الرِّسَـالة ٤٩
أرَجُلٌ مِثلى يَهْرُبُ؟!
نحميا ٦:١٠-١١
Should a man like me run away?
أحبّائِى: حَديثنَا اليَوْمَ مَوْضُوعُهُ: أرَجُلٌ مِثلى يَهْرُبُ؟
ومِنْ سفر نَحَمْيَا الأصْحَاح السّادِس نقرَأ العَدَدَيْن العَاشِر والحَادِى عَشَر:
"ودَخلتُ بَيْتَ شمْعِيَا وهو مُغلقٌ فقالَ: لنَجتمِعْ إلى بَيْتِ الله إلى وَسَطِ الهَيكل ونقفلْ أبوَابَ الهَيكل!. لأنّهُم يأتونَ ليقتلوكَ!. فى الليل يَأتونَ ليقتلوكَ!. فقلتُ: أرَجُلٌ مِثلى يَهرُبُ؟! ومَنْ مِثلى يَدْخلُ الهَيكلَ فيَحْيَا؟!. لا أدْخُلُ!". ١
لقد وُلدَ نَحَمْيَا فى السَبى ولكنّه كانَ يَعرفُ تاريخَ شعبهِ: أنّهُم عَمِلوا الشرّ فىعَيْنى الرّبّ ولمْ يستمعوا إلى تحذير الأنبياء لهُمْ. فتخلتْ يَدُ الله عنهُمْ وأصابَهم الضَعفُ لذلكَ تخاذلوا أمامَ قوّة العدوّ. وبَطشَ بهمْ نبوخذنصّر مَلك بابل وأحْرَقَ بَيْتَ الله مكانَ عبادتهم وهَدَمَ سُورَ أورُشليم الحَصين وأحْرَقَ جَميعَ قصُورهَا بالنار. وسَبَى الذين بَقوا مِنَ السَيْفِ إلى بَابل فكانوا لهُ ولبَنيهِ عَبيداً.. ثمّ جاءَتْ مّمْلكة فارس وبقىَ الشعبُ مَسْبيّاً مُستعبداً. ولكنْ لمْ يَمنعْ ذلكَ مِنْ وُجُودِ رجَالٍ أتقياء بينَ شعب الله المَسْبىّ.. أكرَمَهُمْ الله فوَجَدوا نِعمَة فى أعْيُن مُلوكِ بابل وفارس ومِنْ هُؤلاء الرجَال نَحَمْيَا.. ولأمَانتِهِ شغلَ مَسئوليّة عَمَل عَظيم داخلَ قصْر المَلك الفارسىّ أرتحشستا.. فلقد كانَ مَسئولاً عنْ الشئون الخاصّة بالمَلك وعنْ طعَامِهِ وشرابهِ.. ففى تلكَ العُصور كان الأعداءُ يَدُسُون السُمّ للمُلوك.. فاختارَ المَلِكُ أرْتحْشسْتا نَحَمْيَا الذى كانَ يتمتعُ بسُمْعَةٍ طيّبةٍ كى يَحتلّ مَكانّ الصَدارَةِ فى القصْر المَلكىّ.. كانَ نَحَمْيَا مُخلِصاً فى عَمَلِهِ وأدارَ شئونَ القصْر بحكمَةٍ وحُسْن تدْبير فحَازَ تقديرَ المَلك أرْتحْشسْتا لهُ.
وَضَعَ الملكُ ثقتهُ فيهِ وتمتعَ نَحَمْيَا بمَركز مُمْتاز فى شُوشَنَ القصْر.. حتى جاءَتهُ الأنبَاءُ يَوْمَاً مَا "أنّ البَاقين الذين بقوا مِنَ السَبْى هناكَ فى البلادِ هُمْ فى شرّ عَظيم وعَار! وسُورُ أورُشليم مُنْهَدِمٌ وأبْوابُها مَحْرُوقة بالنّار". إنّ أوّلَ مَا يُلفِتُ النظرَ هو تأثيرُ الأخبَار غيْر السَارّة على نَحَمْيَا فهو يقولُ: "لمّا سَمِعتُ هذا الكلام جَلسْتُ وبَكيْتُ ونحْتُ أيّاماً. وصُمْتُ وصَليْتُ أمَامَ إلهِ السَماء". وفى صَلاتِهِ يقولُ: "أيّها الرّبّ لتسْمَعْ صَلاةَ عبدِكَ الذى يُصَلى الآن إليكّ نهاراً وليلا" ثم يقولُ: "فإنى أنا و بَيْتُ أبى قد أخطأنا لقدْ أفسَدنا أمَامَكَ ولمْ نحفظ الوصايا". تركَ نَحَمْيَا قصْرَ المَلِكِ الفارسِىّ بعدَ أنْ سَمِعَ أنّ أورُشليم سُورُها مُنْهَدِمٌ وأبْوابُها مَحْرُوقة بالنّار.. وذهَبَ إلى أورُشليم ليَبْنِىَ السُورَ المُنْهَدِمٌ ويُعَمّرَ الخَرابَ ويقودَ شعبَهُ مِنْ ضَلالِ طريقِهمْ وشرّهِمْ إلى طريق الرّبّ لِيَحفظوا وصَايَاه.
ضَاق بهِ أعْداؤه وتعقبوه ليقتِلوه لمّا رأوه وقد استأنفَ بنَاءَ سُور أورُشليم المُنْهَدِمٌ.. خافوا لئلا بتعمير أورُشليم تكونُ خطراً عليهم لذلكَ استأجَروا واحِداً مِنْ رجَال نَحَمْيا ليتكلمَ بنبوّة كاذبة.. وادّعى أنّ نبوتهُ مِنَ الله ونصَحَ نَحَمْيَا كى يَختبئَ فى الهيكل بعدَ قفل أبوابهِ.. وفى الحقيقة أنّ ذلك الخائِن أرادَ بحيلتِهِ المَاكرَة أنْ يَنصُبَ لنَحَمْيَا فخاً داخلَ الهَيكل ليُسَلمَهُ لأعدائِهِ نظيرَ مَالٍ وَعَدَهُ بهِ الأعداء. ولكنّ نَحَمْيَا أدْرَكَ الحيلة وكتبَ يقول: فتحَققتُ وهوَذا لمْ يُرسِلهُ الله!. وقالَ هذا القولَ المَأثور: "أرَجُلٌ مِثلى يَهْرُبُ؟!". وتحَذرَ نَحَمْيَا.. لذا يَجبُ ألا نصَدّق كلّ مَا يُقالُ لنا.. فالكتابُ يُحذرُنا بالقول: "امتحنوا الأرواح".. فليسَ كلّ مَا نَسْمَعُ صِدقاً حتى لوْ صَدَرَ مِنْ أناس نَحْسِبُهُمْ رجَالَ الله.. قالَ نَحَمْيا: "أرَجُلٌ مِثلى يَهرُبُ؟!".. ليسَ الهُروبُ فى حَدّ ذاتِهِ عَيْبَاً فالهُرُوبُ مِنَ الشرّ فضيلة.. ولكنْ مَا قصَدَهُ نَحَمْيَا هوَ أنّ الهُروبَ مِنْ مَيْدان المَسئوليّة فى وقتٍ نحنُ فيه مُثقلونَ بعَمَل الله ليْسَ مِنْ شيَم رجال الله.. قالَ نَحَمْيَا عنْ نفسِهِ وعنْ رجَالِهِ: "إنّهم باليدِ الواحدة يَعمَلونَ العَمَل وبالأخرى يَمْسِكونَ السِلاحَ ولمْ أكنْ أنا ولا إخوتى ولا غلمانى ولا الحرّاس الذين ورَائى نخلعُ ثيابنَا.. كان كلّ وَاحدٍ يَذهَبُ بسِلاحِهِ إلى المَاء!".. وأوَدّ أنْ أسْردَ باختصَار سَبعة دُروس نسْتخلِصُها ونحنُ نلقى الضَوْءَ على شخصيّة ذلكَ الرَجُل العَظيم. ٢
أوّلاً: رَجُلَ الله نَحَمْيا لمْ يَفصِلْ نفسَهُ عنْ باقى شعْبَهُ لِيُبَرئها وليَدينَهُمْ.. ولكنّهُ يقولُ فى صَلاتِهِ: أنا وبَيْتُ أبى قد أخطأنا وأفسَدنا أمَامَكَ ولمْ نحفظ الوَصَايَا".. ثمّ يُعَبّرُ فى صَلاتِهِ عَنْ إيمانِهِ الواثق بالرّبّ قائلاً : "إذا رَجَعَ شعبُكَ عنْ ضَلال طريقِهِ وحَفِظ الوَصَايَا تعُودُ وترَحَمْهُمْ!.. ثم يَسْألُ الرّبّ طِلبَتهُ: "واعْطِ النَجَاحَ اليومَ لِعَبْدِكَ وامْنَحْهُ رَحْمَة أمَامَ هذا الرَجُل "يقصدُ المَلِكَ أرْتحْشسْتا!". يا لهُ مِنْ نموذج رَائع للصَلاةِ المُقتدِرة!.
ثانياً: الالتجاءُ إلى إلهِ السَماء على الدوام والاعتماد على مواعيد الله والتمَسّك بها.. فحين سأل الملك نَحَمْيا لماذا هو مكتئبُ القلب؟!. حَدّثهُ عَنْ أورَشليم وسُورهَا المُنهَدِم وأبْوابهَا المَحْرُوقة بالنّار فسأله الملك: ماذا طالبٌ أنتَ؟ .. فإذا بنَحَمْيَا يقول: فصَليْتُ إلى السَمَاء.. رَفعَ نَحَمْيَا صَلاة طالِباً حِكمَة أثناءَ حَدِيثِهِ مَعَ المَلِك!.
ثالثاً: إنّ الصَلاة لا تتحَدّدُ بمَكان أو زمَان أو مَوقِفٍ.. كانَ نَحَمْيَا يُواجَهُ مُشكلتين. الأولى: مَا سَمِعَهُ عَنْ شعْبهِ أنّهُمْ فى شرّ عَظِيم وعَار.. وهذا ما صلى من أجله إلى إلهِ السَمَاء فى انكِسَار وتذلل. إنّ الصَلاة لا تتحَدّدُ بمَكان أو زمَان أو مَوقِفٍ.. كان نَحَمْيَا أمَامَ المَلِك أمّا قلبُه فمُتجِهٌ نحوَ المَلِك السَمَاوىّ. والمُشكلة الثانية تنحَصِرُ فى سُور أورَشليم المُنهَدِم وأبْوابهَا المَحْرُوقة بالنّار. وهذا مَا ذكرَهُ نَحَمْيَا أمَامَ المَلِك الأرْضِىّ. كانَ نَحَمْيَا حَكيماً جداً!
رَابعاً: حفظ أسْرَارَ الآخرين وصيانَة ألسِنتنا مِنَ الحَدِيثِ عَنْ نقائِصِهمْ.. إنْ جَاز لنَا أنْ نحَدّثَ الآخرينَ بمَا نعَانى مِنْ ظروف الحَيَاة.. فلا يَجوزُ لنَا أنْ نشهّرَ بأخطاءِ إخوتِنا بلْ نأتى بهَا أمَامَ الآب السَمَاوىّ بقلبٍ مُنكسِر ليَعْملَ الله بروحِهِ القدّوس فينا وفى إخوتنا وهذا مَا فعَلهُ نَحَمْيا.. فما أعْلنَهُ أمَامَ الرّبّ فى صَلاتِهِ ليسَ هوَ الذى شارَكَ بهِ المَلِك.. فمَا أجْمََل أنْ نحفظ أسْرَارَ الآخرين ونصُونَ ألسِنتنا مِنَ الحَدِيثِ عَنْ نقائِصِهمْ.. فكلنَا فى المَوازين إلى فوْق!.. وحين بَدأ نَحَمْيَا العَمَلَ تصَرّفَ بحِكمَةٍ ووَضَعَ خطة سَليمَة لإتمَامِها بكفاءَةٍ إذ طلبَ مِنْ كلّ واحِدٍ أنْ يقومَ ببنَاءِ جُزءٍ مِنَ السُور الذى يُقابلُ بَيته. ٣
خامِساً: أنْ يقومَ كلّ واحِدٍ مِنّا ببنَاءِ سُور مقابل بَيتِهِ.. العَمَلُ العَظيم أنْ تكون بُيُوتنَا مُحَصّنَة.. فلوْ عِشنا قدْوَة طيّبة لأوْلادِنا وبناتِنا وتحفظنا مِنَ المُغريَات العَالميّة.. تعَذرَ على إبليس أنْ يَجِدَ ثغرَة ليُوجّهَ مِنَها سِهَامَهُ عَليْهم.. ومَا واجَهوا تلكَ المشاكِل التى يُعانى مِنها الجيل الجديد فى العالم الحاضر.. طلبَ الأعداءُ مِنْ نَحَمْيَا أنْ يأتى ويفاوضُهُمْ أثناءَ بنائِهِ السُور فقال: إنّى أنا عَاملٌ عَمَلاً عَظيماً فلا أقدِر أنْ أنزلَ.. لمْ يرَ نَحَمْيَا عَمَلهُ العظيم فى شوشن القصْر.. ولكنْ رآهُ فى بناء السُور المُنهَدِم وقيادة الشعب للاعتراف بالخطيّة والعَودَة إلى الله.
سَادِسَاً: فرَحّ الرّبّ هوَ قوّتنا.. حين أتم نَحَمْيَا ورجَالهُ بناءَ السُور رأى نَحَمْيَا لزوم بناء سُور روحىّ يَحْمِى الشعبَ.. فأتى عَزْرَا الكاهِن بالشريعَة أمَامَ الجَمَاعَة مِنْ رجَالٍ ونسَاءٍ وأوْلادٍ.. واستمرّ يقرأ مِنَ الصَباح إلى نِصْفِ النهَار. فأجابَ الشعبُ آمين. رافعينَ أيدِيهُمْ وخرّوا وسَجَدُوا على وجُوهِهمْ إلى الأرض. وفسّرَ عَزْرَا ونَحَمْيَا وآخرون. وأفهموا الشعبَ كلّ مَا جَاء فى كلام الله.. وحين بكى الشعبُ وناحَ لمْ يتركهُم نَحَمْيَا وعَزْرَا أنْ يَستمرّوا فى أحزانِهمْ.. فقالَ لهُم نَحَمْيَا: لا تحزنوا لأنّ فرَحّ الرّبّ هوَ قوّتكم.. ليَكونَ عَمَلنَا عَظيماً يَجبُ أنْ نتمّمَ مَشيئة الله فى حَياتَنا وحَيْثُ أوْجَدَنا الرّبّ.. فليْسَتْ العِبْرَة بنوْعيّة العَمَل.. بلْ بالإخلاص فيهِ وأنْ يكونَ هَدَفنا مَجْدَ الله. ٤
سابعاً: الرّبّ هو مَصْدَرُ السَلام والفرَح الحَقيقىّ.. إنّ هَدَفَ روح الله مِنْ كشفِ الخطيّة أمَامَ الخاطئ ليسَ ليَحْزَنَ ويسترْسِلَ فى الأحزان.. بل لقيادَتِه إلى التوبَة والرُجُوع إلى الله.. لذلك لمْ يتركهُم نَحَمْيَا وعَزْرَا ليَستمرّوا فى أحزانِهمْ بل قالا لهُم: لا تحزنوا لأنّ فرَحّ الرّبّ هوَ قوّتكم.. شكراً للرّبّ فهو مَصْدَرُ السَلام والفرَح الحَقيقىّ.
أخى المحبوب: ليتكَ تشتركُ مَعِى فى هذه الصَلاة: أبانا السَماوىّ.. أسألكَ كى تجْعلَ مِنّى رَجُلاً ذا غيْرةٍ لبناء السُور المُنهَدِم. اجْعلَ مِنّى رَجُلاً كنَحَمْيَا مَسَرتهُ ليسَ فى مَركز بقصْر.. بل ربّى اجْعلْ مسرتى لا بمَركز عَالمىّ أصِلُ اليْهِ. إذ يكفينى مَرْكزاً أنْ تكونَ لى ربّاً وأنا لكَ عَبْداً.. فأحْيَا لتمْجيدِ اسْمَكَ.. مُتمّماً مَشيئتكَ عاملاً بوصَاياك. أرفعُ صلاتى أمامّ عَرشِكَ الأسْنى واثقاً مِنْ استِجَابَتِكَ يا مَنْ قلتَ: مَنْ يُقبل إلىّ لا أخرجه خارجاً.
أخى القارئ العزيز.. إنْ أرَدْتَ سماع تلك الرسالة أو غيرها ستجدُ ذلك فى:
١. ١ سفر نحميا ٦: ١٠ – ١٢ استمع إلى الإنجيل
٢. ٢ رسالة يوحنا الرسول الأولى ٤: ١ رسالة بولس الرسول الأولى إلى مؤمنى كورنثوس ١٢: ١٠ ، سفر نحميا ٤: ١٧ – ٢٣
٣. ١ سفر نحميا ١: ٣ – ١١ & ٢: ٢ - ٢٠ & ٤: ٧ – ٢٣ & ٦: ٣
٤. ٢ سفر نحميا ٣: ٢٨ & ٨: ١٠