين ﴿فمن ابتغى وراء ذلك يعني سوى ذلك! ﴿وأحلَّ لكم ما وراء ذلكم يعني سوى ذلكم.

﴿كل شيء في القرآن فاسق فهو كاذب، إلاّ قليلاً.

﴿ما كان في القرآن ﴿حنيفاً مسلماً؛ وما كان في القرآن ﴿حنفاء مسلمين: حجَّاجاً.

وعليه نتساءل: هل هذا الأسلوب اللغوي في تواتر المعنى باللفظ الواحد، إلاّ في موضع، من الإِعجاز في فصاحة اللغة؟ أليس من التأويل الصحيح أن يُحمل معنى اللفظ في موضع فرد على معناه المتواتر في كل المواضع؟ وهل الشذوذ عنها في موضع واحد من الإِعجاز في فصاحة اللغة؟ هل الأفراد في الفاظ القرآن المضطردة المتواترة بمعنى واحد من الإِعجاز في فصاحته؟

ثانياً: ونقل السيوطي من النوع الثاني، أي استعمال لفظ على غير وضعه اللغوي:

﴿كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة.

﴿كل شيء في القرآن أليم فهو الموجع.

﴿كل شيء في القرآن قتل فهو لعن.

﴿كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب.

﴿كل تسبيح في القرآن صلاة؛ وكل سلطان في القرآن حجة.

﴿كل شيء في القرآن؛ الدين فهو الحساب ٣٣ .

﴿كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة؛ وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب.

﴿كل كأس ذكره الله في القرآن انما عنى به الخمر.

﴿كل شيء في القرآن ﴿فاطر فهو خالق.

﴿كل شيء في القرآن إفك فهو كذب.

﴿كل آية في القرآن في ﴿الأمر بالمعروف فهو الإسلام؛ والنهي ﴿عن المنكر فهو عبادة الأوثان.

﴿كل شيء في القرآن ﴿ان الانسان كفور انما يعني به الكفّار(؟).

﴿كل شيء في القرآن خلود فإنه لا توبة له.

﴿كل شيء في القرآن يقدر فمعناه يقل.

﴿التزكي في القرآن كله الإسلام.

﴿ما كان كسفاً فهو عذاب؛ وما كان كِسفاً فهو قطع السحاب.

﴿كل شيء في القرآن ﴿جعل فهو خلق.

﴿المباشرة في كتاب الله الجُماع...

وعليه نقول: هل في حمل اللفظ على غير معناه الوضعي في اللغة إِعجاز؟ قد يكون في ذلك إِعجاز من باب الكناية كما يكنى عن الجُماع بالمباشرة. واللفظ الفصيح هو الذي يسبق معناه لفظه الى الفهم والادراك. والألفاظ التي تتشابه معانيها ما بين اللغة والاصطلاح هل هي من الإِعجاز في الفصاحة والبيان والتبيين؟

ثالثاً: وهناك نوع ثالث يذكره السيوطي، في الخروج عن الوضع اللغوي:

﴿أخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: العفو في القرآن على ثلاثة أنحاء: نحو، تجاوز عن الذنب؛ ونحو في القصد في النفقة (ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو)؛ ونحو، في الاحسان فيما بين الناس (إلاّ أن يعفو، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح).

﴿وفي الصحيح البخاري، قال سفيان بن عيينة: ما سمى الله المطر في القرآن إلا عذاباً؛ وتسمية العرب غيثاً. (قلت) استثنى من ذلك (إن كان بكم أذى من مطر) فإن المراد به الغيث قطعاً.

﴿وقال أبو عبيدة: اذا كان في العذاب فهو أمطرت، واذا كان في الرحمة فهو مطرت.

﴿عن مسروق قال: ما كان في القرآن ﴿على صلاتهم يحافظون، ﴿حافظوا على الصلوات فهو على مواقيتها.

وقال الراغب في (مفرداته) قيل: كل شيء ذكره الله بقوله (وما أدراك) فسّره؛ وكل شيء ذكره بقوله (وما يدريك) تركه، وقد ذكر: ﴿وما أدراك ما سجّين، ﴿وما أدراك ما عليون وما فسّر الكتاب لا السجين والعليون؛ وفي ذلك نكتة لطيفة ـ ولم يذكرها.

نقول: هل في استخدام لفظ على معان مختلفة لم يوضع لها من الإِعجاز في اللغة؟ وانفراد القرآن بتصريف الفعل على معان مختلفة مثل ﴿أمطرت و﴿مطرت، ومثل ﴿ما أدراك، ﴿وما يدريك، ولا شيء من ذلك في وضع الله هو من الإِعجاز فيها؟

والمثل الصارخ في خروج القرآن على أوضـاع اللغة الفصيحة هـو استعمـال لفظ ﴿المطر بمعنى العذاب، ﴿وتسميه العرب غيثاً لأنه يغيث الأرض والحيوان والانسان. فهل في الخروج على الوضع اللغوي الشائع المتواتر إِعجازاً؟

تلك ثلاثة أنواع من ﴿الأفراد في القرآن، لا عهد للفصحى وبيانها فيها. فهل انفراد القرآن بها كان من معجز القرآن أم من المتشابه فيه حتى سموها ﴿غريب القرآن أو ﴿مشكل القرآن؟

وما كان غريباً أو مشكلاً في اللغة هل يكون من الإِعجاز في اللغة؟

بحث ثامن

في فواصل الآي

 (الإتقان ٢: ٩٦ ـ ١٠٥)

(الفاصلة كلمة آخر الآية، كقافية الشعر، وقرينة السجع. وقال ﴿الداني: كلمة آخر الجملة، وهو خلاف المصطلح... وأُخذ من قوله تعالى: ﴿كتاب فُصلت آياته: فهي صفة لكتاب الله تعالى فلا تتعدّاه الى الشعر أو السجع.

﴿وما يذكر من عيوب القافية، من اختلاف الحركة والاشباع والتوجيه فليس بعيب في الفاصلة. وجاز الانتقال في الفاصلة والقرينة وقافية الارجوزة، من نوع الى آخر، بخلاف قافية القصيدة.

هذا، وقد خضع القرآن الى ما يغاير الحقيقة أو اللغة مراعاة للفاصلة.

والاتفاق العام على ان موسى أفضل من هارون فقدمه في قوله: ﴿موسى وهارون؛ لكن مراعاة للفاصلة قال في موضع آخر: ﴿هارون وموسى لمكان السجع.

وبسبب مناسبة الفواصل نجد في لغته ونظمه أموراً من مخالفة الأصول. ونقل السيوطي عن شمس الدين بن الصائغ في كتابه (إحكام الرأي في أحكام الآي) قال: ﴿وقد تتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرت منها على نيّف عن الأربعين حكماً:

﴿احدها: تقديم المعمول، إما على العامل نحو: ﴿أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون. قيل: ومنه ﴿إياك نستعين. أو على معمول آخر أصله التقديم نحو ﴿لنريك من آياتنا الكبرى مفعول نري، أو على الفاعل نحو ﴿ولقد جاء آل فرعون للنذر. ومنه تقديم خبر كان على اسمها نحو ﴿ولم يكن له كفوءاً أحد ـ وذلك مراعاة لمناسبة الفاصلة.

﴿الثاني: تقديم ما هو متأخر في الزمان نحو ﴿فلله الآخرة والأولى. ولولا مراعاة الفواصل لقدمت الأولى كقوله: ﴿له الحمد في الأولى والآخرة.

﴿الثالث: تقديم الفاضل على الأفضل نحو ﴿برب هارون وموسى.

﴿الرابع: تقديم الضمير على ما يفسّره، نحو ﴿فأوجس في نفسه خيفة موسى.

﴿الخامس: تقديم الصفة الجملة على الصفة المفردة نحو ﴿ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً.

﴿السادس: حذف ياء المنقوص المعرّف نحو ﴿المتعالِ، ﴿يوم التنادِ.

﴿السابع: حذف ياء الفعل غير المجزوم نحو ﴿والليل اذا يَسر.

﴿الثامن: حذف ياء الاضافة نحو ﴿كيف كان عذابي ونذرِ، ﴿فكيف كان عقابِ.

﴿التاسع: زيادة حرف المدّ نحو ﴿الظنونا و﴿الرسولا و﴿السبيلا. ومنه ابقاؤه مع الجازم نحو ﴿لا تخاف دركاً ولا تخشى، ﴿سنقِرئك فلا تنسى ـ على القول بأنه نهي.

﴿العاشر: صرف ما لا ينصرف نحو ﴿قواريراً قواريراً.

﴿الحادي عشر: ايثار تذكير اسم الجنس كقوله: ﴿إِعجاز نخل منقعر.

﴿الثاني عشر: ايثار تأنيثه نحو ﴿إِعجاز نخل خاوية.

ونظير هذين قوله في (القمر): ﴿وكل صغير وكبير مستطر؛ وفي (الكهف): لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

﴿الثالث عشر: الاقتصار على أحد الوجهين الجائزين اللذين قرئ بهما في ﴿السبع، في غير ذلك. كقوله تعالى: ﴿فأولئك تحرّوا رشداً، ولم يجئ ﴿رَشَداً في السـبع. وكـذا: ﴿وهيء لنا من أمرنا رشداً. لأن الفواصل في السورتين بحركة الوسط. وقد جاءَ في ﴿وان يروا سبيل الرشد. وبذلك يبطل ترجيح الفارسي قراءَة التحريك بالاجماع عليه فيما تقدم. ونظير ذلك قراءَة ﴿تبّت يدا أبي لهبٍ بفتح الهـاء وسكونها. ولم يُقرأ ﴿سيصلى ناراً ذات لهب إلاّ بالفتح لمراعاة الفاصلة.

﴿الرابع عشر: ايراد الجملة التي ردَّ بها ما قبلها على غير وجه المطابقة في الاسمية والفعلية كقوله تعالى: ﴿ومن الناس من يقول: آمنا بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين ـ لم يطابق بين قولهم ﴿آمنا وبين ما ردّ به فيقول: (ولم يؤمنوا)، أو (وما آمنوا) لذلك.

﴿الخامس عشر: ايراد أحد القسمين غير مطابق للآخر، كذلك نحو ﴿وليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ـ ولم يقل (الذين كذبوا).

﴿السادس عشر: ايراد أحد جزأي الجملتين على غير الوجه الذي أورد نظيرها من الجملة الأخرى، نحو ﴿أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون.

﴿السابع عشر: ايثار أغرب اللفظين، نحو ﴿قسمة ضيزى ولم يقل (جائره)؛ ونحـو ﴿لينبذنّ في الحطمة ولم يقل (جهنم) أو (النار). وقال في (المدَّثر): ﴿سأصليه سَقَر، وفي (سأل) ﴿إنها لظى، وفي (القارعة) ﴿فأمه هاوية ـ لمراعاة فواصل كل سورة.

﴿الثامن عشر: اختصاص كل المشتركين بموضع نحو ﴿وليذكر أولو الألباب؛ وفي سورة طه ﴿إن في ذلك لآيات لأولي النهى.

﴿التاسع عشر: حذف المفعول نحو ﴿فأمـا من اعطى واتقى ـ ما ودّعك ربك وما قلى. ومنه حذف متعلق أفعل التفضيل نحو ﴿يعلم السر وأخفى، ﴿خير وأبقى.

﴿العشرون: الاستغناء بالإفراد عن التثنية نحو ﴿فلا يخرجنّكما من الجنة فتشقى.

﴿الحادي والعشرون: الاستغناء به عن الجمع نحو ﴿واجعلنا للمتقين إماماً ـ ولم يقل ﴿أئمة كما قال: ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، ﴿إن المتقين في جنّات ونهر أي أنهار.

﴿الثاني والعشرون: الاستغناء بالتثنية عن الافراد نحو ﴿ولمن خـاف مقام ربه جنتان. قال الفراء: أراد جنة كقوله: ﴿فإن الجنة هي المأوى ـ فثنّى لأجل الفاصلة. وقال أيضاً الفراء: والقوافي (هنا الفواصل) تحتمل من الزيادة والنقصان ما لا يحتمله سائر الكلام. ونظير ذلك قول الفراء أيضـاً في قوله تعالى ﴿إذا نبعث أشـقاها فإنهما رجلان؛ ولم يقـل ﴿أشقياها للفاصلة.

﴿الثالث والعشرون: اطلاق الاثنين على الجمع لأجل الفاصلة. ثم قال: وهذا غير بعيد. قال: وانما عاد الضمير بعد ذلك بصيغة التثنية: ﴿ذواتا أفنان مراعاة للفظ.

﴿الرابع والعشرون: الاستغناء بالجمع عن الأفراد نحو ﴿لا بيع فيه ولا خلال أي (ولا خلة) كما في الآية الأخرى ـ وجمع مراعاة للفاصلة.

﴿الخامس والعشرون: اجراء غير العـاقل مجرى العاقل نحو ﴿رأيتهم لي ساجدين، ﴿كلُ في فلك يسجون ـ مراعاة للفاصلة.

﴿السادس والعشرون: إمالة ما لا يمال، كآي طه والنجم.

﴿السابع والعشرون: الاتيـان بصيغة المبالغة، كقدير وعليم، مع ترك ذلك في نحـو ﴿هو القادر و﴿عالم الغيب. ومنه ﴿ما كان ربك نسِيّا.

﴿الثامن والعشرون: إيثار بعض أوصاف المبالغة على بعض، نحو ﴿إن هذا لشيء عُجاب أوثر على (عجيب) لذلك ـ مراعاة للفاصلة.

﴿التاسع والعشرون: الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه نحو ﴿ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً، وأجل مسمى ـ مراعاة للفاصلة.

﴿الثلاثون: ايقاع الظاهر موقع المضمر نحو ﴿والذين يمسكون بالكتاب، وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجر المصلحين. وكذا آية (الكهف).

﴿الحادي والثلاثون: وقوع مفعول موقع فاعل، كقوله: ﴿حجاباً مستوراً، ﴿كان وعده مأتيّاً أي (سائراً) و(آتياً).

﴿الثاني والثلاثون: وقوع فاعل موقع مفعول نحو ﴿عيشة راضية، ﴿ماء دافق.

﴿الثالث والثلاثون: الفصل بين الموصوف والصفة نحو ﴿أخرج المرعى، فجعله غثاء، أحوى. إن اعراب (أحوى) صفة لمرعى أي حالاً. (والأصل: أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء).

﴿الرابع والثلاثون: ايقاع حرف مكان غيره نحو ﴿بأن ربك أوحى لها، والأصل (إليها).

﴿الخامس والثلاثون: تأخير الوصف غير الأبلغ عن الأبلغ. ومنه ﴿الرحمان الرحيم، ﴿رؤوف رحيم لأن الرأفة أبلغ من الرحمة. (وزيادة البنـاء في ﴿الرحمان تجعله ابلغ من ﴿الرحيم).

﴿السادس والثلاثون: حذف الفاعل ونيابة المفعول نحو ﴿وما لأحد عنده من نعمة تُجزى.

﴿السابع والثلاثون: إثبات هاء السكت نحو ﴿ماليه، ﴿سلطانيه، ﴿ماهيه.

﴿الثامن والثلاثون: الجمع بين المجرورات نحو ﴿ثم لا تجد لك به علينا تبيعاً. فإن الأحسن الفصل بينها، إلا أن مراعاة الفاصلة اقتضت عدمه وتأخير ﴿تبيعاً.

﴿التاسع والثلاثون: العدول عن صيغة الماضي الى صيغة الاستقبال نحو ﴿فريقاً كذبتم، وفريقاً تقتلون ـ والأصل (قتلتم).

﴿الأربعون: تغيير بنية الكلمة نحو ﴿طور سينين والأصل سيناء؛ ونحو ﴿سلام على الياسين والأصل (الياس).

﴿تنبيه: قال ابن الصائغ: لا يمتنع في توجيه الخروج عن الأصل، في الآيات المذكورة أمور أخرى، مع وجه المنـاسبة، فإن القرآن العظيم ـ كما جاء في الأثر ـ لا تنقضي عجائبه.

فيحق لنا أن نقول إن خروج القرآن على الأصل اللغوي، في قواعد اللغة كلها، مراعاة للفاصلة، هل هو من الإِعجاز في اللغة؟ يقولون: ﴿ان عجائبه لا تنقضي. فهل غرائب القرآن وعجائبه التي بها يخرج عن أصول اللغة، هي من الإِعجاز في اللغة؟ وتسخير اللغة في بنيتها، وقواعد صرفها ونحوها، ليس من الإِعجاز في فصاحة اللغة، وبلاغة بيانها. ويقولون: ان الفاصلة تحتمل ما لا يحتمله سائر الكلام. فأجازوا للقرآن ما يجوز في الشعر، وما هو بشعر. والفاصلة فيه قد تأتي متقاربة أو متماثلة، وقليلاً ما مطابقة كما في السجع. فهل يكون في فواصله أدنى من السجع؟ إن مخالفة الأصول في لغته ونظمه مراعاةً للفاصلة، هل هي من الإِعجاز في فصاحة اللغة؟

بحث تاسع

﴿فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز

(الإتقان ١: ١٣٤)

ذكر السيوطي (الإتقان ١: ٤٨)، على حديث الأحرف السبعة، قولهم فيه: ﴿إن المراد سبع لغات. والى هذا ذهب أبو عبيد، وثعلب، والزهري، وآخرون. واختاره ابن عطية. وصححه البيهقي في (الشعب) وتعقّب: بأن لغات العرب أكثر من سبعة؛ وأجيب بأن المراد أفصحها.

أولاً: الاختلاف في تعيين اللغات العربية التي نزل بها القرآن

﴿فجاء عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات: منها خمس بلغة العجز من هوازن ويقال لهم ﴿عليا هوازن. ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم يعني بني دارم.

﴿وأخرج أبو عبيد من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الدار واحدة، يعني ان خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم.

﴿وقال ابو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر. واستنكر ذلـك ابن قتيبة وقال: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش، ورده بقـوله ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ٣٤ ، فعلى هذا تكون اللغات السبع في بطون قريش. وبذلك جزم أبو علي الأهوازي.

﴿وقال أبو عبيد: ليس المراد ان كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع مفرقة فيه: فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن وغيرهم. قال: وبعض اللغات أسعد به من بعض، وأكثر نصيباً.

﴿وقيل: نزل بلغة مضر خاصة، لقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر. وعيّن بعضهم ـ فيما حكاه ابن عبد البِر ـ السبع من مضر: أنهم هذيل وكناية وقيس وضبة وتيم الرياب وأسد بن خزيمة وقريش. فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات.

﴿ونقل ابو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أُنزل القرآن أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء. ثم أبيح للعرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، على اختلافهم في الألفاظ والأعراب؛ ولم يكلَّف أحد منهم الانتقال عن لغته الى لغة أخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد.

والنتيجة الحاسمة بواقع اختلاف اللغات في القرآن:

أوّلاً: ان قبائل العرب كانت تتكلم لغات ﴿مختلفة في الألفاظ والاعراب.

ثانياً: ﴿ان القرآن نزل بلغة قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ـ وهذه هي لغة الشعر الجاهلي التي وحّدتها زعامة قريش والحج الى كعبة مكّة وأسواق العرب، فيها ـ ثم أبيح للعرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، على اختلافهم في الألفاظ والاعراب وهكذا يكون حديث نزول القرآن على سبعة أحرف انما هو تسجيل واقع القرآن بعد نزوله بلغة قريش، لا تنزيل على سبع لغات مختلفات.

ثالثاً: هذا الواقع في توزّع القرآن على لغات العرب جعل ﴿اللغات السبع مفرقة فيه: فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن وغيرهم.

رابعاً: إن تفرق القرآن على لغات العرب على صحة حرفه المنزل؛ وشبهة على إِعجاز حرفه المنقول في الحرف العثماني.

ويأتي ﴿فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز تأييداً لذلك.

ثانياً: ﴿فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز

بعد تصفية القرآن، وكتابته بلغة قريش، كما أمر عثمان عند جمعه وتدوينه، نجد في الحرف العثماني كلمات وتعابير غير حجازية. ونحن ننقلها عن تحقيق السيوطي لها في (الإتقان ١: ١٣٤):

١) بلغة اليمن

وأنتم سامدون: الغناء ـ الأرائك جمع أريكة: السرير ـ ولو ألقى معاذيره: ستوره ـ لا وزر: لا حيل ـ وزوجناهم بحور: حوراً ـ لو أردنا أن نتّخذ لهواً: امرأة ـ أتدعون بعلاً: رباً ـ المرجان: صغار اللؤلؤ ـ فنقبوا: هربوا ـ سيل العرم: المسناة.

٢) بلغة كنانة

السفهاء: الجهال ـ خاسئين: صاغرين ـ شطره: تلقاءَه ـ لا خلاق: لا نصيب ـ وجعلكم ملوكاً: أحراراً ـ قبيلاً: عياناً ـ معجزين: سابقين ـ يعزب: يغيب ـ تركنوا: تميلوا ـ فجوة: ناحية ـ موئلاً: ملجأً ـ مُبلسون: آيسون ـ دحوراً: طرْداً ـ الخرّاصون: الكذابون ـ أسفاراً: كتباً ـ أُقّتتْ: جُمعت ـ كنود: كفور للنعم.

٣) بلغة هذيل

الوزر: ولد الولد ـ الرجز: العذاب ـ شروا: باعوا ـ عزموا الطلاق: حقّقوا ـ صلداً: نقيّاً ـ آناء الليل: ساعاته ـ فورهم: وجههم ـ مدراراً: متتابعاً ـ يجعل لكم فرقاناً: مخرجاً ـ حَرَض: حض ـ عيلة: فاقة ـ وليجة: بطانة ـ انفروا: اغزوا ـ السائحون: الصائمون ـ العنت: الإثم ـ فاليوم ننجيك ببدنك: بدرعك ـ غمة: شبهة ـ دلوك الشمس: زوالها ـ شاكلته: ناحيته ـ رجماً بالغيب: ظنا ـ لن أجد (تجد) من دونه ملتحدا: ملتجئاً ـ يخاف هضماً: نقصاً ـ هامده: مغبرة ـ واقصد في مشيك: أسرع ـ الاجداث: القبور ـ ثاقب: مضيء ـ بالهم: حالهم ـ يهجعون: ينامون ـ ذنوبا: عذابا ـ مرغماً: منفسخاً ـ على ذات ألواح ودسر: المسامير ـ في خلق الرحمان من تفاوت: عيب ـ أرجائها: نواحيها ـ أطواراً: ألوانا ـ برداً: نوماً ـ واجفة: خائفة ـ مَسْغَبة: مجاعة ـ المبذَر: المسرف.

٤) بلغة حمير

في الكتاب مسطوراً: مكتوباً (وهم يسمّون الكتاب: اسطوراً) ـ تَفْشلا: تجبُنا ـ عثر: اطلع ـ سفاهةً: جنوناً ـ زيّلنا: ميزنا ـ مرجواً: حقيراً ـ السقاية: الإناء ـ مسنون: منتن ـ إمام مبين: كتاب ـ ينفضون: يحركون ـ حسبانا: برداً ـ من الكبر عتيّاً: تحولاً ـ مأرب: حاجات ـ خرْجاً: جعلاً ـ غراماً: بلاءً ـ الصرح: البيت ـ أنكر الأصوات: أقبحها ـ يَتِرَكُم: ينقصكم ـ مدينين: محاسبين (فالدين بلغته معناه الحساب) ـ فأخذهم أخذة رابية: شديدة ـ وبيلاً: شديداً.

٥) بلغة جرهم

بحبّار: بمسلّط ـ مرض: رنا ـ القطر: النحاس ـ محشورة: مجموعة ـ معكوفاً: محبوساً ـ فباؤوا: استوجبوا ـ شقاق: ضلال ـ خيراً: مالاً ـ كدأب: كأشباه ـ أدنى ألاّ تعولوا: تميلوا ـ يغنوا: يتمتعوا ـ شرد: نكل ـ أراذلنا: سفلتنا ـ عصيب: شديد ـ لفيفاً: جميعاً ـ محسوراً: منقطعاً ـ حدب: جانب ـ الخلال: السحاب ـ الودق: المطر ـ شرذمة: عصابة ـ ريع: طريق ـ ينسلون: يخرجون ـ شوبا: مزجاً ـ الحبك: الطرائق ـ سور: الحائط.

٦) بلغة أزد شنؤة

لا شية: لا وضح ـ العَضْل: الحبس ﴿(فلا تعضلوهن: فلا تحبسوهنّ ـ أمة: سنين ـ الرس: البئر ـ كاظمين: مكروبين ـ غسلين: الحار الذي تناهي حره ـ لوّاحة: حراقة.

٧) بلغة مذحج

رفث: الجماع ـ مقيتاً: مقتدراً ـ بظاهر من القول: بكذب ـ الوصيد: الفناء ـ حقباً: دهراً ـ الخرطوم: الأنف.

٨) بلغة خثعم

تسيمون: ترعون ـ مريج: منتشر ـ صفت: مالت ـ هلوعاً: ضجوراً ـ شططا: كذباً.

٩) بلغة قيس عيلا

نحلة: فريضة ـ حرج: ضيق ـ لخاسرون: مضِيعون ـ تفندون: تستهزئون ـ صياصيهم: حصونهم ـ تجرون: تنعمون ـ رجيم: ملعون ـ يَلِتـْكُم: ينقصكم.

١٠) بلغة سعد العشيرة

بنين وحفدة: أختان ـ كُلٌ على مولاه: عيال.

١١) بلغة كنده

فجاجاً: طرقاً ـ وبُسّت الجبال بَسّاً: فتّتت ـ تبتئس: تحزن.

١٢) بلغة حضرموت

ربيّون: رجال ـ دمّرنا: اهلكنا ـ لُغوب: إعياء ـ منسأته: عصاه.

١٣) بلغة غسان

طفقاً: عمداً ـ بئيس: شديد ـ سيء بهم: كرههم.

١٤) بلغة مزينه

لا تغلوا: لا تزيدوا

١٥) بلغة لخم

إملاق: جوع ـ ولتعلُنّ: تقهرنَّ.

١٦) بلغة جزام

فجاسوا خلال الديار: تخلّلوا الأزقة

١٧) بلغة نبي حنيفة

العقود: العهود ـ الجناح: اليد ـ الرهب: الفزع.

١٨) بلغة اليمامة

حصرت: ضاقت.

١٩) بلغة سبأ

تميلون ميلاً عظيماً: تخطئون خطأً بيّناً ـ تبرنا: أهلكنا

٢٠) بلغة سليم

نكص على عقبيه: رجع.

٢١) بلغة عمارة

الصاعقة: الموت

٢٢) بلغة طيء

ينعق: يصيح ـ رغداً: خصباً ـ سفه نفسه: خسرها ـ يسن: يا إنسان

٢٣) بلغة خزاعة

أفيضوا: انفروا ـ الافضاء: الجماع

٢٤) بلغة عمان

بوراً: هلكي ـ خبالاً: غيّاً ـ نفقاً: سرباً ـ حيث أصاب: أراد ـ اعصر خمراً: (وهم يسمون العنب خمراً).

٢٥) بلغة تميم

أمد: نسيان ـ بغياً من عند أنفسهم: حسداً

٢٦) بلغة أنمار

طائره: عمله ـ أغطش: أظلم

٢٧) بلغة أشعر

لأحتنكنّ: لأستأصلنَّ ـ تارة: مرةً ـ اشمأزت: مالت ونفرت

٢٨) بلغة الأوس

لينة: النخل

٢٩) بلغة الخزرج

ينفضوا: يذهبوا

٣٠) بلغة مدين

فافرقْ بيننا: اقضِ

٣١) بلغة بلى

الرجز: العذاب

٣٢) بلغة ثقيف

طائف من الشيطان: نخسة ـ العول: الميل ـ الأحقاف: الرمال.

٣٣) بلغة همدان

الريحان: الرزق ـ العيناء: البيضاء ـ العبقري: الطنافس.

٣٤) بلغة نصر بن معاوية

الختّار: الغدار

٣٥) بلغة عامر بن صعصعة

بنين وحفدة: الخدم

٣٦) بلغة عك

الصور: القرن.

٣٧) بلغة هوازن

أفلم ييأس الذين آمنوا: أفلم يعلموا

٣٨) بلغة بني عيسى

لا يلتكم: لا ينقصكم

٣٩) بلغة عذرة

اخسئوا: اخزوا.

ثالثاً: نتائج هذا الواقع القرآني

الأولى ما قاله أبو بكر الواسطي في كتابه (الارشاد): ﴿في القرآن من اللغات العربية خمسون لغة: لغة قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس عيلان وجرهم واليمن وأزدشنوءة وكندة وتميم وحمير ومدين ونجم وسعد العشيرة وحضرموت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسان ومذحج وخزاعة وغطفان وسبأ وعمان وبنو حنيفة وثعلب وطي وعامر بن صعصعة وأوس ومزينة وثقيف وجذام وبلى وعذرة وهوازن والنمر واليمامة.

﴿ومن غير العربية: الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط.

نقول: قد تكون بعض تلك الألفاظ قد دخلت فصحى قريش بتفاعل اختلاط القبائل. ولكن بقاء هذه اللغات العربية غير القرشية في الحرف العثماني، بعد تصفية القرآن وتدوينه بلغة قريش، دليل على أن النص المنزل قد تعدل بتلاوة القرآن بجميع لغات العرب قبل تدوينه.

ونعرف من الواسطي ان ﴿كلام قريش سهل ليـن واضح؛ وكلام العرب وحشي غريب. ومن الأمثلة التي ينقلونها عن اللغات العربية التي دخلت القرآن نعرف انه دخله كلام وحشي غريب، ليس من فصاحة اللغة القرشية بشيء.

ولقد روي عن ابن عباس، ترجمان القرآن أنه قال: كل القرآن أفهمه إلا أربعاً: غسلين، وحنانا، وأواه، والرقيم. وكان أبو بكر يقول: أي سماء تظلّني، وأي أرض تقلني، إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. ونُقل عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر ﴿وفاكهة وأبـَّا فقال: هذا الفاكهة عرفناه، فما الأب؟ ثم رجع الى نفسه فقال: ان هذا لهو الكلف، يا عمر. ومنه أيضاً ما قيل: ان عمر سأل عن معنى ﴿التخوف في قوله ﴿أو يأخذهم على تخوّف! فيقوم له رجل من هذيل يفسر له الكلمة ويقول: التخوّف عندنا: التنقّص ٣٥ .

ان الصحابة ـ وهم أهل الحجاز وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن؛ وكانوا اعلم الناس بما جاء فيه لملازمتهم للنبي واخذهم عنه، ولأن لهجتهم هي لهجته ـ لم يفهموا بعض الغريب في آيات الكتاب ٣٦ . وهذا برهان قاطع أنه دخل على النص المنزل القرشي من كلام العرب الوحشي الغريب، عند قراءته بلغاتهم قبل تدوينه. ولم تأت التصفية العثمانية عليه كله. فبقي بعضه شبهة على فصاحته.

الثانية ما قاله ابن عبد البر في (التمهيد): قول مَن قال نزل بلغة قريش معناه عندي الأغلب، لأن غير لغة قريش موجودة في جميع القراءات، من تحقيق الهمزة ونحوها، وقريش لا تهمز.

﴿وقال الشيخ جمال الدين بن مالك: أنزل الله القرآن بلغة الحجازيين إلاّ قليلاً، فانه نزل بلغة التميميّين كالادغام في ﴿من يشاقّ الله وفي ﴿من يرتد منكم عن دينه فإن ادغام المجزوم لغة تميم، ولهذا قلَّ، والفك لغة الحجاز ولهذا كثر.

﴿وقد أجمع القراء على نصب ﴿إلاّ اتّباع الظن لأن لغة الحجازيين التزام النصب في المنقطع، كما أجمعوا على نصب ﴿ما هذا بشراً لأن لغتهم اعمال (ما). وزعم الزمخشري في قوله تعالى: ﴿قل لا يعلم مَن في السموات والأرض الغيب الا اللهُ أنه استثناء منقطع جاء على لغة بني تميم ٣٧ .

تلك براهين ثلاثة على ان غير لغة قريش الفصحى دخلت القرآن وبقيت فيه بعد التصفية العثمانية.

والنتيجة الحاسمة ان القرآن وقع فيه ما ليس بلغة الحجاز. وهذا شبهة كبرى على صحته وعلى فصاحة لغته القرشية.

بحث عاشر

﴿فيما وقع فيه بغير لغة العرب

(الإتقان ١: ١٣٦)

بدأ السيوطي بحثه بالخلاف في وقوع الألفاظ الأعجمية في القرآن، فقال: ﴿اختلفت الأئمة في وقوع المعرَّب في القرآن. فالأكثرون، ومنهم الشافعي وابن جرير (الطبري) وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر (الباقلاني) وابن فارس، على عدم وقوعه فيه، لقوله تعالى ﴿قرآناً عربيّاً... وذهب آخرون الى وقوعه فيه، وأجابوا عن قوله تعالى قرآناً عربياً بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيّاً.. وأقوى ما رأيته للوقوع ـ وهو اختياري ـ ما أخرجه ابن جرير قال: في القرآن من كل لسان...

﴿وقال ابن سلام ـ بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء، والمنع عن أهل العربية ـ والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعاً. وذلك ان هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء؛ لكنها وقعت للعرب فعرّبتها بألسنتها، وحوّلتها عن ألفاظ العجم الى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل بها القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب: فمن قال أنها عربية فهو صادق؛ ومن قال أعجمية فصادق.

أوّلاً: جدول الكلمات الأعجمية في القرآن

﴿وهذا سرد الألفاظ الواردة في القرآن من ذلك، مرتبة على حروف المعجم:

أباريق: فارسية. الابريق معناه طريق الماء، أو صب الماء على هينة ـ أبّ: هو الحشيش بلغة أهل الغرب ـ ابلعي ماءَك: بالحبشية أي ازدرديه؛ اشربي بلغة الهند ـ اخلد: أخلد الى الأرض: ركن بالعبرية ـ الأرائك: السرر بالحبشية ـ إذ قال إبراهيم لأبيه آزر: قد يكون علماً. وقد يكون غير علم، وهي بلغتهم: آزرُ، يا مخطئ ـ أسباط: بالعبرية كالقبائل بلغة العرب ـ استبرق: الديباج الغليظ بلغة العجم ـ أسفار: الكتب، بالسريانية. أو بالنبطية ـ إصْرِى: عهدي، بالنبطية ـ أكواب: أكواز، بالنبطية؛ وانها جرار ليست لها عرى ـ إل: اسم الله تعالى بالنبطية ـ أليم: موجع، بالزنجية، أو بالعبرانية ـ إناه: نضجه، بلسان أهل المغرب؛ بلغة البربر ـ حميم آن: هو الذي انتهي حرّه بها، بلغة البربر ـ من عين آنية: أي حارة بها، بلغة البربر ـ أوّاه: الموقن، بلسان الحبشة؛ أو الرحيم؛ الدعاء، بالعبرية ـ أوّاب: المسبح، بلسان الحبشة ـ أوّبي معه: سبحى، بلسان الحبشة ـ الجاهلية الأولى؛ في المكّة الآخرة: بالقبطية، والقبط يسمون الآخرة: الأولى؛ والأولى: الآخرة ـ بطائنها: ظواهرها بالقبطية. وقوله ﴿بطائنها من استبرق جمع لغتين أجنبيتين ـ كيل بعير: أي كيل حمار بالعبرية؛ والبعير كل ما يُحمل عليه ـ بيع: البيعة والكنيسة جعلها بعض العلماء فارسيتين ٣٨ ـ تنّور: فارسي معرّب ـ وليتبروا تتبيرا: تبره، بالنبطية ـ فناداها من تحتها: أي بطنها، بالنبطية ـ الجبْت: الشيطان، بالحبشية ـ جهنم: قيل عجمية؛ وقيل فارسية؛ وقيل عبرانية. أصلها كهنام ـ حرم: وجب بالحبشية ـ حصب جهنم: حطب جهنم بالزنجية ـ وقولوا: حِطّة: معناه قولوا: صواباً، بلغتهم العبرية ـ وحواريون: غسّالون بالنبطية. وأصله: هوارى ـ حوب: إثم بلغة الحبشة ـ دارست (درست): معناه قارأت (قرأت) بلغة اليهود ـ درّي: المضيء بالحبشية ـ دينار: بالفارسية ـ راعنا: سب بلغة اليهود (الأصل السرياني: رَعْنا أي أرعن) ـ ربّانيون: عبرانية أو سريانية (ومعناها العلماء) ـ ربّيون: سريانية ـ الرحمان: عبراني، وأصله بالخاء المعجمة ـ الرّس: عجمي، ومعناه البئر ـ الرقيم: اللوح بالرومية؛ وقيل الكتاب بها؛ أو الدواة بها ـ رمزاً: من المعرّب، وهو تحريك الشفتين بالعبرية ـ واترك البحر رهواً: سهلاً بلغة النبط؛ ساكناً بالسريانية ـ الروم: هو أعجمي، اسم لهذا الجيل من الناس ـ زنجبيل: فارسي ـ السجلّ: بلغة الحبشة الرجل؛ السجل: الكتاب، فارسي معرب ـ بحجارة من سجّيل: بالفارسية، أولها حجارة وآخرها طين ـ سجين: غير عربي ـ سرادق: فارسي معرب، وأصله ﴿سرادر وهو الدهليز. والصواب انه بالفارسية ﴿سرابرده أي ستر الدار ـ سَرِيّاً: نهراً بالسريانية؛ بالنبطية؛ باليونانية ـ سَفَرة: قرّاء بالنبطية ـ سقر: أعجمية ـ وادخلوا الباب سجّداً: أي مقنّعي الرؤوس بالسريانية ـ سَكَراً: الخلّ، بلسان الحبشة. (أصله: شكَر بالعبرية أي المسكر) ـ سلسبيل: عجمى ـ سندس: رقيق الديباج بالفارسية؛ وهو معرب؛ وقيل بالهندية ـ والفيا سيدها لدى الباب: أي زوجها، بلسان القبط؛ ﴿ولا أعرفها بلغة العرب ـ طور سينين: الحسن، بلسان الحبشة. (انه قلب لاسم سيناء، جبل موسى) ـ سيناء: الحسن بالنبطية (علم لجبل موسى) شطر المسجد: تلقاءَه بلسان الحبش ـ شهر: انه بالسريانية ـ الصراط: الطريق بلغة الروم ـ فصرهنّ: فشققهن بالنبطية؛ قطعهن بالرومية ـ صلوات: بالعبرانية كنائس اليهود؛ وأصلها ﴿صْلوتا بالسريانية ـ طه: يا رجل، بالنبطية، أو بالحبشية ـ الطاغوت: هو الكاهن بالحبشية ـ طفقا: قصداً بالرومية ـ طوبى: اسم الجنة بالحبشية؛ وقيل بالهندية ـ الطور: الجبل بالسريانية، وقيل بالنبطية ـ طوى: معرب معناه ليلاً؛ وقيل هو رجل بالعبرانية ـ عبّدت بني إسرائيل: معناه قتلت بلغة النبط ـ جنات عدن: جنات الكروم، وأعناب بالسريانية؛ وقيل بالرومية ـ العَرِم: بالحبشية هي المسنات التي تجمع فيها الماء، ثم ينبثق ـ غسّاق: البارد المنتن بلسان الترك؛ المنتن بالطحارية ـ غيض: نقص بلغة الحبشة ـ فردوس: بستان بالرومية؛ وقيل الكرم بالنبطية وأصله فرداساً ٣٩ ـ فوم: الحنطة بالعبرية ـ قراطيس: القرطاس أصله غير عربي ـ القسط: العدل بالرومية ـ قسطاس: العدل بالرومية؛ الميزان بلغة الروم ـ قسورة: الأسد بالحبشية ـ قِطّنا: كتابنا بالنبطية ـ قفل: فارسي معرب ـ القملّ: الدبا، بلسان العبرية والسريانية، ﴿لا أعرفة في لغة أحد من العرب ـ قنطار: انه بالرومية اثنتاعشر ألف أوقية؛ بالسريانية ملء جلد ثور ذهباً أو فضة؛ بلغة البربر ألف مثقال؛ ثمانية آلاف مثقال بلسان أهل افريقية ـ القيوم: لا ينام بالسريانية ـ كافور: فارسي معرب ـ كفّر عنّا: امحُ عنا، بالنبطية أو بالعبرانية ـ كفلين: ضعفين بالحبشية ـ كنز: فارسي معرب ـ كوّرت: غوّرت بالفارسية ـ لِـيْنة: نخلة. ﴿قال الكلبى: لا أعلمها إلاّ بلسان يهود يثرب ـ متكأ: بلسان الحبش الترنّج. وقيل هو أعجمي ـ مرجان: أعجمي ـ مسك: فارسي ـ مشكاة: الكوّة بلغة الحبشة ـ مقاليد: مفاتيح بالفارسية. والاقليد والمقليد فارسي معرب ـ كتاب مرقوم: مكتوب بالعبرية ـ مزجاة: قليلة، بلسان العجم؛ وقيل بلسان القبط ـ ملكوت: الملك بلسان النبط. (وأصله بالسريانية ملكوتاً) ـ مناص: فرار بالنبطية ـ منسأة: العصا بلسان الحبشة ـ السماء مُنفطر به: ممتلئة به بلسان الحبشة ـ المُهْل: عكر الزيت بلسان أهل المغرب؛ وقيل بلغة البربر ـ ناشئة الليل: قيام الليل بالحبشة ـ نَ: فارسي أصله ﴿أنون ومعناه: اصنع ما شئت ـ هدْنا: تبْنا بالعبرانية ٤٠ ـ هود: اليهود، أعجمي ـ يمشون على الأرض هونا: حكماء بالسريانية، وقيل بالعبرانية ـ هيْتَ لك: هلمّ لك، بالقبطية؛ وقيل بالسريانية؛ وقيل بالحورانية؛ وقيل بالعبرانية وأصله: ﴿هيتلج أي تعالَ ـ وراء: أمام بالنبطية، وهي غير عربية ـ وردة: غير عربية ـ وزر: الحبل والملجأ بالنبطية ـ الياقوت: فارسي ـ لن يحور: لن يرجع، بلغة الحبشة ـ يسن: يا إنسان بالحبشية؛ وقيل: يا رجل بالحبشية ـ يصدّون. يضجّون بالحبشية ـ يصهر: ينضج بلسان أهل المغرب ـ اليمّ: البحر بالسريانية، وقيل بالقبطية ـ اليهود: أعجمي معرّب، منسوبون الى يهوذا بن يعقوب، بإهمال الدال.

وأنهى السيوطي بقوله: ﴿فهذا ما وقفت عليه من الألفاظ المعربة في القرآن، بعد الفحص الشديد سنين. ولم تجتمع قبلُ في كتاب قبل هذا.

ثانياً: تقييم هذا الواقع القرآني

فتلك نيّف ومائة كلمة أعجمية دخلت القرآن.

منها ما هو معّرب لأنه لا بديل به في العربية مثل دينار، ديباج، استبرق، سجيل، الخ. عربوه فاستعرب ودخل الفصحى.

ولكن منها ما هو دخيل، تستغني عنه العربية بأفصح منه، كقوله: ﴿ابلعي ماءَك: اشربي؛ ﴿أسفار: كتب؛ ﴿إصْري عهدي؛ ﴿إنـاه: نضجه؛ ﴿من عين آنية: حـارة؛ ﴿أوّبي معه: سبحي؛ ﴿الجبْت: الشيطان؛ ﴿حصب: حطب؛ ﴿حوب: اثم؛ ﴿درّي: مضيء؛ ﴿الرس: البئر؛ ﴿الرقيم: الكتاب؛ ﴿مرقوم: مكتوب؛ ﴿طه: يا رجل؛ ﴿يسن: يا إنسان؛ ﴿غسّاق: المنتن؛ ﴿فوم: حنطة؛ ﴿قسورة: الأسد ـ وكم له من مرادفات في العربية! ـ ﴿لينة: نخلة؛ ﴿مشكاة: كوّة؛ ﴿منسأة: عصا؛ ﴿ناشئة الليل: قيام الليل؛ ﴿لن يحور: لن يرجع؛ ﴿يصدّون: يضجّون؛ ﴿يصهر: ينضج؛ الخ...

ومنهـا ما يشوّش المعنى بحرفه العربي، كقـوله: ﴿الجاهلية الأولى الى الآخـرة؛ ﴿عبَّدت بني إسرائيل: قتلت؟! ﴿دخلوا البـاب سجّداً أي مقنّعي الرؤوس؛ ﴿فناداها من تحتها: أي من بطنها! ﴿وقولوا: حِطّة أي صواباً؛ ﴿سكراً ورزقاً حسناً أي مسكراً ورزقاً حسناً؛ ﴿فوم: الحنطة؛ ﴿قطّناً: كتابنا! ﴿كفّر عنا أو ﴿كفّر عنهم: محا ـ فالله تعالى يمحو الإثم ولا يكفّر عنه! ﴿كيل بعير أي حمار! الخ...

ومنها ما يزال مستغلقاً لا يُعلم تأويله، مثل سجّين، حَنان، أبّ...

ثالثاً: النتائج القائمة على هذا الواقع

والنتائج من هذا الواقع القرآني أنه أدخل تعابير أعجمية كان بغنى عنها في العربية. وهذا الكلِم الدخيل ليس من الفصاحة العربية في شيء.

والسؤال المتبادر الى الذهن: ما دخل العربية قبل القرآن فاستعرب؛ أو ما أدخله القرآن فاستعرب؛ وكان كلاهما فصيحاً في العربية، فلا بأس به. أما الكِلم الدخيل، فمن أين مصدره؟ له مصدران لا ثالث لهما: إمَّا دخل الدخيل القرآن قبل تدوينه، لمّا امتد الفتح الإسلامي الى الأقطار ـ وهذا شبهة على سلامة النص القرآني وإِعجازه اللغوي. وإمّا استورده النبي الأمّي من أسفاره وأقحمه، على حرفه الأعجمي ـ ليبهر الناس بعلمه الواسع في لغات الأعاجم.

والنتيجة الحاسمة أن ما هو دخيل من اللغات بغير لغة الحجاز، وما هو دخيل من غير لغة العرب، هو برهان على علم ﴿النبي الأمّي بلغات العرب، ولغات الأعاجم؛ فليس هو أمّيا على الإطلاق واقحام هذا الدخيل شبهة قائمة على فصاحة لغة القرآن.

وقد حفظ لنا التاريخ مقالة ابن سنان الخفاجي ٤١ ـ وهو أمير وأديب وشاعر اندلسي ـ يردّ بها على (إِعجاز القرآن) للرماني الذي يرى ان إِعجاز القرآن راجع إلى فصاحته وبلاغته وتلاؤم نظمه. فأجابه: ﴿ولا فرق بين القرآن وبين فصيح الكلام المختار في هذه القضية... ومن رجع الانسان الى نفسه، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار، وجد أنّ في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه... ولعلَّ أبا الحسن (الرماني) يتخيّل أن الإِعجاز لا يتم إلا بهذه الدعوى الفاسدة. والأمر، بحمد الله، اظهر من ان يعضده بمثل هذا القول الذي ينفر عنه كل من علق من الأدب بشيء، أو عرف من نقد الكلام طرفاً.

لذلك فابن سنان الخفاجي يقول بالصرفة: ﴿واذا عدنا الى التحقيق، وجدنا وجه إِعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك.

ان قول ابن سنان من مغالاة القائلين بالصرفة. لكن، وان كان القرآن أفصح كلام العربية على الإطلاق، فواقعه لا يشهد بأن إِعجازه اللغوي معجزة إلهية.

خاتمة

القول بمعجزة لغوية في القرآن إنّما هو مغالاة

فتلك الابحاث العشرة، في فصاحة لغة القرآن فيما وقع فية بغير لغة العرب، وفيما وقع فيه بغير لغة الحجاز، وما هو خروج على وضع اللغة في فواصله، وما هـو خروج في ﴿أفراده على المعنى المتواتر فيه، وما فيه من وجوه ونظائر تتعدد فيها الألفاظ الى معان مختلفة، وتتعدد الوجوه الى معان كثيرة متشابهة، ومعرفة محمد بلغات العرب ولغات العجم، وما في واقع القرآن من تعارض بين نزوله بلغة قريش، وقراءَته على سبعة أخرى، وما في أسماء القرآن نفسه من اقتباس، كلها تؤيد الواقع القرآني بان التحدّي بالإِعجاز اللغوي كمعجزة له لا أصل له في القرآن، وكلها شبهات قائمة على إِعجاز القرآن في فصاحة لغته. أجل إن غرائبه في غريب القرآن لا تنتهي: وهل الغريب في اللغة هو من الفصيح فيها؟


١. كتاب الحيوان ٤: ٩٠.

٢. محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد، ص ١٠٣.

٣. عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١ : ٣٦ و ١٢٥.

٤. محمد زغلول سلام: أثر القرآن، ص ٣٥٧.

٥. السيوطي: الإتقان ٢ : ١١٧.

٦. صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص ١١.

٧. عن القرآن ، ص ١٠٠.

٨. صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن، ص ١٣.

٩. صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن، ص ١٢.

١٠. كلمة ﴿مصحف هي أيضاً دخيلة من المسيحية الحبشية: ﴿أخرج ابن اشته... ثم ائتمروا ما يسمونه. فقال بعضهم: سموه السفر. قال: ذلك تسمية اليهود؛ فكرهوه. فقال: رأيت مثله بالحبشة يُسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف (الإتقان ١ : ٥٩). ففي اسماء القرآن يقتبس النبي وتقتبس صحابته عن النصارى.

١١. محمد صبيح: عن القرآن، ص ١٠٠.

١٢. محمد صبيح: عن القرآن، ص ٩٦.

١٣. الإتقان ١ : ٥٠ قابل دروزة: القرآن المجيد، ص ٢٦٩! ومحمد صبيح: عن القرآن ، ص ١٠٩.

١٤. الإتقان ١ : ٦١.

١٥. الإتقان ١ : ٦١.

١٦. العقاد: مطلع النور، ص ٣٩ ـ ٤٤ ـ في مجموعة: العبقريات الإسلامية.

١٧. عن القرآن، ص ١٠١ .. الخ.

١٨. الأدب الجاهلي ، ص ٢٩ .. الخ.

١٩. عن القرآن، ص ١١٣.

٢٠. محمد صبيح: عن القرآن، ص ١١٠.

٢١. في كتابنا الأول (إِعجاز القرآن) أفردنا فصلاً للشبهة القرآنية التاريخية القائمة على تنزيل القرآن وتدوينه بلغة قريش، وعلى قراءَته في المصحف العثماني بلغة نجد والشعر الجاهلي. فنقل حرف القرآن من لغة قريش الى لغة نجد والشعر الجاهلي شبهة ضخمة قائمة على صحة الحرف العثماني وبالتالي على صحة إِعجازه اللغوي (ف ٤ : ١٦ ـ ٢١).

٢٢. عن القرآن، ص ١١٦.

٢٣. عن القرآن، ص ١١٦ ـ ١١٧.

٢٤. عن القرآن، ص ١١٧.

٢٥. راجع فصلاً فيه في كتابنا (إِعجاز القرآن)، ص ١٣٤ ـ ١٣٧.

٢٦. راجع كتابنا (إِعجاز القرآن)، ص ١٤٩ ـ ١٥١.

٢٧. الإتقان ٢ : ١٧٩.

٢٨. الإتقان ٢ : ١٨٤.

٢٩. قد نقلنا هذا الفصل في كتابنا الأول (إِعجاز القرآن)، ص ١٤٧. وننقله هنا لتمام الفائدة.

٣٠. هنا وهم القائل في تفسيرة، ففي قصة طالوت أي شاول وتابوت العهد، إن ﴿السكينة نقل حرفي للتعبير اللغوي العبري ﴿شخينة المراد بها سكنى الله في التابوت كما تدل القرينة ﴿فيه سكينة من ربكم.

٣٠. لقد وهم القائل فإن الذكر أي كتاب موسى نزل قبل الزبور.

٣٢. نترك هذا لعلم طلاب الفلك. وخلافهم على معنى (بعد) يأتي من تعارض الآيتين في اولية خلق الأرض على السماء.

٣٣. هل ينطبق ذلك على قوله: ﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به (الشورى ١٣)؟

٣٤. وقوم محمد هم العرب، لا قريش وحدها. لأنه ابن اسماعيل جد العرب المستعربه في الحجاز.

٣٥. السيوطي: الإتقان ١ : ١٩٦.

٣٦. محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي. ص ٢٨.

٣٧. الإتقان ١ : ١٣٦.

٣٨. لقد وهموا في ذلك: فالبيعة سريانية؛ والكنيسة عبرانية.

٣٩. والأصح: جنة باليونانية.

٤٠. والأصح: اهتدينا؛ فهم يشتقون اسمهم من الهدى، والهدى من اسمهم.

٤١. عن عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١ : ٣٤٧.

الفصل الرابع

إِعجاز القرآن في بيان معانيه

﴿نور وكتاب مبين (المائدة ١٥)

﴿ذكر وقرآن مبين (يسن ٦٩)

﴿تلك آيات الكتاب، وقرآن مبين (الحجر ١)

توطئة

واقع القرآن في البيان

إن شهادة القرآن لبيانه متعارضة .

١ـ فهو يعلن بتواتر: ﴿وانه لتنزيل رب العالمين... بلسان عربي مبين (الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٥؛ ﴿وهذا لسان عربي مبين (النحل ١٠٣)؛ فهو ﴿قرآن مبين (الحجر ١)،﴿وكتاب مبين (النمل ١). فهو أعجز ممّا أنتجت العربية في شعرها: ﴿وما علمناه الشعر وما ينبغي له: إنْ هو إلا ذكر وقرآن مبين (يسن ٦٩).

٢ ـ لكن المبين لا يحتـاج الى تأويل، لأن معنـاه يسابق لفظه الى الادراك. فإن فيه ﴿آيات محكمات... وأخر متشابهات: فإمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ـ وما يعلم تأويله إلا الله (آل عمران ٧). إن التصريح فصيح: ما تشابه من القرآن بحاجة الى تأويل، ﴿وما يعلم تأويله إلا الله. وهذا التأويل لن يأتي الا في اليوم الآخر: ﴿هل ينظرون إلاّ تأويله؟ ـ يوم يأتي تأويله، يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءَت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نُردّ فنعمل غير الذي كنّا نعمل؟ (الأعراف ٥٣). وكتاب لا يعلم تأويله الا الله، ولا يكشف الله تأويله إلاّ في اليوم الآخر، فكيف يكون ﴿كتاباً مبيناً، ﴿بلسان عربي مبين؟

٣ ـ والكتاب المبين، بلسان عربي مبين، ليس بحاجة الى تأويل، ولا يكون متشابهاً. فهو يصرح بأنّ فيه آيات ﴿أخر متشابهات (آل عمران ٧). وقد يكون كله ﴿كتاباً متشابهاً (الزمر ٢٣). والآيات المحكمات غير الآيات المتشابهات في البيان. والكتاب المبين غير الكتاب المتشابه.

٤ ـ أجل في القرآن آيات بيّنات: ﴿بل هو آيات بيّنات (العنكبوت ٤٩)، فقد ﴿أنزلنا إليك آيات بيّنات (البقرة ٩٩)، بل قد ﴿أنزلناه آيات بيّنات (الحج ١٦). لكنها ﴿بيّنات من الهدى والفرقان (البقرة ١٨٥) اي، بحسب اصطلاحه، من الكتاب وتفصيله في الفرقـان. فقد ﴿آتينا عيسى ابن مريم البيّنات (البقرة ٨٧ و ٢٥٣)، ومن قبل ﴿جاءَهم موسى بالبيّنات (العنكبوت ٣٩؛ قابل البقرة ٩٢). فليس الإِعجاز في البيان ميزة انفرد بها القرآن على الإنجيل والتوراة: فقد ﴿أرسلنا رسلنا بالبيّنات (انظر الصف ٦)، وقد ﴿جاءَتهم رسلنا بالبيّنات (المائدة ٣٢؛ الأعراف ١٠١). لكن البيان القرآني فيه متشابه بحاجة الى تأويل، بسبب تعبيره المتشابه في البيان والتبيين .

نستدل على ذلك ببعض فصول من (الإتقان) للسيوطي، خاتمة المحققين في العصر الذهبي. منها ما يرجع الى بيان لفظه؛ ومنها ما يرجع الى بيان معناه .

بحث أوّل

﴿في معرفة إعرابه

(الإتقان ١: ١٨٠)

يقول: ﴿من فوئد (اعرابه) معرفة ـ المعنى، لأن الاعراب يميّز المعاني، ويوقف على أغراض المتكلمين

أوّلاً: تشابه النظم والمعنى

وان ﴿أول واجب عليه ان يفهم معنى ما يريد أن يعربه مفرداً أو مركباً قبل الاعراب، فإن فرع المعنى.

وقد تشابه قوله: ﴿وإن كان رجل يُوَرُث كلالةً (النساء ١٢). قال: ﴿انه يتوقف على المراد بها: فإن كان اسماً للميت فهو حالُ (يورث) خبر كان، أو صفة وكان تامة أو ناقصة وكلالة خبر. أو للورثة فهو على تقدير مضاف أي (ذا كلالة) وهو أيضاً حال أو خبر كما تقدم. أو للقرابة فهو مفعول لأجله.

وتشابه قوله: ﴿ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم (الحجر٨٧): ﴿ان كان المراد بالمثاني القرآن (فمِن) للتبعيض، أو الفاتحة، فلبيان الجنس.

وتشابه قوله: ﴿إلا أن تتقوا منهم تقاةً (آل عمران ٢٨): ﴿وإن كان بمعنى (الاتقاء) فهو مصدر، أو بمعنى (متقى) أي أمر يجب اتقاؤه فمفعول به، أو جمعاً كرماة فحال.

وتشابه قوله: ﴿والذي أخرج المرعى، فجعله غُثاء أحوى (الأعلى ٤ ـ ٥). قال الجلالان: ﴿فجعله بعد الخضرة (غثاء) جافاً هشيماً (أحوى) أسود يابساً. قال السيوطي: ﴿إن أريد به الأسود من الجفـاف واليبس فهو صفة (لغثاء)،أو من شدة الخضرة، فحال من المرعى.

وتشابه قوله: ﴿قالوا: يا شعيب، أصلاتك تأمرك أن نتركَ ما يعبد آباؤنا، أو نفعل في أموالنا ما نشاء (هود ٨٦) فظاهر اللفظ ﴿أو نفعل في أموالنا ما نشاء معطوف على ﴿أن نترك، وذلك باطل لأنه لم يأمرهم ان يفعلوا بأموالهم ما يشاؤون، وانما هو عطف على ما هو معمول للترك، والمعنى ان نترك ان نفعل ﴿وموجب الوهم المذكور (أن) والفعل مرتين وبينهما حرف العطف.

ثانياً: التعارض بين ظاهر اللفظ ومعناه

ومن موجب التشابه التعارض بين الظاهر والمعنى الباطن الذي تقتضيه الصناعة.

لذلك فقد تشابه قوله: ﴿وأنه أهلك عاداً الأولى، وثموداً فما أبقى (النجم٥٠ ـ ٥١). فقد تكون ثمود معطوفاً على عاد، وقد تكون مفعول (فما أبقى) مقدّماً على فعله، ﴿وهذا ممتنع لأن (ما) النافيه لها الصدر فلا يعمل ما بعدها في ما قبلها، بل هو معطوف على عاد، أو على تقدير (وأهلك ثموداً).

وتشابه قوله: ﴿لا عاصم اليوم من أمر الله (هود ٤٣)،﴿لا تثريب عليكم اليوم (يوسف ٩٢)، فالظاهر ﴿ان الظرف (اليوم) متعلق باسم (لا) وهو باطل، لأن اسم (لا) حينئذٍ مطول فيجب نصبه وتنوينه؛ وانما هو متعلق بمحذوف.

وتشابه قوله: ﴿فناظرة بـِمَ يرجع المرسلون (النمل ٣٥). فالظاهر ان (بـِمَ) متعلقه (بناظرة)، ﴿وهو باطل لأن الاستفهام له الصدر، بل هو يتعلق بما بعده.

وتشابه قوله: ﴿كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وان فريقاً من المؤمنين لكارهون (الأنفال ٥). فقوله (كما) لا يتعلق بما قبله، بل هو ابتداء. والظاهر ﴿اطلاق ما الموصوله على الله وربط الموصول بالظاهر وهو فاعل (أخرجك)؛ لكنه لا يستقيم. ﴿وأقرب ما قيل في الآية إنها مع مجرورها خبر محذوف مقدّر من المعنى السابق.

وتشابه قوله: ﴿إن البقر تشابه علينا (البقرة ٧٠) لأن الكلام على بقرة بعينها، والقراءَة الصحيحة هي: ﴿إن البقر تشابهت علينا. يقول السيوطي: ﴿انما اصل القراءَة (إن البقرة تشابهت) بتاء الوحدة ثم أدغمت في تاء تشابهت، فهو ادغام من كلمتين.

ثالثاً: تشابه الإعراب والمعنى

ومن موجب التشابه الالتجاء الى الأوجه البعيدة أو الضعيفة.

من ذلك قوله: ﴿وقيله: يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (الزخرف ٨٨). فلا يعرف على أي شيء هو معطوف بالجر أو النصب. قال بعضهم انه عطف على لفظ ﴿علم الساعة (٨٥) أو محلها؛ والمعطوف عليه بعيد مفصول. ﴿والصـواب أنه قَسَم أو مصدر (قال) مقدّاراً.

وتشابه قوله: ﴿ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن (الأنعام ١٥٤): فهل (أحسن) فعل أم اسم؟ قال بعضهم: انه بالرفع لأن ﴿أصله (أحسنوا) فحذفت الواو اجتزاءً عنها بالضمة. والصواب تقدير مبتدأ أي (هو أحسن).

رابعاً: من موجب التشابه في إعرابه الحذف والبتر

مثل قوله: ﴿إن الذين كفروا بالذكر لمّا جاءَهم، وإنه لكتاب عزيز (فصلت ٤١): فأين خبر (إنَّ)؟ قال بعضهم انه في قوله ﴿أولئك ينادون من مكان بعيد في ختام الآية (٤٤). أجل انه خبر في مكان بعيد! ﴿والصواب انه محذوف. فما الغاية من حذفه؟ والأصح ان قوله ﴿وانه لكتاب عزيز قام مقام الخبر أي كفروا بكتاب عزيز.

والآيات المبتورة كثيرة، مثل الاستفتاح بهذا القسم: ﴿والقرآن ذي الذكر، بل الذين كفروا في عزة وشقاق (ص١ ـ ٢). فأين جواب القسم؟ وما يدل عليه ويقوم مقامه؟ ولا يصح الحذف اذا لم يكن في القرائن اللفظية أو المعنوية ما يسد مسده.

وهناك امثلة عديدة يذكرها السيوطي ويحاول اخراجها مخرجاً حسناً في معرفة اعرابه، مثل ﴿لحن القرآن عن قوله تعالى (ان هذان لساحران) وعن قوله تعالى (والمقيمين الصلاة، والمؤتون الزكاة) وعن قوله تعالى (ان الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون ـ فهل هو لحن من الكتاب أو نعس في الكتبة؟ أم ان لها مخرجاً غريباً في الإعراب؟

ويختم السيوطي بفصل ﴿فما قرِىء بثلاثة أوجه الاعراب أو البناء أو نحو ذلك (الإتقان ١: ١٨٧). ويعطي على ذلك مثلاً الفاتحة: ﴿الحمد لله: بالرفع على الابتداء، والنصب على المصدر، والكسر على اتباع الدال اللام في حركتها. (رب العالمين) قرِىء بالجر على انه نعت، وبالرفع على القطع بإضمار مبتدأ، وبالنصب عليه بإضمار فعل، أو على النداء. (الرحمان الرحيم) قرئا بالثلاثة. كذلك ﴿والحب ذو العصف والريحان: قرِىء برفع الثلاثة ونصبها وجرها. (وحور عين كأمثال اللؤلؤ) قرىء برفعهما وجرهما ونصبهما وبفعل مضمر أي ويزوجوك...

والعجز أو التعجيز في اعراب الكلام هل هو من حسن البيان؟

بحث ثانٍ

في الضمائر

(الإتقان ١: ١٨٧)

يقول: ﴿وأصل وضع الضمير للاختصار... ولا بدَّ له من مرجع اليه، ويكون ملفوظاً به سابقاً مطابقاً أو متضمناً له نحو (اعدلوا هو أقرب للتقوى) فإنه عائد على العدل المتضمن له (اعدلوا). ويُسمى مرجع الضمير.

أولاً: قد يختفي مرجع الضمير فيشتبه المعنى

كما في قوله مراراً: ﴿إنا أنزلناه. فقالوا: أي القرآن لأن الانزال يدل عليه التزاماً. وفاتهم انه قد يكون الكتاب الذي يصدقه ويفصله؛ أو غير ذلك كقوله: ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة... أمراً من عندنا: إنا كنا مرسلين (الدخان ٣ ـ ٥). فهو ضمير الشأن للدلالة على تعظيم المخبر عنه وتفخيمه بأن يذكر أولاً مبهماً ثم يفسر: فالمنزل في الليلة المباركة هو الأمر بالرسالة، كما تدل عليه الآية المعترضة (٤).

وقد يُعاد الى شيئين فيشتبه كقوله: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة ـ فهل يُعاد الضمير الى الصلاة، أم الى الاستعانة المفهومة من (استعينوا)؟

وقد يعود على لفظ المذكور دون معناه نحو ﴿وما يعمّر من معمّر، ولا ينقص من عمره؟ عمر مَن؟ قالوا: عمر المعمّر. لكن هل يسمّى معمراً اذا نقص من عمره؟

وقد يعود الى عائدين فيشتبه العائد اليه كقوله: ﴿والله ورسوله أحق أن يرضوه والأصل أن يرضوهما، ولكن في افراد الضمير التباس .

وقد يُثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين نحو ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وانما يخرج من احدهما.

وقد يجئ الضمير متصلاً بشيء وهو لغيره كقوله: ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة: فهل الضمير لآدم أم لولده كما يظهر؟ أو كقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم... قد سألها قوم من قبلكم (المائدة ١٠١ ـ ١٠٢) فهل الضمير في (سألها) يعود الى الاشياء عينها أم لغيرها كما هو ظاهر؟

وقد يعود الضمير على ما ليس ما هو له نحو: ﴿كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضحاها (النازعات ٤٦)، أي ضحى يومها، لا ضحى العشية نفسها لأنه لا ضحى لها.

وقد يعود على غير مشاهد محسوس، والأصل خلافه، نحو: ﴿إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن، فيكون (آل عمران ٤٧) ـ فهل يقول للأمر أم لموضوع الأمر؟ ولماذا عدل عن جزم جواب الأمر، مراعاةً للفاصلة؟...

ثانياً: الأصل في الضمير عوده الى أقرب مذكور

وعند المضاف والمضاف اليه فالأصل عوده للمضاف لأنه المحدَّث عنه كقوله: ﴿وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها. فلماذا شذ في قوله: ﴿إلى إله موسى، وإني لأظنه كاذباً ـ حيث الضمير يعود الى المضاف اليه كما هو ظاهر. ولذلك اختلفوا في العائد اليه، أهو المضاف أو المضاف اليه، في قوله: ﴿أو لحم خنزير، فإنه رجسٌ. قال السيوطي: ﴿فمنهم من أعاده الى المضاف، ومنهم من أعاده الى المضاف اليه. وهذا حكم تشريعي لا يصح فيه الابهام: فبحسب الأصل اللغوي يعود الضمير الى المضاف أي الى اللحم، لا الى الخنزير نفسه .

ثالثاً: الأصل أيضاً توافق الضمائر في المرجع حذراً من التشتيت

وجاء قوله: ﴿أن اقذفيه في التابوت، فاقذفيه في اليم مثيراً للدهشة والهجنة، لأن ظاهر الضمير الأول يعود لموسى، وظاهر الضمير الثاني للتابوت. وأرجعهما الزمخشري، على خلاف الظاهر، الى موسى. ﴿عابه الزمخشري وجعله تنافراً مخرجاً للقرآن عن إِعجازه فقال: الضمائر كلها راجعة لموسى، ورجوع بعضها اليه وبعضها الى التابوت فيه هجنة لما يؤدي اليه من تنافر النظم الذي هو أم إِعجاز القرآن.

وتشابه في قوله: ﴿ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزّزوه ويوقروه ويسبّحوه. والأصل في الضمير عوده الى أقرب مذكور. ويمنع من ذلك ظاهره. والضمير في ﴿يعزّزوه للرسول، وفي ﴿يوقروه ويسبّحوه لله. وهذا مثال صريح على تنافر النظم في البيان .

وهذا مثال آخر: ﴿ولا تستفت فيهم منهم أحداً. قال السيوطي: ﴿فإن ضمير (فيهم) لأصحاب الكهف؛ وضمير (منهم) لليهود. قاله ثعلب والمبرد.

وهذا مثال آخر على تنافر الضمائر: ﴿ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم، وضاق بهم ذرعاً ـ فالضمير في الثاني يعود الى الرسل أو الى قوم لوط .

وقد يخرج ضمير على سائر الضمائر كقوله: ﴿إلاّ تنصروه فقد نصره الله، إذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين، إذ هما في الغار، اذ يقول لصاحبه: لا تحزن ان الله معنا. فأنزل الله سكينته عليه (؟) وأيّده بجنود لم تروها، وجعل (؟) كلمة الذين كفروا السفلى (التوبه ٤٠). قال السيوطي: ﴿فيها اثنا عشر ضميراً كلها للنبي ﷺ إلاّ ضمير (عليه) فلصاحبه كما نقله السهيلي عن الأكثرين؛ وكما هو الظاهر لأنه موضوع خطاب النبي لصاحبه. وشذ أيضاً عن اجماع الضمائر في اضمار الفاعل بقوله ﴿وجعل كلمة.

تلك بعض الأمثله في تنافر الضمائر في النظم، يتنافر معها النظم الذي هو أمّ الإِعجاز في القرآن .

بحث ثالث

﴿في التذكير والتأنيث

(الإتقان١: ١٩٠)

ويقول السيوطي: ﴿التأنيث ضربان حقيقي وغيره. فالحقيقي لا تُحذف تاء التأنيث من فعله غالباً إلا إن وقع فصل، وكلما كثر الفصل حسن الحذف؛ والاثبات مع الحقيقي أولى، ما لم يكن جمعاً. أما غير الحقيقي، فالحذف فيه مع الفصل أحسن.

لكن هل يكون الفصل المذكور بضمير فقط، كقوله: ﴿فمن جاءَه موعظة من ربه. ﴿قد كان لكم آية. وجاءَ الاثبات في قوله: ﴿فأخذتهم الصيحة (الحجر ٧٣ و٨٣؛ المؤمنون ٤١) .

وقد جمع الاثبات والحذف مع الفصل كقوله في سورة (هود): ﴿وأخذ الذين ظلموا الصيحة (٦٧)، ﴿وأخذت الذين ظلموا الصيحة (٩٤) .

وقد يقع التذكير والتأنيث معاً في الضمير والاشاره متى وقعا بين مبتدإٍ وخبر أحدهما مذكـر والآخـر مؤنث، كقوله: ﴿قال: هذا رحمة من ربي فذكّـر والخبر مؤنث؛ وكقوله: ﴿فذانك (اليد والعصا) برهانان من ربك فذكر المبتدأ والمشار اليه اليد والعصا وهما مؤنثان لتذكير الخبر وهو (برهانان).

فليس من اضطراد في التذكير والتأنيث. وتجاه الواقع القرآني في ﴿غرائبه قالوا: كل اسماء الاجناس يجوز فيها التذكير حملاً على الجنس، والتأنيث حملاً على الجماعة. لكن ما الحكمة في قوله: ﴿إِعجاز نخل خاوية و﴿إِعجاز نخل منقعر، حيث تعود الصفة في الأول الى المضـاف، وفي الثـاني الى المضاف اليه؟ ومـا الداعي الى التمييز في قـوله: ﴿السماء منفطر به، وفي قوله: ﴿إذا السماء انفطرت؟ وما وجه الحق اللغوي في قـوله: ﴿منهم مَن هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، وفي قوله: ﴿فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة؟

قد يجدون لتلك الغرائب مبرّرات تتسع لها اللغة العربية، بعد أن ضاق بها القرآن فاتسعت له. لكن المبّرر الوحيد، في نظرنا، هو تمييزهم، عند الجمع، بين التعابير الواحدة في آي القرآن لتسهيل معرفتها، وإن أتت ﴿بالغرائب. فصارت ﴿غرائب القرآن قواعد في البيان.

بحث رابع

﴿في التعريف والتنكير

(الإتقان ١: ١٩١)

المبدأ عند السيوطي: ﴿اعلم ان لكل منهما مقاماً لا يليق بالآخر.

أولاً ـ ومن غرئب التنكير فيه أنه يأتي للوحدة والنوع جميعاً، كقوله: ﴿وجاءَ رجل من أقصى المدينة يسعى ـ فالمراد واحد؛ وكقوله: ﴿هذا ذكر أي نوع من الذكر ـ لكنه عرفه بالإضافة في قوله: ﴿هذا ذكر مَن معي وذكر من قبلي ـ فما الحكمة البالغة في التنكير تارة والتعريف تارة .

وقد تأتي الوحدة والنوعية معاً كما في قوله: ﴿والله خلق كل دابة من ماء.

ومن غرائب التنكير فيه أن يأتي للتعظيم والتحقير جميعاً، كقوله في التعظيم: ﴿وسلامٌ عليه (يحيى) يوم ﴿وُلد، ﴿سلام على إبراهيم ـ لكنه يقول في حق المسيح: ﴿والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً ـ وكقوله في التحقير: ﴿أن نظن إلاّ ظناً ـ مع قوله أيضاً: ﴿إن يتبعون إلا الظن.

ومن غرائب التنكير فيه أن يأتي للتكثير والتقليل جميعاً، كقوله في التكثير: ﴿أإنَّ لنا لأجراً أي وافراً؛ وكقوله في التقليل: ﴿ورضوان من الله أكبر أي رضوان قليل منه تعالى أكبر من الجنات وما فيها. ومن التقليل تجاهل العارف: ﴿هل ندلكم على رجل يُنبئكم، بعكس التنكير مع (لا) نافية الجنس: ﴿لا ريب فيه،﴿فلا رفث.

ثانياً ـ وكذلك التعريف فيه قد يأتي للتعظيم والتحقير جميعاً كقوله في التعظيم عند ذكر يعقوب باسم إسرائيل؛ وكقوله في الاهانة: ﴿أهذا الذي يذكر آلهتكم؟ ﴿أهذا الذي بعث الله رسولاً!

وقد عدّوا من التعظيم في التعريف قصد تعظيمه بالبعد: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه (البقرة ١ ـ ٢) ـ وفاتهم ان ﴿ذلك اشارة للبعيد الماضي، لا للقريب الآتي .

وقد يأتي التعريف لإرادة الخصوص أو العموم جميعاً، كقوله في الخصوص ﴿والذي قال لوالديه: أف لكما! ﴿وراودته التي هو في بيتها! وكقوله في العموم: ﴿إن الذي قالوا: ربنا الله، تم استقاموا، ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.

وأشكل عليهم قوله: ﴿قل: هو الله أحد، الله الصمد (سورة الإخلاص) فالخبر في الأول نكرة، وفي الثاني معرفة.

كما أشكل تكراره: ﴿فإن مع العسر يسراً: إن مع العسر يسراً! فتعريف الاسم يدل على الوحدة، وتنكير الخبر يدل على التعدّد.

فاشتقوا لاستساغة غرائبه هذه القاعدة: ﴿إذا ذكر الاسم مرتين فله أربعة أحوال، لأنه إما ان يكونا معرفتين؛ أو نكرتين؛ أو الأول نكرة والثاني معرفة؛ أو بالعكس. لكنهم وجدوا ان الواقع القرآني ينقض ذلك، كقوله في الحال الأولى: ﴿هل جزاء الاحسان إلا الاحسان؟ ـ فإنهما معرفتان والأول غير الثاني، كما في قوله أيضاً ﴿ان النفس بالنفس أي القاتلة بالمقتولة؛ وكما في قوله أيضاً: ﴿وكذلك أنزلنا إليك الكتاب، فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به، فإن الأول القرآن، والثاني التوراة والإنجيل. ومنها في الحـال الثانية كقـوله: ﴿وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، أو كقوله: ﴿يسألونك عن الشهر الحرام: قتال فيه؟ قلْ: قتال فيه كبير ـ فإن الثاني فيهما هو الأول وهما نكرتان. ومنها في الحال الثالثة والرابعة، كقولـه: ﴿أن يصالحـا بينهما صلحاً، والصلح خير، ﴿ويؤت كل ذي فضل فضله، ﴿ويزدكم قوة الى قوتكم، ﴿ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، ﴿زدناهم عذاباً فوق العذاب، ﴿ما يتبع أكثرهم إلاَّ ظناً إن الظن ـ فإن الثاني فيها غير الأول .

وهكذا ليس من قاعدة مقرّرة في ﴿غرائبه، بل يعود البيان والتبيين فيه الى القرائن اللفظية أو المعنوية، لا الى التعابير المتشابهة وحدها .

بحث خامس

في الافراد والجمع

(الإتقان ٢: ١٩٣)

الافراد والجمع مخصوصان بالأحدية والعددية. لذلك يجمع السماء ويفرد الأرض وشذّ قوله: ﴿الله الذي خلق سبع سموات، ومن الأرض مثلهن (الطلاق ١٢) فقد جعل الأرض سبع أرضين، ولا مثيل فيه لهذه الآية.

﴿أخرج ابن ابي حاتم وغيره عن أبَي بن كعب قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب... وقد خرج على هذه القاعدة قوله تعالى في سورة يونس (وجرين بهم بريح طيبة)، فلما شذّ قيدها بصفة.

وذكروا: ﴿حيث ورد الأخ مجمـوعاً، في النسب، قيل ﴿اخوة؛ وفي الصداقة قيـل ﴿اخوان. لكن ورد فيه في الصداقة: ﴿إنما المؤمنون اخوة؛ وفي النسب: ﴿أو اخوانهن أو بني اخوانهن، أو بيوت اخوانكم.

والقاعدة مقابلة الجمع بالجمع، إما عن طريق مقابلة كل فرد من هذا بكل فرد من هذا، كقوله: ﴿واستغشوا ثيابهم اي استغشى كل منهم ثوبه؛ ﴿حرمت عليكم امهاتكم أي على كل من المخاطبين أمه؛ وإما عن طريق ثبوت الجمع لكل فرد كقوله: ﴿فاجلدوهم ثمانين جلدة. لكن ﴿تارة يحتمل الأمرين فيحتاج الى دليل يعيّن أحدهما.

﴿وأما مقابلة الجمع بالمفرد، فالغالب أن لا يقتضي تعميم المفرد؛ وقد يقتضيه كما في قوله تعالى: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية: طعام مسكين ـ المعنى على كل واحد، لكل يوم طعام مسكين.

وهكذا فالبيان عنده في القرائن أكثر منه في تعابير القرآن.

بحث سادس

﴿في السؤال والجواب

(الإتقان ١: ١٩٧)

يقول: ﴿الأصل في الجواب المطابقة للسؤال، والخـروج عن الأصل يحتـاج الى دليل. ومن ﴿الأسلوب الحكيم أن يأتي الجواب أعم من السؤال، لكن ليس من ﴿الأسلوب الحكيم ان يأتي أنقص.

أولاً: في القرآن خمسة عشر سؤالاً صريحاً، منها أحد عشر سؤالاً شرعياً يأتي فيها الجواب مطابقاً للسؤال، لأنه توقيف من النبي المرسل. وهذه هي: ﴿يسألونك ماذا ينفقون (البقرة ٢١٥ و٢١٩)؛ ﴿يسألونك عن الشهر الحرام: قتال فيه؟ (البقرة ٢١٧)؛ ﴿يسألونك عن الخمر (البقرة ٢١٩)؛ ﴿ويسألونك عن اليتامى (البقرة ٢٢٠)؛ ﴿ويسألونك عن المحيض (البقرة ٢٢٢)؛ ﴿يسألونك ماذا أحلَّ لهم (المائدة ٤)؛ ﴿يسألونك عن الساعة (الأعراف ١٨٧؛ النازعات ٤٢)؛ ﴿يسألونك عن الأنفال (الأنفال ١)؛ ﴿ويسألونك عن الجبال (في اليوم الآخر) (طه ١٠٥) ـ والسؤال عن النفقة، وعن الساعة، مكرران.

ثانياً: ومنها أربعة أسئلة صريحة، غير شرعية، كان الجواب فيها أنقص من السؤال، بما لا يقتضيه أربعة الحال؛ ويظهر في الجواب تهرّب من السؤال، وتردد في الجواب .

السؤال الأول عن الله: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعاني (البقرة ١٨٦). فكأنهم سألوه أين الله؟ لكن يظهر من سؤال آخر شبيه به أنهم سألوه عن ذات الله: ﴿قالوا وما الرحمن؟ (الفرقان ٦٠). أجاب في (البقرة ١٦٣) أولاً ثم في (الحشر ٢٢): ﴿عالم الغيب والشهادة هو الرحمن ـ فلا يأتي الجواب مطابقاً للسؤال. لكن هل من جواب في ذات الله؟

السؤال الثاني: ﴿يسألونك عن الأهلّة؟ ـ قل: هو مواقيت للناس والحج (البقرة ١٨٩). هذا جواب شرعي عن سؤال كوني. فقد كانوا يسيرون بحسب التقويم القمري، لا الشمسي، ويعرفون ان يقيسوا مواقيتهم على الأهلّة.

السؤال الثالث: ﴿يسألونك عن الروح؟ ـ قل: الروح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً (الإسراء ٨٥). انه يجيب أولاً: ﴿الروح من أمر ربي اي من عالم الأمر والخلق، فالروح مخلوق. لكن ﴿الروح في غير موضع فوق عالم الأمر: ﴿ينزّل الملائكة بالروح كأنه سيدهم (النحل ٢)؛ وروح الله في عيسى صادر من ذات الله: ﴿كلمته ألقاها الى مريم وروح منه (النساء ١٧٠). ممّا يدل على ان عقيدة الروح في القرآن من متشابهاته. ويقرّ ببساطة رائعة: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً؛ وهذا هو جوابه الثاني النهائي، لذلك قال قوم: مضى محمد ولمّا يدر ما الروح؟

وهذا التردّد في الجواب يظهر في السؤال الرابع: ﴿ويسألونك عن ذي القرنين (الكهف ٨٣). فتلا منه ذكراً، هو أقرب الى الأساطير منه الى التاريخ؛ وجعل الذي أله نفسه ليعبد من دون الله، داعياً الى التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها .

وتأتي قصة أهل الكهف، والتردد باد في عدد الفتيه، وفي عدد السنين، فتعطي المثل الصارخ على ان العلم المنزل في القرآن شرعي، لا من الكونيات ولا من الطبيعيات ولا من التاريخيات. لذلك يأمره: ﴿قلْ: ربي اعلم بعدتهم. ما يعلمهم الاّ قليل. فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً. ولا تستفتِ فيهم منهم أحداً (الكهف ٢٢). أربعة مواقف متعارضة. والشهادة صريحة بأن محمداً في معارفه كان يستفتي أهل الكتاب.

بحث سابع

﴿في الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل

(الإتقان ١: ١٩٩)

يعطي السيوطي المبدأ: ﴿الاسم يدل على الثبوت والاستمرار؛ والفعل يدل على التجدد والحدوث. ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر.

وفي القرآن من إِعجاز التعبير فيهما الشيء الكثير. لكن فيه ما يخرج عن القاعدة، بدون نكتة ظاهرة، كقوله: ﴿يخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي (الأنعام ٩٥)؛ أو كقوله: ﴿يُخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحي (يونس ٣١؛ الروم ١٩). فلم يقصدوا الى نكتة بيانية في التنوع، كما قصدوا الى التمييز بين الآيات. وتوصلوا الى هذه النتيجة: ﴿وكذلك التقوى والإسلام والصبر والشكر والهدى والعمى والضلالة والبصر ـ كلها لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر وآثار تتجدد وتنقطع، فجاءت بالاستعمالين.

لكن الواقع القرآني لا يستمر في ذلك، كقوله: ﴿ثم إنكم بعد ذلك لميتون ـ والموت يكون مرة واحدة؛ وكقوله: ﴿ثم انكم يوم القيامة تبعثون والبعث يكون مرة واحدة؛ وكقـوله: ﴿الذين هم من خشية ربهم مشفقون ـ مع قوله: ﴿والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. فليس الثبوت والاستمرار من دلالة الاسم فيه، ولا التجدد والحدوث من دلالة الفعل فيه. ﴿وقال ابن المنير: طريقة العربية تلوين الكلام، ومجيء الفعلية تارة، والاسمية اخرى، من غير تكلف لما ذكروه.

بحث ثامن

﴿في العطف

(الإتقان٣٠٠)

يعطي السيوطي المبدأ: ﴿العطف ثلاثة أقسام: عطف على اللفظ ـ وهو الأصل وشرطه امكان توجه العامل الى المعطوف ـ وعطف على المحل، وله ثلاثة شروط: أحدها إمكان ظهور ذلك المحل في الصحيح؛ الثاني ان يكون الموضع بحق الأصالة؛ الثالث وجود المحرز اي الطالب لذلك المحل ـ وعطف على المعنى.

أوّلاً: الواقع القرآني يشهد بغرائبه في العطف

كقوله: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون

وقوله: ﴿واتبعوا في هذه الدنيا لعنةً، ويوم القيامة.

وقوله: ﴿لولا أخّرتني الى أجل قريب، فأصدق وأكنْ

وقوله: ﴿انه مَن يتقي ويصبرْ

وقوله: ﴿ومن وراء اسحاق يعقوبَ بالفتح .

وقوله: ﴿إنا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظاً من كل شيطان مارد (الصافات ٦ ـ ٧) .

وقوله: ﴿ودّوا لو تدهن فيدهنون!

وقوله: ﴿لعلي أبلغُ الأسباب، أسباب السماوات، فأطّلع بالفتح.

وقوله: ﴿ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم.

ثانياً: وجاء عنده عطف الخبر على الانشاء وعكسه:

قال السيوطي: ﴿ومنه البيانيون... وأجازه جماعة مستدلين بقوله تعالى: ﴿وبشر الذين آمنوا... (البقرة ٢٥) حيث عطف الانشاء على الخبر ﴿اعدت للكافرين (البقرة ٢٤)؛ وكقوله: ﴿وأخرى تحبونها: نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين (الصف ١٣) حيث عطف الانشاء وعلى الخبر.

ثالثاً: واختلفوا في جواز عطف الاسمية على الفعلية، وعكسه:

وذلك بمناسبة حكم تشريعي: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وانه لفسق. (الأنعام ١٢١). فهل يقول بتحريم أكل متروك التسمية؟ قالت الحنفية بالتحريم. ورد الرازي فقال في الآية: ﴿هي حجة للجواز، لا للتحريم، وذلك ان (الواو) ليست عاطفة لتخالف الجملتين بالاسمية والفعلية؛ ولا للاستئناف لأن أصل (الواو) ان تربط ما بعدها بما قبلها؛ فبقي ان تكون للحال، فتكون جملة الحال مفيدة للنهي. ومعنى (لا تأكلوا منه) في حال كونه فسقاً، والفسق فسره بقوله: ﴿أو فسقاً أُهِلّ لغير الله. فالمعنى: لا تأكلوا منه اذا سُمّي عليه غير الله؛ ومفهومه: فكلوا منه اذا لم يُسَمّ عليه غير الله تعالى.

رابعاً: واختلفوا في جواز العطف على معمولي عاملين:

وخرج عليه قوله: ﴿إن في السماوات والأرض لآياتٍ للمؤمنين، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات (؟) لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، آيات (؟) لقوم يعقلون (الجاثية ٣ ـ ٥) ـ فآيات الثانية والثالثة منصوبة أم مرفوعة؟

خامساً: واختلفوا في جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار:

فاختلفوا في قراءة: ﴿واتقوا الله الذي تساءَلون به والارحام (النساء ١). فهل (الارحام) منصوب عطفاً على (اتقوا الله)؟ أو مجرور بالعطف على (به) من غير اعادة الجار؟

وأشكل قوله: ﴿يسألونك عن الشهرالحرام، قتال فيه؟ ـ قل: قتالٌ فيه كبير، وصدٌ عن سبيل الله، وكفرٌ به والمسجد الحرام... (البقرة ٢١٧). فهل يصح العطف على الضمير المجرور من غير اعادة الجار؟ اختلفوا لأنه ورد في القرآن؛ وجمهور البصريين على المنع.

وهكذا ترى ان اختلافهم في قواعد البيان ناجم عن غرائب القرآن.

بحث تاسع

﴿في مقدمه ومؤخره

(الإتقان ٢: ١٣)

أوّلاً: التقديم والتأخير باب جميل في البيان

وهو وافر في القرآن. وقد وجد السيوطي لذلك عشرة أنواع من الأسباب للتقديم: الأول التبرّك، والثاني التعظيم، الثالث التشريف، كتقديم الذكر على الانثى... وتقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام ـ وقدم هارون عليه في سورة (طه) رعاية للفاصلة ـ والشمس على القمر حيث وقع إلاّ في قوله (وجعل القمر فيهن نوراً، وجعل الشمس سراجاً)، فقيل لمراعاة الفاصلة... ومنه تقديم الغيب على الشهادة في قوله (عالم الغيب والشهادة) لأن علمه أشرف؛ وأما قوله (يعلم السرّ وأخفى) فأخر فيه رعايه للفاصلة. الرابع المناسبه وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام... واما مناسبة لفظ هو من التقدم والتأخر كقوله: ﴿وله الأولى والآخرة؛ وأما قوله: ﴿فلله الآخرة والأولى فلمراعاة الفاصلة... الخامس الحث عليه والحض على القيام به حذراً من التهاون به، كتقديم الوصية على الدَين في قوله: ﴿من بعد وصية يوحى بها أو دين ـ مع ان الدين مقدم عليها شرعاً. السادس السبق في الزمان أو باعتبار الانزال. السابع السببية. الثامن الكثرة. التاسع الترقي من الأدنى الى الأعلى. ﴿ومن هذا النوع تأخير الأبلغ ـ وقد خرج عليه: الرحمن الرحيم، والرؤوف على الرحيم، والرسول على النبي وقوله: (وكان رسولاً نبياً). وذكر لذلك نكت أشهرها مراعاة الفاصلة. العاشر التدلّي من الأعلى الى الأدنى؛ ﴿وخرج عليه قوله (لا تأخذه سنة ولا نوم)، (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة)، (لن يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون).

فترى ان رعاية الفواصل قد تحمله على الشذوذ عن قواعد البيان في التقديم والتأخير.

ثانياً: وهناك قسم أشكل معناه بحسب ظاهره

فسروه بالتقديم والتأخير:

كقوله: ﴿فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم: انما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا (التوبة ٥٥) وكررها بحذف (لا) (٨٥). وأصله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ انما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة ـ فما النكتة البيانية في التأخير؟

وقوله: ﴿ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً، وأجل مسمى (طه ١٢٩). وأصله: ولولا كلمة سبقت من ربك، وأجل مسمى، لكان لزاماً ـ فما السر في التأخير؟

وقوله: ﴿أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيّماً (الكهف ١). وأصله: أنزل على عبده الكتاب قيّماً، ولم يجعل له عوجاً ـ فما نكتة التأخير في النظم والبيان؟

وقوله: ﴿لهم عذاب شديد، بما نسوا، يوم الحساب (ص ٢٦). فقوله (يوم الحساب) قد يتعلق (بما نسوا)، وقد يتعلق ﴿بعذاب شديد: فاشتبه الأمر بسبب النظم، وقالوا اصله: لهم عذاب شديد يوم الحساب، بما نسوا ـ فهل التأخير من محكم البيان؟

وقوله: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تّبعتم الشيطان، إلا قليلاً (النساء ٨٣) فظاهر القول ان الله لم يعصم منهم الا القليل، واتبع الشيطان الأكثرون. أخرج ابن جرير الطبري قال: هذه الآية مقدمة ومؤخرة، انما هي (اذاعوا به إلاّ قليلاً) منهم ولولا فضل الله ورحمته لم ينج قليل ولا كثير. لكن فاتهم ان بين التقديم والتأخير في هذه الآية بوناً شاسعاً لا يصح معه. فجاءَت متشابهة، ليست من محكم البيان والتبيين.

وقوله: ﴿فقالوا أرنا الله جهرة (النساء ١٥٣) ـ ظاهر السياق ان كلمة (جهرة) ترجع الى ﴿أرنا الله؛ ولكن يمنع من ذلك أنهم رأوا الله يتجلى على سيناء. فكان لا بد من ارجاع (جهرة) الى (فقالوا جهرة) ـ لكن ما الذي يُلجئنا الى هذا التقديم والتأخير؟

وقوله: ﴿واذ قتلتم نفساً فادّاراتم فيها (البقرة ٧٢) ـ ﴿قال البغوي: هذه اول القصة، وان كان مؤخراً في التلاوة. فسؤالهم موسى كان بعد تخاصمهم، كما نظمه الواحدي: ﴿واذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها فسألتم موسى فقال: ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة (٦٧) ـ فهل من الإِعجاز في البيان تقديم الجواب على السؤال؟ وهل في هذا التقديم والتأخير إِعجاز في ترتيب القصة؟

وقـوله: ﴿أرأيتَ من اتخذ الهه هـواه، أفأنت تكـون عليه وكيلاً (الفرقـان ٤٣)؛ ﴿أفرأيت من اتخذ الهه هواه، وأضله الله على علم... فمن يهديه من بعد الله؟ (الجاثية ٢٢) ـ فهل من يتّخذ الهه هواه يضله الله على علم؟ وتكرار التعبير ليس هفوة بيانية؛ إنما هو مقصود متواتر. وظاهره غير باطنه. فقالوا: ﴿والاصل (هواه الهه) لأن من اتخذ الهه هواه غير مذموم. فقدم المفعول الثاني للعناية به. لكنه أخلّ بالمعنى في بيانه.

وقوله: ﴿أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى ـ على تفسير أحوى بالأخضر وجعله نعتاً للمرعى أي (أخرج المرعى أحوى فجعله غثاءً) وأخر رعاية للفاصلة، فأشكل المعنى .

وقوله: ﴿غرابيب سود ـ ﴿والأصل: (سود غرابيب) لأن الغربيب الشديد السواد ـ فهل التقديم من الإِعجاز في البيان؟

وقوله: ﴿فضحكت، فبشرناها ـ والأصل: (فبشرناها فضحكت). فما النكتة البيانية في هذا التقديم والتأخير؟

وقوله: ﴿ولقد همت به، وهمَّ (يوسف) بها؛ لولا أن رأى برهان ربه ـ والأصل لتنزيه يوسف عن الهوى والهم بها: (وهمت به، ولولا ان رأى برهان ربه، لهمَّ بها). فالتقديم والتأخير هنا يوجب الاثم على النبي.

نختم بقوله: ﴿إنّي متوفيك ورافعك اليّ (آل عمران ٥٥). وهذا يتعارض مع قـوله: ﴿وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه (النساء ١٥٧ ـ ١٥٨). لذلك أخرجوا عن قتادة قال: هذا من المقدَّم والمؤخر، أي رافعك إليّ ومتوفيك. وفاتهم ما جاءَ قبلهما في سورة مريم: ﴿والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبعث حيّاً (٣٣)؛ وبعدهما في سورة المائدة: ﴿وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم (١١٧). فليس في (آل عمران ٥٥) تقديم وتأخير، بل تحقيق وتوكيد يترك آية (النساء ١٥٧ ـ ١٥٨) متعارضة في ظاهرها مع ما قبلها ومع ما بعدها. ولا يرفع التعارض الا أسلوبها البياني، فهي اثبات في معرض النفي، رداً على كفرهم.

بحث عاشر

﴿في عامّه وخاصّه

(الإتقان٢: ١٦)

يقول السيوطي: ﴿العام لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر:

والعام على ثلاثة أقسام: الأول الباقي على عمومه. قال البلقيني: ومثاله عزيز، اذ ما من عام إلاّ ويتخيّل فيه التخصيص ـ والمقصود الأحكام الشرعية.

﴿الثاني العام المراد به الخصوص .

الثالث العام المخصوص.

أوّلاً: ومن أمثلة العام المراد به الخصوص

﴿الذين قال لهم الناس: ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ـ والقائل واحد، والجماعة المجموعة واحدة. ﴿أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ـ والمقصود رسول الله وحده. ﴿ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ـ والمقصود قريش، من حيث أفاض إبراهيم. ﴿فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أي جبريل كما في قراءة ابن مسعود.

وهذا العام المراد به الخصوص أسلوب بياني قرآني يفسر كثيراً من التعابير المتشابهة في القرآن كقوله: ان القرآن ﴿ذكر للعالمين أي المخاطبين العرب. فلا يدل بحرفه على عالمية الدعوة .

﴿وأما العام المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جداً. وهي أكثر من المنسوخ. اذ ما من عام الا وقد خُصّ.

ثم المخصّص له، إمّا متصل وإما منفصل .

فالمتصل خمسة وقعت في القرآن: الاستثناء، الوصف، الشرط، الغاية، بدل البعض من الكل.

والمنفصل آية اخرى في محل آخر ـ أو حديث ـ أو اجماع ـ أو قياس.

ويعطي أمثلة على ١) ما خُصّ بالقرآن ٢) وعلى ما خُصَّ بالحديث والسنة ٣) وعلى ما خُصَّ بالإجماع ٤) وعلى ما خُصَّ بالقياس (الإتقان ٢: ١٧).

ونحن نقول: إن البيان الذي يحتاج الى تخصيص وتبيين بالسُنَّة أو الاجماع أو القياس، أيكون من الإِعجاز في البيان والتبيين؟

ثانياً: ومن غرائب القرآن، ما كان مخصِّصاً لعموم السُنّة

وهو عزيز. ومن أمثلته، قوله تعالى: ﴿حتى يعطوا الجزية خص عموم قوله ﷺ: أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله. وقوله: ﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى خصَّ عموم نهيه ﷺ عن الصلاة في الأوقات المكروهة، بإخراج الفرائض. وقوله: ﴿ومن أصوافها وأوبارهـا خص عموم قـوله ﷺ: ما أبين من حي فهـو ميت. وقـوله: ﴿والعاملين عليها؛ ﴿والمؤلفة قلوبهم خصّ عموم قوله ﷺ: لاتحلّ الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة سوى. وقوله: ﴿فقاتلوا التي تبغي خصّ عموم قوله ﷺ: اذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار.

ونحن نقول: ان البيان الذي يتعارض ما بين القرآن والسنة، حتى يبينه تخصيص القرآن أو تخصيص السنة، هل هو من محكم البيان؟

ثالثاً: فروع منثورة تتعلق بالعموم والخصوص

﴿الأول: اذا سيق العام للمدح أو الذم فهل هو باق على عمومه؟ ـ فيه مذاهب...

﴿الثاني: اختُلف في الخطاب الخاص به ﷺ نحو (يا أيها النبي)؛ (يا أيها الرسول) هل يشمل الأمة؟ ـ فقيل نعم لأن أمر القدرة أمر لأتباعه معه عرْفا. والأصح في الأصول المنع لاختصاص الصيغة به.

﴿الثالث: اختلف في الخطاب ﴿بيا أيها الناس هل يشمل الرسول ﷺ؟ ـ على مذاهب.

﴿الرابع: الأصح في الأصول ان الخطاب ﴿بيا أيها الناس يشمل الكافر والعبد لعموم اللفظ. وقيل: لا يعم الكافر بناءً على عدم تكليفه بالفروع؛ ولا العبد، لصرف منافعه الى سيده شرعاً.

﴿الخامس: اختلف في (مَن) هل يتناول الانثى؟ ـ فالأصح نعم... واختلف في جمع المذكر السالم: هل يتناولها؟ فالأصح لا، وإنما يدخلن بقرينة. أمّا المكسّر، فلا خلاف في دخولهن فيه.

﴿السادس: اختُلف في الخطاب ﴿بيا أهل الكتاب هل يشمل المؤمنين؟ ـ فالأصح لا، لأن اللفظ قاصر على مَن ذُكر... واختلف في الخطاب ﴿بيا أيها الذين آمنوا هل يشمل أهل الكتاب؟ ـ فقيل: لا، بناءً على أنهم غير مخاطبين بالفروع؛ وقيل: نعم لأنه خطاب تشريف، لا تخصيص.

ونحن نقول؛ تلك الأبواب الستة التي يختلفون فيها ما بين العموم والخصوص في بيان القرآن، هل تدل على إِعجاز في البيان والتبيين؟

وهكذا ففي عامّ القرآن وخاصه قد يكون محكم؛ لكن أكثره متشابه لا يقوم بيانه على نفسه، بل على غيره؛ وما كان هكذا فهل هو من الإِعجاز في البيان؟

بحث حادي عشر

﴿في مجمله ومبيّنه

(الإتقان ٢: ١٨)

ننقل هذا الفصل أيضاً عن السيوطي لأنه مثال على الإِعجاز في البيان.

أوّلاً: تسعة أبواب من المجمل غير المبين

﴿المجمل: ما لم تتضح دلالته. وهو واقع في القرآن، خلافاً لداود الظاهري. وفي جواز بقائه مجملاً أقوال؛ أصحها: لا يبقى المكلف بالعمل به، بخلاف غيره. وللاجمال أسباب:

﴿منها الاشتراك نحو (والليل اذا عسعس) فإنه موضوع (لأقبل وأدبر). ونحو (ثلاث قرؤٍ) فإن القرء موضوع للحيض والطهر. ونحو (يعفو الذي بيده عقدة النكاح) يحتمل الزوج والولي فإن كلاً منهما بيده عقدة النكاح.

﴿ومنها الحذف نحو (وترغبون أن تنكحوهنَّ) يحتمل (في) و(عن) .

﴿ومنها اختلاف مرجع الضمير نحو (اليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه) يحتمل عود ضمير الفاعل في (يرفعه) الى ما عاد عليه ضمير (اليه) وهو الله؛ ويحتمل عودة الى العمل، والمعنى أن العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيّب؛ ويحتمل عودة الى الكلم الطيب اي ان الكلم الطيب، وهو التوحيد، يرفع العمل الصالح، لأنه لا يصح العمل إلاَّ مع الإيمان.

﴿ومنها احتمال العطف الاستئناف نحو (وما يعلم تأويله، إلاّ الله، والراسخون في العلم، يقولون) ـ أزيد عليه قوله: ﴿شهد الله... أن (إن) الدين عند الله الإسلام (آل عمران ١٨ ـ ١٩).

﴿ومنها غرابة اللفظ نحو (فلا تعضلوهن).

﴿ومنها عدم كثرة الاستعمال نحو (يلقون السمع) اي يسمعون؛ (ثاني عطفه) أي متكبر؛ (فأصبح يقلّب كفّيه) أي نادماً.

﴿ومنها التقديم والتأخير نحو (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً، وأجل مسمى) أي (ولولا سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً). ونحو (يسألونك كأنك حفي عنها) (يسألونك عنها كأنك حفي).

﴿ومنها قلب المنقول نحو (طور سينين) أي سينا؛ ونحو (على ال ياسين) اي (على الياس).

﴿ومنها التكرير القاطع لوصل الكلام في الظاهر نحو (للذين استُضعفوا) أي (لمن آمن منهم).

تلك الأبواب التسعة في ما جاءَ من القرآن مجملاً لا تتضح دلالته بنفسه، بل بغيره من القرائن اللفظية أو المعنوية القريبة أو البعيدة، فهل هي من ﴿دلائل الإِعجاز في بيان القرآن؟

ثانياً: من المبيّن بآية أخرى في غير موضع

في المبيّن: ﴿قد يقع التبيين مفصّلاً نحو (من الفجر) بعد قوله (الخيط الأبيض من الخيط الأسود). ومنفصلاً في آية أخرى نحو (فإن طلّقها فلا تحل له من بعد، حتى تنكح زوجاً غيره) بعد قوله (الطلاق مرتان). فإنها بينت أن المراد به الطلاق الذي تملك الرجعة بعده، ولولاها لكان الكل منحصراً في الطلقتين.

﴿وقوله (وجوه يومئذٍ ناضرة، الى ربها ناظرة) دال على جواز الرؤية. ويفسره ان المراد بقوله (لا تدركه الابصار) أي لا تحيط به. قلتُ: قد تنظر الى الله، ولكن لا تراه! بل ترى مصدر قدرته ومكان عرشه في يوم الدين.

﴿وقوله (أُحلت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يُتلى عليكم)، فسره قوله (حُرّمت عليكم الميتة...)

﴿وقوله (مالك يوم الدين) فسره قوله (وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين)

﴿وقوله (فتلقى آدم من ربه كلمات) فسره قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا)

﴿وقوله (واذا بُشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) فسره قوله في آية النحل (بُشّر بالانثى).

﴿وقوله (أوفوا بعهدي، أوف بعهدكم). قال العلماء: بيان هذا العهد قوله: (لئن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي) فهذا عهده؛ وعهدهم (لأكفّرن عنكم سيئاتكم) .

﴿وقوله (صراط الذين انعمت عليهم) بيّنه قوله: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين...).

تلك أمثلة ثمانية لبيان القرآن بآية أخرى منه. فهل الكلام الذي لا يُبين إلا بكلام آخر من زمن آخر هو من معجز البيان؟

ثم أضاف السيوطي: ﴿وقد يقع التبيين بالسُنّة، مثل (وأقيموا الصلاة)، (وآتوا الزكاة)، (والله على الناس حج البيت). وقد بيّنت السنة أفعال الصلاة والحج، ومقادير الزكوات في أنواعها.

فقرآن لا تستبين أحكامه إلا بالسُنّة، هل هو من الإِعجاز المطلق في البيان والتبيين؟

ثالثاً: ﴿اختلف في آيات أهي من قبيل المجمل أو لا:

﴿ومنها آية السرقة (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا ـ (المائدة ٣٨): قيل: انها مجملة في اليد لأنها تطلق على العضو الى الكوع والى المرفق والى المنكب؛ وفي القطع لأنه يطلق على الإبانة وعلى الجرح؛ ولا ظهور لواحد من ذلك؛ وإبانة الشارع من الكوع تبين ان المراد ذلك. وقيل: لا إجمال فيها لأن القطع ظاهر في الإبانة.

﴿ومنها (امسحوا برؤوسكم). قيل: انها مجملة لتردّدها بين مسح الكل والبعض؛ ومسح الشارع الناصية مبين لذلك. وقيل: لا، وانما هي لمطلق المسح الصادق بأقل ما ينطلق عليه الاسم، وبغيره.

﴿ومنها (حرمت عليكم أمهاتكم) قيل: مجملة، لأن اسناد التحريم الى العين لا يصح، لأنه انما يتعلق بالفعل فلا بدَّ من تقديره هو محتمل لأمور لا حاجة الى جميعها ولا مرجح لبعضها. وقيل: لا، لوجود المرجح وهو العرْف، فإنه يقضي بأن المراد تحريم الاستمتاع بوطءٍ ونحوه. ويجري ذلك في كل ما علق فيه التحريم والتحليل بالأعيان.

﴿ومنها (وأحلّ الله البيع وحرم الربا). قيل: إنها مجملة، لأن الربا الزيادة، وما من بيع إلا وفيه زيادة، فافتقر الى بيان ما يحل وما يُحرم. وقيل: لا، لأن البيع منقول شرعاً، فحُمل على عمومه، ما لم يقم دليل التخصيص. وقال الماوردي للشافعي: في هده الآية أربعة أقوال... لكن لما قام بإزائه من السُنّة ما يعارضه تدافع العمومان ولم يتعين المراد إلاّ بالسنة.

﴿ومنها الآيات التي فيها الأسماء الشرعية نحو (أقيموا الصلاة)، (وآتوا الزكاة)، (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، (ولله على الناس حج البيت). قيل: انها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء، والصيام لكل إمساك، والحج لكل قصد؛ والمراد بها لا تدل عليه اللغة وافتقر الى البيان. وقيل: لا، بل يُحمل على كل ما ذكر، إلا ما خُصّ بدليل.

ويختم بهذا التنبيه: ﴿قال ابن الحصار: من الناس من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء واحد. قال: والصواب أن المجمل اللفظ المبهم الذي لا يفهم المراد منه؛ والمحتمل اللفظ الواقع بالوضع الأول على معنيين مفهومين فصاعداً، سواء كان حقيقة في كلها أو بعضها. قال: والفرق بينهما ان المحتمل يدل على أمور معروفة واللفظ مشترك متردّد بينهما؛ والمبهم (المجمل) لا يدل على أمر معروف. مع القطع بأن الشارع لم يفوّض لأحد بيان المجمل، بخلاف المحتمل.

تلك الآيات الخمس موجز التشريع التعبدي والاقتصادي. والمراد بها لا تدل عليه اللغة وافتقر إلى البيان. مع القطع بأن الشارع لم يفوّض لأحد بيان المجمل فيها. فنحن بإزاء بيان تشريع لا يستبين من نفسه، وقد يقوم بإزائه من السنه ما يعارضه. ولم يتعين المراد منه إلاّ بالسُنّة. وبيان بحاجة إلى بيان، هل هو من الإِعجاز في البيان؟

بحث ثاني عشر

﴿في منطوقه ومفهومه

(الإتقان ٢: ٣١)

وهذا فصل آخر يدل على مدى الإِعجاز في حرف القرآن وبيانه.

أوّلاً: منطوقه الظاهر بحاجة الى بيان وتأويل

﴿المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص نحو (فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة اذا رجعتم، تلك عشرة كاملة) ـ أو مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً فالظاهر، نحو (فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد) فإن الباغي يُطلق على الجاهل وعلى الظالم وهو فيه أظهر وأغلب. ونحو (ولا تقربوهن حتى يطهرن) فإنّه يقال للانقطاع طهراً وللوضوء والغسل، وهو في الثاني أظهر ـ والاحتمال على المرجوح على ثلاثة أنواع:

﴿وإن حُمل على المرجوح لدليل فهو تأويل. ويُسمى المرجوح المحمول عليه مؤولاً، كقوله (وهو معكم أينما كنتم) فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات، فتعين صرفه عن ذلك وحمله على القدرة والعلم والحفظ والرعاية. وكقوله (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة ان يكون للانسان أجنحة، فيُحمل على الخضوع وحسن الخلق.

- وهذا هو مجاز القرآن؛ وهو أكثره.

﴿وقد يكون مشتركاً بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز ويصح حمله عليهما جميعاً، فيحمل عليهما جميعاً ـ سواءٌ قلنا بجواز استعمال اللفظ في معنيَيْه أو لا، ووجهه على هذا ان يكون اللفظ قد خوطب به مرتين، مرة أريد هذا، ومرة أريد هذا. ومن أمثلته (ولا يُضار كاتب ولا شهيد) فإنه يحتمل (ولا يضارِر) ـ بالكسر ـ الكاتب والشهيد صاحبَ الحق بجور في الكتابة والشهادة؛ (ولا يُضارَر) ـ بالفتح ـ أي لا يضارهما صاحبُ الحق بإلزامهما ما لا يلزمهما، واجبارهما على الكتابة والشهادة.

﴿ثم ان توقفت صحة دلالة اللفظ على اضمار سميت دلالة اقتضاء نحو (واسأل القرية) أي أهلها.

﴿وان لم تتوقّف، ودل اللفظ على ما لم تقصد به سميت دلالة اشارة، كدلالة قوله تعالى (أحلَّ لكم ليلة الصيام الرَفَث الى نسائكم) على صحة صوم مَن أصبح جنباً، إذ إِباحة الجماع إلى طلوع الفجر تستلزم جنباً في جزء من النهار.

ان البيان الذي يكون أكثره بحاجة الى تأويل ودلالة اقتضاء ودلالة إشارة، لأنه يفيد معنى مع احتمال غيره احتمالاً مرجوجاً، لا يكون من معجز البيان. ان البيان الذي يفيد معنى لا يُحتمل غيره، فهو قليل جداً في القرآن كما يدل عليه خلافهم في ندور النص: ﴿وقد نقل عن قوم من المتكلمين أنهم قالوا بندور النص جداً في الكتاب والسنة. وقد بالغ إمام الحرمين وغيره في الرد، قال: لأن الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على قطع مع انحسام جهات التأويل والاحتمال؛ وهذا، وان عزَّ حصوله بوضع الصيغ رداً الى اللغة، فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية. وهكذا يحصل الاجماع بندور النص جداً في الكتاب والسنة، بوضع الصيغ رداً الى اللغة. والبيان الذي بحاجة الى القرائن الحالية والمقالية لظهور معناه ليس من الإِعجاز في البيان. وكتاب العقيدة والشريعة الذي في منطوقه يندر النص جداً، هل يكون من معجز البيان؟

بسبب هذا الواقع القرآني تواتر القول بأن الأحكام الشرعية ظنيّة. وكتاب الشريعة الذي لا تؤخذ الأحكام منه إلاّ ظنيّة، هل يكون من محكم البيان؟

ثانياً: مفهومه قد يخالف منطوقه

أمّا مفهوم القرآن، ﴿فالمفهوم ما دلّ عليه اللفظ، لا في محل النطق. وهو قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.

﴿فالأول مـا يوافق حكمه المنطوق. فإن كان أولى سُمّي (فحوى الخطاب) كدلالـة ﴿فلا تقل لهما أفّ على تحريم الضرب لأنه أشد. وان كان مساويا سمي (لحن الخطاب) أي معناه كدلالة ﴿الذي يأكلون أموال اليتامى ظلماً على تحريم الاحراق، لأنه مساوٍ للأكل في الاتلاف. واختلف هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية، مجازية أو حقيقية، على أقوال.

﴿والثاني ما يخالف حكمه المنطوق. وهو انواع. مفهوم صفة، نعتاً كان أو حالاً أو ظرفاً أو عدداً... ومفهوم شرط... ومفهوم غاية... ومفهوم حصر... واختلف بالاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة. والأصح في الجملة أنها كلها حجة بشروط. منها ان لا يكون المذكور خرج للغالب، ومن ثَمَّ لم يعتبر الأكثرون مفهوم قوله (وربائبكم اللاتي في حجوركم) فإن الغالب كون الربائب في حجور الازواج، فلا مفهوم له، انما خصَّ بالذكر لغلبة حضوره في الذهن. وأن لا يكون موافقاً للواقع، ومن ثمَّ لا مفهوم لقوله (ومن يدع مع الله الهاً آخر لا برهان له) به؛ وقوله (لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) وقوله (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً).

وهكذا ففي القرآن ما يخالف حكمه المنطوق به. ففي قوله (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء، إن أردنا تحصناً) هل يعني: إن لم يردن تحصّناً، فأكرهوهنّ على البغاء؟ وقد شعر القرآن نفسه بهذا المتشابه الكثير فيه (آل عمران ٧) .

والكتاب الذي يكون أكثره من المتشابه، فلا يُبنى عليه حكم محكم بنص محكم، لأن فيه ما يخالف حكمه المنطوق به، هل يكون من الإِعجاز في البيان؟

بحث ثالث عشر

﴿في مطلَقه ومقيده

(الإتقان ٢: ٣١)

هذا بحث آخر يكشف كثيراً من أسرار البيان القرآني ومدى إِعجازه في تعبيره.

أولاً: مذهب القرآن في البيان الإطلاق في التعبير والأحكام

يقول السيوطي: ﴿المطلق هو الدل على الماهية بلا قيد. وهو مع القيد كالعام مع الخاص.

﴿قال العلماء: متى وجد دليل على تقييد المطلق صير اليه؛ وإلاّ فلا، بل يبقى المطلق على اطلاقه، والمقيّد على تقييده. لأن الله خاطبنا بلغة العرب. والضابط أن الله اذا حكم في شيء بصفة أو شرط، ثم ورد حكم آخر مطلقاً، نظر فإن لم يكن له أصل يُرَدّ إليه إلاَّ ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به؛ وان كان له أصل يرد اليه غيره لم يكن ردّه الى أحدهما بأولى من الآخر.

﴿فالأول مثل اشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والفراق والوصية، في قوله (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقوله (شهادة بينكم، اذا حضر أحدَكم الموت، حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم) وقد اطلق الشهادة في البيوع وغيرها في قوله (وأشهدوا اذا تبايعتم؛ فإذا دفعتم اليهم أموالهم فأشهدوا عليهم). والعدالة شرط في الجميع. ومثل تقييد ميراث الزوجين بقوله (من بعد وصية يوصين بها أو دين) واطلاقه الميراث فيما أطلق فيه. وكذلك ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والـدين. وكذلك ما اشترط في كفارة القتل من ﴿الرقبة المؤمنة واطلاقها في كفارة الظهار واليمين. والمطلق كالمقيد في وصف الرقبة. وكذلك تقييد الأيدي بقوله (الى المرافق) في الوضوء، واطلاقه في التيمّم. وتقييد احباط العمل بالردة، بالموت على الكفر، في قوله (ومن يرتدد منكم عن دينه، فيمت وهو كافر)؛ وأطلق في قوله (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله). وتقييد تحريم الدم بالمسفوح (في الأنعام) وأطلق فيما عداها.

ثانياً: اختلافهم في حمل المطلق على المقيّد

﴿فمذهب الشافعي: حمل المطلق على المقيد في الجميـع. ومن العلمـاء مَن لا يحمل. ويختم بهذا السؤال: اذا قلنا يُحمل المطلق على المقيد، هل هو من وضع اللغة أو بالقياس؟ ـ مذهبان. وجه الأول (من وضع اللغة) إن العرب من مذهبها استحباب الإطلاق، اكتفاءً بالقيد، وطلباً للإيجاز والاختصار. ويقول آخرون بالقياس لتعارض الإطلاق مع القيد.

وفائدة هذا البحث جليلة في الشرع وفي البيان. ففي البيان تأتي تعابير أو أحكام كثيرة على الإطلاق في ظاهرها، لكن لها قيد من ناحية أخرى؛ لذلك لا تؤخذ على اطلاقها. من ذلك تعابير القرآن في عمومية الدعوة وعالميتها كقوله (ذكر للعالمين) فإنه يقيده بقوله: ﴿فهو ذكر لك ولقومك، ﴿كتاب فيه ذكركم؛ وقوله: ﴿لتنذر أم القرى وما حولها.

فالقرآن يقيد دعوته ببني قومه، وان استحب الإطلاق في تعبيره على مذهب العرب. فالإطلاق في التعبير القرآني يجعله أيضاً من المتشابه. وكتاب عقيدة وشريعة من مذهبه البياني اطلاق تعابيره واحكامه، هل يكون من المحكم ومن المعجز في البيان والتبيين؟

بحث رابع عشر

﴿في أقسام القرآن

(الإتقان ٢: ١٢٣)

في أقسام القرآن شبهات على إِعجازه في بيانه.

يقول السيوطي: ﴿والقصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده.

أوّلاً: وقد قيل: ما معنى القسم منه تعالى؟

﴿فإنه ان كان لأجل المؤمن، فالمؤمن مصدق بمجرّد الاخبار من غير قسم؛ وان كان لأجل الكافر فلا يفيده.

﴿وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم القسم اذا أرادت أن تؤكد أمراً. وأجاب أبو القاسم القشيري: بأن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها. وذلك ان الحكم يُفصل باثنين إمّا بالشهادة، وإما بالقسم، فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة.

وعليه يُجاب: العرب من عادتهم القسم. فهل ننزل الله منزلة مخلوقاته؟ واذا كانت حجة المخلوق لا تقوم إلاّ بالشهادة أو القسم، أتكون حجة الله بالقسم كحجة خلقة؟ ألا يكفي الحق سبحانه الخبر والشهادة. ولتصديق شهوده الأنبياء لا يأتي بقسم، بل بمعجزة تؤيدهم. فالقسم لا يليق بالحق سبحانه. واذا أقسم بنفسه لأنه الأعلى ولا أعلى منه يقسم به!

ثانياً: مشكل أقسام القرآن بغير الله

﴿لا يكون القسم إلا باسم معظم. وقد أقسم الله تعالى بنفسه في سبعة مواضع... والباقي كله ﴿قسم بمخلوقاته....

﴿فإن قيل: كيف أقسم الله بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله؟ قلنا أجيب عنه بأوجه: أحدها انه على حذف مضاف أي (ورب التين)، (ورب الشمس)، الثاني ان العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون. الثالث ان الاقسام لإنما تكون بما يعظمه المقسِم أو يجلّه وهو فوقه... القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأنها تدل على بارىء وصانع.

وعليه يُجاب: ان اضمار المضاف في القسم ليس من أسلوب العرب؛ وليس من أسلوب عرب الجاهلية القسم بالمصنوعات لأنه يستلزم القسم بالصانع، لأنهم كانوا على الوثنية أو الشرك. فلا يبقى إلاَّ ان القسم في القرآن من أساليب العرب في الدين والبيان. كانت العرب تعظّم في شركها تلك الكائنات فكانت تقسم بها، فصح القول: ﴿إن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها، فنزل القرآن على ما يعرفون. لذلك فالنتيجة الحاسمة أن أقسام القرآن من رواسب الشرك في القرآن. وكيف ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؛ والقرآن يقسم بغير الله؟ والله نفسه في القرآن يقسم بمخلوقاته؟ إنها شبهة يحار فيها المؤمن وغير المؤمن، ولا جواب لها. فهل أقسام القرآن من إِعجازه الإلهي في البيان؟

والقول الفصل ان بيان القرآن متشابه بحاجة إلى تأويل

إن آية القرآن بيانه، فهو ﴿قرآن مبين (الحجر ١)، ﴿بلسان عربي مبين (الشعراء ١٩٥ قابل النحل ١٠٣). لكن الحق انه ﴿فيه آيات محكمات... وأخر متشابهات (آل عمران ٧)، وما تشابه منه فهو أكثره في العقيدة والشريعة والقصص والأمثال. وما تشابه منه، وهو بحاجة الى تأويل، ﴿وما يعلم تأويله إلا الله (آل عمران ٧) لا يكون من الإِعجاز في البيان .

قالوا: ﴿إِعجاز القرآن كان بتجاوزه الحدود الانسانية في البيان. إن الحدود والقيود في بيانه بادية عليه، فلا يصح بحال تجاوزه الحدود الانسانية في البيان، ليكون إِعجازه معجزة إلهية. ان الإِعجاز البياني قائم فيه، لكنه ليس بمعجزة إلهيّة. ودليل ذلك ﴿غرائبه التي لا تنتهي؛ فقد ورد حديث مـأثور عن أبي هريرة مرفوعـاً: ﴿أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ١ ! والغرائب في اللسان العربي المبين ليست من دلائل الإِعجاز في البيان. وبتقريره المتشابه في بيانه، نسخ هو نفسه إِعجازه في بيانه.


١. الإتقان ١ : ١١٥.

الفصل الخامس

إِعجاز القرآن في بلاغة خطابه

﴿إنّما على رسولنا البلاغ المبين (المائدة ٩٢)

﴿منه آيات محكمات... وآخر متشابهات (آل عمران ٧)

﴿أفلا يتدبّرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (النساء ٨٢)

توطئة

البلاغة القرآنية

ما بين الفصاحة والبلاغة والبيان صلة، لغةً واصطلاحاً. فقد ترد تعابير الفصاحة والبيان والبلاغة مترادفات. لكن يصح أن تأخذ الفصاحة في الالفاظ، والبلاغة في المعاني، والبيان في الاثنين معاً، في التعبير والتفكير. فنقصد بالبلاغة القرآنية إِعجاز القرآن في معانيه. وهو إِعجاز في البلاغ، وإِعجاز في التبليغ. والإِعجاز في التبليغ على أنواع: إِعجاز بالمعجزة، وإِعجاز بالكلمة. والتبليغ في القرآن يقتصر على الإِعجاز بالكلمة. فهل الكلمة في القرآن معجزة الهية؟ رأينا إِعجاز الكلمة في حرفها. ونرى إِعجاز الكلمة في معناها. والكلمة فيه كانت ﴿قولاً بليغاً (النساء ٦٣)، ﴿حكمة بالغة (القمر ٥) فيها ﴿الحجة البالغة (الأنعام ١٤٩). فالقرآن ﴿بلاغ للناس (إبراهيم ٥٢)، ﴿ان في هذا لبلاغاً (الأنبياء ١٠٦). لذلك ﴿ما على الرسول إلاّ البلاغ (المائدة ١٠٢)، ﴿انّمـا على رسولنا البلاغ المبين (المائدة ٩٢؛ التغابن ١٢). والإِعجاز البلاغي قائم في القرآن. لكن هل هذا الإِعجاز البلاغي معجزة الهية؟

بحث أوّل

حديث الأحرف السبعة شبهة أولى على البلاغة القرآنية

إن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، ﴿باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني كما فسره الطبري، حديث صحيح متواتر مشهور، مهما حاولوا تجريده من معناه بتأويلات مختلفة. وحديث الأحرف السبعة له ظاهرتان. الأولى نزول القرآن على سبعة أحرف، والثانية تلاوة القرآن على سبعة أحرف أي نصوص. هذا الواقع المزدوج فيه شبهة على البلاغة القرآنية. فما معنى تنزيل الوحي الواحد على سبعة أحرف أي نصوص؟

معنى واحد يبلغه النبي عن الله بسبعة نصوص أو أحرف، لا تزيد في المعنى، أهذا وجه من بلاغته؟ وتغيير الالفاظ، مع اتفاق المعنى الواحد، هل يزيد المعنى شيئاً؟ إن كثرة التعابير للمعنى الواحد قد تحجب بلاغته عن المخاطبين. وهي خبرة دائمة، كل بلاغ تتعدّد تعابيره قد يضيع على السامعين.

قد يقول قائل: إن تنوّع البلاغ بحسب طبقة وطاقة المبلَّغين فيه إِعجاز لتفاوتهم في الفهم والاستيعاب. ولكن المخاطبين في مكّة كانوا طبقة واحدة في الثقافة؛ نخصّ منهم بالـذكر ﴿ملأ قريش الذي عارض النبي. فلا داعي لتكرار البلاغ الواحد بصيغ مختلفة. إلاّ اذا قبلنا المفاهيم وجعلنا اللفظ هدف التنزيل الأول، والمعنى هدفه الثاني.

قد يقول قائل أيضاً: إن المعنى هدف البلاغ الأول؛ لكن تنوع التعبير عنه كانت المعجزة اللغوية البيانية التي تشهد له أنه من الله. انها حجة ظاهرة واهية؛ لأن الأصل هو البلاغ نفسه؛ والإِعجاز البياني ليس في التعدّد بل في الحرف الواحد نفسه. فنزول القرآن على سبعة أحرف ـ وإن كان خارقة لا يستسيغها عقل ـ هو شبهة على الإِعجاز في بلاغته. واسقاط ستة أحرف منها برهان على انها معجزة ليست بضرورية، ومحال على الله العبث في بلاغاته ورسالاته.

وتلاوة القرآن على سبعة أحرف تزيد في الشبهة. لأن المعنى الواحد الذي يُتلى على سبعة أنواع من الألفاظ قد يذوب فيها، لاتحاد الدليل والمدلول عليه في وحدة لفظية معنوية قائمة بنفسها. والمعنى يتجسد في اللفظ، فإن تجسّد في لفظ آخر أعطاه هذا اللفظ الجديد مدىً حيوياً آخر، كالنفس البشرية الواحدة لا تختلف إلاّ بأختلاف المكوّنات الجسمية التي هي أدوات وجودها وحياتها، وان كان الوجود والحياة للنفس لا للجسد. والسر في المعنى لا في ثوبه اللغوي.

فتلاوة القرآن الواحد على سبعة أحرف شبهة لغوية على سلامته في بلاغه وبلاغته، فينقضون بهذا الحديث، من حيث يدرون أو لا يدرون، إِعجاز القرآن في البلاغ والتبليغ والبلاغة. إن تعدّد البلاغ الواحد، تنزيلاً أو تلاوةً، شبهة على بلاغته من هذا التعدّد نفسه. كما أن تعدّد وتنوع الأجساد البشرية يعمل في تعدّد وتنوع النفوس البشرية الواحدة في جوهرها. فإن المعاني أرواح، والألفاظ أجساد لها.

بحث ثان

البلاغ القرآني: ﴿إن الدين عند اللَّه الإسلام

أولاً: مقالة العقّاد في إِعجاز البلاغ القرآني

الإِعجاز في البلاغ نفسه أن يأتي أفضل من سواه، بذاته، أو زمانه، أو مكانه. يقول العقاد في كتاب المؤتمر الإسلامي ١ : ﴿جاء الإسلام من جوف الصحراء العربية، بأسمى عقيدة في الإله الواحد الأحد، صححت فكرة الفلسفة النظرية، كما صححت فكرة العقائد الدينيّة؛ فكان تصحيحه لكل من هاتين الفكرتين ـ في جانب النقص منها ـ أعظم المعجزات التي أثبتت له في حكم العقل المنصف والبديهة الصادقة أنه وحي من عند الله...

﴿والديانة الإسلامية، كما هو معلوم، ثالثة الديانات المشهورة باسم الديانات الكتابية، مكانها في علم المقارنة بين الأديان مرتبط بمكان الديانتين الأخريين، وهما الموسوية والمسيحيّة. وتجري المقارنة بين الإسلام وبينهما فعلاً في كتابات الغربيين، فلا يتورع أكثرهم من حسبان الإسلام نسخة مشوّهة أو محرفة من المسيحية أو الموسوية. والمسألة ـ بعد ـ مسألة نصوص محفوظة وشعائر ملحوظة لا تحتمل الجدل الطويل في ميزان النقد والمقارنة وان احتملته في مجال الدعوة والخصومة العصبية. ولا حاجة في المقارنة بين هذه الديانات الى أكثر من ذكر العقيدة الإلهية في كل منها للعلم الصحيح بمكانها في التنزيه في حكم الدين وحكم المعرفة النظرية...

﴿ومهما يكن من تطور العقائد المسيحية في سائر البيئات ومختلف العصور، فالعقيدة المسيحية التي يجوز لصاحب المقارنة بين الأديان ان يجعلها قدوة للاسلام إنما هي عقيدة المسيحيّين في الجزيرة العربية وما حولها...

﴿ومن الواضح البيّن ان موقف الإسلام كان موقف المصحح المتمّم، ولم يكن موقف الناقل المستعير بغير فهم ولا دراية.

﴿ومن ثمَّ كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصححة متمّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية... ودين يصحح العقائد الإلهية ويتمّمها فيما سبقه من ديانات الأمم وحضاراتها ومذاهب فلاسفتها ـ تراه من أين أتى، ومن أي رسول كان مبعثه ومدعاه؟ ـ من صحراء العرب! ومن الرسول الأمي بين الرسل المبعوثين بالكتب والعبادات. إن لم يكن هذا وحياً من الله، فكيف يكون الوحي من الله؟

﴿ليكن كيف كان في اخلاد المؤمنين بالـوحي الإلهي حيث كان، فمـا يهتدي رجـل ﴿أمّي في أكناف الصحراء الى إيمان الله أكمل من كل إيمان تقدَّم، إلاّ أن يكون ذلك وحياً من الله. وإنه لحجر على البصائر والعقول أن تنكر الوحي على هذه المعجزة العليا لأنه لا يصدق عليها في صورة الحدس أو الخيال.

ثانياً: البلاغ القرآني هو تبليغ العرب الإسلام ﴿النصراني

نحن عرب، وما لنا ولكتابات الغربيين؛ تكفينا شهادة القرآن والحديث والسيرة، وتكفينا النصوص المحفوظة والشعائر الملحوظة. والواقع القرآني نفسه يكذّب تلك المقدَّمات التي يبني عليها الأستاذ الإمام قياسه: ١) رجل أمي ٢) في أكناف الصحراء ٣) يأتي بإيمان أكمل من كل إيمان تقدم.

لقد رأينا أن أميّة ﴿النبي الأمّي أي العربي يدحضهـا الواقع القرآني. وقد رأينـا أن ﴿أكنـاف الصحراء لـم تكن صحراء في الثقـافة والتوحيد والـدعوة الكتـابية، والدعوة ﴿النصرانية في مكّة نفسها.

١- والآن نرى أن البلاغ القرآني إيمان من إيمان أهل الكتاب بمكّة، بنص القرآن نفسه.

يصرح: ﴿هذا ذكـر من معي وذكر من قبلي (الأنبيـاء ٢٤)؛ فالذكـران واحد: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر (النحل ٤٣ ـ ٤٤) ويصرّح: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين (القصص ٤٩) فالكتاب والقرآن واحد في الهدى، والتحدي بالهدى. ويصرّح: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن ـ إلاّ الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم وأهلنا والهكم واحد، ونحن له مسلمون. (العنكبوت ٤٦). يقسم أهل الكتاب الى ظالمين وهم اليهود، والى مقسطين وهم النصارى. فالظالمون من أهل الكتاب يصح جدالهم بغير الحسنى أي بالسيف؛ أمّا المقسطون منهم فلا يصح جدالهم إلاّ بالحسنى، وهذه الحسنى أمر الى أمة محمد ان يقولوا بأن الإله واحد والتنزيل واحد والإسلام واحد.

فالبلاغ القرآني إيمان من إيمان أهل الكتاب ﴿النصارى، لا يصححه ولا يتممه ولا يكمله. فهو ذكر واحد في الهدى والإيمان. يصرّح: ﴿شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم اليه... وقلْ: آمنتُ بما أنزل الله من كتاب وأمرتُ لأعدل بينكم: الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا، واليه المصير (الشورى ١٣ ـ ١٥). الدين الذي يشرعه القرآن للعرب هو دين موسى وعيسى، بنص القرآن القاطع. لذلك فهو يؤمن بالكتاب من قبله، الذي فيه هذا الدين الذي يشرعه للعرب، وهذا بنص القرآن القاطع. ولذلك أيضاً ﴿فالله ربنا وربكم واحد، ﴿لا حجة بيننا وبينكم أي لا خصومة ولا جدال ولا فرق في الإيمان الواحد بالله الواحد، بنص القرآن القاطع.

فأين التصحيح والتتميم والتكميل في الإيمان وفي العقيدة الإلهية؟

٢ ـ وهذا الإيمان، في العقيدة الإلهية، بالإله الواحد الأحد هو التوحيد التوراتي الإنجيلي القرآني بحرفه الواحد. فحرف التوحيد في القرآن هو: ﴿قلْ هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوءاً أحد (سورة الإخلاص). والولادة المذكورة ينص عليها بقوله: ﴿ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً (الجن ٣)، ﴿بديع السماوات والأرض، أنّى يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة؟ (الأنعام ١٠١). فليس للّه ولد من صاحبة. وهل يقول أهل الكتاب، سواءٌ الظالمون أو المقسطون، بصاحبة وولد؟ إن الإعلان والتحدي موجهان للمشركين لا لأهل الكتاب، ولا للنصارى المقسطين منهم. وقوله: ﴿أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ (المائدة ١١٦)، لايمس العقيدة المسيحية بشيء منذ المسيح الى اليوم، فهم لا يقولون بعيسى وأمه إلهين من دون الله، وإذا ما آمنوا بإلهية المسيح، فهم يؤمنون بذلك، لا من حيث المسيح هو عيسى ابن مريم، بل من حيث هو ﴿كلمة الله ألقاها الى مريم وروح منه (النساء ١٧١). فكلمة الله هو روح صادر من ذات الله ألقي الى مريم فكان ﴿المسيح، عيسى ابن مريم.

فيظل حرف التوحيد في الإنجيل كمـا هو في التوراة والقرآن. ففي التوراة يصرح: ﴿اسمع يا إسرائيل: إن الله الهنا هو الله أحد. فأحبب الله الهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك (التثنية ٦: ٤ ـ ٥) ـ بحسب النص العبراني. فذهبت فاتحة صلاتهم، والشهادة عندهم. لذلك لما سأل المسيح أحدُ علماء اليهود: ﴿أي وصية هي أولى الوصايا جميعاً أجابه بهذه الشهادة وبهذه الفاتحة: ﴿فأجاب يسوع: الأولى هي (أسمع يا إسرائيل: إن الله إلهنا هو الله أحد. فأحبب الله الهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قدرتك. والثانية هي هذه: أحبب قريبك كنفسك. وليس من وصية أخرى أعظم من هاتين (الإنجيل بحسب مرقس ١٢: ٢٨ ـ ٣١). فحرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن: فأين التصحيح وأين التتميم وأين التكميل في البلاغ القرآني والإيمان الإسلامي؟

٣ـ الإسلام نفسه، عقيدةً واسماً، يصرّح بأنه يبلغه للعرب عن أهله. في الاسم يصرّح: ﴿هـو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هـذا القرآن (الحج ٧٨) وفي العقيدة يصرح: ﴿شهد الله أنه لا إله إلإ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ـ أن الدين عند الله الإسلام (آل عمرآن ١٨ ـ ١٩). في لغة القرآن ـ كما أبنا ذلك في غير موضع ـ ﴿أولو العلم اصطلاح قرآني مرادف ﴿لأهل الذكر وأهل الكتاب. وصفة ﴿قائماً بالقسط كناية عن المقسطين منهم أي النصارى، لا ﴿الظالمينَ منهم أي اليهود. فالنصارى هم الذين يشهدون ﴿أن الدين عند الله الإسلام، وشهادتهم من شهادة الله وملائكته. والقرآن يشهد بشهادة النصارى ﴿أن الدين عند الله الإسلام.

هذا هو البلاغ القرآني: انه تبليغ العرب الإسلام ﴿النصراني. فلا تصحيح، ولا تتميم، ولا تكميل. ﴿ومن ثمَّ (ما) كانت هذه العقيدة الالهية في الإسلام مصححة متممة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية. لا تعنينا ﴿مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية. انما يعنينا الدين الذي يشرع القرآن للعرب، والإسلام الذي ينادي به. إنه يشرع دين موسى وعيسى معاً (الشورى ١٣)، وينادي بالإسلام كما يشهد به أولو العلم المقسطين أي ﴿النصارى.

فهل من إِعجاز في البلاغ القرآني ـ ﴿هذا بلاغ للناس سواءٌ في مكانه أو زمانه أو موضوعه واسمه؟

تلك شبهة ثانية على البلاغة القرآنية.

بحث ثالث

التوحيد القرآني ما بين التشبيه والتنزيه

أولاً: الإجماع على أن آيات الصفات الإلهية من المتشابه في القرآن

من يقول إن حرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن، لا يشك بالتوحيد الخالص في الإسلام: ﴿ألا لله الدين الخالص (الزمر ٣). لكن هذا التوحيد الخالص قد جاء أيضاً في القرآن غارقاً في التشبيه. فادعاء الإِعجاز في التوحيد، والبلاغ القرآني به، لأنه جاءَ بأسلوب التجريد والتنزيه اللذين لا نجدهما في التوراة والإنجيل، ولا في الموسوية والمسيحية، لا يستند الى الواقع القرآني. فالوحي يتكلم بلغة الناس، وللبشريه كلها، لا لعلماء الكلام وحدهم، فلا بد له أن يأتي بأسلوب التشبيه في تنزيله.

للسيوطي في (الإتقان) فصل: ﴿من المتشابه آيات الصفات (٢: ٦ ـ ٨). يستفتحه بقوله: ﴿وجمهور أهل السنة، فهم السلف وأهل الحديث، على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد منها الى الله تعالى، ولا نفسّرها، مع تنزيهنا له عن حقيقتها. فهم يقرون بالاجماع بالمتشابه في آيات الصفات الالهيّة. وهي متشابهة لأنها كلها تشبيه، لا تجريد فيها ولا تنزيه.

ثانياً: صورة الله في القرآن

١ ـ ﴿الرحمٰن على العرش استوى (طه ٥)؛ ﴿ثم استوى على العرش (٧: ٥٤؛ ١٠: ٣؛ ١٣: ٢؛ ٢٥: ٥٩؛ ٣٢: ٤؛ ٥٧: ٤). فهو ﴿رب العرش العظيم (٩: ١٢٩؛ ٢٣: ٨٦؛ ٢٧: ٢٦)، ﴿فسبحان الله رب العرش (٢١: ٢٢)، ﴿وهو رب العرش الكريم (٢٣: ١١٦)،﴿رفيع الدرجات ذو العرش (٤٠: ١٥)، ﴿ذو العرش المجيد (٨٥: ١٥)، ﴿ذي العرش (١٧: ٤٢)، ﴿عند ذي العرش (٨١: ٢٠). ومن المـلائكة حملة العرش: ﴿الذين يحملون العرش (٤٠: ٧)، ﴿ويحمل عرش ربك (٦٩: ١٧)؛ ﴿حافّين من حول العرش (٣٩: ٧٥).

وعند الخلق ﴿كان عرشه على الماء (١١: ٧) يسبح كالفُلْك. و﴿عرش الله، هو لفظاً، كعرش يوسف ﴿ورفع أبويه على العرش (١٢: ١٠٠)؛ أو كعرش ملكة سبأ: ﴿قيل: أهكذا عرشك (٢٧: ٤٢)، ﴿أيكم يأتيني بعرشها (٢٧: ٣٨)،﴿نكّروا لها عرشها (٢٧: ٤١).

فالقرآن يصوّر الجبار كملك الكون ﴿على العرش استوى، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية (٦٩: ١٧)، ﴿والملك على أرجائها (٦٩: ١٧)، ﴿حافين من حول العرش (٣٩: ٧٥). إنها صورة رائعة، لكنها غارقة في التشبيه، بلا تنزيه ولا تجريد. وقد صدمت هذه الصورة علماء الكلام، وملأوا كتبهم من البحث في ﴿الرحمٰن على العرش استوى. وينقل السيوطي سبعة تفاسير لا يستوي منها واحد، فيردّها جميعاً، ويتوقف هو في تفسيرها. بل ينقل عن أم سلمة قالت: ﴿الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول، والاقرار به من الإيمان،، والجحود به كفر. وعن مالك أنه سئل عن الآية فقال: ﴿الكيف غير معقول، واستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

٢ ـ نفس الله: ﴿ويحذركم الله نفسه (٣: ٢٨ و ٣٠)،﴿كتب على نفسه الرحمة (٦: ١٢)، ﴿كتب ربكم على نفسه الرحمة (٦: ٥٤). ويرفع في ما لفظ ﴿النفس من مجاز قوله: ﴿تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك (المائدة ١١٦)، فالله له نفس كما عيسى له نفس.

نقل السيوطي: ﴿قال ابن اللبان: أولها العلماء بتأويلات، منها ان النفس عبّر بها عن الذات. قال: وهذا وان كان سائغاً في اللغة، ولكن تعدّي الفعل اليها (بفي) المفيدة للظرفية، محال عليه تعالى. وقد أولها بعضهم بالغيب أي (ولا اعلم ما في غيبك وسرك). قال: وهذا حسن لقوله في آخر الآية: انك انت علاّم الغيوب ـ لا شيء يدل على المشاكلة، والله في ﴿نفسه علاّم الغيوب: فنفسه والغيب عارف ومعروف، لا شيء واحد. فالتشبيه بالبشر في ذات الله قائم.

٣ ـ وجه الله: ﴿فـَثمَّ وجه الله (٢: ١١٥)؛ ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام (الرحمٰن ٢٧)،﴿إلاّ ابتغاء وجه الله (٢: ٢٧٢)، ﴿ابتغاء وجه ربهم (١٣: ٢٢)، ﴿إنا نطعمكم لوجه الله (٧٦: ٩)، ﴿إلاّ ابتغاء وجه ربه (٩٢: ٢٠)، ﴿خير للذين يريدون وجه الله (٣٠: ٣٨)، ﴿تريدون وجه الله (٣٠: ٣٩).

نقل السيوطي:﴿وهو مؤول بالذات... أو بالجهة... أو المراد اخلاص النية. أجل انه تأويل. لكن يمنع ظاهر النص من ذلك. فإن جاز المجاز في بعض التعابير، فلا يصح كما في قوله: ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام. فمن يستوي على العرش كبشر، له وجه كبشر.

٤ ـ عين الله، أعين الله: ﴿وألقيت عليك محبة مني، ولتُصْنَع على عيني (طه ٣٩ )؛﴿واصنع الفلك بأعيننا (١١: ٣٧؛ ٢٣: ٢٧)، ﴿تجري بأعيننا (٥٤: ١٤)، ﴿فأنك بأعيننا (٥٢: ٤٨). 

نقل السيوطي: ﴿هي مؤولة بالبصر أو الادراك. بل قال بعضهم: انها حقيقة في ذلك، خلافاً لتوهم بعض الناس انها مجاز، وانما المجاز في تسمية العضو بها.

٥ ـ يد الله: ﴿يد الله فوق أيديهم (٤٨: ١٠)،﴿ان الفضل بيد الله (٣: ٧٣؛ ٥٧: ٢٩)، ﴿لا تقدّموا بين يدَي الله (٤٩: ١)، ﴿يد الله مغلولة (٥: ٦٤)، ﴿بل يداه مبسوطتان (٥: ٦٧)، ﴿من بيده ملكوت كل شيء (٢٣: ٨٨)، ﴿فسبحان الذي بيده (٣٦: ٨٣)، ﴿تبارك الذي بيده (٦٧: ١)؛ ﴿والسموات مطويات بيمينه (٣٩: ٦٧)، ويوم الدين، يكون الخالصون ﴿أصحاب اليمين (٥٦: ٢٧ و ٣٨ و٩٠ و٩١)؛ ﴿لما خلقت بيدَيَّ (٣٨: ٧٥). فالله تعالى له يدان، مثل الانسان، وان كان ﴿ليس كمثله شيء (٤٢: ١١).

نقل السيوطي:﴿وهي مؤولة بالقدرة. قال الأشعري: إن اليد صفة ورد بها الشرع؛ والذي يلوح من معنى هذه الصفة انها قريبة من معنى القدرة، إلاّ أنها أخص، والقدرة أعم. وقال البغوي: في قوله ﴿بيدَيَّ ـ في تحقيق الله التثنية في اليد ـ دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة؛ وانما هما صفتان من صفات ذاته. قال ابن اللبان: فإن قلتَ فما حقيقة اليدين في خلق آدم؟ قلت: الله اعلم بما أراد. أجل هناك تعابير مجازية، لكن هناك أيضاً تعابير تؤخذ على ظاهرها وحقيقتها، كقوله ﴿خلقتُ بيدَيَّ، حيث ترد توكيداً وتحقيقا للخلق، وتوكيداً وتحقيقاً للبعث: ﴿مطويات بيمينه.

٦ ـ جنب الله: ﴿على ما فرّطت في جنب الله (٣٩: ٥٦) ان صفة المجاز بادية على التعبير. لكن الله جنباً، كما له وجه ويد، وإن كان ﴿ليس كمثله شيء.

٧ ـ صفة الحركة: ﴿وجاء ربك والملك (٨٩: ٢٢)، ﴿أو يأتي ربك (٦: ١٥٨)، ﴿اذهب انت وربك فقاتلا (٥: ٢٤). فالله يتحرك كالانسان. ومَن يُحمل على العرش يجول فيه: ﴿ويحمل عرش ربك (٦٩: ١٧)، ويأتي الى حساب عباده كما يجيء ملائكته معه. ففي التعابير مجاز، لكن فيها أيضاً حقيقة على مثال المخلوق، وان كان ﴿ليس كمثله شيء.

وهناك صفات التجسيم كالقرب، والفوقية، والعندية، والمعية. وهناك التشبيه بتعابير الأعراض النفسانية كالحب، والغضب، والرحمة، والرضى، والعجب والمكر والاستهزاء والحياء. ومن له ﴿نفس كنفس الانسان، له عوارضها، وله اعمالها، وان كان ﴿ليس كمثله شيء.

ثالثاً: اختلافهم ما بين الظاهر والتأويل

لذلك قال العلماء: ﴿كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تعالى تفسّر بلازمها كما نقل السيوطي. لكن هذا تفسير وتأويل لصريح القرآن وظاهره. ومذهب أهل السنة والجماعة على الأخذ بالظاهر، أكثر منه بالتأويل. نقل السيوطي: ﴿اتفق الفقهاء كلهم من المشرق الى المغرب على الإيمان بالصفات، من غير تفسير، ولا تشبيه. وقال الترمذي: المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة انهم قالوا: نروي هذه الأحاديث كما جاءَت، ونؤمن بها، ولا يقال كيف، ولا نفسّر، ولا نتوهّم. وذهبت طائفة من أهل السنة الى أننا نؤولها على ما يليق بجلاله تعالى. فهو مذهب تأويل، لا تفسير باللغة والبيان.

فالتشبيه في وصف الله وصفاته هو أسلوب القرآن وعقيدته. ولا تجد تجاهه في القرآن كله ما يحمل على التنزيه والتجريد سوى قوله: ﴿ليس كمثله شيء (الشورى ١١)؛ ﴿ولله المثل الاعلى (النحل ٦٠)، ﴿وله المثل الأعلى (الروم ٢٧)؛ ﴿لا تدركه الابصار، وهو يدرك الأبصـار (الأنعام ١٠٣). فقـوله ﴿ليس كمثله شيء ينفي المثلية، ولا ينفي التشبيه ﴿بالمثل الاعلى. وقوله ﴿يدرك الابصار ولا تدركه الابصار يدل على التفاوت في الادراك بالبصر، لا على نفي البصر في الله. وتعابير القرآن تأتي ما بين المجاز والحقيقة في ذلك، ولكن مجازها لا يمنع الحقيقة في غيرها.

فالتشبيه أسلوب القرآن في التوحيد، مثل التوراة: ﴿ومن قبله كتاب موسى اماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً (الأحقاف ١٢)، فليس فيه، من العقيدة الإلهية، ما يمتاز به إلاّ أنه ﴿كتاب مصدق لساناً عربياً.

وفي الإنجيل والمسيحية عقيدة التجسّد، تجسد كلمة الله من مريم، ليست من التجسيد في شيء، ولا من التشبيه في التوحيد في شيء. وليس في الإنجيل من تعابير التشبيه في التوحيد، كالقرآن والتوراة، شيء يذكر.

وهذا الواقع القرآني القائم على التشبيه في التوحيد، مع إشارة بعيدة الى التنزيه والتجريد هل هو من الإِعجاز في البلاغ؟

تلك شبهة ثالثة على البلاغة القرآنية.

بحث رابع

متشابه القرآن ٢

نحتكم في هذا البحث الى خاتمة المحققين في (الإتقان ٢: ٢ ـ ١٣). إن دعوى الإِعجاز في البلاغة القرآنية قائمة على أنه ﴿قرآن عربي (١٢: ٢؛ ٢٠: ١١٣؛ ٤١: ٣؛ ٤٢: ٧؛ ٤٣: ٣)، ﴿قرآناً عربياً غير ذي عوج (٣٩: ٢٨)، ﴿بلسان عربي مبين (الشعراء ١٩٥؛ ٤٦: ١٢). فهو ﴿قرآن مبين (٣٦: ٦٩؛ ١٥: ١)، و﴿كتاب مبين (٥: ١٥؛ ١٢: ١؛ ٦: ٥٩؛ ١٠: ٦١؛ ٢٧: ٧٥؛ ٣٤: ٣؛ ١١: ٦)، وهو ﴿البلاغ المبين (٥: ٩٢؛ ٦٤: ١٢؛ قـابل ١٦: ٣٥؛ ٢٤: ٥٤؛ ٢٩: ١٨؛ ٣٦: ١٧) ﴿فإنمـا عليك البـلاغ المبين (١٦: ٨٢)، ﴿لتبيّن للناس ما نزّل اليهم (النحل ٤٤).

أولاً: شهادة القرآن المتعارضة في إِعجاز بيانه

تجاه هذه الدعوى نجد القرآن يصرّح عن نفسه ثلاثة تصاريح متعارضة في بيانه وبلاغته، كما نقلها (الإتقان ٢: ٢) في نوع ﴿المحكم والمتشابه عن النيسابوري قال: ﴿في المسألة ثلاثة أقوال:

﴿أحدها: أن القرآن كله محكم، لقوله تعالى: ﴿كتاب أحكمت آياته (هود ١)

﴿الثاني: كله متشابه، لقوله تعالى: ﴿كتاباً متشابهاً مثاني (الزمر ٢٣)

﴿الثالث: ـ وهو الصحيح ـ انقسامه الى محكم ومتشابه لقوله: ﴿منه آيات محكمات ـ هنّ أم الكتاب ـ وأخر متشابهات (آل عمران ٧).

فالنتيجة الأولى الحاسمة ان الإِعجاز البياني البلاغي كمعجزة لا يقول به القرآن. يؤيد ذلك أصح التفاسير لتلك الاقوال: كونه ﴿كتاباً متشابهاً قد يعني أنه ﴿يشبه بعضه بعضاً في الحق والصدق والإِعجاز كما نقل السيوطي. ولكن بقوله: ﴿كتاب أحكمت آياته ـ ثم فصّلت من لدن حكيم خبير (هود ١) فالأحكام يتعلّق بالكتاب المفّصل أي الكتاب المقدس، والتفصيل بالقرآن لأنه ﴿تفصيل الكتاب (يونس ٣٧).

فيبقى ﴿القول الصحيح الذي به نسخ دعوى الإِعجاز: ﴿منه آيات محكمات ـ هن أم الكتاب ـ وأخر متشابهات (آل عمران ٧). واقتصاره ـ بنصه القاطع ـ المحكم على الآيات القلائل، بالنسبة الى المجموع، اللواتي ﴿هن أمّ الكتاب  هو قضاء قرآني مبرم على الإِعجاز القرآني، الذي ينسخه بتقرير المتشابه فيه وهو أكثر القرآن. وهذه هي النتيجة الحاسمة الثانية ان القرآن نفسه نسخ دعوى إِعجازه.

ثانياً: التعريف بالمتشابه

وتعريف ﴿المتشابه في القرآن يبرهن على مدى الإِعجاز البياني والبلاغي فيه. يقول ابن خلدون في الآيات المتشابهات ٣ انها ﴿هي التي تفتقر الى نظر وتفسير يصحّح معناها لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل. لذلك قالوا: تعيين المتشابه لا يقوم إلاّ على نقل عن الشارع، أو على تعارض ظاهر ما بين آية وأخرى يقول به العقل. فهل هذا المتشابه، وهو أكثر القرآن كما سنرى، الذي يفتقر الى نظر وتفسير يصحّح معناه، لتعارضه بعضه مع بعض أو مع العقل، يكون من الإِعجاز في البيان والبلاغة؟

ويقول السيوطي: ﴿المحكم لا تتوقف معرفته على البيان، والمتشابه لا يرجى بيانه ـ وكلام لا يُرجى بيانه هل يكون معجزاً للانس والجن؟

وينقل أيضاً: ﴿المحكم ما عُرف المراد منه، إمّا بالظهور وإمّا بالتأويل. والمتشابه ما استأثر الله بعلمه ﴿على حد قوله (وما يعلم تأويله إلاّ الله) ـ وكلام يستأثر الله بعلمه، ولا يعرف تأويله إلاّ هو سبحانه وتعالى، كيف يخاطب به عباده؟ وكيف يكون معجزاً لهم يحملهم على الإيمان بصحة التنزيل، وعلى التصديق بصدق النبوّة؟ وكلام لا يعرف المراد منه كيف يكون معجزة البيان والبلاغة؟

﴿وقيل: المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه ـ فكيف يخاطب الله عباده بكلام لا يتضح لهم معناه؟ وكيف يكون هذا الكلام معجزاً يقوم مقام المعجزة؟

﴿وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التـأويل إلاّ وجهاً واحداً. والمتشابه ما احتمل أوجهاً ـ والكلام الذي يحتمل أوجهاً من المعاني لا يُعرف المراد منه، فكيف يكون معجزاً؟

﴿وقيل المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه أي غير معقول المعنى كصفات الذات الجسمية في الله تعالى ـ وكلام غير معقول المعنى، هل يليق بالله؟ وهل يصح أن يخاطب الله به عباده، وهو يريد بهم الخير؟

﴿وقيل: المحكم ما استقل بنفسه؛ والمتشابه ما لا يستقل بنفسه، إلاّ بردّه الى غيره ـ وكلام بحاجة الى رده لغيره ليكون مفهوماً، أيكون معجزاً بذاته؟

﴿وقيل: ﴿المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلاّ بالتأويل ـ هذا هو تعريف البيان الحق: ﴿ما تأويله تنزيله أي يسبق معناه لفظه الى الفهم والادراك. أما الكلام الـذي لا يدرك، الاّ بالتأويل ليس ﴿قرآنا عربيـاً غير ذي عوج، وليس ﴿بلسان عربي مبين.

﴿وقيل: المحكم ما لم تتكرّر ألفاظه، ومقابله المتشابه ـ وهذا تعريف يرتد على صاحبه، فكل شيء في القرآن تتكرر ألفاظه. وهل تكرار اسم ﴿الله بالرفع ٩٨٠ مرة، وبالخفض ١١٢٥، والنصب ٥٩٢ مرة يجعله من متشابه القرآن؟

تلك هي التعريفات الواردة في ﴿متشابه القرآن: فهل هي من ﴿دلائل الإِعجاز؟ انما هي برهان بدعة الإِعجاز في القرآن. تلك هي النتيجة الحاسمة الثالثة، القائمة على تعريف ﴿متشابه القرآن.

ثالثاً: هل يمكن الاطّلاع على ﴿متشابه القرآن؟

يقول السيوطي: ﴿اختُلف هل المتشابه ممّا يمكن الاطلاع على علمه، أو لا يعلمه إلاّ الله ـ على قولين منشؤهما الاختلاف في قوله (والراسخون في العلم) هل هو معطوف، و(يقولون) حال؛ أو مبتدأ خبره (يقولون) والواو للاستئناف.

﴿وعلى الأول طائفة يسيرة ـ يقولون بالعطف...

﴿وأمّا الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم من بعدهم ـ خصوصاً أهل السنة ـ فذهبوا الى الثاني (أي الاستئناف) وهو اصح الروايات عن ابن عباس.

١) ﴿وقال السمعاني: لم يذهب الى القول الأول إلا شرذمة قليلة.

٢) ﴿ويدل لصحة مذهب الأكثرين: قراءة ابن عباس: (وما يعلم تأويله إلاّ الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به)، فهذا يدل على ان (الواو) للاستئناف، لأن هذه الرواية، إن لم تثبت بها القراءَة، فأقل درجتها ان تكون خبراً بإسناد صحيح الى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذالك على من دونه. ﴿وفي قراءة ابن مسعود: (وإن تأويله إلاّ عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به). ﴿وحكى الفراء ان قراءَة أبي بن كعب أيضاً (ويقولون الراسخون).

وهكذا أيضاً فالقراءات المختلفة تؤيد الاستئناف، واستئثار الله بعلم المتشابه.

٣) الأحاديث المروية عن النبي والصحابة بتقسيم القرآن الى محكم ومتشابه، واستئثار الله بعلم المتشابه، وامتداح الراسخين في العلم على قولهم بالإيمان به ٤ .

٤) يؤيد القراءة على الاستئناف النص والمقارنة.

فالنص يذم الذين يتبعون ما تشابه ﴿ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله. لنهمل أهل الفتنة. يبقى الذين يبتغون تأويله، ويأتي الجواب رداً عليهم: ﴿وما يعلم تأويله إلاّ الله فإذا كان الراسخون في العلم يعلمون تأويله سقط الجواب، وما كان لمدح إيمانهم بالمتشابه من معنى.

نقل السيوطي ٥ عن الطيبي: ﴿ويعضد ذلك أسلوب الآية، وهو الجمع مع التفريق. لأنه تعالى فرَّق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: (منه آيات محكمات وأخر متشابهات ). وأراد ان يضيف الى كل منهما ما شاء فقال أولاً: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) الى ان قال: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به )؛ وكان يمكن ان يقـال: واما الذين في قلوبهم استقامة ﴿فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك (والراسخون في العلم) لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلاّ بعد التثبيت العام والاجتهاد البليغ. فإذا استقام القلب على طرق الارشاد، ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق في القول الحق. وكفى بدعاء الراسخين في العلم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا) ٦ شاهداً على ان (الراسخون في العلم) مقابل لقوله (والذين في قلوبهم زيغ). وفيه اشارة الى ان الوقف على قوله (إلاّ الله) تام، وإلى ان علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار اليه في الحديث بقوله: فاحذرهم.

والقرينة الحاسمة هي التي تذكر انتظار تأويل القرآن: ﴿هل ينظرون إلاّ تأويله؟ ـ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءَت رسل ربنا بالحق (الأعراف ٥٣)، ومفاده ان تأويل متشابه القرآن لا يأتي الاّ في اليوم الآخر.

وما ذهبت ﴿شرذمة قليلة إلى القراءَة على العطف، والقول بأن الراسخين في العلم يعرفون تأويله، إلاّ افتداءً من النتـائج الخطيرة المتوقفة على استئثار الله وحـده بعلم تأويله: ﴿أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: (الراسخون في العلم يعلمون تأويله؛ لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه). واختار هذا القول النووي فقال في شرح (مسلم): إنه الأصح لأنه يبعد ان يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق الى معرفته.

فهذه النتائج الخطيرة هي التي تحمل بعضهم على مخالفة الجمهور بالقراءة والمعنى. فموقف هؤلاء هـو موقف العقل المصدوم، لا موقف النقل الصحيح. وفاتهـم جميعـاً معنى ﴿الراسخين في العلم: يفهمونه لغويّاً، وهو اصطلاح قرآني كناية عن طائفة من أهل الكتاب. كما رأينا ذلك مراراً. يقول: اذا كان الظالمون من أهل الكتاب، أي اليهود، يشكون بالقرآن لوجود المتشابه فيه، فإن ﴿الراسخين في العلم أي ﴿أولي العلم قائماً بالقسط (آل عمران ٧ و ١٨) يؤمنون بأن المتشابه ﴿من عند ربنا، فيؤمنون بتنزيل القرآن على ما فيه من محكـم ومن متشابه لا يعلم تأويله إلاّ الله. وعليه، في موقف ﴿الشرذمة القليلة، اذا كان ﴿الراسخون في العلم من أهل الكتاب يعرفون ﴿ما تشابه منه، ويعلمون تأويله؛ فإن أهل القرآن لا يعرفون ذلك. ونرجع في النهاية الى استئثار الله بعلم متشابه القرآن.

وتكون النتيجة الحاسمة الرابعة تلك النتائج الخطيرة القائمة على هذا الموقع القرآني الراهن: ١) ان الله، في القرآن، يخاطب عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق الى معرفته. ٢) ان أهل القرآن، بإلجائهم الى جهل تأويله، ﴿لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه. ولذلك عند جمعه عمد عثمان ولجانه الى اسقاط الكثير من منسوخه الذي كان علي يجمعه، والى اسقاط تلاوة ما تشابه عليهم من القرآن. ٣) والقراءات الثابتة المخالفة لفظاً لقراءَة المصحف العثماني مثل قراءَة ابن مسعود، وقراءَة أبي بن كعب اللذين أوصى النبي بأخذ القرآن عنهما، وقراءَة ابن عباس عن أُبي بن كعب، برهان قائم على ان الجمع العثماني كان من اهدافه تنقيح النص القرآني، فلم يسلم كما نزل وكما تلي قبل التدوين العثماني، كما يشهد اتلاف الأحرف الستة، والمنع بقراءَة غير قراءَة المصحف الاميري، فسقطت قراءَة ابن مسعود، وقراءَة أبي بن كعب وقراءَة ابن عباس ترجمان القرآن.

وهكذا يثبت ان متشابه القرآن لا يمكن الاطلاع عليه، وأنه ﴿ما يعلم تأويله الاّ الله.

رابعاً: تعيين المحكم والمتشابه

اختلفوا فيه إلى أقوال:

١) ﴿قيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد. والمتشابه القصص والأمثال.

٢) ﴿عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به. والمتشابهات منسوخه، ومقدَّمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به.

٣) ﴿عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذالك من متشابه يصدّق بعضه بعضاً.

٤) ﴿عن الربيع قال: المحكمات هي أوامره الزاجرة.

وهكذا فلا إجماع إلاّ على أوامره الزاجرة في الحلال والحرام أي على احكام الشريعة في أوامرها الناهية الزاجرة، فهذه هي ﴿أم الكتاب. والحال أن احكام القرآن من أمر ونهي تتراوح ما بين المائة والخمسين، وبين الخمسمائة آية. ﴿قال الغزالي وغيره: آيات الأحكام خمسمائة آية، وقال بعضهم مائة وخمسون. قيل: ولعل مرادهم المصرح به. ٧ وفي التشريع لا يقضي إلاّ بالمصرح به. وهذا المصرح به مائة وخمسون آية، بالاجماع. فما هي الأحكام الناهية الزاجرة فيها؟

وهكذا يقتصر المحكم في القرآن على الأحكام فقط، وهي أقل من الخمسمائة آية. فيبقى القرآن كله تقريباً من المتشابه، والذي ﴿ما لا يعلم تأويله إلاّ الله. إنّها النتيجة الخامسة: ولا يتعلّق الإِعجاز القرآني في البيان والبلاغة إلاّ بأحكام الشريعة المحكمة. فليس إذن من إِعجاز في آيات التوحيد وبراهينه؛ وليس من إِعجاز في أوصاف اليوم الآخر، والحساب، والجنة والنار، وليس من إِعجاز في بيان الوعد والوعيد؛ وليس من إعجاز في قصص القرآن وأمثاله؛ وليس من إِعجاز في أقسام القرآن وأنواع خطاباته؛ وليس من إِعجاز في آيات الترهيب والترغيب، وآيات التنديد والجدل والحجاج؛ وليس من إِعجاز في كونيات القرآن، ولا في غيبياته ٨ ؛ إن القرآن بإعلان ﴿المتشابه فيه، قضى قضاءً مبرماً على دعوى الإِعجاز فيه.  

وكتاب أكثره المطلق من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاّ الله ـ وهب الراسخون في العلم أيضاً ـ كيف يكون معجزة البيان والبلاغة؟

خامساً: واقع المتشابه في القرآن

نقل السيوطي عن الراغب في (مفردات القرآن) قال: ﴿الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه ومتشابه من وجه.

﴿فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط؛ ومتشابه من جهة المعنى فقط؛ ومتشابه من جهتهما.

﴿فالأول (من جهة اللفظ) ضربان: أحدهما يرجع الى الألفاظ المفردة، إما من جهة الغرابة نحو (الأب ـ ويزفون)أو الأشتراك، كاليد واليمين (بحق الله). وثانيهما يرجع الى جملة الكلام المركب. وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو (وان خفتم ان لا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم)؛ وضرب لبسطه نحو (ليس كمثله شيء) لأن لو قيل (ليس مثله شيء) كان أظهر للسامع؛ وضرب لنظم الكلام نحو (أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، قيّماً) وتقديره (أنزل إلى عبده الكتاب قيّماً، ولم يجعل له عوجاً).

﴿المتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة، فإن تلك الأوصاف لا تتصوّر لنا، اذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم تحسبه، أو ليس من جنسه.

﴿والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب: الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو (اقتلوا المشركين). والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو (فانكحوا ما طاب لكم من النساء). والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو (اتقوا الله حقّ تقاته). والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو (وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها)، (انما النسيء زيادة في الكفر)، فإنه من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تقسير هذه الآية. الخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد، كشروط الصلاة والنكاح. وقال: وهذه الجملة اذا تُصوّرت عُلم ان كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم.

هذا هو واقع المتشابه في القرآن. وهو يتعلق بالألفاظ المفردة، وبالجمل المركبة، وبالنظم نفسه ـ والنظم هو أم الإِعجاز. فقد دخل المتشابه نظم القرآن من كل جهاته. وهو يتعلق أيضاً بمعاني القرآن كأوصاف الله وأوصاف اليوم الآخر. وهو يتعلق اخيراً باللفظ والمعنى معاً في عامه وخاصه، وفي ناسخه ومنسوخه، وفي معلوماته، وفي شروط احكامه. فقد دخل المتشابه في العقيدة والشريعة، وفي نظم القرآن نفسه.

وكتاب يكتنفه المتشابه في لفظه ونظمه، وفي عقيدته وشريعته، كيف يصح ان يكون معجزاً في الفصاحة والبلاغة والبيان؟ تلك هي النتيجة السادسة، من واقع المتشابه في القرآن.

سادساً: ما الحكمة في تنزيل كتاب أكثره متشابه؟

١) يقول ابن قتيبة ٩ : ﴿واما قولهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن مَن أرادَ لعباده الهدى؟ والجواب: لو كان القرآن كله ظاهراً مكشوفاً حتى يستوي في معرفته العالم الجاهل، لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر. ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة.

انها حكمة، ينقضها القرآن بقوله: ﴿فانما عليك البلاغ المبين (النحل ٨٢) لا المتشابه؛ ﴿لتبين للناس ما نزّل اليهم (النحل ٤٤)، لا للعلماء والفقهاء وحدهم. فالجاهل هو الأولى بهداية الرحمن الرحيم.

٢) يقول صاحب كتاب المباني ١٠ : ﴿فإن قيل: ولأية علة أنزل المتشابه، وهو يحتمل التأويلات؟ فهلاّ جعله كله محكماً دالاً على ما أراده، ليكون أكشف للحق وأقمع للشبهة مع قوله تعالى: (ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة! واذا لم يكن في المتشابه المأخوذ منه المراد لبْس ولا خفاء، فهو الى التشكك أقرب، وكان متناقضاً، ولم يكن من عند حكيم. والكلام المبين لا تتداخل فيه الشكوك أشبه بكلام الحكيم الذي يريد هداية عبيده.

﴿والجواب عليه أن الله سبحانه احتج على العرب بالقرآن، اذ كان فخرهم ورياستهم بالبلاغة وحسن البيان، والاختصار والاطناب. وكان كلامهم على ضربين: أحدهما الواضح الموجز الذي لا يخفى على سامعه ولا يحتمل غير ظاهره؛ والآخر على المجاز والكنايات والاشارت والتلويحات وهذا الضرب هو المستحلى عندهم، الغريب من الفاظهم، البديع في كلامهم... فلما قرعهم الله سبحانه فعجَّزهم عن المعارضة بمثل سور أو سورة منه، أنزله على الضربين ليصبح العجز منهم وتتاكد الحجج ولزومها إياهم.

انها أيضاً حكمة ينقضها القرآن نفسه. فالكلام ﴿على المجاز والكنايات والاشارات والتلويحات هو موضوع الشعر، وما علمناه الشعر، وما ينبغي له؛ إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين (يسن ٦٩).

٣) وجاءَ في (الإتقان ٢: ١٢): ﴿وقال بعضهم: إن قيل ما الحكمة في انزال المتشابه، فمن أراد لعباده البيان والهدى؟ قلنا: ان كان مما يمكن علمه فله فوائد، منها الحث للعلماء... ومنها ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات اذ لو كان القرآن كله محكماً لا يحتاج الى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلفاء، ولم يظهر فضل العالم على غيره. وان كان مما لا يمكن علمه، فله فوائد: منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به كالمنسوخ، وان لم يجز العمل بما فيه. واقامة الحجة عليهم لأنه لمّا نزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف على معناه، مع بلاغتهم وأفهامهم دلَّ على انه نزل من عند الله، وانه الذي أعجزهم عن الوقوف.

إن الخلق عند الله سواسية، وليس في تنزيله إقامة طبقات بين الناس، انما الرحمٰن الرحيم يريد الهدى والبيان لجميع الناس. فلا داعي الى المتشابه الذي لا يعرفه إلاّ الراسخون في العلم. فالكلام والبيان للخاصة، والتنزيل والدين لعامة الناس. والمتشابه الذي لا يمكن علمه، لا تقوم به حجة، ولو نزل بلغتهم وبيانهم، فإن الله يريد لعباده البيان والهدى، لا المتشابه والشكوك. ﴿والكلام المبين الذي لا تتداخل فيه الشكوك اشبه بكلام الحكيم الذي يريد هداية عبيده.

- وإِعجاز الخلق بكلام لا يمكن علمه هو تعجيز، لا إِعجاز. وحاشا للحكيم الرحيم إِعجاز خلقه بتعجيزهم. تعالى سبحانه عن مثل هذا العبث! وهذا التعجيز في تنزيل المتشابه لا ﴿يدل على انه نزل من عند الله، وأنه الذي اعجزهم عن الوقوف كما يدعون، لأنه ﴿إلى التشكك أقرب، وكان متناقضاً، ولم يكن من عند حكيم. وبعبارة واحدة ان واقع المتشابه في القرآن يناقض هدف التنزيل والنبوّة: ﴿فإنما عليك البلاغ المبين (النحل ٨٢)، ﴿لتبيّن للناس ما نزّل اليهم (النحل ٤٤).

وهذا التناقض بين متشابه القرآن وهدفه في الهدى والبيان ختام النتائج الحاسمة، من الرحمٰن الرحيم الذي يريد بالناس الهداية، لا البلاء. فمتشابه القرآن ﴿ابتلاء العباد. هذا هو القول الفصل في حكمته. وهذه الحكمة لا تليق بالله الحكيم الرحيم.

سابعاً: فصل الخطاب في متشابه القرآن

بإزاء تلك النتائج لمتشابه القرآن، يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب ١١ : ﴿واذن فالرأي الذي ينبغي ان نراه في القرآن هو ان كل ما فيه من حروف وكلمات، وآيات، هو محكم بمعنى انه غير محجوب عن انظار الناظرين، ولا محجوز عن فهم المتدبرين والمتذكرين. وهذا الفهم لكلام الله على هذا الوجه هو الذي يحفظ وحدة هذا الكتاب، ويجعل منه آية من آيات الله. أما اذا قيل إن من القرآن متشابهاً لا يدنو منه نظر، ولا يتجه اليه عقل، فإن ذلك من شأنه أن يمزق وحدة القرآن، وان يقيم فيه الحواجز والسدود، وان يجعل بعضه قرآناً، وبعضه أصواتاً تُنطق ولا تُفهم... واذا كان الذين يقولون بوجود المتشابه في القرآن لا يكفرون به، بل يؤمنون به كما يؤمنون بالمحكم ـ فإن إِيمانهم هذا على وجه واحد وعلى درجة واحدة إيمان عجز واستسلام... إيمان قلق مذعور ليس له جذور تمسك به في قلب صاحبه.

ان هذا الحلّ الجذري، بالاستئصال، لواقع المتشابه في القرآن ومشكله وحكمته، ينقضه القرآن نفسه في صريح تصريحه: ﴿منه آيات محكمات... وأخر متشابهات... وما تشابه منه... ما يعلم تأويله إلاّ الله! وينقضه اجماع الأئمة في الأمة منذ نزول المتشابه الى اليوم.

وتبقى الخاتمة: ان القول بوجود المتشابه في القرآن ﴿من شأنه ان يمزّق من وحدة القرآن ويقود الى ﴿إيمان عجز واستسلام... إيمان قلق مذعور. ويبرز التساؤل: هل متشابه القرآن، كمـا يصف نفسه، وكما يصفه أهله، من ﴿دلائل الإِعجاز في البيان والبلاغة؟

بحث خامس

الناسخ والمنسوخ ١٢ شبهة خامسة على البلاغة القرآنية

نحتكم أيضاً في هذا البحث الى السيوطي، خاتمة المحققين في (الإتقان ٢: ٢٠ ـ ٢٧).

نشاهد في هذا البحث ظواهر غريبة من الواقع القرآني تدل على مدى إِعجازه في البيان والبلاغة.

ظاهرة أولى: ﴿النسخ ممّا خصّ الله به هذه الأمة

يفتتح بحثه بقوله: ﴿في ناسخه ومنسوخه: أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون... قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلاّ بعد ان يعرف الناسخ والمنسوخ. وقد قال علي لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا! قال: هلكت وأهلكت.

فالقول بوقوع النسخ في القرآن عليه إجماع؛ ولذلك يقـول السيوطي في مطلع بحثه: ﴿النسخ ممّا خص الله به هذه الأمة لحكم، منها التيسير فميزة القرآن النسخ في آياته. ولا نسخ في الإنجيل ولا في الكتاب. والنسخ في أحكام القرآن، كالمتشابه في أخباره وأوصافه، شبهة على إِعجازه، لأن الحكم المحكم لا يُنسخ في الكتاب الواحد، مع النبي الواحد، في الزمن الواحد، وقد لا يمضي على تنزيل المنسوخ اعوام أم شهور أم أيام. جاء في (أسباب النّزول) للسيوطي على آية الوسوسة: ﴿وان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله (البقرة ٢٨٤) أنها لما نزلت ﴿اشتد ذالك على الصحابة... فقالوا قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها... فأنزل الله في أثرها: آمن الرسول.. لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها (البقرة ٢٨٥ ـ ٢٨٦) فنسخها ﴿رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن ابي هريرة؛ وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه. والغرابة في هذا النسخ أنه جاءَ بعد تنزيل الله نزولاً على رغبة الجماعة.

يقول السيوطي: ﴿وقد أجمع المسلمون على جواز النسخ. وأنكره اليهود ظنّاً منهم أنه بُدَاء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له. وهو باطل لأنه بيان مدة الحكم. ينكر اليهود ذلك لأنهم لا يتصورون ان الله ينسخ شريعة التوراة الى قيام الساعة ولكن في التشريع قد يتبع الله سُنّة التطور التي قضاها على الانسان فيجعل ﴿لكل أجل كتاباً. ولكن لا يليق بالله النسخ في كتاب واحد، مع نبي واحد، في زمان واحد؛ فهذا النسخ فيه شبهة البُداء. أجل ﴿تتبدل الأحكام بتغيّر الأزمان ولكن لا بتغيّر الأحوال في الزمن الواحد. وتغيّر التشريع بتغيّر الأحوال في الزمن الواحد. وتغيّر التشريع بتغيّر الأحوال في الزمن الواحد القصير بُداء لا يليق بالحكيم العليم. لذلك فميزة النسخ التي ﴿خص الله بها هذه الأمة هي ميزة مشبوهة بحد ذاتها.

ظاهرة ثانية: من النسخ في معناه العام

جاءَ مبدأ النسخ وواقعه في قوله: ﴿ما ننسخ من آية، أو ننسها، نأتِ بخير منها أو مثلها (البقرة ١٠٦). وجاءَ تطبيقه ومعناه في قوله: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلآّ اذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيّته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته (الحج ٥٢) فالنسخ إحكام لآيات الله.

ينتج عن هذا الوصف أن النسخ يُحكم آيات الله التي كانت قبله غير محكمة. وبتنزيل آيات غير محكمة في تنزيلها، وتكون بحاجة الى إحكام بعد تنزيلها، هل هي من الإِعجاز في البيان والبلاغة؟ فالنسخ، في معناه العام نفسه، شبهة على الإِعجاز في التنزيل وفي بيانه.

ظاهرة ثالثة: نسخ آية بآية يعني التعارض في التنزيل

نقل السيوطي: ﴿قال ابن الحصار: انما يُرجَع في النسخ الى قول صريح عن رسول الله ﷺ أو عن صحابي يقول آية كذا نسخت كذا. وقد يُحكم به عند وجود التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، ليُعرف المتقدم والمتأخر. قال: ولا يُعتمد في النسخ قول عوام المفسرين ولا اجتهاد المجتهدين، من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيّنة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم واثبات حكم تقرّر في عهده ﷺ. فالنسخ يقوم على معارضة بيّنة بين آية وآية، أو بين آية وآيات كنسخ الخمر والربا. فمبدأ النسخ وواقعه شاهد على تعارض الآيات في التنزيل والتشريع. وكتاب يقول بالنسخ في تنزيله وأحكامه، أي بالتعارض بينها، أيدل على إِعجاز في البيان والبلاغة؟

ظاهرة رابعة: من معاني النسخ المختلفة

يقول في (الإتقان ٢: ٢٠): ﴿يرد النسخ بمعنى الإزالة ومنه قوله (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته).

﴿وبمعنى التبديل، ومنه: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية ـ والله أعلم بما ينزّل ـ قالوا: انما أنت مفتر)!

﴿وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد الى واحد. هكذا كان التوارث في مطلع الهجرة الى المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والانصار، فنسخه بالتوارث بين الأرحام والقرابات: ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض (الانفال ٧٥؛ الأحزاب ٦).

تلك ميزات ثلاث في التنزيل القرآني وبيانه وبلاغته. فالتبديل في آي القرآن يشهد هو به على نفسه (النحل ١٠١)؛ وكان في آخر العهد بمكّة سبب ارتداد بعضهم عن الإسلام. والتحويل له في القرآن شواهد، من تحويل المواريث، ومن تحويل القبلة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام، وهدم عاشوراء بصوم رمضان. والإزالة من التلاوة لا مثال لها من القرآن؛ إنما وجودها قائم بشهادة الأخبار والآثار. نقل السيوطي ١٣ . ﴿وأمثلة هذا الضرب كثيرة: عن ابن عمر قال: ليقولن أحدكم قد أخذتُ القرآن كله، وما يدريه ما كله؛ قد ذهب منه قرآن كثير؛ ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر... وعن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي ﷺ مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها الاّ ما هو الآن (أي ٧٣ آية )... وإنْ كانت لتعدل سورة البقرة. وعن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة نحو (براءَة) ثمرفعت وحفظ منها آية واديين من الحال. وعن ابي موسى الاشعري أيضاً قال: كنّا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أُنسيناها غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لا تقولـوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتُسألون عنهـا يوم القيامة ). وعن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة وأقرأهما رسول الله ﷺ فكانا يقرأان بها؛ فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف؛ فأصبحا غاديين على رسول الله ﷺ فذكرا ذلك له، فقال: إنها ممّا نُسخ فالهوا عنا.

نتساءَل: فهـل تلك الميزات في التنزيل القرآني، التبديل والتحـويل والإزالـة، من ﴿دلائل الإِعجاز في البيان والبلاغة؟

ظاهرة خامسة: الإسقاط أو الرفع من التلاوة

من ميزات القرآن الكبرى الاسقاط منه أو الرفع من تلاوته، في زمن التنزيل ثم في زمن التدوين.

ففي زمن التنزيل، ﴿روى البخاري حديثاً عن فاطمة ان النبي ﷺ أسرّ اليها بأن جبريل يُعارضه بالقرآن كل سنة، وأنه عارضه في العام الذي توفي فيه مرتين. وقال: ولا أراه إلاّ حضر أجلي. وروي البخاري حديثاً آخر جاء فيه: كان القرآن يُعرض على النبي كل عام مرة، فعُرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه ١٤ . فهل كان محمد يعرض على جبريل، أم جبريل يعرض على محمد؟ وما معنى هذا العرض المتواتر كل سنة؟ ﴿قال البغوي في(شرح السنة): إن زيداً بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي ١٥ فهذه العرضات المتواترة كانت إذن لإحكام القرآن بتنقيحه، أو الأسقاط منه، ورفع تلاوته. وذلك على زمن التنزيل وبفعل النبي نفسه.

وحين التدوين اسقط عثمان من الآيات ومن السور ما وردت به الاخبار والآثار. نقل السيوطي ١٦ : ﴿عن عبد بن عدي قال: قال عمر كنا نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) ثم قال لزيد بن ثابت: أكذلك؟ قال نعم. وعن المسور بن مخزمة قال: قال عمر لعبد الرحمٰن عوف: ألم تجد فيما أُنزل علينا (جاهدوا كما جاهدتم أول مرة) فإنا لا نجدها؛ قال: أُسقطت فيما أسقط من القرآن!... وعن ابن أبي حميدة بنت أبي يونس قالت: قرأ عليَّ أبي وهو أبن ثمانين سنة في مصحف عائشة (ان الله وملائكته يصلون على النبي؛ يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً ـ وعلى الذين في الصفوف الأولى)، قالت: قبل ان يغيّر عثمان المصاحف!

قد يقبل العقل والإيمان الاسقاط من القرآن والرفع من صاحب التنزيل، أما ان يحصل من أهل التدوين، فهذا لا يقبله إيمان ولا عقل!

وقد يقبل العقل والإيمان رفع قرآن من التلاوة لحكمة يراها منزله؛ أمّا ان يُرفع من التلاوة لاختلافهم فيه، فهذا ممّا لا يرضى به عقل ولا إيمان. ﴿أخرج ابن الضريس في(فضائل القرآن)... أن عمر خطب الناس فقال: لا تشكوا في الرجم، فإنه حق، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف. فسألتُ أُبي بن كعب، فقال أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله ﷺ، فدفعت في صدري وقلت: تستقرئه آية الرجم، وهم يتسافدون تسافد الحمر! قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع التلاوة وهو الاختلاف.

وهذه الظاهرة المزدوجة برهان آخر على ان ما نُسخ بالرفع والاسقاط لم يكن من معجز القرآن في البلاغة والبيان.

ظاهرة سادسة: النسخ على أقسام

﴿قال مكيّ: الناسخ أقسام: فرض نسخ فرضاً لا يجوز العمل بالأول، كنسخ الحبس للزواني بالحد؛ وفرض نسخ فرضاً ويجوز العمل بالأول، كآية المصاهرة؛ وفرض نسخ ندباً، كالقتال كان ندباً ثم صار فرضاً؛ وندب نسخ فرضاً؛ كقيام الليل نُسخ بالقراءَة في قوله (فاقرأوا ما تيسّر من القرآن).

فتكلما غريبتان من غرائبه: ﴿فرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول، كآية المصاهرة ـ وهذا تعارض مكشوف في لفظه نفسه، إذ كيف يبقى مع النسخ جواز عمل بالمنسوخ؟ ﴿وندب نسخ فرضاً وهذا من باب التخفيف في التشريع: خففّ من شرائع مَن قبلنا؛ ثم خفّف من شريعته نفسها، فلو كانت محكمة حكيمة، لما احتاجت الى تخفيف في الشريعة الواحدة.

ظاهرة سابعة: النسخ على أضرب

قال السيوطي: ﴿النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب.

﴿أحدها ما نُسخ تلاوته وحكمه. قالت عائشة: (كان فيما أُنزل عشر رضعات معلومات فنُسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله ﷺ وهن ممّا يُقرأ من القرآن ـ رواه الشيخان)... وقال أبو موسى الأشعري: نزلت ثم رفعت!

﴿الثاني ما نُسخ حكمه دون تلاوته. وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة...

﴿الثالث ما نُسخ تلاوته دون حكمه ـ وينقل السيوطي من الاخبار والآثار ما يشهد لهذا الواقع القرآني، كقوله عن ابن عمر: ﴿قد ذهب منه قرآن كثير! وقوله بشهادة عمر وعبد الرحمٰن عوف: ﴿أُسقطت (آية) فيما أُسقط من القرآن!

وهنا ترد التساؤلات التي تصدم العقل والإيمان في هذا الواقع القرآني:

١) ما الحكمة البالغة في تنزيل قرآن يُنسخ تلاوته وحكمه جميعاً؟ أو بتعبير آخر، ما الحكمة الإلهية في قرآن نزل ثم رُفع؟ أيصح هذا من الحكيم العليم؟ يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب ١٧ : ﴿والقول بأن من القرآن ما نزل وتُلي ثم نُسخ... قول فيه مدخل الى الفتنة والتخرّص. فإذا ساغ ان ينزل قرآن ويُتلى على المسلمين ثم يُرفع، ساغ لكل مبطل أن يقول ايّ قول، ثم يدَّعي له انه كان قرآناً ثم نُسخ! وهكذا تتداعى على القرآن المفتريات والتلبيسات ويكون لذلك ما يكون من فتنة وبلاء. ثم من جهة أخرى: ما حكمة هذا القرآن الذي ينزل لأيام أو شهور ثم يُرفع؟

ثم يقول: ﴿وكيف يكون رفعه؟ أبقرآن يقول للناس: إن آية كذا قد رُفعت أو نُسخت فلا تجعلوها قرآناً، ولا تقرأوها؟ أم ان هذا النسخ يقع بمعجزة ترفع من صدور الناس ما قد حفظوا من القرآن المنسوخ؟ واذا رُفع من الصدور بتلك المعجزة فهل تكون معجزة أخرى يُرفع بها ما كُتب بأيدي الكرام الكاتبين من كتاب الوحي بين يدي النبي؟ واذا رُفع من الصدور او من الصحف المكتوبة بمعجزة من المعجزات فما الذي يدل على أن قرآناً كان ثمّ رفع؟... أما ان يكون رفع هذه الآيات المنسوخة من صدور الناس بمعجزة حتى يُمح محواً فلا يذكر أحد من أمرها شيئاً، فإن ذلك معناه ألاّ يكون هناك خبر عن هذه الآيات، وألاّ يقوم في الحياة شاهد يشهد لها بأنها كانت ثم ذهبت... ومَن الذي يخبر عنها ويشهد لها، وليس عند أحد علم بها أو ذكر لها.

ان الشيخ الخطيب ينكر هذا النوع من القرآن المنزل والمرفوع، مع ان شواهده الصحابة أنفسهم كما نقل السيوطي بالتواتر عنهم (الإتقان ٢: ٢٥)؛ ان عندهم الخبر اليقين وان تنكّر له، لأنه يجد بحق ان لا حكمة له، وهو مدخل الى الفتنة والبلاء. أجل ﴿ما حكمة هذا القرآن الذي ينزل لأيام أو شهور ثم يُرفع؟ ليس من جواب شافٍ كافٍ.

٢) وما الحكمة البالغة في تنزيل قرآن تُرفع تلاوته ويبقى حكمه؟ إذا رفع الله تنزيله فقد رفع حكمه! ولا يدين الانسان إلاّ بحكم الله! اذا الله لم يشرع لنا حكماً صريحاً، فلسنا مأمورين به. وهل من الحكمة أن يأمرنا بشيء لا نهتدي به اليه. هذا مجموع المتناقضات.

٣) بقي النوع المأثور في الناسخ والمنسوخ؛ فقالوا: ﴿انما حق الناسخ والمنسوخ ان تكون آية نسخت آية. ولقد لحظ أهل القرآن تعارض العقل والإيمان في هذا النسخ بمعناه الحصري، والذي ﴿أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون. يقول السيوطي: ﴿ما الحكمة في رفع الحكم (بالناسخ) وبقاء التلاوة (في المنسوخ)؟ فالجواب من وجهين: أحدهما ان القرآن كما يُتلى ليُعرف الحكم منه والعمل به، فيتلى لكونه كلام الله فيثاب عليه، فتُركت التلاوة لهذه الحكمة. والثاني أن النسخ يكون غالباً للتخفيف فأُبقيت التلاوة تذكيراً للنعمة ورفع المشقة.

ليس من حكمة في هذا الجواب المزدوج: ان التعبّد بتلاوة المنسوخ، والتذكير بنعمة التخفيف في المنسوخ، كلاهما تلبيس لمراد الله من تنزيله، وتجهيل به؛ فإذا كان العلماء يختلفون على وجود الناسخ والمنسوخ، وعلى تحديده، وعلى شموله، فكم بالأحرى العامة؟ فالعامة عندما يقرأون كلام الله المنسوخ يظنونه قائماً يجب ان يمتثلوا به. فحاشى لحكمة الله أن تورّط في الجهل من أمرها من شاءَت لهم البيان والهدى. إنه ﴿قرآن مبين، لا قرآن على بيانه شبهة.

فلا حكمة في تنزيل المنسوخ. واذا كان هذا المنسوخ في نظر الله أمراً طارئاً، فيليق بالله ان يجعله أمراً أو نهيـاً صريحاً الى أجل، كقـوله: ﴿فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره.

ولا حكمة في تنزيله على الإطلاق للتعارض القائم بين التنزيل واللوح المحفوظ: فما في اللوح المحفوظ، هل المنسوخ ام الناسخ؟ بما أنهما متناقضان في حكم الله، فلا شك ان الناسخ هو المكتوب في اللوح المحفوظ: فمن أين اذن جاءَ المنسوخ؟ ولا يصح بحال ان يكون النقيضان معاً، المنسوخ والناسخ، كلاهما جميعاً في اللوح المحفوظ: فمن أين نزل المنسوخ؟

والنتيجة الحاسمة أن المنسوخ بحد ذاته شبهة على التنزيل، وشبهة على الإِعجاز في البيان والتبيين.

ظاهرة ثامنة: النسخ على كيفيات غريبة

جاءَ في (الإتقان ٢: ٢٤): ﴿فوائد منثورة:

١) ﴿قال بعضهم: ليس في القرآن ناسخ إلاّ والمنسوخ قبله في الترتيب، إلاّ في آيتين: آية العدة (في البقرة) حيث الناسخ (الآية ٢٣٤) جاءَ قبل المنسوخ (الآية ٢٤٠) ـ وقوله ﴿لا يحل لك من النساء من بعد (الأحزاب ٥٢)، وهي منسوخة بما قبلها ﴿إنا أحللنا لك (الأحزاب ٥٠).

٢) ﴿وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفّار والتوّلي والاعراض والكفّ عنهم منسوخ بآية السيف وهي (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) ١٨ ، نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها.

٣) ﴿وقال (ابن العربي) أيضاً: من عجيب المنسوخ قوله تعالى: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين) ١٩ ، فإن أولها (أخذ العفو) وآخرها (وأعرض عن الجاهلين) منسوخ، ووسطها محكم وهو (وأمر بالعرف).

٤) ﴿وقال: من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ، لا نظير لها، وهي قوله: (عليكم أنفسكم، لا يضركم مَن ضَلَّ اذا اهتديتم) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله (عليكم انفسكم).

٥) ﴿وقال السعيدي: لم يمكث منسوخ مدة أكثر من قوله تعالى (قل: ما كنت بدْعاً من الرسل) مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول (الفتح) عام الحديبيّة.

٦) ﴿وذكر هبة الله بن سلامة الضرير أنه قال: في قوله تعالى (ويطعمون الطعام على حُبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) ٢٠ ان المنسوخ من هذا الجملة (وأسيراً)، والمراد بذلك أسير المشركين. فقُرئ عليه الكتاب وابنته تسمع؛ فلما انتهي الى هذا الموضع قالت له: أخطأت يا أبتِ؛ قال: وكيف؟ قالت: اجمع المسلمون إلى ان (الأسير) يُطعم ولا يُقتل جوعاً. فقال: صدقت ٢١ .

٧) ﴿قال شيدلة في (البرهان ): يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخاً، كقوله (لكم دينكم ولي دينِ) نسخها قوله تعالى (فاقتلوا المشركين) ثم نسخ هذه بقوله (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ). قال: وفيه نظر من وجهين: أحدهما ما تقدمت الإشارة إليه؛ والأخر أن قوله (حتى يُعطوا الجزية) مخصص للآية ٢٢ ، لا ناسخ. نعم يمثل له بآخر سورة (المزمّل) فإنه ناسخ لأولها، منسوخ بفرض الصلوات الخمس، وقوله (انظروا خفافاً وثقالاً) ناسخ لآيات الكهف، منسوخ بآيات العذر.

فتلك سبع حالات أو كيفيات في أسلوب النسخ، وهي من ﴿غرائبه التي لا تنتهي: كيف يأتي ناسخ قبل منسوخ؟ وكيف تنسخ آية واحدة، آية السيف (التوبة ٥) سائر القرآن كله أي ١٢٤ آية في سور عديدة؟ وكيف تنزل آية (العقد) يكون أولها وآخرها منسوخين بوسطهما المحكم؟ أو كيف تنزل آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ؟ وكيف ينزل تعليم في نبوّة محمد ثم ينسخ بعد ست عشرة سنة؟ وما هذا العبث في التنزيل ـ نسخ الناسخ فيصير بدوره منسوخاً؟!

إن هذه الكيفيات الغريبة في التنزيل تجعله عبثاً في حكمة الله البالغة، وحاشا للّه من العبث! فهي كلها شبهات على الإِعجاز في البيان والبلاغة.

ظاهرة تاسعة: النسخ على مراحل.

يرون ذلك في تحريم الخمر وتحريم الربا.

١ـ جاءَ قوله في الخمر أولاً: ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سَكَراً ورزقاً حسناً (النحل ٦٧ ). ان السَكَر هو ﴿المسكر (الجلالان)، وهو رزق حسن، كما يظهـر من عطف البيان. وظل الأمر كذلك طول العهد بمكـّة. وفي اول العهد بالمدينة قال: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر؟ قلْ: فيهما إثم كبير ومنافع للناس؛ واثمهما أكبر من نفعهما (البقرة ٢١٩). وهذا حكم وحكمة مستقلان: فكل طعام أو شراب حسن، ما لم ينحرف الى افراط إثمه أكبر من نفعه. وفي منتصف العهد بالمدينة يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا، لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون (النساء ٤٣). وفي آخر العهد بالمدينة يأتي قوله:﴿انما الخمر والميسر، والانصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان قأجتنبوه (المائدة ٩٠). فيجيء الحكم القاطع بتحريم الخمر، لكن بتعبير غير تعبير التحريم، ﴿فاجتنبوه مما يدع شبهة ٢٣ .

أما الاجماع فإن الآية الأخيرة تحريم بحكم قاطع. وهذه القصة في الخمر شاهد على ان مراحل النسخ متتابعة، ينسخ بعضها بعضاً، اللاحق منها ينسخ السابق، فيصير الناسخ منسوخاً مرتين. فما حكمة هذا النسخ المتتابع؟ وهل يداور الله عباده في تصدير أمره؟ وكيف يمكن التوفيق بين هذه الأحكام المختلفة في أمر واحد هو الخمر: فهي رزق حسن؛ وفيها نفع واثم؛ ويحرم على السكران دخول المسجد أو الاشتراك بالصلاة؛ أخيراً هي رجس من عمل الشيطان. وكيف تبدأ رزقاً حسناً وتنتهي رجساً من عمل الشيطان؟

هذا النسخ المتتابع المتناسخ قد يجدون فيه حكمه بالتدرج الى التحريم الكامل، تلطفاً من الله بعباده الغارقين في إثم الخمر؛ لكن ليس هذا من حكمة القدير، فإنه ﴿اذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون (٢: ١١٧؛ ٣: ٤٧؛ ١٩: ٣٥؛ ٤٠: ٦٨). وهل تشريع الله في أمر واحد ليعطي المؤمن في كل حالة لبوسها؟ هل هذا من الإِعجاز في التشريع، ومن الإِعجاز في البلاغة والبيان؟

٢ ـ وفي الربا جاء قوله أولاً: ﴿وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس، فلا يربو عند الله (الروم ٣٩). هذا ذم وتقبيح له. ثم جاءَ بحق اليهود: ﴿وأخذهم الربا، وقد نُهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل (النساء ١٦١)؛ هذا هداية الى ﴿سنن الذين من قبلكم (النساء ٢٦) ثم جاء قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة، واتقوا الله لعلكم تفلحون (آل عمران ١٣٠)؛ هنا تحريم في حال ﴿الاضعاف المضاعفة في الربا. ثم جاء قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين؛ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله؛ وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون (البقرة ٢٧٨ ـ ٢٧٩).

هذا هو التسلسل والترابط المأثور في تحريم الرّبا. ونلاحظ ان التحريم يأتي في سورة البقرة (٢٧٩)، وهي أول القرآن نزولاً بالمدينة، لأن الآية من آخر ما نزل من القرآن بحسب (أسباب النّزول).

أما اذا أخذنا الواقع القرآني على حاله كما جمع ـ وهذا هو الظاهر الذي لا يصح العدول عنه إلاّ بقرينة ظـاهرة ـ فيظهر أنه بـدأ بشدة (البقرة ٢٧٩)، ثم تراخى الى حـال ﴿الاضعاف المضاعفة (آل عمران ١٣٠)؛ أخيراً اذا ذكر النهي عن الربا وأكل أموال الناس بالباطل، ذمّاً لليهود (النساء ١٦١) فلا يمنع ان ينتهي الى ﴿تخفيف من ربكم بحسب مبدأ التيسير في التشريع الذي يأخذ به القرآن.

فما بين ظاهر القرآن في هذا التراخي والتخفيف، والاجماع على التحريم، شبهة على الجمع والتدوين، وشبهة على التعارض في التشريع ألجأهم الى القول بالنسخ.

وهذا النسخ على مراحل يجعل شبهة في التشريع وإِعجازه في بلاغته وبيانه. فهو ليس تربية للأمة، كما يكون الحال بدستور ينزل مبتدئاً صريحاً محكماً، وتسير السيرة والدعوة على هديه.

ظاهرة عاشرة: كثرة المنسوخ في تشريع القرآن

بلغ عدد الآيات المنسوخة في المصحف الحالي، عند النحاس وعند ابن حزم نيفاً ومئتي آية. وجزم السيوطي في (الإتقان ٢: ٢٣): ﴿فهذه احدى وعشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها، لا يصح دعوى النسخ في غيرها. والأصح في آية الاستئذان والقسمة الأحكام، فصارت تسعة عشرة. ويضم إليها قوله تعالى ﴿فأينما تولوا فثّم وجه الله على رأي ابن عباس انها منسوخة بقوله ﴿فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، فتمت عشرون.

فهذا التفاوت في العدد ناجم على اختلافهم في ﴿حق الناسخ والمنسوخ فإن بعضهم يعد منسوخاً أحكاماً مفروضة وهي مندوبة، وفي المفروضة بيان الندوبة، لا نسخها. وهناك قسم مخصوص قد يعتبره بعضهم من الناسخ للعام المنسوخ، كقول بعضهم إن دفع الجزية في قتال أهل الكتاب (التوبة ٢٩) ينسخ قتال المشركين، وهما حكمان مستقلان في فئتين مختلفتين، أحدُهما عام للمشركين، والثاني خاص بأهل الكتاب. وقسم في الآيات التي فيها استثناء وغاية محدودة كقوله: ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمِنَّ فقد ظن بعضهم انهـا منسوخة بقوله: ﴿والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وهو مخصوص بأهل الكتاب. ﴿وقسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية ـ أو في شرائع مَن قبلنـا ـ أو في أول الإسلام، ولم ينزل في القرآن، ولذلك ليس فيه نسخ آية بأية كما هو حق الناسخ والمنسوخ. فتلك الاقسام الأربعة قد يعدها بعضهم من باب النسخ على العموم، وينكر ذلك بعضهم في باب النسخ على الخصوص.

ولكن فاتهم أمران. الأول ان الناسخ والمنسوخ الباقيين في المصحف الأميري، انما هما نتيجة تصفية قرآنية مزدوجة. فقد روت الآثار والاخبار ان تصفية أولى للمنسوخ قد تمت على يد النبي نفسه في عرضات القرآن السنوية الموسمية، والعرضة الأخيرة؛ وأن تصفية ثانية للمنسوخ قد جرت في التدوين العثماني الذي اسقط المنسوخ الذي كان يحتفظ به مصحف علي. فلا غرو ان يبقى من المنسوخ فقط ما هو موجود.

والأمر الثاني هو وجود النسخ في القرآن، واقعاً ومبدأ؛ والقليل الباقي دليل على الكثير الساقط. والنسخ في الأحكام، كالمتشابه في الأخبار، شبهة على التنزيل، وشبهة على الإِعجاز في البلاغة والبيان. فقرآن مبين، كما يصف نفسه مراراً، لا يكون فيه نسخ.

ظاهرة حادية عشرة: علّة المنسوخ

فسواءٌ قلّ المنسوخ أو كثر في القرآن، فوجوده بلاء في تنزيل القرآن، وشبهة على إِعجازه في البلاغة والبيان. فمن آمن بالمنسوخ وجد نفسه أمام مأزق حرج لا مناص منه: ما الحكمة الإلهية في تنزيل قرآن لأيام أو أشهر معدودات، يزول حكمه بقرآن آخر محكم لا يزول؟ إنها محنة، لا حكمة. ومن أنكر النسخ في القرآن، لجأ الى اعتبار المنسوخ أحكاماً عابرة لأحوال عابرة. والتشريع هو أم القرآن؛ فإذا كان بعض تشريعه لأحوال عابرة، فهذا يجعل القرآن محدوداً في الزمان والمكان. وكتاب فيه أحكام عابرة لأحوال عابرة لا يكون كتاب الله لكل زمان ومكان.

ظاهرة ثانية عشرة: اجتماع الناسخ والمنسوخ في سورة واحدة

يقول السيوطي ٢٤ : ﴿قال بعضهم: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهو ثلاثٌ وأربعون... وقسم فيه الناسخ فقط وهو ستّ... وقسم فيه المنسوخ فقط وهو أربعون... وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، والحج والنور والفرقان والشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ والمؤمن والشورى والذاريات والطور والواقعة والمجادلة والمزمل والمدثر وكورت والعصر. مع أن مكّي يقول: ﴿لم يقع في المكّي ناسخ.

قد نرضى على مضض بتناسخ في أزمنة متفاوتة وسور مختلفة، أما أن يقع الناسخ والمنسوخ معاً في سورة واحدة، فإن العقل لا يجد لذلك حكمة قاهرة. فانظر أمثال التناسخ في سورة البقرة وحدها، كقوله في الصيام ﴿أياماً معدودات ـ أي دون العشرة (١٨٤)، فيصير ﴿شهر رمضان (١٨٥)؛ وكقوله: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية (١٨٤) فيصير: ﴿ومن شهد منكم الشهر فليصمه (١٨٥)؛ وكقوله في القبلة: ﴿ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثّم وجه الله (١١٥) نسخها بعد سنة: ﴿ومن حيث خرجت فوّل وجهك شطر المسجد الحرام؛ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره (١٥٠)؛ ولما نزل اتيان النساء من حيث أمرهم الله (٢٢٢) تحّرجوا فنزلت التوسعة للحال: ﴿نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم (٢٢٣)؛ ونزلت المحاسبة على الوسوسة (٢٨٤) فاحتج الصحابة: ﴿قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها فنسخها للحال بقوله: ﴿لا يكلّف الله نفساً الاّ وسعها (٢٨٦).

هذا أمر مذهل حقاً، ولا يجد العقل والإيمان له حكمة: فما معنى تنزيل قرآن، ونسخه للحال؟ وما معنى تدخّل عمر بن الخطاب والصحابة في التنزيل والتعديل والتبديل؟ إنّ تناسخاً كهذا هل هو من ﴿دلائل الإِعجاز في البلاغة والبيان؟

ظاهرة ثالثة عشرة: نسخ القرآن بالسنّة أو بالاجماع

يقول السيوطي ٢٥ : ﴿واختلف العلماء: لا يُنسخ القرآن إلاّ بقرآن، كقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها، نأتِ بخير منها أو مثلها). قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيراً منه ألاّ قرآن.

﴿وقيل: بل يُنسخ القرآن بالسنة، لأنها أيضاً من عند الله، وقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى، أن هو إلاّ وحي يوحى).

نقول إن الحجة واهية لأنها تصرح بامتناع النطق عن الهوى في الوحي والتنزيل أي في كلام الله المنزل، لا في الحديث النبوي، فإنه ليس بكلام الله، ولا وحياً غير مكتوب.

وقال بعضهم بنسخ القرآن بإجماع الأئمة في الأمة. وهكذا فقد يقع نسخ كلام الله بحديث النبي. وقد يقع نسخ كلام الله أو حديث النبي بإجماع الأئمة.

وهذا يدل على سيطرة ذهنية النسخ في الأمة. وقرآن قد ينسخه، ليُحكم تشريعه، حديث نبوي، أو اجماع الأمة، هل يكون من الإِعجاز في التشريع الصالح لكل زمان ومكان؟ وقرآن بحاجة الى نسخ بقرآن أو حديث نبوّة أو إجماع الأئمة، هل هو من الإِعجاز في البلاغة والبيان؟

تلك الظواهر مشكل ضخم. ان بعضهم أدرك الشبهات الجسيمة التي تقوم على القرآن من الأخذ بالنسخ في القرآن، فآثروا نفي النسخ فيه من أساسه. كان منهم الزركشي صاحب (البرهان في علوم القرآن). لكن الأمة لم تتبعه. وأتى الشيخ عبد الكريم الخطيب ٢٦ يجدد المقالة بالاّ نسخ في القرآن تلافياً للشبهات المحتومة التي رأينا أمثلة لها في ظواهر القرآن الأثني عشر. فهو ينظر في متن آية النسخ (البقرة) فيرى أنها شرطية، ويجوز ألاّ يقع شرطها ولا جوابها وتكون من قبل القضايا الفرضية التي يُراد بها العبرة والعظة. ويمثل لذلك بقوله للنبي: ﴿لئن أشركت ليحبطّن عملك ـ وهو لم يشرك ولم يحبط عمله. وفاته ان التعبير عن الحقيقة والواقع بلغة الشرط أسلوب بياني في القرآن، كقوله للنبي بعد ما تساهل مع المشركين: ﴿فلا تدْع مع الله الهاً آخر، فتكون من المعذبين (الشعراء ٢١٣)، ﴿فلا تكوننَّ ظهيراً للكافرين... وادعُ الى ربك، ولا تكوننَّ من المشركين! ولا تدْع مع الله الهاً آخر، لا إله إلاّ هو (القصص ٨٦ ـ ٨٨) ـ ولا تحذير إلاّ من خطر جاثم، ولا عتاب إلاّ بعد ذنب. كذلك لا تقرير للنسخ إلاّ بعد واقع. ولا ننس ان مبدأ التبديل في آية القرآن جاءَ أيضاً بصيغة الشرط: ﴿واذا بدلنا آية مكان آية ـ والله اعلم بما ينزل ـ قالوا: انما انت مفتر (النحل ١٠١) وتهمة الإفتراء دليل واقع.

ثم يرى الزركشي أن النسخ المذكور في الآية هو النسْء أي التأخير. قال: ﴿وكثير من العلماء أيضاً يرى ان النسخ في القرآن ليس نسخاً بمعنى الإزالة، على نحو ما فهم القائلون بالنسخ، وإنما هو نسْء وتأخير، أو مجمل أخّر بيانه لوقت الحاجة. وفاته أن الآية تنص صريحاً على النسخ وعلى النَسْء (او النسيان): ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها فالآية تقيم مقابلة بين النسخ أو النسء، وتفصل بين النسخ والنسْء (النسيان) بكلمة ﴿من آية، وهذا دليل لغوي آخر على أنهما اثنان، لا مجـال فيهما لعطف بيان. وفاته أيضاً أن قراءَة ﴿أو ننسها مختلف منها، فهي إمّا النسيان ـ وهو المعنى المتوائر في القرآن (٨٧: ٦؛ ٦: ٦٨؛ ٢: ٢٨٦؛ ١٨: ٢٤ و٧٤) ـ وإِمّا النَسْء، ولا ذكر له في القرآن إلاّ في هذه القراءَة المشبوهة. ولا تقوم عقيدة على قراءَة لفظ مشبوه، لا يتواتر معناه في القرآن. فالآية تنص على النسخ ثم على النسيان؛ والنسْء تخريج بعيد مشبوه. فالنسخ في القرآن مبدأ قائم وواقع ماثل، لا يمارى فيهما.

أخيراً يقول الشيخ الخطيب بتخريج بعيد لأسباب نزول آية النسخ (البقرة ١٠٦) فيجعلها مقدمة لسلسلة خطابات وتهيّئ تحويل القبلة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام في مكّة. وفاته ان آية النسخ ترد في خطاب للمسلمين مستقل (١٠٥ ـ ١١٠) مقحم على السياق في جدالات متواصلة مع اليهود (٤٠ ـ ١٦٨)، ويأتي حديث تحويل القبلة في الخطاب الثامن مع اليهود (١٤٢ ـ ١٥٢) بعدما انقطعت الصلة انقطاعاً تاماً بين آية النسخ وآية تحويل القبلة. فليس من ترابط محكم لازم بين قصة النسخ وحديث تحويل القبلة، حتى تكون آية النسخ مقدمة مخصوصة بنسخ قبلة واحلال اخرى مكانها. فقد فاته ﴿انما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية (الإتقان ٢: ٢٢)، وليس في القرآن من آية شرعت القبلة الى المسجد الأقصى ببيت المقدس، حتى يكون تحويل القبلة الى المسجد الحرام بمكّة نسخاً لها. لقد اقتفى قبلة أهل الكتاب، ولمّا اشتد ساعده، وصمم على فتح مكّة بالقوة هيّأ له بتحويل القبلة إلى مكّة لتكون قبلة الجهاد مع الصلاة.

فآية النسخ عامة تقرر مبدأ وواقعاً في القرآن، وليست مخصوصة على الإطلاق. والقول بأن لا نسخ في القرآن خروج على الواقع فيه وعلى الاجماع.

يقول الشيخ الخطيب: ﴿كثير من العلماء أيضاً يرى ان النسخ في القرآن ليس نسخاً بمعنى الإزالة على نحو ما فهم القائلون بالنسخ. هذا القول يتعارض مع صريح القرآن في تقرير واقع ومبدأ التبديل في آي القرآن: ﴿واذا بدَّلنا آية مكان آية (النحل ١٠١)؛ وهذا التبديل هو الإزالة الحرفية بعينها. مع أنه يصرح مراراً: ﴿لا تبديل لكلمات الله (١٠: ٦٤)، ﴿ولا مبدّل لكلمات الله (٦: ٣٤)، ﴿ولا مبدّل لكلماته (٦: ١١٥؛ ١٨: ٢٧). تصريح متعارض. وواقع متعارض. والتبديل بمعنى الإزالة قائم؛ وهو برهان على صحة النسخ، بإزالة الحكم وبقاء التلاوة.

وقولهم بأن لا نسخ في القرآن يتعارض أيضاً مع تقرير واقع ومبدأ المحو والاثبات في القرآن: ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (الرعد ٣٩). فالله يزيل من القرآن ويثبت فيه ما يشاء. وهذه هي الإزالة الحرفية بعينها. وهي برهان آخر على صحة النسخ بإزالة الحكم وبقاء التلاوة، كما هي برهان على إزالة الحكم والتلاوة معاً.

و﴿أم الكتاب هي ﴿أصله الذي لا يتغير منه شيء، وهو ماكتبه في الأزل (الجلالان). وهنا المعضلة في النسخ والتبديل والمحو. فإذا كان القرآن مكتوباً منذ الأزل في أم الكتاب أي اللوح المحفوظ، فمن أين ينزل المنسوخ والمبدل والممحو؟ ثم كيف ينزل المنسوخ والناسخ معاً من ﴿أم الكتاب واللوح المحفوظ؟ أخيراً هل الناسخ والمنسوخ مكتـوبان معاً في ﴿أم الكتاب منذ الأزل؟ أيصل التعارض في التنزيل الى ﴿أصله الذي لا يتغير منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل؟

إن ظاهرة المحو والتبديل والنسخ في القرآن شبهة قائمة على التنزيل، شبهة لا تزول على التشريع فيه، شبهة لا ترد على الإِعجاز في البلاغة والبيان. إن القرآن عقيدة وشريعة. ومبدأ النسخ فيه، شبهة على الشريعة، كما ان مبدأ المتشابه فيه، شبهة على العقيدة. فليس من محكم فيه سوى آيات الأحكام الزجرية القلائل. والقرآن بتقرير مبدأ وواقع النسخ فيه ينسخ إِعجازه في الشريعة؛ كما انه بتقرير مبدأ وواقع المتشابه فيه ينسخ إِعجازه في العقيدة. فالنسخ كالمتشابه فيه، شبهة قائمة على الإِعجاز في البلاغة، وبيان العقيدة والشريعة.

بحث سادس

التكرار شبهة سادسة على البلاغة القرآنية

من التكرار في الكلام ما هو من حسن البيان؛ ولكن من التكرار أيضاً ما هو لا بلاغة ولا إِعجاز.

أولاً: اللازمة المردّدة في بعض السور ﴿حكمة بالغة

يبلغ النظم في بعض السور ذروة الروعة في ترديد لازمة واحدة بعد كل مقطع ومشهد؛ كتكرار ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان احدى وثلاثين مرة في سورة (الرحمان)؛ وتكرار ﴿ويل يومئذٍ للمكذبين عشر مرّات في سورة (المراسلات)؛ وتكرار ﴿فكيف كان عذابي ونذر أربع مرات في سورة (القمر)؛ وتكرار ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر أربع مرات أيضاً (القمر ١٧ و ٢٢ و ٣٢ و ٤٠). وتكرار: ﴿إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين، وان ربك لهو العزيز الرحيم، ثماني مرات في سورة الشعراء.

قد يظن من يجهل أساليب النظم والبيان في العربية أنها من التكرار المتشابه المشبوه في القرآن. وما هي سوى ترديد رائع للازمة ترجع كالقرار في النظم الموسيقي. وفي هذه الامثال يصح القول: إن من التكرار للتقرير، والكلام إذا تكرر تقرّر، نظما ومعنى. وليس كلامنا في مثل هذا التكرار الجميل في النظم والبيان.

ثانياً: ﴿في الآيات المتشابهات (الإتقان ٢: ١١٤ ـ ١١٦)

يقول: ﴿والقصيد منه ايراد للقصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة؛ بل يأتي في موضع واحد مقدَّماً، وفي آخر مؤخراً، كقوله في (البقرة): ﴿وادخلوا الباب مسجداً، وقولوا: حِطّة، وفي (الأعراف): ﴿قولوا: حطة، وادخلوا الباب سجداً. وكقوله في (البقرة): ﴿ما أهل به لغير الله، وسائر القرآن: ﴿ما أُهلّ لغير الله به.

﴿أو في موضع بزيادة، وفي آخر بدونها نحو: ﴿سواءٌ عليهم أأنذرتهم؛ وفي (يونس) وفي (البقرة): ﴿ويكون الدين لله، وفي (الأنفال): ﴿كله لله.

﴿أو في موضع معرّفاً، وفي آخر منكراً؛ أو مفرداً، وفي آخر جمعاً؛ أو بحرف، وفي آخر بحرف آخر؛ أو مدغماً، وفي آخر مفكوكاً.

تلك ستة أنواع من المفارقات في الآيات المتشابهات التي ترد بمعنى واحد وحرف شبه واحد في مواضع مختلفة من القرآن.        ثم يعطي السيوطي على ذلك هذه الأمثلة الأخرى:

١) ﴿هدى للمتقين (البقرة)؛ ﴿هدى ورحمة للمحسنين (لقمان) ٢٧ .

٢) ﴿وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا (البقرة )؛ ﴿... فكلا (الأعراف ).

٣) ﴿واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن شيئاً، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل، وهم لا يُنصرون (البقرة ٤٨ )؛ ـ وهي في حق بني إسرائيل (٤٧). ﴿واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة، ولا هم يُنصرون (البقرة ١٢٣) ـ وهي أيضاً في حق بني إسرائيل (١٢٢).

٤) ﴿واذا نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يذبّحون أبناءَكم، ويستحيون نساءكم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (البقرة ٤٩) ـ على لسان الله تعالى. ﴿إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، ويذّبحون أبناءَكم، ويستحيون نساءَكم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (إبراهيم ٦) ـ على لسان موسى. ﴿واذ أنجيناكم من آل فرعون، يسومونكم سوء العذاب، يقتّلون أبناءكم، ويستحيون نساءَكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (الأعراف ١٤١) ـ على لسان الله تعالى.

٥) ﴿واذ قلنا: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغداً، وادخلوا الباب سجداً، وقولوا: حِطّة؛ نغفر لكم خطاياكم، وسنزيد المحسنين (البقرة ٥٨) ـ عل لسان الله تعالى بلغة الخطاب. ﴿وإذ قيل لهم: اسكنوا هذه القرية، وكلوا منها حيث شئتم، وقولوا: حِطّة، وادخلوا الباب سجداً، نغفر لكم خطيئاتكم، سنزيد المحسنين (الأعراف ١٦١) ـ على لسان الله تعالى بلغة الغيبة.   

٦) ﴿واذ استسقى موسى لقومه، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر! فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم (البقرة ٦٠). ﴿وأوحينا الى موسى، إذ استسقاه قومه: أنِ اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم (الأعراف ١٦٠).

٧) ﴿وقالوا: لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة (البقرة ٨٠). ﴿ذلك بأنهم قالوا: لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودات (آل عمران ٢٤).

٨) ﴿قل: إن هدى الله هو الهدى (البقرة ١٢٠؛ الأنعام ٧١). ﴿قل: ان الهدى هدى الله (آل عمران ٧٣).

٩) ﴿واذ قال إبراهيم: ربّ اجعل هذا بلداً آمناً (البقرة ١٢٦) ـ الدعاء للبلد. ﴿واذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد آمناً (إبراهيم ٣٥) ـ الدعاء للأمن فيه.

١٠) ﴿قولوا: آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط؛ وما أوتي موسى وعيسى؛ وما أوتي النبيون من ربهم ٢٨ ، لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (البقرة ١٣٦). ﴿قلْ: آمنا بالله وما أُنزِل علينا، وما أنزل على إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقـوب والاسباط! ومـا أوتي موسى وعيسى والنبيـون من ربهم ٢٩ ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (آل عمران ٨٤).

١١) ﴿تلك حدود الله فلا تقربوها (البقرة ١٨٧ ). ﴿تلك حدود الله فلا تعتدّوها (البقرة ٢٢٩) ـ والأصل أيضاً تتعدوها، فعدل عنه.

١٢) ﴿نزَّل عليك الكتاب... وأنزل التوراة والإنجيل من قبل (آل عمران ٣).

١٣) ﴿ولا تقتلوا أولادكم من املاق، نحن نرزقكم واياهم (الأنعام ١٥١). ﴿ولا تقتلوا أولاد كم خشية املاق، نحن نرزقهم واياكم (الإسراء ٣١).

١٤) وامّا ينزغنّك من الشيطان نزغ ٣٠ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم (الأعراف ٢٠٠). ﴿وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم (فصلت ٣٦).

١٥) ﴿المنـافقون والمنافقـات بعضهم من بعض (التوبة ٦٧). وقال في المؤمنين: ﴿بعضهم أولياء بعض. وقال في الكفّار: ﴿والذين كفروا بعضهم أولياء بعض (٥: ٥١، ٨: ٧٢ و ٧٣؛ ٩: ٧١؛ ٤٥: ١٩).

ويختم بقوله: ﴿فهذه، أمثلة يُستضاء بها. وقد تقدم منها كثير في نوع التقديم والتأخير، وفي نوع الفواصل، وفي أنواع أخرى.

فهذا هو الواقع القرآني، ترد فيه الآيات متشابهات لفظاً ومعنى. إلاّ ما ندر. وأحياناً قد يخل التغيير الحرفي بالمعنى كما في قوله: ﴿وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم (البقرة ١٣٦) حيث يميّز موسى وعيسى عن سائر النبيّين؛ وكما في قوله ﴿وما أوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربهم حيث لا يميّز موسى وعيسى عن سائر النبيّين. فقد خلق التمييز في التعبير اختلافاً في العقيدة والتفكير.

وقد ينقل السيوطي تبريرات لتلك الفروق اللفظية كقوله: ﴿أياماً معدودة جمع كثرة لأنه قول فرقة؛ ﴿أياماً معدودات جمع قلة لأنه قول فرقة اخرى؛ ولا أثر لذلك في نصوص القرآن؛ وكقوله ﴿فاستعذ بالله إنه سميع عليم (وفي فصلت) ﴿انه هو السميع العليم. قال ابن جماعة: لأن آية (الأعراف) نزلت أولاً، وآية (فصلت) نزلت ثانياً فحسن التعريف الذي تقدم ذكره. أو كقوله: ﴿نزّل عليك الكتاب... وأنزل التوراة والإنجيل ـ لأن الكتاب (القرآن) أنزل منجماً فناسب الإتيان بنَزّل الدال على التكرير، بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة ـ وفاتهم قوله في القرآن: ﴿وأنزلنـا إليك الكتاب (٤: ١٠٥؛ ٥: ٤٨؛ ٣٩: ٢) ﴿وأنزل الله عليك الكتاب (٤: ١١٣)، ﴿أنزل على عبده الكتاب (١٨: ١). والقول الحق في مثل هذا التكرار لفظاً ومعنى في الآيات المتشابهات الكثيرة، ان بعض الفوارق اللفظية، هي كمـا يقول السيوطي: ﴿من تنويع الألفاظ المسّمى بالتفنّن، ﴿وقال ابو عبد الله الرازي: إنه من باب التفنن.

وهنا يمكن أن نتساءَل: هل هذا التفنّن في تغيير بعض الحروف المتشابهة هو من أصل التنزيل، أم من أهل التدوين للاشعار بالتمييز بين الآيات أو الكلمات المتشابهات؟ قد يكون من أصل التنزيل، وقد يكون من أهل التدوين كما جاءَ عن ابن اشته: ﴿فهذا الخبر يدل على ان القوم كانوا يتخيّرون أجمع الحروف للمعاني وأسلسها على الألسنة وأقربها الى المأخذ وأشهرها عند العرب للكتاب في المصحف (الإتقان ١: ١٨٦).

وهل هذا التفنن بتبديل بعض الحروف يرفع عنها التكرار الحرفي والمعنوي؟ وهل هذا التكرار في آيات متشابهات من الإِعجاز في البلاغة والبيان؟

ثالثاً: التكرار في التعليم الواحد

إنّ التكرار من العليم الحكيم في التنزيل المعجز بلفظه قبل معناه، هذا ما يجد فيه المؤمن وغير المؤمن حرجاً وضيقاً.

نقبل ان يعيد النبي التعليم الواحد، بلفظ واحد، أو متقارب، للمشركين الأميّين في دعوتهم كل يوم الى الإيمان بالله واليوم الآخر؛ امّا ان يكون هذا التكرار في التعليم الواحد من التنزيل نفسه للإِعجاز في التنزيل والتعليم، فهذا ما يشك فيه المؤمن وغير المؤمن.

يأتي الإعلان عن التوحيد مرة واحدة في الإنجيل (مرقس ١٢: ٢٩) بنص الشهادة التوراتية والفاتحة الإسرائيلية؛ ويأتي التصريح عن التثليث في التوحيد مرة واحدة في خاتمة الإنجيل (متى ٢٨: ١٩). وما بينهما في سائر الإنجيل يجمع ما بين التوحيد والتثليث بتصاريح متنوعة، ومشاهد مختلفة، وأقوال وأعمال وأحوال متنوعة: فلا تكرار، ولا ترديد.

أما القرآن وهو تعليم التوحيد الخالص، للإيمـان بالله واليوم الآخر، فهو تعليم واحد: ﴿قلْ: إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا للّه مثنى وفرادى (سبأ ٤٦)؛ ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي اليه أنه لا إله الاّ أنا فاعبدون (الأنبياء ٢٥)؛ ﴿قلْ: إنما أنا بشر مثلكم، يُوحى إليَّ أنما الهكم إله واحد (الكهف ١١٠)؛ ﴿قلْ: انما أنا بشر مثلكم، يوحى إليَّ أنما الهكم إله واحد (فصلت ٦). وهذا التعليم الواحد في التوحيد تصريح واحد، ببعض فروق لفظية في التعبير. فهل تكرار ذلك مراراً في السورة الواحدة، وعلى الدوام في سوره كلها، من الإِعجاز في التنزيل والتعليم، والإِعجاز في البلاغة والبيان؟

والتكرار المكشوف هو في براهين التوحيد: فقد جمعها في قوله ﴿وإلهكم إله واحد، لا أله إلأّ هو، الرحمن الرحيم. إن في ١) خلق السماوات والأرض ٢) واختلاف الليل والنهار ٣) والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس ٤) وما أنزل الله من السماء من ماء، فاحيا به الأرض بعد موتها ٥) وبثّ فيها من كل دابة ٦) وتصريف الرياح ٧) والسحاب المسخّر بين السماء والأرض ـ لآيات لقوم يعقلون (البقرة ١٦٣ ـ ١٦٤).

نلاحظ أنها براهين الحس والوجدان الديني، لا براهين العقل والمنطق: فالعقل والعلم يفسّران هذه المشاهد الكونية بدون لجوء الى الله سبحانه وتعالى، وان كان العلة الأولى وراءَها جميعاً. لكنها بحدّ ذاتها لا برهان فيها على وجود الله أو على توحيده. وليس في القرآن من براهين العقل والمنطق سوى قوله: ﴿لو كان فيهما آلهة الأّ الله لفسدتا (الأنبياء ٢٢) ويسمى برهان التمانع؛ وقوله: ﴿ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله: إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض (المؤمنون ٩١). ويسمى برهان التسليم والامتناع وقوله أيضاً: ﴿قل لو كان معه آلهة، كما يقولون، إذاً لابتغوا الى ذي العرش سبيلاً (الإسراء ٤٢). لذلك ﴿زعم الجاحظ ان المذهب الكلامي لا يوجد منه شيء في القرآن ٣١ .

وتلك البراهين الوجدانية القائمة على مشاهد الكون، في آي القرآن، هي البراهين السبعة التي يكررها في كل سورة، وفي سور القرآن كله:

١) خلق السماوات والأرض، هذا برهـان متواتر تقريباً في كل سورة وبلفظ واحـد: ﴿وهو الذي خلق السماوات والأرض (٦: ٧٣؛ ١١: ٧؛ ٥٧: ٤)؛ ﴿الله الذي خلق السماوات والأرض (٧: ٥٤؛ ١٠: ٣؛ ١٤: ٣٢؛ ٣٢: ٤)؛ ﴿خلق السماوات والأرض بالحق (١٤: ١٩؛ ١٦: ٣؛ ٣٩: ٥؛ ٦٤: ٣)؛ ﴿خلق الله السماوات والأرض بالحق (٢٩: ٤٤؛ ٤٥: ٢٢)؛ ﴿من خلق السماوات والأرض؟ (٢٩: ٦١؛ ٣١: ٢٥؛ ٣٩: ٣٨؛ ٤٣: ٩) ﴿وما خلقنا السماوات والأرض... (١٥: ٨٥؛ ٤٤: ٣٨؛ ٤٦: ٣)؛ ﴿خلقنا السماء والأرض (٢١: ١٦؛ ٣٨: ٢٧). إنه إعلان متواتر بلفظ واحد ومعنى واحد، ولكن لا يستغله جدلاً. فهل هذا التكرار من الإِعجاز؟

٢) اختلاف الليل والنهار (٢: ١٦٤؛ ٣: ١٩٠؛ ٤٥: ٥)؛ ﴿وله اختلاف الليل والنهار (٢٣: ٨٠)؛ ﴿إن في اختلاف الليل والنهار (١٠: ٦). وهذا برهان أيضاً متواتر بحرفه الواحد، فما النكتة البيانية في تكراره بالحرف الواحد؟

٣) والفلك تجري في البحر ﴿هو أيضاً برهان متواتر: ﴿ولتجري الفلك بأمره (٣٠: ٤٦)؛ ﴿لتجري الفلك فيه (٤٥: ١٢)؛ ﴿وعلى الفلك تُحملون (٢٣: ٢٢؛ ٤٠: ٨٠)؛ ﴿حملنا ذريتهم في الفلك (٣٦: ٤١) ﴿وجعل لكم من الفلك (٤٣: ١٢) ﴿وسخر لكم الفلك (١٤: ٣٢)؛ ﴿وترى الفلك مواخر فيه (١٦: ١٤)؛ ﴿الذي يُزجي لكم الفلك (١٧: ٦٦)؛ ﴿والفلك تجري في البحر (٢٢؛ ٦٥) ﴿إن الفلك تجري في البحر (٣١: ٣١) ﴿وترى الفلك فيه مواخر (٣٥: ١٢). هذا برهان بدائي لقوم بدائيين، يدهشون من جري الخشب على الماء. فكيف بهم اذ يرون الطائرات تمشي في الهواء، والصواريخ تغزو الفضاء؟ لكن كيف يصح أن يكون برهانا على التوحيد لقوم يعقلون؟

٤) أنزل من السماء ماء (٢: ٢٢؛ ٤١: ١١؛ ٦: ٩٩؛ ١٣: ١٧؛ ١٤: ٣٢؛ ١٦: ١٠ و ٦٥؛ ٢٠: ٥٣؛ ٢٢: ٦٣؛ ٣٥: ٢٧؛ ٣٩: ٢١؛ ١٠: ٢٤؛ ١٨: ٤٥؛ ١٥: ٢٢؛ ٢٣: ١٨؛ ٢٥: ٤٨؛ ٣١: ١٠؛ ٢٩: ٦٣؛ ٣٠: ٢٤؛ ١٥: ٢٢؛ ٢٣: ١٨) ـ هذا غيض من فيض. وهل تنزيل المطر من السماء معجزة إلهية تدل على وجود الله وعلى توحيده؟

٥) ﴿وبث فيها من كل دابة (٢: ١٦٤؛ ٣١: ١٠)؛ ﴿وما بث فيهما من دابة (٤٢: ٢٩ )؛ ﴿و ما يبث من دابة (٤٥: ٤). برهان متواتر بالحرف الواحد والمعنى الواحد. وهل في خلق الدواب والشجر من برهان على توحيد الله؟

٦) ﴿وتصريف الرياح: ﴿الله الذي يرسل الرياح (٣٠: ٤٨)؛ ﴿والله الذي أرسل الرياح (٣٥: ٩)؛ ﴿ومن آياته ان يرسل الرياح (٣٠: ٤٦)؛ ﴿ومَن يرسل الرياح (٢٧: ٦٣)؛ ﴿وهـو الـذي أرسل الرياح (٢٥: ٤٨)؛ ﴿وهـو الذي يرسل الـرياح (٧: ٥٦)؛ ﴿وتصريف الرياح آيات (٤٥: ٤٠). هذا أيضاً برهان متواتر بالحرف الواحد على توحيد الله. وهل فيه برهان لقوم يعلمون؟

٧) ﴿والسحاب المسّخر بين السماء والأرض (٢: ١٦٤)؛ ﴿وينشىء السحاب (١٣: ١٢)؛ ﴿ارسل الرياح فتثير سحاباً (٣٥: ٩)؛ ﴿يرسل الرياح فتثير سحاباً (٣٠: ٤٨)؛ ﴿إن الله يُزجي سحاباً (٢٤: ٤٣). هذا أيضاً برهان متواتر على توحيد الله. فهل الله هو الذي يخلق السحاب بمعجزة؟ وهل في ذلك برهان لقوم يعقلون؟

تلك هي براهين التوحيد في القرآن. إنها أقرب الى الشعر منه الى البرهنة. وهي تملأ سور القرآن. فهل في تكرارها بالحرف الواحد والمعنى الواحد، تقريباً، إِعجاز في البلاغة والبيان؟

رابعاً: التكرار في القصص القرآني

جاءَ في (الإتقان ٢: ٦٨): ﴿قال بعضهم: ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعاً من كتابه؛ وقال ابن العربي: ذكر الله قصة نوح في خمس وعشرين آية؛ وقصة موسى في تسعين آية.

وفي كتاب (تفصيل موضوعات القرآن، في الآيات المتوافقة) للسيد محمد عبد الله الجزار، باب قيم يذكر فيه ﴿آيات النظائر في القصص القرآني:

١) ﴿آدم ـ ذكر في عشر سور. وذكر في ثلاث سور منها بآيات ليست لها نظائر... أما آيات النظائر فهي: البقرة ٣٤ ـ ٣٩؛ الأعراف ١١ ـ ٢٤؛ الحجر ٢٨ ـ ٤٤؛ الإسراء ٦١ ـ ٦٥؛ الكهف ٥٠؛ طه ١١٦ ـ ١٢٤؛ ص ٧١ ـ ٨٥ ـ فتلك آيات النظائر في سبع سور.

٢) ﴿آيات النظائر في نوح: باب دعوته ومجادلته لقومه: الأعراف ٥٩ ـ ٦٤؛ هود ٢٥ ـ ٣٤؛ ثم آيات صنع الفلك والطوفان: المؤمنون ٢٧ الى آخره؛ الشعراء ١٠٥ ـ ١٢٠ ـ ثم ذكرت قصة نوح مع قومه باختصار وإيجاز في سورتي الصافات (٧٥ ـ ٨٢) والقمر (٩ـ ١٦) وغيرهما. وبعد ذلك سورة نوح كلها.

٣) ﴿آيات النظائر في هود مع قومه عاد: الأعراف ٦٥ ـ ٧٢؛ هود ٥٠ ـ ٦٠؛ الشعراء ١٢٣ ـ ١٤٠؛ الأحقاف ٢١ ـ ٢٥ ـ فتلك آيات النظائر في أربع سور.

٤) ﴿آيات النظائر في صالح وقومه ثمود: الأعراف ٧٣ ـ ٧٩؛ هود ٦١ ـ ٦٨؛ الحجر ٨٠ ـ ٨٤؛ الشعراء ١٤١ ـ ١٥٩؛ النمل ٤٥ ـ ٥٣ ـ فتلك آيات النظائر في خمس سور.

٥) ﴿إبراهيم ـ آيات النظائر فيه. باب دعوته ومجادلته لأبيه ولقومه: الأنعام ٧٤ ـ ٨١؛ الأنبياء ٥١ ـ٧٠؛ مريم ٤١ ـ ٤٨؛ العنكبوت ١٦ ـ ٢٥؛ الصافات ٨٣ ـ ٩٨؛ الزخرف ٢٦ ـ ٢٨؛ الممتحنة ٤ ـ ٥؛ البقرة ٢٥٨ ـ باب إبراهيم وضيوفه: هود ٦٩ ـ ٧٦؛ الحجر ٥١ ـ ٦٠؛ الذاريات ٢٤ ـ ٣٧ ـ باب إبراهيم والبيت: البقرة ١٢٥ و ١٢٧؛ إبراهيم ٣٧؛ الحج ٢٦ ـ ٢٩. فتلك آيات النظائر في إبراهيم في ثماني سور، ثم في ثلاث، ثم في ثلاث.

٦) ﴿لوط ـ آيات النظائر فيه: الأعراف ٨٠ ـ ٨٤؛ هود ٧٧ ـ ٨٣؛ الحجر ٦١ ـ ٧٤؛ الشعراء ١٦٠ ـ ١٧٥؛ النمل ٥٤ ـ ٥٨؛ العنكبوت ٢٨ ـ ٣٤؛ القمر ٣٣ ـ ٣٩ ـ تلك آيات النظائر في سبع سور.

٧) ﴿موسى ـ وفيه أبواب: باب القائه في اليم: طه ٣٧ ـ ٤٠؛ القصص ٧ ـ ١٣؛ الشعراء ١٨ ـ ١٩. فتلك ثلاث نظائر ـ باب بعثته: مريم ٥٢؛ طه ٩ ـ ٢٣؛ القصص ٢٩ ـ ٣٢؛ النمل ٧ ـ ١٢؛ الشعراء ٣٢ ـ ٣٣؛ النازعات ١٥ ـ ١٦. فتلك ست نظائر ـ باب دعوته بمصر:الأعراف ١٠٣ ـ ١٢٦؛ يونس ٧٥ ـ ٨٢؛ الإسراء ١٠١ ـ ١٠٢؛ طه ٤٢ ـ ٤٧ و ٥٦ ـ ٧٣؛ الشعراء ١٦ ـ ١٧ و ٢٣ ـ ٥١؛ النمل ١٢ ـ ١٣؛ القصص ٣٦ ـ ٣٧؛ غافر ٢٣ ـ ٢٤؛ الدخان ١٧ ـ ٢١؛ النازعات ١٧ ـ ٢٦. فتلك عشر نظائر ـ باب نجاته بقومه وغرق فرعون: البقرة ٤٩ ـ ٥٠، يونس ٩٠ ـ ٩٢؛ طه ٧٧ ـ ٧٩؛ الشعراء ٥٢ ـ ٦٦؛ القصص ٣٩ ـ ٤٠؛ الزخرف ٥٥ ـ ٥٦؛ الدخان ٢٣ ـ ٢٤ و ٣٠ ـ ٣١؛ النازعات ٢٥ ـ ٢٦؛ الإسراء ١٠٣ ـ ١٠٤. فتلك تسع نظائر ـ باب ارسال موسى بالآيات: الأعراف ١٠٣؛ يونس ٧٥؛ هود ٩٦ ـ ٩٧؛ إبراهيم ٥؛ طه ٤٢؛ المؤمنون ٤٥ ـ ٤٦؛ الفرقان ٣٦؛ الشعراء ١٥؛ القصص ٣٥؛ غافر ٢٣ ـ ٢٤. فتلك عشر نظائر ـ باب اتخاذ قومه العجل: البقرة ٥١؛ و ٥٤ و ٩٢؛ الأعراف ١٤٨ ـ ١٥٠؛ النساء ١٥٣؛ طه ٨٥ ـ ٩٤. فتلك أربع نظائر ـ باب الاستسقاء وانفجار الاعين: البقرة ٦٠؛ الأعراف ١٦٠ ـ فذلكما موضعان من النظائر ـ باب ايذاء موسى: الأحزاب ٦٩؛ الصف ٥ ـ فذلكما موضعان من النظائر.

فإذا جمعت النظائر في قصة موسى، رأيت انها تشغل جزءاً كبيراً من القرآن بالمعنى الواحد، ويكاد يكون بالحرف الواحد مع بعض التفنن في التعبير والأسلوب.

٨) ﴿شعيب ـ آيات النظائر فيه: الأعراف ٨٥ ـ ٩٣؛ هود ٨٤ ـ ٩٥؛ الشعراء ١٧٦ ـ ١٨٩؛ العنكبوت ٣٦ ـ ٣٧ ـ فتلك آيات النظائر في شعيب في اربع سور.

٩) ﴿داود وسليمان ـ باب داود والزبور: البقرة ٢٥١؛ النساء ١٦٣؛ الإسراء ٥٥؛ الأنبياء ١٠٥. فتلك أربع نظائر ـ باب داود وسليمان: الأنعام ٨٤؛ الأنبياء ٧٨ ـ ٨٢؛ النمل ١٥ ـ ١٩ ـ تلك ثلاث ـ باب سليمان والهدهد: النمل ٢٠ ـ ٢٢ و ٢٧ ـ ٤٤.

١٠) ﴿عيسى ويحيى. التبشير بيحيى آل عمران ٣٨ ـ ٤١؛ مريم ٢ ـ ١٥؛ الأنبياء ٨٩ ـ ٩٠، فتلك ثلاث نظائر في مولد يحيى. ﴿باب تأييد عيسى بروح القدس: البقرة ٨٧ و ٢٥٣. باب تكليم عيسى الناس في المهد، والمجيء بالآيات: آل عمران ٤٥ ـ ٥١؛ المائدة ١١٠؛ مريم ٢٩ ـ ٣٣ ـ فتلك ثلاث نظائر في مولد عيسى. باب آخرة عيسى: مريم ٣٢؛ آل عمران ٥٥؛ النساء ١٥٧ ـ ١٥٨؛ المائدة ١١٦ ـ ١١٨. باب قول عيسى: ﴿إن الله ربي وربكم: مريم ٣٦؛ آل عمران ٥١؛ المائدة ٧٢؛ الزخرف ٦٤. فتلك أربع نظائر ترد بالحرف الواحد. باب قول الحواريين: ﴿نحن انصار الله: آل عمران ٥٢؛ الصف ١٤ ـ موضعان من النظائر.

خاتمة

الإِعجاز في البلاغة ليست معجزة إلهية

هذا هو القصص القرآني في تكرار نظائره. انها عشر قصص قد ترد بالمعنى الواحد والحرف الواحد، مع تفنّن في تعبير، أو تفنن في أسلوب؛ تارة بايجاز وطوراً بإسهاب؛ حيناً من أولّها، وحيناً من ظرف من ظروفها. لكنه هو التكرار بعينه، وقد يأتي بلا نكتة جديدة فيه.

نقل السيوطي ٣٢ : ﴿وذكر في تكرير القصص فوائد: منها ان في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله، أو ابدال كلمة بأخرى وهذه عادة البلغاء. ومنها (ايصال الدعوة للجميع). ومنها ان في ابراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفى من الفصاحة. ومنها أن الدواعي لا تتوفّر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام؛ فلهذا كُررت القصص من دون الأحكام... ومنها إن القصة الواحدة لمّا تكررت كان في ألفاظها في كل موضع زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وأتت على أسلوب غير أسلوب الآخر، فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب في اخراج المعنى الواحد في صور متباينة في النظم.

فالقصص القرآني في الموضوع الواحد هو ﴿اخراج المعنى الواحد، في صور متباينة من النظم، ﴿في كل موضع زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير. فهل هذا التكرار يغير من الموضوع شيئاً، أو من المعنى شيئاً؟ وهل التفنن البياني في التعبير والأسلوب، في موضوع واحد ومعنى واحد، هو الهدى الذي يريده الله لعباده؟ أتقوم معجزة الله على صحة دينه وحذق رسول على التفنن البياني في التعبير والأسلوب؟ هذا البيان نفسه الذي تشوبه شبهة التكرار لا يصح معجزة الهية في البلاغة والبيان.


١. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص ٣٢ و ٤٤ و ٤٩ و ٥١ و ٥٥.

٢. في كتابنا الأول (إِعجاز القرآن) أوجزنا فصل (الإتقان ٢: ٢ ـ ١٣) في (متشابه القرآن) في حقيقة واقعه. وهنا نعود اليه ـ والعود أحمد ـ لنرى هل يصح هذا الإِعجاز معجزة.

٣. المقدمة، ص ٨٤٨ فصل ﴿كشف الغطاء عن المتشابهات.

٤. الإتقان ٢: ٣.

٥. الإتقان ٢: ٤.

٦. آل عمران ٨.

٧. الإتقان ٢: ١٣٠.

٨. وقد فصلنا في الكتاب الأول أنواع المتشابه في القران، نقلاً عن (الإتقان).أوجزنا هنا النتائج.

٩. عن عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١: ٤٠٣.

١٠. عن عبد الكريم الخطيب: إِعجاز القرآن ١: ٤٠٦.

١١. إِعجاز القرآن ١: ٤١٠.

١٢. في كتابنا الأول: إِعجاز القرآن، ص ١٢٧ ـ ١٣٤ عرضنا لواقع النسخ في القرآن. هنا نبحث تقييم الواقع وهل ينسجم مع دعوى الإِعجاز في البيان والبلاغة. وقد سبق بحث آخر في الإِعجاز في الشريعة ومبدأ النسخ.

١٣. الإتقان ٢: ٢٥.

١٤. دروزة: القرآن المجيد، ص ٦٩.

١٥. دروزة: القرآن المجيد، ص ٥٥.

١٦. الإتقان ٢: ٢٥.

١٧. إِعجاز القرآن ١: ٤٣٧.

١٨. سورة التوبة ٥.

١٩. سورة الأعراف ١٩٩

٢٠. سورة الدهر ٨

٢١. وعليه تكون كلمة (أسيراً) منسوخة بالقرآن، محكمة بالاجماع. ومنهم ميّز فيها بين أسير المشركين، والأسير ﴿المحبوس بحق (الجلالان).

٢٢. هنا وهم الجميع: انهما حكمان مختلفان: الأول للمشركين؛ والثاني لأهل الكتاب.

٢٣. لذلك اختلفوا في تكفير شارب الخمر أو تأثيمه فقط.

٢٤. الإتقان ٢: ٢١.

٢٥. الإتقان ٢: ٢١.

٢٦. إِعجاز القرآن ١: ٤٣٥ ـ ٤٧٢.

٢٧. يظنون أن المتقين والمحسنين مترادف في لغة القرآن؛ وفاتهم ان التعبيرين كناية عن طائفتين في اصطلاح القرآن: فالمتقون كناية عن العرب الذين آمنوا؛ والمحسنون كناية عن أهل الكتاب الذين آمنوا.

٢٨. آية البقرة تميّز موسى وعيسى عن سائر النبيّين، بينما آية آل عمران لا تميّزهم.

٢٩. آية البقرة تميّز موسى وعيسى عن سائر النبيّين، بينما آية آل عمران لا تميّزهم.

٣٠. أي يصرفك صارف (الجلالان).

٣١. الإتقان ٢: ١٣٥. وأحمد الرازي في كتاب (حجج القرآن) لا يحفظ من حجج أهل التوحيد على وحدانية الله سوى تلك الآيات الثلاث (ص ٤).

٣٢. الإتقان ٢: ٦٨.

الفصل السادس

الإِعجاز في جدلية القرآن

توطئة

﴿في مشكله وموهم الاختلاف والتناقض

يطلق القرآن هذا التحدي: ﴿افلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (النساء ٨٢). نحتكم في الجواب على هدا التحدي الى السيوطي في (الإتقان ٢: ٢٧ ـ ٣١)؛ والى أحمد الرازي ١ في كتاب (حجج القرآن، لجميع أهل الملل والأديان)، إخراج أحمد عمر المحمصاني.

فهذه أمثال من موهم الاختلاف والتناقض.

بحث أوّل

في ذات اللَّه وصفاته

 

أوّلاً: في حجج الصفاتية القائلين بإثبات الصفات والجهة لله

١ ـ في حجج المثبتين للجهة، وهو على خمسة الفاظ: العرش والسماء وفوق وعند والى.

١) ﴿أما الاستواء على العرش ففي سبعة مواضع: (في الأعراف) ان ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش. (وفي أول يونس) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش. (وفي أول الرعد) الله الذي رفع السماوات بغير عَمَد ترونها ثم استوى على العرش. (وفي أول طه) الرحمن على العرش استوى. (وفي أول السجدة) الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش. (وفي أول الحديد) هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش. (وفي الفرقان) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، الرحمن.

﴿قال مقاتل والكلبي: استوى أي استقر.

٢) ﴿وأما ذكر العرش، ففي القرآن، في أحد وعشرين موضعاً. سبعة ما ذكرنا. والباقي: (في التوبة) عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. (وفي هود) وكان عرشه على الماء. (وفي قد أفلح) قلْ: مَن رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم؟ (وفيها) لا إله الاّ هو، رب العرش الكريم. (وفي النمل) الله، لا إله الاّ هو، رب العرش العظيم. (وفي بني إسرائيل) إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً. (وفي الأنبياء) فسبحان الله رب العرش عما يصفون. (وفي الزمر) وترى الملائكة حافين من حول العرش، (وفي حم المؤمن) الذين يحملون العرش، ومن حوله يسبحون بحمد ربهم. (وفيها) رفيع الدرجات ذو العرش. (وفي الزخرف) سبحان رب السماوات والأرض، رب العرش، عما يصفون. (وفي الحاقة) ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية. (وفي البروح) ذو العرش المجيد، فعّال لما يريد. (وفي التكوير) ذي قوة عند ذي العرش مكين.

٣) ﴿وأما السماء: ففي خمسة مواضع. (في النمل) قل لا يعلم من في السماوات والأرض، الغيب، إلاّ الله ـ (ولو لم يكن هو في السماء لما صح الاستثناء؛ ولو كان الاستثناء منقطعاً لكان نصباً). (وفي السجدة) يدبر الأمر من السماء الى الأرض ثم يعرج إليه. (وفي المؤمن) وقال فرعون: يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي لبلغ الأسباب، أسباب السماوات، فأطلع الى اله موسى، وإني لأظنه كاذباً ـ (ولو قالها من نفسه، لا من موسى، لنفى الهاً آخر، كما قال: ما علمت لكم من إله غيري) ـ (وفي الملك) أأمنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض. (وفيها) أم امنتم مَن في السماء أن يرسل عليكم حاصباً.

٤) ﴿وأما فوق، ففي خمسة مواضع: (في الأنعام) وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. (وفي النحل) يخافون ربهم من فوقهم. (وفي الفتح) يد الله فوق أيديهم. (وفي حمعسق) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن. (وفي الأنعام) وهو القاهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة.

٥) ﴿وأما عند، ففي عشرة مواضع: (في الأعراف) ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه وله يسجدون. (وفي الحج) وان يوماً عند ربك كألف سنة ممّا تعدون. (وفي الأنبياء) لو اردنا ان نتخذ لهواً، لاتخذناه من لدنّا، إن كنّا فاعلين ـ (أي لو أردنا ان نتخذ زوجة لجعلناها عندنا لا عندكم) ـ (وفيها) وله مَن في السماوات والأرض، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. (وفي حم السجدة) فإِن استكبروا، فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار، وهم لا يسأمون. (وفي الزخرف) وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً. (وفي اقتربت الساعة) إن المتقين في جنات ونهر، وفي مقصد صدق، عند مليك مقتدر. (وفي ق) وعندنا كتاب حفيظ. (وفي التحريم) رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة. (وفي ن) إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم.

٦) ﴿وأما إلى، ففي عشرة مواضع. (في آل عمران) إذ قال الله، يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إليّ. (وفي النساء) وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله اليه. (وفي القصص) وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري، فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلّي اطّلع الى اله موسى، واني لأظنه من الكاذبين. (وفي السجدة) ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون. (وفي الملائكة) اليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه. (وفي المعارج) ليس له دافع من الله ذي المعارج، تعرج الملائكة والروح اليه. (وفي النجم) إن الى ربك المنتهى. (وفي النازعات) الى ربك منتهاها. (وفي الغاشية) ان الينا ايابهم. (وفي المؤمن) فإلينا يرجعون.

﴿وقعة المعرج من أقوى احتجاج: ثم دنا فتدلّى، فكان قاب قوسين أو أدنى ٢ .

﴿فذلك كله ثمانية وخمسون دليلاً على ثبوت المكان والجهة.

٢ ـ في الوجه

﴿وذلك في عشرة مواضع: (في القصص) كل شيء هالك إلاّ وجهه. (وفي الروح) ذلك خير للذين يريدون وجه الله. (وفيها) وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله. (وفي الرحمن) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام. (وفي البقرة) فأينما تولوا فثمّ وجه الله. (وفي الأنعام) يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه الله. (وفي الكهف) يريدون وجهه. (وفي الرعد) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم. (وفي الانسان) انما نطعمكم لوجه الله. (وفي الليل) وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى.

٣ ـ في العين

﴿وذلك في خمس آيات: (في هود) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا. (وفي قد افلح) فأوحينا اليه ان اصنع الفلك بأعيننا ووحينا. (وفي طه) وألقيت عليك محبةً مني، ولتصنع على عيني. (وفي الطـور) واصبر لحكـم ربك، فإنك بأعيننا. (وفي اقتربت الساعة) تجري بأعيننا.

٤ ـ في اليد

﴿وذلك في عشر آيات، بلفظ الوحدان في أربعة مواضع، والتثنية في موضعين، والجمع في موضعين، واليمين في موضعين.

﴿(ففي المائدة) بل يداه مبسوطتان. (وفي ص.) يا إبليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيديّ. (وفي الأعراف) ألهم أرجل يمشون بها؟ أم لهم أيد يبطشون بها؟ أم لهم أعين يبصرون بها؟ أم لهم آذان يسمعون بها؟ ـ (عيَّرهم بعدم هذه الصفات) ـ (وفي ياسين) أولم يروا أنا خلقنا لهم ممّا عملت أيدينا أنعاماً. (وفي الزمر) والسماوات مطويات بيمينه. (وفي الفتح) يد الله فوق أيديهم. (وفي الحديد) وان الفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاء. (وفي الملك) تبارك الذي بيده الملك. (وفي آل عمران) بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير (وفي الحاقّة) لأخذنا منه باليمين.

٥ ـ في سائر الصفات

﴿١) (في المائدة) تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك. (وفي طه) واصطنعتك لنفسي. ٢) (وفي البقرة) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، والملائكة. (في الأنعام) هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم الملائكة، أو يأتي ربك، أو يأتي بعض آيات ربك. (وفي الفجر) وجاء ربك والملك صفاً صفاً. ٣) (وفي الزمر) وأشرقت الأرض بنور ربها. (وفي النور) الله نور السماوات والأرض.

تلك فصول خمسة يثبت فيها الصفاتية من أهل السنة والجماعة، الصفات لله، والجهة والمكان، وتعابير الوجه والعين واليد، وتعابير الاستواء والمجيء، دلائل التشبيه والتجسيم في أسلوب القرآن في التعبير والتفكير، بوصف ذات الله وصفاته، وان كان ﴿ليس كمثله شيء. فالذين يقولون بإِعجاز القرآن في التنزيه والتجريد يصطدمون بهذا الواقع القرآني. وبهذه المدرسة، من أهل السنة، الذين يقولون بحرف القرآن، على ظاهره، منذ ابن تيمية الى اليوم.

ثانياً: في حجج الجهمية (المعتزلة) القائلين بنفي الصفات والجهة المعنية

١ ـ في حجج النافين للجهة المعنية

﴿(في الأنعام) وهو الله في السماوات وفي الأرض. (وفي الزخرف) وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم. (وفي البقرة) أينما تولوا فَثمَّ وجه الله.

٢ ـ في حجج القائلين بالقرب الذاتي (لا المكاني)

﴿(في البقرة) واذا سألك عبادي عني فإني قريب. (وفي هود) إن ربي قريب مجيب. (وفي مريم) وناديناه من جانب الطور الأيمن، وقربناه نجياً. (وفي ق ) ونحن أقرب اليه من حبل الوريد. (وفي الواقعة) ونحن أقرب اليه منكم، ولكن لا تبصرون.

٣ ـ في حجج القائلين بأن مع كل أحد ذاتاً (القرب المعنوي)

﴿(في البقرة) واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين. (وفي الأنفال) والله مع الصابرين. (وفي النحل) إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون. (وفي التوبة) لا تحزن ان الله معنا. (وفي طه) قال: لا تخافا اني معكما. (وفي الشعراء) فاذهبا بآياتنا، إنّا معكم مستمعون. (وفيها) كلاّ، إن معي ربي سيهديني. (وفي الأنفال) وان الله مع المؤمنين. (وفي النساء) ولا يستخفون من الله، وهو معهم. (وفي محمد ﷺ) والله معكم ولن يتركم أعمالكم. (وفي الحديد) وهو معكم أينما كنتم. (وفي المجادلة) ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم، ولا خمسة الاّ هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، إلاّ هو معهم أينما كانوا.

٤ ـ في حجج القائلين بأنه تعالى ليس ٣ في مكان

﴿(في الرعد) أفمن هو قائم على نفس بما كسبت. (وفي النور) حتى اذا جاءَه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده. (وفي القصص) فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، أن يا موسى: إني أنا الله رب العالمين. (وفي الفجر) إن ربك لبالمرصاد. (وفي النحل) فأتى الله بنيانهم من القواعد. (وفي الحشر) فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا. (وفي العنكبوت) وقال: إني مهاجر الى ربي، انه هو العزيز الحكيم. (وفي الصافات) وقال: أني ذاهب الى ربي سيهدينِ.

فتلك ابواب أربعة في حجج أهل التأويل، يستندون اليها لينفوا عن الله الصفات والجهة والمكان والتشبيه والتجسيم. وهم يعتمدون إلى التعبير المجازي في وصف القرآن لذات الله وصفاته.

لكنك ترى أن تعابير الحقيقة والتشبيه، أكثر في القرآن من تعابير المجاز والتجريد. وهذا الواقع القرآني المتعارض هو الذي قسم الأمة الى أهل الظاهر وأهل التأويل، لتعارض الحقيقة بين العقل والنقل؛ ﴿وكل حزب بما لديهم فرحون. فتعليم القرآن في صفات الله وذاته متشابه متعارض، على رأي المدرستين.

بحث ثانٍ

في أعمال اللَّه: القضاء والقدر

أوّلاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة)

﴿في الإرادة والمشيئة ـ وهما واحد، وهي صفة قديمة تقتضي تخصيص الحوادث بوجه دون وجه، ووقت دون وقت:

١ ـ ﴿أما الإرادة، ففي خمسة عشر موضعاً: (في آل عمران) يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم. (وفي بني إسرائيل) وإذ قلنا لك: ان ربك أحاط بالناس. (وفي المائدة) ومَن يُرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، أولئك الذي لميرد الله أن يطهّر قلوبهم. (وفي الأنعام) فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للإسلام؛ ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيّقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. (وفي التوبة) فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، انما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة والدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون. (وفيها) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم، انما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون. (وفي يونس) وإن يمسسك الله بضر، فلا كاشف له الاّ هو، وان يردك بخير فلا رادَّ لفضله، يصيب به مَن يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم. (وفي هود) إن كان الله يريد ان يغويكم، هو ربكم واليه ترجعون. (وفي الرعد) واذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له، وما لهم من دونه من وال. (وفي الأحزاب) قل: من ذا الذي يعصمكم من الله ان أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً. (وفي البقرة) ولكن الله يفعل ما يريد. (وفي الفتح) قلْ: فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً، أو أراد بكم نفعاً، بل كان الله بما تعملون خبيراً.

٢ ـ ﴿وأما المشيئة ففي ستة وعشرين موضعاً: (في البقرة) ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم. (وفيها) ولو شاء الله ما اقتتلوا. (وفي المائدة) ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم. (وفي الأنعام) ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكوننَّ من الجاهلين. (وفيها) ولو شاء الله ما أشركوا، ولو شاء ربك ما فعلوه. (وفي النحل) ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة، ولكن يضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء. (وفي حمسعق) ولو شاء الله لجعلهم امة واحدة، ولكن يُدخل مَن يشاء في رحمته. (وفي يونس) ولو شاءَ ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين! وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإذن الله، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون. (وفي هود) ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلاّ مَن رحم ربك، ولذلك خلقهم. (وفي الرعد) أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. (وفي النحل) وعلى الله قصد السبيل، ومنها جائر، ولو شاء لهداكم أجمعين. ( وفي السجدة) ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول مني: لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين. (وفي الشعراء) إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين. (وفي حمعسق) فإن يشأ الله يختم على قلبك. (وفي الحديد) لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء، من فضل الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاءَ والله ذو الفضل العظيم. (وفي المدثر) وما يذكرون إلاّ أن يشاء الله. (وفي هل أتى على الإنسان) وما تشاؤون إلاّ ان يشاء الله، إن الله كان عليماً حكيماً. (وفي إذا الشمس كورت) وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. (وفي الأعراف) وما يكون لنا ان نعود فيها، إلاّ ان يشاء الله ربنا. (وفي الأنعام) ولا أخاف ما تشركون به، إلاّ أن يشاءَ ربي شيئاً. (وفيها) ولو أننا نزّلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً، ما كانوا ليؤمنوا، إلاّ أن يشاء الله ٤ ، ولكن أكثرهم يجهلون. (وفيها) وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً، شياطين الانس والجن، يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غروراً، ولو شاءَ ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. (وفيها) قلْ: فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين. (وفي الأعراف) قلْ: لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، إلاّ ما شاء الله. (وفي يونس) قل: لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، إلاّ ما شاء الله. (وفيها) قلْ: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمراً من قبله، أفلا تعقلون.

والنتيجة: فتلك إحدى وأربعون آية تقول بالقضاء والقدر المطلق.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

١ ـ ﴿في القدرة والارادة؛ وذلك في ثلاثة عشر موضعاً: (في البقرة) يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر. (وفي آل عمران) وما الله يريد ظلماً للعالمين. (وفي حم المؤمن) وما الله يريد ظلماً للعباد. (وفي النساء) يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليم حكيم؛ والله يريد ان يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلاً عظيماً؛ يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفاً. (وفيها) ويريد الشيطان ان يضلّهم ضلالاً بعيداً. (وفي المائدة) ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون. (وفي الأنفال) تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم.

٢ ـ ﴿في المشيئة؛ وذلك في عشرة مواضع: (في الأنعام) سيقول الذين أشركوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شيء؛ كذلك كذب الذين من قبلهم، حتى ذاقوا بأسنا، قلْ: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إنْ تتّبعون إلاّ الظن، وإنْ أنتم إلاّ تخرصون. (وفي النحل) وقال الذين أشركوا: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، نحن ولا آباؤنا، ولا حرّمنا من دونه من شيء، كذلك فعل الذين من قبلهم، فهل على الرسل الاّ البلاغ المبين. (وفي يسن) واذا قيل لهم: أنفقوا ممّا رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ـ إن أنتم إلاّ في ضلال مبين. (وفي الزخرف) وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم ـ ما لهم بذلك من علم، إنْ هم إلاّ في يخرصون. (وفي المزمّل) فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً. (وفي المدثر) لمن شاء منكم ان يتقدم أو يتأخر. (وفي الانسان) فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً. (وفي الأعمى) فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة. (وفي الكهف) فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.

فتلك ثلاث وعشرون آية تنفي القضاء المبرم والقدر المحتوم.

هذا هو الواقع القرآني في تعليم القضاء والقدر: ثلاث وعشرون آية تنفيه على اطلاقه؛ واحدى واربعون آية تقول به على اطلاقه. والتعارض ظاهر كما في قوله: ﴿فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر؛ وقوله: ﴿يضل مَن يشاء ويهدي من يشاء. وقوله: ﴿وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله يربط مشيئة العبد بمشيئة الله. لذلك تضاربت الآراء في تعليم القرآن القضاء والقدر، بين أهل السنة والجماعة، وأهل التأويل. فالمدرستان لهما أساس متين في القرآن. ولذلك فالتعارض في القضاء والقدر قائم في القرآن نفسه، وهو اختلاف كبير، لا نرى معه وجه الحق في قوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً. لقد تدبره أهله فاختلفوا فيه، لأنهم وجدوا فيه اختلافاً كبيراً.

بحث ثالث

الهداية والضلالة من اللَّه أم من العبد؟

أولاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة): إثباتهما لله

١ـ ﴿في نفي الهداية ـ في اكثر من عشرين موضعاً (غير النظائر): منها (في أربعة مواضع): ﴿الله لا يهدي القوم الكافرين. (وفي عشرة مواضع): ﴿الله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي خمسة مواضع): ﴿الله لا يهدي القوم الفاسقين.

والباقي في عبارات مختلفة. (في البقرة) والله لا يهدي القوم الكافرين. (وفي التوبة) زيّن لهم سوء أعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين. (وفي النمل) وان الله لا يهدي القوم الكافرين. (وفي الأنعام) إن الله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي التوبة) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفيها) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي آل عمران) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي القصص) ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله أن الله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي الصف) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي الجمعة) والله لا يهدي القوم الظالمين. (وفي التوبة) والله لا يهدي القوم الفاسقين. (وفيها) والله لا يهدي القوم الفاسقين. (وفي المنافقين) إن الله لا يهدي القوم الفاسقين. (وفي آل عمران) كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم. (وفي النساء) لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً. (وفي النحل) أن تحرص على هداهم، فإن الله لا يهدي من يضل، وما لهم من ناصرين. (وفيها) الذين لا يؤمنون بآيات الله، لا يهديهم الله، ولهم عذاب أليم. (وفي الزمر) إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار. (وفي الأعراف) وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله. (وفي إبراهيم) قالوا: لو هدانا الله، لهديناكم.

٢ ـ ﴿في إثبات الضلالة ـ أثبت الله الإضلال في اثنين وثلاثين موضعاً: (في البقرة) يضلّ به كثيراً، ويهدي به كثيراً. (وفيها) وما يضل به الاّ الفاسقون. (وفي النساء) أتريدون أن تهدوا مَن أضل الله. ومَن يضلل الله، فلن تجد له سبيلاً. (وفيها) ومَن يُضلل الله، فلن تجد له سبيلاً. (وفي الأنعام) مَن يشأ الله يضلله، ومَن يشأ يجعله على صراط مستقيم. (وفيها) ومَن يُرد ان يضله يجل صدره ضيقاً حرجاً. (وفي الأعراف) فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة. (وفيها) إنْ هي إلاّ فتنتك تضل بها مَن تشاء، وتهدي مَن تشاء. (وفيها) مَن يُهد الله فهو المهتدي، ومَن يضلل فأولئك هم الخاسرون. (وفيها) مَن يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يعمهون. (وفي الرعد) قلْ: إن الله يُضل مَن يشاء، ويهدي إليه من أناب. (وفيها) ومن يضلل الله فما له من هاد. (وفي إبراهيم) فيضل الله مَن يشاء ويهدي من يشاء، وهو العزيز الحكيم. (وفي النحل) فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقّت عليه الضلالة. (وفيها) ان الله لا يهدي من يُضل. (وفيها) ولكن يُضل من يشاء. (وفي بني إسرائيل) ومَن يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل الله، فلن تجد لهم أولياء من دونه. (وفي الكهف) مَن يهد الله فهو المهتد، ومَن يضلل الله فلن تجد له وليّاً مرشداً. (وفي الروم) فمن يهدي من أضَل الله، وما لهم من ناصرين. (وفي الملائكة) أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً. فإن الله يُضل مَن يشاء، ويهدي مَن يشاء. (وفي التوبة) وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. (وفي الزمر) ذلك هدى الله، يهدي به مَن يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد، ومن يهد الله فما له من مضلّ، أليس الله بعزيز ذي انتقام. (وفي حم المؤمن) ومن يضلل الله، فما له من هاد. (وفيها) كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب. (وفيها) كذلك يضل الله الكافرين. (وفي حمعسق) ومَن يضلل الله فما له من ولي من بعده، (وفيها) ومن يضلل الله فما له من سبيل. (وفي الجاثية) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله، أفلا تذكّرون. (وفي المدثر) كذلك يضل الله مَن يشاء، ويهدي من يشاء.

إذن ان الهداية والضلالة من الله، يؤكد ذلك في اثنتين وخمسين آية.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

﴿في نفي الهداية والضلال من الله، وذلك في ثلاثين موضعاً:

﴿(في النساء) ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالاً بعيداً. (وفيها) ولولا فضل الله عليك ورحمته، لهمّت طائفة منهم أن يضلّوك، وما يضلون إلاّ أنفسهم. (وفيها) ولأضلنّهم. (وفي المائدة) قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل. (وفي الأنعام) وان تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله. (وفيها) فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً، ليضل الناس بغير علم. (وفي الأعراف) قالت اخراهم لأولاهم. ربنا هؤلاء أضلونا. (وفي التوبة) وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم. (وفي يونس) ومَن ضلّ فإنما يضلّ عليها. (وفي النحل) ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم. (وفي بني إسرائيل) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها. (وفي طه) وأضل فرعون قومه وما هدى. (وفيها) وأضلهم السامري. (وفي الفرقان) ويوم نحشرهم... أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا السبيل؟ (وفي الحج) كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه، الى عذاب السعير. (وفيها) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدَّمت يداك، وأن الله ليس بظلاّم للعبيد. (وفي الفرقان) يا ويلتنا، ليتني لم أتّخذ فلانا خليلاً، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءَني، وكان الشيطان للإنسان خذولاً. (وفي الشعراء) وما أضلنا الاّ المجرمون. (وفي لقمان) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم. (وفي الأحزاب) وقالوا: ربنا ان اطعنا سادتنا وكبراءَنا فأضلونا السبيلا. (وفي يسن) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدوُّ مبين، وان اعبدوا في هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاًّ كثيراً، أفلم تكونوا تعقلون؟ (وفي ص.) ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. (وفي الزمر) وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله. (وفي حم السجدة) أرنا اللذين أضلانا من الجن والأنس. (وفي نوح) ولا يغوث ويعوق ونسراً، وقد أضلوا كثيراً. (وفيها) إنك، ان تذرهم، يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً. (وفي حم السجدة) وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى. (وفي الانسان) إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفوراً. (وفي حمعسق) وانك لتهدى الى صراط مستقيم.

نرى هنا إذن نفي الهداية والضلال عن الله، ونسبتهما الى المخلوق، في ثلاثين موضعاً. هذا هو الواقع القرآني في مصدر الهداية والضلال: ثلاثون آية تنفيها عن الله تعالى، واثنتان وخمسون آية تثبتها لله تعالى مباشرة. والتعارض ظاهر في أسلوب القرآن، كما يدل عليه أيضاً انقسام المسلمين في الإثبات والنفي.

وهذا التعارض مزدوج. إنه تعارض في المبدأ بين الإثبات والنفي. وأنه تعارض بين المبدأ والواقع؛ فهو يعلن لأهل مكّة والمدينة المشركين الكافرين بالدعوة القرآنية والإسلام أن الله لن يهديهم: ﴿ان الله لا يهدي مَن يضل (النحل)؛ ﴿ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً (النساء)، ﴿أتريدون أن تهدوا مَن أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً (النساء). مع ذلك فإن أهل مكّة وأهل المدينة قد اهتدوا للإسلام، وحسن إسلامهم وفتحوا العالم للإسلام. فالواقع يتعارض مع المبدأ طرداً وعكساً.

إنه يقول: ﴿ومن يضلل الله فما له من هاد؛ ومَن يهدِ الله فما له من مضل (الزمر). وقد جرت ردّة خاصة عن الإسلام في آخر العهد بمكّة؛ وقد جرت ردة عامة عن الإسلام بعد موت النبي. فكيف ينسجم هذا الواقع مع المبدأ المقرر: ﴿ومن يهد الله فما له من مضل؟ لذلك لا نرى وجه الحق في قوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً. لقد تدبروه وانقسموا الى فئتين متعارضتين، تستندان إلى القرآن نفسه. قد تزول أو تتبدل الفرق، لكن الواقع القرآني المتعارض لا يزول.

بحث رابع

الإثم والمعصية من اللَّه أم من العبد؟

أولاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة)

﴿في الاغواء والاغراء بأمر الله، وذلك في عشرة مواضع: (في المائدة) فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة. (وفيها) والقينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة. (وفي الأنعام) وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً، شياطين الانس والجن. (وفيها) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون. (وفي الأعراف) قال: فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم. (وفي هود) إن كان الله يريد ان يغويكم، هو ربكم واليه ترجعون. (وفي الحجر) قال: رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض، ولأغوينهم أجمعين. (وفي الفرقان) جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين. (وفي حم السجدة) وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

﴿الآثام والمعاصي بإزلال الشيطان واضلاله واغوائه وكيده وصدّه. وذلك في ثلاثة وعشرين موضعاً: (في البقرة) فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما ممّا كانا فيه. (وفي آل عمران) انما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا. (وفي النساء) ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالاً بعيداً. (وفيها) ولأضلنّهم. (وفي الأنعام) زيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون. (وفي يوسف) من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي. (وفي يسن) ولقد أضل منكم جبلاًّ كثيراً. (وفي النحل) فزيّن لهم الشيطان أعمالهم. (وفي بني إسرائيل) لأحتنكنَّ ذريته إلاّ قليلاً. (وفي طه) فوسوس اليه الشيطان. (وفي الكهف) وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره. (وفي الأنفال) واذ زين لهم الشيطان أعمالهم. (وفي الحجر) لأزيننَّ لهم في الأرض، ولأغوينهم أجمعين. (وفي ص.) فبعزتك لأغوينّهم أجمعين. (وفي الأعراف) فوسوس لهما الشيطان. (وفي بني إسرائيل) ان الشيطان ينزغ بينهم. (وفي الفرقان) وكان الشيطان للانسان خذولاً. (وفي النمل) وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل. (وفي القصص) قال: هذا من عمل الشيطان، انه عدو مضلّ مبين. (وفي العنكبوت) وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين. (وفي محمد ﷺ) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم. (وفي المجادلة) استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. (وفي الحج) ويتبع كل شيطان مريد، كتب عليه انه مَن تولاه فإنه يضله ويهديه الى عذاب السعير.

نرى أنه حيناً ينسب الاثم والمعصية الى أمر الله، وحيناً يجعلهما بإزلال الشيطان ومعصية العبد. فالتعارض ظاهر.

بحث خامس

في الكتابة والكسب

أوّلاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة)

كل شيء مكتوب وذلك في أربعة عشر موضعاً:

﴿(في الأنعام) ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين. (وفي الأعراف) أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب. (وفي الأنفال) لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم. (وفي يونس) وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين. (وفي هود) ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين. (وفي الرعد) لكل أجل كتاب. (وفي التوبة) قل: لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا، هو مولانا. (وفي الحجر) وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم. (وفي بني إسرائيل) كان ذلك في الكتاب مسطوراً. (وفي النمل) وما من غائبة في السماء والأرض الاّ في كتاب مبين. (وفي الأحزاب) كان ذلك في الكتاب مسطوراً. (وفي سبأ) لا يعزب عنة مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر، إلاّ في كتاب مبين. (وفي اقتربت الساعة) وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر. (وفي الحديد) ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

﴿في اضافة العقل الى نفس العبد. وذلك في ثلاثة وعشرين موضعاً: (في البقرة) لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. (وفيها) ثم توفى كل نفس ما كسبت. (وفي ثمانية مواضع) بما كانوا يكسبون. (وفي الأنعام) ولا تكسب كل نفس الاّ عليها. (وفي آل عمران) أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنّى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم، ان الله على كل شيء قدير. (وفي النساء) ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. (وفي الأنفال) ذلك بما قدمت ايديكم، وأن الله ليس بظلاّم للعبيد. (وفي آل عمران) ذلك بما قدمت أيديكم. (وفي الحج) ذلك بما قدمت يداك. (وفي الأنفال) ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. (وفي الرعد) ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. (وفي يوسف) قال: بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل. (وفي الروم) ظهر النساء في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. (وفي حمعسق) وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم. (وفي إبراهيم) ولوموا أنفسكم. (وفي التحريم) يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً.

تعارض صريح في المكتوب والمكسوب، يظهر من هاتين الآيتين: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها (الحديد)؛ ﴿ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (حمعسق).

بحث سادس

فعل العبد من الخالق أم من المخلوق؟

هنا نكتفي بالاشارة دون الاستشهاد لئلا يطول بنا المقام.

أوّلاً: في حجج الجبرية (من أهل السنة)

١ ـ في الختم على القلوب، وذلك في خمسة مواضع.

٢ ـ كل شيء بإذن الله، وذلك في تسعة وثلاثين موضعاً.

٣ ـ الله خالق كل شيء، وذلك في عشرة مواضع.

٤ ـ أمر الله قدر مقدور، وذلك في سبعة مواضع.

٥ ـ الكل من الله وليس الى المخلوق شيء، وذلك في أربعين آية.

ثانياً: في حجج القدرية (من المعتزلة)

١ ـ في اضافة الظلم الى أنفسهم، وذلك في عشرة مواضع.

٢ ـ في اضافة الفعل الى الكفّار، وذلك في خمسة عشرة موضعاً.

٣ ـ في تأثير فعل العبد، وذلك في ثمانية مواضع.

٤ ـ في اضافة الفعل الى نفس العبد، وذلك في عشرة مواضع.

٥ ـ في فطرة العبد على العمل والفعل، وذلك في سبعة مواضع.

ويختم أحمد الرازي الاستشهاد المتعارض بين أهل الجبر وأهل الاختيار بقوله: ﴿فذلك كله مائتا آية من حجة الجبرية... فذلك عشرون ومائة آية من حجج القدرية. وهذا قدر شاف لإثبات التعارض في تعليم القرآن وأسلوبة.

بحث سابع

مرتكب الكبيرة مسلم ام غير مسلم؟

أوّلاً: في حجج المرجئة القائلين بأنه مؤمن مسلم

١ ـ مرتكب الكبيرة مؤمن مسلم، وذلك في ستة مواضع.

٢ ـ مرتكب الكبيرة يستحق المغفرة، وذلك في ستة مواضع.

٣ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الرحمة، وذلك في عشرة مواضع.

٤ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الجنة، وذلك في أربعة مواضع.

٥ ـ مرتكب الكبيرة داخل في دعاء الملائكة والأنبياء، وذلك في خمسة مواضع.

٦ ـ مرتكب الكبيرة لا يستحق الوعيد، وان المستحق له هو الكافر، وذلك في خمس عشرة آية.

٧ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الوعد، وذلك في خمس عشرة آية.

٨ ـ مرتكب الكبيرة ليس للشيطان عليه سلطان، وذلك في ثلاثة مواضع.

٩ ـ ان الله لا ينزع الرجاء ولا الإيمان من المؤمن، وذلك في تسعة مواضع.

ثانياً: في حجج الوعيدية بأن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا مسلم

١ ـ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن، وذلك في اثني عشر موضعاً.

٢ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الوعيد، وذلك في عشرين آية.

٣ ـ مرتكب الكبيرة يستحق النار والعذاب، وذلك في عشر آيات.

٤ ـ مرتكب الكبيرة يستحق الوعيد على سبيل التأييد، وذلك في خمس آيات.

وهناك أهل المنزلة بين المنزلتين القائلون بأنه فاسق.

هذا هو الواقع القرآني في كون مرتكب الكبيرة مسلماً أو غير مسلم، خالصاً أم هالكاً. والتعارض في تعليم القرآن صريح قسم المسلمين الى مثبتين ونافين. وتعليم متعارض في خلاص الانسان بعد كبيرة يرتكبها، هو من أمهات مسائل التنزيل والدين والإيمان. أيكون مثل هذا التعارض من الإِعجاز في البلاغة والبيان؟ كيف نقدر أن نقول معه: ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً؟

بحث ثامن

في الإيمان

١ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان قول وعمل وعقد، وذلك في خمس وسبعين آية:

(في الأنفال) انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم، واذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون؛ أولئك هم المؤمنون حقاً. (وفي البقرة) أم حسبتم ان تدخلوا الجنة... (وفي آل عمران) أم حسبتم ان تدخلوا الجنة... (وفي التوبة) أم حسبتم أن تُتركوا... (وفي العنكبوت) آلم. أحسب الناس ان يُتركوا أن يقولوا: أمنّا، وهم لا يُفتنون! (وفي الحجرات) انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون. (وفي الطور) الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذريتهم، وما ألتناهم من عملهم من شيء. (وفي الأنعام) لا ينفع نفساً إيمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ـ (سوى بين الكافر وغير العامل).

﴿وقد شرط العمل مع الإيمان في ثمانية وستين موضعاً: من ذلك اثنا عشر ﴿آمن وعمل صالحاً، وستة ﴿يؤمن ويعمل صالحاً، وخمسون ﴿آمنوا وعملوا الصالحات.

٢ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان قول بلا عمل ولا نية، وذلك في خمس آيات: (في النساء) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام: لست مؤمناً. (وفي المائدة) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار. (وفيها) واذا سمعوا ما أنزل الى الرسول... (وفي التوبة) لا تعتذروا، قد كفرتم بعد إيمانكم ـ (سُمي قول المنافق إيماناً) ـ (وفي حم السجدة): إن الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة الاّ تخافوا ولا تحزنوا. (وفي الأحقاف) ان الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

٣ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، وذلك في خمس آيات: (في يوسف) وما أنت بمؤمن لنا، ولو كنّا صادقين. (اي بمصدق لنا) ـ (وفي الحجرات) ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم. (وفيها) ولكن الله حبّب لكم الإيمان وزينه في قلوبكم. (وفي المجادلة) أولئك كتب في قلوبكم الإيمان. (وفي المنافقون) اذا جاءَك المنافقون قالوا: نشهد انك لرسول الله، والله يعلم انك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ـ (نفي الإيمان مع وجود القول).

هذا هو الواقع القرآني في مسألة الإيمان وقوامه. والمشاهد انه متعارض في تحديد عناصر الإيمان: هل التصديق بالقلب وحده؟ أم القول وحده؟ أم بالعقد بالنية مع القول ومع العمل؟ والإيمان أساس قبول التنزيل والإسلام، والتشابه في عناصره شبهة على التحديد في تعليمه في مسألة من امهات مسائل الدين والإسلام، وشبهة قائمة على الإِعجاز في البلاغة والبيان، في مثل هذا التعارض الماثل للعيان.

بحث تاسع

ما بين الإيمان والإسلام

١ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان والإسلام واحد، وذلك في ثلاث آيات:

(في يونس) يا قوم إن كنتم آمنتم بالله، فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين. (وفي الحجرات) يمنون عليك أن أسلموا؛ قل: لا تمنّوا علي اسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان، إن كنتم صادقين. (وفي الذاريات) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين.

٢ ـ ﴿في حجج القائلين بأن الإيمان والإسلام متغايران، وذلك في ثلاث آيات:

(في الزخرف) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين. (وفي الأحزاب) ان المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات ـ (فقالوا: العطف دليل التغاير) ـ (وفي الحجرات) قالت الأعراب: آمنّا! قلْ: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولمّا يدخل الإيمان قلوبكم.

هذا هو الواقع القرآني في الوحدة أم التمييز ما بين الإيمان والإسلام. انه واقع متعارض، فتارة يوحّد بينهما وتارة يميّز بينهما. وهذا التعارض الظاهر قد يجعل المسلمين غير مؤمنين، والمؤمنين من غير المسلمين. وليس هـذا التعارض المشهود من ﴿دلائل الإِعجاز في البلاغة والبيان.

وفصل الخطاب ان الاختلاف العام يشمل القرآن كله في امهات مسائل التنزيل والإسلام. نقلنا منها عشرة ابواب، من التعارض المشهود، كما جمعها أحد أعلام الإسلام، الامام أحمد الرازي. وهي تكشف لنا ان التعارض في التعبير والتفكير أسلوب عام قائم في بيان القرآن وبلاغته، تجعل المؤمن وغير المؤمن في حيرة من قوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً (النساء ٨٢).

والاختلاف والتعارض في تعليم القرآن، شبهة سابعة، هي الكبرى، على إِعجاز القرآن في البلاغة والبيان.

بحث عاشر

الاختلاف في بعض الآيات

(الإتقان ٢: ٢٧ ـ ٣١)

فالاختلاف في تعليم القرآن يشمل تعاليمه، ولا يقتصر كما يقول السيوطي على بعض آيات (الإتقان ٢: ٢٧ ـ ٣١).

أوّلاً: الآيات المختلفة التي يذكرها السيوطي

١ ـ نفي المساءلة يوم القيامة وإثباتها، في قوله ﴿فإذا نُفخ في الصور، فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءَلون (المؤمنون ١٠١)؛ وفي قوله: ﴿وأقبل بعضهم على بعض يتساءَلون (الصافات ٢٧) ـ (أما الصافات ٥٠ ففي الجنة؛ والطور ٢٥ ففي الجنة).

قيل فيها عن ابن عباس: نفي المساءلة قبل النفخة الثانية، وإثباتها بعد ذلك ـ ولا أثر في النصين بمثل هذا التخريج.

وقيل فيها عن السدي: نفي المساءلة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فما عدا ذلك ـ ولا أثر أيضاً في النصين لمثل هذا التخريج.

أما التساؤل في الصافات ٥٠، والطور ٢٥، فهو فيما بين أهل الجنة، بعد الحساب.

٢ ـ كتمان المشركين حالهم ثم إفشاؤه باقي قوله: ﴿ولا يكتمون الله حديثاً (النساء ٤٢)، وفي قوله: ﴿ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين (الأنعام ٢٣).

قيل فيها عن ابن عباس: إنهم يكتمون بألسنتهم فتنطق ألسنتهم وجوارحهم ـ ولا أثر في النصين لهذا التفسير، انما هو استخدم آية اخرى لا ذكر فيها للسؤال، بل هي شهادة بلسان الحال: ﴿يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (النور ٢٤)، وهي شهادة أهل جهنم: ﴿هذه جهنم... اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (يسن ٦٣ ـ ٦٥).

وقيل فيها عن ابن الأزرق عن ابن عباس: إن الله لا يقبل الاّ ممّن وحّده، فيسألهم فيقولون: ﴿والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم وتُستنطق جوارحهم هذا تقريب بعيد للمتعارضين بآية أخرى بعيدة عنهما، فهو تنسيق لا يرفع التعارض.

٣ ـ خلق السماء أو الأرض، أيهما تقدًّم؟ في قوله: ﴿أم السماء بناها، رفع سمكها فسوّاها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءًها ومرعاها، والجبال أرساها (النازعات ٢٧ ـ ٣٢)، مع قوله: ﴿قلْ: أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وتجعلون له أنداداً، ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها وقدَّر فيها أوقاتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً، قالتا آتينا طائعين، فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها، وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح (فصلت ٩ ـ ١٢).

قيل عن ابن عباس: ﴿بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوة، ثم خلق السماوات فسوّاهن في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين، فتلك أربعة أيام للأرض. وهناك اجتهادات أخرى للخروج من التعارض المكشوف.

والواقع القرآني المتواتر ان الله خلق السماء قبل الأرض، فتأتي قصة (النازعات) بصورة تخالف القرآن كله. وبسبب صراحة تفصيلها يردّون إليها سائر القرآن. قال الجلالان: ﴿والأرض بعد ذلك دحاها = بسطها، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو (النازعات ٣٠)، ﴿لتكفرون بالذي خلق الأرض... وجعل فيها: مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الذي للفاصل الأجنبي (المؤمن ١٠) مع أنه أسلوب مطرد في القرآن الفصل بالأجنبي مع دوام الوصل. ولذلك قال قوم آخرون: ﴿ثمَّ استوى بمعنى الواد، وقيل المراد ترتيب الخبر لا المُخبر به. وقيل هي لتفاوت ما بين الخلقين لا للتراخي في الزمان، وقيل: خلق بمعنى قدَّر...

وكل هذه التخريجات بعيدة عن صراحة النص: فآيات (المؤمن) تجعل أيام الخلق ثمانية، وهو خلاف القرآن كله الذي يصرح أيضاً أنه في الخلق: يدبر الأمر من السماء الى الأرض (السجدة ٥)، وتجعل تدبير الأرض في ستة أو أربعة أيام، والسماوات السبعة في يومين: فهل يرضى علم بذلك؟ ويقولون: ﴿وزينا السماء الدنيا بمصابيح أي نجومها، وهذه المصابيح أكبر من الأرض فكيف تكون لها، مصابيح، معلّقة في سقف السماء؟ فهناك تعارض قرآني، وتعارض ما بين القرآن والعلم. وما أحرانا أن نأخذ كتب الله على أسلوبها البياني، بدون معارضة للعلم فيها!

٤ ـ القول مراراً: ﴿كان الله عزيزاً حكيماً، ليس من قبيل التعارض، بل هو من متشابه التعبير. اجل إنها للماضي، لكنها تستوعب معنى الدوام، لا كفعل ناقص، بل كفعل تام، لا يستلزم الانقطاع. لكن ما الحاجة الى المتشابه الظاهر في أوصاف الله تعالى وأخباره؟

٥ ـ توقف ابن عباس في البت بمعنى قوله: ﴿الله الذي خلق السماوات والأرض... يدبّر الأمر من السماء الى الأرض، ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون (السجدة ٥)، ومعنى قوله: ﴿سأل سائل بعذاب واقع... من الله ذي المعارج، تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة (المعارج ١ ـ ٤).

ونرى في الآيتين قرينة تدل على انهما يومان مختلفان، فيوم الألف سنة ورد في ذكر الخلق، فهو يوم الخليقة، وكل يوم فيها كألف سنة بشرية (السجدة ٥)؛ ويوم الخمسين ألف سنة ورد ذكره في عذاب اليوم الأخير، فهو قرينة على يوم الدين الذي سيكون كخمسين ألف سنة بشرية، وقوله في الآيتين ﴿يعرج أو ﴿تعرج يفسره لفظ ﴿المعارج، ما بين السماء والأرض، وهي ﴿المصاعد (الجلالان). فأمر الخلق يعرج نزولاً وصعوداً في يوم كألف سنة بشرية؛ وأمر الحساب يعرج نزولاً وصعوداً في يوم كخمسين الف سنة بشرية. ويدل على ذلك قوله: ﴿وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون (الحج ٤٧).

إنهما تعبيران للبيان، لا للميزان. لكنه بيان متشابه مشبوه لأن أمر الخلق، كأمر الحساب آني. ثم يتطور الخلق بحسب أمر الله، وينقضي الحساب بأمر الله من دون زمن، ومظاهر بشرية. فليس في اليومين تعارض، انما تعبير متشابه مشبوه ليس من الإِعجاز في البلاغة والبيان.

٦- خلق الله آدم: ﴿من تراب (٣: ٥٩)؛ بل ﴿من طين (٣٨: ٧١)، بل ﴿من صلصال، من حمإٍ مسنون (١٥:  ٢٦ و٢٨ و٣٣)، بل ﴿من طين لازب (٣٧: ١١)، بل ﴿من صلصال كالفخار (٥٥: ١٤).

قيل: ﴿هذا من قبيل وقوع المُخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى، نقله السيوطي عن الزركشي في (البرهان). ولكن هل في خلق الانسان من تطويرات على أحوال مختلفة، وهو يقول: ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر، وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح البصر (القمر ٤٩ ـ ٥٠)، ﴿كمثل آدم خلقه من تراب، ثم ققال له: كن فيكون (آل عمران ٥٩).

فالتعبير البياني في تنوعه، متعارض مشبوه.

٧ ـ وكذلك قوله ﴿فألقى (موسى) عصاه، فإذا هي ثعبان مبين (١٠٧:٧؛ ٣٢:٢٦)، وهو الكبير من الحيات؛ مع قوله: ﴿فلمّا رآها تهتز كأنها جان (١٠:٢٧؛ ٣١:٢٨)، وهو الصغير من الحيات. إنه اختلاف تعبير، لا اختلاف أحوال.

٨ ـ هل من سؤال في يوم الدين؟ يقول: ﴿وقفوهم انهم مسؤولون (٢٤:٣٧) ويقول: فلنسألن الذين أرسل اليهم، ولنسألنَّ المرسلين (٦:٧)؛ ثم يقول: ﴿لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان (٣٩:٥٥).

حملها بعضهم على اختلاف الموضوع، في الأولى عن التوحيد، وفي الثانية عن شرائع الدين. وحملها بعضهم على اختلاف الأماكن لأن في القيامة مواقف كثيرة، في موضع يُسألون، وفي آخر لا يسألون. وقيل إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ، والمنفي سؤال المعذرة وبيان الحجة. لكن ليس في النصوص من قرينة لفظية أو معنوية لهذا التخريج. والكلام الذي يحتاج الى مثل هذا التخريج ليستوي ويستبين ليس من الإِعجاز في البلاغة والبيان والتبيين.

٩ ـ مدى تقوى الله. يقول: ﴿اتقوا الله حقّ تقاته (١٠٢:٣) ثم يقول: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم (١٦:٦٤).

نقل السيوطي: ﴿حملت الأولى على التوحيد، والثانية على الأعمال. ولمّا لم يستقم التخريج لتعارضه مع الواقع، قيل: ﴿الثانية ناسخة للأولى والنسخ برهان الاختلاف والتعارض الذي لا مفر منه.

١٠ ـ في تعدد الزوجات والعدل بينهن. قال: ﴿فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة (النساء ٣)، ثم قال: ﴿ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء، ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلّقة؛ وان تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً (النساء ١٢٩).

قيل: ﴿الأولى تفهم إمكان العدل والثانية تنفيه. والجواب ان الأولى في توفية الحقوق، والثانية في الميل القلبي، وليس في قدرة الانسان ـ لكن ليست الثانية (١٢٩) محصورة مخصوصة بالميل القلبي، بل بالعدل على اطلاقه كما في الآية (٣)، يشهد لذلك الآية التالية (١٣٠) التي تنص على الفراق: ﴿وإن يتفرقا يغْنِ الله كلاّ من سعته، فالتعارض قائم بين الآيتين، وكأنه بالثانية ينسخ الاباحة بتعدد الزوجات لاستحالة العدل بينهن. ولم يقولوا بالنسخ هنا لأنه لا خير فيه.

١١ ـ الأمر بالفحشاء. يقول: ﴿إن الله لا يأمر بالفحشاء (٢٨:٧ كذلك ٩٠:١٦؛ ٤٥:٢٩) ـ ولا يأمر بالفحشاء الاّ ابليس (١٦٩:٢؛ ٢٦٨:٢؛ ٢١:٢٤) ـ ولكنه يقول أيضاً: ﴿أمرنا مترفيها ففسقوا فيها (١٦:١٧).

قيل: ﴿الأولى في الأمر الشرعي، والثانية في الأمر الكوني بمعنى القضاء والتقدير ـ وهل يخالف الله بين أمره الشرعي وأمره الكوني، وهو الظلم بعينه؟ واذا كان فسق المترفين أمراً كونيّاً فسد الكون منذ تكوينه، وهو القائل: ﴿لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم... ثم رددناه أسفل سافلين (٤:٩٥ ـ ٥).

١٢ ـ بصر الكافرين في يوم الدين. يقول: ﴿فبصرك اليوم حديد (٢٢:٥٠). ثم يقول: ﴿خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي (٤٥:٤٢).

قالوا: ﴿الاختلاف من وجهين واعتبارين ـ فهو اذن خلاف لفظي لا موضوعي؛ والحقيقة انه خلاف موضوعي حقيقي: فالبصر الحديد لا ينسجم مع البصر الخاشع من الذل.

١٣ ـ الحصر في التعبير. يقول: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا، اذ جاءَهم الهدى، ويستغفروا ربهم، إلا أن تأتيهم سُنّة الأولين (المعجزة) أو يأتيهم العذاب قبلاً (٥٥:١٨). ثم يقول: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا، إذ جاءَهم الهدى، إلاّ أن قالوا: أبعث الله بشراً رسولاً (٩٤:١٧). ﴿فهذا حصر آخر في غيرهما.

قيل: حصْر المانع من الإيمان يختلف باختلاف السبب الحقيقي ـ هذه حذلقة لا أصل لها في النص. فليس من تعارض في الحقيقة لأن الموانع قد تكون عديدة؛ انما التعارض في صيغة التعبير والبيان، لذلك فهو شبهة على الإِعجاز في البلاغة والبيان.

١٤ ـ ومن الحصر في التعبير أيضاً قوله: ﴿فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً (٢١:٦ و ٩٣ و ١٤٤) وقوله: ﴿فمن أظلم ممن كذَّب بآيات الله (١٥٧:٦)؛ مع قوله: ﴿ومن أظلم ممن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها، ونسي ما قدمت يداه (٥٧:١٨)؛ وقوله: ﴿ومَن أظلم ممن منع مساجد الله (١١٤:٢)، الى غير ذلك من الآيات على أسلوب واحد (٢٢:٣٢؛ ٣٧:٧؛ ١٧:١٠؛ ١٨:١١؛ ١٥:١٨؛ ٦٨:٢٩؛ ٧:٦١).

أجيب عليها بأوجه: ﴿إن نفي الأظلمية لا يلزم منه نفي المساواة. وقيل: هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع من غير قصد اثبات الأظلمية للمذكـور حقيقة، ولا نفيها عن غيره.

وحقيقة البيان فيها انها استفهام انكاري، فيكون المعنى لا أحد أظلم، فيكون خبراً، وتعدّدت أنواع الأظلمية مع الحصر في كل واحدة. نقول: إنه أسلوب بياني لا يقصد منه حقيقة الحصر، بل التركيز على المقصود؛ لكنه جاء بأسلوب متشابه متعارض. وهذا الأسلوب القرآني في البيان شبهة على الإِعجاز في البلاغة والبيان.

١٥ ـ ومن أساليب التعبير التي تجعل البيان متشابها قوله: ﴿لا أقسم بهذا البلد، وأنت حِلٌ بهذا البلد (١:٩٠ ـ ٢)، مع قوله: ﴿وهذا البلد الأمين (٣:٩٥).

فقد تكون (لا) للنفي أو للاستفتاح كقولهم ﴿كلاَّ. واستعمال أداة بدون قرينة تفيد معناها هو عين المتشابه في البيان الذي يوهم الاختلاف والتناقض.

تلك بعض الآيات المتعارضات التي حاولوا تصويبها. والبيان الذي هو بحاجة الى تصويب... والبيان الذي يوهم لفظه وأسلوبه ظاهر الاختلاف والتناقض لا يكون من الإِعجاز المطلق في البلاغة والبيان.

ثانياً: حكمة ﴿موهم الاختلاف والتناقض في القرآن (الإتقان ٣٠:٢)

١ ـ ﴿قال الاسفرياني: اذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب والجمع، طُلب التاريخ وتُرك المتقدم بالمتأخر، ويكون ذلك نسخاً. وإن لم يُعلم، وكان الاجماع على العمل باحدى الآيتين، عُلِم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها. (قال) ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تخلوان عن هذين الوصفين.

فهم يشهدون بالتعارض الصريح، ويؤولونه بالنسخ. والواقع يشهد بأن فيه تعارضاً بيانياً غير التعارض في الأحكام؛ ولذلك يسمونه من متشابه القرآن.

٢ ـ ﴿قال غيره: وتعارض القراءَتين بمنزلة تعارض الآيتين. نحو (أرجلكم) بالنصب والجر. ولهذا جُمع بينهما بحمل النصب على الغسل والجر على مسح الخف.

فالتعارض البياني قد يجر الى التعارض في التشريع. وهذا شاهد على ذلك.

٣ ـ ﴿وقال الصيرفي: في جماع الاختلاف والتناقض، إن كل كلام صح أن يُضاف بعض ما وقع الاسم عليه الى وجه من الوجوه، فليس فيه تناقض؛ وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة ولا يوجد في الكتاب والسنة شيء من ذلك أبداً، وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين.

﴿ان التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة هو التناقض المطلق الذي لا يوجد إلا بين الوجود والعدم، ولا ينطبق حتى على النسخ الصريح بالإجماع، ولذا قال بعضهم بأن لا نسخ في القرآن، مع أن القرآن نفسه ينص على مبدأ وواقع النسخ فيه (البقرة ١٠٦). وهذا النسخ هو البرهان على وجود التعارض في القرآن.

٤ ـ ﴿وقال القاضي أبو بكر: لا يجوز تعارض آي القرآن والآثار وما يوجبه العقل. فلذلك لم يجعل قوله ﴿الله خالق كل شيء معارضاً لقوله ﴿وتخلقون إفكَّا و﴿إذ تخلق من الطين ـ لقيـام الدليل العقلي انه لا خالـق غيـر الله؛ فتعيّن تـأويل مـا عارضه فيؤول ﴿وتخلقون على ﴿تكذبون و﴿تخلق على ﴿تصور.

والحاجة الى التأويل في الخطاب تدل على انه متشابه وموهم الاختلاف والتناقض. وكلام بحاجة الى تأويل لرفع التعارض عنه ليس من الإِعجاز المطلق في البلاغة والبيان.

٥ ـ ﴿قال الكرماني: الاختلاف على وجهين: اختلاف تناقض وهو ما يدعو فيه أحد الشيئين الى خلاف الآخر، وهذا هو الممتنع على القرآن؛ واختلاف تلازم وهو ما يوافق الجانبين كاختلاف وجوه القراءة أو اختلاف مقادير السور والآيات، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد.

لا يطعن في الإِعجاز البياني اختلاف التناقض وحده، بل يكفي اختلاف التلازم كاختلاف الناسخ والمنسوخ، ليلقي على الإِعجاز في البلاغة والبيان شبهة لا تزول. فالبيان المتشابه، والبيان الذي يوهم الاختلاف والتعارض، وهو بحاجة الى مبدأ النسخ، أو الى مبدأ المتشابه، لتصويبه؛ وهو بحاجة الى تأويل قريب أو بعيد ليستقيم ويستبين، لا يكون من الإِعجاز المطلق في البلاغة والبيان، ليصح ان يكون معجزة الهية تشهد بصدق النبوّة وصحة التنزيل. ففي البيان القرآني ﴿ما يوهم الاختلاف والتناقض؛ وهذه هي الشبهة السابعة والكبرى على الإِعجاز في البلاغة والبيان. والآية الكريمة نفسها تشهد بذلك. ففي قوله ﴿أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (النساء ٨٢)، ينص ان ليس فيه كثير اختلاف. فهذا الوصف يشهد بان المقصود ﴿كثير الاختلاف. وهذه شهادة ضمنية بأن فيه اختلافاً يسيراً. والاختلاف اليسير يرفع صفة الإِعجاز المطلق عن البيان الذي يصح أن يكون معجزة الهية للتحدي. وكل كتـاب بشري يحترم نفسه يتحدى بأنه ليس فيه ﴿اختلاف كثير، اذ الاختلاف اليسير دليل بشرية المؤلف والتأليف.

خاتمة

تعليم القرآن بحق نفسه

أوّلاً: القرآن محكم أم متشابه؟

حجة مَن قال: القرآن كله محكم (في هود): ﴿كتاب أُحكمت آياته.

حجة من قال: القرآن كله متشابه (في الزمر): ﴿نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً.

حجة من قال: بعضه محكم وبعضه متشابه (في آل عمران): ﴿منه آيات محكمات، هنَّ أم الكتاب، وأخر متشابهات.

فالتعارض قائم من صفة القرآن العامة.

ثانياً: القرآن كلام الله نفسه أم العبارة عن كلام الله؟

١) ﴿حجج مَن قال بأن كلام الله صوت وحرف؛ وذلك في عشر آيات:

(في الأعراف) وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة. (وفي مريم) وناديناه من جانب الطور الأيمن. (وفي النمل) فلما جاءَها نودي أن بورك مَن في النار ومَن حولها، وسبحان الله رب العالمين. يا موسى انه أنا الله العزيز الحكيم. (وفي القصص) فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني انا الله رب العالمين. (وفي طه) فلمّا أتاها نودي يا موسى، في أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى. (وفي الشعراء) واذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين. (وفي القصص) وما كنت بجانب الطور اذ نادينا. (وفي النازعات) هل أتاك حديث موسى اذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ـ والنداء في اللغة ليس الاّ الصوت ـ (وفي سبأ) حتى اذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ (وفي يسن) سلام، قولاً من رب رحيم.

ملاحظة خطيرة: ليس في تلك الاستشهادات شاهد واحد بحق القرآن؛ وأكثرها بحق موسى، ﴿وكلم الله موسى تكليماً؛ بينما القرآن نزل تنزيلاً، ونزل بالواسطة: ﴿قل نزّله روح القدس (النحل ١٠٢) فحاله لا ينطبق على حال غيره، فليس هو من كلام الله بالصوت والحرف؛ ويشهد لذلك تصريحه ﴿فانه نزَّله على قلبك (٢: ٩٧)، ﴿على قلبك لتكون من المنذرين (الشعراء ١٩٤).

٢) ﴿في حجج القائلين بأن المسموع عين كلام الله، لا العبارة عن الكلام. وذلك في اربع آيات:

(في البقرة) وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثمّ يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون ـ وهي بني إسرائيل والتوراة. (وفي التوبة) وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه فأمنه. (وفي البقرة) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم مَن كلم الله. (وفي النساء) وكلّم الله موسى تكليماً.

ملاحظة خطيرة: المفاضلة بين الرسل قائمة على نوعية كلام الله معهم، فامتاز بعضهم بأن ﴿منهم مَن كلّم الله؛ وينص على ان هذا كان مع موسى: ﴿وكلّم الله موسى تكليماً. فليس هو طريقة محمد والقرآن؛ لأنه تنزيل بالواسطة، لا كلام مباشر من الله لمحمد، فليس القرآن مباشرة تكليم الله لمحمد؛ بل بواسطة جبريل. وهو يسمي القرآن هنا كلام الله، لا على سبيل التكليم، بل على سبيل التبليغ الى المشركين، فالمشرك الضيف يسمع كلام الله من ضيفه، لا من الله نفسه. فليس المسموع من القرآن عين كلام الله، بل عبارة عنه. والقرآن في جميع المواضع لا يسمي حرفيّاً كلام الله إلاّ الكتاب فهو ﴿كتاب الله (٢٣:٣؛ ٤٤:٥؛ ٦٨:٨؛ ٣٦:٩؛ ٥٦:٣٠؛ ٦:٣٣؛ ١٠١:٢؛ ٣٥؛ ٢٩). فالكليم مباشرة هو عين كلام الله المسموع؛ أما التنزيل في القرآن، بواسطة جبريل، فهو عبارة عن كلام الله.

ثالثاً: هل القرآن قديم أم مخلوق؟

١) ﴿حجج القائلين بقدم القرآن، وذلك في اثني عشر موضعاً:

(في الأعراف) ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. (وفي النحل) إنما قولنا لشيء اذا أردناه أن نقول له: كن، فيكون. (وفي يسن) انما أمره اذا أراد شيئاً ان يقول له: كن، فيكون. (وفي هود) ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وانهم لفي شك منه مريب. (وفي طه) ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً. (وفي حم السجدة) ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وانهم لفي شك منه مريب. (وفي حمعسق) ولولا كلمت سبقت من ربك الى أجل مسمى لقضي بينهم. (وفي الصافات) ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. (وفي هود) وأهلك الاّ من سبق عليه القول. (وفي قد أفلح المؤمنون) وأهلك الاّ من سبق عليه القول. (وفي الكهف) قل: لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي.

ملاحظة خطيرة: ليس في تلك الشهادات واحدة بحق القرآن؛ وأكثرها مصبوب على قضاء الله وقدره، لا على كلامه تعالى في التنزيل سوى آية الكهف، وهي عامة مطلقة، ليست خاصة بالقرآن. فالنتيجة انه ليس في القرآن من شاهد صريح على قدم القرآن في ذات الله.

٢) ﴿حجج القائلين بخلق القرآن:

فصل اول، في الخلق؛ وذلك في خمسة مواضع: (في الأنعام) وخلق كل شيء، وهو بكل شيء عليم. (وفي الرعد) قل: الله خالق كل شيء. (وفي الفرقان) وخلق كل شيء فقدَّره تقديراً. (وفي الزمر) الله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل. (وفي حم المؤمن) ذلكم الله ربكم خالق كل شيء، لا اله الاّ هو.

فصل ثان، في الجعل، وذلك في موضعين: (في حم السجدة) ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته. (وفي الزخرف) إنا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون.

فصل ثالث: في الحدوث؛ وذلك في خمسة مواضع: (في الكهف) فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً. (وفي الزمر) الله نزّل أحسن الحديث.

(وفي الطلاق) لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً. (وفي الأنبياء) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث الاّ استمعوه وهم يلعبون. (وفي الشعراء) ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث الاّ كانوا عنه معرضين. (وفي هود) كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ـ وما صادفه فعل بعد فعل يكون محدثاً.

ملاحظة خطيرة: في الأقوال بالخلق المطلق لما عدا الله استنتاج بخلق القرآن. وفي الجعل تصريح متقارب بخلق القرآن. أمّا التصريح المطلق الذي لا شبهة عليه هو قوله مرتين. ﴿ذكر من ربهم محدث، ﴿ذكر من الرحمن محدث.

٣) ﴿حجة من قال بأن القرآن ليس بكلام الله عزّ وجل:

(في الحاقة) إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر. (وفي التكوير) انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين. (وفي الشورى) أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء.

هذا هو الواقع القرآني في أزلية القرآن أو حدوثه. لا دليل على أزلية القرآن بنص صريح، إنه استنتاج من كونه ﴿كلام الله. والشهادة المتواترة في القرآن أنه كلام الله بالواسطة، فهو مباشرة ﴿قول رسول كريم، رسول ﴿يوحي بإذنه ما يشاء، فالوحي من الملاك نفسه بإذن الله. لذلك فهو ﴿ذكر من ربهم محدث، ﴿ذكر من الرحمن محدث. فالتعارض في أزلية القرآن قائم بين الواقع القرآني المشهود الواضح، وعقيدة بنوها على مطلق مشبوه. فمعطيات القرآن عن صفات ذاته مشبوهة متعارضة.

ختام القول: شبهات سبعة على الإِعجاز في البيان والبلاغة. فالواقع القرآني يشهد بوجود ما يوهم الاختلاف والتناقض؛ ويشهد بتواتر التكرار فيه بلا ضرورة ولا نكتة بيانية معجزة؛ ويشهد بوجود الناسخ والمنسوخ؛ ويشهد بوجود المتشابه فيه؛ ويشهد بأن تعليمه في التوحيد يغلب فيه التشبيه على التنزيه؛ ويشهد بأن البلاغ القرآني هو دين موسى وعيسى يشرعه للعرب (الشورى ١٣)، وهو الإسلام الذي يشهد به مع الله وملائكته أولو العلم المقسطون من النصارى (آل عمران ١٨). وهذا بعد تصفية القرآن من الأحرف الستة التي نزل عليها وتُلي بها قبل جمعه وتدوينه، وبعد التصفية المزدوجة التي تمت في عرضات القرآن الموسمية حتى وفاة النبي، والتي تمت في التدوين العثماني حيث ﴿ذهب قرآن كثير، و﴿غيّر عثمان المصاحف.

فتلك الشبهات السبعة المتراكمة، شهادات سبع متراصة محكمة، على ما في ﴿دلائل الإِعجاز من البلاغة والبيان. فالقرآن كله ﴿منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات؛ والمحكمات يتحكم فيها النسخ والمتشابهات يحكمها ما تشابه منه. فالقرآن كله بيان يغور في النسخ والمتشابه. وكتاب يشوبه كلَّه النسخ والمتشابه حتى ﴿ما يعلم تأويله الاّ الله، والراسخون في العلم يقولون: أمنا به ـ هل هو من مطلق ومحكم الإِعجاز في البلاغة والبيان؟


١. يقول فيه ناسخه في خاتمته: أنه ﴿إمام الأئمه، قدوة الأمة، ناصر السنة، قامع البدعة، معين الشريعة، بدر الملة والدين، حجة الإسلام والمسلمين، وارث الأنبياء والمرسلين ص ٨٦.

٢. هنا خاب ظنه: فالذي دنا وتدلى ليس الله تعالى، بل ملاك الوحي؟

٣. في تحقيق النص سقط لفظ (ليس)، فاشتبه الفصل، لكن استشهاد الجهمية والمعتزلة يدل عليه.

٤. ١ هذا التصريح يعني ان براهين التوحيد ودلائل النبوّة، لا تقود إلى الإيمان بحدّ ذاتها، إلاّ أن يشاء الله.