الخطاب ٦

المعجزة الأولى ليسوع

"وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ. وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ». وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَةً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐمْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «ﭐسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ». فَقَدَّمُوا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْراً وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ - لَكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا - دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ». هَذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ فَآمَنَ بِهِ تلاَمِيذُهُ" (يوحنا ٢: ١- ١١).

في إنجيل يوحنا، كلمة "معجزات" تُترجم بـ "آيات". وهناك ثماني آيات فقط تُذكر في هذا الإنجيل. كل آية منها هي لسبب معين، كما حدث، مثلاً، عندما شفى يسوع الرجل المشلول في بركة بيت حسدا. إننا نرى فيه ذاك الذي يمتلك قدرةً عظيمة، القادر على إعطاء القوة لأولئك الذين لا حول ولا قوة لهم من ذاتهم. وهنا في هذه الآية (الأعجوبة) الأولى المدونة في الإنجيل، يبدو الرب يسوع كشخص واضح الملامح جداً. إنه يأتي قبلنا كخالق لكل الأشياء. لقد أخبرنا يوحنا بذلك عقائدياً، عندما قال: "في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ". ولكن الآن في هذه الآية لدينا تجلٍ ظاهرٍ منظور لهذا في إعمال الرب يسوع لقدرته الخلْقية، فيصنع في لحظة واحدة ما يلزم الآخرين أسابيع وأشهر ليعملوه. لاحظوا المناسبة لهذه المعجزة. "فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ (أي اليوم الثالث بعد دعوة نثنائيل) كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ". في الأصحاح ٢١: ٢ نقرأ أن نثنائيل كان في قانا الجليل؛ من الواضح جداً، في خط سيرهم إلى اليهودية، أنهم توقفوا في موطن نثنائيل، حيث أُقيم هذا العرس. لقد افترض البعض أن هذا كان حفل زفاف نثنائيل نفسه، ولكن ليس من دليل على ذلك. إن اسم العريس والعروس ليسا مذكورين في الإنجيل. الأمر المهم هو أن لدينا موافقة الرب المبارك على هذه العلاقة الحميمة (الزواج) التي ما عادت تلاقي احتراماً كبيراً الآن. إن هذه الحادثة تعيدنا إلى ذلك الزمن، في فجر التاريخ، عندما أعطى الله جدَّيْنا الأولين أحدهما للآخر: "لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أبَاهُ وَأمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً" (تكوين ٢: ٢٤). الله هو من أسّس علاقة الزواج، وها هو المسيح يباركه هنا ويقدّسُه. من المؤسف له أن الزواج في أيامنا هذه يُحَطُّ من قدْره عن طريق العناد والشر عند الرجال والنساء! كم يجب أن نكون حريصين، كمسيحيين، على أن ندرك قداسية الزواج! لننظر إلى النسبة المرعبة من حالات الطلاق البغيض الذميم الذي ما برح يزداد في أيامنا هذه. بالتأكيد، إنه أمرٌ يجب على المسيحي أن يكون مدركاً وواعياً له. بالطبع، هناك حالات، عندما لا تحترم المرأة نفسها، يمكن أن تستمر في العيش مع نمط معين من الرجال، ولكن الكتاب المقدس يخبرنا أنه إن كان للناس أن ينفصلوا، فعليهم ألا يتزوجوا من جديد من شخص آخر ما لم يكن ذلك الطلاق لسبب الخيانة الزوجية من جهة الطرف الآخر. في هكذا حالة قال ربنا يسوع المسيح: "مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي" (متى ١٩: ٩). إننا ندرك الاستثناء الذي وضعه الرب يسوع، ولكن خارج تلك الحالة لا نجد أي أساس لإعادة الزواج للناس المطلّقين. إن الأمور في حالة تشويش اليوم، ويا للعواقب الوخيمة التي يتعرض لها الأطفال من جراء الطلاق!

أرى هنا أن الرب يسوع كان يضع بصمة موافقته على الزواج عندما قبِلَ الدعوة لحضور هذا العرس. كانت أمُّ يسوع حاضرةً أيضاً، وهذا سيفترض أنها كانت على علاقة جيدة بتلك العائلة. وفي الواقع، تبدو مريم وهي تتمتع بقدر كبير من حس المسؤولية. ولعله يمكنني أن أقول أيضاً أنه أمرٌ سار في أي زواج أن يكون يسوع وتلاميذه مدعوين إليه. إنه لمما يدعو إلى الشفقة ألا يستطيع الناس دعوة يسوع. كم هو أمرٌ ثمين وعظيم أن تكون للمرء هذه الشركة مع أولئك الذين يحبون المسيح عندما يدخل في هذه العلاقة!

ولكن دعونا الآن نفكر في مناسبة هذه المعجزة، وأولاً سوف نلاحظ الحوار بين يسوع وأمه. نقرأ: "َلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ»".

إن الخمر في الكتاب المقدس، عندما يُستخدم على نحو صحيح وبحكمة، هو رمزٌ للسعادة. ونقرأ عن "الخمر التي تبهج الله والإنسان". إن حقيقة تقديم الخمر في حفلات الزفاف يوحي بأن بني إسرائيل كانوا قد ابتعدوا كثيراً جداً عن الله حتى أن الفرح اختفى بشكل كبير. لم يبقَ لديهم الكثير. ما بقي هو مجرد شكليات فارغة وطقوس، يمكن أن نلاحظ تصويراً لها من خلال الأجران الفارغة. ولكن مسيح الله كان هناك، وشعرت أمُّه، بالغريزة، أن في مقدوره أن يفعل شيئاً ما ليعالج الوضع. من الطبيعي عادة أن أمَّ العريس هي التي تتشوش من شحّ الشراب والطعام المنعشين، وكان الضيوف سيتساءلون عن نقص الاستعدادات المناسبة للعرس. لقد كانت مريم، وبما لا شك فيه، على علاقة حميمة مع هؤلاء الناس، اللهم ما لم تكن قريبةً لهم. لقد كانت امرأة حكيمة مدبّرة، ولأنها هكذا فقد شعرت بأن كلمةً من ابنها تفي بالغرض. تصرفها هذا كان فيه الكثير من علاقتها به كأم. ولكنها كان واضحاً أنها تتوق لأن يُظهر ابنها بعض قدرته وهكذا يعطي الآخرين الفهم ليدركوا شيئاً من شخصيته الإلهية البشرية الأسرارية.

ولذلك يُقال لنا أنها التفتت إلى ابنها وقالت له: "ليس لديهم خمر". في الواقع لم تطلب العذراء منه أن يفعل شيئاً حيال ذلك. بل حملت في صدرها سراً ما كان الناس الآخرون ليفهمونه. لقد كانت تنتظر الوقت المناسب حتى يقوم ذلك الكائن الرائع، الذي حملتْه في أحشائها ثم في أحضانها كطفل رضيع، ليُظهر ذاتَه في أنه ابن الله، وعلى الأرجح أنها رأت في هذا الوضع مناسبة له لفعل ذلك. ولكن يسوع التفت إليها وقال لها: "«مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ»".

بعض الناس ظنوا أن الرب تكلّم بشكل قاسٍ نوعاً ما هنا، ولكن من المؤكد أنه لم يفعل ذلك. إننا على ثقة كاملة بأنه ما كان أبداً ليقول شيئاً يتعارض مع حقيقة كونه ابناً مطيعاً لها كوالدة له. إن ما قاله يُساء فهمُه قليلاً بسبب ترجمتنا للجملة. إننا نميز بين "سيدة – ليدي"، و"امرأة". فكلمة "سيدة – ليدي" كانت تُستخدم في فترة من الزمن للإشارة إلى زوجة اللورد أو الفارس. أما كلمة"امرأة" في يومنا هذا، فيبدو أنها صارت تدل على احترام أقل من كلمة "ليدي". وهكذا فإننا عندما نسمع الرب يقول "مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ!" نظن أنه يوبّخ والدتَه. إن الكلمة التي استخدمها كانت أي امرأة تجدُ فيها مديحاً لا نظير له، فقد قال لها: "يا سيدتي، ماذا تريدين مني أن أفعل أجلك؟" أو "ما الذي تريدينه مني؟" أو "ماذا يدور في خلدك؟". ثم يضيف قائلاً: "لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ»". طوال هذا الإنجيل نجد أمام الرب يسوع هذه "الساعة". لقد كان لديه أخوة بحسب الجسد، وفي إحدى المرات أراد إخوته منه أن يصعد إلى العيد ولكن يسوع قال لهم: "إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ" (يوحنا ٧: ٦). ونقرأ في الأصحاح ٨ من هذا الإنجيل (يوحنا) أن "هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ" (يوحنا ٨: ٢٠). ومن جديد: "مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي" (يوحنا ٨: ٢٨). لقد كانوا سيرفعونه، ولكن لم تكن الساعة قد أتت بعد. وبعد ذلك (في يوحنا ١٢: ٢٣) عندما جاء اليونانيون قائلين (لفيلبس): "نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ"، أجاب يسوع قائلاً: "قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ". لقد أدرك من مجيئهم إليه بدء الساعة التي سيعتلن فيها مجدُه بعد صلبه. وفي الأصحاح ١٣، وعندما كان على وشك غسل أرجل تلاميذه، نقرأ: "أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ...." (يوحنا ١٣: ١). وفي الأصحاح ١٧ حيث تكلم إلى الآب نقرأ: "تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً" (يوحنا ١٧": ١). ساعتُه هي الساعة التي سيذهب فيها إلى الصليب؛ الساعة التي سيتوجب عليه فيها أن يحمل خطيئة العالم؛ الساعة التي سيُعلَّقُ فيها على الصليب، والتي ستليها إقامة الله له من بين الأموات وتمجيده له علانيةً. فلم تكن هذه ساعتُه إذاً. وعندما حاولت أمُّه العزيزة أن تضغط عليه ليتصرف مستبقاً الزمن، قال لها: "ماذا تريدين مني؟ لم تأتِ ساعتي بعد". من الواضح جداً أن أمه، وهي التي تعرف قلبَه، لم تكن منزعجة من جوابه لها ولا بالحد الأدنى. فنجدها تلتفتُ إلى الخدّام وتقول لهم: "مهما قال لكم فافعلوه". لعله يمكنني أن أشير هنا إلى أولئك الذين يصلّون للعذراء مريم المباركة ويطلبون منها أن تتشفع من أجلهم، فأُنوّه إلى أن ابنها لم يُجِبْها مباشرةً على الالتماس الذي تقدمت به إليه. قالت مريم للخدام: "مهما قال لكم فافعلوه". بمعنى آخر، إن أمَّ يسوع تحولنا عن ذاتها وتوجّهنا نحو ابنها المبارك. ونقرأ: "وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَةً". بمعنى آخر، كانت كل واحدة منها تحوي حوالي برميل من الماء. لقد كانت ستستخدم في طقوس التطهير عند اليهود. كانت هذه تتعلق بالتطهير الخارجي. كانت كل الأجاجين فارغة، مثلها في ذلك مثل التقاليد والطقوس والشعائر الناموسية. ولكن الرب يسوع يلتفت إلى الخدام ويقول: "املأوا الأجران ماءً". وتلبية لطلبه، فإنهم يملأونها إلى فوق. هنا يمكننا أن نرى صورةً لماء الحياة في حق الإنجيل الذي يُسكب إلى الشعائر الرمزية التي في العهد القديم. كل شيء يتغير عندما تمتلئ الأجرانُ بالماء. قال يسوع لهم: "ﭐسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ". فسكبوا الماءَ، وفي هذه الأثناء تحول الماءُ إلى خمرٍ. لقد كانت معجزةً رائعةً، ومع ذلك، فبعد كل شيء ما كانت سوى تكراراً لما كان يسوع ما برح يعمله خلال ألفيات من الزمان على جوانب التلال محولاً الماء إلى خمر. عندما جيءَ بهذه الخمر إلى رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ، تذوقها وهتف: "كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ". الله دائماً يُبقي الأفضل حتى نهاية الوليمة.

التعليق الوحيد الذي يقوم به الروح القدس على هذه المعجزة هو في الآية ١١: "هَذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ فَآمَنَ بِهِ تلاَمِيذُهُ". لعله ينبغي ربط هذه مع ما ورد في ١: ١٤. فهناك نقرأ أن ربنا يسوع نفسه "صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا". وكلمة "حَلَّ" تعني "أقام" بيننا، "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً". تلك الآية تقدم لنا مفتاحاً لكل الرمزية الرائعة التي في خيمة الاجتماع في البرية. لقد كانت مسكناً مكوناً من ستائر، وفي داخله، في قدس الأقداس، بين كروبي المجد، كان يشرق نور مجيد، كان هو التجلي المنظور لحضور الله. لم يكن في مقدور الناس رؤية المجد. ولكن إن تخيلتم للحظة أن تنفتح الستائر وأن يسطع النور اللامع من بين تلك الألواح الذهبية، فهذا هو المجد يشرق. وهذا هو ما لدينا هنا في معجزات يسوع. لقد كانت بمثابة إزاحة ستائر خيمة الاجتماع الأرضية الدنيوية لعرض الشكيناه، لأن "اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (٢ كورنثوس ٥: ١٩).

وهكذا تظهر لنا هذه الأعجوبة الأولى المسيحَ كخالق، ذاك الضابط لكل الأشياء بقدرته، الذي يؤمّن لنا كل ما نحتاج إليه، والأمر العجيب الرائع هو أن هذا الخالق العظيم قد صار مخلّصاً لنا. لقد كان دائماً إلهاً منذ الأزل. وذاك، الذي به أتت به كلُّ الأشياء إلى الوجود، نزل إلى العالم ليتألم عن خطايانا، لكيما نخلص به وننال حياة أبدية.

كلمةٌ واحدةٌ كانت كافيةً لملء تلك الأجران، طالما كانت هذه مشيئته. واحتاج الأمر منه أكثر من كلمة ليخلّصَ نفوسَنا. فقد لزمَ عملَ الصليب. ولكن بفضل ذلك العمل، كلمةٌ واحدةٌ، "أومن"، تأتي بالحياة والسلام. "اليوم إذا سمعتَ صوته فلا تقسّي قلبَكَ". "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ" (رومية ١٠: ٩).